انتقل إلى المحتوى

فتح المجيد/القسم الثاني عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​فتح المجيد​ المؤلف عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
/القسم القسم الثاني عشر



باب إحترام أسماء الله باب ( احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك ) عن أبي شريح : أنه كان يكنى أبا الحكم . فقال له النبي  : " إن الله هو الحكم . وإليه الحكم ، فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين . فقال : ما أحسن هذا . فما لك من الولد ؟ قل : شريح ومسلم وعبد الله . قال : فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح . قال : فأنت أبو شريح " رواه أبو داود وغيره . قوله : عن أبي شريح قال في خلاصة التهذيب: هو أبو شريح الخزاعي اسمه خويلد بن عمرو أسلم يوم الفتح ، له عشرون حديثًا ، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث ، وروى عنه أبو سعيد المقبري ونافع بن جيير وطائفة . قال ابن سعد : مات بالمدينة سنة ثمان وستين . وقال الشارح اسمه هانيء بن يزيد الكندي قاله الحافظ ، وقيل : الحارث الضبابي . قاله المزي . قوله : يكنى الكنية ما صدر بأب أو أم ونحو ذلك واللقب ما ليس كذلك كزين العابدين ونحوه . وقول النبي  : إن الله هو الحكم وإليه الحكم فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة ، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزل على أنبيائه ورسله ، وما من قضية إلا ولله فيها حكم بما أنزل على نبيه من الكتاب والحكمة ، وقد يسر الله معرفة ذلك لأكثر العلماء من هذه الأمة ، فإنها لا تجتمع على ضلالة ، فإن العلماء وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلا بد أن يكون المصيب فيهم واحدًا ، فمن رزقه الله تعالى قوة الفهم وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء يسر له ذلك بفضله ومنه عليه وإحسانه إليه ، فما أجلها من عطية ، فنسأل الله من فضله . قوله : وإليه الحكم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : ' 42 : 10 ' " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " وقال : ' 4 : 59 ' " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " فالحكم إلي الله هو الحكم إلى كتابه ، والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته . وقد قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله : قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله . قال فإن لم تجد ؟ قال أجتهد رأيي . فقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضى رسول الله " فمعاذ من أجل علماء الصحابة بالأحكام ومعرفة الحلال من الحرام ، ومعرفة أحكام الكتاب والسنة . ولهذا ساغ له الاجتهاد إذا لم يجد للقضية حكمًا في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله ، بخلاف ما يقع اليوم وقبله من أهل التفريط في الأحكام ممن يجهل حكم الله في كتابه وسنة رسوله ، فيظن أنه الاجتهاد يسوغ له مع الجهل بأحكام الكتاب والسنة وهيهات . وأما يوم القيامة فلا يحكم بين الخلق إلا الله عز وجل إذا نزل لفصل القضاء بين العباد ، فيحكم بين خلقه بعلمه . وهو الذي لا يخفى عليه خافية من أعمال خلقه : '4 : 40 ' " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا " والحكم يوم القيامة إنما هو بالحسنات والسيئات ، فيؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر ظلامته إن كان له حسنات ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم ، فطرح على سيئات الظالم لا يزيد على هذا مثقال ذرة ولا ينقص هذا عن حقه بمثقال ذرة . قوله : فإن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين فقال : ما أحسن هذا فالمعنى ـ والله أعلم ـ أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر للعدل بينهم ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين صار عندهم مرضيًا وهذا هو الصلح : لأن مدارؤ على الرضى لا على الإلزام . ولا على الكهان وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا على الاستناد إلى أوضاع أهل الجاهلية من أحكام كبرائهم وأسلافهم التي تخالف حكم الكتاب والسنة . كما قد يقع اليوم كثيرًا ، كحال الطواغيت الذين لا يلتفتون إلى حكم الله ولا إلى حكم رسوله . وإنما المعتمد عندهم ما حكموا به بأهوائهم وآرائهم . وقد يلتحق بهذا بعض المقلدة لمن لم يسغ تقليده فيعتمد على قول من قلده ويترك ما هو الصواب الموافق لأصول الكتاب والسنة . والله المستعان . وقول رسول الله  : " فما لك من الولد ؟ قال شريح ، ومسلم ، وعبد الله . قال : فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح. قال : فأنت أبو شريح " فيه تقديم الأكبر في الكنية وغيرها غالبًا . وجاء هذا المعنى في غير ما حديث والله أعلم .

باب من هزل بشيء فيه ذكر الله والرسول قوله : باب ( من هزل بشئ فيه الله أو القرآن أو الرسول ) أي فقد كفر قوله :وقول الله تعالى : ' 9 : 65 ' " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" . قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره : قال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي وغيره : قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى مثل قرائنا هؤلاء ؟ أرغبنا بطونًا ، وأكذبنا ألسنًا ، وأجبننا عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته . فقال يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق . فقال : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين " وإن رجليه ليسفعان الحجارة ، وما يلتفت إليه رسول الله وهو متعلق بنسعة ناقة رسول الله وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ، ولا أكذب ألسنًا ، ولا أجبن عند اللقاء . فقال رجل في المجلس : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله . فبلغ ذلك رسول الله ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر : وأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله تنكبه الحجارة ، وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، ورسول الله يقول : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " وقد رواه الليث عن هشام بن سعد بنحو هذا . وقال ابن إسحاق : وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية ابن زيد بن عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبنى سلمة يقال له : مخشي بن حمير ، يشيرون إلى رسول الله وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضًا ؟ والله لكأنا بكم غدًا مقرنين في الجبال ، إرتجافًا وترهيبًا للمؤمنين . فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأنا نتلفت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه ، وقال رسول الله فيما بلغني لعمار بن ياسر : أدرك القوم فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بل قلتم كذا وكذا وكذا ، فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله يعتذورن إليه . فقال وديعة بن ثابت ـ ورسول الله واقف على راحلته ـ فجعل يقول وهو آخذ بحقها : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي ، فكان الذي عناه أي بقوله تعالى : " إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " في هذه الآية : مخشي بن حمير فسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدًا لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر . وقال عكرمة في تفسير هذه الآية : كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول : اللهم إني أسمع آية أنا أعني بها تقشعر منها الجلود ، وتجل منها القلوب . اللهم فاجعل وفاتي قتلًا في سبيلك ، لا يقول أحد أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت . قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره . وقوله : " لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " أي بهذه المقالة التي استهزأتم بها " إن نعف عن طائفة منكم " أي مخشي بن حمير " نعذب طائفة " أي لا يعفى عن جميعكم ، ولا بد من عذاب بعضكم " إنهم كانوا مجرمين " أي بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة . انتهى . قال شيخ الإسلام : وقد أمره الله تعالى أن يقول لهم : " قد كفرتم بعد إيمانكم " وقول من يقول : إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولًا بقلوبهم : لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر ، فلا يقال : قد كفرتم بعد إيمانكم ، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر ، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان ، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم ، وهم مع خواصهم ما زالوا كذلك . ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين . وقال رحمه الله في موضع آخر : فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم : إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له ، بل إنما كنا نخوض ونلعب . وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر . ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدرًا بهذا الكلام ، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام ، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه . كقوله تعالى : ' 24 : 47 ـ 52 ' " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك" ـ إلى قوله ـ "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون " فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول ، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا ، فبين أن هذا من لوازم الإيمان ، انتهى . وفيه : بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به . وأشدها خطرًا إرادات القلوب . فهي كالبحر الذي لا ساحل له . ويفيد الخوف من النفاق الأكبر . فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيمانًا قبل أن يقولوا ما قالوه ، كما قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله كلهم يخاف النفاق على نفسه . نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة .

باب قول الله " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته " الآية قوله : باب قول الله تعالى : ' 41 : 50 ' " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته " الآية . ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي . قوله : قال مجاهد : هذا بعملي وأنا محقوق به . وقال ابن عباس : يريد من عندي . وقوله : " قال إنما أوتيته على علم عندي " قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب : وقال آخرون : على علم من الله أني له أهل وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف . وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي افراد المعنى . قال العماد ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى : ' 39 : 49 ' " إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة " يخبر أن الإنسان في حالة الضر يضرع إلى الله تعالى وينيب إليه ويدعوه ، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى و " قال إنما أوتيته على علم " أي لما يعلم الله من استحقاق له ، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا . قال تعالى: " بل هي فتنة" أي ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصى ؟ مع علمنا المتقدم بذلك " بل هي فتنة " أي إختبار " ولكن أكثرهم لا يعلمون " فلهذا يقولون ما يقولون ، ويدعون ما يدعون : " قد قالها الذين من قبلهم " أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأممم " فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم ، وما كانوا يكسبون . كما قال تعالى مخبرًا عن قارون : ' 28 : 76 ـ 78 ' " إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون " وقال تعالى : ' 26 : 138 ' " وقالوا نحن أكثر أموالًا وأولادًا وما نحن بمعذبين " ا هـ .

حديث أبرص وأقرع وأعمى قوله : : وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول : إن ثلاثة .. الحديث . قوله : أخرجاه أي البخاري ومسلم . والناقة العشراء ـ بضم العين وفتح الشين وبالمد ـ هي الحامل . قوله : أنتج وفي رواية فنتج معناه تولي نتاجها ، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة . قوله : ولد هذا هو بتشديد اللام ، أي تولى ولادتها ، وهو بمعنى أنتج في الناقة ، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد ، لكن هذا للحيوان ، وذلك لغيره . وقوله : انقطعت بي الحبال هو بالحاء المهملة والباء الموحدة : هي الأسباب . قوله : لا أجهدك معناه : لا أشق عليك في رد شئ تأخذ ، أو تطلب من مالي ذكره النووي . وهذا حديث عظيم ، وفيه معتبر : فإن الأولين جحدا نعمة الله ، فما أقرا لله بنعمة ، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها ، ولا أديا حق الله فيها ، فحل عليهما السخط . وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله ، ونسبها إلى من أنعم عليه بها ، وأدى حق الله فيها ، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها . وهي الإقرار بالنعمة ونسبتها إلى المنعم ، وبذلها فيما يجب . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له ، والذل والمحبة ، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلًا بها لم يشكرها ، ومن عرفها ولم يعرف بها لم يشكرها أيضًا ، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يحجد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها ، ومن عرف النعمة والمنعم بها ، وأقر بها ولم يجحدها ، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرض به وعنه ، لم يشكره أيضًا ، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها ، وخضع للمنعم بها ، وأحبه ورضى به وعنه ، واستعملها في محابه وطاعته ، فهذا هو الشاكر لها ، فلا بد في الشكر من علم القلب ، وعمل يتبع العلم ، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له . قوله : قذرني الناس بكراهة رؤيته وقربه منهم .

