انتقل إلى المحتوى

كتاب الخزري/المقالة الخامسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​كتاب الرد والدليل في الدين الذليل
أو
كتاب الخزري​
 المؤلف يهوذا اللاوي


<1> قال الخزري: لا بد من التحامل عليك أن تسمعني كلامًا قريبًا مخلصًا في الأصول والعقائد على طريقة المتكلمين الجدليين، ويحل لي سماعها كما حل لك علمها، إما لأعتقدها، وإما للرد عليها. إذ قد فاتتني تلك الدرجة العالية من خلوص الاعتقاد دون بحث. وقد تقدمت لي شكوك وظنون ومفاوضة فلاسفة وأهل ملل وأديان مختلفة، الأولى بي العلم والتحذق في رد الآراء الفاسدة من الجهل. وإنما يجمل التقليد مع طيب النفس، وأما مع خبثها فالبحث أولى، لا سيما إذا أخرج البحث إلى تحقيق ذلك التقليد، فحينئذ تجتمع للإنسان الدرجتان، أعني العلم والتقليد معًا.

<2> قال الحبر: ومن لنا بنفس صبورة غير منخدعة للآراء التي تمر بها من آراء الطبيعيين والمنجمين والمطلسمين والسحراء والدهريين والمتفلسفين وغيرهم؟ فلا يصل إلى الإيمان إلا وقد جاز على مراتب كثيرة للزنادقة، والعمر قصير والصناعة طويلة إلا الأفراد يقع لهم الإيمان بالطبع وتنبو عنهم هذه الآراء كلها ويقع في نفوسهم للحين مواضع أغلوطاتهم وأرجو أنك من أولئك الأفراد، فإن كان ولا بد فلست أسلك بك طريق القرائيين الذين ارتقوا إلى العلم الإلهي دون درج، لكني الخص لك عيونًا تعينك في التصور للهيولة المشتركة ثم الأستقُصات ثم الطبيعة ثم النفس ثم العقل ثم العلم الإلهي ثم أعطي إقناعات في استغناء النفس الناطقة عن الجسد، ثم المعاد، ثم في القضاء والقدر بغاية الإيجاز والاختصار. فأقول إن المحسوسات إنما أدركنا كميتها وكيفيتها بحواسنا وقضى العقل بأنها محمولات في موضع، وذاك الموضع يصعب تصوره، وكيف لنا نتصور شيئًا لا كمية له ولا كيفية إلا أعراض لا تقوم بأنفسهما، ولا بد لهما من حامل، وسمت الفلاسفة هذا الحامل هيولي، وقالت إن العقل يدركها إدراكًا ناقصًا لنقصانها في ذاتها، لأنها ليست موجودة بالفعل لا تستحق صفة من الصفات، وإن كانت بالقوة فالصفة جسمانية. قال أريسطوطاليس كأنها تستحي من أن تظهر عريانة، فهي لا تظهر إلا لابسة صورة. وقد ظن بعض الناس أن الـמים المذكور في أول בראשית كناية عن هذه الهيولي، وأن רוח אלהים מרחפת על פני המים إنما هي إرادة الله ومشيئته النافذة في جميع أجزاء الهيولي يفعل فيها ما شاء، كيف شاء، متى شاء، كما يصنع الفخاري بالطينة التي لا صورة فيها، وكنى بعدم الصورة والنظام بـחשך תהו ובהו. ثم إن الإرادة والحكمة الإلهية اقتضت إدارة الفلك الأعلى الذي يدور دوره في كل כ"ד ساعة، ويدير معه جميع الأفلاك بأن يحدث في هذه الهيولي التي هي حشو فلك القمر تغايير بحسب حركات الأفلاك. وأولها احتما الجو القريب من فلك القمر لقربه من موضع الحركة فصار نارًا أثيرًا وهو عند الفلاسفة النار الطبيعية لا لون لها ولا إحراق، لكنها جسم لطيف شفاف خفيف سموه فلك النار، ثم فلك الهواء، ثم فلك الماء، ثم كرة الأرض التي هي المركز، ثقلت وغلظت لبعدها عن موضع الحركة. فهذه الأربع عناصر من إمتزاجاتها تكون المتكونات.

<3> قال الخزري: وأراها عندهم حادثة بالاتفاق، كقولهم إنه اتفق لما قرب من الفلك جدا أن يكون نارًا، وما بعد أن يكون أرضًا، وما توسط كان بحسب القرب إلى المحيط أو إلى المركز إما هواء إما ماء.

<4> قال الحبر: بل الضرورة تضمهم إلى الإقرار بالحكمة في انفصال جوهر عن جوهر. فإنه لم ينفصل النار عن جوهر الهواء، والهواء عن الماء، والماء عن الأرض بالأقل والأكثر والأشد والأضعف كل بصورة خاصة بكل واحد منها جعلت هذا نارًا وهذا هواءً وهذا ماءً وهذا أرضًا. وإلا فللقائل أن يقول شحنت الفلك كلها أرضًا بعضها أرق أرضية من بعض. وللآخر أن يقول بل كلها نارًا لكن كل ما انحدر كان أغلظ نارية وأبرد. ونحن نرى التقاء عنصر بعنصر وكل واحد منها يحرز صورته وجوهريته، نرى الهواء والماء والأرض في موضع واحد تتماس ولا تتشابه حتى تستحيل بعضها إلى بعض بأسباب اُخر تحيلها، فيقبل الماء صورة الهواء، والهواء صورة النار، فحينئذ يستحق الأسْتَقِسّ اسم صاحبه فتميز الجواهر بصورها حاشى أعراضها يدعو الفلاسفة إلى القول بأن هناك عقلًا فعالًا إلهيًا يعطي هذه الصور كما يعطي صور النبات والحيوانات وهي كلها من الأربع عناصر. وليس تميز الدالية من النخلة بأعراض لكن بصور جعلت جوهر هذا غير جوهر هذا وإنما ينفصل بأعراض دالية من دالية ونخلة من نخلة بأن هذه مثلًا سوداء وهذه بيضاء وهذا أحلى من هذه وهذه أطول وأقصر وأغلظ وأرق وغير ذلك من الأعراض. وليس في الصور الجوهرية أقل وأكثر، فليس فرس أقل فرسيةً من آخر ولا إنسان أكثر إنسانيةً من آخر. لأن حدود الفرسية والإنسانية حاصلة لجميع أشخاصهما. فالفلاسفة أقروا ضرورة بأن هذه الصور إنما يعطيها أمر إلهي يسمونه عقل واهب الصور.

<5> قال الخزري: هذا لعمرك الإيمان إذا اضطرتنا ضرورة العقل إلى الإقرار بمثل هذا. فما دعانا إلى القول بالاتفاق؟ ولِمَ لا نقول إن الذي جعل هذا فرسًا وهذا إنسانًا بالحكمة التي لا ندرك نحن تفصيلها هو الذي صور النار نارًا والأرض أرضًا للحكمة التي رآها تعالى لا للاتفاق من قرب الفلك أو من بعده؟

<6> قال الحبر: وهذه الحجة الشريعية وبرهانها بنو إسرائيل وما قلب لهم من الأعيان وما اخترع لهم من الأكوان وإذا ارتفع هذا البرهان استوى معك مناظرك بأن الدالية مثلًا إنما نبتت هناك بما اتفق أن يقع في ذلك المكان بزر العنب وصورة البزر إنما كانت من دوران الفلك نسبة ما امتزجت بها العناصر امتزاجًا ما جاء منه ما تراه.

<7> ؟

<8> ؟

<9> قال الخزري: وإن خرجنا قليلًا من الغرض عسى أن تلخص لي غرض هذا المزمور.

