الباب الخامس والخمسون نوح الأهل والإخوان علَى من فقدوه من الشجعانأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الخامس والخمسون نوح الأهل والإخوان علَى من فقدوه من الشجعان
أنشد أحمد بن أبي طاهر عن أبي تمام:
كذا فليجلَّ الخطْبُ ولْيَفْدح الأمرُ
وليس لعينٍ لم يَفضْ ماؤه عُذْرُ
إلاَّ في سبيل الله من عُطّلتْ له
فجاجُ سبيل الله وانثغرَ الثغرُ
فتًى كلّ ما فاضَتْ عُيونُ قبيلةٍ
دماً ضحكت عنه الأحاديثُ والذكرُ
فتى مات بين الضرب والطّعن ميتةً
تقوم مقام النصر إن فاته النصرُ
وما مات حتَّى ماتَ مضربُ سيفهِ
من الضرب واعتلَّت عليه القنا السُّمْرُ
وقد كان قرب الموتِ سهلاً فَردَّه
إليه الحفاظُ المرُّ والخُلُقُ الوعْرُ
ونفسِ تَعاف العارَ حتَّى كأنه
هو الكفرُ يوم الروع أوْ دونه الكفرُ
فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رجله
وقال لها من تحت أخمصك الحشرُ
كأنَّ بني نبهان يومَ وفاتِهِ
نجومُ سماء خرَّ من بينها البدرُ
وأنَّى لهم صبرٌ عليه وقد مضَى
إلى الموت حتَّى استشهدا هو والصَّبرُ
فتًى كانَ عذب الرّوح لا من غضاضةٍ
ولكنّ كبراً أن يكونَ به كِبرُ
فتًى سلبتهُ الخيلُ وهو حمًى لها
وبَزّته نار الحرب وهو لها جمرُ
وقد كانت البِيض المآثر في الوغى
بواتِر فهي الآن من بعده بُتْرُ
لئن أُبغضَ الدَّهرُ الخؤونُ لفقدهِ
لعَهدي به ممَّن يُحَبّ به الدَّهرُ
لئن غدرتْ في الرَّوع أيَّامُهُ به
لما زالت الأيامُ شيمتُها الغدرُ
لئن أُلبست فيه المنية طيئاً
لما عريت منه تميم ولا بكرُ
كذلك ما ننفكُّ تفقدُ هالكاً
يُشاركنا في فقده البدو والحضْرُ
ثوى في الثرى من كان يحيا به الثرى
ويغمرُ صَرفُ الدَّهر نائلهُ الغمْرُ
مضى طاهِرَ الأثواب لم يبْق روْضةٌ
غداةَ ثوى إلاَّ اشتهتْ أنَّها قبرُ
عليك سلامُ الله وقفاً فإنني
رأيتُ الكريمَ الحُرّ ليس له عمرُ
وقالت امرأة من كندة في أخوتها:
أبَوْ أنْ يفرُّوا والقنا في نحورهم
فماتوا وأطرافُ القنا تقطرُ الدّما
ولو أنهم فرّوا لكانوا أعزّةً
ولكنْ رأوا صبراً علَى الموت أكرما
هَوتْ أمهم ماذا بهم يومَ صُرَّعوا
بجيشانَ من أسباب مجد تصرَّما
أنشدنا أحمد لأبي تمام:
بأبي وغير أبي وذاك قليلُ
ثاوٍ عليه ثرى النياح مهيلُ
خَذلتْهُ أُسرتهُ كأنَّ سراتهُمْ
جَهلوا بأنَّ الخاذل المخذولُ
أكلالُ أشلال الفوارس بالقنا
أضحى بهنَّ وشُلوهُ مكلولُ
كُفّي فقتلُ محمدٍ لي شاهدٌ
إن العزيزَ مع القضاءِ ذليلُ
أنسى أبا نصرٍ نسيتُ إذن يدي
في حيثُ ينتصرُ الفَتَى ويُنيلُ
هيهاتَ لا يأتي الزَّمان بمثله
إن الزّمانَ بمثله لبخيلُ
للسيفِ بعدك حُرقةٌ وعويلُ
وعليك من وجد التليد غليلُ
إنْ طالَ يومُكَ في الوغى فلقد ترى
فيه ويومُ الهام منكَ طويلُ
يا يومَ قَحْطَبة لقد أبقيتَ لي
حُرَقاً أرى أيامَها ستطولُ
ليثٌ لو أن الليثَ قام مقامه
لانصاعَ وهو يَراعةٌ إجفيلُ
لما رأى جَمْعاً قليلاً في الوغى
وأولو الحفاظ من القليل قليلُ
لاقى الكريهةَ وهو مُغمِدُ رَوْعِه
فيها ولكن سيفُهُ مسلولُ
ومشى إلى الموت الزؤام كأنما
هو من سهولته عليه دخيلُ
ما زال ذاك الصَّبرُ وهو عليكمُ
بالموت في ظِلِّ السيوف كفيلُ
مُسْتبسلونَ كأنما مُهجاتُكمْ
ليست لكم إلاَّ غداة تسيلُ
ألِفوا المنايا والقتيل لديهُمُ
من أن يُخلي العيشَ وهو قتيلُ
