غابة الحق (1881)/السياسة والمملكة
الفصل الرابع
السياسة والمملكة
كما أن نظام هذه الكرة الأرضية لا يمكن قيامه بمجرد حركتها اليومية على نفسها فقط، بل يحتاج إلى الحركة الشمسية حول فلكها أيضًا، هكذا الإنسان بما أنه محمول على ظهر تلك الكرة وآخذ جميع مواده ومقوماته منها، فهو تابع بجميع أطواره لأحوالها. فلا يمكنه القيام بمجرد اقتصاره على ذاته فقط؛ وذلك لعدم مقدرته على حفظ نظام حياته الشخصية، بل يحتاج إلى الدوران حول مركز المجموع الإنساني، وكما أن القوة الجاذبة التي تتبادلها جميع الأجرام السماوية لا تسمح بوقوع خلل في نظام الفلك العام، هكذا يحتاج ذلك المجموع الإنساني إلى قوة تحفظه من الوقوع في الخلل والتبديد. وإذا أخذنا نفتش على قوة مثل هذه، فلا نراها سوى في السياسة والشريعة، على أنه بذلك يوجد الإنسان محافظًا على التئام شمل جمعيته.
أما ينبوع ظهور السياسة والسيادة والشرائع، فهو جارٍ من تغلُّب الناس بعضهم على بعض منذ القديم، وهو الأمر الذي أنتج التملك والمملكات على وجه الأرض؛ فلا سبيل لمن يرغب الاطِّلاع على حقائق الحوادث البشرية وطرائق حدوثها إلا في إطلاق طيور التبصُّرات الدقيقة لتحوم باسطة أجنحة البحث والاستقصاء على شواجن التاريخ العام، حيثما يشتبك شجر المواقع في منحدرات الأجيال الغابرة وتهوي غدران الوقائع من شواهق القدميَّة العالية.
فلا ريب أنه إذا تطلبنا معرفة أصل انتماء وانقياد العالم البشري بعضه إلى بعض، وكيفية انتشار السيادة والشريعة فيه، إنما يدعونا الأمر إلى التوغُّل في أودية التواريخ الفسيحة. وهناك تبرز لدينا عروسة غابة الحقائق من خباء الأزمنة السالفة مقدمةً لنا بين أناملها زهرة المراد، فنعلم حينئذٍ أن الإنسان لم يَسُد في أول أمره إلا على عيلته ومتعلقاتها فقط، ثم آلت به حركات الظروف إلى أن يسود ويسطو على قبيلةٍ، ثم أفضت به تلك السيادة والسطوة إلى التسلُّط على شعوب مختلفة وقبائل متنوعة حيثما نودي به: يعيش الملك.
فهات بنا لنهبط بأقدام الاستقراء في أعماق القدميَّة الغامضة حيثما قد ابتدأت تلك الحركات وأخذت بالصعود إلى قمة التَّمام الأقصى، حتى إذا ما بلغنا سدرة التتبُّع مخترقين فلوات الأدهار المتراكمة نجد أنفسنا منتصبين على عرفات البداية؛ إذ نشاهد الإنسان القديم يهرع إلينا شاهرًا حسام السيادة هكذا. إنه لما كان النوع البشري تائهًا في البراري وثقوب الأرض لا يجد له مقرًّا في بطون الأودية التي كانت تهدده بانقضاض قمم الجبال الشامخة عليه، ولا راحة في فسحات القفر الذي كان يقذفه بثَوَران العواصف القاصفة، ويلذعه بلهبات الهجير المستعر بين أثافي الجنادل والآكام. ولا مفرَّ من زوابع الجو التي كانت ترشقه بمعجزاتها؛ إذ ترسل بروقها لدى أعينه فتخطفها دهشة، وتطلق صواعقها في آذانه فيرتعد جزعًا، وتسكب أنواءها على هامته فيخر ساجدًا لديها طالبًا رحمة كأنه يطلبها من إله يستحق العبادة، كانت الأرض وقتئذٍ غير محروثة ولا مزروعة وعديمة كل فلاحة، ومع ذلك فقد كانت تزهو ببساطها السندسي الذي بسطته عليها يد الطبيعة تحت مضارب السحاب منسوجًا من كل شجر عظيم ونبات وسيم.
فبينما كان أحد أفراد هذا النوع العظيم مضطجعًا على كثيب مرتفع في فلاة قفرة الأديم تحت سماءٍ وضيئة الأثير رائقة النسيم، محفوفًا بنسائه وبنيه؛ وإذا بنسمة هبَّت عليه عند انتصاب عمود الصباح، منطوية على نفحات زهور متنوعة الأطياب، وحاملة صرخات المواشي التي كانت تُسَبِّحُ رب الفلق، فأرشدت لحظاته الزائغة إلى أفق شاسع يترعرع بجلبابٍ خضل الاخضرار، ويترقرق تحت مساحب ذيول الغمام ومساقط أنداء الفجر.
