قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة/الصفحة السادسة
ثم ذكر حكاية بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فهر، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، ثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، ثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله ﷺ، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوما فقال 1 {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، ومدح قوما فقال 2: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ} الآية، وذم قوما فقال 3: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا. فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله ﷺ؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى 4: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}.
قلت: وهذه الحكاية منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكا لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه.
وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذّبه أبو زرعة وابن وارة.
وقال صالح بن محمد الأسدي: ما رأيت أحدًا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه.
وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات.
وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد ابن إسماعيل السهمي توفي سنة تسع وخمسين ومائتين.
وفي الإسناد أيضا من لا يعرف حاله.
وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته.
هذا إن ثبتت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم ومروان بن محمد الطاطري ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخرسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث!.
مع أن قوله: "وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة". إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وذلك هو التوسل شفاعته يوم القيامة، وهذا حق.
كما جاءت به الأحاديث الصحيحة حين يأتي الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردّهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد ﷺ، فإنه كما قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر".
ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه:
أحدها، قوله: "أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله وأدعو!" فقال: "ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم"؛ فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين أن الداعي إذا سلم على النبي ﷺ ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي ﷺ والدعاء له. هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم.
وعند أصحاب أبي حنيفة، لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضا.
ثم منهم من قال: يجعل الحجرة عن يساره - وقد رواه ابن وهب عن مالك - ويسلم عليه.
ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه وهذا هو المشهور عندهم. ومع هذا فكره مالك أن يطيل القيام عند القبر.
لذلك قال القاضي عياض في المبسوط عن مالك: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي ﷺ يدعو، ولكن يسلم ويمضي".
قال: وقال نافع: كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول: السلام على النبي ﷺ، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف.
ورؤي واضعا يده على مقعد النبي ﷺ من المنبر ثم وضعها على وجهه.
قال: وعن ابن أبي قسيط والقعنبي، كان أصحاب النبي ﷺ إذا خلا المسجد جسَّوا برمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون.
قال: وفي الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي أنه كان - يعني ابن عمر - يقف على قبر النبي ﷺ فيصلي على النبي ﷺ وعلى أبي بكر وعمر.
وعند ابن القاسم والقعنبي: ويدعو لأبي بكر وعمر.
قال مالك في رواية ابن وهب: يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
وقال في المبسوط: ويسلم على أبي بكر وعمر.
قال أبو الوليد الباجي: وعندي أن يدعو للنبي ﷺ بلفظ الصلاة، ولأبي بكر وعمر [بلفظ السلام]؛ لما في حديث ابن عمر من الخلاف.
وهذا الدعاء يفسر الدعاء المذكور في رواية ابن وهب، قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي ﷺ ودعا، يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر.
فهذا هو السلام عليه والدعاء له بالصلاة عليه كما تقدم تفسيره، وكذلك كل دعاء ذكره أصحابه كما ذكر ابن حبيب في الواضحة وغيره.
قال: وقال مالك في المبسوط: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء. وقال فيه أيضا: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر، أن يقف على قبر النبي ﷺ فيصلي عليه، ويدعو له ولأبي بكر وعمر. قيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر، فيسلمون ويدعون ساعة. فقال مالك: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتوا القبر فسلموا. قال: ولذلك رأي.
قال أبو الوليد الباجي: ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم.
قال: وقال رسول الله ﷺ: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"، "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
قال: وقال النبي ﷺ: "لا تجعلوا قبري عيدا".
قال: ومن كتاب أحمد بن شعبة فيمن وقف بالقبر: لا يلتصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا.
وفي العتبية - يعني عن مالك -: يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد ﷺ، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبي ﷺ حيث العمود المخلق، وأما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف. قال: والتنفل فيه للغرباء أحب إلي من التنفل في البيوت....
