الباب الخامس عشر مَنْ أحبَّه أحبابهُ وشَى بهِ أترابهُأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الخامس عشر مَنْ أحبَّه أحبابهُ وشَى بهِ أترابهُ
مكايد الوشاة كلُّها تنقسم على ثلاثة أقسام فسعاية المتحابَّين إلى غيرهما وسعاية المحبّ إلى محبوبه وسعاية المحبوب إلى محبِّه فهذه عند كثير من الأدباء أضعف المكايد أثراً وليس الأمر كذلك ولا هو أيضاً بضدِّ ذلك ولكنَّه محتاج إلى نقصان أمَّا العشَّاق والمتيَّمون فلا يقبلون قول الوشاة بل لا يسمعونه لأنَّ الثِّقة منهم بأحبابهم ماحيةٌ لقول من وشى بهم وأمَّا أهل الوله المدلَّهون فيقبلون ما لا يسمعون فضلاً عمَّا يسمعون لما قدَّمنا من وصفهم وغلبة الظّنِّ على أنفسهم ونحن نذكر إن شاء الله من كلِّ ما قيل في ذلك طرفاً.
وقال بعض الظرفاء:
ولمَّا رأينا الكاشحينَ تتبَّعوا
هوانا وأبدَوْا دونَنا أعيناً خُزرا
جعلتُ وما بي مِنْ جفاءٍ ولا قِلًى
أزورُكمُ يوماً وأهجركمْ شهرا
ولوْ نظرتْ بينَ الجوانحِ والحشا
رأتْ مِنْ كتابِ الحبِّ في كبدِي سطرا
وقال الأحوص:
يا بيتَ عاتكةَ الَّذي أتعزَّلُ
حذرَ العِدى وبهِ الفؤادُ موكَّلُ
أصبحتُ أمنحُكَ الصُّدودَ وإنِّني
قسماً إليكَ معَ الصُّدودِ لأميلُ
وتجنُّبي بيتَ الحبيبِ وذِكرَهُ
أُرضي البغيضَ به حديثٌ مُعضِلُ
هلْ عيشُنا بكَ في زمانكَ راجعٌ
فلقدْ تفحَّشَ بعدكَ المتعلِّلُ
ولوَ انَّ ما عالجتُ لينَ فُؤادهِ
فقَسَا استُلينَ بهِ للانَ الجندلُ
وقال معاذ ليلى:
إذا جئتُها وسْطَ النِّساءِ منحتُها
صدوداً كأنَّ النَّفسَ ليسَ تُريدُها
ولي نظرةٌ بعدَ الصُّدودِ من الهوَى
كنظرةِ ولْهى قد أُميتَ وحيدُها
وقال بعض الأعراب:
لَعمْرُ أبي المُحصينَ أيامُ نلتقي
لِما لا نُلاقيها منَ الدَّهرِ أكثرُ
يعدُّونَ يوماً واحداً إنْ أتيتُها
وينسونَ ما كانت من الدَّهر تهجرُ
وقال آخر:
أمُرُّ مجنِّباً عنْ بيتِ ليلى
ولمْ ألمِمْ بهِ وبهِ القليلُ
أمرُّ مُجنِّباً وهوايَ فيهِ
وطرفي عنهُ مُنكسرٌ كليلُ
وقلبي فيه مُحتبسٌ فهلْ لي
إلى قلبي ومالكِهِ سبيلُ
أُؤمِّلُ أنْ أُعلَّ بشربِ ليلى
ولم أنهلْ فكيفَ ليَ العُلولُ
وقال جميل:
أتهجرُ هذا الرَّبعَ أمْ أنتَ زائرُهْ
وكيفَ يُزارُ الرَّبعُ قد بانَ عامرُهْ
رأيتكَ تأتي البيتَ تُبغضُ أهلَهُ
وقلبكَ في البيتِ الَّذي أنتَ هاجرُهْ
وقال الحسين بن مطير:
بنفسيَ منْ لا بدَّ أنِّي هاجرُهْ
ومنْ أنا في الميسورِ والعُسرِ ذاكرُهْ
ومن قد رماهُ الناسُ حتَّى اتَّقاهمُ
بِبُغضيَ إلاَّ ما تجِنُّ ضمائرُهْ
ومن ضنَّ بالتَّسليمِ يومَ فراقهِ
