انتقل إلى المحتوى

فتح المجيد/القسم الثالث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



باب الخوف من الشرك

[عدل]

قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه .

قوله : باب (الخوف من الشرك)

وقول الله عز وجل : '4: 48 و116' "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قال ابن كثير : أخبر تعالى أنه (لا يغفر أن يشرك به) أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) أي من الذنوب لمن يشاء من عباده . انتهى .

فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب، لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به، وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله، لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره وعدل غيره به، كما قال تعالى : '6 : 1' "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته، والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما "قال لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله "رواه مسلم . ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى ومشاركة في خصائص الإلهية : من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، الذى يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء، والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، شبيهًا بمن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم . فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات : بالقادر الغني بالذات . ومن خصائص الإلهية : الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذى لا نقص فيه بوجه من الوجوه . وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستعانة، وغاية الحب مع غاية الذل : كل ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلًا وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره . فمن فعل شيئًا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة . هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله .

وفى الاية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب . وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار .

ولا يجوز أن يحمل قوله : "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" على التائب، فإن التائب من الشرك مغفور له كما قال تعالى :

'39 : 53' " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " فهنا عمم وأطلق، لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق، لأن المراد به من لم يتب . هذا ملخص قول شيخ الإسلام .


واجنبني وبني أن نعبد الأصنام

قوله : (وقال الخليل عليه السلام) '14 : 35' "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" الصنم ما كان منحوتًا على صورة، والوثن ما كان موضوعًا على غير ذلك . ذكره الطبري عن مجاهد .

قلت : وقد يسمى الصنم وثنًا كما قال الخليل عليه السلام '29 : 17' " إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا " الآية ويقال : إن الوثن أعم، وهو قوى، فالأصنام أوثان، كما أن القبور أوثان .

قوله : "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" أي اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها . وقد استجاب الله تعالى دعاءه، وجعل بنيه أنبياء، وجنبهم عبادة الأصنام . وقد بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله : "رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس" فإنه هو الواقع في كل زمان . فإذا عرف الإنسان أن كثيرًا وقعوا في الشرك الأكبر وضلوا بعبادة الأصنام : أوجب ذلك خوفه من أن يقع فيما وقع فيه الكثير من الشرك الذي لا يغفره الله .

قال إبراهيم التيمي : من يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .

فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به وبما يخلصه منه: من العلم بالله وبما بعث به رسوله من توحيده، والنهي عن الشرك به .


خوف النبي على أمته من الشرك

قال المصنف : (وفى الحديث : "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال : الرياء") أورد المصنف هذا الحديث مختصرًا غير معزو . وقد رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي، وهذا لفظ أحمد : حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد - يعنى ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر . قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء . يقول الله تعالى يوم القيامة، إذا جازى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءوا في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء " .

قال المنذري : ومحمود بن لبيد رأى النبي ولم يصح له منه سماع فيما أرى . وذكر ابن أبى حاتم أن البخارى قال : له صحبة، ورجحه ابن عبد البر والحافظ . وقد رواه الطبرانى بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج. مات محمود سنة ست وتسعين . وقيل سنة سبع وتسعين وله تسع وتسعون سنة .

قول : (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) هذا من شفقته بأمته ورحمته ورأفته بهم، فلا خير إلا دلهم عليهم وأمرهم به، ولا شر إلا بينه لهم وأخبرهم به ونهاهم عنه، كما قال فيما صح عنه : " ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم . . . " الحديث، فإذا كان الشرك الأصغر مخوفًا على أصحاب رسول الله مع كمال علمهم وقوة إيمانهم، فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب ؟ خصوصًا إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التى نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله .

وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر عن النبي قال : " الشرك أخفى من دبيب النمل . قال أبو بكر : يا رسول الله، وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعى مع الله ؟ قال : ثكلتك أمك، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل" الحديث . وفيه : أن تقول أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان : لولا فلان قتلنى فلان ا هـ . من الدر .

قال المصنف : (وعن ابن مسعود رضى الله عنه : أن رسول الله قال : "من مات وهو يدعو لله ندًا دخل النار" رواه البخارى) .

قال ابن القيم رحمه الله : الند الشبيه، يقال : فلان ند فلان، وند يده، أى مثله وشبيهه ا هـ . قال تعالى : '2 : 22' "فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون" .

قوله : (من مات وهو يدعو لله ندًا) أي يجعل لله ندًا في العبادة يدعوه ويسأله ويستغيث به دخل النار . قال العلامة ابن القيم رحمه الله :

والشرك فاحذره، فشرك ظاهر ذا القسم يقابل الغفران

وهو اتخاذ الند للرحمن أيًا كان من حجر ومن إنسان

يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان

واعلم أن اتخاذ الند على قسمين :

الأول : أن يجعله لله شريكًا في أنواع العبادة أو بعضها كما تقدم، وهو شرك أكبر .

والثانى : ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل : ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت . وكيسير الرياء، فقد ثبت أن النبي لما قال له رجل: "ما شاء الله وشئت، قال : أجعلتنى لله ندًا ؟ بل ما شاء الله وحده" رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخارى في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه . وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد .

وفيه : بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات، فإنها ملك لله تعالى وبيده، ليس بيد غيره منها شئ، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لاقى لله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر، كما يأتي تقريره في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى .

قال المصنف رحمه الله تعالى : (ولمسلم عن جابر أن رسول الله قال : "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة . ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار" ) .

جابر : هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بمهملتين - الأنصاري ثم السلمي - بفتحتين - صحابي جليل هو وأبوه، ولأبيه مناقب مشهورة رضى الله عنهما مات بالمدينة بعد السبعين، وقد كف بصره، وله أربع وتسعون سنة .