<10> قال الحبر: إنه يناسق مع מעשה בראשית ابتدأ עוטה אור כשלמה يشير إلى יהי אור ויהי אור. נוטה שמים כיריעה إلى יהי רקיע. המקרה במים يشير إلى המים אשר מעל השמים، ثم ما يحدث في الجو من السحاب والرياح والنيران والبروق والصواعق، وإنها كلها بإذن كما قال כי בם ידין עמים. فعبر عن هذا بقوله השם עבים רכובו המהלך על כנפי רוח. עושה מלאכיו רוחות משרתיו אש לוהט. يعني أنها رسلة حيث شاء بما شاء. وكل ذلك متعلق بالـרקיע. ثم انتقل إلى יקוו המים ותראה היבשה بقوله יסד ארץ על מכוניה وإن الماء بطبعه محيط فوق الأرض يغطيها كلها كالثوب سهلًا وجبالًا كما قال תהום כלבוש כסיתו על הרים יעמדו מים. لكن القدرة والحكمة أخرجته عن ذلك الطبع وحصرته إلى الأعماق حيث البحار حتى يكون ههنا موضع نشو الحيوان وظهور الحكمة فقال מן גערתך ינוסון كناية عن انحصارها في البحار وتحت الأرض، وإلى هذا يشير بقوله לרוקע הארץ על המים لأنه قول يضاد في الظاهر لقوله תהום כלבוש כסיתו. فهذا بحسب طبع الماء وذاك بحسب القدرة والحكمة وكما قال גבול שמת בל יעבורון בל ישובון לכסות הארץ وكل هذا مقصود لمنافع الحيوان كما يدفع الإنسان بحيله وصناعاته أكثر مياه الأودية بالأسداد وغير ذلك ليأخذ من الماء مقدار حاجته للرحى والسقي وغير ذلك. كذلك أشار ههنا بقوله המשלח מעינים בנחלים لتكون ישקו כל חיתו שדי إذا خلقت الـחיה ويكون عليهم עוף השמים ישכון إذا خلق الـעוף. ثم انتقل إلى תדשא הארץ بقوله משקה הרים מעליותיו كناية عن ואד יעלה מן הארץ لمنافع آدم وذريته. فما قيل מצמיח חציר לבהמה ليلًا يحقر بالـחציר لأنه من منافع الحيوان الأهلي بقرًا غنمًا ودواب كنى عنها بـעבודת האדם يعني الفلاحة ليستخدم هو بها ليستخرج لباب النبات لنفسه كما قال להוציא לחם מן הארץ نظير قوله הנה נתתי לכם את כל עשב זורע זרע، يعني لبابها للإنسان وقشورها لسائر الحيوان كما قال ולכל חית הארץ ולכל עוף השמים את כל ירק עשה לאכלה. وذكر الأغذية الثلاث التي تستخرج بالفلاحة وهي דגן ותירוש ויצהר. وكلها לחם. ثم ذكر منافعها יין ישמח לבב אנוש. ثم שמן – להצהיל פנים משמן، وלחם الذي هو الخبز خصوصًا לבב אנוש יסעד. ثم عطف على منفعة نزول المطر للأشجار بقوله ישבעו עצי ה'. ومنفعة الشجر العالية للحيوانات كما قال אשר שם צפרים יקננו. كما أن الجبال الشامخة منافع لحيوانات آخر كما قال הרים גבוהים ליעלים، סלעים מחסה לשפנים. أنطوي جميع هذا في ذكر الـיבשה. فانتقل إلى יהי מאורות بقوله עשה ירח למועדים. وذكر منافع الليل وإن الليل مقصود من قبله لا بالاتفاق، لا عبث في فعله ولا في الأعراض التابعة لفعله، لأن الليل إنما هو مدة عدم الشمس، لكنه مع هذا مقصود لمنافع كما قال תשת חשך ויהי לילה وما يتبعه من القول في ذكر الحيوان المؤذي للإنسان وتصرفه في الليل وكمونه بالنهار. والإنسان والحيوان المؤالف للإنسان بعكس ذلك, كما قال יצא אדם לפעלו ולעבודתו עדי ערב. فقد إنجرت له الحيوانات الأرضية كلها في ذكر الأنهار ثم في ذكر الأنوار وإنجر معها ذكر الإنسان، ولم يبق إلا ذكر الحيوان المائي وأكثر أحواله مجهولة. والحكمة فيها ليست ظاهرة إلينا كظهورها في هذه. فسبح على ذكر هذه التي الحكمة فيها ظاهرة بقوله מה רבו מעשיך ה'. ثم عطف على ذكر البحر وما فيه واتبعه بقوله יהי כבוד ה' לעולם ישמח ה' במעשיו کناية عن قوله וירא אלהים את כל אשר עשה והנה טוב מאד كناية عن יום השביעי וישבת ויברך ויקדש لما انكملت الأفعال الطبيعية التي تنقضي في زمان وانتهت بالإنسان إلى رتبة الملائكة المستغنية عن القوى الطبيعية إذ هي عقول لا يحتاج في أفعالها إلى زمان كما نرى العقل يتصور في آن واحد السموات والأرض فهو عالم الملكوت وعالم الراحة إذا اتصلت النفس به استراحت. ولذلك قيل في السبت أنه מעין עולם הבא.

ولنرجع إلى كلامنا على رأي أهل القياس أن العناصر لما امتزجت امتزاجات مختلفة بحسب اختلاف المواضع والأهوية والنسب الفلكية استحقت صورًا مختلفة من عند معطي الصور. فكان جميع المعادن ... أن قواها وخواصها وجواهرها مزاجية فقط مستغنية عن صور إلهية، وأن الصور إنما تحتاج في النبات والحيوان التي تنسب إليها النفس. ولما امتزجت امتزاجًا ألطف استحقت صورة أشرف تظهر فيها الحكمة الإلهية أكثر، فكان النبات الذي له بعض شعور وإدراك وغَرًا إلى الأرض فهو يغتذي من الأرض الطيبة الندية والماء العذب، وينقبض عن ضد ذلك، ويكبر حتى إذا أولد المثل وعمل بزرًا وقف عمله وطلب ذلك البزر مثل ذلك العمل للحكمة الغريبة المغروزة فيه المسماة عندهم طبيعة، وهي قوة تعني بحفظ النوع إذ لا يمكن بقاء الشخص بذاته لأنه مركب من أشياء مستحيلة فكان كل ما له هذه القوى للنمو والتوليد والاغتذاء لا يتحرك الحركة المكانية فهو الذي تدبره الطبيعة على قول الفلاسفة. وبالحق أن الله يدبرها في رتبة ما وملكة ما سمِّ إن شئت تلك الرتبة طبيعةً أو نفسًا أو قوةً أو ملكًا. ولما لطف المزاج أكثر واستعد لظهور الحكمة الإلهية فيه أكثر، استحق زيادة صورة حاشى القوة الطبيعية حتى ينال أغذيته من بُعد وتكون جميع أعضائه مضبوطة لا تتحرك إلا بإرادته ويكون أملك لأجزائه من النبات الذي لا يقدر أن يحتجب مما يؤذيه ولا يقصد إلى ما ينفعه والريح تلعب به فكان الحيوان ذو الآلات المحركة له في المكان وسميت الصورة الموهوبة له زائدًا على الطبيعة نفسًا واختلفت الأنفس اختلافًا متفاوتًا بحسب تغالب الطبائع الأربع مع قصد الحكيم لحيوان حيوان لحاجة جُملة العالم إليه وإن لم ندر نحن ما المنفعة في أكثرها كما لا ندري منافع آلات المركب ونظنها عبثًا ويدريها صاحب المركب ومنشئه، بل كما نجهل منافع كثير من عظامنا وسائر أعضائنا لو نثرت بين أيدينا لما علمنا منفعة عظم عظم وعضو عضو على إنّا بها نتصرف ونتحقق أنه إن نقصنا واحدًا منها لنقصت أفعالنا وافتقرنا إليه. وهكذا جميع أجزاء العالم معلومة مضبوطة عند بارئها עליו אין להוסיף וממנו אין לגרוע. فوجب اختلاف الأنفس فوجب أن تكون آلات كل نفس مشاكلة لها فيعطي الأسد آلات الخلب بالأنياب والمخالب مع الجرأة، ويعطي الأيل آلات الهرب مع الجبن، وكل نفس تتشوق إلى تصريف قواها على ما هيئت له ولم تتعادل الطبائع في شيء من الحيوان البهيمي، فلم يتشوق إلى قبول صورة زائدة على النفس الحيوانية, لكن تعادلت في الإنسان وتشوقت إلى صورة زائدة ولا بُخْل عند الأمر الإلاهي فأفاض عليه صورة زائدة تسمى العقل الهيولاني المنفعل. والناس أيضًا يختلفون لأن أكثرهم منحرف الطبائع فيميل عقله مع ذلك الانحراف، إن كان مع الصفراء فمعه الطيش والتهور، وإن مال إلى السوداء فمعه التأني والثبوت، والأخلاق تتبع المزاج، حتى إذا وجد الإنسان متعادل الطبائع وأضداد الأخلاق عنده في ملكه مثل كفتى الميزان العدل في يد الوزان يميلها حيث شاء بزيادة الصنج ونقصانها، فذلك الإنسان لا محالة فارج/غ القلب من الشهوات المفرطة وتشوق إلى رتبة فوق رتبته وهي الرتبة الإلهية فهو يقف حائرًا فيما ينبغي له أن يأتيه في تغليب طبائعه وأخلاقه فلا يعطي القوة الغضبية سؤالها ولا الشهوانية ولا غيرها إلا مستشيرًا مسترشدًا أن يلهمه الله إلى الإرشاد، فذلك هو الذي يفيض عليه روح إلهي نبوي أن استحق النبوة، وإلهامي أن كان دون ذلك، وكان وليًا لا نبيًا إذ لا بُخْل عنده تعالى بل يعطي كل شيء حقه، ويسمي الفلاسفة معطي هذه الرتبة العقل الفعال ويجعلونه ملكًا دون الله وأن عقول الآدميين إذا اتصلت به فهي جنتها وبقاءها الأبدي.

<11> قال الخزري: عسى لهذه الجملة تفصيلًا موجزًا.