فهذا قول مالك وأصحابه، وما نقلوه عن الصحابة يبين أنهم لم [يكونوا] يقصدون القبر إلا للسلام على النبي ﷺ والدعاء له. وقد كره مالك إطالة القيام لذلك، وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له، فإنه تحية للنبي ﷺ. فأما إذا قصد الرجل الدعاء لنفسه فإنما يدعو في مسجده مستقبل القبلة كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبي ﷺ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبي ﷺ، فكيف بدعائه لنفسه؟.
وأما دعاء الرسول وطلب الحوائج منه وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته فهذا لم يفعله أحد من السلف، ومعلوم أنه لو كان قصدُ الدعاء عند القبر مشروعا لفعله الصحابة والتابعون، وكذلك السؤال به، فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته؟.
فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة من قوله: "استقبله واستشفع به" كذب علىمالك، مخالف لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي نقلها مالك وأصحابه ونقلها سائر العلماء، إذ كان أحد منهم لم يستقبل القبر للدعاء لنفسه فضلا عن أن يستقبله ويستشفع به، يقول له: يارسول الله اشفع لي أو ادع لي، أو يشتكي إليه المصائب [في] الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكي إليهم المصائب، فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأمة، ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين، وإن كانوا يسلمون عليه إذ كان يسمع السلام عليه من القريب ويبلّغ سلام البعيد.
وقد احتج أحمد وغيره بالحديث الذي رواه أحمد وأبوداود بإسناد جيد من حديث حيْوَة بن شريح المصري حدثنا أبو صخر عن يزيد [ابن عبد الله] بن قسيط عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: "ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام".
وعلى هذا الحديث اعتمد الأئمة في السلام عليه عند قبره، صلوات الله وسلامه عليه.
فإن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة، لا يعتمد على شيء منها في الدين؛ لهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئا منها، وإنما يرويها من يروي الضعاف كالدارقطني والبزار وغيرهما.
وأجود حديث فيها ما رواه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، والكذب ظاهر عليه.
مثل قوله: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي"، فإن هذا كذبه ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته، وكان مؤمنا به، كان من أصحابه، لاسيما إن كان من المهاجرين إليه، المجاهدين معه.
وقد ثبت عنه ﷺ أنه قال: "لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدُكم مثل أُحدٍ ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". أخرجاه في الصحيحين.
والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة؛ كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين، بل ولا شرع السفر إليه، بل هو منهي عنه.
وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه، والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه فهو مستحب، والسفر إلى الكعبة للحج فواجب. فلو سافر أحد السفر الواجب والمستحب لم يكن مثل واحد من الصحابة الذين سافروا إليه في حياته، فكيف بالسفر المنهي عنه؟.
وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره بل ينهى عن ذلك.
ولو نذر السفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعي.
أظهرهما عنه: يجب ذلك، وهو مذهب مالك وأحمد.
والثاني: لا يجب، وهو مذهب أبي حنيفة ؛ لأن من أصله أنه لا يجب النذر إلا ما كان واجبا بالشرع، وإتيان هذين المسجدين ليس واجبا بالشرع فلا يجب بالنذر عنده.
وأما الأكثرون فيقولون: هو طاعة لله.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه".
وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء الصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة.
فكيف يكون من فعل هذا كواحد من أصحابه؟ وهذا مالك كره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله ﷺ واستعظمه.
وقد قيل: إن ذلك لكراهية زيارة القبور.
وقيل: لأن الزائر أفضل من المزور.
وكلاهما ضعيف عند أصحاب مالك.
والصحيح أن ذلك لأن لفظ زيارة القبر مجمل يدخل فيها الزيارة البدعية التي هي من جنس الشرك، فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين كما تقدم ذكره: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلي عليه صلاة الجنازة، فهذه الزيارة الشرعية.
والثاني: أن يزورها كزيارة المشركين وأهل البدع لدعاء الموتى وطلب الحاجات منهم، أو لاعتقاده أن الدعاء عند قبر أحدهم أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، أو أن الإقسام بهم على الله وسؤاله سبحانه بهم أمر مشروع يقتضي إجابة الدعاء، فمثل هذه الزيارة بدعة منهيّ عنها.
