انتقل إلى المحتوى

كتاب الزهرة/الباب الخامس والعشرون في الوداع قبل الفراق بلاغ إلى وقت التلاق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الخامس والعشرون في الوداعِ قبلَ الفراقِ بلاغٌ إلى وقتِ التَّلاقِ

فعل الوداع وتركه نقص كله ممن قدر أن يرد الفراق عن نفسه وذلك إن الحزم لأهل الهوى ألاَّ يبسطوا على أرواحهم يد النوى فإن عذاب الهوى مع حضور المحبوب ينغِّص العيش ويبرِّح القلوب فكيف إذا تحكَّم فيه سلطان الفراق وأمدَّت صاحبه الفكر بخواطر الإشفاق والتهبت في الضَّمير لوعات الاشتياق حينئذ تُسكب العبرات وتتمكَّن الحسرات.

وقال حبيب بن أوس الطائي:

أمَّا الهوَى فهوَ العذابُ فإن جرتْ
فيهِ النَّوى فأَليمُ كلِّ أليمِ

فإن كان لا بدَّ من فراق فلا يكن إلاَّ بعد تشييع ووداع بلغني عن محمد بن سيرين أنَّه قال إن كان لا بدَّ من قيد فليكن مجليّاً.

وفي هذا المعنى يقول بعض أهل هذا العصر:

تمتَّعْ من حبيبكَ بالوداعِ
فما بعدَ الفراقِ منِ اجتماعِ
فكم جرِّعنَ منْ هجرٍ وغدرٍ
ومنْ حالِ ارتفاعٍ واتِّضاعِ
وكم كاسٍ أمرَّ منَ المنايا
شربتُ فلم يضقْ عنها ذِراعي
فلمْ أرَ في الَّذي قاسيتُ شيئاً
أشدَّ منَ الفراقِ بلا وداعِ
تعالَى اللهُ كلُّ مواصلاتٍ
وإنْ طالتْ تؤولُ إلى انقطاعِ

واختيارات العشَّاق تفاوتُ في أمر الوداع تفاوتاً شديداً فبعضهم مسارع إلى الفراق تغنُّماً للوداع فمنهم الَّذي يقول:

منْ يكنْ يكرهُ الفراقَ فإنِّي
أشتهيهِ لموضعِ التَّسليمِ
إنَّ فيهِ عناقة لوداعٍ
وانتظارِي عناقةً لقدومِ

ومنهم الَّذي يقول:

لستُ ممَّن يذمُّ يومَ الفراقِ
ولهُ منَّةٌ علَى العشَّاقِ
إنَّ فيهِ اعتناقةً لوداعِ
وانتظارَ اعتناقِ يومِ التَّلاقِ

وقال البحتري في هذا المعنى وله في ضده وما منهما إلاَّ مختار في بابه:

فأحسنْ بنا والدَّمعُ بالدَّمعِ واشجٌ
يمازجهُ والخدُّ بالخدِّ مُلصقُ
وقد ضمَّنا وشكُ التَّلاقي ولفَّنا
عناقٌ علَى أعناقِنا ثمَّ ضيِّقُ
فلمْ ترَ إلاَّ مخبراً عن صبابةٍ
بشكوَى وإلاَّ عبرةً تترقرقُ
ومِنْ قُبَلٍ قبلَ التَّشاكي وبعدهُ
نكادُ بها من شدَّةِ اللَّثمِ نشرقُ
فلو فهمَ النَّاسُ التَّلاقي وحسنهُ
لحُبِّبَ من أجلِ التَّلاقي التَّفرُّقُ

ومنهم من يصبر على الفراق ويتعمَّد التَّخلُّف عن الوداع إشفاقاً من مضاضة وعجزاً عن معاتبة ساعته.