<12> قال الحبر: يتبين وجود النفس بالحركات والإحساس للحيوان مخالفة للحركات الاستقصية فسمى سببها نفسًا أو قوة نفسانية وتنقسم القوة النفسانية إلى ثلاث، ما اشترك فيه الحيوان والنبات وهي القوة النباتية، وما اشترك فيه الإنسان وسائر الحيوان وهي القوة الحيوانية، وما خص به الإنسان فيسمي قوة نطقية، ويتبين أمر النفس الكلية الجنسية بإعتبار الأفعال أنها من قبل الصور الحاصلة في المادة، لا من قبل المادة من حيث هي مادة، فإن السكين ليس يقطع من حيث هو جسم لكن حيث له صورة السكين، وكذلك الحيوان ليس يحس ويتحرك من قبل ما هو جسم لكن من قبل ما له صورة الحيوانية وهي المسماة بالنفس، فسميت هذه الصور كمالات لأن بها تكمل هويات الأشياء فالنفس كمال، وثم كمال أول وكمال ثانٍ، فالأول هو مبدأ للأفاعيل، والثاني ذات الأفاعيل الصادرة عن المبدأ، والنفس كمال أول لأنها مبدأ لا صادر عن المبدأ، والكمال إما كمال لجسم وإما كمال لجوهر ليس بجسم. فالنفس كمال لجسم طبيعي، والجسم الطبيعي إما آليّ وإما غير آليّ أعني أن تتم أفعاله بآلات أو دون آلات، فالنفس كمال لجسم طبيعي آليّ ذي حياة بالقوة أي مصدر للأفعال الحيوانية بالقوة ومتهيئ لها، ويتبين أن النفس ليست صادرة عن امتزاج استقصات البدن، لأن الشيء الحادث عن امتزاج مفردات إما أن يغلب فيه أحد المفردات أو أكثر من واحد فتكون الصورة الحاصلة بحسب ذلك وإما أن تتغالب المفردات حتى لا يبقى واحد منها على صورتها فيحدث من ذلك صورة نت وسائطها، والنفس ليست من قبيل شيء من مفردات البدن، فليست إلا صورة من خارج كالنقش من قبل الطابع في الطينة المؤلفة من الماء والتراب فإنه ليس النقش من قبيل صور الماء والتراب. وأول القوى القوة الغاذية وهي كالمبدأ، والمولدة كالغاية، والمنمية كالواسطة، والرابطة بين المبدأ والغاية، وللمولدة سبوق وتقدم وإن طرت متأخرة فإنها تستولي أولًا على المادة المهيأة لقبول الحياة، وتلبسها صورة المقصود بخدمة المنمية والغاذية، ثم تترك التدبير لهما إلى وقت التوليد، فالمولدة مخدومة والغاذية خادمة والمنمية خادمة ومخدومة، وللغاذية، الأربع قوى المشهورة الخادمة لها كل متحرك بإرادة حاس متحرك، وإلا كان الحس عبثًا، والحكمة لا تعطي شيء عبثًا ولا ضارًا، ولا تمنع ضروريًا ولا نافعًا حتى ذوات الأصداف وإن الباطنة فأولها الحاسة المشتركة لأن المنافي والملائم إنما يدركان بالتجربة، فوجب وضع قوة متصورة ليحفظ بها صور المحسوسات وهي الحاسة المشتركة، والقوة المتذكرة الحافظة لتحفظ بها المعاني المدركة من المحسوسات، والقوة المتخيلة يستعيد بها ما أمحى عن الذكر. والقوة المتوهمة ليقف على صحيح ما يستنبط التخيل وسقيمه ضربًا من الوقوف الطري حتى يعيده إلى الذكر. والقوة المحركة لاجتلاب ما يحتاج إليه من قرب وبعد ودفع الضار. وجميع قوى الحيوان إما مدركة وإما محركة. والمحركة هي الشوقية وهي ضربان إما محركة لطلب مختار وهي القوة الشهوانة وإما محركة لدفع مكروه وهي الغضبية. والمدركة ضربان إما ظاهرة كالحواس الظاهرة وإما باطنة كالحواس الباطنة. والمحركة إنما تفعل بحكم المتوهمة باستخدام المتخيلة وهي الغاية من الحيوان البهيمية إذ لم يوضع له القوة المحركة ليصلح بها أسباب الحس والتخيل بل الحاسة المتخيلة وضعت له لتصلح أسباب الحركة. والناطق بعكس ذلك أعطى الحركة لإصلاح النفس الناطقة العاملة الدراكة الحواس الخمس معلومة ومدركاتها معلومة بتوسطها يدرك أيضًا الشكل والعدد والعظم والحركو والسكون تبين وجود الحاسة المشتركة من حكمنا على العسل مثلًا إذا رأيناه أنه حلو. وهذا إنما هو بأن عندنا قوة مشتركة للحواس الخمس وهذه القوة هي المتصورة وتفعل في اليقظة وفي النوم. ثم قوة تركب ما اجتمع في الحس المشترك وتفرق بينهما وتوقعع الاختلاف فيها من غير أن تزول الصور عن الحس المشترك، وهذه هي المتخيلة وقد تصدق وقد تكذب. وأما المتصورة فصادقًا أبدًا. ثم القوة الوهمية وهي قوة حاكمة تقضي على شيء ينبغي أن يطلب وعلى شيء بأنه ينبغي أن يهرب عنه، وليس في المتصورة ولا في المتخيلة حكم وقضاء بل تصور فقط.

ثم القوة الحافظة مذكرة لمعاني ما أدركته الحواس مثل أن الذئب عدو والولد حبيب، فالمحبة والأضرار والتصديق والتكذيب للوهمية. وأما الحافظة المذكرة فتحفظ ما صدقت الوهمية. والقوة المتخيلة إذا استعملتها الوهمية سميت متخيلة. وإذا استعملتها الناطقة سميت مفكرة. والتصور في مقدم الدماغ والتخيل في وسطه. والتذكر في مؤخره. والتوهم في جميعه وأكثره في حيز التخيل. وكل هذه القوى مائتة فانية بفناء آلاتها. ولا بقاء إلا للناطقة على أنها قد تستخلص لنفسها لباب هذه القوى ضربًا من الاستخلاص فتوجدها بذاتها. هذا تلخيص أقوال القوم في ما دون النفس الناطقة. وقالوا في الناطقة أنها العقل الهيولني، أو العقل بالقوة شبيه بالهيولي التي هي قرينة عدم بالفعل، وهي كل شيء بالقوة وتحصل فيها الصور المعقولة إما بإلهام إلهي وإما باكتساب. والتي بالإلهام هي المعقولات الأولى التي اشترك فيها جميع الناس الذين على المجري الطبيعي. والتي بالاكتساب فهي القياس والاستنباط البرهاني كتصور الحقائق المنطقية مثل الأجناس والأنواع والفصول والخواص والألفاظ المفردة والمركبة بالضروب المختلفة من التراكيب والقياسات المؤلفة الحقيقية والكاذبة والقضايا المنتجة نتائج ضرورية برهانية أو جدلية أو خطابية أو سوفسطانية أو شعرية وكتحقيق الأمور الطبيعية كالهيولي والصورة والعدم والطبيعة والمكان والزمان والحركة والأجرام الفلكية والأجرام العنصرية والكون والفساد المطلقين، وكون المواليد الكائنة في الجو والكائنة في المعادن والكائنة على אדים الأرض من نبات وحيوان وحقيقة الإنسان وحقيقة تصور النفس لنفسها وتصور الأمور الرياضية من العددية والهندسية المحضة والهندسية النجومية والهندسية اللحنية والهندسية المناظرية وتصور الأمور الإلهية كمعرفة مبادئ الوجود المطلق من حيث هو وجود ولواحقه كالقوة والفعل والمبدأ والعلة والجوهر والعرض والجنس والنوع والمضاد والمجانسة والإتفاق والاختلاف والوحدة والكثرة وإثبات مبادئ العلوم النظرية من الرياضية والطبيعية من المنطقية التي لا يتوصل إليها إلا بهذا العلم كإثبات المبدع الأول والمبدع الأول والنفس الكلية وكيفة الإبداع ومرتبة العقل من المبدع ومرتبة النفس من العقل ومرتبة الطبيعة من النفس ومرتبة الهيولي والصورة من الطبيعة ومرتبة الأفلاك والنجوم والكائنات من الهيولي والصورة ولما ذا جبلت على هذا الاختلاف والتقدم والتأخر ومعرفة السياسة الإلهية والطبيعة الكلية والعناية الأولية وقد تستفيد هذه النفس الناطقة صورة من الحس بأن تعرض على ذاتها ما في المتصورة والحافظة باستخدام المتخيلة والوهمية فتجد تلك الصور يشترك بعضها مع بعض في صفات وتفترق في صفات آخر، ومن تلك الصفات صور ذاتية ومنها عرضية، فتفصلها وتركبها وتستنبط الأجناس والأنواع والفصول والخواص والأعراض ثم تركبها تركيبًا قياسيًا فتنتج منها فوائد النتائج بإعانة العقل الكلي المفيد لها وأن استعانت أولًا بالقوى الحسية فهي غير محتاجة إليها في تصور هذه المعاني في ذاتها وفي تركيب القياسات منها لا عند التصديق ولا عند التصور وكما أن القوى الحسية إنما تدرك بتشبه من المحسوس كذلك القوى العقلية إنما تدرك بتشبه من المعقول بتجريد الصورة عن المادة والإتصال بها، إلا أن القوة الحاسة لا تفعل بإرادة كما تفعل الناطقة، بل تحتاج إلى القوة المحركة ومعونة الوسائط الموصلة الصور إليها. وأما القوة العاقلة فتعقل بذاتها وتعقل ذاتها متى شاءت، ولذلك قيل القوة الحاسة منفعلة والعاقلة فاعلة. وليس العقل بالفعل غير صور المعقولات مجردة في ذات العقل بالقوة. ولذلك قيل إن العقل بالفعل عاقل ومعقول معًا. ومن خواص العقل أن يوحد الكثير ويكثر الواحد بالتركيب والتحليل، والعقل وإن ظهر فعله بزمان في تركيب القياسات بالرؤية والفكرة فإن تحصيله لنتيجة لا يتعلق بزمان، بل ذات العقل مرفع عن الزمان. والنفس الناطقة إذا أقبلت على العلوم سمي فعلها عقلًا نظيرًا. وإذا أقبلت على قهر القوى البهيمية سمي فعلها سياسة وسمي عقلًا عمليًا. وقد تسعد القوة النطقية في بعض الناس من الإتصال بالعقل الكلي بما ينزهها عن استعمال القياس والرؤية وتكفي المؤنة بالإلهام والوحي وتسمى خاصيتها هذه تقديسًا. فتسمى روحًا مقدسًا. ومن براهين جوهرية النفس وإنها ليست جسمًا ولا عرضًا إنها صورة الجسم لا تتقسم بذاتها كتقسم الجسم ولا بالعرض كتقسم العرض بتقسم حاملة فإن اللون والرائحة والطعم والحرارة والبرودة قد تتقسم بذاتها. والصورة العقلية إنما هي المعقول. والمعقول من الإنسان مثلًا لا يقبل القسمة إذ لا يتصور نصف إنسان ولا جزء من إنسان إنسانًا كما تتصور جزء من الجسم جسمًا وجزء من اللون لونًا، وكذلك اللون والجسم من حيث هما معقولان فلا يتصور فيهما قسمة. فلا نقول نصف لون معقول ونصف جسم معقول كما نقول نصف ذاك الجسم محسوس ونصف اللون المحمول عليه المشار إليه، ولا يقال نصف النفس الناطقة التي في زيد كما نقول نصف بدنه إذ لا تتميز ولا تتحيز بجهة من الجهات ولا يشار إليها. فإذًا لم تكن جسمًا ولا عرضًا قائمًا بالجسم حالَا فيه، وقد ظهر وجودها بما يصدر عنها من الأفعال. فلم يبق إلا أن تكون جوهرًا قائمًا بذاته متصفًا بصفات الملائكة والجواهر الإلهية وآلاتها الأول الصور الروحانية المتشكلة في وسط الدماغ من الروح النفساني بالقوة المتخيلة تصيرها فكرية إذا تحكمت فيها وركبتها تركيبات وفصلتها تفصيلات تؤدي إلى انتاج علم. وقد كانت قبل ذلك تخييلية إذ كانت تتحكم فيها القوة الوهمية كما يعرض في الأطفال وفي البهائم وفي ما انحرف مزاجه بمرض حتى تتعامى تلك الأشكال على النفس فلا تتآتي لاستيفها النظر في الرأي المقصود فيأتي الرأي ناقصًا وهميًا كله أو بعضه، ومن الدلائل على مفارقة النفس الجسد واستغناءها عنه أن القوى الجسمية تضعف بمدركاتها القوية كالعين عند الشمس والأذن عند الصوت القوى بفساد آلاتها. والنفس الناطقة ليست كذلك، بل تقوى كلما أدركت علمًا أقوى. ومن ذلك أن الهرم ينال البدن ولا ينال النفس، بل تقوي بعد الخمسين سنة والبدن في الإنحطاط.