فإذا كان لفظ "الزيارة" مجملا يحتمل حقا وباطلا عدل عنه إلى لفظ لا لبس فيه كلفظ "السلام" عليه، ولم يكن لأحد أن يحتج على مالك بما روي في زيارة قبره أو زيارته بعد موته، فإن هذه كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، لا يحتج بشيء منها في أحكام الشريعة.
والثابت عنه ﷺ أنه قال: "مابين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، هذا هو الثابت في الصحيح.
ولكن بعضهم رواه بالمعنى فقال قبري. وهو ﷺ حين قال هذا القول لم يكن قد قبر بعدُ صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة، لما تنازعوا في موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصا في محل النزاع، ولكن دفن في حجرة عائشة في الموضع الذي مات فيه، بأبي هو وأمي صلوات الله عليه وسلامه.
ثم لما وسع المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز أمره أن يشتري الحُجَر ويزيدها في المسجد، وكانت الحجر من جهة المشرق والقبلة فزيدت في المسجد ودخلت حجرة عائشة في المسجد من حينئذ، وبنوا الحائط البراني مسنما محرفا.
فإنه ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي أنه قال ﷺ: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها".
لأن ذلك يشبه السجود لها، وإن كان المصلي إنما يقصد الصلاة لله تعالى. و كما نهى عن اتخاذها مساجد نهى عن قصد الصلاة عندها، وإن كان المصلي إنما يقصد الصلاة لله سبحانه والدعاء له. فمن قصد قبور الأنبياء والصالحين لأجل الصلاة والدعاء عندها فقد قصد نفس المحرم الذي سدَّ الله ورسوله ذريعته، وهذا بخلاف السلام المشروع حسبما تقدم.
وقد روى سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام". رواه النسائي وأبوحاتم في صحيحه. وروى نحوه عن أبي هريرة.
فهذا فيه أن سلام البعيد تبلغه الملائكة.
وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: "أكثروا عليَّ من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض عليَّ يومئذ، فمن كان أكثرهم عليَّ صلاة كان أقربهم مني منزلة".
وفي مسند الإمام أحمد: حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "لاتتخذوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني". ورواه أبو داود.
قال القاضي عياض: وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "من صلى عليَّ عند قبري سمعته. ومن صلى نائيا أبلغته".
وهذا قد رواه محمد بن مروان السدي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. وهذا هو السدي الصغير وليس بثقة، وليس هذا من حديث الأعمش.
وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد ابن حيَّان عن أبي بكر الحنفي: حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن، سمعت الحسن بن علي قال: قال رسول الله ﷺ: "صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا، ولا تتخذوا بيتي عيدا. صلوا عليَّ وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني".
وروى سعيد بن منصور في سننه أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يكثر الاختلاف إلى قبر النبي ﷺ قال له: ياهذا! إن رسول الله ﷺ قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني". فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.
وروي هذا المعنى عن علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب، ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في مختاره الذي هو أصح من صحيح الحاكم.
وذكر القاضي عياض عن الحسن بن علي قال: إذا دخلت فسلم على النبي ﷺ فإن رسول الله ﷺ قال: "لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا عليَّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".
ومما يوهن هذه الحكاية أنه قال فيها: "ولم تصرفُ وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة". إنما يدل على أنه يوم القيامة يتوسل الناس بشفاعته، وهذا حق كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة، كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته، فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته، فنظير هذا - لو كانت الحكاية صحيحة - أن يطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره.
ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبي ﷺ ولا سَنَّهُ لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره من الأئمة، فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا الأحكام المعلومة بأدلتها الشرعية، مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها؟ وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع؟ فلو لم يكن عن مالك قول يناقض هذا لعلم أنه لا يقول مثل هذا.
ثم قال في الحكاية: "استقبله واستشفع به فيشفعك الله". والاستشفاع به معناه في اللغة؛ أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به.