عليَّ ودمعُ العينِ تجري بوادرُهْ
ومن بانَ منَّا يومَ بانَ وما درى
أكُنتُ أنا الموتورَ أم أنا واترُهْ
وحالَ بنو العمَّاتِ والعمُّ دونهُ
ونذْرُ عدوٍّ لا تُغبُّ نذائرُهْ
أتجهرُ بيتاً بالحجازِ تكنَّفتْ
جوانبَهُ الأعداءُ أنتَ زائرُهْ
فإنْ آتهِ لا أنجُ إلاَّ بظنَّةٍ
وإنْ يأتهِ غيري تُصبْني جرائرُهْ
وقال آخر:
ولمْ أرَ محزونَيْنِ أجملَ لوعةً
علَى نائباتِ الدَّهرِ منِّي ومن جُمْلِ
كلانا يذودُ النَّفسَ وهيَ حزينةٌ
ويُضمرُ شوقاً كالنَّوافذِ بالنَّبْلِ
وقال أبو القمقام الأسدي:
أعفراءُ كمْ من ميتةٍ قد أذقْتني
وحُزنٍ ألجَّ العينَ بالهَملانِ
بُلينا بهجرانٍ ولم يُرَ مثلنا
من النَّاسِ إنسانيْنِ مُهتجرانِ
أشدَّ مُصافاةً وأبعدَ من قِلًى
وأعصى لِواشٍ حينَ يُكتنفانِ
وقال معاذ ليلى:
أهابُكِ إجلالاً وما بكِ قدرةٌ
عليَّ ولكنْ ملءُ عينٍ حبيبُها
وما هجرَتْكِ النَّفسُ يا ليلُ إنَّها
قليلٌ ولا أنْ قلَّ منكِ نصيبُها
ولكنَّهمْ يا أملحَ النَّاسِ أكثروا
بقولٍ إذا ما جئتُ هذا حبيبُها
أتُضربُ ليلى إن مررتُ بذي العصَى
وما ذنبُ ليلى إن طوى الأرضَ ذيبُها
وقال عروة بن حزام:
تكنَّفني الواشونَ من كلِّ جانبٍ
ولوْ كانَ واشٍ واحدٌ لَكفاني
إذا ما جلسنا مجلساً نستلذُّهْ
تواشَوا بنا حتَّى أملَّ مكاني
ألا لعنَ اللهُ الوُشاةَ وقولهُمْ
فُلانةُ أضحتْ خُلَّةً لفلانِ
ألا ليتَ كلَّ اثنينِ بينهُما هوًى
منَ النَّاس والأنعامِ يلتقيانِ
أناسيةٌ عفراءُ وصليَ بعدَ ما
جرى الدَّمعُ من عينيَّ بالهَملانِ
إذا رامَ قلبي هجرها حالَ دونها
شفيعانِ من قلبي لها جَدِلانِ
إذا قلتُ لا قالا بلى ثمَّ أصبحا
جميعاً علَى الرَّأيِ الَّذي يرَيانِ
وقال البحتري:
خليليَّ لا أسماءَ إلاَّ ادِّكارُها
ولا دارَ من وهْبينَ إلاَّ طُلولُها
تمادى بها الهجرُ المُبرِّحُ والنَّوى
بمسمعها قال الوشاةِ وقيلُها
وقد كثرَتْ منَّا المُعاصاةُ للصِّبى
ولوْ أنَّها قلَّتْ لضرَّ قليلُها
هلِ الوجدُ إلاَّ عبرةٌ أسترِدُّها
أوِ الحبُّ إلاَّ عثرةٌ أستقيلُها
وقال آخر:
خليليَّ إنِّي اليومَ شاكٍ إليكُما
وهل تنفعُ الشَّكوى إلى منْ يزيدُها
تفرُّقُ أُلاَّفٍ وجولانُ عَبرةٍ
أظلُّ بأطرافِ البنانِ أذودُها
ولا يلبثُ الواشونَ أنْ يصدعوا العصا
إذا لم يكنْ صلْباً علَى البرْيِ عودُها
وقال أبو علي البصير:
لقدْ قرعَ الواشي بأهوَنِ سعْيِهِ
صفاةً قديماً أخطأتْها القوارِعُ
فأقلقني في ضعْفهِ وهوَ ساكنٌ
وشرَّدَ عنْ عيني الكرى وهوَ هاجعُ
وأنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي ليزيد الغواني العجلي: