كتاب الأم/التفليس/باب ما جاء في الخلاف في التفليس
قلت لأبي عبد الله: هل خالفك أحد في التفليس؟ فقال نعم خالفنا بعض الناس في التفليس فزعم أن الرجل إذا باع السلعة من الرجل بنقد أو إلى أجل، وقبضها المشتري ثم أفلس والسلعة قائمة بعينها فهي مال من مال المشتري يكون البائع فيها وغيره من غرمائه سواء فقلت لأبي عبد الله وما احتج به؟ فقال: قال لي قائل منهم: أرأيت إذا باع الرجل أمة ودفعها إلى المشتري أما ملكها المشتري ملكا صحيحا يحل له وطؤها؟ قلت بلى قال أفرأيت لو وطئها فولدت له أو باعها أو أعتقها أو تصدق بها ثم أفلس أترد من هذا شيئا وتجعلها رقيقا؟ قلت لا فقال؛ لأنه ملكها ملكا صحيحا. قلت نعم قال فكيف تنقض الملك الصحيح؟ فقلت نقضته بما لا ينبغي لي، ولا لك، ولا لمسلم علمه إلا أن ينقضه له. قال: وما هو؟ قلت: سنة رسول الله ﷺ. قال: أفرأيت إن لم أثبت لك الخبر؟ قلت إذا تصير إلى موضع الجهل أو المعاندة قال إنما رواه أبو هريرة وحده فقلت ما نعرف فيه عن النبي ﷺ رواية إلا عن أبي هريرة وحده، وإن في ذلك لكفاية تثبت بمثلها السنة قال أفتوجدنا أن الناس يثبتون لأبي هريرة رواية لم يروها غيره أو لغيره؟ قلت نعم قال وأين هي؟ قلت قال أبو هريرة قال رسول الله ﷺ (لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها)؟ فأخذنا نحن وأنت به، ولم يروه أحد عن النبي ﷺ تثبت روايته غيره قال أجل. ولكن الناس أجمعوا عليها فقلت فذلك أوجب للحجة عليك أن يجتمع الناس على حديث أبي هريرة وحده، ولا يذهبون فيه إلى توهينه بأن الله عز وجل يقول {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية. وقال {وأحل لكم ما وراء ذلكم}، وقلت له وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا) فأخذنا بحديثه كله وأخذت بجملته فقلت الكلب ينجس الماء القليل إذا ولغ فيه، ولم توهنه بأن أبا قتادة روى (عن النبي ﷺ في الهرة أنها لا تنجس الماء) ونحن وأنت نقول لا تؤكل الهرة فتجعل الكلب قياسا عليها فلا تنجس الماء بولوغ الكلب، ولم يروه إلا أبو هريرة فقال قبلنا هذا؛ لأن الناس قبلوه قلت فإذا قبلوه في موضع ومواضع وجب عليك وعليهم قبول خبره في موضع غيره، وإلا فأنت تحكم فتقبل ما شئت وترد ما شئت. فقال: قد عرفنا أن أبا هريرة روى أشياء لم يروها غيره مما ذكرت وحديث المصراة وحديث الأجير وغيره أفتعلم غيره انفرد برواية؟ قلت نعم أبو سعيد الخدري روى أن النبي ﷺ قال (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) فصرنا نحن وأنت وأكثر المفتين إليه وتركت قول صاحبك وإبراهيم النخعي الصدقة في كل قليل وكثير أنبتته الأرض، وقد يجدان تأويلا من قول الله عز وجل: {وآتوا حقه يوم حصاده} ولم يذكر قليلا، ولا كثيرا ومن قول النبي ﷺ (فيما سقي بالسماء العشر وفيما سقي بالدالية نصف العشر) قال أجل. قلنا وحديث أبي ثعلبة الخشني (أن النبي ﷺ نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع) لا يروى عن غيره علمته إلا من وجه عن أبي هريرة. وليس بالمشهور المعروف الرجال فقبلناه نحن وأنت وخالفنا المكيون واحتجوا بقول الله عز وجل {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه} الآية، وقوله {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} وبقول عائشة وابن عباس وعبيد بن عمير فزعمنا أن الرواية الواحدة تثبت بها الحجة، ولا حجة في تأويل، ولا حديث عن غير النبي ﷺ مع حديث النبي ﷺ. قال: أما ما وصفت فكما وصفت. قلت: فإذا جاء مثل هذا فلم لم تجعله حجة؟ قال ما كانت حجتنا في أن لا نقول قولكم في التفليس إلا هذا قلنا، ولا حجة لك فيه؛ لأني قد وجدتك تقول وغيرك وتأخذ بمثله فيه قال آخر إنا قد روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه شبيها بقولنا قلنا وهذا مما لا حجة فيه عندنا وعندك؛ لأن مذهبنا معا إذا ثبت عن النبي ﷺ شيء أن لا حجة في أحد معه. قال: فإنا قلنا لم نعلم أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان رضي الله عنهم قضوا بما رويتم في التفليس قلنا، ولا رويتم أنهم، ولا واحد منهم قال (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) (ولا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها)، ولا تحريم كل ذي ناب من السباع. قال فاكتفينا بالخبر عن النبي ﷺ في هذا. قلنا ففيه الكفاية المغنية عما سواها وما سواها تبع لها لا يصنع معها شيئا إن وافقها تبعها، وكانت به الحاجة إليها، وإن خالفها ترك وأخذت السنة قال وهكذا نقول. قلنا: نعم في الجملة، ولا تفي بذلك في التفريع قال فإني لم أنفرد بما عبت علي قد شركني فيه غير واحد من أهل ناحيتك وغيرهم فأخذوا بأحاديث وردوا أخرى. قلت: فإن كنت حمدتهم على هذا فأشركهم فيه. قال: إذا يلزمني أن أكون بالخيار في العلم. قلت: فقل ما شئت فإنك ذممت ذلك ممن فعله فانتقل عن مثل ما ذممت، ولا تجعل المذموم حجة. قال: فإني أسألك عن شيء. قلت: فسل قال كيف نقضت الملك الصحيح؟ قلت أوترى للمسألة موضعا فيما روي عن النبي ﷺ، قال لا، ولكني أحب أن تعلمني هل تجد مثل هذا غير هذا؟ قلت: نعم أرأيت دارا بعتها لك فيها شفعة أليس المشتري مالكا يجوز بيعه وهبته وصداقه وصدقته فيما ابتاع، ويجوز له هدمه وبناؤه؟ قال: نعم. قلت: فإذا جاء الذي له الشفعة أخذ ذلك ممن هو في يديه؟ قال نعم قلت أفتراك نقضت الملك الصحيح؟ قال نعم، ولكني نقضته بالسنة وقلت أرأيت الرجل يصدق المرأة الأمة فيدفعها إليها والغنم فتلد الأمة والغنم أليس إن مات الرجل أو المرأة قبل أن يدخل عليها كان ما أصدقها لها قبل موت واحد منهما يكون لها عتق الأمة وبيعها وبيع الماشية وهي صحيحة الملك في ذلك كله؟ قال: بلى قلت: أفرأيت إن طلقها قبل تفوت في الجارية، ولا الغنم شيئا وهو في يديها بحاله؟ قال: ينتقض الملك ويصير له نصف الجارية والغنم إن لم يكن أولاد أو نصف قيمتها إن كان لها أولاد؛ لأنهم حدثوا في ملكها قلنا فكيف نقضت الملك الصحيح؟ قال بالكتاب قلنا فما نراك عبت في مال المفلس شيئا إلا دخل عليك في الشفعة والصداق مثله أو أكثر. قال: حجتي فيه كتاب أو سنة قلنا: وكذلك حجتنا في مال المفلس سنة فكيف خالفتها؟ قلت للشافعي: فإنا نوافقك في مال المفلس إذا كان حيا ونخالفك فيه إذا مات وحجتنا فيه حديث ابن شهاب الذي قد سمعت.
[قال الشافعي]: قد كان فيما قرأنا على مالك أن ابن شهاب أخبره عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن رسول الله ﷺ قال (أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به فإن مات المشتري فصاحب السلعة أسوة الغرماء) فقال لي فلم لم تأخذ بهذا؟ قلت: لأنه مرسل ومن خالفنا ممن حكيت قوله، وإن كان ذلك ليس عندي له به عذر يخالفه؛ لأنه رد الحديث، وقال فيه قولا واحدا وأنتم أثبتم الحديث فلما صرتم إلى تفريعه فارقتموه في بعض ووافقتموه في بعض. فقال: فلم لم تأخذ بحديث ابن شهاب؟ فقلت: الذي أخذت به أولى بي من قبل أن ما أخذت به موصول يجمع فيه النبي ﷺ بين الموت والإفلاس وحديث ابن شهاب منقطع لو لم يخالفه غيره لم يكن مما يثبته أهل الحديث فلو لم يكن في تركه حجة إلا هذا انبغى لمن عرف الحديث تركه من الوجهين مع أن أبا بكر بن عبد الرحمن يروي عن أبي هريرة حديثا ليس فيه ما روى ابن شهاب عنه مرسلا إن كان روى كله فلا أدري عمن رواه، ولعله روى أول الحديث، وقال برأيه آخره.
[قال الشافعي]: وموجود في حديث أبي بكر عن أبي هريرة (عن النبي ﷺ أنه انتهى بالقول) فهو أحق به أشبه أن يكون ما زاد على هذا قولا من أبي بكر لا رواية، وإن كان موجودا في سنة النبي ﷺ أن الرجل يبيع السلعة من الرجل فيكون مالكا للمبيع يجوز له فيها ما يجوز لذي المال في المال من وطء أمة وبيعها وعتقها، وإن لم يدفع ثمنها فإذا أفلس والسلعة بعينها في يدي المشتري كان للبائع التسليط على نقض عقدة البيع. كما يكون للمستشفع أخذ الشفعة، وقد كان الشراء صحيحا فكان المشتري لما فيه الشفعة لو مات كان للمستشفع أخذ الشفعة من ورثته كما له أخذها من يديه فكيف لم يكن هذا في الذي يجد عين ماله عند معدم، وإن مات كما كان لبائعه ذلك في حياة مالكه، وكما قلنا في الشفعة، وكيف يكون الورثة يملكون عن الميت منع السلعة، وإنما عنه ورثوها، ولم يكن للميت منعها من أن ينقض بائعها البيع إذا لم يعط ثمنها كاملا فلا يكون للورثة في حال ما ورثوا عن الميت إلا ما كان للميت أو أقل منه، وقد جعلتم للورثة أكثر مما للمورث الذي عنه ملكوها، ولو جاز أن يفرق بين الموت والحياة كان الميت أولى أن يأخذ الرجل عين ماله منه؛ لأنه ميت لا يفيد شيئا أبدا والحي يفلس فترجى إفادته وأن يقضي دينه فضعفتم الأقوى، وقويتم الأضعف وتركتم بعض حديث أبي هريرة وأخذتم ببعضه. قال: فليس هذا مما روينا. قلنا: وإن لم ترووه فقد رواه ثقة عن ثقة فلا يوهنه أن لا ترووه، وكثير من الأحاديث لم ترووه فلم يوهنه ذلك.