باب قول الله " فلما آتاهما صالحا " الآية

قول الله ' 7 : 190 ' " فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون " . قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية : حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي قال : " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال : سميه عبد الحارث فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث فعاش . وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره " وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به . ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد ابن المثنى عن عبد الصمد به ، وقال : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه . ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعًا ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعًا . وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا سهيل بن يوسف عن عمرو عن الحسن " جعلا له شركاء فيما آتاهما " قال : كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن آدم . وحدثنا بشر بن معاذ قال : حدثني يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادًا فهودوا ونصروا وهذا إسناد صحيح عن الحسن رحمه الله . قال العماد ابن كثير في تفسيره : وأما الآثار : فقال : محمد بن إسحاق عن داود ابن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولادًا فتعبدهم لله وتسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت ، فأتاهما إبليس فقال : أما إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش ، فولدت له رجلًا فسماه عبد الحارث ، ففيه أنزل الله : " هو الذي خلقكم من نفس واحدة " الآية وقال العوفي عن ابن عباس :فأتاهما الشيطان فقال : هل تدريان ما يولد لكما ؟ أم هل تدريان ما يكون ، أبهيمة أم لا ؟ وزين لهما الباطل ، إنه لغوي مبين ، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا ، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويًا ، ومات كما مات الأول . فسميا ولدهما عبد الحارث ، فذلك قوله تعالى : " فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون " . وذكر مثله عن سعيد بن جيير عن ابن عباس . ورواه ابن أبي حاتم . وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، ومن الطبقة الثانية : قتادة والسدى وجماعة من الخلف ، ومن المفسرين والمتأخرين جماعات لا يحصون كثرة . قال العماد ابن كثير : وكأن أصله ـ والله أعلم ـ مأخوذ من أهل الكتاب . قلت : وهذا بعيد جدًا . قوله : قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة ، وما أشبه ذلك ، حاشى عبد المطلب . ابن حزم : هو عالم الأندلس ، أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري . صاحب التصانيف ، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة . وله اثنتان وسبعون سنة . وعبد المطلب هذا هو جد رسول الله . وهو ابن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، وما فوق عدنان مختلف فيه . ولا ريب أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام . حكى رحمه الله اتفاق العلماء على تحريم كل ما عبد لغير الله ، لأنه شرك في الربوبية والإلهية . لأن الخلق كلهم ملك لله وعبيد له ، استعبدهم لعبادته وحده ، وتوحيده في ربوبيته وإلهيته ، فمنهم من عبد الله ووحده في ربوبيته وإلهيته ، ومنهم من أشرك به في إلهيته وأقر له بربوبيته وأسمائه وصفاته ، وأحكامه القدرية جارية عليهم ولا بد ، كما قال تعالى : ' 19 : 93 ' " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " فهذه هي العبودية العامة . وأما العبودية الخاصة فإنها تخص بأهل الإخلاص والطاعة ، كما قال تعالى : " أليس الله بكاف عبده " ونحوها . قوله : حاشى عبد المطلب هذا استثناء من العموم المستفاد من كل وذلك أن تسميته بهذا الإسم لا محذور فيها ، لأن أصله من عبودية الرق ، وذلك أن المطلب أخو هاشم قدم المدينة ، وكان ابن أخيه شيبة هذا قد نشأ في أخواله بني النجار من الخزرج، لأن هاشمًا تزوج فيهم امرأة ، فجاءت منه بهذا الابن ، فلما شب في أخواله ، وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته فقدم به مكة وهو رديفه ، فرآه أهل مكة وقد تغير لونه بالسفر ، فحسبوه عبدًا للمطلب ، فقالوا : هذا عبد المطلب ، فعلق به هذا الإسم وركبه ، فصار لا يذكر ولا يدعى إلا به ، فلم يبق للأصل معنى مقصود . وقد قال النبي  : " أنا ابن عبد المطلب " وقد صار معظمًا في قريش والعرب ، فهو سيد قريش وأشرفهم في جاهليته ، وهو الذي حفر زمزم وصارت له السقاية وفي ذريته من بعده . وعبد الله والد رسول الله أحد بني عبد المطلب ، وتوفي في حياة أبيه . قال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتاب الدرة السنية في مولد خير البرية : كان سن أبيه عبد الله حين حملت منه آمنة برسول الله نحو ثمانية عشر عامًا ، ثم ذهب إلى المدينة ليمتار منها تمرًا لأهله فمات بها عند أخواله بني عدي بن النجار ، والنبي صلى الله عليه حمل على الصحيح . انتهى . قلت : وصار النبي لما أوضعته أمه في كفالة جده عبد المطلب . قال الحافظ الذهبي : وتوفي أبوه عبد الله وللنبي ثمانية وعشرون شهرًا ، وقيل أقل من ذلك ، وقيل : وهو حمل . توفي بالمدينة ، وكان قد قدمها ليمتار تمرًا ، وقيل : بل مر بها راجعًا من الشام ، وعاش خمسة وعشرين سنة . قال الواقدي : وذلك أثبت الأقاويل في سنه ووفاته . وتوفيت أمه آمنة بالأبواء وهي راجعة به إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار ، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم ، وقيل : ابن أربع سنين . فلما ماتت أمه حملته أم أيمن مولاته إلى جده ، فكان في كفالته إلى أن توفي جده ، وللنبي ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبو طالب ا هـ . قوله : وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قد قدمنا نظيره عن ابن عباس في المعنى . قوله : وله بسند صحيح عن قتادة قال : شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته قال شيخنا رحمه الله : إن هذا الشرك في مجرد تسمية ، لم يقصدا حقيقته التي يريدها إبليس ، وهو محمل حسن يبين أن ما وقع من الأبوين من تسميتهما ابنهما عبد الحارث إنما هو مجرد تسمية لم يقصدا تعبيده لغير الله وهذا معنى قول قتادة : شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته .

قول الله " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " قوله : باب

قول الله تعالى : ' 7 : 180 ' " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " الآية . عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " إن لله تسعة وتسعين اسمًا ، مائة إلا واحدًا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر " أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان ابن عيينة . ورواه البخاري عن أبي اليمان عن أبي الزناد عن الأعرج عنه . وأخرجه الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بسنده مثله . وزار بعد قوله : " يحب الوتر ـ : هو الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصور ، القهار ، الغفار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدىء ، المعيد ، المحيى ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المعطي ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور " . ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب . وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث . الذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه . وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك . أي أنهم جمعوها من القرآن كما روى عن جعفر بن محمد وسفيان وأبي زيد اللغوي والله أعلم . هذا ما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره . ثم قال : ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في تسعة وتسعين . بدليل ما رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله قال : " ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك بن عبدك ، بن أمتك ، ناصيت بيدك . ماض في حكمك . عدل في قضاؤك . أسألك اللهم بكل اسم هو لك . سميت به نفسك. أو أنزلته في كتابك . أو علمته أحدًا من خلقك . أو استأثرت به في علم الغيب عنك . أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري . وجلاء حزني . وذهاب همي وغمى . إلا أذهب الله همه وحزنه . وأبدله مكانه فرحًا فقيل : يا رسول الله : ألا نتعلهما ؟ فقال : بلى . ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها " وقد أخرجه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه .

معنى يلحدون في أسمائه وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " قال : إلحاد الملحدين : أن دعوا اللات في أسماء الله وقال ابن جريج عن مجاهد : " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " قال : اشتقوا اللات من الله . واشتقوا العزى من العزيز . وقال قتادة : يلحدون : يشركون وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الإلحاد التكذيب . وأصل الإلحاد في كلام العرب : العدول عن القصد . والميل والجور والإنحراف . ومنه اللحد في القبر . لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإشـ ـراك والتعطيل والنكران وقال رحمه الله تعالى : فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها . وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات . وإما أن يجعلها أسماء لهذه المخلوقات كإلحاد أهل الاتحاد . فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها . حتى قال زعيمهم : هو المسمى بمعنى كل اسم ممدوح عقلًا وشرعًا وعرفًا . وبكل اسم مذموم عقلًا وشرعًا وعرفًا . تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ، انتهى . قتل : والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة . متقدمهم ومتأخرهم : إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله على ما يليق بجلال الله وعظمته . إثباتًا بلا تمثيل . وتنزيهًا بلا تعطيل . كما قال تعالى : ' 42 : 11 ' " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه ومثاله . فكما أنه يجب العلم بأن الله ذاتًا حقيقة لا تشبه شيئًا من ذوات المخلوقين ، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئًا من صفات المخلوقين ، فمن جحد شيئًا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين . كما قال تعالى : ' 4 : 115 ' " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا " . وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أيضًا : ( فائدة جليلة ) ما يجري صفة أو خبرًا على الرب تبارك وتعالى أقسام : أحدها : ما يرجع إلى نفس الذات ، كقولك : ذات وموجود . الثاني : ما يرجع صفاته ونعوته ، كالعليم والقدير ، والسميع والبصير . الثالث : ما يرجع إلى أفعاله . كالخالق والرازق . الرابع : التنزيه المحض . ولا بد من تضمنه ثبوتًا ، إذا لا كمال في العدم المحض ، كالقدوس والسلام . الخامس : ـ ولم يذكره أكثر الناس ـ وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة ، بل دال على معان ، نحو المجيد العظيم الصمد . فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة ، من صفات الكمال ، ولفظه يدل على هذا . فإنه موضوع للسعة والزيادة والكثرة ، فمنه استمجد المرخ والعفار وأمجد الناقة ، علفها . ومنه رب العرش المجيد صفة العرش لسعته وعظمته وشرفه . وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنًا بطلب الصلاة من الله على رسوله كما علمناه لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء ، وكثرته ودوامه . فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه ، كما تقول : اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ، فهو راجع إلى التوسل إليه بأسمائه وصفاته . وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه . ومنه الحديث الذي في الترمذي : " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " ومنه : " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام " فهذا سؤال له وتوسل إليه بحمده وأنه لا إله إلا هو المنان . فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته . وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعًا عند المسؤول . وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد . السادس : صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر . وذكل قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد ، الغفور القدير ، الحميد المجيد ، وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن . فإن الغني صفة كمال و الحمد كذلك ، واجتماع الغني مع الحمد كمال آخر ، فله ثناء من غناه من حمده ، وثناء من اجتماعهما ، وكذلك الغفور القدير ، والحميد المجيد ، والعزيز الحكيم ، فتأمله فإنه أشرف المعارف .

باب : لا يقال السلام على الله قوله : ( باب لا يقال : السلام على الله ) . قوله : في الصحيح عن ابن مسعود ـ إلخ هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " كنا إذا جلسنا مع رسول الله في الصلاة قلنا : السلام على الله قبل عباده ، السلام على فلان وفلان ـ الحديث " وفي آخره ذكر التشهد الآخير . رواه الترمذي من حديث الأسود بن يزيد عن ابن مسعود . وذكر في الحديث سبب النهي عن ذلك بقوله : " فإن الله هو السلام ومنه السلام " وقد كان النبي إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثًا ويقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " . وفي الحديث : "إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى " وفي التنزيل ما يدل على أن الرب تبارك وتعالى يسلم عليهم في الجنة . كما قال تعالى : ' 36 : 58 ' " سلام قولًا من رب رحيم " . ومعنى قوله : إن الله هو السلام إن الله سالم من كل نقص ومن كل تمثيل . فهو الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل عيب ونقص . قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد : السلام اسم مصدر . وهو من ألفاظ الدعاء . يتضمن الإنشاء والإخبار ، فجهة الخبر فيه لا تناقض الجهة الإنشائية . وهو معنى السلام المطلوب عند التحية . وفيه قولان مشهوران : الأول : أن السلام هنا هو الله عز وجل . ومعنى الكلام : نزلت بركته عليكم ونحو ذلك . فاختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء . الثاني : أن السلام مصدر بمعنى السلامة . وهو المطلوب المدعو به عند التحية ومن حجة أصحاب القول : أنه يأتي منكرًا ، فيقول المسلم : سلام عليكم ولو كان اسمًا من أسماء الله لم يستعمل كذلك . ومن حجتهم : أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى ، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرًا ودعاء . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : وفصل الخطاب أن يقال : الحق في مجموع القولين . فكل منهما بعض الحق ، والصواب في مجموعهما . وإنما يتبين ذلك بقاعدة . وهي : أن حق من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل بالاسم المقتضى لذلك المطلوب ، المناسب لحصوله ، حتى إن الداعي متشفع إلى الله تعالى متوسل به إليه . فإذا قال : رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور . فقد سأله أمرين وتوسل إليه باسمين من أسمائه ، مقتضيين لحصول مطلوبه . وقال لأبي بكر رضي الله عنه وقد سأله ما يدعو به " قل : اللهم أني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مفغرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل ، أتى في طلبها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى وهو السلام الذي تطلب منه السلامة . فتضمن لفظ السلام معنين : أحدهما : ذكر الله، والثاني: طلب السلامة . وهو مقصود المسلم . فقد تضمن سلام عليكم اسمًا من اسماء الله وطلب السلامة منه . فتأمل هذه الفائدة . وحقيقته : البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب . وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه ، فمن ذاك قولهم : سلمك الله ، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط رب سلم سلم ومنه سلم الشئ لفلان ، أي خلص له وحده . قال تعالى : ' 39 : 29 ' " ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء متشاكسون ورجلًا سلمًا لرجل " أي خالصًا له وحده لا يملكه معه غيره . ومنه السلم ضد الحرب : لأن كل واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر ، ولهذا بنى فيه على المفاعلة ، فقيل : المسالمة مثل المشاركة . ومنه القلب السليم وهو النفي من الدغل والعيب . وحقيقته : الذي قد سلم لله وحده ، فخلص من دغل الشرك وغله ، ودغل الذنوب والمخالفات ، فهو مستقيم على صدق حبه وحسن معاملته . وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذاب الله والفوز بكرامته . ومنه أخذ الإسلام ، فإنه من هذه المادة ، لأنه الاستسلام والانقياد لله ، والتخلص من شوائب الشرك ، فسلم لربه وخلص له ، كالعبد الذي سلم لمولاه ليس له فيه شركاء متشاكسون . ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه وللمشرك به .

قول : اللهم اغفر لي إن شئت قوله : باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت يعني أن ذلك لا يجوز لورود النهي عنه في حديث الباب . قوله : في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له " بخلاف العبد ، فإنه قد يعطي السائل مسألته . لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه ، فيعطيه مسألته وهو كاره . فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسؤول ، مخافة أن يعطيه وهو كاره ، بخلاف رب العالمين ، فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه ، وكمال جوده وكرمه ، وكلهم فقير إليه ، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين وعطاؤه كلام . وفي الحديث : " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سخاء الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه ، وفي يده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه " يعطي تعالى لحكمة ويمنع لحكمة وهو الحكيم الخبير . فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة ، فإنه لا يعطي عبده شيئًا عن كراهة ولا عن عظم مسألة . وقد قال بعض الشعراء فيمن يمدحه : ويعظم في عين الصغير صغارها ويصغر في عين العظيم العظائم وهذا بالنسبة إلى ما في نفوس أرباب الدنيا ، وإلا فإن العبد يعطي تارة ويمنع أكثر ، ويعطي كرهًا ، والبخل عليه أغلب . وبالنسبة إلى حاله هذه فليس عطاؤه بعظيم ، وأما ما يعطيه الله تعالى عباده فهو دائم مستمر ، يجود بالنوال قبل السؤال من حين وضعت النطفة في الرحم . فنعمه على الجنين في بطن أمه دارة ، يربيه أحسن تربية ، فإذا وضعته أمه عطف عليه والديه ورباه بنعمة حتى يبلغ أشد ، يتقلب في نعم الله مدة حياته ، فإن كانت حياته على الإيمان والتقوى ازدادت نعم الله تعالى عليه إذا توفاه أضعاف أضعاف ما كان عليه في الدنيا من النعم التي لا يقدر قدرها إلا الله ، مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين . وكل ما يناله العبد في الدنيا من النعم وإن كان بعضها على يد مخلوق فهو بإذن الله وإرادته وإحسانه إلى عبده ، فالله تعالى هو المحمود على النعم كلها ، فهو الذي شاءها وقدرها وأجراها عن كرمه وجوده وفضله . فله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن . قال تعالى : ' 16 : 53 ' " وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " وقد يمنع سبحانه عبده إذا سأله لحكمة وعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع ، وقد يؤخر ما سأله عبده لوقته المقدر ، أو ليعطيه أكثر . فتبارك الله رب العالمين . وقوله :ولمسلم : وليعظم الرغبة أي في سؤاله ربه حاجته ، فإنه يعطي العظائم كرمًا وجودًا وإحسانًا . فالله تعالى لا يتعاظمه شئ أعطاه ، أي ليس شئ عنده بعظيم ، وإن عظم في نفس المخلوق . لأن سائل المخلوق لا يسأله إلا ما يهون عليه بذله بخلاف رب العالمين ، فإن عطاءه كلام ' 36 : 82 ' " إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون " فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ، لا إله غيره ولا رب سواه .

لا يقول : عبدي وأمتي قوله : باب ( لا يقول : عبدي وأمتي ) ذكر الحديث الذي في الصحيح : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لا يقولن أحدكم : أطعم ربك . وضيء ربك . وليقل : سيدي ومولاي . ولا يقل أحدكم : عبدي وأمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي " . هذه الألفاظ المنهى عنها . وإن كانت تطلق لغة . فالنبي نهى عنها تحقيقًا للتوحيد وسدًا لذرائع الشرك لما فيها من التشريك في اللفظ . لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم . فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم . فينهى عنه لذلك . وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى . وإنما المعنى أن هذا مالك له . فيطلق عليه هذا اللفظ بهذا الإعتبار . فالنهي عنه حسمًا لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق . وتحقيقًا للتوحيد . وبعدًا عن الشرك حتى في اللفظ . وهذا أحسن مقاصد الشريعة . لما فيه من تعظيم الرب تعالى ، وبعده عن مشابهة المخلوقين ، فأرشدهم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ . وهو قوله سيدي ومولاي وكذا قوله : ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي لأن العبيد عبيد الله . والإماء إماء الله . قال الله تعالى : ' 19 : 93 ' " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ ، فنهاهم عن ذلك تعظيمًا لله تعالى وأدبًا وبعدًا عن الشرك وتحقيقًا للتوحيد ، وأرشدهم إلى أن يقولوا : فتاي وفتاتي وغلامي وهذا من باب حماية المصطفى جناب التوحيد ، فقد بلغ أمته كل ما فيه لهم نفع ، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين . فلا خير إلا دلهم عليه ، خصوصًا في تحقيق التوحيد ، ولا شر إلا حذرهم منه ، خصوصًا ما يقرب من الشرك لفظًا وإن لم يقصد به . وبالله التوفيق .

لا يرد من سأل الله قوله : باب ( لا يرد من سأل بالله ) ظاهر الحديث النهي عن رد السائل إذا سأل بالله . لكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيل بحسب ما ورد في الكتاب والسنة ، فيجب إذا سأل السائل ما له فيه حق كبيت المال أن يجاب فيعطى منه على قدر حاجته وما يستحقه وجوبًا ، وكذلك إذا سأل المحتاج من في ماله فضل فيجب أن يعطيه على حسب حاله ومسألته ، خصوصًا إذا سأل من لا فضل عنده ، فيستحب أن يعطيه على قدر حال المسؤول ما لا يضر به ولا يضر عائلته ، وإن كان مضطرًا وجب أن يعطيه ما يدفع ضرورته . ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين ، وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم وضدهما من البخل والشح . فالأول : محمود في الكتاب والسنة . والثاني : مذموم فيهما . وقد حث الله تعالى عباده على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه وكثرة ثوابه . قال الله تعالى : ' 2 : 267 ، 268 ' " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد * الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " وقال تعالى : ' 55 : 7 ' " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " وذلك الإنفاق من خصال البر المذكورة في قوله تعالى : ' 2 : 177 ' " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين " الآية فذكره بعد ذكر أصول الإيمان وقبل ذكر الصلاة . ذلك ـ والله أعلم ـ لتعدي نفعه . وذكره تعالى في الأعمال التي أمر الله بها عباده . وتعبدهم بها ووعدهم عليها الأجر العظيم . قال تعالى : ' 33 : 35 ' " إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما " . وكان النبي يحث أصحابه على الصدقة حتى النساء . نصحًا للأمة وحثًا لهم على ما ينفعهم عاجلًا وآجلًا . وقد أثنى الله سبحانه على الأنصار رضي الله عنهم بالإيثار ، فقال تعالى : ' 59 : 9 ' " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " والإيثار من أفضل خصال المؤمن كما تفيده هذه الآية الكريمة ، وقد قال تعالى: ' 76 : 8، 9 ' " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " . والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جدًا ، ومن كان سعيه للآخرة رغب في هذا ورغب ، بالله التوفيق . قوله : من دعاكم فأجيبوه هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض : إجابة دعوة المسلم ، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين .

من صنع لكم معروفًا فكافئون قوله : ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه ندبهم على المكافأة على المعروف ، فإن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله ورسوله ، كما دل عليه هذا الحديث ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئام من الناس ، وبعض اللئام يكافىء على الإحسان بالإساءة ، كما يقع كثيرًا من بعضهم . نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، بخلاف حال أهل التقوى والإيمان فإنهم يدفعون السيئة بالحسنة طاعة لله ومحبة لما يحبه لهم ويرضاه ، كما قال تعالى : ' 23 : 96 ـ 98 ' " ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون " وقال تعالى : ' 41 : 34 ، 35 ' " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " وهم الذين سبقت لهم من الله تعالى السعادة . قوله : فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له أرشدهم إلى أن الدعاء في حق من لم يجد المكافأة مكافأة للمعروف : فيدعو له على حسب معروفه . قوله : تروا ـ بضم التاء تظنوا ـ أنكم قد كافأتموه ويحتمل أنها مفتوحة بمعنى تعلموا . ويؤيده ما في سنن أبي داود من حديث ابن عمر : حتى تعلموا فتعين الثاني للتصريح به . وفيه : من سألكم بالله فأجيبوه أي إلى ما سأل . فيكون بمعنى : أعطوه ، وعند أبي داود في رواية أبي نهيك عن ابن عباس : من سألكم بوجه الله فأعطوه وفي رواية عبيد الله القواريري لهذا الحديث ومن سألكم بالله كما في حديث ابن عمر .

لا يسأل بوحه الله إلا الجنة قوله : باب ( لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ) ذكر فيه حديث جابر ـ رواه أبو داود عن جابر قال : قال رسول الله  : " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة " . وهنا سؤال : وهو أنه قد ورد في دعاء النبي عند منصرفه من الطائف حين كذبه أهل الطائف ومن في الطائف من أهل مكة ، فدعا النبي بالدعاء المأثور : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يك بكل غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي " وفي آخره : " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة . أن يحل على غضبك ، أو ينزل بي سخطك . لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله " . والحديث المروي في الأذكار : " اللهم أنت أحق من ذكر وأحق من عبد ـ وفي آخره ـ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض " وفي حديث آخر : " أعوذ بوجه الله الكريم ، وباسم الله العظيم وبكلماته التامة من شر السامة واللامة ، ومن شر ما خلقت ، أي رب ، ومن شر هذا اليوم ومن شر ما بعده ، ومن شر الدنيا والآخرة " . وأمثال ذلك في الأحاديث المرفوعة بالأسانيد الصحيحة أو الحسان . فالجواب : أن ما ورد من ذلك فهو في سؤال ما يقرب إلى الجنة أو ما يمنعه من الأعمال التي تمنعه من الجنة ، فيكون قد سأل بوجه الله وبنور وجهه ما يقرب إلى الجنة كما في الحديث الصحيح : " اللهم إن أسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل " بخلاف ما يختص بالدنيا كسؤال المال والرزق والسعة في المعيشة رغبة في الدنيا ، مع قطع النظر عن كونه أراد بذلك ما يعينه على عمل الآخرة . فلا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل حوائج دنياه بوجه الله . وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث . كما لا يخفى . والله أعلم . وحديث الباب من جملة الأدلة المتواترة في الكتاب والسنة على إثبات الوجه لله تعالى . فإنه صفة كمال : وسلبه غاية النقص والتشبيه بالناقصات . كسلبهم جميع الصفات أو بعضها . فوقعوا في أعظم مما فروا منه . تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا . وطريقة أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا . الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله في سنته على ما يليق بجلال الله وعظمته ، فيثبتون له ما أثبته لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله ، وينفون عنه مشابهة المخلوق . فكما أن ذات الرب لا تشبه الذوات فصفاته كذلك لا تشبه الصفات ، فمن نفاها فقد سلبه الكمال .