فمنهم البحتري حيث يقول:

اللهُ جاركَ في انطلاقكْ
تلقاءَ شآمكَ أوْ عراقكْ
لا تعذُلنِّي في خروجِي
يومَ سرتَ ولمْ أُلاقكْ
إنِّي عرفتُ مواقفاً
للبينِ تسفحُ غربَ ماقِكْ
وعرفتُ ما يلقَى المودِّ
عُ عندَ ضمِّكَ واعتناقكْ
وعلمتُ أنَّ لقاءَنا
سببُ اشتياقِي واشتياقكْ
وتركتُ ذاكَ تعمُّداً
وخرجتُ أهربُ مِنْ فراقكْ

وحكى أبو سليمان عن ابن الأعرابي أنَّه قال قلت لعمار بن عقيل بن بلال بن جرير ما كان أبوك صانعاً حيث يقول:

لو كنتُ أعلمُ أنَّ آخرَ عهدكمْ
يومَ الفراقِ فعلتُ ما لمْ أفعلِ

قال فما يهمُّني إن قال كان يقلع عينيه ولا يرى أحبابه الظَّاعنين فمن يقع به الفراق اضطراراً ويترك هو الوداع اختياراً فهو أحسن حالاً ممَّن يضطر إلى الأمرين جميعاً فإن اجتماع الهجر والفراق يتلف مهجة المشتاق.

وفي مثل ذلك يقول البحتري:

عدتْنا عوادِي الحبِّ عنها وزادَنا
بها كلَفاً أنَّ الوداعَ علَى عتبِ
ولي ظمأٌ لا يملكُ الماءُ دفعهُ
إلى نهلةٍ مِنْ ريقها الخصر العذبِ

وفي نحوه يقول أبو تمام:

أنأياً واجتناباً أيُّ صبرٍ
معَ البلوَى يعرِّسُ بين ذينِ
ألمْ يُقنعكَ فيهِ الهجرُ حتَّى
جمعتَ لقلبهِ هجراً ببينِ

وعلى أنَّ من المحبوبين من يدعوه حضور الفراق إلى الحرص على التَّوديع والتَّلاق فيكون وقوع النَّوى سبباً لاستخراج ما في نفسه من الضِّغن.

فمن ذلك قول أبي تمام:

أعرضتْ برهةً فلمَّا أحسَّتْ
بالنَّوى أعرضتْ عنِ الإعراضِ
نظرتْ فالتفتُّ منها إلى أح
لى سوادٍ رأيتهُ في بياضِ

ومنه قول الآخر:

ألمْ ترَ قيسٌ كلُّها أنَّ عزَّها
غداةَ غدٍ عن دارهِ الدَّهرَ ظاعنُ
هُنالكَ جادتْ بالدُّموعِ موانعُ ال
عيونِ وسُلَّتْ بالفراقِ الضَّغائنِ

وقال آخر:

عشيَّةَ أدعُو مُسعدي فلمْ أجدْ
إلى حرِّ ما ألقَى منَ الشَّوقِ مُسعدا
عشيَّةَ زمُّوا للفراقِ جِمالهمْ
فلمْ ترَ إلاَّ واضعاً في يدي يدا

وقال آخر:

فلا أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ قولَها
وأدمعُها يُذرينَ حشوَ المكاحلِ
تمتَّعْ بذا اليومِ القصيرِ فإنَّه
رهينٌ بأيَّامِ الشُّهورِ الأطاولِ

وقال آخر:

أقولُ لمُقلَتي لمَّا التقينا
وقدْ شرقتْ مآقيها بماءِ
خُذي لي اليومَ مِنْ نظرٍ بحظٍّ
فسوفَ تُوكَّلينَ إلى البكاءِ

وقال آخر:

أقولُ لهُ يومَ ودَّعتهُ
وكلٌّ بعبرتهِ مُبْلِسُ
لئنْ رجعتْ عنكَ أجسامُنا
لقدْ سافرتْ معكَ الأنفسُ

وأنشدنا أحمد بن يحيى:

إنَّ الظَّعائنَ يومَ جوِّ سويقةٍ
أبكينَ عندَ فراقهنَّ عيونا
غيَّضنَ مِنْ عبراتهنَّ وقلنَ لي
ماذا لقيتَ منَ الهوَى ولقينا

وقال جرير:

ودِّعْ أُمامةَ حانَ منكَ رحيلُ
إنَّ الوداعَ لمنْ تحبُّ قليلُ
تلكَ القلوبُ صوادياً تيَّمْتها
وأرَى الشِّفاءَ وما إليهِ سبيلُ
أعذرتُ في طلبِ النَّوالِ إليكمُ
لو كانَ من ملكَ النَّوالَ نبيلُ