قوله : (من لقي الله لا يشرك به شيئًا) قال القرطبي : أى لم يتخذ معه شريكًا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة، ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة : أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة . وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد .

وقال النووي : أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادًا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك . وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به . لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرًا عليها دخل الجنة أولا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرًا عليها فهو تحت المشيئة . فإن عفا الله عنه دخل الجنة أولًا، وإلا عذب في النار ثم أخرج من النار وأدخل الجنة .

وقال غيره : اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم . إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو كقولك : من توضأ صحت صلاته . أي مع سائر الشروط، فالمراد : من مات حال كونه مؤمنًا بجميع ما يجب الإيمان به إجمالًا في الإجمالي وتفصيلًا في التفصيلي . انتهى .


باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله بعث معاذ إلى اليمين يدعوهم إلى

[عدل]

قوله : (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله)

لما ذكر المصنف رحمه الله التوحيد وفضله، وما يوجب الخوف من ضده، نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغى لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه، بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة . كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم كما قال الحسن البصري لما تلا قوله تعالى : '41 : 33' " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " فقال : هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته . ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته : إنني من المسلمين . هذا خليفة الله .

قال رحمه الله : (وقوله '12 : 108' "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين".

قال أبو جعفر ابن جرير : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (قل) يا محمد (هذه) الدعوة التى أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها، من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان . والإنتهاء إلى طاعته وترك معصيته (سبيلي) طريقتي، ودعوتي (أدعو إلى الله) تعالى وحده لا شريك له (على بصيرة) بذلك، ويقين علم مني به (أنا) ويدعو إليه على بصيرة أيضًا من اتبعني وصدقني وآمن بي (وسبحان الله) يقول له تعالى ذكره : وقل. تنزيهًا لله تعالى وتعظيمًا له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه (وما أنا من المشركين) يقول : وأنا برىء من أهل الشرك به . لست منهم ولاهم منى انتهى .

قال في شرح المنازل : يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهى البصيرة التى تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المائي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التى اختص بها الصحابة عن سائر الأمة وهي أعلى درجات العلماء . قال تعالى : "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" أي أنا وأتباعي على بصيرة . وقيل (من اتبعنى) عطف على المرفوع في (أدعو) أى أنا أدعو إلى الله على بصيرة، ومن اتبعنى كذلك يدعو إلى الله تعالى على بصيرة، وعلى القولين : فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى، ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة، وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى .

قال المصنف رحمه الله : فيه مسائل (منها التنبيه على الإخلاص لأن كثيرًا ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه، ومنها : أن البصيرة من الفرائض . ومنها : أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى عن المسبة . ومنها أن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى . ومنها إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك) ا هـ .

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى قوله تعالى : '16 :125' " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " الآية . ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو، فإنه إما أن يكون طالبًا للحق محبًا له . مؤثرًا له على غيره إذا عرفه . فهذا يدعى بالحكمة . ولا يحتاج إلى موعظة وجدال . وإما أن يكون مشتغلًا بضد الحق . لكن لو عرفه آثره واتبعه . فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب . وإما أن يكون معاندًا معارضًا، فهذا يجادل بالتي هى أحسن . فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن . انتهى .


بعث معاذ إلى اليمن يدعوهم إلى التوحيد

قال : (وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله لما بعث معاذًا إلى اليمن قال : "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب . فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله الا الله - وفى رواية : إلى أن يوحدوا الله - فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة . فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم . فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم . واتق دعوة المظلوم . فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه) .

قال الحافظ : كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر . قبل حج النبي كما ذكره المصنف - يعنى البخارى في أواخر المغازي - وقيل : كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك . رواه الواقدي بإسناد إلى كعب بن مالك . وأخرجه ابن سعد في لطبقات عنه واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في خلافة أبى بكر رضى الله عنه ثم توجه إلى الشام فمات بها .

قال شيخ الإسلام : ومن فضائل معاذ رضى الله عنه أنه بعثه إلى اليمن مبلغًا عنه . ومفقهًا ومعلمًا وحاكمًا .

قوله (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب) قال القرطبي : يعني اليهود والنصارى، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما نبه على ذلك ليتهيأ لمناظرتهم .

وقال الحافظ : هو كالتوطئة للوصية لجمع همته عليها .

قوله (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله شهادة رفع على أنه اسم يكن مؤخر . وأول خبرها مقدم . ويجوز العكس .

قوله : (وفى رواية إلى أن يوحدوا الله) هذه الرواية ثابتة في كتاب التوحيد من صحيح البخارى . وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبية على معنى شهادة أن لا إله إلا الله فإن معناها توحيد الله بالعبادة ونفي عبادة ما سواه . وفى رواية فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، كما قال تعالى : '2 : 256' " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " والعروة الوثقى هى (لا إله إلا الله) وفى رواية للبخارى فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .

قلت : لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها، أحدها : العلم المنافي للجهل . الثانى : اليقين المنافي للشك . الثالث : القبول المنافي للرد . الرابع : الانقياد المنافي للترك . الخامس : الإخلاص المنافي للشرك. السادس: الصدق المنافي للكذب . السابع : المحبة المنافية لضدها .

وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب . ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام : "أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" وقال نوح : "أن لا تعبدوا إلا الله" وفيه معنى (لا إله إلا الله) مطابقة .

قال شيخ الإسلام : وقد علم بالاضطرار من دين الرسول واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق : شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلمًا، والعدو وليًا، والمباح دمه وماله : معصوم الدم والمال . ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان . قال : وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطنًا وظاهرًا، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء ا هـ .