ومن ذلك أن أعمال البدن متناهية وأفعال النفس غير متناهية إذ الصور الهندسية والعددية والحكمية غير متناهية. والدليل على وجود جوهر عقلي مفارق للأجسام يقوم للنفس مقام الضوء للبصر وأن النفس إذا فارقت الأجسام اتحدت به أن النفس لم تحصل علمومها بالتجربة لأن ما حصل بالتجربة ليس يحكم عليه قطعًا، لأنه ليس يقطع الإنسان حكمًا إن كل إنسان لا يحرك أذنيه كما يقطع أن كل إنسان حساس، وكل حساس حي، وكل حي جوهر، وإن الكل أكثر من الجزء، وغير ذلك من المعقولات الأول. لأن اعتقادنا صحة الآراء ليس يصح بتعلم وإلا فستسلسل إلى ما لا نهاية له فهو إذن من فيض إلهي يتصل بالنفس الناطقة وهذا الفيض ما لم يكن له هذه الصورة العلية الكلية لم يمكن أن ينقشها في النفس الناطقة وكل ما فيه صورة عقلية في ذاته فهو جوهر غير متجسم فإذا هذا الفيض جوهر عقلي لا متجسم قائم بذاته وتصور النفس للصورة كمال لها وإنما يحصل عند الإتصال بهذا الجوهر العقلي، لكن عاق عن ذلك الإتصال شغل البدن، فلا يصح الإتصال التام إلا برفض جميع قوى البدن، فإنه لا مانع لها عن الإتصال به غير البدن، فإذا فارقته بقيت مكملة متعلقة به، آمنة من الفساد، متصلة بهذا الجوهر الشريف المكنى بالعلم الأعلى وغير هذا من القوى فإنما فعله بالبدن فيذهب بفساد الآلة لكن النفس الناطقة قد تصورتها وأخذت لبابها كما تقدم.

<13> قال الخزري: أرى لهذا الكلام الفلسفي فضل تدقيق وتحقيق على سائر الكلام.

<14> قال الحبر: وهذا الذي كنت أخافه عليك من الانخداع وسكون النفس إلى آرائهم لما صح عنهم البرهان في العلوم الرياضية والمنطق طابت النفوس على كل ما قالوه في الطبيعة وفي ما بعد الطبيعة، وظن أن كل ما قالوه برهان، فهلا شككت في دعاواهم في الأربعة عناصر أولًا، وطلبتهم بعالم النار الذي يدعون أن هناك النار الأثيرية لا لون لها فيمنع لون السماء والكواكب، ومتى أدركنا نحن نار عنصرية بل كيفية حارة في الغاية إن حلت أرضًا كانت جمرًا وإن حلت هواء كانت لهيبًا وإن حلت ماء كانت مغلي. ومتى شاهدنا جسمًا ناريًا وهوائيًا داخلين في مادة النبات والحيوان حتى نقضي أنه مركب من الأربعة كلها نار وهواء وماء وأرض، هب أنّا أدركنا الماء والأرض واستخالتهما ودخولهما في مادة النبات وللهواء ولحرارة الشمس معونة في الكون بطريق الكيفية لا بجسم نار ولا بجسم هواء، أو متى رأيناها تنحل إلى الأربع بأعيانها أن أحنل جزء إلى شبيه التراب فليس ترابًا بل رماد يصلح لدوء ما. والجزء المنحل إلى شبيه بالماء فليس بماء لكن عصاره أو رطوبه سميه أو غذائية لا ماء شروب. والجزء المنهل إلى شبيه بالهواء كان بخارًا أو قتارًا لا هواء يصلح أن يتنفس به. وهذه أيضًا ربما استحالت إلى حيوان أو إلى نبات أو انعقجت في أجزاء الأرض، وصارت من استحالة إلى استحالة، وفي النادر يقع لها الاستحالات إلى عنصر خالص. نعم أن يعد التتبع يخرج لنا الإضطرار بالقول بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وأنها كيفيات أول إذ لا يخلو منها أو من وسائطها جسم من الأجسام وأن العقل يحل المركبات إليها ويركبها منها ويضع لها جواهر حاملة فيقول نارًا وهواء وماء وأرضًا بالتصور والقول لا بأنها كانت قط بسيطة خارج الذهن وتركب منها كل مكون، وكيف يقولون هذا وهم يقولون بالقدم، فلم يزل الإنسان متكونًا من منى ودم، والدم من الأغذية والأغذية من النبات، والنبات كما قلنا من بزور، والماء الذي يستحيل غذاء مشاكلًا له بمعونة من الشمس والهواء والأرض. نعم ولجميع الكواكب ونسب الأفلاك تأثير ومعاون فيه، فهذا الشك في العناصر على رأيهم.

وأما على رأي الشريعة فإن الله قد اخترع العالم كما هو وحيوانه ونباته مصورًا، فلم يحتاج إلى تقديم بسائط وتركيب مركبات. وفي إيجاب الحدت تسهيل كل صعب وتوطئة كل متعذر إذا تخيلت أن هذا العالم لم يكن، ثم كان بمشية الله حين شاء وكيف شاء لم تشق في البحث كيف تكونت الأجسام، وكيف ارتبط بها النفس، ولم تشمز نفسك من قبول الـרקיע وהמים אשר מעל השמים، والشياطين التي تذكرها الأحبار، والأخبار المنتظرة من ימות המשיח وתחית המתים وהעולם הבא. فما حاجتنا إلى هذا التحيل في بقاء النفس بعد فناء الجسد. والمخبر الصادق المقلد قد حقق عندنا المعاد ودعها تكون روحانية أو جسمانية. وإن تتبعت طريق المنطق لإثبات الآراء فيها ولإحالتها فنى العمر دون نتيجة، ومن لنا بصحة ما أوردنا بأن النفس جوهر عقلي لا يتحيز بمكان ولا يدركه كون ولا فساد، وبما ذا تتميز نفسي عن نفسك، أو عن العقل الفعال وسائر العلل، والعلة الأولى، ثم كيف لا تتحد نفس أرسطوطاليس ونفس أفلاطون ويدري كل واحد منهما صاحبه ومعتقده وضميره وجميع الفلاسفة، ثم كيف لا يعقلون معقولاتهم دفعة واحدة كما هي عند الله وعند العقل الفعال، وكيف يدركهم النسيان، ولم يحتاجون إلى فكر في معقولاتهم جزئًا بعد جزء. ثم كيف لا يجد الفيلسوف نفسه إذا نام وإذا سكر وإذا تبرسم وإذا أصابته ضربة في دماغه وإذا شاخ وهرم، وما الذي نقضي على من بلغ علم الفلاسفة وعرضه وسواس سوداني أو برسام نفسي ونسى جميع علمه، أليس ذاك هو هو بعيه أم نقول أنه غيره، ثم نفرض أنه برئ من علته بتدريج وجعل يتعلم من قبل وشاخ ولم يدرك العلم الأول. هل تصير له نفسان مفارقتان الواحدة دون الأخرى. ثم نفرض أن تبدل مزاجه إلى حب الغلبة والشهوات، أنقول أن له نفسًا في النعيم ونفسًا في العذاب؟ وأي الحدود من العلم هو الذي تصير به نفس الإنسان مفارقة للجسد غير تألفه. إن كان بجميع علم الموجودات، فكثير ما يبقى على الفيلسوف لا يدريه مما في السماء وفي الأرض وفي البحر. وإن كان يقنع بالبعض فكل نفس ناطقة مفارقة. لأن المعقولات الأولى مغروزة فيها. وإن كان إنما تفارق النفس بتصور المعقولات العشر وما فوقها من مبادئ الفكر وتنحصر فيها الموجودات كلها بأن يأخذها منطقية دون تقص لجزئياتها، فعلم قريب يدرك من يومه وبعيد أن يصير الإنسان ملكًا من يومه، وإن كان ولا بد من تقصيها والإحاطة بها منطقية وطبيعية فأمر غير مدرك فهو تألف هالك لا محالة على رأيهم.