إن كان رَيبُ الدَّهر أثكلنيكُمُ
فالدَّهر أيضاً ميّتٌ مثكولُ
وأنشدني بعض الأدباء:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً
كأنك لم تجزع علَى ابن طريفِ
فتى لا يُحبُّ الزادَ إلاَّ من التقى
ولا المال إلاَّ من قنا وسيوفِ
وأنشدني ابن أبي طاهر لأبي تمام:
لو فَرَّ سيفٌ من العَيّوق مُنطلِقاً
ما كان إلاَّ علَى هاماتهم يَقعُ
يودُّ أعداؤهم لو أنهم قُتِلوا
وأنهم صنعوا مثل الَّذي صنعوا
ويضحك الدَّهرُ منهم عن غطارفةٍ
كأن أيامَهمْ من حُسنها جُمعُ
منْ لم يُعاينْ أبا نصرٍ وقاتله
فما رأى ضيغماً في شَدقِها سُبَعُ
فيمَ الشماتَةُ إعلاناً بأسُدِ وغًى
أفناهُمُ الصبرُ إذْ أبقاكُمُ الجزعُ
لا غرو إن قُتلوا صبراً وإن جزعوا
والقتلُ للصبر في حكم الفَتَى جَزعُ
وقالت الخنساء ترثي أخاها صخراً:
ألا ما لعينكِ أم ما لها
لقد أخضلَ الدمعُ سِرْبالَها
فأقسمتُ أأسى علَى هالك
وأسأل باكيةً ما لها
وخَيْل تكدّسُ مشى الوعو
ل نازلت بالسيف أبطالها
بمُعْتَركٍ بينهم ضيّقٍ
تجرُّ المنيَّةُ أذيالها
تُقابلُها فإذا أدْبَرتْ
بَلَلْتَ من الطعن أكفالَها
ومُحْصنَةٍ من بنات الملو
كِ قَعْقَعْت بالرمح خلخالها
فإن تك مُرَّةَ أوْدَتْ به
فقد كان يكثرُ تقتالها
أنشدنا أحمد بن أبي طاهر لأبي تمام قالت الخنساء:
اذهب فلا يُبْعدنكَ الله من رجلٍ
تَرّاك ضَيْم وطَلاّبٍ بأوتارِ
قد كنتَ تحمل قلباً ليس مؤتسياً
مُركباً من نصاب غير خَوّارِ
مثلَ السنان كضوءِ البدر صورتُه
جَلْدُ المريرة حُرُّ وابن أحرارِ
فسوف أبكيكَ ما ناحت مُطوّقةً
وما أضاء نجومُ اللَّيل للساري
أبلغْ خفافاً وعوفاً غيرَ مُقصرةٍ
عميمة من نداء غير أسرارِ
شُدّوا المآزرَ حتَّى تستقاد لكم
وشمّروا إنَّها أيامَ تشمارِ
وأبكى فتى البأس لاقتهُ منِّيَّته
وكلُّ نفسٍ إلى وقتِ ومقدارِ
كأنهم يوم راموهُ بجمعهمُ
راموا الشكيمة من ذي لبدة ضارِ
مَتَى تفرَّجت الآلاف عن رجلٍ
ماضٍ علَى الهول هادٍ غير مختارِ
تجيش منه فويق الثدي من يده
معايد من نجيع الجوف فوّارِ
لو منكمُ كان فينا لم ينل أبداً
حتَّى تلاقوا أموراً ذات آثارِ
أعني الذين إليهم كان منزلةً
هل تعلمون ذِمامَ الضيف والجارِ
خفاف بن ندبة وعوف هذان اللذان عاتبتهما من الفرسان المعدودين وكانا مع صخر فهربا عنه، وقد أدرك خفافاً الإسلام فأسلم، وشعر الخنساء هذا من أجود الشعر لفظاً وأحسنه معنى، ألا ترى إلى اعتذارها من قتله أنَّه لم يقتله رجلٌ مثله، وإنَّما تفرجت الألف عنه وحده، ثمَّ أبى معاينتها من فزعته واستنهاضها الشجعان لاستغاثة النسوان، وقد كانت الخنساء من أحسن أهل زمانها، ثمَّ رُزئت أخاها معاوية ثمَّ عمرو، فلم تزل تبكيه وتُحسن القولَ في مراثيه حتَّى رُزئت أخاها صخراً بعده، قد رزئتها المصايب، وهذَّبت شعرها النوائب، وقلَّ من ناله من الجزع مثل ما نالها، لقد بلغني أن أخوتها أن استعدَوا عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تبكي عليه فإنَّه من أهل النار. قالت ذلك أعظم لحزني عليه، وبلغني عن عمر رضي الله عنه، أنَّه قال: دعوها فكلُّ ذي شجو تبكي شجوه وهذا الَّذي اعتذرت به لأخيها من قبله هو من أحسن ما تهيأ الاعتذار به اعتذرت بالمقدار الَّذي لا شيء يجاوز مثله، ولا أحد يخرج عن قبضته ثمَّ لم تقتصر عليه وحده حتَّى وضعت كثرة المؤازرين علَى قبله.
وما قصَّر أبو تمام فيما ذكرناه، وما نذكره إن شاء الله من اعتذاره لمن يرثيه...... للقتل...
للصبر على الفرار من اللقاء، والجزع عند معاينة الأكفاء، وأحسبُ أن أبا تمام كان معجباً بهذا المعنى الَّذي قد وقع له فلذلك كان كثيراً ما يردده. وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:
إن ينتخِل حدثان الموت أنفسكم
ويسلم الناسُ بين السرّ والعَطَنِ
فالماء ليس عجيباً أن أعذبهُ
يفنى ويمتدّ عُمرُ الآجن الآسنِ
رُزءٌ علَى طيء ألقى كلاكِلَه
لا بل علَى أزد لا بل علَى اليمنِ
لم يُثكلوا ليث حرْبٍ مثل محطبةٍ
من بعد قحطبةٍ في سالف الزمنِ
إلاَّ تكن صَهرت عن منظر حَسَنٍ
منه فقد صدرت عن مسمعٍ حسنِ
رأى المنايا خيالات النفوس ولم
تسكن سوى المنية العليا إلى سكنِ
لو لم يمُتْ بين أطراف الرماح إذاً
لمات لو لم يمُت من شدة الحَزنِ
أما صدر الكلام فحسن، وأمَّا البيت الأخير ففيه إفراط شديد، ومعنى ليس بالعذب، ولا بالشديد، وذلك أن الشجاع إنَّما يؤثر الموت على الفرار خوفاً لما يلحقه من العار، فإنما إيثاره قتل الأعداء له على قتله لهم، وظفرهم به وبقومه على ظفره بهم وبقومهم. فهذا يخرج عن حد الشجاعة، ويدخل في حدّ الرقاعة، وليس ينبغي لكل من تمكن من معنى، وتسهّل له نظمه أن ينظمه في شعره، ويحتمل ما يدخل فيه من المجال، رغبةً في التوفيق في الحال، وطلب التوسط والاعتدال، خيرُ على كل حال، لأنه لا يخرج عن حدّ التقصير والإخلال، ولا يبلغ بصاحبه إلى درجة المحال.
قالت بنت بدر ترثي الزبير بن العوام:
غَدَ ابن جُرْموزٍ بفارس بُهْمَةٍ
يومَ اللقاء وكان غيرَ مُعَرَّدِ
يا عمرو لو نبَّهتهُ لوجدتَهُ
لا طائشاً رعشَ الجنانِ ولا اليدِ
ثكِلتكَ أمُّكَ إن قتلتَ لمُسلماً
حلَّتْ عليكَ عُقوبةُ المُتعمِّدِ
وكان قتل الزبير فيما بلغنا أنَّه لما انصرف عن البصرة تبعه ابن جرموز فعطف عليه الزبير فقال له: نشدتُكَ بالله فكف عنه، فلما جاوزه تبعه فلما عطف عليه الزبير رحمه الله ناشده فكف عنه، فلما صار على قريب من فرسخين من البصرة نام فضربه بن جرموز مغتالاً، فقال: ما له قاتله الله يذكرني بالله ثمَّ ينساه فأخذ رأسه وصار به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال للآذن ائذن له، وبشره بالنار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: بشِّر قاتل ابن صفية بالنار فقال ابن جرموز: