انتقل إلى المحتوى

كتاب الزهرة/الباب الثاني العقل عند الهوى أسير والشوق عليهما أمير

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​الباب الثاني العقل عند الهوَى أسيرٌ والشَّوق عليهما أميرٌ​ المؤلف أبو بكر محمد بن داود الظاهري


الباب الثاني العقل عند الهوَى أسيرٌ والشَّوق عليهما أميرٌ

قال جالينوس العشق من فعل النفس وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد وفي الدماغ ثلاثة مساكن التَّخييل وهو في مقدم الرأس والفكر وهو في وسطه والذِّكر وهو في مؤخره وليس يكمل لأحدٍ اسم عاشق إلاَّ حتَّى إذا فارق من يعشقه لم يخلُ من تخييله وفكره وذكره وقلبه وكبده فيمتنع عن الطعام والشراب باشتغال الكبد ومن النوم باشتغال الدماغ والتَّخييل والذِّكر له والفكر فيه فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به فمتى لم يشتغل به وقت الفراق لم يكن عاشقاً فإذا لقيه خلت هذه المساكن ولعمري لقد أحسن فيما وصف واحتجَّ لما قال فانتصف غير أَنه ذكر حال العشق وحده وترك ذكر أحوال ما قبله وأحوال ما بعده وذلك أنَّ الأحوال الَّتي تتولد عن السماع والنظر مختلفة في باب العظم والصِّغر ولها مراتب فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان ثمَّ يقوى فيصير مودَّة والمودَّة سبب الإرادة فمن ودَّ إنساناً ودَّ أن يكون له خلاًّ ومن ودَّ غرضاً ودَّ أن يكون له مُلكاً ثمَّ تقوى المودَّة فتصير محبَّة والمحبَّة سبباً للطاعة.

وفي ذلك يقول محمد الوراق:

تعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حبَّهُ
هذا محالٌ في القياسِ بديعُ
لو كانَ حبُّكَ صادقاً لأَطعتَهُ
إنَّ المحبَّ لمنْ أحبَّ مُطيعُ

ثمَّ تقوى المحبَّة فتصير خُلَّة والخلَّة بين الآدميين أن تكون محبَّة أحدهما قد تمكَّنت من صاحبه حتَّى أسقطت السرائر بينه وبينه فصار متخلِّلاً لسرائره ومطَّلعاً على ضمائره.

وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:

فلا تهجرْ أخاكَ بغيرِ ذنبٍ
فإنَّ الهجرَ مفتاحُ السُّلوِّ
إذا كتمَ الخليلُ أخاهُ سرّاً
فما فضلُ الصَّديقِ علَى العدوِّ

ويقال إنَّ الخلَّة بين الآدميين مأخوذة من تخلُّل المودَّة بين اللَّحم والعظم واختلاطهما بالمخ والدم وهذا المعنى غير مخالف للأول بل هو أوضح سبب له لأن من حلَّ من النفس هذا المحل لم يستبدَّ عنه بأمر ولم يستظهر عليه بسرّ.

وقد أنشدنا لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في هذا النحو:

تغلغلَ حبُّ عَثمةَ في فؤادِي
فباديهِ معَ الخافِي يسيرُ
تغلغلَ حيثُ لمْ يبلغْ شرابٌ
ولا حزنٌ ولمْ يبلغْ سرورُ

ثمَّ تقوى الخلَّة فتوجب الهوَى والهوَى اسم لانحطاط المحب في مَحابِّ المحبوب وفي التوصُّل إليه بغير تمالك ولا ترتيب.

أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:

وإنَّ امرءاً يهوِي إليكِ ودونهُ
منَ الأرضِ مَوْماةٌ وبيداءُ خَيْفقُ
لمحقوقةٌ أنْ تستجيبي لصوتهِ
وإنْ تعلَمِي إنَّ المعينَ موفَّقُ

ثمَّ تقوى الحال فيصير عشقاً والعاشق يمنعه من سرعة الانحطاط في هوى معشوقه إشفاقه عليه وضنُّه به حتَّى أنَّ إبقاءه عليه ليدعوه إلى مخالفته وترك الإقبال عليه فمن النَّاس من يتوهَّم لهذه العلَّة أنَّ الهوَى أتمُّ من العشق وليس الأمر كذلك ثمَّ يزداد العشق فيصير تتْيِيماً وهو أن تصير حال المعشوق مستوفية للعاشق فلا يكون فيه معها فضل لغيرها ولا يزيد بقياسه شيئاً إلاَّ وجدته متكاملاً فيها.

