انتقل إلى المحتوى

فجر السلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

فجر السلام

​فجر السلام​ المؤلف بدر شاكر السياب


لا شهوة الموت في أعراق جزار
تقوى عليها ولا سيل من النار
الموت أزهى سدا من أن يشابكها
وهي التي مدت الموتى بأعمار
وهي التى لمت الأحقاب واعتصرت
مما انطوى في دجاها فيض أنوار
ومست الصخر فاخضلت جوانبه
بالسيل الغض والريحان والنار
هذي اليد السمحة البيضاء كم مسحت
جرحا وكم أزهت أنفاس جبار
وأطلقت في الدجى الأعمى حمامتها
بيضاء كالمشعل الوهاج في غار
كأنما فجرت ماء لظامئة
أو أطلعت كوكبا يأتمه الساري
سل تاجر الموت كيف اصطك من فزع
لما رآها وكم أودت بتجار
وسمرت نعش طاغوت بما شرعت
كفاه من خنجر يدمى وأظفار
أما كفاه الذي امتصت على مهل
أنيابه من دم الغرثان والعاري
وما طفا عن شفاه الطفل من لبن
أو حلمة المومس الشوهاء من عار
فانقض من كهفه الداجي ليبعثها
شعواء كالبحر ان دوى باعصار
حتى اذا امتار من أعمار مددا
واقتات مما ستحيا عمره الهاري
أهوى على ظهر لم يقض يعصره
عن سلعة تعبر سلعة الدنيا فدولار
عيون وراء المدى
تنام و ترجو الغدا
دفوق السنا باسطا
لأحلى رؤاها يدا
ستجبلها ولقعا
نقيا كذوب الندى
يكفر عما جنت
عصور طواها الردى
أيفزعها المجرمون
بما أشرعوا من مدى
كأن سياجا يقام
ليحجز عنها الغدا
و في الحقل بين الظلال
عذارى حملن السلال
لهن الهوى و الغناء
و للظالمين الغلال
فبعد الشقاء المرير
وغب الليالي الطوال
دنا موعد للحصاد
فغنينه للرجال
أيحسدهن الطغاة
على منه للخيال
على ضحكة للربيع
و أنشودة للتلال
و شيخ يرب الحفيد
بأنباء قطر بعيد
تحدى حراب الغزاة
و غيبها في الجليد
فأنبت منها سنابل
ضوء الصباح الوليد
هنالك يبني الحياة
كما شاء جيل سعيد
عمالقة بالفعال
ورواد كون جديد
و آلهة يخلقون
آلهة من عبيد
هنالك يرن السلام
كأهداب طفل ينام
و يضحط ملء الحقول
و في أغنيات الغرام
و ينبض حيث المعامل
يجرحن قلب الظلام
و في المدن الضاحيات
يندس وسط الزحام
و حيث التقت و هي ترنو
عيون الورى في وئام
برغم اللظى و الحديد
نمت زهرة للسلام
و انداح من لجة الليل التي شحبت
شدق يزيد اتساعا كلما اقتربا
كأن مقبرة طال الزمان بها
وازلزت فهي تبدي جوفها الخربا
تعلقت أعظم الموتى به ورنت
ألحظها الحور فيما يشبه الغضبا
كأنما صرت الأسنان من حنق
شيئا و سخرية منها بمن نكبا
كأن كل قتيل رغم سكرته
بالصمت يسأل أما أثكلت وأبا
وزوجة و بنين استقتلوا و أخا
من كان فيما لقينا من ردى سببا
شدق يزيد اتساعا كلما رفعت
ستر الدجى خفقت من كوكب غربا
آلى على الأرض أن يجتث عاليها
سفلا و يصفع من يأتي بمن ذهبا
و لا يريق دما إلا و أضرمه
نارا و ذرى رمادا منه أو لهبا
تسعى به الريح في الآفاق ناسجة
للشمس من جذوة أو من دم حجبا
فالجو مقبرة كبرى معلقة
تستعرض الشمس في ذراتها الحقبا
و الأرض كالأبرص المنبوذ هرأة
داء و عانى عليه الجوع و التعبا
تكدست فوقها الأجساد ناضحة
قيحا ودوى عويل الناس و اصطخبا
من كل رافعة جيدا كأن يدا
جبارة جاذبيه الطول فانجذبا
وانمط مثل عجين الرخو مرضعها
لصق الثرى و اكفهر الوجه و انقلبا
و هي التي بالأمس كانت كما
رجى خيال للهوى الأول
يموج في مرآتها ظلها
سوسنة بيضاء في جدول
و كان نهداها إذا رنحت
ريح الصبا من ثوبها المخمل
يشف تكويراهما عن سنا
يطفو بطوقيها إلى المجتلى
كم عاشق كانت أمانيه أن
يرتشف النور على جيدها
كان يغذيها إذا قطبت
بالروح و الآمال في عيدها
يا زهرة عاشقها لم يذد
من زعزع هبت لتبديدها
لو كان يهواك ارتمي دونها
سدا و نجاك بتصعيدها
ظل لقابييل ألقى عبء ظلمته
فحما يسود البرايا حوله القلق
فحما تصدى له الباغي بمقلته
يذكيه منها لظى يخبو و يأتلق
إذا تضرم فاندك الفضاء جذى
غضبى و نش الدم الفوار و العرق
وانقض من حيث تهوى الشمس غاربة
ليل من القاصفات السود أو شفق
جن الرضيع الذي يحبو وهب على
رجليه يعدو ويلوي جسمه اعنق
من فرط ما طال و استرخى و قد صهرت
أعراقه الزرق نارا فيه تختنق
كأن كفيه مذراتا ثرى و دم
