انتقل إلى المحتوى

كتاب الزهرة/الباب الرابع والأربعون من غلب صبره ظهر سره

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الرابع والأربعون مَنْ غُلب صبرهُ ظهرَ سرُّهُ

ذكروا أنَّ سكينة بنت الحسين ركبت في جواريها فمرَّت بعروة بن أُذينة الليثي وهو يغنِّي فقالت لجواريها: من الشَّيخ؟ قالوا: عروة فعدلت نحوه ثمَّ قالت: يا أبا التَّمام أنت تزعم أنَّك لم تعشق قطّ وأنت تقول:

قالتْ وأبثثْتُها وجدِي فبحتُ بهِ
قدْ كنتَ عندِي تحتَ السِّترِ فاستترِ
ألستَ تبصرُ مَنْ حولِي فقلتُ لها
غطَّى هواكِ وما ألقَى علَى بصرِي

كلُّ مَن ترى حولي مِن جواريَّ أحرارٌ إن كان خرج هذا الكلام من قلبٍ سليمٍ قطُّ.

وقال آخر:

وإنْ أُخفِي حبَّ الحاجبيِّ فطالَما
وإنْ أُبدهِ يوماً فقدْ غُلبَ الصَّبرُ
أقولُ وعينِي تستهلُّ بمائِها
أمَا ليَ في هذا وأمثالهِ أجرُ

وقال أبو ذؤيب الهذلي:

وعيَّرَها الواشونَ أنِّي أُحبُّها
وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنكَ عارُها
فإنْ أعتذرْ منها فإنِّي مكذَّبٌ
وإنْ تعتذرْ يُرددْ عليها اعتذارُها

وقال الضحاك بن عقيل:

يقولونَ مجنونٌ بسمراءَ مولعٌ
ألا حبَّذا جنٌّ بها وولوعُ
وما زلتُ أُخفِي حبَّ سمراءَ منهمُ
وتعلمُ نفسِي أنَّه سيشيعُ
ولا خيرَ في حبٍّ يكونُ كأنَّهُ
شغافٌ أجنَّتهُ حشاً وضلوعُ

وقال الحسين بن وهب:

قدْ كتمتُ الهوَى بمبلغِ جُهدي
فبدَا منهُ غيرُ ما كنتُ أُبدي
فخلعتُ العذارَ فليعلمِ النَّاسُ
بأنِّي إيَّاكِ أُصفِي بودِّي

وأنشدني أحمد بن يحيى:

ولي كبدٌ مقروحةٌ مَنْ يبيعُني
بها كبداً ليستْ بذاتِ قروحِ
أباها عليَّ النَّاسُ لا يشترُونَها
ومَنْ يشترِي ذا علَّةٍ بصحيحِ

وقال معاذ ليلَى:

وما زلتُ أعلُو حبَّ ليلَى فلمْ يزلْ
بيَ النَّقضُ والإبرامُ حتَّى علانِيا
وأشهدُ عندَ اللهِ أنِّي أُحبُّها
فهذا لها عندِي فما عندَها لِيا
قضَى اللهُ بالمعروفِ منها لغيرِنا
وبالشَّوقِ منها والتَّصابِي قضَى لِيا
فلوْ كنتُ أعمَى أخبطُ الأرضَ بالعصَا
أصمَّ فنادتْني أحببتُ المُناديا
خليليَّ إلاَّ تبكِيا ليَ أستعنْ
خليلاً إذا أنفدتُ دمعِي بكَى لِيا

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي لامرأة من خثعم:

وإنْ تسألُونيَ مَنْ أُحبُّ فإنَّني
أُحبُّ وبيتَ اللهِ كعبَ بنَ طارقِ
أُحبُّ الفتَى الجعدَ السَّلوليَّ والعصا
منَ النَّبعِ هيَّاها لضربِ المفارقِ

وقال أبو العتاهية:

قالَ لي أحمدٌ ولمْ يدرِ ما بِي
أتحبُّ الغداةَ عُتبةَ حقَّا
فتنفَّستُ ثمَّ قلتُ نعمْ حُ
بّاً جرَى في العظامِ عرقاً فعِرقا

وقال آخر:

وقالَ نساءٌ لسنَ لي بنواصحٍ
ليعلمنَ ما أُخفي ويعلمنَ ما أُبدِي
أأحببتَ ليلَى جهدَ حبِّكَ كلِّهِ
لعمرُ أبي ليلَى وزدتُ علَى الجهدِ
علَى ذاكَ ما يمحُو ليَ الذَّنبُ عندَها
وتمحُو دواعِي حبِّها ذنبَها عندِي

ولبعض أهل هذا العصر:

أرَى كلَّ مرتابٍ يخافُ خيالهُ
كأنَّ عيونَ العالمينَ تراقبهْ
يكادُ لفرطِ الخوفِ يُبدِي ضميرهُ
لكلِّ امرئٍ تُخشَى عليهِ عواقبهْ
عليَّ بوادٍ مَنْ يخافُ اغتيابُهُ
تُبتُّ لديها في الأنامِ مناقبهْ
فإيَّاكُما يا صاحبيَّ ومشهداً
تُنسِّيكما ما سرَّ منهُ عواقبهْ
وإيَّاكُما والذَّنبَ ترتكِبانهِ
وإنْ كانَ في الأحيانِ يعذرُ راكبهْ
فما كلُّ معذورٍ حقيقاً بعذرهِ
ولا كلُّ معذولٍ تعيبُ معايبهْ

وقال الحطيئة:

أكلُّ النَّاسِ يكتمُ حبَّ هندٍ
وما يخفى بذلكَ مِنْ خفيِّ
وما لكَ غيرَ نظَّارٍ إليها
كما نظرَ الفقيرُ إلى الغنيِّ

وقال الأحوص:

لقد سلا كلُّ صبٍّ أوْ قضَى وطراً
وما سلوتُ وما قضَّيتُ أوطارِي
أضمرتُ ذاكَ زماناً ثمَّ بحتُ بهِ
فزادَني سقماً بَوحي وإضماري
أخفيتُ في العرفِ هذا النُّكرَ ذلكمُ
فصرَّحَ الوجدُ عنْ عُرفِي وإنكارِي

وهذا لعمري من حسن الكلام ونفيسه ألا ترى إلى إخباره عن اجتهاده في كتم ما في قلبه حتَّى صرَّح الوجد به من غير قصد له ولا اختيار منه وهذه هي الحال التامة من جهتين إحداهما أن يكون المحبُّ مؤثراً الإسرار على الإعلان والأخرى أن يكون الوجد تملَّكه ملكاً يزول معه الكتمان فيكون ضابطاً لنفسه مؤثراً لكتمان سرِّ ما دام التَّمييز معه إلى أن يغلبه من الوجد ما لا يستطيع أن يدفعه.

ولقد أحسن البحتري غاية الإحسان حيث يقول:

نصرتُ لها الشَّوقَ اللَّجوجَ بأدمعٍ
تلاحقنَ في أعقابِ وصلٍ تصرَّما
وتيَّمنِي أنَّ الجوَى غيرُ مُقصرٍ
وأنَّ الحمَى وصفٌ لمنْ حلَّ بالحمَى
أُؤلِّفُ نفساً قدْ أُعيدتْ علَى الهوَى
شعاعاً وقلباً في الغواني مقسَّما
لقدْ أخذَ الرُّكبانُ أمسِ وغادرُوا
حديثَينِ منَّا ظاهراً ومكتَّما
وما كانَ بادِي الحبِّ منَّا ومنكمُ
ليخفَى ولا سرُّ التَّلاقي ليُعلما

أفلا ترى إلى حسن قسمته لما خفي وما ظهر من سرِّه فأعلمك أنَّ ما به من غلبات الوجد أخرجها الشَّوق عن يده فظهرت لمن بحضرته وأنَّ ما استودعه من السَّرائر الَّتي كانت بينه وبين إلفه لم يكن ليطَّلع عليها غيره وهذا هو الَّذي أطريناه ومدحنا من فعله في الباب الماضي من وجوب ظهور الحال وحدها واستخفاء ما بعدها والعلَّة في ذلك أنَّ مكتوم الحبّ يظهره الدَّمع ومكنون ما جرى من المحبِّين لا يظهره غير النُّطق والنَّاس قادرون على حبس ألسنتهم وعاجزون عن حبس دمعهم سيَّما إذا ملكهم اشتياق أو جدَّ بهم فراقٌ.

ولقد أحسن الَّذي يقول:

يا حسرَتا قدْ فُقدَ العمرُ
وليسَ لي عنْ مالِكِي صبرُ
وكمْ أُدارِي النَّاسَ عنْ قصَّتي
وليسَ لي عنْ مالِكِي سرُّ
يا ربِّ قدْ عذَّبتني بالهوَى
طفلاً وكهلاً فلكَ الشُّكرُ

وقال جرير:

وما زالَ عنِّي قائدُ الشَّوقِ والهوَى
وذكركِ حتَّى كادَ يبدُو ويُفصحُ
أصونُ الهوَى مِنْ خشيةٍ أنْ تعرَّها
عيونٌ وأعداءٌ منَ القومِ كشَّحِ
فما برحَ الوجدُ الَّذي قدْ تلبَّستْ
بهِ النَّفسُ حتَّى كادَ لي الشَّوقُ يذبحُ

وقال العرجي:

إذا رمتُ كتماناً لوجدكِ حرَّشتْ
عليكِ العدَى عينٌ بسرِّكِ تنطقُ
لها شاهدٌ مِنْ دمعِها كلَّما وفَى
جرَى شاهدٌ مِنْ دمعِها يترقرقُ

وقال يزيد بن الطثرية:

جرَى واكفُ العينينِ بالدِّيمةِ السَّكبِ
وراجعَني مِنْ ذكرِ ما قدْ مضَى حبِّي
وأبدَى الهوَى ما كنتُ أُخفي منَ العدَى
وجنَّ لتذكارِ الصِّبى مرَّةً قلبِي
متى يُرسلِ المُشفِي إنِ النَّاسُ محَّلوا
عيوناً لأكنافِ المدينةِ فالهضبِ
أمتْ كمداً أوْ أضنَ حتَّى يُغيثني
مغيثٌ بسيبٍ مِنْ نداهنَّ أوْ قربِ
حنَا الحائمُ الصَّادي إليها وخُلِّيتْ
قلوبٌ فما يقدرونَ منها علَى شربِ
جعلنَ الهوَى داءً علينا وما لنا
إليهنَّ إذا أورَدْننا الدَّاءَ مِنْ ذنبِ

وقال آخر:

ولمَّا رأَى ألاَّ سبيلَ وأنَّه
هوَ البينُ مقصوراً عليهِ الأضالعُ
تهتَّكَ عنْ أسرارِ قلبٍ وأسجمتْ
مدامعُ عينٍ بينَها السِّرُّ ضائعُ

وقال العباس بن الأحنف:

أمسَى بكاكَ علَى هواكَ دليلا
فازجرْ دموعكَ عنْ أن تفيض همولا
دار الجليس عن الدموع فإن بدتْ
فانظر إلى أفقِ السماء طويلا

وقال آخر:

بين الجوانح منك قلبٌ خافقُ
ولسان دمعك عن ضميركَ ناطقُ
إجهرْ بحبِّكَ طالَما أسررْتَهُ
وإذا استترَ الحبُّ ماتَ العاشقُ

وقال آخر:

لولا تحدُّرُ دمعي حينَ تذكرُ لي
لمْ يعلمِ النَّاسُ مِنْ سرِّي بمكتومِ
فما احتِيالي بعينٍ غيرِ راقيةٍ
تبكِي بدمعينِ مذروفٍ ومسجومِ
نمَّتْ عليَّ فأبدتْ ما استترتُ بهِ
وقدْ يكونُ سَتيراً غيرَ مذمومِ

وقال أبو حفص الشطرنجي:

وقالتْ بحتَ بالأسرارِ عنِّي
وما هذا بفعلِ أخي الكريمةْ
فقلتُ لها فدتكِ النَّفسُ نمَّتْ
بما لاقيتُ مُقلتيَ المشومةْ
فألقتْ نفسَها ضحكاً وقالتْ
قدِ ارتفعَ الحديثُ عنِ النَّميمةْ

ولقد أحسن ابن قنبر حيث يقول:

خُذيني بما يجنِي لِسانِي واصفَحِي
لنا عنْ جناياتِ الدُّموعِ البواردِ
فقدْ شهرتْني مرَّةً بعدَ مرَّةٍ
فأبدتْ برغمي خافياتِ سرائرِي
ولوْ أنَّ عَيني طاوعتْني لاختَفَى
عليَّ الهوَى أُخرى اللَّيالي الغوابرِ
ولكنَّها تُبدِي إذا ما ذكرتكمْ
بفيضِ مآقيها خَبايا الضمائرِ

وقال أحمد بن أبي قين:

ولمَّا أبتْ عينايَ أنْ تستُرا الهوَى
وأنْ تقِفا فيضُ الدُّموعِ السَّواكبِ
تثاءبتُ كَيْلا ينكرَ الدَّمعُ منكرٌ
ولكنْ قليلٌ ما بقاءُ التَّثاؤبِ
أعرَّضْتُماني للنَّدِي ونمتُما
عليَّ لبئسَ الصَّاحبانِ لصاحبِ

وقال النابغة:

طوَى كشحاً خليلكَ والجناحَا
لبينٍ منكَ يومَ غدَا وراحَا
فيا لكِ حاجةً في صدرِ صبٍّ
رأَى الأظعانَ باكرةً فباحَا

وقال البحتري:

يا أخا الأزدِ ما حفظتَ الإخاءَ
لمحبٍّ وما ذكرتَ الوفاءَ
عذلاً يتركُ الحنينَ أنيناً
في هوًى يتركُ الدُّموعَ دماءَ
كيفَ أغدُو منَ الصَّبابةِ خلْواً
بعدَما راحتِ الدِّيارُ خلاءَ
حجبوها حتَّى بدتْ لفراقٍ
كانَ داءً لعاشقٍ ودواءَ
أضحكَ البينُ يومَ ذاكَ وأبكَى
كلَّ ذِي صبوةٍ وسرَّ وساءَ
فجعلنا الوداعَ فيهِ سلاماً
وجعلنا الفراقَ فيهِ لقاءَ
ووشتْ بي إلى الوشاةِ دموعُ ال
عينِ حتَّى حسبتُها أعداءَ

قد كثَّر النَّاس في شكاية الدَّمع وخبَّروا بأنَّه من أشدّ الأشياء دلالة على السُّرور بما امتنع بضروب من الصَّنائع إمَّا لفرط جفاف في الدِّماغ يحتمل ما ورد عليه من البخارات فلا ينحدر عنه حتَّى يكثر كثرةً غالبةً وربَّما امتنع لشدَّة الكمد حسب ما ذكرناه بديَّا وللهوى دلالات تتبيَّن في الزَّفرات واللَّون والنَّظر والإرشادات لا تكاد تفتقد وجدها ومفتقدها أيضاً يراها وإن لم يعرف لها شبيهاً عند تلاقي المتحابَّين.

أنشدنا أحمد بن أبي طاهر:

تكلَّمُ عمَّا في الصُّدورِ عيونُنا
وتفقهُ عنَّا أعينٌ وحواجبُ
فمنْ قالَ إنَّ الحبَّ يخفَى لذِي الهوَى
إذا ما رأَى أحبابهُ فهوَ كاذبُ

ولبعض أهل هذا العصر:

لا خيرَ في عاشقٍ يُخفي صبابتهُ
بالقولِ والشَّوقِ مِنْ زفراتهِ بادِي
يُخفي هواهُ وما يخفَى علَى أحدٍ
حتَّى علَى العيسِ والرُّكبانِ والحادِي

وقال مسلم بن الوليد:

أمَّا الجميعُ فزايلوكَ لنيَّةٍ
فمتَى تراهمْ راجعينَ قفُولا
تاللهِ ما علمَ السُّرورُ ولا الكرَى
أنَّ الفراقَ منَ اللِّقاءِ أُدِيلا
فإذا زجرتُ القلبَ عادَ وجيبُهُ
وإذا حبستُ الدَّمعَ فاضَ هُمولا
وإذا رجعتُ إلى الهوَى بعثَ الهوَى
نفَساً يكونُ علَى الضَّميرِ دليلا

ولبعض أهل هذا العصر:

هُبونِي أخفيتُ الَّذي بي منَ الهوَى
ألمْ يكُ عنْ ما بي ضميرٌ مُترجِما
وما زلتُ أستحيي منَ النَّاسِ أن أُرَى
ظلوماً لإلفِي أوْ أُرَى متظلِّما
وباللهِ ما حلتُ الغداةَ عنِ الَّذي
عهدتَ ولكنْ كنتُ إذْ ذاكَ مُنعما
وقدْ ذابَ قلبِي اليومَ شوقاً وصبوةً
إليكَ وما ترْثِي لقلبِي منهُما
فلا تتعجَّبْ إنْ تظلَّمتُ مُحوَجاً
فقدْ حانَ للمظلومِ أنْ يتظلَّما

وقال آخر:

لو كنتُ أُظهرُ ما أُكاتمكمْ بهِ
هلْ كنتُ إلاَّ مُخبراً بودادِي
أفليسَ في نظَري تأمُّلُ بائنٍ
يُنبيكَ عمَّا في ضميرِ فؤادِي

فهذه الجهات كلّها تنمُّ الهوَى على أهله وتدلُّ مشاهدتها على موضعه وربَّما كان إفراط التَّحفُّظ دالاً على هوى التَّحفُّظ لأنَّ التَّصنُّع الشَّديد يخرج عند العادة فيوقع التّهمة بمن استعمله لقد سمعت فتًى من أهل الأدب يقول لآخر من أهل الهوى وقد أفرط في احتشامه وحاذر أن يطَّلع على شيءٍ من حاله قد والله بلغ منِّي ما أراه بك على أنَّه ما يظهر لي من حالك إلاَّ كتمانك لأمرك.

ولبعض أهل هذا العصر في نحو ذلك:

أريتَنِي النَّجمَ يجري بالنَّهارِ فلا
فرقاً أرَى بينَ إصباحِي وإمسائِي
أخفيتُ حبَّكَ حتَّى قدْ ضُنيتُ بهِ
فصارَ يُظهرُ ما أُخفيهِ إخفائِي