ما جاء في اللهو قوله : باب ( ما جاء في اللهو ) أي من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة ، كالمصائب إذا جرى بها القدر لما فيه من الإشعار بعد الصبر والأسى على ما فات ، مما لا يمكن استدراكه ، فالواجب التسليم للقدر ، والقيام بالعبودية الواجبة وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره . والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة . وأدخل المصنف رحمه الله أداة التعريف على لو وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفًا كنظائرها ، لأن المراد هذا اللفظ كما قال الشاعر : رأيت الوليد بن اليزيد مباركًا شديدًا بأعباء الخلافة كأهله وقوله : وقول الله عز وجل : ' 3 : 154 ' " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " . قال بعض المنافقين يوم أحد ، لخوفهم وجزعهم وخورهم . قال بن إسحاق : فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله ابن الزبير قال : قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم . فما منا رجل إلا ذقنه في صدره ، قال : فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم : لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ها هنا . فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله عز وجل : " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " لقول معتب رواه ابن أبي حاتم . قال الله تعالى : " قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " أي هذا قدر مقدر من الله عز وجل وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه . وقوله : ' 3 : 96 ' " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " الآية . قال العماد ابن كثير : الذين قالوا لإخوانهم ، وقعدوا : لو أطاعونا ما قتلوا أي لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل . قال الله تعالى : " قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " أي إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت ، فينبغي لكم أن لا تموتوا ، والموت لا بد آت إليكم ، ولو كنتم في بروج مشيدة ، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين . قال مجاهد عن جابر بن عبد الله : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه يعني أنه هو الذي قال ذلك . وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط سيفي وآخذه ويسقط وآخذه . قال : والطائفة الأخرى ـ المنافقون ـ ليس لها هم إلا أنفسهم ، أجبن قوم ، وأرعبه ، وأخذله للحق " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " إنما هم أهل ريب وشك بالله عز وجل . قوله : قد أهمتهم أنفسهم يعني لا يغشاهم النعاس عن القلق والجزع والخوف : " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " .

ابن تيمية : كلامه على القدر قال شيخ الإسلام رحمه الله : لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال : فلما انخذل يوم أحد وقال : يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان ؟ أو كما قال ... انخذل معه خلق كثير ، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك . فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان ، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل . فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام، ولم يكونوا من المؤمنين حقًا الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة ، ولا من المنافقين حقًا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة . وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيرًا وينافق كثير منهم . ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبًا ، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة . وإذا كانت العافية ، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين ، وهم مؤمنون بالرسل باطنًا وظاهرًا ، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة ، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم وهؤلاء من الذين قالوا : آمنا ، فقيل لهم : " لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " أي الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقًا ، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى ، كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب ، انتهى . قوله : وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا ما فيه عبرة . قلت : ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو ، من إعانتهم العدو على المسلمين ، والطعن في الدين ، وإظهار العداوة والشماتة ، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام ، وذهاب أهله ، وغير ذلك مما يطول ذكره . والله المستعان . قوله : في الصحيح أي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : احرص ـ الحديث . اختصر المصنف رحمه الله هذا الحديث ، وتمامه : عن النبي أنه قال : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . اخرص على ما ينفعك " أي في معاشك ومعادك . والمراد الحرص على فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وأخراه مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة ، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعينًا بالله وحده دون كل ما سواه ليتم له سببه وينفعه . ويكون اعتماده على الله تعالى في ذلك ، لأن الله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب ، ولا ينفعه سبب إلا إذا نفعه الله به ، فيكون اعتماده في فعل السبب على الله تعالى . ففعل السبب سنة ، والتوكل على الله توحيد . فإذا جمع بينهما تم له مراده بإذن الله . قوله : ولا تعجزن النون نون التأكيد الخفيفة . نهاه عن العجز وذمه ، والعجز مذموم شرعًا وعقلًا ، وفي الحديث : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " فأرشده في هذا الحديث إذا أصابه ما يكره أن لا يقول : لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا . ولكن يقول : قدر الله وما شاء فعل ، أي هذا قدر الله والواجب التسليم للقدر ، والرضى به ، واحتساب الثواب عليه . قوله : فإن لو تفتح عمل الشيطان أي ما فيه من التأسف على ما فات والتحسر ولوم القدر ، وذلك ينافي الصبر والرضى ، والصبر واجب ، والإيمان بالقدر فرض ، قال تعالى : ' 57 : 22 ، 23 ' " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور " . قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وقال الإمام أحمد : ذكر الله الصبر في تسعين موضعًا من القرآن . قال شيخ الإسلام رحمه الله ـ وذكر حديث الباب بتمامه ـ ثم قال في معناه : لا تعجز عن مأمور ، ولا تجزع عن مقدور ، ومن الناس من يجمع كلا الشرين ، فأمر النبي بالحرص على النافع والاستعانة بالله ، والأمر يقتضي الوجوب ، وإلا فالاستحباب ، ونهى عن العجز وقال : إن الله يلوم على العجز والعاجز ضد الذين هم ينتصرون فالأمر بالصبر والنهي عن العجز مأمور به في مواضع كثيرة ، وذلك لأن الإنسان بين أمرين : أمر أمر بفعله ، فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين الله ولا يعجز ، وأمر أصيب به من غير فعله . فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه ، ولهذا قال بعض العقلاء ـ ابن المقفع أو غيره ـ الأمور أمران : أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه ، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه . وهذا في جميع الأمور لكن عند المؤمن : الذي فيه حيلة هو ما أمره الله به ، وأحبه له . فإن الله لم يأمره إلا بما فيه حيلة له ، إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ، وقد أمره بكل خير له فيه حيلة . وما لا حيلة له فيه ما أصيب به من غير فعله . واسم الحسنات والسيئات يتناول قسمين : فالأفعال مثل قوله تعالى : ' 6 : 160 ' " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " ومثل قوله تعالى : ' 17 : 7 ' " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها " ومثل قوله تعالى : ' 42 : 40 ' " وجزاء سيئة سيئة مثلها " ومثل قوله تعالى : ' 2 : 81 ' " بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته " إلى آيات كثيرة من هذا الجنس والله أعلم . والقسم الثاني : ما يجري على العبد بغير فعله من النعم والمصائب . كما قال تعالى : ' 4 : 79 ' " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " والآية قبلها ، فالحسنة في هاتين الآيتين : النعم، والسيئة : المصائب ، هذا هو الثاني من القسمين . وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم . ثم قال رحمه الله : فإن الإنسان ليس مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال ولكن عندما يجري عليه المصائب التي لا حيلة له في دفعها ، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه وارض وسلم . قال تعالى : ' 64 : 11 ' " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه " ولهذا قال آدم لموسى : أتلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين سنة ؟ فحج أدم موسى لأن موسى قال له : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله ، لا لأجل كونها ذنبًا . وأما كونها لأجل الذنب ـ كما يظنه طوائف من الناس ـ فليس مرادًا بالحديث ، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب . والتائب من الذنب كمن لا ذنب له . ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس ، انتهى . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : فتضمن هذا الحديث أصولًا عظيمة من أصول الإيمان . أحدها : أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقة . الثاني : أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها ، فهو القوي ويجب المؤمن القوي ، وهو وتر ويحب الوتر ، وجميل يحب الجمال ، وعليم يحب العلماء ، ونظيف يحب النظافة ، ومؤمن يحب المؤمنين ، ومحسن يحب المحسنين ، وصابر يحب الصابرين ، وشاكر يحب الشاكرين . ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل ، فيحب بعضهم أكثر من بعض . ومنها : أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده ، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع . فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصًا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه أو فعل ما ينفعه من غير حرص فإنه من الكمال بقدر ما فاته من ذلك ، فالخير كله في الحرص على ما ينفع . ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام : " إياك نعبد وإياك نستعين " فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى . ولا يتم إلا بمعونته فأمره أن يعبده وأن يستعين به . فالحريص على ما ينفعه ، المستعين بالله ضد العاجز ، فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو أعظم أسباب حصوله ، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه . فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان : عجز . وهو مفتاح عمل الشيطان ، فيلقيه العجز إلى لو ولا فائدة من لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن ، وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح ، وأمره بالحالة الثانية . وهي النظر إلى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد ، فلم يبق له ها هنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المقدور ، وإن انتفت امتنع وجوده ، ولهذا قال : فإن غلبك أمر فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين : حال حصول المطلوب ، وحالة فواته ، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغنى عنه العبد أبدًا ، بل هو أشد إليه ضرورة ، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية ظاهرًا وباطنًا في حالتي المطلوب وعدمه ، وبالله التوفيق .

النهي عن سب الريح وما يقول عند هياج الريح قوله : باب ( النهي عن سب الريح ) قوله : عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها ، وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به " . صححه الترمذي . لأنها ـ أي الريح ـ إنما تهب عن إيجاد الله تعالى وخلقه لها وأمره . لأنه هو الذي أوجدها وأمرها ، فمسبتها مسبة للفاعل ، وهو الله سبحانه . كما تقدم في النهي عن سب الدهر وهذا يشبهه ، ولا يفعله إلا أهل الجهل بالله ودينه وبما شرعه لعباده ، فنهى أهل الإيمان عما يقوله أهل الجهل والجفاء وأرشدهم إلى ما يجب أن يقال عند هبوب الرياح فقال : إذا رأيتم ما تكرهون فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به يعني إذا رأيتم ما تكرهون من الريح إذا هبت فارجعوا إلى ربكم بالتوحيد وقولوا " اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها ، وخير ما أمرت به . ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به " ففي هذا عبودية لله وطاعة له ولرسوله ، واستدفاع للشرور به ، وتعرض لفضله ونعمته وهذه حال أهل التوحيد والإيمان ، خلافًا لحال أهل الفسوق والعصيان الذين حرموا ذوق طعم التوحيد الذي هو حقيقة الإيمان .

ما يقول عند هياج الريح

قول الله " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " قوله : باب قول الله تعالى : ' 3 : 154 ' " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله " الآية . وهذه الآية ذكرها الله في سياق قوله تعالى في ذكر وقعة أحد " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا يغشى طائفة منكم " يعني أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق ، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله وينجز له مأموله ، ولهذا قال: " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " يعني لا يغشاهم النعاس من الجزع والقلق والخوف " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " كما قال تعالى : ' 48 : 12 ' " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدًا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قومًا بورًا " وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة ظنوا أنها الفيصلة ، وأن الإسلام قد باد وأهله . وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة ، عن ابن جريج قال : قيل لعبد الله بن أبي : قتل بنو الخزرج اليوم ؟ قال : وهل لنا من الأمور من شئ ؟ .