لا ما يمد ابن عام لفه الغسق
و لألأ البدر فاستدناه و انبسطت
يمناه بالشوق حتى أظلم الأفق
و أزلزت لثة الشيخ التي هرئت
من شدقه الأدرد المغفور تندلق
تنساح كاللعنه السوداء يطلقها
بعد الردى نسله المطموس و الحنق
يا ربما سرت الموتى بأن هلكوا
قذائف كعيون الجن تنطلق
شدت عليها يد عجفاء يدفعها
حقد ويقتات من أعصابها فرق
شلت يدا طالما التفت أصابعها
ثم ارتخت عن وليد بات يختنق
و استجهضت كل أنثى و هي تعضبها
و استدفأت باللظى و المدن تحترق
و قوست من ظهور كي يطاولها
قزح يلج ارتفاعا و هي تنسحق
و تطل من أفق يفتحه
الشروق إلى الحافي
أيد تشير إلى الرقاب
المشرئبة لا تخافي
لن يفصد الجلاد عرقا
من عروقك لارتشاف
أيد تلوح بالسلام
كأن موشكه الضحايا
تكتال منهن البقاء
كأن أحضان الصبايا
أودعتها الأطفال لما
ينطفوا حذر المنايا
و لكم تناقلت المعابر
و الدروب صدى نداء
تتشابك الرغبات مثب
الغاب فيه على رجاء
هو معبر الأجيال من
خطر يهم إلى نجاء
تعوي الذئاب و ما يزال
يجيش كالدم في العروق
يند العواء و يدفع المقل
الغضاب عن الطريق
و يظل يطفئها كما
انطفأت بقايا من حريق
و يظل يخفق بالسلام
كأنما نشرت جناحا
فيه الحمامة يلطم
الظلماء فانفرطت و لاحا
من شقها الألق الحبيس
و ظل ينطف ثم ساحا
صور لنفسك في الخيال
أباك في وسط الحريق
يدعوك بالصوت الأبح
وقد تخبط كالغريق
و يمد من خلل الدخان
يديه يبحث عن طريق
و انظر لأمك و هي ترقد
في التراب على قفاها
تتجاذب العقبان ثديي
ها و يفقا ناظراها
و تلق من دمها الكلاب
و ينخر الدود الشفاها
و تمل زوجك و هي تركض
بين أشباح الجياع
شعثاء تلهث و الرياح
تصكها دون انقطاع
حملت قميصك في ذراع
و الرضيعة في ذراع
أو جثة ابنك و هي تزحف
دون رأس في الدماء
أو مرضع ابنتك الممزق
و هو يسحق بالحذاء
ورفات موتاك الرميم
وقد تناثر في الهواء
و إذا رأيت عيون جير
تك الرضية المحار
ترتج غضبى في قرارة
جدول ضحل القرار
أفلا تطاردك العيون
أما تبصك في احتقار
صور لنفسك في الخيال
أباك في ليل الشتاء
و كأنما ردت عليه صباه
أخيلة الصلاء
ما زال يقرأ و الصغار
يضاحكونك في الخفاء
و انظر لأمك وهي تنصت
أي عجب يزدهيها
عادت إلى الصوت الرتيب
إلى الغوابر من سنيها
و تمثلته فتى يجمع
ساعديه و يحتويها
و ابسط لزوجك و انتشلها
و هي تلهث في الرخام
كفا ستختم إذ تو
قع بالمداد على السلام
فرج الجراح فتوقف ال
دم و الدموع عن انسجام
الشاطيء الضحاك و الأ
صداء و القمر الطروي
سكران يغرق في جدا
ئلها و تهمسه الطيوب
و تضمها و يطل من خلل
العيون مدى رحيب
تتنفس الأضواء فيه
كأنما سمعت غناء
حلو الرنين فراقصته
هناك أجنحة اراءى
بيضاء يتبعها الص
غار بأعين تندى أخاء
ليل العبودية النكراء صدعه
مهوى طواغيت و استبسال ثوار
حتى إذا شمر الباغي ليرأبه
شقا بأن يصهر الأجساد بالنار
هبت أعاصير تذرو ما تؤججه
في وجهه الراعب النضاح اللعار
و استيقظ الشرق عملاقا تموج على
عينيه دنيا من الأحقاد و الثار
يرمي و يرمي و يسعى نحو غايته
في لجة من دجى غضبى و أنوار
تطفو عليها الضحايا أو تغوص إلى
أعماقها بين تيار و تيار
راياته الداميات الظافرات كوى
حمراء ينشق عنها سجنه الضاري
ألقى بها السلم في وجه الطغاة ردى
و في صعيد الضحايا حمر أزهار
و حطموا أفوق الغل الذي سحبوا
كي يطرقوا منه تابوتا لجبار
حيث اشرأبت على جرف الردى أمم
شدت إلى الصخر إلا بعض أحرار
و ابتاع بالدرهم المجبول من دمها
فيض الدم الثر منها شر تجار
و استأجروها لصنع الموت منه لها
بالزاد يبقى دما فيها لجزار
أعمارها مثل بئر للدم ابتلعت
جيلا سواها بهن ابتاعه الشاري
و تطل من أفق يفتحه
الشروق إلى الحفافي
أيد تشير إلى الرقاب
المشرئبة لا تخافي
لن يفصد الجلاد عرقا
من عروقك لارتشاف
و لكم تناقلت المعابر
و الدروب صدى نداء
تتشابك الرغبات مثل
الغاب فيه على رجاء
هو معبر الأجيال
من خطر يهم إلى نجاء
ما زال يخفق بالسلام
كأنما نشرت جناحا
فيه الحمامة يلطم
الظلماء فانفطرت و لاحا
من شقها الألق الحبيس
و ظل ينعطف ثم ساحا