ومنه الحديث الذي في السنن أن أعرابيا قال: يارسول الله! جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادْعُ الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله. فسبح رسول الله ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: "ويحك أتدري ما تقول؟ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه".
وذكر تمام الحديث فأنكر قوله: "نستشفع بالله عليك". ومعلوم أنه لا ينكر أن يُسأل المخلوق بالله أو يقسم عليه بالله، وإنما أن يكون الله شافعا إلى المخلوق، ولهذا لم ينكر قوله: "نستشفع بك على الله"؛ فإنه هو الشافع المشفع.
وهم – لو كانت الحكاية صحيحة – إنما يجيئون إليه لأجل طلب شفاعته ﷺ ولهذا قال في تمام الحكاية: 5 {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية، وهؤلاء إذا شرع لهم أن يطلبوا منه الشافعة والاستغفار بعد موته فإذا أجابهم فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاء منه وشفاعة أن يغفر الله لهم.
وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته، فإنما يقال في ذلك: "استشفعْ به فيشفعه الله فيك" لا يقال: فيشفعك الله فيه وهذا معروف الكلام، ولغة النبي ﷺ وأصحابه وسائر العلماء، يقال: شفع فلان في فلان فشفع فيه. فالمشفع الذي يشفعه المشفوع إليه هو الشفيع المستشفع به، لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذي يشفع، فمحمد ﷺ هو الشفيع المشفع، ليس المشفع الذي يستشفع به. ولهذا يقول في دعائه: يارب شفعني، فيشفعه الله فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبي شفاعته، فكيف يقول: واستشفع به فيشفعك الله؟.
وأيضا فإن طلب شفاعته ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره ليس مشروعا عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا أحد من الأئمة الأربعة وأصحابهم القدماء، وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين:
ذكروا حكاية عن العتبي أنه رأى أعرابيا أتى قبره وقرأ هذه الآية، وأنه رأى في المنام أن الله غفر له.
وهذا لم يذكره أحد من المجتهدين من أهل المذاهب المتبوعين، الذين يفتي الناس بأقوالهم، ومن ذكرها لم يذكر عليها دليلا شرعيا.
ومعلوم أنه لو كان طلب دعائه وشفاعته واستغفاره عند قبره مشروعا، لكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أعلم بذلك وأسبق إليه من غيرهم، ولكان أئمة المسلمين يذكرون ذلك. وما أحسن ما قال مالك: لا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. قال: ولم يبلغني عن أولِ هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك. فمثل هذا الإمام كيف يُشرع دينا لم يُنقل عن أحد من السلف، ويأمر الأمة بأن يطلبوا الدعاء والشفاعة والاستغفار بعد موت الأنبياء والصالحين منهم عند قبورهم، وهو أمر لم يفعله أحد من سلف الأمة؟.
ولكن هذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، فيقول أحدهم:
اللهم إنا نستشفع إليك بفلان وفلان أي نتوسل به.
ويقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تُشفع به. من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائبا لم يسمع كلامه ولا شفع له.
وهذا ليس هو لغة النبي ﷺ وأصحابه وعلماء الأمة، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة، والشافع هو الذي يشفع للسائل فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه. وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعا لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول.
نعم هذا سؤال به، ودعاء به ليس هو استشفاعا به، ولكن هؤلاء لما غيروا اللغة – كما غيروا الشريعة – وسموا هذا استشفاعا – أي سؤالا بالشافع – صاروا يقولون: استشفع به فيشفعك. أي يجيب سؤالك به، وهذا مما يبين أن هذه الحكاية وضعها جاهل بالشرع واللغة، وليس لفظهما من ألفاظ مالك.
نعم قد يكون أصلها صحيحا، ويكون مالك قد نهى عن رفع الصوت في مسجد الرسول ﷺ اتباعا للسنة، كما كان عمرُ ينهي عن رفع الصوت في مسجده، ويكون مالك أمر بما أمر الله به؛ من تعزيزه وتوقيره ونحو ذلك مما يليق بمالك أن يأمر به.
ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي ﷺ، وعادتهم في الكلام وإلاّ حرف الكلم عن مواضعه، فإن كثيرا من الناس ينشأ على اصطلاح قوم وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ مايريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك.
وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم.
وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معانٍ أُخَر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم، ويقولون: إنا موافقون للأنبياء!.
وهذا موجود في كلام كثير من الملاحدة المتفلسفة والإسماعيلية ومن ضاهاهم من ملاحدة المتكلمة والمتصوفة، مثل من وضع "المُحدث" و "المخلوق" و "المصنوع" على ماهو معلول وإن كان [عنده] قديما أزليا، ويسمى ذلك "الحدوث الذاتي".
ثم يقول: نحن نقول إن العالم محدث، وهو مراده.
ومعلوم أن لفظ المحدث بهذا الاعتبار ليس لغة أحد من الأمم، وإنما المحدث عندهم ماكان بعد أن لم يكن.
وكذلك يضعون لفظ "الملائكة" على ما يثبتونه من العقول والنفوس وقوى النفس.. ولفظ "الجن" و"الشياطين" على بعض قوى النفس.
ثم يقولون: نحن نثبت ما أخبرت به الأنبياء، وأقر به جمهور الناس من الملائكة والجن والشياطين.
ومن عرف مراد الأنبياء ومرادهم علم بالاضطرار أن هذا ليس هو ذاك، مثل أن يعلم مرادهم بالعقل الأول وأنه مقارن عندهم لرب العالمين أزلا وأبدا، وأنه مبدع لكل ما سواه، أو بتوسطه حصل كل ما سواه.
والعقل الفعال عندهم عنه يصدر كل ما تحت فلك القمر، ويعلم بالاضطرار من دين الأنبياء أنه ليس من الملائكة عندهم من هو رب كل ما سوى الله، ولا رب كل ماتحت فلك القمر، ولا من هو قديم أزلي أبدي لم يزل ولا يزال.
ويعلم أن الحديث الذي يروى: "أول ماخلق الله العقل" حديث باطل عن النبي ﷺ، مع أنه لو كان حقا لكان حجة عليهم، فإن لفظه "أول ما خلق الله العقل" بنصب الأول على الظرفية "فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال: أدبر، فأدبر. فقال: وعزتي ما خلقت خلقا أكرم عليَّ منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وبك العقاب"، وروي "لما خلق الله العقل".
فالحديث لو كان ثابتا كان معناه أنه خاطب العقل في أول أوقات خلقه، وأنه خلق قبله غيره، وأنه تحصل به هذه الأمور الأربعة لا كل المصنوعات.
و "العقل" في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا، ويراد به القوة التي بها يُعقل. وعلوم وأعمال تحصل بذلك، لا يراد بها قط في لغة جوهر قائم بنفسه، فلا يمكن أن يراد هذا المعنى بلفظ العقل.
مع أنا قد بينا في مواضع أخر فساد ما ذكروه من جهة العقل الصريح، وأن ما ذكروه من المجردات والمفارقات ينتهي أمرهم فيه إلى إثبات النفس التي تفارق البدن بالموت، وإلى إثبات ما تجرده النفس من المعقولات القائمة بها، فهذا منتهى ما يثبتونه من الحق في هذا الباب.
والمقصود هنا أن كثيرا من كلام الله ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله، كما يوجد في كلام صاحب الكتب المضنون بها وغيره. مثل ما ذكره في "اللوح المحفوظ" حيث جعله النفس الفلكية، ولفظ "القلم" حيث جعله العقل الأول. ولفظ "الملكوت" و"الجبروت" و "الملك" حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل، ولفظ "الشفاعة" حيث جعل ذلك فيضا يفيض من الشفيع على المستشفع وإن كان الشفيع قد لا يدري، وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا كما قد بسط في موضع آخر.
هامش
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية | ||||||||||||
الصفحة الأولى | الثانية | الثالثة | الرابعة | الخامسة | السادسة | السابعة | الثامنة | التاسعة | العاشرة | الحادية عشر | الثانية عشر | ||||||||||||