قال المصنف رحمه الله تعالى : (وفيه أن الإنسان قد يكون عالمًا وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله أو يعرفه ولا يعمل به) .

قلت : فما أكثر هؤلاء - لا كثرهم الله تعالى .

قوله : (فإن هم أطاعوك لذلك) أي شهدوا وانقادوا لذلك (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فيه : أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين . قال النووى ما معناه : أنه يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام . ولا يلزم من ذلك أن لا يكونا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة . والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهى عنه . وهذا قول الأكثرين ا هـ .

قوله : (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) .

فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات، وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي الفقراء لأن حقهم في الزكاة آكد من حق بقية الأصناف الثمانية .

وفيه : أن الإمام هو الذى يتولى قبض الزكاة وصرفها : إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع عن آدائها إليه أخذت منه قهرًا .

في الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، كما هو مذهب مالك وأحمد .

وفيه : أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافر غير المؤلف، وإن الزكاة واجبة في مال الصبى والمجنون، كما هو قول الجمهور، لعموم الحديث .

قلت : والفقير إذا أفرد في اللفظ تناول المسكين وبالعكس، كنظائره . كما قرره شيخ الإسلام .

قوله (إياك وكرائم أموالهم) بنصب كرائم على التحذير، وجمع كريمة قال صاحب المطالع هي الجامعة للكمال الممكن في حقها، من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف . ذكر النووي (قلت) وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمنًا .

وفيه : أنه يحرم على العامل في الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال . بل يخرج الوسط، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز .

قوله : (واتق دعوة المظلوم) أي اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم، وهذان الأمران يقيان من رزقهما من جميع الشرور دنيا وأخرى .

وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم .

قوله : (فإنه) أي الشأن (ليس بينها وبين الله حجاب) هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن، أي فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها .

وفى الحديث أيضًا قبول خبر الواحد العدل، ووجوب العمل به . وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة . وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمرهم بتقوى الله تعالى، ويعلمهم، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم سوء عاقبته . والتنبيه على التعليم بالتدريج . قاله المصنف .

قلت : ويبدأ بالأهم فالأهم .

واعلم أنه لم يذكر في الحديث الصوم والحج، فأشكل ذلك على كثير من العلماء . قال شيخ الإسلام : أجاب بعض الناس : أن بعض الرواة اختصر الحديث وليس كذلك . فإن هذا طعن في الرواة . لأن ذلك إنما يقع في الحديث الواحد، مثل حديث وفد عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره، فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيها كذلك، ولكن عن هذا جوابان :

أحدهما : أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة . فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج، كعامة الأحاديث، إنما جاء في الأحاديث المتأخرة .

الجواب الثانى : أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه . فيذكر تارة الفرائض التى يقاتل عليها : كالصلاة والزكاة . ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم . فإما أن يكون قبل فرض الحج، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه، وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما، لأنهما عبادتان ظاهرتان، بخلاف الصوم بأنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرًا، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وهو يذاكر في الأعمال الظاهرة التى يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها . فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم، وإن كان واجبًا كما في آيتي براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس . وكذلك لما بعث معاذًا إلى اليمن لم يذكر في حديث الصوم، لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج لأن وجوبه خاص ليس بعام، ولا يجب في العمر إلا مرة . انتهى بمعناه .

قوله (أخرجاه) أي البخارى ومسلم، وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة .


إعطاء على الراية يوم خيبر وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام

قال : (ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم خيبر : " لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يعطاها . فلما أصبحوا غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها، فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، قال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم") .

يدوكون أي يخوضون .

قوله : (عن سهل بن سعد) أي ابن مالك بن خالد الأنصارى الخزرجى الساعدى، أبي العباس صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضًا، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة .

قوله : (قال يوم خيبر) وفى الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال : "كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي في خيبر، وكان أرمد، فقال : أنا أتخلف عن رسول الله فخرج علي رضى الله عنه فلحق بالنبي فلما كان مساء الليلة التى فتحها الله عز وجل في صباحها قال  : لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غدًا رجل يحبه الله ورسوله، أو قال : يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه . فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا : هذا علي، فأعطاه رسول الله الراية ففتح الله عليه" .

قوله : (لأعطين الراية) قال الحافظ : في رواية بريدة : "إنى دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله" وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفها، ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس "كانت راية رسول الله سوداء، ولواؤه أبيض" ومثله عند الطبرانى عن بريدة . وعن ابن عدي عن أبى هريرة وزاد مكتوب فيه : لا إله إلا الله محمد رسول الله .

قوله : (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) فيه فضيلة عظيمة لعلي رضى الله عنه .

قال شيخ الإسلام : ليس هذا الوصف مختصًا بعلي ولا بالأئمة، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي، يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه، أو يكفرونه أو يفسقونه، كالخوارج . لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، ولكن هذا باطل، فإن الله تعالى ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافرًا .

وفيه إثبات صفة المحبة خلافًا للجهمية ومن أخذ عنهم .

قوله : (يفتح الله على يديه) صريح في البشارة بحصول الفتح، فهو علم من أعلام النبوة .

قوله : (فبات الناس يدوكون ليلتهم) بنصب (ليلتهم) ويدوكون قال المصنف : يخوضون . أي فيمن يدفعها إليه . وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان .

قوله : (أيهم) هو برفع أي على البناء لإضافتها وحذف صدر صلتها .

قوله : (فلما أصبحوا غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها) وفى رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال : "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ" .

قال شيخ إلإسلام : إن في ذلك شهادة النبي لعلي بإيمانه باطنًا وظاهرًا وإثباتًا لموالاته لله تعالى ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي لمعين بشهادة، أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو لخلق كثير، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس .

وعبد الله بن سلام وإن كان شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر .

قوله : (فقال أين علي بن أبى طالب) فيه سؤال الإمام عن رعيته، وتفقد أحوالهم .

قوله : (فقيل هو يشتكي عينيه) أي من الرمد، كما في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص فقال : ادعوا لي عليًا فأتي به أرمد الحديث، وفى نسخة صحيحة بخط المصنف : فقيل هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه مبني للفاعل ، وهو ضمير مستتر في الفعل راجع إلى النبي ويحتمل أن يكون مبنيًا لما لم يسم فاعله . ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : فأرسلنى إلى علي فجئت به أقوده أرمد .

قوله : (فبصق) بفتح الصاد، أي تفل .

وقوله (ودعا له فبرأ) هو بفتح الراء والهمزة ، أي عوفي في الحال، عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر .

وعند الطبراني من حديث علي فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي إلي الراية وفيه دليل على الشهادتين .

قوله (فأعطاه الراية) قال المصنف : فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع ومنعها عمن سعى .

وفيه إن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة لا ينافي التوكل .

قوله (وقال انفذ على رسلك) بضم الفاء، اي امض ورسلك بكسر الراء وسكون السين، أي على رفقك من غير عجلة . وساحتهم فناء أرضهم وهو ما حولها .

وفيه : الأدب عند القتال وترك العجلة والطيش ، والأصوات التى لا حاجة إليها .

وفيه : أمر الإمام عماله بالرفق من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة ، كما يشير إليه قوله ثم ادعهم إلى الإسلام أي الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإن شئت قلت الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ، وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الطاعة لرسوله . ومن هنا طابق الحديث الترجمة كما قال تعالى لنبيه ورسوله : '3 : 64' " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " .

قال شيخ الإسلام رحمه الله : والإسلام هو الاستسلام لله ، وهو الخضوع له والعبودية له . كذا قال أهل اللغة .

وقال رحمه الله تعالى : ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله : هو الاستسلام له وحده، فأصله في القلب . والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه . فمن عبده وعبد معه إلهًا آخر لم يكن مسلمًا . ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلمًا ، وفى الأصل : هو من باب العمل، عمل القلب والجوارح . وأما الإيمان فأصله تصديق القلب، وإقراره ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب . انتهى .

فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك في العبادة وهو دعوة جميع المرسلين، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله ، كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله : '71 : 3' "أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون" .

وفيه : مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء لأن النبي أغار على بنى المصطلق وهم غارون وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة وجبت دعوتهم .

قوله وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه أي في الإسلام إذا أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التى لابد لهم من فعلها : كالصلاة والزكاة، كما في حديث أبى هريرة : "فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " ولما قال عمر لأبي بكر في قتاله مانعي الزكاة :" كيف تقاتل النساء وقد قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله . فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها . قال أبو بكر : فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ، لقاتلتهم على منعها " .

وفيه : بعث إلإمام الدعاة إلى الله تعالى، كما كان النبي وخلفائه الراشدون يفعلون، كما في المسند عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال في خطبته : " ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم. ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم " .


لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك إلخ

قوله : (فو الله لأن يهدى الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم) أن مصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم . وأن والفعل بعدها في تأويل مصدر، رفع على الابتداء والخبر خير وحمر بضم المهملة وسكون الميم، جمع أحمر . والنعم بفتح النون والعين المهملة، أي خير لك من الإبل الحمر . وهي أنفس أموال العرب .

قال النووي : وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها .

وفيه : فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف .


باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

[عدل]

قوله : (باب - تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله)

قلت : هذا من عطف الدال على المدلول .

فإن قيل : قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى لا إله الا الله وما تضمنته من التوحيد كقوله تعالى '17 : 23' " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " وسابقها ولاحقها، وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها، فما فائدة هذه الترجمة ؟

قيل : هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه : من توحيد العبادة . فيها : الحجة على من تعلق من الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم . لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الايات، كالآية الأولى : '17 : 56' "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه" أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه، والعزير والملائكة، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهى، كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك. وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله، ينافي التوحيد وينافي شهادة أن لا إله إلا الله، فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده . وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك، لأن دعوة غير الله تأليه وعبادة له . والدعاء مخ العبادة .

وفى هذه الآية : أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضرر ولا تحويله من مكان إلى مكان، ولا من صفة إلى صفة . ولو كان المدعو نبيًا أو ملكًا . وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله كائنًا من كان، لأن دعوته تخون داعيه أحوج ما كان إليها، لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره . وهذه الآية تقرر التوحيد، ومعنى لا إله إلا الله .


الذين يبتغون إلى ربهم الوسيلة

وقوله تعالى : "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة" يبين أن هذا سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين . قال قتادة : تقربوا إليه بطاعته والعمل فيما يرضيه وقرأ ابن زيد :" أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " قال العماد ابن كثير : وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين . وذكره عن عدة من أئمة التفسير .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : في هذه الآية ذكر المقامات الثلاث : الحب، وهو ابتغاء التقرب إليه . والتوسل إليه بالأعمال الصالحة . والرجاء والخوف . وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبى " والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعد ما حلقت عدد أصابعي هذه : أن لا آتيك . فبالذي بعثك بالحق، ما بعثك به ؟ قال : الإسلام . قال : وما الإسلام ؟ قال : أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلوات المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة" وأخرج محمد بن نصر المروزى من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله " إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق . من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وهذا معنى قوله تعالى : '31 : 22' "ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور" .

وقوله تعالى : '43 : 26 - 28' " وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه " أي لا إله إلا الله .

فتدبر كيف عبر الخليل عليه السلام عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه . ووضعت له من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة في الخارج : كالكواكب والهياكل والأصنام التى صورها قوم نوح على صور الصالحين : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وغيرها من الأوثان والأنداد التى كان يعبدها المشركون بأعيانها . ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره، وهو الله وحده لا شريك له، فهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص . كما قال تعالى : '22 : 62' "ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل" فكل عبادة يقصد بها غير الله : من دعاء وغيره فهي باطلة، وهي الشرك الذي لا يغفره الله، قال تعالى : '40 : 73،74' " ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين " .

وقوله تعالى : ' 9 : 31 ' "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم" .

وفي الحديث الصحيح أن النبي تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال : "يارسول الله، لسنا نعبدهم. قال : أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ قال : بلى . قال النبي  : فتلك عبادتهم " .

فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أربابًا، كما هو الواقع في هذه الأمة، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة لا إله إلا الله .

فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة . فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد .

وقوله تعالى : '2 : 165' "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" فكل من اتخذ ندًا لله يدعوه من دون الله ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته - كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام - فلا بد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك، فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى .

ويقولون لا إله إلا الله ويصلون ويصومون، فقد أشركوا بالله في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه . لأن المشرك لا يقبل منه عمل، ولا يصح منه . وهؤلاء وإن قالوا لا إله إلا الله فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة : من العلم بمدلولها . لأن المشرك جاهل بمعناها، ومن جهله بمعناها جعل الله شريكًا في المحبة وغيرها، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص : ولم يكن صادقًا في قولها : لأنه لم ينف ما نفته من الشرك، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص وترك اليقين أيضًا، لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه، ولم يقبله وهو الحق، ولم يكفر بما يعبد من دون الله، كما في الحديث، بل آمن بما يعبد من دون الله باتخاذه الند ومحبته له وعبادته إياه من دون الله كما قال تعالى "والذين آمنوا أشد حبًا لله" لأنهم اخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب ويخلصون أعمالهم جميعًا لله، ويكفرون بما عبد من دون الله . فبهذا يتبين لمن وفقه الله تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآيات العظيمة على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين . فتدبر .

قال : وقوله تعالى '17 : 57' " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " الآية، يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها، وهو قوله تعالى "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلًا" .

قال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى (قل) يا محمد للمشركين الذين عبدوا غير الله "ادعوا الذين زعمتم من دونه" من الأصنام والأنداد وارغبوا إليهم، فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم أي بالكلية (ولا تحويلا) أي ولا يحولوه إلى غيركم .

والمعنى : أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر . قال العوفي عن ابن عباس في الآية : كان أهل الشرك يقولون : نعبد الملائكة والمسيح وعزيرًا، وهم الذين يدعون . يعنى الملائكة والمسيح وعزيرًا .

وروى البخاري في الآية عن ابن مسعود رضى الله عنه قال : "ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا " وفى رواية : "كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم" .

وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هى الإسلام، وهو كذلك على كلا القولين .

وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية قال : عيسى وأمه وعزير وقال مغيرة عن إبراهيم : كان ابن عباس يقول في هذه الآية : هم عيسى وعزير والشمس والقمر وقال مجاهد : عيسى وعزير والملائكة .

وقوله : "يرجون رحمته ويخافون عذابه "لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لا بد له من ذلك، فإما أن يكون خائفًا وإما أن يكون راجيًا، وإما أن يجتمع فيه الوصفان .

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، في هذه الآية الكريمة، لما ذكر أقوال المفسرين : وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم من كان معبوده عابدًا لله، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف في تفسيرهم يذكرون تفسير جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله : ما معنى الخبز ؟ فيريه رغيفًا، فيقول هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم من هذا تخصيص نوع من شمول الآية، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوًا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأولياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية الكريمة، كما تتناول من دعا الملائكة والجن، فقد نهى الله تعالى من دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال : (ولا تحويلا) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأولياء والصالحين أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله اهـ .

وفى هذه الآية رد على من يدعو صالحًا ويقول : أنا لا أشرك بالله شيئًا، الشرك عبادة الأصنام .


براءة إبراهيم مما يعبد قومه إلا الله

قال: (وقوله " وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني " الآية) قال ابن كثير : يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها : أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال : " إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون " أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له . وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله جعلها في ذريته يقتدى به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام (لعلهم يرجعون) أي إليها .

قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله : " وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون " يعنى لا إله إلا لله لا يزال في ذريته من يقولها .

وروى ابن جرير عن قتادة " إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني " قال : كانوا يقولون : الله ربنا '53 : 87' "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" فلم يبرأ من ربه رواه عبد بن حميد . وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة " وجعلها كلمة باقية في عقبه " قال : الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده .

قلت : فتبين أن معنى لا إله إلا الله توحيد العبادة بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه .

قال المصنف رحمه الله (وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة، هي شهادة أن لا إله إلا الله) .

وفى هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله في الكلمة الشافية :

وإذا تولاه امرؤ دون الورى طرا تولاه العظيم الشان


معنى واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا

قال : (وقوله تعالى "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله" . . . الآية) .

الأحبار : هم العلماء والرهبان هم العباد . وهذه الاية قد فسرها رسول الله لعدي بن حاتم، وذلك أنه لما جاء مسلمًا دخل على رسول الله فقرأ عليه هذه الآية . قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : بلى : إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق .

قال السدي : استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى : "وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله .

فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله، وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله الله، وأطاعه في معصية الله، واتبعه فيما لم يأذن به الله، فقد اتخذه ربًا ومعبودًا وجعله لله شريكًا، وذلك ينافي

التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله) فإن الإله هو المعبود، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم، وسماهم أربابًا كما قال تعالى '3 : 80' "ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا " أي شركاء لله تعالى في العبادة " أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون " وهذا هو الشرك . فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذا المطيع المتبع ربًا ومعبودًا، كما قال تعالى في آية الأنعام : '6 : 121' "وإن أطعتموهم إنكم لمشركون" وهذا هو وجه مطابقة الآية للترجمة، ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى '42 : 21' "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" والله أعلم .

قال شيخ الإسلام في معنىقوله "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله" وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين : أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل . فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركًا، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم . فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله، مشركًا مثل هؤلاء .

الثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما قد ثبت "عن النبي أنه قال : إنما الطاعة في المعروف" .

ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدًا قصده اتباع الرسل لكن خفى عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه . ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول . فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع ذلك هواه ونصره باليد واللسان مع علمه أنه مخالف للرسول . فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال . وإن كان عاجز عن إظهار الحق الذي يعلمه . فهذا يكون كمن عرف أن الدين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره . وقد أنزل الله في هؤلاء الآيات من كتابه كقوله تعالى : '3 : 199 ' "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم" وقوله : '5 : 83 ' "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " الآية وقوله '7 : 159 ' "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " . وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزًا عن معرفة الحق على التفضيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله : من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة . وأما من قلد شخصًا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبًا لم يكن عمله صالحًا، وإن كان متبوعه مخطئًا كان آثمًا . كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار، وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، فإن ذلك لما أحب المال منعه من عبادة الله وطاعته وصار عبدًا له، وكذلك هؤلاء فيكون فيهم شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك، وفي الحديث : "إن يسير الرياء شرك" وهذا مبسوط عند النصوص التى فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير الذنوب . انتهى.


معنى اتخاذ الأنداد من دون الله

وقال أبو جعفر بن جرير في معنى قول الله تعالى "وتجعلون له أندادًا" أي وتجعلون لمن خلق ذلك أندادًا وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معاصى الله . انتهى .

قلت : كما هو الواقع من كثير ومن عباد القبور .

قال : (وقوله '2 : 165' "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله ". . . .) الآية .

قال العماد ابن كثير رحمه الله : يذكر الله حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا لله أندادًا، أي أمثالًا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له، ولا شريك معه . وفى لصحيحين عن "عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ؟ أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندًا وهو خلقك" .

وقوله : "والذين آمنوا أشد حبًا لله" ولحبهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئًا . بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجأون في جميع أمورهم إليه . ثم توعد تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك . فقال تعالى : "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا" قال بعضهم تقدير الكلام، لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعًا، أي أن الحكم له وحده لا شريك له، فإن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه " وأن الله شديد العذاب " كما قال تعالى : '89 : 25، 26' " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد " يقول : لو علموا ما يعانون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال . ثم أخبر عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين . فقال تعالى : "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" ترأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة '28 : 63' "تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون" ويقولون '34 : 41' "سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون" الجن أيضًا يتبرأون منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى : '46 : 5، 6' " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " . انتهى كلامه .

روى ابن جرير عن كلامه في قوله تعالى "يحبونهم كحب الله" مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد "والذين آمنوا أشد حبًا لله" من الكفار لأوثانهم .

قال المصنف رحمه الله تعالى (ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله : آية البقرة في الكفار الذين قال تعالى فيهم "وما هم بخارجين من النار" ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبًا عظيمًا، فلم يدخلوا في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله ؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ؟) ا هـ .

ففى الآية بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره في المحبة فقد جعله شريكًا لله في العبادة واتخذه ندًا من دون الله، وأن ذلك هو الشرك الذى لا يغفره الله، كما قال تعالى في أولئك "وما هم بخارجين من النار" وقوله : "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب" المراد بالظلم هنا الشرك . كقوله : '7 : 82 ' "ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" كما تقدم . فمن أحب الله وحده، وأحب فيه وله فهو مخلص، ومن أحبه وأحب معه غيره، فهو مشرك، كما قال تعالى : '2 : 21، 22' " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه : فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة : لزم أن يكون محبًا له ومحبته هى الأصل في ذلك . انتهى .

فكلمة الإخلاص لا إله إلا الله تنفى كل شرك . في أى نوع كان من أنواع العبادة، وتثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى . وقد تقدم بيان أن الإله هو المألوه الذى تألهه القلوب بالمحبة وغيرها من أنواع العبادة فلا إله إلا الله، نفت ذلك كله عن غير الله، وأثبتته لله وحده . فهذا هو ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، فلابد من معرفة معناها واعتقاده، وقبوله، والعمل به باطنًا وظاهرًا . والله أعلم .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، أى مع الله تعالى بعبادته له، وتوحيد الحب : أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب - وإن سمى عشقًا - فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى، فلا يحب إلا الله، ولا يحب إلا الله، كما في الحديث الصحيح ثلاث من كن فيه الحديث ومحبة رسول الله هى من محبة الله، ومحبة المرء إن كانت لله فهى من محبته، وإن كانت لغير الله فهى منقصة لمحبة الله مضعفة لها، ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى الله محبوبه وهو الكفر - بمنزلة كراهيته لإلقائه في النار أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإك الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئًا، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وبين إلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر، كان أحب إليه من نفسه، وهذه المحبة هى فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم، بل لا نظير لهذه المحبة . كما لا مثل لمن تعلقت به، وهى محبة تقتضى تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد . وتقتضى كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرًا وباطنًا . وهذا لا نظير له في محبة المخلوق، ولو كان المخلوق من كان . ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركًا شركًا لا يغفره الله . كما قال تعالى : "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله" والصحيح : أن معنى الاية : أن الذين آمنوا أشد حبًا من الله أهل الأنداد لأندادهم . كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلًا، كما لا يماثل محبوبهم غيره، وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته . وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين محبته . ومن ضرب لمحبته الأمثال التى في محبة المخلوق للمخلوق : كالوصل، والهجر والتجنى بلا سبب من المحب، وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علوًا كبيرًا . فهو مخطىء أقبح الخطأ وأفحشه، وهو حقيق بالإبعاد والمقت . انتهى .


من هو الذي يحرم ماله ودمه

(وفى "الصحيح عن النبي أنه قال : من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله )" قوله في الصحيح : أى صحيح مسلم عن أبى مالك الأشجعى عن أبيه عن النبي فذكره .

وأبو مالك اسمه سعد بن طارق، كوفى ثقة مات في حدود الأربعين ومائة . وأبوه طارق بن أشيم - بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعى، صحابى له أحاديث . قال مسلم : لم يرو عنه غير ابنه . وفى مسند الامام أحمد عن أبى مالك قال : وسمعته يقول للقوم :"من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل" ورواه الامام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال أخبرنا أبو مالك الأشجعى عن أبيه . ورواه أحمد عن عبد الله بن إدريس قال : سمعت أبا مالك قال : قلت لأبى - الحديث . ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسر : لا إله إلا الله .

قوله : (من قال لا إله إلا الله وكفر يما يعبد من دون الله) اعلم أن النبي علق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين .

الأول : قول لا إله إلا الله عن علم ويقين، كما هو قيد في قولها في غير ما حديث كما تقدم .

والثانى : الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لابد من قولها والعمل بها .

قلت : وفيه معنى '2 : 256' "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" .

قال المصنف رحمه الله تعالى : (وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل اللفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه . فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع) انتهى .

قلت : وهذا هو الشرط المصحح لقوله : لا إله إلا الله فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التى ذكرها المصنف رحمه الله أصلًا . قال تعالى : '8 : 39' "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" وقال : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعًا .

وفى صحيح مسلم عن "أبى هريرة مرفوعًا أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بى وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وفى "الصحيحين عن ابن عمر قال :قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة . فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وهذان الحديثان تفسير الآيتين : آية الأنفال، وآية براءة . وقد أجمع العلماء على أن من قال : لا إله إلا الله ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها . أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفى والإثبات .

قال أبو سليمان الخطابى رحمه الله في قوله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف .

وقال القاضى عياض : اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره.

انتهى ملخصًا .

وقال النووى : لابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول كما جاء في الرواية ويؤمنوا بى وبما جئت به .

وقال شيخ الإسلام، لما سئل عن قتال التتار فقال : كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه . كما قاتل أبو بكر والصحابة رضى الله عنهم مانعى الزكاة . وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم . قال : فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام، أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال أو الخمر، أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار . أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التى لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التى يكفر الواحد بجحودها . فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء . قال : وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام . انتهى .

قوله : (وحسابه على الله) أي الله تبارك وتعالى هو الذى يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقًا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقًا عذبه العذاب الأليم . وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهرًا والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه .

قلت : وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول لا إله إلا الله ولا يكفر بما يعبدون من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث .

قوله : (وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب) قلت : وأن ما بعدها من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى لا إله إلا الله وفيه أيضًا : بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع، مما تركه من مضمون لا إله إلا الله فمن عرف ذلك وتحققه تبين له معنى لا إله إلا الله وما دلت عليه من الإخلاص ونفى الشرك، وبضدها تتبين الأشياء، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافى للتوحيد، وأما الأصغر فإنما ينافى كماله، فمن اجتنبه فهو الموحد حقًا، وبمعرفة وسائل الشرك والنهى عنها لتجتنب تعرف الغايات التى نهى عن الوسائل لأجلها، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه . وفيه أيضًا من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده، وأن العبادة لا تصلح إلا له، وهذا هو التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله .


من الشرك اتخاذ الحلقة والخيط ونحوهما

قوله : (باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما، لرفع البلاء أو دفعه)

رفعه : إزالته بعد نزوله . دفعه : منعه قبل نزوله .

قال : (وقول الله تعالى : '36 : 38' " قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ") .

قال ابن كثير : أي لا تستطيع شيئًا من الأمر (قل حسبى الله) أي الله كافى من توكل عليه (عليه يتوكل المتوكلون) كما قال هود عليه السلام حين قال قومه '11 : 54 - 56' " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " قال مقاتل في معنى الآية : فسألهم النبي صلى اله عليه وسلم فسكتوا . أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها.

وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا على أنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده . كما قال تعالى : '16 : 53، 54' " ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون * ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون " .

قلت : فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب أو دفع ضر، وأن ذلك شرك بالله . وفى الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله والرغبة إليه من دون الله . والتوحيد ضد ذلك . وهو أن لا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شئ لغير الله . كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم .


حديث عمران بن حصين في تعليق الحلقة وأنها لا تزيد صاحبها إلا وهناص

قال : ("وعن عمران بن حصين أن النبي رأى رجلًا في يده حلقة من صفر فقال : ما هذه ؟ قال: من الواهنة. قال : انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، فإنك لو مت وهى عليك ما أفلحت أبدًا " رواه أحمد بسند لا بأس به) .

قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا المبارك عن "الحسن قال : أخبرنى عمران بن حصين أن النبي أبصر على عضد رجل حلقة - قال أراها من صفر - فقال : ويحك ما هذه ؟ قال : من الواهنة . قال : أما إنها لا تزيدك إلا وهنًا . انبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا " رواه ابن حبان في صحيحه فقال : فإنك لو مت وكلت إليها والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، وقال الحاكم : أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران، وقوله في الإسناد : أخبرني عمران يدل على ذلك .

قوله (عن عمران بن حصين) أي ابن عبيد خلف الخذاعي، أبو نجيد -بنون وجيم- مصغر، صحابي عن صحابي، أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة .

قوله (رأى رجلًا) في رواية الحاكم دخلت على رسول الله وفي عضدي حلقة صفر، فقال : ما هذه الحديث فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث .

قوله (ما هذه) يحتمل أن الاستفهام للاستفسار عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار وهو أشهر .

قوله : (من الواهنة) قال أبو السعادات : الواهنة عرق يأخذ في المنكب واليد كلها، فيرقى منها، وقيل هو مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء وإنما نهى عنها لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد .

قوله(انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا) النزع هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفًا، وكذلك كل أمر نهى عنه فإنه لا ينفع غالبًا وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه .

قوله (فإنك لو مت وهو عليك ما أفلحت أبدًا) لأنه شرك، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة .

قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فيه شاهد لكلام الصحابة : إن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة . وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك ) .

قوله : ( رواه أحمد بسند لا بأس به ) هو الإمام أحمد بن حنبل بن هلال ابن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن ابن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسعد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان _ الإمام العالم أبو عبد الله الذهلي ثم الشيباني المروزي ثم البغدادي، إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث، وأشدهم ورعًا ومتابعة للسنة، وهو الذي يقول فيه بعض أهل السنة : عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشبه فنفاها، خرج به من مرو وهو حمل فولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة في شهر ربيع الأول .

وطلب أحمد العلم سنة وفاة مالك، وهي سنة تسع وسبعين فسمع من هشيم وجرير بن عبد الحميد وسفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هرون وعبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي وخلق لا يحصون بمكة والبصرة والكوفة وبغداد واليمن وغيرها من البلاد . روى عنه ابناه صالح وعبد الله، والبخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وأبو زرعة الرازي وأبو زرعة الدمشقي وعبد الله بن أبي الدنيا وأبو بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وأبو القاسم البغوى، وهو آخر من حدث عنه، وروى عنه من شيوخه عبد الرحمن بن مهدي والأسود بن عامر، ومن أقرانه علي المديني ويحيى بن معين . قال البخاري : مرض أحمد لليلتين خلتا من ربيع الأول ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه، وقال حنبل : مات يوم الجمعة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة . وقال ابنه عبد الله والفضل بن زياد : مات في ثاني عشر ربيع الآخر رحمه الله تعالى .


حديث من تعلق تميمة فلا أتم الله له إلخ

قوله : ( وله عن عقبة بن عامر مرفوعًا من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له وفي رواية : من تعلق تميمة فقد أشرك ) الحديث الأول رواه الإمام أحمد كما قال المصنف، ورواه أيضًا أبو يعلى والحاكم وقال : صحيح الإسناد وأقره الذهبى .

قوله : (وفى رواية) أي من حديث آخر رواه أحمد فقال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي منصور عن دجين الحجرى عن عقبة بن عامر الجهنى "أن رسول الله أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا يا رسول الله، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا ؟ فقال : إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها، فبايعه وقال : من تعلق تميمة فقد أشرك" ورواه الحاكم ونحوه . ورواته ثقات .

قوله : (عن عقبة بن عامر) صحابى مشهور فقيه فاضل، ولى إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريبًا من الستين .

قوله : (من تعلق تميمة) أي علقها متعلقًا بها قلبه في طلب خير أو دفع شر، قال المنذري : خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلالة، إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى .

وقال أبو السعادات : التمائم جمع تميمة وهى خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين، في زعمهم، فأبطلها الإسلام .

قوله : (فلا أتم الله له) دعاء عليه .

قوله : (ومن تعلق ودعة) بفتح الواو وسكون المهملة . قال في مسند الفردوس : شئ يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين .

قوله : (فلا ودع الله له) بتخفيف الدال، أي لا جعله في دعة وسكون، قال أبو السعادات وهذا دعاء عليه .

قوله : ( وفي رواية : من تعلق تميمة فعد أشرك ) قال أبو السعادات : إنما جعلها شركًا لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه .

قال المصنف رحمه الله (ولابن أبي حاتم عن حذيفة ) أنه رأى رجلًا في يده خيط من الحمى، فقطعه، وتلا قوله تعالى : [ 12 : 106 ] " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن أشكاب حدثنا يونس بن محمد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال : دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرًا فقطعه أو انتزعه . ثم قال : " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " .

وابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ، صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة .

وحذيفة هو ابن اليمان . واسم اليمان : حسيل بمهملتين مصغرًا، ويقال حسل - بكسر ثم سكون - العبسي بالموحدة، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين ويقال له صاحب السر وأبوه أيضًا صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين .

قوله : ( رأى رجلًا في يده خيط من الحمى ) أي عن الحمى . وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى وروى وكيع عن حذيفة : أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال : ما هذا ؟ قال : شئ رقى لي فيه، فقطعه وقال : لو مت وهو عليك ما صليت عليك وفيه إنكار مثل هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها . وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وازالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه .

قوله : (وتلا قوله : "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" استدل حذيفة رضي الله عنه بالآية على أن هذا شرك . ففيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزله الله في الشرك الأكبر، لشمول الآية ودخوله في مسمى الشرك، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره في كلام شيخ الإسلام وغيره . والله أعلم . وفى هذه الآثار عن الصحابة : ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وما ينافيه أو ينافى كماله .