انتقل إلى المحتوى

كتاب الزهرة/الباب الثامن من كان ظريفا فليكن عفيفا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الثامن مَن كانَ ظريفاً فليكنْ عفيفاً

قال أبو بكر بن داود وحدثني أبي قال حدثنا سويد بن سعيد الحدثانيّ قال حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى الفتات عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مَن عشق فعفَّ فكتمه فمات فهو شهيد ولو لم تكن عفَّة المتحابَّين عن الأدناس وتحاميهما ما ينكر في عرف كافة النَّاس محرَّماً في الشرائع ولا مستقبحاً في الطَّبائع لكان الواجب على كلِّ واحد منهما تركه إبقاء ودّه عند صاحبه وإبقاء على ودِّ صاحبه عنده.

أنشدني أحمد بن يحيى عن زبير عن محمد بن إسحاق عن مؤمل بن طالوت من أهل وادي القرى عن حمزة بن أبي ضيغم:

وبتْنا خلافَ الحيِّ لا نحنُ منهمُ
ولا نحنُ بالأعداءِ مُختلطانِ
وبتْنا يقينَا ساقطَ الطَّلِّ والنَّدى
منَ اللَّيلِ بردَا يمنةٍ عَطرانِ
نذودُ بذكرِ اللهِ عنَّا غوَى الصِّبى
إذا كادَ قلبانَا بِنا يرِدانِ
ونصدرُ عن ريِّ العفافِ وربَّما
سُقينا عليكِ النَّفسَ بالرَّشَفانِ

وأنشدتني أعرابية بالبادية:

ويومٍ كإبهامِ الحُبارَى لهوتهُ
بقعمةَ والواشونَ فيهِ تحرِّفُ
بِلا حرجٍ إلاَّ كلامَ مودَّةٍ
علينا رَقيبانِ التُّقى والتَّعفُّفُ
إذا ما تهمَّمنا صددْنا نفوسَنا
كما صدَّ مِنْ بعدِ التَّهمُّمِ يوسفُ

وقال العباس بن الأحنف:

أتأذنونَ لصبٍّ في زيارتكمْ
فعندكمْ شهواتُ السَّمعِ والبصرِ
لا يُضمرُ السُّوءَ إنْ طالَ الجلوسُ بهِ
عفُّ الضَّميرِ ولكنْ فاسقُ النَّظرِ

وأحسن من هذا قول عمر:

نظرتُ إليها بالمحصَّبِ مِنْ منًى
ولِي نظرٌ لولا التَّحرُّجُ عارمُ
فقلتُ أشمسٌ أمْ مصابيحُ بيعةٍ
بدتْ لكَ خلفَ السِّجفِ أمْ أنتَ حالمُ
بعيدةُ مهوَى القرطِ إمَّا لنوفلٍ
أبوها وإمَّا عبدُ شمسٍ وهاشمُ
طلبْنا الصِّبَى حتَّى إذا ما أصبْنهُ
نزعْنا وهنَّ المسلماتُ الكرائمُ

ولبعض أهل هذا العصر:

أمولايَ لمْ تبعدْ عليكَ مطالبي
ولمْ تخشَ إنْ فكَّرتَ فيَّ فواتِي
أمولايَ لا أينَ المفرُّ منَ الهوَى
فقلْ لي لمَ بادرتَ بالنَّقماتِ
أَأُنسيتَ عهدَيْنا بوادٍ معظَّمٍ
وليسَ بذِي زرعٍ سوَى الحسناتِ
وأنتَ حرامٌ حرمةَ الحجِّ والهوَى
علَى العينِ إلاَّ هفوةُ اللَّحظاتِ
أخنتُكَ كانَ العفوُ أولَى بذِي الهوَى
أمُ ابْلغتَ زوراً لِم شفيتَ وُشاتِي

قال وبلغني عن الأصمعي أنَّه قال بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجاريةٍ متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول:

لنْ يقبلَ اللهُ مِنْ معشوقةٍ عملاً
يوماً ووامِقُها غضبانُ مهجورُ
وكيفَ يأْجرُها في قتلِ عاشِقها
لكنَّ عاشقَها في ذاكَ مأْجورُ

قال فقلت لها يرحمك الله أفي مثل هذا الموضع تنشدين هذا فقالت إليك عنِّي يا عراقيُّ لا رهقك فقلت لها وما الحب فقالت هيهات جل والله عن أن يُحصى وخفي عن أن يُرى فهو كامن ككمون النار في حجرها إن قدحته ورى وإن تركته توارى ثمَّ أنشأت تقول:

إنسٌ غرائرُ ما هممنَ بريبةٍ
كظباءِ مكَّةَ صيدهنَّ حرامُ
يُحسبنَ من لِينِ الحديثِ فواسقاً
ويصدُّهنَّ عنِ الخنا الإسلامُ

وقال أبو صخر الهذلي:

ولَليلةٌ منها تعودُ لنَا
في غيرِ ما رفثٍ ولا إثمِ
أهوَى إلى نفسِي ولو نزحتْ
ممَّا ملكتُ ومِنْ بنِي سهمِ

وقال آخر:

فلمَّا التقيْنَا قالتِ الحكمَ فاحتكمْ
سوَى خصلةٍ هيهاتَ منكِ مرامُها
فقلتُ معاذَ اللهِ مِنْ تلكَ خصلةً
تموتُ ويبقَى وزرُها وإثامُها
فبتُّ أُثنِّيها عليَّ كأنَّها
منَ النَّومِ سكرَى وارفاتٌ عظامُها

وقال مسعر بن كدام:

تفنَى اللَّذاذةُ ممَّنْ نالَ صفوتَها
منَ الحرامِ ويبقَى الإثمُ والعارُ
تبقَى عواقبُ سوءٍ في مغبَّتِها
لا خيرَ في لذَّةٍ مِنْ بعدِها النَّارُ

وقال جرير:

كانتْ إذا أخذتْ لعِيدٍ زينةً
هشَّ الفؤادُ وليسَ فيها مطمَعُ
تركتْ حوائمَ صادِياتٍ هيَّماً
مُنعَ الشِّفاءُ وطابَ هذا المشرعُ

وقال عبيد الرَّاعي:

نقاربُ أفنانَ الصِّبى ويردُّنا
حياءٌ إذا كدْنا نلجُّ فنجمحُ
حرائرُ ما يَدرينَ ما سوءُ شيمةٍ
ويتركنَ ما يُلحَى عليهِ ويفضحُ

وقال ذو الرمة:

أرَينَ الَّذي استودعنَ سوداءَ قلبهِ
هوًى مثلَ شكٍّ بالرِّماحِ النَّواجمِ
أُولئكَ آجالُ الفتَى إنْ أردنهُ
بقتلٍ وأسبابُ السَّقامِ المُلازمِ
يقاربنَ حتَّى يطمعَ التَّابعُ الصِّبى
وتهتزَّ أحشاءُ القلوبِ الحوائمِ
إذا قالَ يا قدْ حلَّ دَينِي قضينَهُ
أمانيَّ عندَ الزَّاهراتِ العوائمِ

وقال أيضاً:

وإنَّا لنرضَى حينَ نشكُو بخلوةٍ
إليهنَّ حاجاتِ النُّفوسِ بلا بذلِ
وما الفقرُ أزرَى عندهنَّ بوصلِنا
ولكنْ جرتْ أخلاقُهنَّ علَى البُخلِ

وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:

وقدْ كنتُ ودَّعتُ النَّقا ليلةَ النَّقا
بما ليسَ يُبلي ثوبَ جِدَّتهِ الدَّهرُ
وما نلتُ شيئاً غيرَ أنَّكَ قلتَ لِي
سأرْعاكَ فاحْفظنِي فديتُكَ يا بدرُ
سبتْكَ بوجهٍ كالصَّحيفةِ واضحٍ
وفي مقلتَيْ وَسْنانَ في طرفهِ فترُ
وفي مضحكٍ عذبٍ كأنَّ رضابهُ
نُوارُ أقاحيٍّ يدجِّنُها القَطرُ
وما ليَ علمٌ غيرَ أنِّي أظنُّهُ
وما ليَ هلمٌ غيرَ ظنِّي ولا خبرُ

وقال آخر:

فما نطفةٌ مِنْ ماءِ مزنٍ تنسَّمتْ
رياحٌ لأعلَى مَتنهِ فهوَ قارسُ
بأطيبَ مِنْ فيها وما ذقتُ طعمهُ
ولكنَّني فيما ترَى العينُ فارسُ

وأنشدني أحمد بن يحيى النحوي لزينب بنت فروة:

وما طعمُ ماءٍ أيُّ ماءٍ تقولهُ
تحدَّرَ مِنْ غرٍّ طوالِ الذَّوائبِ
بمنعرجٍ أوْ بطنِ وادٍ تحدَّثتْ
عليهِ رياحُ الصَّيفِ مِنْ كلِّ جانبِ
نفتْ جِريةُ الماءِ القذَى عنْ متونهِ
فما إنْ ترَى فيهِ مُعاباً لعائبِ
بأطيبَ ممَّنْ يقصرُ الطَّرفُ دونهُ
تُقَى اللهِ واستحياءُ بعضِ العواقبِ

وقال العديس الكناني:

جزَى اللهُ الوُشاةَ جزاءَ سوءٍ
فإنَّهمُ بنا قدْ يولَعونا
ولوْ لمْ نخشَ إلاَّ النَّاسَ كانُوا
علينا في الإساءةِ هيِّنينا
ولكنَّا نخافُ اللهَ حقّاً
ونخشَى اللهَ إسلاماً ودِينا
ونَسْتحيي ونرعَى غيبَ جُمْلٍ
ونحنُ علَى المودَّةِ مُنطوينا

وقال آخر:

وأقصُرُ طرفِي دونَ جُمْلٍ كرامةً
بجُملٍ وللطَّرفِ الَّذي أنا قاصرُهْ
سقَى اللهُ بيتاً لستُ آتِي أهلهِ
وقلبِيَ في البيتِ الَّذي أنا هاجرُهْ

وقال آخر:

تضوَّعَ مسكاً بطنُ نعمانَ إذْ مشتْ
بهِ زينبٌ في نسوةٍ عطِراتِ
خرجنَ بفجٍّ رائحاتٍ عشيَّةً
يلبِّينَ للرَّحمانِ مُعتمراتِ
يُغطِّينَ أطرافَ البنانِ منَ التُّقى
ويخرجنَ بالأسحارِ مُجتمراتِ
ولمَّا رأتْ نكثَ النُّميرِيِّ أعرضتْ
وكنَّ مِنَ انْ يَلقيْنَهُ حذِراتِ

وقال الحسن بن هانئ:

أحسنُ مِنْ زحفِ قبيلتينِ
ومِنْ تَلاقِي كتيبتينِ
ومِنْ نزالٍ بمرهفاتٍ
بينَ مغاويرِ عسكرَيْنِ
فمانِ قدْ أُعمِلا رِضاعاً
ومصَّ ريقٍ بشِفَّتينِ
لمْ يُطعمَا الغمضَ مِنْ نَفارٍ
مُحادثَيْنِ مُلازمَينِ
حتَّى إذا الصُّبحُ لاحَ قامَا
علَى وضوءٍ مُصلِّيينِ

وقال آخر:

فما أنسَ ممَّا قدْ رأيتُ وفاتنِي
بهِ الدَّهرُ ممَّا كنتُ أُعطَى وأُرزقُ
فلنْ أنسَ مسراهَا وسِرباً سرتْ بهِ
بغورِ النَّقا كادتْ لهُ الأرضُ تُشرقُ
إلى موعدٍ منَّا ومنهنَّ شاقَنا
إليهِ الأعادِي والهوَى المتشوَّقُ
فبتنَ جُنوحاً يشتكينَ ونشتكِي
إليهنَّ لمْ يهبطْ لنا الأرضَ مرفقُ
عفائفُ لا يدنونَ منَّا لريبةٍ
ولا نحنُ مكروهاً منَ الأمرِ نرهقُ
فلمَّا رأينَ الصُّبحَ لاحَ وصوَّتتْ
كرائمُ طيرٍ لمْ تكنْ قبلُ تنطقُ
فمَا برحتْ حتَّى وددتُ بأنَّني
بما في فؤادِي منَ دمِ الجوفِ أشرقُ
وأعلنَتِ الشَّكوَى حَصانُ غريرةٌ
تجودُ بماضِي دمعِها ثمَّ تشهقُ
يظلُّ الغيورُ أرغمَ اللهُ أنفهُ
علَى مُلتقانَا قائماً يتحنَّقُ

وقال آخر:

ألا يا شفاءَ النَّفسِ لمْ تسعفِ النَّوى
وتُحيي فؤاداً لا تنامُ سرائرُهْ
أثِيبِي فتًى حقَّقتِ قولَ عدوِّهِ
عليهِ وقلَّتْ في الصَّديقِ معاذرُهْ
أُحبُّكِ يا سلمى علَى غيرِ ريبةٍ
وما خيرُ حبٍّ لا تعفُّ سرائرُهْ

ولبعض أهل هذا العصر:

لا تُلزمَنِّي في رعيِ الهوَى سرفاً
وما أُوفِّيهِ إلاَّ دونَ ما يجبُ
لو كنتَ شاهدَنا والدَّارُ جامعةٌ
والشَّملُ ملتئمٌ والودُّ مُقتربُ
لا بلْ مساواةُ ودِّي ودَّهُ بهوًى
كأنَّهُ نسبٌ بلْ دونهُ النَّسبُ
مُستأنسينَ بما تُخفِي ضمائرُنا
علَى العفافِ ورعيِ الودِّ نصطحبُ
فإنْ محَا الشَّوقَ فرطَ الأُنسِ أوحشَنا
أُنسُ العواذلِ إنْ جدُّوا وإنْ لعبوا
فما نُدافعُ بالهجرانِ فهوَ علَى
أنْ لا يزولَ هوَانَا مُشفقٌ حدِبُ
عاينتَ منزلةً في الظَّرفِ عاليةً
ورتبةً قصَّرتْ عن شأْوِها الرُّتبُ
في عفَّةٍ نتحامَى أنْ يلمَّ بها
سوءُ الظُّنونِ وأنْ تغتالَها الرِّيبُ

وقال آخر:

فلا بخلٌ فيُؤْيِسَ منكَ بخلٌ
ولا جودٌ فينفعَ منكَ جودُ
شكوْنا ما علمتَ فما وليتمْ
وباعدْنا فما نفعَ الصُّدودُ
ونُحسدُ أنْ نزوركمُ ونرضَى
بدونِ البذلِ لوْ رضيَ الحسودُ

وقال آخر:

ويخشَوْنَ في ليلَى عليَّ ولمْ أنلْ
معَ العذلِ مِنْ ليلَى حراماً ولا حِلاَّ
سوَى أنْ محا لوْ تشاءُ أقلَّها
ولوْ تبتَغِي ظلاًّ لكانَ لها ظلاَّ
ألا حبَّذا أطلالُ ليلَى علَى البِلى
ومَا بذلتْ لي مِنْ نوالٍ وإنْ قلاَّ
وما يتمادَى العهدُ إلاَّ تجدَّدتْ
مودَّتها عندِي وإنْ زعمتْ أنْ لا

ولعمري إنَّ هذا من نفيس الكلام قد جمع لفظاً فصيحاً ومعنًى صحيحاً غير أنَّه لم يخبر بالعلَّة الَّتي من أجلها لم ينل حراماً ولا حلالاً فيُقضى له على حسب ذلك لأنَّ من منعه من إتيان المنكر عجزه عنه لم يشكر وإنَّما يُستطرف ممَّن قدر على ما يهواه فتعفَّف.

كما قال مسلم بن الوليد:

وما ذمِّيَ الأيَّامَ أنْ لستُ حامداً
لعهدِ لياليها الَّتي سلفتْ قبلُ
ألا ربَّ يومٍ صادقِ العيشِ نلتهُ
بها وندامايَ العفافةُ والبذلُ

وقال بعض أهل هذا العصر:

يا متُّ قبلكَ قدْ واللهِ برَّحَ بِي
شوقِي إليكَ فهلْ لِي فيكَ مِنْ حظِّ
قلبي يغارُ علَى عينِي إذا نظرتْ
بُقيا عليكَ فَعَا أُرْوَى منَ اللَّحظِ

فهذا يخبر أن صاحبه ونفاسته في صدره منعاه من الاستمتاع بالنظر إلى شخصه وأكسباه الغيرة له على نفسه وله أيضاً في باب التعظيم إلفه والتقديم له على نفسه كلام إن لم يقبح من باب الإفراط والتكثير لم يسهل من باب التساهل والتقصير وهو:

جُعلتُ فداكَ إنْ صلُحتْ فداءً
لنفسكَ نفسُ مثلِي أوْ وِقاءا
وكيفَ يجوزُ أنْ تفديكَ نفسِي
وليسَ محلُّ نفسَيْنا سواءَ

وبلغني أن أعرابياً خلا بصاحبته فقيل له ما كان بينكما فقال ما زال القمر يزيّنها فلما غاب زيّنته فوضعت كفِّي على كفِّها فقالت مَهْ لا تُفسد فقلت والله ما يرانا إلاَّ الكواكب فقالت ويحك وأين مكوكبُها قال فارْفضضتُ والله عرقاً ولم أعد وبلغني أن العباس بن سهل الساعدي دخل على جميل وقد احتضر فقال له جميل بلِّغنا أتظنّ رجلاً عاش في الإسلام لم يزنِ ولم يسرق ولم يسفك دماً حراماً ناجياً من هول يوم القيامة قال العباس فقلت أي والله فمن ذلك قال إنِّي لأرجو أن تكونه قال فتبسَّمت وقلت أبعد إتيانك بثينة عشرين سنة فقال إنِّي في آخر يوم من أيام الدُّنيا وأول يومٍ من أيام الآخرة فلا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم إن كنتُ حدَّثت نفسي بحرامٍ منها قطُّ عمَّا وراء ذلك قال ثمَّ مات من يومه.