قول بن القيم : في ظن السوء بالله والذين يظنونه قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد : وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل وأنه يسلمه للقتل ، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه . ففسر بإنكار الحكمة . وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسول الله وأن يظهره على الدين كله . وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح حيث يقول : ' 48 : 6 ' " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرًا " وإنما كان هذا هو ظن السوء وظن الجاهلية ـ وهو المنسوب إلى أهل الجهل ـ وظن غير الحق ، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء ، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم . ولجنده بأنهم هم الغالبون . فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم ، وأنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق إدالة مستقرة ، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالًا لا يقوم بعده أبدًا . فقد ظن بالله ظن السوء ، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته ، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده ، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به . فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله . وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضاءه وقدره . فما عرفه ولاعرف ربوبيته وملكه وعظمته . وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها ، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمته وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها . وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها ، لا يخرج تقديرها عن الحكمة ، لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له ، فما قدرها سدى ولا شاءها عبثًا ولا خلقها باطلًا : '48 : 27 ' " ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " . وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم ، وفيما يفعله بغيره ، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته ، وعرف موجب حكمته وحمده . فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء . ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوى بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي ، لا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملًا كالأنعام فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله ، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصًا لوجهه على امتثال أمره ، ويبطله عليه بلا سبب من العبد ، وأنه يعاقب بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله ، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده ، وأنه يحسن منه كل شئ حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم في اسفل السافلين ، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين ، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء ، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق ، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر . فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل ، وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزًا بعيدة ، وأشار إليه إشارة ملغزة ولم يصرح به وصرح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل ، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه ، وتأويله على غير تأويله ، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان ، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه . بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم ، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل ، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان . فقد ظن به ظن السوء ، فإنه إن قال : إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز ، وإن قال إنه قادر ولم يبين ، وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم ، بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد . فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء . ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله . وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق فهذا أسوأ الظن بالله . فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية . ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه ، فقد ظن بالله ظن السوء . ومن ظن أنه كان معطلًا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل ، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل ثم صار قادرًا عليه بعد أن لم يكن قادرًا ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ، ولا عدد السموات ولا النجوم ، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم ، ولا يعلم شيئًا من الموجودات في الأعيان ، فقد ظن بهم ظن السوء . ومن ظن به أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ، ولا كلام يقوم به ، وأنه لا يكلم أحدًا من الخلق ولا يتكلم أبدًا ، ولا قال ، ولا يقول ، ولا له أمر ولا نهي يقوم به ، فقد ظن بهم ظن السوء . ومن ظن به أنه ليس فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين ، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها ، وأنه أسفل كما أنه أعلى ، وأنه من قال : سبحان ربي الأسفل كان كمن قال : سبحان ربي الأعلى . فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه . ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح ز فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى ، ولا يغضب ولا يسخط ، ولا يوالي ولا يعادي ، ولا يقرب من أحد من خلقه ، ولا يقرب منه أحد . وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين . فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه يسوي بين المتضادين ، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه ، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها ، فيخلد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة ، ويحبط بها جميع طاعاته ويخلده في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين ، واستنفذ ساعات عمره في مساخطة ومعاداة رسله ودينه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أن له ولدًا أو شريكًا ، أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويتوصلون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم ، فيدعونهم ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه . ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته ، كما يناله بطاعته والتقرب إليه ، فقد ظن به خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته وهو من ظن السوء . ومن ظن به أنه إذا ترك شيئًا من أجله لم يعوضه خيرًا منه ، أو من فعل شيئًا لأجله لم يعطه أفضل منه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله ، فقد ظن به ظن السوء . وظن به خلاف ما هو أهله . ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه ، وسأله ذلك في دعائه ، فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده ، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله . ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه ثم اتخذ من دونه أولياء ودعا من دونه ملكًا أو بشرًا حيًا أو ميتًا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه ، فقد ظن به ظن السوء . فأكثر الخلق بل كلهم ـ إلا من شاء الله ـ يظنون بالله غيره الحق وظن السوء ، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه . ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك ، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به . ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأي ذلك فيها كامنًا كمون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا وتعتبًا على القدر وملامة له واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به ، وإنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا . فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك ؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيًا فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء ، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر ، المركبة على الجهل والظلم . فهي أولى بظن السوء من أحكام الحاكمين ، وأعدل العادلين ، وأرحم الراحمين الغني الحميد ، الذي له الغني التام ، والحمد التام ، والحكمة التامة ، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه ، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه وصفاته كذلك وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل ، وأسماؤه كلها حسنى . فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيرًا فكيف بظالم جان جهول وقل : يا نفس مأوى كل سوء أترجو الخير من ميت بخيل وظن بنفسك السوأى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل وما بك من تقي فيها وخير فتلك مواهب الرب الجليل وليس لها ولا منها ولكن من الرحمن فاشكر للدليل قوله : " الظانين بالله ظن السوء " قال ابن جرير في تفسيره " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء " الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك ، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به . وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع . يقول تعالى ذكره : على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء . يعني دائرة العذاب تدور عليهم به . واختلف القراء في قراءة ذلك : فقرأته عامة قراء الكوفة دائرة السوء بفتح السين . وقرأ بعض قراء البصرة دائرة السوء بالضم . وكان الفراء يقول : الفتح أفشى في السين . وقل ما تقول العرب دائرة السوء بضم السين . وقوله : " وغضب الله عليهم ولعنهم " يعني ونالهم الله بغضب منه ولعنهم . يقول : وأبعدهم فأقصاهم من رحمته " وأعد لهم جهنم " يقول : وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة " وساءت مصيرًا " يقول : وساءت جهنم منزلًا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات . وقال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء " أي يتهمون الله في حكمه ويظنون بالرسول وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية . ولهذا قال تعالى : " عليهم دائرة السوء " وذكر في معنى الآية الأخرى نحوًا مما ذكره ابن جرير رحمهما الله تعالى : قوله : قال ابن القيم رحمه الله تعالى الذي ذكره المصنف في المتن قدمته لاندراجه في كلامه الذي سقته من أوله إلى آخره.

ما جاء في منكري القدر قوله : باب ( ما جاء في منكري القدر ) أي من الوعيد الشديد ونحو ذلك . أخرج أبو داود عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : " القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم . وإن ماتوا فلا تشهدوهم " . وعن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة ـ وهو ابن اليمان ـ رضي الله عنهما قال : قال رسول الله  : " لكل أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال " . قوله : وقول ابن عمر : والذي نفسي بيده ... إلخ حديث ابن عمر أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين ، أو معتمرين . فقلنا : لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ؟ فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلًا في المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى ، فقلت : أبا عبد الرحمن ، إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرآون القرآن ، ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف ، فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء ، وأنهم مني برآء . والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه ، حتى يؤمن بالقدر . ثم قال حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " بينما نحن جلوس عند رسول الله إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد . حتى جلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه . وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام . قال رسول الله  : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا . قال : صدقت . فعجبنا له يسأله ويصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان . قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرني عن أماراتها قال : أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان . قال فانطلق . فلبث ثلاثًا ، وفي رواية مليًا ، ثم قال يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه جبريل أتاكم يعلكم دينكم " . ففي هذا الحديث أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة ، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد ترك أصلًا من أصول الدين وجحده ، فيشبه من قال الله فيهم : ' 2 : 85 ' " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " الآية . قوله : وعن عبادة قد تقدم ذكره في باب فضل التوحيد ، وحديثه هذا رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد بكماله قال حدثنا الحسن بن سوار حدثنا ليث عن معاوية عن أيوب بن زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ثنى أبي قال : دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت ، فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي ، فقال : أجلسوني . قال : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره ، قلت : يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، يا بني سمعت رسول الله يقول : "إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة . يا بني ، إن مت ولست على ذلك دخلت النار ". ورواه الترمذي بسنده المتصل إلى عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه ، وقال : حسن صحيح وغريب . وفي هذا الحديث ونحوه : بيان شمول علم الله تعالى وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى: ' 65 : 12' " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما " . وقد قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن القدر قال : القدر قدرة الرحمن واستحسن ابن عقيل هذا من أحمد رحمه الله . والمعنى : أنه لا يمنع عن قدرة الله شئ . ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله تعالى فضلوا سواء السبيل . وقد قال بعض السلف : ناظروهم بالعلم ، فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا . قوله : وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن الديلمي وهو أبو بسر ـ بالسين المهملة ، وبالباء المضمومة . ويقال أبو بشر ـ بالشين المعجمة وكسر الباء ـ وبعضهم صحح الأول . وإسمه عبد الله بن فيروز . ولفظ أبي داود قال : لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه ، عذبهم وهو غير ظالم لهم . ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم . ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار . قال : فأتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك ، قال : ثم أتيت زيد بن ثابت ، قال : فحدثني عن النبي مثل ذلك وأخرجه ابن ماجه . وقال العماد ابن كثير رحمه الله : عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر خيره وشره " وكذا رواه الترمذي عن النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به . ورواه من حديث أبي داود الطياليسي عن شعبة عن ربعي عن على فذكره . وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله  : " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ـ زاد ابن وهب ـ : وكان عرشه على الماء " رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب . وكل هذه الأحاديث وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم . ومن مذهبهم : تخليد أهل المعاصي في النار . وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي . وفي الحقيقة إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا . وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا ، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر ، وعدم تخليد أهل الكبائر من الوحدين في النار .

ما جاء في المصورين قوله : باب ( ما جاء في المصورين ) أي من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه . وقد ذكر النبي العلة : وهي المضاهاة بخلق الله ، لأن الله تعالى له الخلق والأمر ، فهو رب كل شئ ومليكه، وهو خالق كل شئ وهو الذي صور جميع الخلوقات ، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة ، كما قال تعالى : ' 32 : 7 ' " الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون " فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهئًا لخلق الله . فصار ما صوره عذابًا له يوم القيامة ، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ . فكان أشد الناس عذابًا ، لأن ذنبه من أكبر الذنوب . فإن كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان ، فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين وشبهه بخلقه ، وصرف له شيئًا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه . فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه ، وجعله شريكًا له فيما اختص به تعالى وتقدس ، وهو أعظم ذنب عصى الله تعالى به . ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك والنهي عنه ، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى . فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم . وأهلك من جهل التوحيد ، واستمر على الشرك والتنديد ، فما أعظمه من ذنب: '4 : 48 : 116 ' " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ' 22 : 41 ' " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق " .

بعث على إلى اليمن لهدم القباب وطمس التماثيل والصور قوله : ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي ـ حيان بن حصين ـ قال : قال لي علي رضي الله عنه هو أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه . قوله : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته . فيه تصريح بأن النبي بعث عليًا لذلك . أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله . وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها ، وهو من ذرائع الشرك ووسائله . فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته . ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور ، وعظمت الفتنة بأرباب القبور ، وصارت محطًا لرحال العابدين المعظمين لها . فصرفوا لها جل العبادة : من الدعاء والاستعانة والاستغاثة ، والتضرع لها ، والذبح لها ، والنذور ، وغير ذلك من كل شرك محظور .

قول ابن القيم فيما ابتدعه الضالون من بدع القبور محادة الله ولرسوله قال العلامة ابن القيم رحمه الله : ومن جمع بين سنة رسول الله في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه ، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم . رأى أحدهما مضادًا للآخر ، مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا . فنهى رسول الله عن الصلاة إلى القبور ، وهؤلاء يصلون عندها وإليها . ونهى عن اتخاذها مساجد ، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله . ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها . ونهى عن أن تتخذ عيدًا ، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك ، ويجتمعون لها كاجتماعاتهم للعيد أو أكثر . وامر بتسويتها ، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي ـ فذكر حديث الباب ـ وحديث تمامة بن شفي وهو عند مسلم أيضًا قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم بدردس ، فتوفى صاحب لنا ، فأمر فضالة بقبره فسوى ، ثم قال : سمعت رسول الله يأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت ، ويعقدون عليها القباب . ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه . كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال : نهى رسول الله عن تجصيص القبر وأن يعقد عليه ، وأن يبني عليه ونهى عن الكتابة عليها ، كما روى أبو داود في سننه . عن جابر أن رسول الله  : " نهى عن تجصيص القبور ، وأن يكتب عليها " قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ، ويكتبون عليها القرآن وغيره ، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها . كما روى أبو داود عن جابر أيضًا أن رسول الله نهى أن يجصص القبر ، أو يكتب عليه ، أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار . قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الآجر على قبورهم . والمقصود : أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعيادًا ، الموقدين عليها السرج ، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله محادون لما جاء به ، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد ، وإيقاد السرج عليها . وهو من الكبائر . وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه . قال أبو محمد المقدسي : ولو أتيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله . ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم بالأصنام . قال : ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ، ولأن النبي قال : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . يحذر ما صنعوا " متفق عليه . ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها ، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ، والتمسح بها والصلاة عندها . انتهى . وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجًا . ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا وسماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه القبور بالبيت الحرام ، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ، ودخول في دين عباد الأصنام ، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله وقصده ، من النهي عما تقدم ذكره في القبور ، وبين ما شرعه وقصدوه ، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره . فمنها : تعظيمها الموقع في الافتتان بها . ومنها : اتخاذها أعيادًا . ومنها السفر إليها . ومنها : مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها ، وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد ، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها . ومنها : النذر لها ولسدنتها . ومنها : اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ، ويستنزل غيث السماء ، وتفرج الكروب ، وتقضي الحوائج ، وينصر المظلوم ، ويجار الخائف إلى غير ذلك . ومنها : الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها . ومنها : الشرك الأكبر الذي يفعل عندها . ومنها : إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم . فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ، ويكرهونه غاية الكراهية ، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره ، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم . ويوم القيامة يتبرأون منهم ، كما قال تعالى : ' 25 : 17 ، 18 ' " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " قال الله تعالى للمشركين : " فقد كذبوكم بما تقولون " وقال تعالى : ' 5 : 116 ' " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " الآية وقال تعالى : ' 34 : 40 ، 41 ' " ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون " . ومنها : إماتة السنن وإحياء البدع . ومنها تفصيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله ، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والإحترام والخشوع ورقة القلب ، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبًا منه . ومنها : أن الذي شرعه الرسول عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة ، والإحسان إلى المزور بالدعاء له ، والترحم عليه ، والإستغفار له . وسؤال العافية له ، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت . فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين ، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ، ودعاءه والدعاء به ، وسؤالهم حوائجهم ، واستنزال البركة منه ، ونصره لهم على الأعداء . ونحو ذلك . فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت . وكان رسول الله قد نهى الرجال عن زيادة القبور سدًا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ، ونهاهم أن يقولوا هجرًا ، ومن أعظم الهجر : الشرك عندها قولًا وفعلًا . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله " زوروا القبور ، فإنها تذكر الموت " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر رسول الله بقبور المدينة ، فأقبل عليهم بوجهه فقال :" السلام عليكم يأهل القبور ، يغفر الله لنا ولكم ، أنتم سلفنا ونحن بالأثر " رواه أحمد والترمذي وحسنه . فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله لأمته ، وعلمهم إياها ، هل تجد فيها شيئًا مما يعتمده أهل الشرك والبدع ؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه ؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك . ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه ، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي ثم أراد الدعاء استقبل القبلة ، وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا ونص على ذلك الأئمة الأربعة : أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر ، فإن الدعاء عبادة . وفي الترمذي وغيره : الدعاء هو العبادة فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله ، من الدعاء لأصحابها والإستغفار لهم والترحم عليهم . وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : " لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ، ولا تجعلوا قبري عيدًا ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " وإسناده جيد ورواته ثقات مشير . قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبورًا أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحرير النافلة عند القبور ، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم . ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعيادًا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب الله لأجله كل من في قلبه وقار الله وغيرة على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك ، ولكن ما لجرح بميت إيلام . فمن المفاسد : اتخاذها أعيادًا والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها ، والاستغاثة بهم ، وسؤالهم النصر والرزق والعافية ، وقضاء الدين ، وتفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم . فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدًا ، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد ، فوضعوا لها الجباه ، وقبلوا الأرض ، وكشفوا الرؤوس ، وارتفعت أصواتهم ، بالضجيج ، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج ، ورأو أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج ، فاستغاثوا بمن لا يبديء ولا يعيد ، ونادوا ولكن من مكان بعيد ، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين !!‍ فتراهم حول القبر ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من الميت ورضوانًا ، وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسرانًا . فلغير الله ـ بل الشيطان ـ ما يراق هناك من العبرات ، ويرتفع من الأصوات ، ويطلب من الميت من الحاجات ، ويسأل من تفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ، وإغناء ذوي الفاقات ، ومعافاة ذوي العاهات والبليات ، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين ، تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركًا وهدى للعالمين . ثم أخذوا في التقبيل والاستلام . أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام . ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود ، التي يعلم الله أنه لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق ، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين ، فلو رأيتهم يهنىء بعضهم بعضًا ويقول : أجزل الله لنا ولكم أجرًا وافرًا وحظًا ، فإن رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام ، فيقول : لا ولا بحجك كل عام . هذا ـ ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم ، إذ هي فوق ما يخطر بالبال ، ويدور في الخيار ، وهذا مبدأ الأصنام في قوم نوح كما تقدم . وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور ، سد الذريعة إلى هذا المحظور . وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه ، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه ، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته ، والشر والضلال في معصيته ومخالفته . ا هـ كلامه رحمه الله تعالى .

ما جاء في كثرة الحلف قوله : باب ( ما جاء في كثرة الحلف ) أي من النهي عنه والوعيد .

وقول الله تعالى : ' 5 : 98 ' " واحفظوا أيمانكم " . قال ابن جرير لا تتركوها بغير تكفير . وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد لا تحلفوا . وقال آخرون : احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا . والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس ، فإن القولين متلازمان ، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الإستخفاف ، وعدم التعظيم لله ، وغير ذلك مما ينافى كمال التوحيد الواجب أو عدمه .

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول :" الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب " أخرجاه. أي البخاري ومسلم . وأخرجه أبو داود والنسائي . والمعنى : أنه إذا حلف على سلعته أنه أعطى فيها كذا وكذا ، أو أنه اشتراها بكذا وكذا ، وقد يظنه المشتري صادقًا فيما حلف عليه فيأخذها بزيادة على قيمتها ، والبائع كذاب وحلف طمعًا في الزيادة ، فيكون قد عصى الله تعالى ، فيعاقب بمحق البركة ، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسب حلفه ، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسًا . وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب .

ثلاث لا يكلهم الله قوله : وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله قال : " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعائل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه ، ولا يبيع إلا بيمينه " رواه الطبراني بسند صحيح . وسلمان لعله سلمان الفارسي أبو عبد الله ، أسلم مقدم النبي المدينة ، وشهد الخندق ، روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما . قال النبي  :" سلمان منا أهل البيت ، إن الله يحب من أصحابي أربعة: عليًا ، وأبا ذر ، وسلمان ، والمقداد " أخرجه الترمذي وابن ماجه . قال الحسن : كان سلمان أميرًا على ثلاثين ألفًا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها . توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه . قال أبو عبيده سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة . ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي . قوله : ثلاثة لا يكلمهم الله نفى كلام الرب تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أن يكلم من أطاعه . وأن الكلام صفة كماله . والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شئ وأبينه . وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه ، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئًا فشيئًا ولم يزل متصفًا به . فهو حادث الآحاد قديم النوع ، كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف ، كما قال تعالى : ' 36 : 82 ' " إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون " فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضًا . وذلك في القرآن كثير . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فإذا قالوا لنا يعني النفاة : فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به . قلنا : ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل . ولفظ الحوادث مجمل ، فقد يراد به الإعراض والنقائص ، والله تعالى منزه عن ذلك ـ ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك : مما دل عليه الكتاب والسنة . والقول الصحيح : هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون : لم يزل الله متكلمًا إذا شاء ، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة ، ا هـ . قلت : ومعنى قيام الحوادث به تعالى : قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره . والله أعلم . قوله : ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم ، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات . قوله : أشيمط زان صغره تحقيرًا له وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه ، فدل على أن الحامل له على الزنا : محبة المعصية والفجور ، وعدم خوفه من الله . وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه ، بخلاف الشاب ، فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله ، وقد يرجع على نفسه بالندم ، ولومها على المعصية فينتهي ويراجع . وكذا العائل المستكبر ليس له ما يدعوه إلى الكبر ، لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة . والعائل الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر ، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيع له ، كامن في قلبه ، فعظمت عقوبته لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي . قوله : ورجل جعل الله بضاعته بنصب الإسم الشريف ، أي الحلف به ، جعله بضاعته لملازمته له وغلبته عليه . وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدًا فتوحيده ضعيف وأعماله ضعيفة بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها . نسأل الله السلامة والعافية ، نعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه . قوله : وفي الصحيح أي صحيح مسلم . وأخرجه أبو داود والترمذي ، ورواه البخاري بلفظ خيركم . قوله : عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ـ قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنيه مرتين أو ثلاثًا ؟ ـ ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن " . قوله : خير أمتي قرني لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون ، ويتفاضل فيها العاملون ، فغلب الخير فيها وكثر أهله ، وقل الشر فيها وأهله واعتز فيها الإسلام والإيمان ، وكثر فيها العلم والعلماء ثم الذين يلونهم فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به . وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأذيل ، كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة ، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب . قوله : فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه . والمشهور في الروايات : أن القرون المفضلة ثلاثة ، الثالث دون الأولين في الفضل ، لكثرة البدع فيه ، لكن العلماء متوافرون والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم ، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين ، وكثرة الأهواء . فقال : ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون لاستخفافهم بأمر الشهادة وعدم تحريهم الصدق ، وذلك لقلة دينهم وضعف إسلامهم . قوله : ويخونون ولا يؤتمنون يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم وينذرون ولا يوفون أي لا يؤدون ما وجب عليهم ، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم وعدم إيمانهم . قوله : ويظهر فيهم السمن لرغبتهم في الدنيا ، ونيل شهواتهم والتنعم بها ، وغفلتهم عن الدار الآخرة والعمل لها . وفي حديث أنس : " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم " قال أنس : سمعته من نبيكم ، فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم حتى فيمن ينتسب إلى العلم ويتصدر للتعليم والتصنيف . قلت : بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع ، وصنفوا في ذلك نظمًا ونثرًا فنعوذ بالله من موجبات غضبه . قوله : وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال : " خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " . قلت : وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسى المعاد ، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملًا وأداء ، لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك ، وهذا هو الغالب على الأكثر . والله المستعان . فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف . فكان الناس على حذر . قوله : وقال إبراهيم ـ هو النخعي ـ كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار وذلك لكثرة علم التابعين ، وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم ، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنه من أفضل الجهاد ولا يقوم الدين إلا به . وفي هذا رغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم ونهيهم عما يضرهم . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه قوله : باب ( ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه )

وقول الله تعالى : ' 16 : 91 ' " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " الآية . قال العماد بن كثير : وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة . ولهذا قال : " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " ولا تعارض بين هذا وقوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " وبين قوله : " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم " أي لا تتركوها بلا تكفير . وبين قوله في الصحيحين : " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني " لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي : " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق ، لا الأيمان الواردة على حث أو منع ، ولهذا قال مجاهد في هذه الآية : يعني الحلف أي حلف الجاهلية . ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله  : " لا حلف في الإسلام ، وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " وكذا رواه مسلم ، ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه . وقوله تعالى : " إن الله يعلم ما تفعلون " تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها . قوله : عن بريدة هو ابن الحصيب الأسلمي . وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه . قال في المفهم .

وصايا النبي لقواد جيوشه بأن لا يغلوا ولا يغدروا ولا يقتلوا وليدًا إلخ قوله : " قال : كان رسول الله إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى " فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم . قال الحربي : السرية : الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها . والجيش ما كان أكثر من ذلك . وتقوى الله : التحرز بطاعته من عقوبته . قلت : وذلك بالعمل بما أمر الله به والإنتهاء عما نهى عنه . قوله : ومن معه من المسلمين خيرًا أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرًا : من الرفق بهم ، والإحسان إليهم ، وخفض الجناح لهم ، وترك التعاظم عليهم . قوله : اغزوا باسم الله هذا أي اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له . قلت : فتكون الباء في بسم الله هنا للاستعانة والتوكل على الله . قوله : قاتلوا من كفر بالله هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم . وقد خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان ، ومن لم يبلغ الحلم ، وقد قال متصلًا به : ولا تقتلوا وليدًا وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان لأنه لا يكون منهم قتال غالبًا . وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا . قلت : وكذلك الذراري والأولاد . قوله : ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا الغلو : الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها . الغدر نقض العهد . والتمثيل هنا التشويه بالقتيل ، كقطع أنفه وأذنه والعبث به . ولا خلاف في تحريم الغلو والغدر . وفي كراهية المثلة . قوله : وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال الرواية بالشك وهو من بعض الرواة . ومعنى الخلال والخصال واحد . قوله : فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب أيتهنعلى أن يعمل فيها أجابوك لا على إسقاط حرف الجر . وما زائدة . ويكون تقدير الكلام : فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم . كما تقول : جئتك إلى كذا وفي كذا . فيعدى إلى الثاني بحرف جر . قلت : فيكون في ناصب أيتهن وجهان : ذكرهما الشارح . الأول : منصوب على الاشتغال . والثاني : على نزع الخافض . قوله : ثم ادعهم إلى الإسلام كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم ثم ادعهم بزيادة ثم والصواب إسقاطها . كما روى في غير كتاب مسلم . كمصنف أبي داود ، وكتاب الأموال لأبي عبيد . لأن ذلك هو إبتداء تفسير الثلاث خصال . وقوله : ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين يعني المدينة . وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام . وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم . قوله : فإن أبوا أن يتحولوا يعني أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطي من الخمس ولا من الفيء شيئًا . وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب ، فلم ير لهم من الفيء شيئًا . إنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم. كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده ، ومصرف كل مال في أهله . وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين ، وجوزا صرفهما للضعيف . قوله : فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر : عربيًا كان أو غيره ، كتابيًا كان أو غيره . وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم . وقال الشافعي لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا . وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ، وتؤخذ من المجوس . قلت : لأن النبي أخذها منهم . وقال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " . وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية : فقال مالك : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهمًا على أهل الورق . وهل ينقص منها الضعيف أو لا ؟ قولان . قال الشافعي : فيه دينار على الغني والفقير . وقال أبو حنيفة رحمه الله ، والكوفيون : على الغني ثمانية وأربعون درهمًا والوسط أربعة وعشرون درهمًا . والفقير اثنا عشر درهمًا . وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله . قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله : وقاتل يهودا والنصارى وعصبة المجـ ـوس ، فإن هم سلموا الجزية أصدد على الأدون اثني عشر درهمًا افرضن وأربعة من بعد عشرين زد لأوسطهم حالًا ومن كان موسرًا ثمانية مع أربعين لتنقد وتسقط عن صبيانهم ونسائهم وشيخ لهم فان وأعمى ومقعد وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ومن وجبت منهم عليه فيهتدي وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم ، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لا ممن نأى بداره ، ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم . قوله : وإذا حاصرت أهل حصن الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول : إن المصيب في مسائل الإجتهاد واحد . وهو المعروف من مذهب مالك وغيره ووجه الاستدلال به أنه قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكمًا معينًا في المجتهدات . فمن وافقه فهو المصيب ومن لم يوافقه فهو المخطىء . قوله : وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه : الحديث الذمة العهد ، وتخفر تنقض يقال : أخفرت الرجل إذا نقضت عهده ، وخفرته : أجرته ، ومعناه أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد ، كجملة الأعراب : فكأنه يقول : إن وقع نقض من متعد معتد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى . والله أعلم . قوله : وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال ، ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال ، قال وهو أن مالكًا قال : لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة . فيجوز أن تلتمس غرتهم وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببًا مميلًا لهم إلى الإنقياد إلى الحق ، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين . فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزدادون عتوًا وبغضًا . والله أعلم .

ما جاء في الأقسام على الله قوله : باب ( ما جاء في الإقسام على الله ) ذكر المصنف في حديث : عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان . قال الله عز وجل : من ذا الذي يتألى على أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك " رواه مسلم . قوله : يتألى أي يحلف . والألية بالتشديد الحلف . وصح من حديث أبي هريرة قال البغوي في شرح السنة ـ وساق بالسند إلى عكرمة بن عمار ـ قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال : يا يمامي ، تعال ، وما أعرفه ، قال : لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبدًا ولا يدخلك الجنة . قلت : ومن أنت يرحمك الله . قال : أبو هريرة ، فقلت : إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب ، أو لزوجته أو لخادمه ، قال ، فإني سمعت رسول الله يقول : " إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين ، أحدهما مجتهد في العبادة ، والآخر ، كأنه يقول مذنب ، فجعل يقول : أقصر عما أنت فيه . قال فيقول : خلني وربي ، قال : فوجده يومًا على ذنب استعظمه فقال : أقصر ، فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيبًا ، فقال : والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدًا . قال : فبعث الله إليهما ملكًا ، فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ قال : لا يا رب ، قال : اذهبوا به إلى النار . قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته " . ورواه أبو داود في سننه ، وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول : " كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب ، والآخر مجتهد في العبادة . فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول : أقصر ، فوجده يومًا على ذنب فقال له : أقصر ، فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيبًا ؟ قال : والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة ، فقبضت أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالمًا ، أو كنت على ما في يدي قادرًا ؟ فقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار " . قوله : وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد يشير إلى قوله في هذا الحديث : أحدهما مجتهد في العبادة وفي هذه الأحاديث بيان خطر اللسان وذلك يفيد التحرز من الكلام ، كما في حديث معاذ " قلت يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوهم ـ أو قال على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم " . الله أعلم .

لا يشتشفع بالله على خلقه قوله : باب ( لا يستشفع بالله على خلقه ) وذكر الحديث وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله ولفظه : عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال : " أتى رسول الله أعرابي فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس ، وضاعت العيال ، ونهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ، فإنا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك ، قال رسول الله  : ويحك ، أتدري ما تقول ؟ وسبح رسول الله فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك ، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله . إن عرشه على سمواته لهكذا ـ وقال بأصابعه مثل القبة عليه ـ وإنه ليئط به أطيط الرجل بالراكب " قال ابن بشار في حديثه : " إن الله فوق عرشه فوق سماواته " . قال الحافظ الذهبي : رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في الرد على الجهمية من حديث محمد بن إسحاق بن يسار . قوله : ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه فإنه تعالى رب كل شئ ومليكه ، والخير كله بيده ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، ولا راد لما قضى ، وما كان الله ليعجزه من شئ في السموات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرًا . إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون . والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء وهو الذي يشفع الشافع إليه ، ولهذا أنكر على الأعرابي . قوله : وسبح لله كثيرًا وعظمه لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده إن شأن الله أعظم من ذلك . وفي هذا الحديث : إثبات علو الله على خلقه ، وأن عرشه فوق سماواته. وفيه تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة ، خلافًا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم ، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في اسماء الله وصفاته وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا ، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة ، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل ، وتنزيهًا بلا تعطيل . قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة ـ بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته . قال بعد ذلك : والثاني : أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء ، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومده ورفعته ، ويرى السماوات السبع والأرضين السبع بالنسة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير ، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها ، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين ، وإعزاز قوم إذلال آخرين ، وإنشاء ملك وسلب ملك ، وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على إختلافها وتبيانها وكثرتها : من جبر كسير ، وإغناء فقير ، وشفاء مريض ، وتفريج كرب ، ومغفرة ذنب ، وكشف ضر ، ونصر مظلوم ، وهداية حيران ، وتعليم جاهل ، ورد آبق ، وأمان خائف ، وإجارة مستجير ، ومدد لضعيف ، وإغاثة لملهوف ، وإعانة لعاجز ، وانتقام من ظالم ، وكف لعدوان ، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل ، والحكمة والرحمة ، تنفذ في أقطار العوالم ، لا يشغله سمع شئ منها عن سمع غيره ، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد قوتها ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، ولا تنقص ذرة من خزائنه ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم . فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقًا لهيئته خاشعًا لعظمته عانيًا لعزته ، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين ، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد ، فهذا سفر القلب ، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه ، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه ، فياله من سفر ما أبركه وأروحه ، وأعظم ثمرته وربحه ، وأجل منفعته وأحسن عاقبته ، سفر هو حياة الأرواح ، ومفتاح السعادة ، وغنيمة العقول والألباب ، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب . ا هـ كلامه رحمه الله . وأما الاستشفاع بالرسول في حياته فالمراد به استجلاب دعائه ، وليس خاصًا به بل كل حي يرجى أن يستجاب له فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة ، كما قال النبي لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته على قبره وفي غير ذلك . وهذ هو الذي يشرع في حق الميت ، وأما دعاؤه فلم يشرع ، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي والوعيد عليه ، كما قال تعالى : ' 35 : 13 ، 14 ' " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة أي ينكره ويعادي من فعله ، كما في آية الأحقاف : ' 46 : 6 ' " وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر . والصحابة رضي الله عنهم ، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين ، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيره أنهم أنزلوا حاجتهم بالنبي بعد وفاته ، حتى في أوقات الجدب ، كما وقع لعمر رضي الله عنه لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي فأمره أن يستسقي لأنه حي حاضر يدعو ربه فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي . وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت ، لأن المقصود من الحي دعاءه إذا كان حاضرًا . فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه ، وهم يدعون ربهم ، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل . ولو كان دعاء الميت خيرًا لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص ، وبهم أليق ، وبحقه أعلم وأقوم . فمن تمسك بكتاب الله نجا ، ومن تركه واعتمد على عقله هلك . وبالله التوفيق .

ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد باب ( ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد ، وسد طرق الشرك ) حمايته حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص وكذا كثير في السنة الثابتة عنه كقوله : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله " وتقدم . وقوله : " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل " ونحو ذلك . ونهى عن التمادح وشدد القول فيه ، كقوله لمن مدح إنسانًا : ويلك قطعت عنق صاحبك ... الحديث أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه : أن رجلًا أثنى على رجل عند النبي فقال له : "قطعت عنق صاحبك ... ثلاثًا " وقال : "إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن المقداد بن الأسود . وفي هذا الحديث : نهى عن أن يقولوا : أنت سيدنا وقال : السيد الله تبارك وتعالى ونهاهم أن يقولوا : وأفضلنا فضلًا وأعظمنا طولًا وقال : لا يستجرينكم الشيطان . وكذلك قوله في حديث أنس : " أن ناسًا قالوا : يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا " ... إلخ . كره أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو . وأخبر أن مواجهة المادح للمدوح بمدحه ـ ولو بما هو فيه ـ من عمل الشيطان لما تفضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه وذلك ينافي كمال التوحيد فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه ، وذلك غاية الذل في غاية المحبة ، وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى ، وأن لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها والمعاتبة لها في حق ربه ، وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا إذا كا يحب ما يحبه الله ، ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإرادات ، ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه والمادح يغره من نفسه فيكون آثمًا ، فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسًا ، والنهي عنه صيانة لهذا المقام ، فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له خلصت أعماله وصحت ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد ، وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه والإعجاب بها وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة كما في الحديث : " الكبرياء درائي والعظمة إزاري فمن نازعني شيئًا منهما عذبته ": وفي الحديث : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" : وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببًا لها وسلمًا إليها ، والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها ، كما يوجد كثيرًا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول وحذر أمته أن يقع منهم ، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك ، كما تقدمت الإشارة إلى شئ من ذلك . والنبي لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح ، صيانة لهذا المقام ، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحًا لهم ، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده ، أو يضعفه من الشرك ووسائله : ' 2 : 59 ' " فبدل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم " ورأو أن فعل ما نهاهم عن فعله قربة من أفضل القربات وحسنه من أعظم الحسنات ! وأما تسمية العبد بالسيد فاختلف العلماء في ذلك . قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد : اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر . فمنعه قوم ، ونقل عن مالك ، واحتجوا بقول النبي لما قيل له : يا سيدنا قال : السيد الله تبارك وتعالى وجوزه قوم ، واحتجوا بقول النبي للأنصار : قوموا إلى سيدكم وهذا أصح من الحديث الأول . قال هؤلاء : السيد أحد ما يضاف إليه ، فلا يقال للتميمي سيد كندة ، ولا يقال الملك سيد البشر . قال : وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم ، وفي هذا نظر ، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك ، والمولى والرب . لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق . انتهى . قلت : فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى : ' 6 : 164 ' " قل أغير الله أبغي ربا " أي إلهًا وسيدًا وقال في قول الله تعالى : " الله الصمد " أنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد : وقال أبو وائل : هو السيد الذي انتهى سؤدده . وأما استدلالهم بقول النبي للأنصار قوموا إلى سيدكم فالظاهر أن النبي لم يواجه سعدًا به ، فيكون في هذا المقام تفضيل والله أعلم .

ما جاء في قول الله " وما قدروا الله حق قدره " قوله : باب

قول الله تعالى : ' 39 : 67 ' " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون " أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة . قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى : ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره ، وهو العظيم الذي لا أعظم منه ، القادر على كل شئ المالك لكل شئ ، وكل شئ تحت قهره وقدرته . قال مجاهد : نزلت في قريش . وقال السدى : ما عظموه حق عظمته . وقال محمد بن كعب : لو قدروه حق قدره ما كذبوه . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شئ قدير ، فقد قدر الله حق قدره ، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره . وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية ، الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف ـ وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب قال : ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه . والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه .

حديث الحبر الذي جاء يصف كيف يقبض الله السموات والأرض قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : " جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي فقال : يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع والسموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع . فيقول : أنا الملك . فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر . قال : وأنزل الله : " وما قدروا الله حق قدره " "الآية . وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به . وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسين بن حسن الأشقر ، حدثنا أبو كدينة عن عطاء . عن أبي الضحى عن ابن عباس قال : " مر يهودي برسول الله وهو جالس ، فقال : كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السموات على ذه ـ وأشار بالسبابة ـ والأرض على ذه ، والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه ؟ كل ذلك يشير بأصابعه ، فأنزل الله : " وما قدروا الله حق قدره " " وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به . وقال : حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . ثم قال البخاري : حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ، فيقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ " تفرد به من هذا الوجه ، ورواه مسلم من وجه آخر . وقال البخاري في موضع آخر : حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمى القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله قال : " إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك " تفرد به أيضًا من هذا الوجه . ورواه مسلم من وجه آخر . وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة ، أنبأنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله ابن مقسم عن ابن عمر أن رسول الله قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، سبحانه وتعالى عما يشركون " ورسول الله يقول هكذا بيده يحركها ، يقبل بها ويدبر ، يمجد الرب تعالى نفسه : أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الملك ، أنا العزيز ، أنا الكريم ، فرجف برسول الله المنبر حتى قلنا : ليخرن به ا هـ . قوله : ولمسلم عن ابن عمر ـ الحديث كذا في رواية مسلم . قال الحميدي وهي أتم ، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه . وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماء بيمينه " وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم . قلت : وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته . وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته ، وكلها تعرف وتدل على كماله ، وأنه هو المعبود لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته ، إثباتًا بلا تمثيل ، وتنزيهًا بلا تعطيل ، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان ، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان . وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه ، ولم يقل النبي في شئ منها . إن ظاهرها غير مراد ، وأنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه ، فلو كان هذا حقًا بلغه أمينه أمته ، فإن الله أكمل به الدين وأتم به النعمة فبلغ البلاغ المبين . صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين . وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله ، فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا ، كما قال تعالى : ' 3 : 7 ' " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم ، والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسول الله ولم يجحدوا شيئًا من الصفات ، ولا قال أحد منهم : إن ظاهرها غير مراد ولا أنه يلزم من إثباتها التشبيه ، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار ، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة .

ما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض

بعد ما بين كل سماء والتي يليها والسابعة والكرسي ، الكرسي والعرش قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى : وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسول الله ، وكلام الصحابة والتابعين ، وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شئ ، وأنه فوق العرش فوق السموات مستو على عرشه ، مثل قوله تعالى : ' 35 : 10 ' " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقوله تعالى : ' 3 : 55 ' " يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي " وقوله تعالى : ' 4 : 158 ' " بل رفعه الله إليه " وقوله تعالى: ' 70 : 3 : 4 ' " ذي المعارج * تعرج الملائكة والروح إليه " وقوله تعالى : ' 32 : 5 ' " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه " وقوله تعالى : ' 16 : 50 ' " يخافون ربهم من فوقهم " وقوله تعالى : ' 2 : 29 ' " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " وقوله تعالى : ' 7 : 54 ' " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " وقوله : ' 10 : 3 ' " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه " ... الآية فذكر التوحيدين في هذه الآية . قوله تعالى : ' 13 : 2 ' " الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش " وقوله تعالى : ' 20 : 4 ، 5 ' " تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى * الرحمن على العرش استوى " وقوله : ' 25 : 58 ، 59 ' " وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا * الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا " وقوله تعالى: '32 : 4 ، 5 ' " الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " وقوله : ' 57 : 4 ' " هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير " فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته . وقوله تعالى : ' 67 : 16 ، 17 ' " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير " وقوله تعالى : ' 41 : 42 ' " تنزيل من حكيم حميد " وقوله: '45 : 2 ' " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله تعالى : ' 40 : 36 ، 37 ' " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا " . انتهى كلامه رحمه الله .

الإيمان بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله بلا تمثيل ولا تعطيل وقوله تعالى : ' 41 : 42 ' " تنزيل من حكيم حميد " وقوله: '45 : 2 ' " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله تعالى : ' 40 : 36 ، 37 ' " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا " . انتهى كلامه رحمه الله . قلت : وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نقاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين . فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي أنها قالت في قوله تعالى : " الرحمن على العرش استوى " قالت : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإقرار به إيمان ، والجحود به كفر رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح . قال : وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال : لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن : كيف الاستواء ، قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ومن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التصديق . وقال ابن وهب : كنا عند مالك فدخل رجل فقال : يا أبا عبد الله " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى ؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء وقال : الرحمن على العرش استوى ، كما وصف نفسه ولا يقال كيف ؟ و كيف عنه مرفوع ، وأنت صاحب بدعة . أخرجوه رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب ، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضًا ، ولفظه قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . قال الذهبي : فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله ، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير ، ونفوا عنه الكيفية ، قال البخاري في صحيحه : قال مجاهد استوى علا على العرش . وقال إسحاق بن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقول : " الرحمن على العرش استوى " أي ارتفع . وقال محمد ابن جرير الطبري في قوله تعالى : " الرحمن على العرش استوى " أي علا وارتفع . وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم ، فمن ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا وروى الدارمى والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق ، قال : سمعت عبد الله بن المبارك يقول : نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى ، بائن في خلقه ، ولا نقول كما قال الجهمية قال الدارمي : حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك : قيل له : كيف نعرف ربنا ؟ قال : بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلفه . وقد تقدم قول الأوزاعي : كنا ـ والتابعون متوافرون ـ نقول : إن الله تعالى ذكره بائن من خلقه ، ونؤمن بما وردت به السنة . وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول  : أجمع المسلون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته . وقال في هذا الكتاب أيضًا : أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز ، ثم ساق بسنده عن مالك قوله : الله في السماء وعلمه في كل مكان : ثم قال في هذا الكتاب : أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله : " وهو معكم أين ما كنتم " ونحو ذلك من القرآن : أن ذلك علمه ، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء . وهذا لفظه في كتابه . وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة ، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته ، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين ، ولم يمثلوا ولم يكيفوا ، كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب . وقال الحافظ الذهبي : وأول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله فوق عرشه : هو الجعد بن درهم . وكذلك أنكر جميع الصفات . وقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة ، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية ، فأظهرها واحتج لها بالشبهات ، وكان ذلك في آخر عصر التابعين فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة ، ومالك والليث بن سعد والثوري ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى . فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة : ما أخبرنا عبد الواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني محمد بن علي الجوهري ـ ببغداد ـ حدثنا إبراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي سمعت الأوزاعي يقول : كنا ـ والتابعون متوافرون ـ نقول : إن الله فوق عرشه . ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته . أخرجه البيهقي في الصفات ورواته أئمة ثقات . وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر ، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه ، كما نفى عن نفسه فقال : " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " ا هـ من فتح الباري .

حديث الأوعال الذي رواه العباس قوله : عن العباس بن عبد المطلب ساقه المصنف رحمه الله مختصرًا ، والذي في سنن أبي داود : عن العباس بن عبد المطلب قال : كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله ، فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال :" ما تسمون هذه؟ قالوا : السحاب قال : والمزن قالوا : والمزن . قال : والعنان قالوا : والعنان ـ قال أبو داود : لم أتقن العنان جيدًا ـ قال : هل تدرون ما بعد ما بين السماوات والأرض ؟ قالوا : لا ندري قال : إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ، ثم السماء التي فوقها كذلك ، حتى عد سبع سماوات ، ثم فوق السابعة بحر بين أسلفه وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال ، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهم العرش بين أسلفه وأعلاه كما بين سماء إلى سماء ، ثم الله تعالى فوق ذلك " وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي : حسن غريب . وقال الحافظ الذهبي : رواه أبو داود بإسناد حسن وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه : ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام ولا منافاة بينهما . لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلًا ، ونيف وسبعون سنة على سير البريد ، لأنه يصح أن يقال : بيننا وبين مصر عشرون يومًا باعتبار سير العادة ، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد . وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه . هذا آخر كلامه . قلت : فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات ، والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما ، ولا عبرة بقول من ضعفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها . وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته ، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسول الله ، وعلى كمال قدرته وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه .

وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . تم كتاب ( فتح المجيد ) بعون الله الحميد .