انتقل إلى المحتوى

قاهر الموت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

قاهر الموت

​قاهر الموت​ المؤلف علي محمود طه


يا قاهر الموت كم للنفس أسرار؟
ذلّ الحديد لها، و استخذت النّار
و أشفق البحر منها، و هو طاغية
عات على ضربات الصّخر، جبار
حواك أحدوثة مثلى و تضحية
لم تحوها سير أو ترو أخبار
رماك في جنبات اليمّ محترب
خافي المقاتل عند الرّوع فرار
ترصّدتك مراميه و لو وقعت
عليه عيناك لم تنقذه أقدار
يدبّ في مسبح الحيتان منسربا
و الغور داج و صدر البحر موّار
كدودة الأرض نور الشّمس يقتلها
و كم بها قتلت في الرّوض أزهار
هوى بك الفلك إلاّ هامة رفعت
لها من المجد إعظام و إكبار
و استقبل البحر صدرا حين لامسه
كادت عليه جبال الموج تنهار
و غاب كل مشيد غير قبّعة
ذكرى من الشّرف العلي و تذكار
ألقيتها، فتلقى الموج مقعدها
كما تلقى جبين الفاتح الغار
و لو يرد زمان المعجزات بها
لانشق بحر لها، و ارتدّ تيّار
كأنّها خطبة راعت مقاطعها
لها العوالم سمّاع و نظّار
تقول: لا كان لي ربّ و لا هتفت
بذكره الحرب، إن لم يؤخذ الثار
يا ابن البحار وليدا من مسابها
و يافعا يؤثر الجلّى و يختار
ما عالم الماء؟ يا ربّان، صفه لنا
فما تحيط به في الوهم أفكار!
و ما حياة الفتى فيه؟ أتسلية
و راحة؟ أم فجاءات و أخطار؟
إذا السّفينة في أمواجه رقصت
على أهازيج غنّاهنّ إعصار
و أشجت السّحب موسيقاه، فاعتنقت
و أسدلت من خدور الشّهب أستار
و أنت ترنو وراء الأفق مبتسما
كما رنا نازح لاحت له الدّار
غرقان في حلم عذب تسلسله
من ذروة اللّيل أنواء و أمطار
يا عاشق البحر، حدّث عن مفاتنه
كم في لياليه للعشّاق أسمار؟
ما ليلة الصّيف فبه؟ ما روايتها؟
فالصّيف خمر، و ألحان، و أشعار
إذا النسائم من آفاقه انحدرت
و ضوّأت من كوى الظّلماء أنوار
و أقبلت عاريات من غلائلها
عرئس من بنات الجنّ أبكار
شغل الرّبابنة السّارين من قدم
تجلى بهنّ عشيّات و أسحار
يترعن كأسك من خمرة معتقة
البحر كهف لها، و الدّهر خمّار
و أنت نعنهنّ مشغول بجارية
كأن أجراسها في الأذن قيثار
صوت الحبيبة قد فاضت خوالجها
و رنّحتها من الأشواق أسفار
و الهفّ قلبك لما اندكّ شامخها
و النّوء مصطرع و الموج هدّار
بوغتّ بالقدر المكتوب فانسرحت
عيناك تقرأ، و الأمواج أسطار
نزلتما البحر قبرا، حين ضمّكما
رفّت عليه من المرجان أشجار
نام الحبيبان في مثواه واتّسدا
جنبا لجنب، فلا ذلّ و لا عار!!
مصارع للفدائيين يعشقها
مستقتلون وراء البحر أحرار
منيّة كحياة، كلما ذكّرت
تجدّدت لك في الأجيال أعمار
هي الفخار لشعب في خلائقه
خلق الرّجال إذا هاجته أخطار
له البحار بما اجتازت شواطؤها
و ما أجنته خلجان و أغوار
رواق مجد على جدرانه رفعت
للخالدين أماثيل و آثار
دخلت من بابه، و اجتزت ساحته
و سرت فيه على آثار من ساروا
يتيه باسمك في أقداسه نصب
رخامه الدّهر، و التّاريخ حفّار