الباب الخامس والعشرون في الوداعِ قبلَ الفراقِ بلاغٌ إلى وقتِ التَّلاقِأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الخامس والعشرون في الوداعِ قبلَ الفراقِ بلاغٌ إلى وقتِ التَّلاقِ
فعل الوداع وتركه نقص كله ممن قدر أن يرد الفراق عن نفسه وذلك إن الحزم لأهل الهوى ألاَّ يبسطوا على أرواحهم يد النوى فإن عذاب الهوى مع حضور المحبوب ينغِّص العيش ويبرِّح القلوب فكيف إذا تحكَّم فيه سلطان الفراق وأمدَّت صاحبه الفكر بخواطر الإشفاق والتهبت في الضَّمير لوعات الاشتياق حينئذ تُسكب العبرات وتتمكَّن الحسرات.
وقال حبيب بن أوس الطائي:
أمَّا الهوَى فهوَ العذابُ فإن جرتْ
فيهِ النَّوى فأَليمُ كلِّ أليمِ
فإن كان لا بدَّ من فراق فلا يكن إلاَّ بعد تشييع ووداع بلغني عن محمد بن سيرين أنَّه قال إن كان لا بدَّ من قيد فليكن مجليّاً.
وفي هذا المعنى يقول بعض أهل هذا العصر:
تمتَّعْ من حبيبكَ بالوداعِ
فما بعدَ الفراقِ منِ اجتماعِ
فكم جرِّعنَ منْ هجرٍ وغدرٍ
ومنْ حالِ ارتفاعٍ واتِّضاعِ
وكم كاسٍ أمرَّ منَ المنايا
شربتُ فلم يضقْ عنها ذِراعي
فلمْ أرَ في الَّذي قاسيتُ شيئاً
أشدَّ منَ الفراقِ بلا وداعِ
تعالَى اللهُ كلُّ مواصلاتٍ
وإنْ طالتْ تؤولُ إلى انقطاعِ
واختيارات العشَّاق تفاوتُ في أمر الوداع تفاوتاً شديداً فبعضهم مسارع إلى الفراق تغنُّماً للوداع فمنهم الَّذي يقول:
منْ يكنْ يكرهُ الفراقَ فإنِّي
أشتهيهِ لموضعِ التَّسليمِ
إنَّ فيهِ عناقة لوداعٍ
وانتظارِي عناقةً لقدومِ
ومنهم الَّذي يقول:
لستُ ممَّن يذمُّ يومَ الفراقِ
ولهُ منَّةٌ علَى العشَّاقِ
إنَّ فيهِ اعتناقةً لوداعِ
وانتظارَ اعتناقِ يومِ التَّلاقِ
وقال البحتري في هذا المعنى وله في ضده وما منهما إلاَّ مختار في بابه:
فأحسنْ بنا والدَّمعُ بالدَّمعِ واشجٌ
يمازجهُ والخدُّ بالخدِّ مُلصقُ
وقد ضمَّنا وشكُ التَّلاقي ولفَّنا
عناقٌ علَى أعناقِنا ثمَّ ضيِّقُ
فلمْ ترَ إلاَّ مخبراً عن صبابةٍ
بشكوَى وإلاَّ عبرةً تترقرقُ
ومِنْ قُبَلٍ قبلَ التَّشاكي وبعدهُ
نكادُ بها من شدَّةِ اللَّثمِ نشرقُ
فلو فهمَ النَّاسُ التَّلاقي وحسنهُ
لحُبِّبَ من أجلِ التَّلاقي التَّفرُّقُ
ومنهم من يصبر على الفراق ويتعمَّد التَّخلُّف عن الوداع إشفاقاً من مضاضة وعجزاً عن معاتبة ساعته.
فمنهم البحتري حيث يقول:
اللهُ جاركَ في انطلاقكْ
تلقاءَ شآمكَ أوْ عراقكْ
لا تعذُلنِّي في خروجِي
يومَ سرتَ ولمْ أُلاقكْ
إنِّي عرفتُ مواقفاً
للبينِ تسفحُ غربَ ماقِكْ
وعرفتُ ما يلقَى المودِّ
عُ عندَ ضمِّكَ واعتناقكْ
وعلمتُ أنَّ لقاءَنا
سببُ اشتياقِي واشتياقكْ
وتركتُ ذاكَ تعمُّداً
وخرجتُ أهربُ مِنْ فراقكْ
وحكى أبو سليمان عن ابن الأعرابي أنَّه قال قلت لعمار بن عقيل بن بلال بن جرير ما كان أبوك صانعاً حيث يقول:
لو كنتُ أعلمُ أنَّ آخرَ عهدكمْ
يومَ الفراقِ فعلتُ ما لمْ أفعلِ
قال فما يهمُّني إن قال كان يقلع عينيه ولا يرى أحبابه الظَّاعنين فمن يقع به الفراق اضطراراً ويترك هو الوداع اختياراً فهو أحسن حالاً ممَّن يضطر إلى الأمرين جميعاً فإن اجتماع الهجر والفراق يتلف مهجة المشتاق.
وفي مثل ذلك يقول البحتري:
عدتْنا عوادِي الحبِّ عنها وزادَنا
بها كلَفاً أنَّ الوداعَ علَى عتبِ
ولي ظمأٌ لا يملكُ الماءُ دفعهُ
إلى نهلةٍ مِنْ ريقها الخصر العذبِ
وفي نحوه يقول أبو تمام:
أنأياً واجتناباً أيُّ صبرٍ
معَ البلوَى يعرِّسُ بين ذينِ
ألمْ يُقنعكَ فيهِ الهجرُ حتَّى
جمعتَ لقلبهِ هجراً ببينِ
وعلى أنَّ من المحبوبين من يدعوه حضور الفراق إلى الحرص على التَّوديع والتَّلاق فيكون وقوع النَّوى سبباً لاستخراج ما في نفسه من الضِّغن.