ولقد انخدعت لخيالات فاسدة وطلبت ما لم يمكنك منه خالقك ولم يجعل في غريزة البشر إدراكه بقياس لكن جعل غلك في غريزة المصطفين من صفوة الخلق بالشرائط التي ذكرناها تحصل لهم تلك النفوس التي تتصور العالم بأسره وترى ربها وكلائكته وترى بعضها بعضًا ويعلم بعضها ضمائر بعضها كما قال גם אני ידעתי החשו، ونحن لا ندري كيف ذلك وبما ذا، إلا أن يأتينا من طريق النبوة. ولا كان علم الفلاسفة في ذلك حقًا لأدركوها، إذ يتكلمون في النفوس وفي النبوة وهم كسائر البشر. نعم أنهم فضلوا بالحكمة الإنسانية كما كان يقول سقراط لأهل أتينيا، يا قوم أني لست أنكر حكمتكم الإلهية، لكني أقول أني لست أحسنها، وأما أنا حكيم بحكمة إنسانية . وأنهم لمعاذير لما لجوا إلى قياساتهم لعدم النبوة والنور الإلهي عندهم، أتقنوا العلوم البرهانية إتقانًا لا غاية وراءه، وانفردوا لذلك ولا خلاف بين شخصين في تلك العلوم، ويكاد ألا اتفاق بين شخصين في ما تكلفوا بعد ذلك من الآراء في ما بعد الطبيعة. نعم وفي كثير من الطبيعة وإن وجدت جملة متفقين على رأي واحد، فليس ذلك لبحث ونتيجة وقف عليها رأيهم، بل أنهم شيعة أحد المتكلمين يقلدونه. كشيعة فيتاغورا وشيعة أبندقليس وشيعة أرسطوطاليس وشيعة أفلاطون وغيرهم، وأصحاب المظلة والمشائين وهم من شيعة أرسطوطاليس، ولهم في المبادئ آراء تسخف العقل ويسخفها العقل، كتعليلهم في دوران الفلك أنه يطلب كمالًا ينقصه ليكون محاذيًا لكل جهة، ولما لم يمكن ذلك دائمًا ولكل جزء طلبه على التعاقب. ومثل تخرصهم في الفيوض الفائضة عن الأول تعالى، وكيف لزم عن العلم والأول ملك، وعن العلم بنفس فلك، وتدرجت إلى י"א رتبة ووقفت الفيوض عند العقل الفعال، ولم يلزم عنه لا ملك ولا فلك. وأشياء هي في الإقناع دون ספר יצירה. وفي جميع ذلك الشكوك، ولا اتفاق بين فيلسوف وصاحبه، لكن يعذرون على كل حال ويشكرون على ما انتجوا من مجرد قياساتهم، وقصدوا الخير، وعملوا النواميس العقلية وزهدوا في الدنيا، فهم على كل حال مفضلون إذ لا يلزمهم قبول ما عندنا، ونحن يلزمنا قبول المشاهدة والتواتر الذي هو كالمشاهدة.

<15> قال الخزري: عسى نكت مختصرة من الآراء التي تخلصت عند الأصوليين وهم المسمون عند القرائيين بأصحاب علم الكلام.

<16> قال الحبر: لا فائد في ذلك غير التحذق في الكلام، والعون على ما قيل הוי זהיר ללמוד מה שתשיב את אפיקורוס. لأن العالم الساذج كالأنبياء مثلًا قليلًا ما يقدر أن يفيد أحدًا بطريق التعليم ولا يرد على مسألة بطريق الكلام، وصاحب الكلام يظهر عليه رونق علم حتى أنه يفضله السامع على ذلك الساذج الخير الذي علمه عقائد لا يصرفه عنها صارف. وغاية ذلك المتكلم في كل ما يتعلمه وما يعلمه أن يحصل في نفسه وفي نفس متعلميه العقائد التي في نفس ذلك الساذج المطبوع. وربما أفسد علم الكلام كثيرًا من عقائد الحق عليه بما يورده من الشكوك والآراء المنتقلة، كالذين نراهم من الذين يقريون الأعاريض ويدققون وزنها، ونسمع جعجعة وكلمات حائلة في علم هين على المطبوع يذوق وزن الشعر ولا يجوز عليه زحف بوجه. وغاية أولئك أن يصيروا مثل هذا الذي يظهر جاهلًا بالعروض لأنه لا يقدر أن يعلمه، وأولئك يقدرون على تعليمه. نعم وإن هذا المطبوع يعلم مطبوعًا آخر بأقل إشارة وكذلك القوم المطبوعون للتشرع والتقرب إلى الله تعالى نتقدح في نفوسهم شرارات من كلمات الأخيار وتصير لهم أنوار في قلوبهم. وغير المطبوع هو الذي يحتاج إلى علم الكلام، وربما لم ينفعه، بل ربما أضر به.

<17> قال الخزري: لم أطالبك بما يجال في هذا المعنى وإنما أطلب نكتة أصولية في الدين تذكره لي، إذ قد قرعت سمعي وتشوقت نفسي إليها.

<18> قال الحبر: فأول ما ينبغي إثبات الحدث للعالم، القول في إبطال قدم العالم، إن كان الماضي لا أول له فالأشخاص الموجودة في سالف الدهر إلى وقتنا هذا لا نهاية لها. وما لا نهاية له لا يخرج إلى فعل، فكيف خرجت تلك الأشخاص إلى الفعل وهي لا نهاية لها كثرة، لا محالة أن للماضي أولًا وللأشخاص الموجودة عددًا يتناهي، لأن في قوة العقل أن يعد ألافًا وألاف ألاف مضاعفة إلى ما لا نهاية له، هذا في القوة، وأما أن يخرجها إلى حد الفعل فلا. لأن ما يخج إلى الفعل يعد واحدًا، فذلك العدد الخارج إلى الفعل ذو نهاية لا محالة، وأما ما لا نهاية له فكيف يخرج إلى الفعل، فللعالم إذًا ابتداء، ولدورات الفلك عدد متناه، ومن ذلك أن ما لا نهاية له لا نصف له ولا ضعف ولا نسبة عددية، ونحن ندري أن دورات الشمس جزء من اثنى عشر من دورات القمر. وكذلك سائر حركات الأفلاك بعضها عند بعض فيصير هذا بعض هذا، وليس في ما لا نهاية له بعض، فكيف يصير هذا مثل ذاك لا نهاية له وهو دونه أو فوقه، أعني أنه أزيد عددًا أو أنقص عددًا. ومن ذلك كيف انتهى ما لا نهاية له إلينا، إن كان قبلنا من الخلق ما لا نهاية لعددهم، فكيف انتهى العدد إلينا، وما تناهى إلى شيء فلا بد له من ابتداء، وإلا فكل واحد من الأشخاص يحتاج في وجوده انتظار وجود أشخاص قبله لا نهاية لها فلا يوجد أحد.

فصل: العالم حادث لأنه جسم. والجسم لا يخلو عن الحركة والسكون، وهما عرضان حادثان عليه متعاقبان، فالطارئ عليه حادث لا محالة لطريانه، والسابق حادث لأنه لو كان قديمًا لما انعدم، فكلاهما حادثان. وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث إذ لم يسبق الحوادث. والحوادث حادثة فهو حادث.

فصل: لا بد للحادث من سبب يحدثه، لأن لا بد للحادث من وقت يختص به يمكن أن يفرض له قبل وبعد، فاختصاصه بوقته دون ما قبله وبعده يضطر إلى المختص.

فصل: الله أزلي قديم لم يزل. لأنه إن كان محدثًا افتقر إلى محدث يتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية ولا يتحصل، أو ينتهي إلى محدث قديم هو الأول، وهو مطلوبنا.

فصل: الله أبدي لا يزال. لأن ما ثبت له القدم انتفى عنه العدم. لأن حدوث العدم محتاج إلى سبب كما أن حدوث الحدث محتاج إلى سبب، فإنه لا ينعدم الشيء من قبل نفسه لكن من قبل ضده، ولا ضد له ولا مثل. لأن ما هو مثله في جميع الوجوه فهو هو لا يوصف باثنين. وأما الضد المعدم فلا يمكن أيضًا أن يكون قديمًا، لأن هذا قد تبين قدم وجوده ولا يمكن أن يكون حديثًا، لأن كل حادث إنما هو معلول لهذا القديم فكيف يعدم المعلول علته.

فصل: الله ليس بجسم. لأن الجسم لا يخلو عن حوادث. وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. ومن المحال تسميته عرضًا، لأن العرض قيامه بالجسم الحامل. فالعرض معلول للجسم تابع له محمول عليه، والله تعالى لا يتحيز ولا يختص بجهة دون أخرى، لأن هذا من شروط الجسم.

فصل: الله تعالى عالم بما غل وما دق، ولا يعزب عن علمه شيء، إذ تبين أنه خلق الكل ورتبة ونظمة كما قال הנוטע אוזן הלא ישמע אם יוצר עין הלא יביט. وقال גם חשך לא יחשיך ממך וגו'، כי אתה קנית כליותי וגו'.

فصل الله تعالى حي إذ قد ثبت به العلم والقدرة. فقد ثبت له الحياة. لكن ليس كحياتنا المحددة بالحس والحركة. لكن حياة معناها العقل المحض وهي هو وهو هي.

فصل: الله تعالى مريد. لأن كل ما صدر عنه في الإمكان أن يصدر ضده أو عدمه، أو قبل الوقت الذي صدر أو بعده. وقدرته على الحالين سواء، فلا بد من إرادة ترد القدرة إلى أحدهما دون الآخر. ولقائل أن يقول أن علمه يغني عن قدرة وإرادة، إذ علمه مخصوص لأحد وقتين وأحد الضدين، وعلمه القديم هو السبب في كل حادث على ما هو، وهذا يطابق الفلسفة.

فصل: إرادته تعالى قديمة مطابقة لعلمه. فلا يطرأ عليه شيء ولا يتغير عنده. وهو تعالى حي بحياة ذاتية لا مكتسبة. وكذلك قادر بقدرة ومريد بإرادة، لأن من المحال وجود الشيء ونقيضه معًا. فلا يقال قادر بلا قدرة قولًا مطلقًا.

<19> قال الخزري: هذا كافٍ للتذكرة، ولا محالة أن هذا الذي ذكرته في أمر النفس والعقل وهذه العقائد إنما هو منقول من حفظك لما قاله غيرك. وأنا لا أطلب إلا ذوقك وعقيدتك. وقد قلت لي أنك معرض للبحث في هذا وأمثاله، وأظن أن لا محيد لك عن البحث في مسألة القدر والاختيار إذ هي مسألة عملية، فلتقل لي فيها رأيك.

<20> قال الحبر: ليس ينكر طبيعة الممكن إلا متعسف ممار يقول ما لا يعتقد، لأنك ترى من استعداده لما يرجوه ويخافه ما يدلك على أنه يعتقد أن الأمر ممكن، وينفع فيه الاستعداد. ولو اعتقده ضروريًا لاستسلم ولم يستعد بسلاح لعدوه ولا بقوت لجوع مثلًا، فإن زعم أن ذلك الاستعداد ضروري أيضًا لمن يستعد، وترك الاستعداد ضروري لمن لا يستعد، فقد أقر بالأسباب المتوسطة وإن بها قوام المتأخرة وسيصادف الإرادة في جملة الأسباب المتوسطة، وأن أنصف ولا يتعسف فسيقر بأنه يجد نفسه مخلي بينه وبين إرادته في الأمور الممكنة له، إن شاء فعلها وإن شاء تركها، وليس في هذا الاعتقاد اخراج شيء عن حكم الله تعالى، بل الكل راجع إليه على وجوه مختلفة على ما أبين.

أقول: أن جميع المعلولات منسوبة إلى العلة الأولى على ضربين، إما على القصد الأول، وإما على طريق التسلسل، مثال الضرب الأول النظام والترتيب الظاهر في الحيوان والنبات وفي الأفلاك الذي لا يمكن العاقل المتأمل أن ينسبه إلى اتفاق، بل إلى قصد صانع حكيم يضع كل شيء موضعه ويعطيه حظه. ومثال الثاني إحراق هذه النار مثلًا لهذه الخشبة، لأن النار جسم لطيف حار فعال، والخشبة جسم متخلخل منفعل، ومن شأن اللطيف الفعال أن يفعل في منفعله، والحار اليابس أن يسخن ويفني رطوبات المنفعل حتى تتفرق أجزاؤه، وأسباب هذه الأفعال وهذه الانفعالات إذا طلبتها لم يعزب عليك إدراكها، وربما وجدت أسباب أسبابها حتى تنتهي إلى الأفلاك، ثم إلى علل الأفلاك، ثم إلى العلة الأولى. فبحق قال القائل إن الكل من قدر الله تعالى. وبحق قال آخر بالاختيار والاتفاق من غير أن يخرج شيئًا من ذلك عن قدر الله. وإن شئت قربت تصور ذلك بهذه القسمة التأثيرات إما الإلهية وإما طبيعية وإما اتفاقية وإما اختيارية. فالإلهية أن السبب الأول نافذة ولا بد لا سبب لها غير مشيئة الله تعالى. وأما الطبيعية فعن أسباب متوسطة مهيئة لها ومبلغتها آخر كمالها مهما لم يعق عائق من قبل أحد الثلثة أقسام. وأما الاتفاقية فعن أسباب متوسطة أيضًا، لكنها بالعرض لا بالطبع ولا بنظام ولا عن قصد ولا لها تهيؤ لكمال ما تبلغه وتقف عنده، ويستثني فيها بسائر الأقسام الثلثة. وأما الاختيارية فسببها إرادة الإنسان في حال اختياره. والاختيار من جملة الأسباب المتوسطة وللاختيار أسباب تتسلسل إلى السبب الأول تسلسلًا غير ضروري لكون الإمكان موجودًا. والنفس مخلاة بين الرأي ونقيضه تأتي أيهما شاءت، فوجب أن تحمد أو أن تذم على ذلك الاختيار ما لا يجب ذلك في سائر الأسباب المتوسطة فإنه لا يلام سبب اتفاقي ولا طبيعي وعلى أن الإمكان حاضر في بعضها، كما لا تلوم الطفل والنائم إذا أذاك وكان في الإمكان خلاف ذلك، إلا أنك لا تلومه لارتفاع الفكر عنه.

أترى الذين ينكرون الممكن ليس يغضبون على من يؤذيهم قصدًا، وهل يستسلمون إلى من يسرق ثيابهم فيؤذيهم بالبرد كما يستسلمون إلى الريح الشمالية إذا هبت في يوم قر حتى تؤذيهم، أم يزعمون أن ذلك الغضب قوة كاذبة غرزت عبثًا ليغضب الإنسان على شيء دون شيء آخر. وكذلك أن يحمد ويستحسن ويحب ويبغض وغير ذلك فليس للاختيار من حيث هو اختيار سبب ضروري، لأنه يرجع ذلك الاختيار اضطرارًا فيصير كلام الإنسان ضروريًا مثل نبضه وفي هذا إنكار العيان مهما كنت في ملك العقل ولم تملكك أعراض آخر، ولو كانت الحوادث مقصودة قصدًا أوليًا عن العلة الأولى لكانت مخلوقة لحينها مع اللحظات، ولجاز أن نقول في العالم بأسره في كل حين أنه الآن خلقه الخالق ولم يكن للطائع فضل على العاصي إذ كلاهما طائعان فاعلان ما أنهضا إليه وحملا عليه إلى شناعات عظيمة تلحق هذا الاعتقاد، وأشدها إنكار العيان كما قلنا. وأما الشناعة اللاحقة بمن يقول بالاختيار لإخراجه بعض الأمور عن قدر الله تعالى فيحتج عليها بما تقدم أنه ليس يخرجها عن قدر الله بالجملة بل يردها إليه بطريق التسلسل، وتلحقه بعد ذلك شناعة أخرى وهي إخراجه تلك الأمور عن علمه، لأن الممكن المحض مجهول بطبعه، وقد خاض في ذلك المتكلمون، فخرج لهم أن العلم به بالعرض وليس العلم بالشيء سببًا لكون ذلك الشيء، فلا ينكر علم الله للكائنات وهي مع ذلك ممكنة أن تكون ولا تكون، إذ ليس العلم بما سيكون هو السبب في كونه، كما أن العلم بما كان ليس سببًا لكونه بل دليل عليه، كان العلم لله، أو للملائكة أو للأنبياء أو للكهنة. ولو كان العلم سببًا للكون لوجب حصول قوم في גן עדן لعلم الله أنهم صالحون من غير أن يطيعوا. وآخرون في جهنم لعلمه أنهم عاصون من غير أن يذنبوا، ولوجب أن يشبع الإنسان من غير أن يأكل لعلم الله أنه سيشبع في وقت كذا، فتسقط الأسباب المتوسطة، ولو سقطت لإرتفع وجود المخلوقات المتوسطة، فقد ساج/ساغ قول והאלהים נסה את אברהם لإخراج طاعته من القوة إلى الفعل ليكون سببًا لسعادته، يقول יען אשר עשית את הדבר הזה וגו' כי ברך אברכנו וגו'. ولما كانت الحوادث مضطرة هل هي إلهية أم غيرها من الأقسام، وكان في الإمكان أن تكون كلها إلهية آثر الجمهور نسبها إلى الله، لأن ذلك أوثق وأقوى في الإيمان. لكن لمميز أن يميز قومًا من قوم، وشخصًا من شخص، وزمانًا من زمان، ومكانًا من مكان، وقرائن من قرائن آخر. فيرى أن الحوادث الإلهية إنما ظهرت على الأكثر في أرض مخصوصة وهي المقدسة، وفي قوم مخصوصين وهم بنو إسرائيل، وفي ذلك الزمان، ومع القرائن التي اقترنت بها من فرائض وسنن، ظهر بانتظامها المرغوب، وظهر بانخرامها المكروه. ولا تغنى الأمور الطبيعية والإتفاقية بمغنى في وقت الانخرام، ولا تضر في وقت الانتظام، ولذلك صار بنو إسرائيل حجة في كل ملة على الزنادقة الذين يرون رأي أفيقوروس اليوناني في زعمه أن جميع الأمور إنما تقع بالإتفاق، إذ لا يظهر فيها قصد قاصد، وشيعته يسمون أصحاب اللذة، إذ يرون أن اللذة هي الغاية المطلوبة، وأنها الخير بإطلاق. ومطلوب المتشرع من الشارع أن يكون مرضيًا عنده يفوض اختياراته إليه تعالى، طالبًا إلهامات إن كان وليًا، أو معجزات وكرامات إن كان نبيًا أو جماعة مرضية، مع القرائن المذكورة في الـתורה من الأزمنة والأمكنة والأفعال، فلا يبالي بالأسباب الطبيعية والإتفاقية كل المبالاة، ويعلم أن شرها مدفوع عنه، إما لإلهام يسبق له في التوطئة لذلك الشر، وإما بكرامة تصنع له في حين ذلك الشر، وإما خير الأسباب الإتفاقية فليس يمتنع على الفاسق فضلًا عن الخير، وسعادات الأشرار إنما هي بتلك الأسباب الإتفاقية والطبيعية ثم لا دافع لنحسها إذا حل. وأما الأخيار فيسعدون بتلك الأسباب، ثم يأمنون من نحسها.

وقد كدت أن أخرج عن غرضي، فلأرجع إليه.