وفي مثل هذا المعنى يقول أبو الشيص:

وقفَ الهوَى بِي حيثُ أنتِ فليسَ لِي
مُتأخَّرٌ عنهُ ولا مُتقدَّمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً
حبّاً لذكركِ فليلُمْنِي اللُّوَّمُ
أشبهتِ أعدائِي فصرتُ أُحبُّهمْ
إذ كانَ حظِّي منكِ حظِّي منهمُ
وأَهنتِنِي فأهنتُ نفسِي جاهداً
ما مَنْ يهونُ عليكِ ممَّنْ أُكرمُ

ولو لم يقل أبو الشيص في عمره بل لو لم يقل أحد من أهل عصره غير هذه الأربعةِ الأبيات لكانوا مقصرين وإذا كانت كل خواطر العشَّاق فيما يتمنَّاه واقعة ممَّن يهواه على الأمر الَّذي يرضاه فهذه في المشاكلة الطبيعية الَّتي لا يفنيها مرُّ الزَّمان ولا تزول إلاَّ بزوال الإنسان وإذا صحَّ هذا المذهب لم يعجب من أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلَّة أوْ خلَّتين فإذا زالت العلَّة زال الهوَى فلا يزال المرابط متنقِّلاً إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه فحينئذ يرضاه فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه.

ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:

أيا زاعماً أنِّي لهُ غيرُ خالصِ
وأنِّي موقوفٌ علَى كلِّ قانصِ
كمَا أنتَ فانظرْ في وفائكَ خالصاً
تراهُ لمنْ يهواكَ أمْ غيرَ خالصِ
فحينئذٍ فارجعْ بما تستحقُّهُ
عليَّ وطالبني إذاً بالنَّقائصِ
سأعرضُ نفسِي يمنةً وشآمةٌ
علَى كلِّ ثاوٍ في البلادِ شاخصِ
إلى أن أرَى شكلاً يصونُ مودَّتِي
فحينئذٍ أغلُو علَى كلِّ غائصِ
أمثلِي يخونُ العهدَ عنْ غيرِ حادثٍ
رمانِي إذاً ربي بحتفٍ مُغافصِ

ثمَّ يزداد التَّتييم فيصير ولهاً والوله هو الخروج عن حدود الترتيب والتَّعطُّل عن أحوال التَّمييز حتَّى تراه يطلب ما لا يرضاه ويتمنَّى ما لا يهواه ثمَّ لا يحتذي مع ذلك مثالاً ولا يستوطن حالاً.

وقد قال حبيب بن أوس الطائي في نحو هذا:

ولَّهَتهُ العُلى فليسَ يعدُّ ال
بؤسَ بؤساً ولا النَّعيمَ نعيماً

والشَّوق تابع لكلِّ واحدة من هذه الأحوال والمستحسن يشتاق إلى ما يستحسنه على قدر محلِّه من نفسه ثمَّ كلَّما قويت الحال قوي معها الاشتياق فالحبّ وما أشبهه يتهيَّأ كتمانه فإذا بلغت الاشتياق بطل الكتمان.

وفي مثل ذلك يقول يزيد بن الطثرية:

أعِيبُ الَّذي أهوَى وأُطرِي جوارياً
يرينَ لها فضلاً عليهنَّ بيِّنا
برغمِي أُطيلُ الصَّدَّ عنها إذا بدتْ
أُحاذرُ أسماعاً عليها وأعيُنا
فدْ غضبتْ أنْ قلتُ أنْ ليس حاجتِي
إليها وقالتْ لمْ يُردْ أنْ يحبَّنا
وهلْ كنتُ إلاَّ مُعمَداً قانطَ الهوَى
أسرَّ فلمَّا قادهُ الشَّوقُ أعلَنا
أتانِي هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوَى
فصادفَ قلبِي خالياً فتمكَّنا

ولعمري إنَّ هذا لمن نفيس الكلام غير أنَّ في البيت ضعفاً وذلك أنَّه جعل سبب تمكُّن الهوَى من قلبه أنَّه صادفه خالياً لم يسبقه إليه غيره وليست هذه من أحوال أهل التَّمام إذ كلُّ من صادف محلا لا يدافع عنه لم يتعذر عليه طريق التَّمكُّن منه.

وقد قال بعض أهل هذا العصر:

وقدْ كانَ يسبِي القلبَ في كلِّ ليلةٍ
ثمانونَ بلْ تسعونَ نفساً وأرجحُ
يهيمُ بهذا ثمَّ يعشقُ غيرهُ
ويسلاهمُ مِنْ فورهِ حينَ يصبحُ
وكانَ فؤادِي صاحياً قبلَ حبِّكمُ
وكانَ بحبِّ الخلقِ يلهُو ويمزحُ
فلمَّا دعَا قلبِي هواكَ أجابهُ
فلستُ أراهُ عنْ ودادكَ يبرحُ
رُميتُ بهجرٍ منكَ إنْ كنتُ كاذباً
وإنْ كنتُ في الدُّنيا بغيركَ أفرحُ
وإنْ كانَ شيءٌ في البلادِ بأسرِها
إذا غبتَ عنْ عينيَّ عندِي يملحُ
فإنْ شئتَ واصِلْنِي وإنْ شئتَ لمْ تصلْ
فلستُ أرَى قلبِي لغيركَ يصلحُ

فالمحبَّة ما دامت لهواً ونظراً فهي عذبة المبتدأ سريعة الانقضاء فإذا وقعت مرتَّبة على التَّمام في المصافاة تعذَّرت قدرة القلب على هواه فحينئذ تضلُّ أفهام المتميزين وتبطل حيل المتفلسفين.

وفي نحو ذلك يقول بعض الظرفاء:

طوَى شَجَنا في الصَّدرِ فالدَّمعُ ناشرُهْ
فإنْ أنتَ لمْ تعذرهُ فالشَّوقُ عاذرُهْ
هوًى عذبتْ منهُ مواردُ بدرهِ
فلمَّا نمَى أعيتْ عليهِ مصادرُهْ

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لامرأة من قيس:

وما كيِّسٌ في النَّاسِ يُحمدُ رأيهُ
فيوجدُ إلاَّ وهوَ في الحبِّ أحمقُ
وما مِنْ فتًى ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ
فيعشقُ إلاَّ ذاقَها حينَ يعشقُ

وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:

ورمَى الهوَى منَّا القلوبَ بأسهمٍ
رميَ الكُماةِ مَقاتلَ الأعداءِ
ومنَ العجائبِ قتلهُ لكرامِنَا
وشِدادِنا بمكائدِ الضُّعفاءِ

وقال أبو دلف:

الحربُ تضحكُ عنْ كرِّي وإقدامِي
والخيلُ تعرفُ آثارِي وأقدامِي
سيفِي مدامِي ورَيْحانِي مُثقفةٌ
وهمَّتي مِقَةُ التَّقصيمِ للهامِ
وقدْ تجرَّدَ لي بالحسنِ مُنفرداً
أمضَى وأشجعُ منِّي يومَ إقدامِي
سلَّتْ لواحظهُ سيفَ السَّقامِ علَى
جسمِي فأصبحَ جسمِي رَبعَ أسقامِ

وقال آخر:

ألا قاتلَ اللهُ الهوَى كيفَ يقتلُ
وكيفَ بأكبادِ المحبِّينَ يفعلُ
فلا تعذُلنِّي في هوايَ فإنَّني
أرَى سَورةَ الأبطالِ في الحبِّ تبطلُ

وقال آخر:

الحبُّ يتركُ مَنْ أحبَّ مدَلَّهاً
حيرانَ أوْ يقضِي عليهِ فيسرعُ
الحبُّ أهونهُ شديدٌ فادحٌ
يهنُ القويَّ منَ الرِّجالِ فيصرعُ
مَنْ كانَ ذا حزمٍ وعزمٍ في الهوَى
وشجاعةٍ فالحبُّ منهُ أشجعُ

وقال النابغة الذبياني:

لوْ أنَّها عرضتْ لأشمطَ راهبٍ
يدعُو الإلهَ صرورةٍ مُتعبِّدِ
لرَنَا لبهجتِها وحسنِ حديثِها
ولخالَهُ رشَداً وإنْ لمْ يرشدِ
أسعُ البلادَ إذا أتيتكِ زائراً
وإذا هجرتكِ ضاقَ عنِّي مَقعدِي

وأنشدتني أعرابية بالبادية:

تبصَّرْ خليلِي هلْ ترَى بينَ وائشٍ
وبينَ أحَيٍّ مِنْ ظعائنَ كالأثْلِ
ظعائنُ يَسلبنَ الفتَى الغرَّ عقلهُ
وذا الأهلِ حتَّى لا يُبالِيَ بالأهلِ

وقال آخر:

أروحُ ولمْ أُحدثْ لليلى زيارةً
لبئسَ إذاً راعِي المودَّةِ والوصلِ
ترابٌ لأهلِي لا ولا نعمةٌ لهمْ
لشدَّ إذنْ ما قدْ تعبَّدنِي أهلِي

وقال ماني:

مُكتئبٌ ذُو كبدٍ حرَّى
تبكِي عليهِ مقلةٌ عبرَى
يرفعُ يمناهُ إلى ربِّهِ
يدعُو وفوقَ الكبدِ اليسرَى
يبقَى إذا كلَّمتهُ باهتاً
ونفسهُ ممَّا بهِ سكرَى
تحسبهُ مُستمعاً ناصتاً
وقلبهُ في أُمَّةٍ أُخرَى

وقال غيره وهو مجنون بني عامر:

وشُغلتُ عنْ فهمِ الحديثِ سوَى
ما كانَ فيكِ وحبُّكمْ شُغلِي
وأديمُ نحوَ مُحدِّثي نظَرِي
أنْ قدْ فهمتُ وعندكمْ عقلِي

وقال آخر:

مَنْ كانَ لمْ يدرِ ما حبٌّ وصفتُ لهُ
إنْ كانَ في غفلةٍ أوْ كانَ لمْ يجدِ
الحبُّ أوَّلهُ روعٌ وآخرهُ
مثلُ الحرارةِ بينَ القلبِ والكبدِ

وقال الحسين بن مطير الأسدي وهو من جيد ما قيل في معناه:

قضَى اللهُ يا أسماءُ أنْ لستُ زائلاً
أُحبُّكِ حتَّى يغمضَ العينَ مُغمضُ
فحبُّكِ بلوَى غيرَ أنْ لا يسرُّني
وإنْ كانَ بلوَى أنَّني لكِ مُبغضُ
إذا ما صرفتُ القلبَ في حبِّ غيرِها
إذاً حبُّها مِنْ دونهِ يتعرَّضُ
فيا ليتَني أقرضتُ جَلداً صبابَتي
وأقرَضَني صبراً علَى الشَّوقِ مُقرضُ

أما قوله فحبُّك بلوَى فكلام قبيح المعنى وذلك أنَّه كان صادقاً في هواها مختاراً لها على ما سواها فقد أتى على نفسه إذ جعل اختياره مضرّاً بقلبه وإن كان لم يدخل في الهوَى مختاراً وإنَّما وقع به اضطراراً فقد أخطأ إذ سمَّى ما هو موجودٌ في طبعه مفارقٌ لنفسه باسم البلوى الَّتي تعرض له وتنصرف عنه وأمَّا إخباره بأنَّه لا يسرُّ بأن يكون مبغضاً لها فكلامٌ لو سكت عنه كان أولى أو أن يكفّه أنَّه مُبتلًى عند نفسه بهواها حتَّى يريد مع ذلك أن يكون مبغضاً مائلاً إلى سواها غير أنِّي أرجع إلى من ملكه الإشفاق وغلب على قلبه الاشتياق عذراً بأن يُظهر ما يضمر سواه ويتمنَّى لنفسه غير ما يهواه ألم يسمع الَّذي يقول:

مِنْ حبِّها أتمنَّى أنْ يُلاقينِي
مِنْ نحوِ بلدتِها ناعٍ فينْعَاها
كيْما أقولَ فراقٌ لا التقاءَ لهُ
وتُضمرُ النَّفسُ يأساً ثمَّ تسلاها

وهذا لعمري سرفٌ شديد وطريق الاعتذار لقائله بعيد وأقرب منه قول أبي الوليد بن عبيد الطائي:

مُقيمٌ بأكنافِ المصلَّى تصيدُني
لأهلِ المصلَّى ظبيةٌ لا أصيدُها
أُريدُ لنفسِي غيرَها حينَ لا أرَى
مُقاربةً منها ونفسي تريدُها

وهذا الكلام أيضاً حسن الظَّاهر قبيح الباطن وذلك أنَّه يعبِّر عن صاحبته أنَّه إنَّما يريدها ما دامت تواصله فإذا هجرته انصرف عنها قلبه إلاَّ أنَّه وإن كان مقصِّراً في هذا البيت فما قصَّر في قوله:

يهواكَ لا أنَّ الغرامَ أطاعهُ
حتماً ولا أنَّ السُّلوَّ عصاهُ
مُتخيِّرٌ ألفاكَ خيرةَ نفسهِ
ممَّن نآهُ الودُّ أوْ أدناهُ

وهذا ضد قول أبي علي البصير:

لوْ تخيَّرتُ ما عشقتُ ولوْ مُلِّ
كتُ أمرِي عرفتُ وجهَ الصَّوابِ

وأقبح من هذا القول الَّذي يقول:

إنَّ الَّذي بعذابِي ظلَّ مُفتخراً
هلْ كنتَ إلاَّ مليكاً جارَ إذ قدرَا
لولا الهوَى لتَحَاربْنا علَى قدرٍ
وإن أُفقْ يوماً ما فسوفَ ترَى

هذا يتوعد محبوبه بالعقاب وهو أسير في يده يجري عليه حكمه وينفذ فيه فكيف لو قد ملك نفسه وقدر على الإنصاف من خصمه هذه حالٌ لا يُخبر بها عن نفسه إلاَّ من قد غُلب على عقله أو تحيَّر في أمره وقد قال جميل في قريبٍ من هذا المعنى قولاً مليحاً وإن لم يكن معناه عندنا صحيحاً وهو:

فيا ربِّ حبَّبْني إليها وأعطِنِي المو
دَّةَ منها أنتَ تُعطي وتمنعُ
وإلاّ فصبِّرني وإنْ كنتُ كارهاً
فإنِّي بها يا ذا المعارجِ مولعُ

وللمجنون ما هو أقبح منه:

فيا ربِّ سوِّ الحبَّ بيني وبينها
كَفافاً فلا يرجحْ لليلَى ولا ليَا
وإلاّ فبغِّضْها إليَّ وأهلَها
تكنْ نعمةً ذا العرشِ أهديتَها ليَا

وأنشدني أبو العباس محمد بن يزيد النحوي ليزيد بن الطثرية في ضد هذا المعنى:

يقولونَ صبراً يا زيدُ إذا نأتْ
ويا ربِّ لا ترزقْ علَى حبِّها صبرَا

فهذا يختار لنفسه البلاء ضنّاً بمحلِّها من الهوَى ولعمري إنَّ هذه لحالٌ وكيدةٌ وإنَّها لو فارقته حتَّى يرى نفسه بعين الحريَّة من ملكها لانتقل عن رأيه وندم على وفائه وقد حدَّثتني مريم الأسدية قالت سمعت امرأة عقيليَّة تقول وهي على بعير لها تسير:

سُقينا سُلوةً فَسَلا كِلانا
أراكَ اللهُ نعمةَ مَنْ سقانا

قالت مريم فسألتها عن خَبالها فقالت كنت أهوى ابن عمٍ لي ففطن بي بعض أهلي فسقوني وإيَّاه شيئاً فسلا كل واحد منا عن صاحبه وهذه حالٌ قلَّ ما يقع مثلها وهي ألطف محلاًّ من كل ما ذكرناه وما نذكره بعدها لأنّا إنَّما نصف من آثر المقام مع من يهواه على السلوّ عنه والرَّاحة من أذاه وهو بعد مقيمٌ في هواه وصاحبة هذا البيت قد سلت عن محبوبها وإنَّما تأسَّى على العشق لا على المعشوق وفي مثل هذا المعنى يقول بعض الهذليين:

إذا ما سألتُكَ وعْداً تُريحُ
بهِ مُهجتي فأنا المُستريحُ
فلا تُعطني الوعدَ خوفَ السُّلوِّ
فإنِّي علَى حسراتي شحيحُ
أحَبُّ إليَّ من الصَّبرِ عنكَ
فُؤادٌ قريحٌ وقلبٌ جريحُ

ولقد أحسن الوليد بن عبيد حيث يقول:

ويُعجبني فَقري إليكَ ولمْ يكنْ
لِيُعجبني لولا محبَّتكَ الفَقرُ
وما ليَ عذرٌ في جُحودكَ نعمةً
ولو كان لي عذرٌ لما حسُنَ العذرُ

وأحسن الَّذي يقول:

وما سرَّني أنِّي خليٌّ مِنَ الهوَى
علَى أنَّ لي ما بينَ شرقٍ إلى غربِ
فإنْ كانَ هذا الحبُّ ذنبي إليكُمُ
فلا غفرَ الرَّحمانُ ذلكَ من ذنبِ

وأحسن أيضاً الَّذي يقول:

أحببتُ قلبي لمَّا أحبَّكمُ
وصارَ رأيي لِرأيهِ تبعا
ورُبَّ قلبٍ يقولُ صاحبهُ
تَعْساً لقلبي فبئسَ ما صنعا

وأنشدني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار لجميل بن معمر:

خليليَّ فيما عِشتما هلْ رأيتُما
قتيلاً بكى من حبِّ قاتلهِ قبلي
فلوْ تركتْ عقلي معي ما تبعتُها
ولكنْ طِلابيها لما فاتَ من عقلي

وهذا المعنى الَّذي في البيت الثاني داخل فيما عينَّاه من أنَّ من أقبل على من يهواه ما دام مفتقراً إليه فليست له في ذلك منَّةٌ عليه وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النَّحويّ عن أبي سعيد عن القرويّ قال حدثني أخي عمران بن موسى قال أخبرني بعض أصحابنا أنَّ المجنون لما تغوَّل كان لا يؤخذ منه الشعر إلاَّ أن يجلس الرجل قريباً منه فينشد النَّسيب فيرتاح إليه فإذا سمع ذلك أنشد قال فجلس إلى جنبه رجلٌ فأنشده بيتاً من النَّسيب فقال ما أحسن هذا ثمَّ أنشده:

عجبتُ لِذاكَ عُروةَ كيفَ أضحى
أحاديثاً لقومٍ بعدَ قومِ
وعروةُ ماتَ موتاً مُستريحاً
وها أنذا أموَّتُ كُلَّ يومِ

وأنشدني بعض الأدباء للمجنون أيضاً:

أراني إذا صلَّيتُ يمَّمْتُ نحوها
أمامي وإنْ كانَ المصلَّى ورائيا
وما بيَ إشراكٌ ولكنَّ حبَّها
مكانَ الشَّجى أعْيا الطَّبيبَ المُداويا
أُصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتها
أثنْتَيْنِ صلَّيتُ الضُّحى أمْ ثمانيا
وما جئْتها أبغي شفائي بنظرةٍ
فأبصرتُها إلاَّ انصرفتُ بدائيا

وأنشدني بعض الكتاب لنفسه:

ولي فؤادٌ إذا طالَ السَّقامُ بهِ
هامَ اشتياقاً إلى لُقيا مُعذِّبهِ
يفديكَ بالنَّفس صبٌّ لو يكونُ لهُ
أعزُّ من نفسهِ شيءٌ فداكَ بهِ