وقال ذو الرمة:

لعمركَ إنِّي يومَ جرعاءَ مالكٍ
لشوقيَ منقادُ الجنيبةِ تابعُ
فأخْذُ الهوَى فوقَ الحلاقيمِ مُخرسٌ
لنا إذْ نُحيَّا أن نسلِّمَ مانعُ
فلمَّا عرفْنا آيةَ البينِ بغتةً
وهذا النَّوى بينَ الخليطينِ قاطعُ
لحِقْنا وراجعنا الحمولَ وإنَّما
تُقضِّي دياناتِ الوداعِ المراجعُ
فلمَّا تلاحقْنا ولا مثلَ ما بنا
منَ الوجدِ لا تنقضُّ منهُ الأضالعُ
غدونَ فأحسنَّ الوداعَ فلمْ نقلْ
كما قلنَ إلاَّ أن تشيرَ الأصابعُ
وخالسنَ تبساماً إلينا كأنَّما
تصيبُ بهِ حبَّ القلوبِ القوارعُ

وقال الحسين بن الضحاك:

هلاَّ رحمتِ تلدُّدَ المشتاقِ
ومننتِ قبلَ فراقهِ بتلاقي
نفسِي الفداءُ لخائفٍ مترقِّبٍ
جعلَ الوداعَ إشارةً بعناقِ
إذْ لا جوابَ لمفحمٍ متحيِّرٍ
إلاَّ الدُّموعُ تصانُ بالإطلاقِ

وقال عبيد الله بن الصمة:

ولمْ أرَ مثلَ العامريَّةِ قبلَها
ولا بعدَها يومَ التقينا مودِّعا
شكوتُ إليها فيضةَ الحيِّ بالحشا
وخشيةَ شملِ الحيِّ أنْ يتصدَّعا
فما راجعتْنا غيرَ صمتٍ وإنَّه
تكادُ لهُ الأحشاءُ أنْ تتقطَّعا
لقد خفتُ أن لا تقنعَ النَّفسُ دونَها
بشيءٍ منَ الدُّنيا وإنْ كانَ مُقنعا
وأعذلُ فيها النَّفسَ إذا حيلَ دونَها
وتأبَى إليها النَّفسُ إلاَّ تطلُّعا

وقال الطرماح:

كأنْ لم يرعكَ الظَّاعنونَ ببينهمْ
بلَى مثلُ فقدِ الظَّاعنينَ يروعُ
يراقبنَ أبصارَ الغيارَى بأعينٍ
عواذرَ ما تجرِي لهنَّ دموعُ

وقال البحتري:

وقفْنا والعيونُ مثقَّلاتٌ
يغالبُ طرفَها نظرٌ كليلُ
نهتهُ رِقبةُ الواشينَ حتَّى
تعلَّقَ لا يفيضُ ولا يسيلُ

وقال قيس بن الحدادية الخزاعي:

أجدَّكَ إنْ نُعمٌ نأتْ أنتَ جازعُ
وقدْ قربتْ أوْ أنَّ ذلكَ نافعُ
وحسبيَ مِنْ نأيٍ ثلاثةُ أشهرٍ
ومنْ جزعٍ إنْ زادَ شوقكَ رابعُ
وقالتْ وعيناها تفيضانِ بالبُكا
بأهليَ خبِّرني متى أنتَ راجعُ
فقلتُ لها تاللهِ يدرِي مسافرٌ
إذا أضمرتهُ الأرضُ ما اللهُ صانعُ

وقال آخر:

راعكَ البينُ والمحبُّ يراعُ
حينَ قالُوا تشتُّتٌ وانصداعُ
لستُ أنسَى مقالَها يومَ ولَّتْ
وقُصارَى المشيِّعينَ الوداعُ

وقال آخر:

ليسَ شيءٌ منَ الفراقِ إذا كا
نَ أخُو الحبِّ والِهاً كلِفا
أحرقَ منْ وقفةِ المشيِّعِ للقل
بِ يريدُ الوداعَ مُنصرفا

وقال طريح:

يا ليتَ شِعري عنِ الحيِّ الذينَ غدَوْا
هل بعدَ فرقتهمْ للشَّملِ مجتمعُ
أتبعتهمْ مقلةً جادتْ بأدمعِها
والقلبُ منِّي علَى آثارهمْ قطعُ
فكلُّ ما كنتُ أخشَى قد فُجعتُ بهِ
فليسَ لي منْ فراقٍ مرَّةً جزعُ

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:

تقضَّتْ لُباناتٌ وجدَّ رحيلُ
ولم يُشفَ من أهلِ الصَّفاءِ غليلُ
ومُدَّتْ كفوفٌ للوداعِ فصافحتْ
وكادتْ عيونٌ للفراقِ تسيلُ
ولا بدَّ للإلفينِ من يومِ لوعةٍ
إذا ما خليلٌ بانَ عنهُ خليلُ
وكمْ منْ دمٍ قد طُلَّ يومَ تحمَّلتْ
أوانسُ لا يُودَى لهنَّ قتيلُ
غداةَ جعلتُ الصَّبرَ شيئاً نسيتهُ
وأعولتُ لو أجدَى عليَّ عويلُ

وقال آخر:

تفرَّقَ أهلي من مُقيمٍ وظاعنٍ
فللّهِ درِّي أيُّ أهليَّ أتبعُ
أقامَ الأُلى لا أستطيعُ فراقهمْ
وبانَ الأُلى قلبي بهمْ يتقطَّعُ
بعينيَّ تلكَ العيرُ حتَّى تجاوزتْ
وحتَّى أتَى من دونِها الخبتُ أجمعُ
وأعرضَ مِنْ رضوَى معَ اللَّيلِ دامسٌ
هضابٌ تردُّ الطَّرفَ عمَّنْ تشيَّعُ

وقال البحتري:

قد أرتكَ الدُّموعُ يومَ تولَّتْ
ظعنُ الحيِّ ما وراءَ الدُّموعِ
عبراتٌ ملءَ الجفونِ مَرَتها
حرقٌ للفراقِ ملءَ الضُّلوعِ
إنْ يثُبْ وادعُ الضَّميرِ فعندِي
نصبٌ مِنْ عشيَّةِ التَّوديعِ
فُرقةٌ لم تدعْ لعينيْ محبٍّ
نظراً بالعقيقِ غيرَ الرُّبوعِ

وقال أيضاً:

رحلُوا فأيَّةُ عبرةٍ لم تُسكبِ
أسفاً وأيُّ عزيمةٍ لم تُغلبِ
لو كنتَ شاهدَنا وما صنعَ الهوَى
بقلوبِنا لحسدتَ مَنْ لم يُحببِ

وقال أيضاً:

منزلٌ هاجَ لي الصَّبابةَ والشَّو
قُ قريني وساءَ ذاكَ قرينا
وتودُّ القلوبُ يومَ استقلَّتْ
ظعنُ الحيِّ أن تكونَ عيونا
فاتْرُكاني فما أُطيعُ عذولاً
واخْذُلاني فما أُريدُ مُعينا

وقال أبو تمام:

لا أظلمَ النَّأيُ قدْ كانتْ خلائقُها
من قبلِ وشكِ النَّوى عندي نوًى قذُفا
ودِّعْ فؤادكَ توديعَ الفراقِ فما
أراهُ مِنْ سفرِ التَّوديعِ مُنصرفا

وقال آخر:

لم أنسَ إذْ قالتْ غداةَ النَّوى
ودمعُها منحدرٌ واكفُ
لأنتَ أحلَى مِنْ لذيذِ الكرَى
ومِنْ أمانٍ نالهُ خائفُ

وقال البحتري:

وانثنتْ وُجهةَ الفراقِ فأرسلْ
تُ إليها عيناً عليها تجودُ
نظرةٌ خلفَها الدُّموعُ عِجالاً
تتمارَى ودونَها التَّسهيدُ
أترى فائتاً يرجَّى ويوماً
مثلَ يومِي برامَتينِ يعودُ

وقال بعض الظاهريين:

قفِي ودِّعينا قبلَ أنْ تصدعَ النَّوى
بوصلكِ شملاً لم يكنْ متصدِّعا
ولا تجمعِي هجراً عليَّ وفرقةً
فما جُمعا قبلِي علَى عاشقٍ معَا