وأقول أن דוד ע"ה قد أتي بثلاثة أقسام في أسباب الموت، بقوله כי אם ה' יגפנו، وهو السبب الإلهي. או יומו יבא ומת وهو السبب الطبيعي. או במלחמה ירד ונספה وهو السبب الإتفاقي بالعرض. وترك القسم الرابع أعني الإختياري، لأنه لا يختار ذو عقل الموت، وإن كان שאול قد قتل نفسه فليس لإختياره الموت، لكن لمنافرته عذاب العدو له وعبثه به. ومثال هذه الأقسام في النطق لأن نطق الأنبياء في حين ملابسة רוח הקדש لهم في جميع كلامهم مقصود من الأمر الإلهي وليس إلى النبي تغيير كلمة من كلماته. والنطق الطبيعي هي الإشارات والإماءات المشاكلة للمعاني التي يراد التبعير عنها، وتبعث عليها النفس دون اصطلاح متقدم. وأما اللغات المصطلح عليها، فمركبة من الأمر الطبيعي والإختياري. وأما النطق الإتفاقي فهو نطق المجانين حين جنوهم لا ينتظم منه معنى ولا ينتهي إلى غرض مقصود. والنطق والإختياري هو كلام النبي في غير وقت النبوة، أو كلام العاقل المفكر يؤلف خطبه، يختار كلامه بحسب ما يراه لائق مقصوده، ولو شاء لبدل كل كلمة منها بغيرها، بل لو شاء لترك معنى وأخذ عيره. وقد تنسب جميع هذه الأقسام إلى الله تعالى بطريق التسلسل، لا بأنها عن قصد أول منه، وإلا فكلام الطفل وكلام الموسوسين وخطبة الخطيب وشعر الشاعر كلام الله – تعالى عن ذلك. وأما احتجاج العاجز على الحازم بقوله أنه قد سبق في علم الله ما سيكون، فليس بحجة،لأنه بمنزلة قوله لو قال أن الذي سيكون لا بد له أن يكون، يقال له نعم، ولكن ليس تمنع هذه الحجة من الأخذ بالرأي الأفضل فتستعد بالسلاح لعدوك، والقوت لجوعك، إذا صح عندك أن سلامتك أو هلاكك إنما يتم بالأسباب المتوسطة، ومن جملتها بل أكثرها أخذك بالحزم والعزم أو بالعجز والتواني، ولا تحتج بما يجري على الأقل وفي النادر وبطريق الاتفاق والعرض من هلاك الحازم وسلامة المنهمل والغافل، لأن اسم الأمن معنى محصل غير معنى اسم الغرر، وليس يفر العاقل إلى موضع غرر من موضع أمن، كما يفر من موضع غرر إلى موضع أمن. وما جرى في موضع الغرر من سلامة يقال أنه نادر. وما يجري في موضع الأمن من هلاك يقال أنه أمر خراج عن الطبع. فالأخذ بالحزم واجب، ومن أسباب الحزم رأيي هذا لمن اعتقده، ومن أسباب الانهمال الرأي المناقض لهذا الرأي.

والكل راجع بالتسلسل إلى الله تعالى. وأما الذي يكون بقضاء مجرد وذلك في الكرامات والمعجزات فهو يغني عن الأسباب المتوسطة وربما ألجأ إليها، كعصمة משה ע"ה من الجوع طول أربعين يومًا دون الاستعداد بقوت. وهلاك قوم סנחריב دون سبب باد بل بأسباب إلهية ليست عندنا أسبابًا لجهلنا بها. وفي تلك يقال أنه إن كان القضاء حقًا فالجهد محال لأنه لا ينفع فيها الاستعداد، وذلك في الاستعدادات المحسوسة، وأما الاستعدادات النفسانية وهي أسرار الشريعة لمن علمها وأحكمها، فهي نافعة غالبة للخير ودافعة للشر. فإذا أخذ الإنسان بالحزم في الأسباب المتوسطة بعد التفويض فيما خفى عنه إلى الله بالنية الخالصة أصاب ولم يخب. وأما التغرير الصحيح اتكالًا عند أمره بالطاعة لمن سبق في علمه أنه سيعصيه أو سيطيعه، فليس بعبث لأنا قد قدمنا وبينا أن العصيان أو الطاعة إنما يتم بالأسباب المتوسطة، فكان سبب طاعة الطائع الأمر بالطاعة. وهكذا سبق في علمه عصيان العاصي بالأسباب المتوسطة إما بصحبة أشرار أو بغلبة مزاج سوء أو ميل إلى دعة وراحة، وكان في وعظه تخفيف في عصيانه، فإن من المشهور أن للوعظ تأثيرًا في النفس على كل حال، وأن العاصي تنفعل نفسه بسماع الوعظ وأن أقل انفعال، لا سيما إذا كان الوعظ لجمهور، فإن فيهم على كل حال قابلًا، فقد نفع فليس بعبث.

أول المقدمات التي بها قوام هذا الرأي: الإقرار بالسبب الأول، وأنه صانع حكيم، ليس في أفعاله عبث، بل جميعها بحكمة ونظام لا يشوبها اختلال، وقد تقرر هذا في النفوس من استقراء جل الخلقة وما تأصل منها في نفس المتأمل حتى حصل له الإيمان بأن لا خلل في أفعاله، وإن ظهر إليه في الأقل خلل لم يختل إيمانه بذلك، بل نسبه إلى جهل نفسه وقلة تحصيله.

والمقدمة الثانية: الإقرار بأسباب متوسطة، لكن ليست فاعلة بل أسباب على طريق المادة أو على طريق الآلات، فإن المنى والدم مادة للإنسان، وأعضاء التناسل تؤلف بينهما، والأرواح والقوى آلات تتصرف بإرادة الله، فيتم شكله وتخطيطه ونموه واغتذاؤه، حتى في الشيء المخترع قد يحتاج فيه إلى السبب المتوسط، كالتراب الذي كان مادة آدم، فلا غنى عن الإقرار بالأسباب المتوسطة.

المقدمة الثالثة: أن الله يعطي كل مادة أحسن ما يمكنها قبوله من الصور وأحكمها، وأنه تعالى جواد لا يمنع لطفه وحكمته وتدبيره عن شيء، وأن حكمته في البرغوث والباعوض مثلًا ليست مقصرة عن حكمته في نظام الأفلاك، لكن اختلاف الأشياء من قبل موادها، فليس لك أن تقول لِمَ لم يخلقنا ملكًا، كما ليس للدودة أن تقول لِمَ لم يخلقنا إنسانًا.

المقدمة الرابعة: الإقرار بأن للوجود رتبًا عالية ودونًا. وأن ما له إدراك وشعور وحس أعلى مما ليس له ذلك لقربه من رتبة السبب الأول الذي هو عقل بذاته. وأن أخس النبات أعلى رتبة من أشرف معدن. وأخس بهيمة أعلى رتبة من أشرف النبات. وأخس إنسان أعلى رتبة من أشرف بهيمة. وكذلك أخس متشرع بشريعة الله تعالى أعلى رتبة من أشرف جاهلي. لأن الشريعة التي هي من عند الله تكسب النفوس سير الملائكة وهيأتهم. وذلك ما لا يدرك بالاكتساب. والدليل على ذلك أن المداومة على أعمال تلك الشريعة تنهض إلى درجة الوحي التي هي أقرب الرتب الإنسانية إلى الإلهية. فالمتشرع العاصي خير من جاهلي، لأنه قد اكسبته شريعة الله سيره ملكوتية أشرف بها على رتبة الملائكة. وإن كان عصيانه قد شوشها عليه وأفسدها، فإنه قد بقي له منها آثار، وبقي في نار التشوق إليها، لكنه مع ذلك لو خير لم يكثر أن يصير في رتبة الجاهلية. كما أن الإنسان إذا مرض وتعذب بآلامه لو خير أن يصير فرسًا أو حوتًا أو طائرًا متنعمًا بغير ألم، ويفرق بينه وبين العقل الذي يقربه من رتبة الإله لما اختار ذلك.

والمقدمة الخامسة: أن نفوس السامعين تتأثر لعظة الواعظ إذا وعظ بأمور مقبولة، فللوعظ بالحق منفعة على كل حال، وإن لم يرد العاصي من فعل الشر، ينقدح في نفسه من ذلك الوعظ شرارة يرى أن ذلك الفعل شر. وهذا جزء من التوبة ومبدأ لها.

المقدمة السادسة: أن الإنسان يجد نفسه قدرة على فعل الشر وتركه في الأمور الممكنة له، وما تعذر عليه إنما تعذر عليه لعدم الأسباب المتوسطة، أو لجهل الإنسان بها. مثال ذلك فقير غريب عديم السياسة يروم الترؤس على طائفة، فيعتذر عليه، ولو حضرت الأسباب ويكون هو عالم بتناولها، لتم مرغوبه كما يتم مرغوبه فيما أسبابه حاضرة ويدريها ويديرها، مما يرأس في منزله على بنيه وخدمه، وأكثر من ذلك أعضاءه يحركها كيف شاء ويتكلم بما شاء. وأكثر من ذلك فكره وتخيله يتخيل البعيد والقريب متى شاء وكيف شاء لأنه يملك أسبابه المتوسطة، ولذلك لا يتفق أن يغلب الضعيف القوي في الشطرنج، فليس يقال في حرب الشطرنج سعادة وحرمان كما يقال في حرب رئيسين متحاربين، لأن أسباب حرب الشطرنج حاضرة بأسرها فيغلب العالم بتناولها أبدًا، وليس يخاف سببًا طبيعيًا يستثني به، ولا سببًا اتفاقيًا، إلا نادرًا من قبل غفلة، والغفلة داخلة في الجهل كما قلنا. ومع هذا فإن للسبب الأول ينسب جميع بالطريق المذكورة، وأما على القصد الأول ففي حوادث بني إسرائيل طول بقاء الـשכינה بينهم. وأما بعد ذلك فالأمر مشكوك إلا في قلوب المؤمنين هل هذه الحوادث قصد أول من الله تعالى أم هي من أسباب فلكية أو اتفاقية ولا حجة قاطعة. لكن الأولى أن ينسب الجميع إليه تعالى لا سيما مع عظم، كالموت والهزائم والسعادة والحرمان وما أشبه هذا.

خاتمة الكتاب

<21> قال الحبر: هذا وأمثاله مما يحسن البحث عنه وعن كيفية أحكام الله في عباده، وتعليقها بما علقها النبي من פוקד עון אבות על בנים לשונאי ועושה חסד לאלפים לאוהביו ולשומרי מצותיו. وتنظير ذنب ذنب إلى عقوبه مما جاء في الـמקרא وفي آثار الـחכמים، وما يرد من ذلك بالـתשובה وما لا يرد. وشروط الـתשובה ما يأتي من الامتحان على سبيل المحنة والتجربة، وعلى سبيل الاقتصاص من ذنب متقدم. وعلى سبيل التعويض في الدنيا، وعلى سبيل التعويض في الآخرة، أو لذنوب الآباء وما يأتي من نعمة لحسنة متقدمة. أو من أجل זכות אבות، أو لامتحان ولتجربة. وامتزاج هذه الوجوه وغيرها مما يغمض وضوحه ويوشك أن ينكشف عند البحث. وأكثر الأسباب في צדיק ורע לו רשע וטוב לו. وما لم ينكشف يسلم فيه إلى علم الله تعالى وعدله. ويقر الإنسان وجهله في هذه الأسباب الجلية فضلًا عن الخفية. وإذا وصل بمناظرته إلى الذات الأولى وما يجب لها من الصفات تبرأ عنها ورأى أن دونها حجاب نور يبهر الأبصار فيعتذر علينا إدراكها لقصور أبصارنا وبصائرنا، لا لخفائه ولا لنقصانه، فإنه أبهر وأشهر وأظهر عند ذوي الأبصار النبوية من أن يحتاج فيها إلى استدلال وغايتنا من ميز حقيقته أن نميز في الطبيعيات ما لم يكن فيه سبب شيء من الطبائع فننسبه إلى قوة غير جسمانية بل إلهية كما يقول جالينوس في القوة المصورة ويفضلها على سائر القوى ويرى أنها ليست من قبل المزاج بل لأمر إلهي. وفي المعجزات أن نرى قلب الأعيان وخرق العادات واختراع موجودات لم تكن دون حيلة متقدمة. وذلك الفرق بين ما عمل على يد משה ע"ה وبين عمل الـחרטומים בלטיהם التي لو فتش عليهم لوجدت الحيلة كما قال ירמיהו: הבל המה מעשה תעתועים בעת פקדתם יאבדו، يعني أن تفقدتها وفتشت عليها تلاشت كالشيء المدلس. والأمر الإلهي كل ما فتشت عليه وجدته كالذهب الإبريز. فإذا وصلنا هذه الرتبة قلنا أن هناك لا محالة أمرًا ليس بجسماني يدبر جميع الجسمانيات تعجز أذهاننا عن البحث عنه، فلنعتبر في أفعاله ونتوقف عن وصف ذاته، فإنه لو أدركنا حقيقته لكان ذلك نقصًا فيه. فلا نبالي بقول الفلاسفة الذين يقسمون العالم الإلهي إلى رتب. فكلها عندنا رتبة إلهية منذ ننفصل من التجسيم فليس إلا إله مدبر للأجسام. والذي دعا الفلاسفة إلى تكثير الإلهات اعتبارهم حركات الأفلاك حصلوها ووصلوها لأكثر من أربعين ورأوا أن لكل حركة منها سببًا غير سبب الأخرى وأخرج لهم النظر أن تلك الحركات إرادية لا قسرية ولا طبيعية. فوجب أن تكون كل حركة عن نفس ولكل نفس عقل. وذلك العقل هو ملك مفارق للمادة. فسموا تلك العقول الله وملائكة وعللًا ثواني وغير ذلك من الأسماء، وآخر رتبها وأقربها إلينا العقل الفعال. زعموا أنه مدبر هذا العالم والأدنى، ثم العقل الهيولاني، ثم النفس، ثم الطبيعة، ثم القوى الطبيعية والحيوانية. وقوة عضو عضو. وهذا كله تدقيق يفيد التحذيق لا التحقيق، والمنخدع له على كل حال زنديق، فدع استشهاد القرائين بوصية דוד ע"ה لولده ועתה שלמה בני דע את אלהי אביך ועבדהו. واستدلالهم من ذلك على أنه يحتاج إلى معرفة الله حق المعرفة وحينئذ تجب عبادته. بل إنما حث على تقليد والده وأجداده في اعتقاد אלהי אברהם وאלהי יצחק وאלהי יעקב الذي صحبتهم عنايته وأنجز لهم مواعده في كثرة النسل ووراثة الشام وحلول السكينة وغير ذلك، ومثل قوله אלהים אשר לא ידעום، وאשר לא ידעתם، لم يرد بذلك المعرفة بحقيقتها، بل التي لم تروا منها لا خيرًا ولا شرًا، فلا ترجونها ولا تخافونها.

<22> ثم إنه كان من أمر هذا الحبر أنه عزم على الخروج من بلاد الخزر قاصدًا ירושלם ת"ו فعز على الخزري فخاطبه على ذلك قائلًا ما الذي يطلب اليوم في الشام والسكينة معدومة منها، والتقرب إلى الله مدرك في كل مكان بالنية الخالصة والتشوق الشديد، ولما تتكلف الغرر في البر والبحر والأمم المختلفة.

<23> فقال الحبر: أما السكينة الظاهرة عيانًا فهي التي عدمت، إذ لا تتجلى إلا لنبي أو لجمهور مرضي في موضع الخاص وهو المنتظر من قوله כי עין בעין יראו בשוב ה' ציון، وقولنا في صلاتنا ותחזינה עינינו בשובך לנוך לציון. وأما السكينة الخفية الروحانية فهي مع إسرائيلي صريح، زكي الأعمال، طاهر القلب، خالص النية لرب إسرائيل، وأرض الشام خاصة برب إسرائيل والأعمال لا تتم إلا بها. وكثير من شرائع الإسرائيلية تسقط عن من لا يسكن الشام. والنية لا تخلص والقلب لا يطهر إلا في المواضع التي يعتقدها خاصة لله. ولو كان ذلك تخييلًا وتمثيلًا فكيف وذلك حقيقة كما تقدم بيانه، فيهيج الشوق نحوها وتخلص النية فيها، لا سيما لمن قصدها من بعد، لا سيما لمن سلفت له ذنوب ويروم الاستغفار، ولا سبيل إلى الـקרבנות التي كانت مشروعة من الله لذنب ذنب من זדון وשגגה، فيأنس إلى قول الـחכמים גלות מכפרת עון. لا سيما إن كان الاغتراب إلى موضع رضاء. وأما التغرير في بر وفي بحر فليس بتغرير داخل في לא תנסו את ה'، بل تغرير كما يغرر مثله لو كانت له سلعه يرجو أن يربح فيها ولو غرر أكثر من هذا بجنب شوقه ورجاء الغفران لكان معذورًا في تعرضه للمهالك، بعد أن حاسب نفسه وشكر على ما مضى من عمره وقنع به، وحبس بقية أيامه على رضا ربه. حمد وشكر، وإن أهلكه بذنوبه رضي وصبر، وتحقق أنه استغفر بموتته أكثر ذنوبه. ورأيي أرجح رأيًا من الذين يغررون بأنفسهم في الحروب ليذكروا بالشجاعة والسبق أو ليأخذوا أجرة كبيرة، وإنه أخف تغريرًا من الذين يصادرون الحرب للأجر في الجهاد.

<24> قال الخزري: قد كنت أراك تحب الحرية، وأراك الآن تستزيد عبودية من لوازم تلزمك إذا سكنت الشام من شرائع ليست لازمة لك ههنا.

<25> قال الحبر: إنما أطلب الحرية من عبودية الكثيرين الذين أطلب رضاءهم ولا أدركه، ولو جهدت مدى عمري فيه، ولو ادركته لم ينفعني، أعني عبودية الناس وطلب رضاءهم.

وأطلب عبودية واحد يدرك رضاءه بأيسر مؤنة، وهو نافع في الدنيا والآخرة، وذلك رضاء الله تعالى، فعبوديته هي الحرية، والتذلل له هو العز الحقيقي.

<26> قال الخزري: إذا اعتقدت كل ما ذكرته فقد علم الله تعالى نيتك، والنية خالية مع الله عالم النيات وكاشف الخفيات.

<27> قال الحبر: هذا حق إذا تعذر العمل. وأما الإنسان مخلي بينه وبين أمله وعمله. فالإنسان ملوم إذ لا يجلب الأجر الظاهر إلى العمل الظاهر. ولذلك قيل והרעותם בחצוצרות ונזכרתם לפני ה' אלהיכם והיו לכם לזכרון، وזכרון תרועה، ليس أن الله محتاج إلى التذكير والتنبيه، لكن لأن الأعمال محتاجة إلى كمال وحينئذ تستحق المجازئة كما تحتاج معاني الصلاة إلى النطق بها على أكمل ما يكون من التحنن والضراعة متى وفيت النية والعمل على ما يجب كانت المجازئة عليها، فيصير ذلك على معهود الناس كأنه تذكير وדברה תורה כלשון בני אדם. وإن كان العمل دون النية أو النية دون العمل خاب السعي، اللهم إلا فيما لم يمكن. فاحضار النية والاعتذار عن العمل نافع بعض منفعة، مثل اعتذارنا في صلاتنا ומפני חטאינו גלינו מארצנו، وما أشبه ذلك. وفي تنبيه الناس وتحريكهم إلى محبة ذلك الموضع المقدس أجر وتأكيد للأمر المنتظر كقوله אתה תקום תרחם ציון כי עת לחננה כי בא מועד، כי רצו עבדיך את אבניה ואת עפרה יחוננו، يعني أن ירושלם إنما تبنى إذا تشوق ישראל إليها غاية الشوق حتى يحنوا على حجارتها وترابها.

<28> قال الخزري: إن كان هكذا فمنعك إثم، ومعونتك حسنة، أعانك الله وكان لك ناصرًا ووليًا وعنك رضيًا بمنه وשלום.

تم الكتاب بعون الله تعالى وحسن عونه ولواهب العون حمدًا بلا نهاية