فعندما بدا لديه ذلك المشهد الناضر وثب على قدميه في الحال، وصاح بلفيف عيلته المقرون وهو باسط يد الإيماء قائلًا: أما تنظرون ذلك الأفق البعيد الذي يتبيَّن لنا من خلال البزوغ كيف هو بهج المنظر وحسن المظهر؟! قوموا بنا لنذهب إليه ونتجسسه عَلَّه يكون صالحًا لإقامتنا؛ فنتخلص من هذه الأرض المُمحلة وتعب تلك الحياة التائهة، ونتمتع برغيد العيش. فما أتم كلامه إلا ورأى أقدام جميع تبعته تهرول أمامه إلى المحل المومَا إليه.
ولم يزل هذا المهاجر يطوي أديم الثرى حاديًا رحل رفاقه، آخذًا هدير الحيوانات دليلًا إلى حيث المناخ، حتى انتهى به المسير أخيرًا إلى بقعة رحبة الأرجاء؛ فوقف للحين واستوقف وأطلق نظرات التأمُّل ليرى جليًّا ما كان يلحظه عن بعدٍ خفيًّا، وإذا هو منتصب في غوط قد كسته العناية بوشاح الجمال العجيب، وكللته الطبيعة وأنوار الفصل الرطيب؛ فهناك كانت الشمس تسبل أشعة ضحاها على طلعة ذلك الروض الأزهر فيزدهي بألوان أجنحة الطاووس. هناك كانت الأنداء تتراقص على ثغور الزهر الأنور فتمثل تراقُص الحبب في أفواه الكُئُوس. هناك كان الجو الصافي يتعطر بأنفاس السحر فتهب نسماته ناشرة على الدنيا أطياب البشرى. هناك كانت عرائس الربيع ينثرن من رءوسهن لآلئ النور على حدائق الرياض، ويرسلن نظراتهن الصاحية إلى آفاق الأرجاء الغرَّاء، هناك كانت رءوس أشجار الخمائل تُحرَق بنيران أنوار المشرق، وأقدامها الثابتة تغرق في مسيل الماء المتدفق، وقدود أغصانها تترنح تحت عقود الزهور لدى خطرات الرياح، وصفحات أوراقها تتلامع بطفحات النور تلامُع الأسِنَّةِ والصِّفاح. هناك كانت الأطيار تصدح باختلاف الألحان، هناك كانت المواشي تسرح متنوعة الأبدان.
فلما شاهد هذا الإنسان سمو تلك البقعة الزاهرة، وكيف أن الطبيعة قد توَّجتها بكل أكاليل الجمال، وسكبت عليها مياه البهجة والازدهار، والتفت إلى جمهور ذريته وقال: هو ذا مدبر العالم ومديره قد أرشدنا إلى مقر الراحة في مكان خضرة حيث لا بكا ولا تنهد؛ فهلموا لنمكث ها هنا تحت هذه الأفياء الممتدة بين الزهور والينابيع، ونستريح مما قاسيناه من النَّصَب والوصب في تلك البرية الجدباء. فأحنى كلٌّ منهم رأسه امتثالًا وساروا جميعًا تحت إيعاز إشارته إلى حيث المحط. فكان حلولهم تحت ظلال دوحة لا تلتفحها لفحة الرمضاء، ولا تخترقها أشعة البيضاء.
ولما استروح الكل ريح الارتياح، وطفحت على شفاههم تبسُّمات الأفراح، جعلوا يتبادلون أحاديث البارحة، ويتذكرون كل غادية ورائحة. أما ربهم فقد كان شاخصًا في الأفق حيثما كانت تتراقص بنات الصباح ذوات الأكاليل الذهبية أمام ملكة الشرق الراكبة على عجلة نارية، ومندهشًا بما كانت الأنوار ترسمه على وجه الطبيعة ذات الحلل السندسية، وكأنَّ لسان حاله يقول:
وإذ أفاق من غفلات هواجسه نظر إلى أولاده ونسائه، فرآهم جالسين حوله كغروس الزيتون وهم يتعاطون كُئوس الحديث، فأخذ يخاطبهم هكذا: ها إن مَعارض الصدف قد دفعتنا إلى هذا المكان الفاخر، فلنلبث به ولا نَحِدْ عنه. وعلى ما أرى إنه لا يعوز شيء ها هنا ممَّا تحتاجه حياتنا؛ فها أشجار تطرح علينا أفياءها وتنثر أثمارها، وينابيع تدفق لنا مياهها، ومواشٍ تسمح لنا بألبانها ولحومها. وإذا أرعد البرد فرايصنا وغرَّقتنا الأنواء نصنع من صوف هذه الحيوانات ثيابًا تدفينا ومضارب تقينا. فاشربوا هنيًّا وكلوا مريًّا في جنات تجري من تحتها الأنهار، حيث لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
فولين كان التاريخ يعجز عن تمزيق حجاب القدميَّة القصوى ليكشف لنا تفصيل ما أحدثه الزمان مع تلك العيلة هناك، إلا أنه مع ذلك قد ينهج لنا طريقًا نسير به على قدم الاستقراء إلى حيث نقول:
إن هذه العيلة قد اغتنمت لذة العيش في ذلك المحل الخصيب، فتمكنت به آمنة وصارت تعيش بنتاج الأرض وحواصل الحيوانات المنفردة هناك، وتسلك تحت إرشاد الكبير منها خلفًا فخلفًا، ولم تزل مع تقدُّم الزمان تنمو وتتَّسع بانضمام آخرين إليها، حتى صارت جمهورًا غفيرًا يجري تحت سياسة ذلك الكبير الذي كان يخترع شرايع وقوانين يلتزم باعتناقها كلٌّ من هذا الجمهور لدفع وقوع الخلل في نظام الجمعية، وبِناءً على ذلك سمَّوه أميرًا. ولكون المواشي والأنعام قد كثرت أيضًا وتعاظمت هناك لتواصل الداخلة وانقطاع الخارجة كما تطلب طبيعة حيوان الكلاء حيث يوجد الإنسان، لم تَعُدْ من ثَمَّ تلك البقعة كفوًا لإشباع الجميع بدون توجيه الاعتناء إليها فصارت القطعان تتشتت؛ ولذلك بادر الناس إلى فلاحة الأرض وتهذيبها، بعد أن تعلموا العملية الإنباتية من نفس الطبيعة؛ لأنهم كانوا يراقبون كيفية هذه العملية من السنابل أو القصلات التي كانت تطرح الحبوب أو البذور في التراب بعد النضج، فتندفن هناك ثم تنهض نامية على شكل الأصل.
ولتسهيل إجراء التقليد للطبيعة بالفلاحة شرعوا يستخلصون المعادن الصُّلبة من مدافنها، ويعاملونها على النار الموقَدة من حطب الغاب، فيسكبونها آلات ويستخدمونها لحرث الأرض وتحريك الأثقال آخذين الثيران أعوانًا لهم.
وعلى هذا النمط: أخذوا يتمتعون مع مواشيهم بغلَّات الأرض وأثمارها مضاعفةً، فصاروا يدفعون الأعشار لأميرهم أجرة لما كان يعانيه لأجلهم؛ لأنه كان يحمي برجاله مزارعهم وحقولهم، ويمنع تعدِّي هذا على أمتعة ذاك، مدافعًا عن تخومهم هجوم المغتصب، ساهرًا على جميع أحوالهم السياسية بدون أدنى خلل في ترتيب الجمهور، حاكمًا ما بينهم بالعدل، قاضيًا بالإنصاف ناشرًا على الجميع راية شريعة واحدة، غير ملتفت إلى الامتيازات الأدبية ما لم يكن لأربابها نفع الصالح العام، مجتهدًا بكل إمكانه في راحة شعبه ورفاهيتهم، عارفًا أن من يأخذ أجرته يطالب بالعمل، وإذا لم يعمل يسقط من عين ذاته بحيث من لا يؤْثِر أن يعمل فلا يأكل، عالمًا أن السياسة أو الرياسة إذا وقعت في غير محلِّها تطلَّب من الشعب إنقاذها، غير مأخوذ بخمرة حب الرياسة التي متى خامرت العقل منعت بأبخرتها الكثيفة نفوذ أشعة الصواب فيه. متيقظًا لكل واجباته، صاحيًا في كل أعماله، ذا سلوك حسن مع الجميع، محبًّا للغرباء، قادرًا على السياسة، لا سكيرًا ولا ضَرَّابًا ولا طمَّاعًا، وبعد مضي فترة من الزمان صار أولئك القوم ينحتون من الجبال حجارة ويشوون من التراب قرميدًا ويوقدون من خشب الشجر نارًا.
ولما رأى أولئك القوم أن هيئتهم الاجتماعية قد انطوت على كل شروط الأمن والسلام، وصارت حديقة حياتهم تزهو بأثمار الدعة والسكون تحت سياسة أميرهم واعتنائه، أعلنوا جميعهم وجوب الطاعة والانقياد له، دافعين قلوبهم إلى محبته، وصاروا يسمون ذواتهم عبيده، ويحامون عن حقوقه وبيته بكل مقدرتهم، وهو كان يضاعف اهتمامه بجميع صوالحهم العامة والخاصة، غير مفتكرٍ إلا في دوام راحتهم، ولا ملتفت إلَّا إلى وقايتهم من كل المزعجات، مسميًا إياهم شعبه وأولاده.
ولما كان لا يمكن لنظر الراوي أن يدرك جليًّا كيفية امتداد تلك السياسة على العالم، ولا أن يستوضح حقيقة المسلك الذي نهجته لها الأقدار لما يعارضه هناك من ظلمات الأحقاب والأعصار، وجب عليه حينئذٍ أن يستخدم العقل كمصباح لكي يمكن لأعينه بواسطة أشعة الانتقالات الفكرية أن تنفذ في تلك الظلمات الدامسة فتفوز بمشاهدة ما وراء ذلك.
فهلمَّ إذنْ يا أيها الراوي واتْلُ علينا بقية ما جرى هنالك، وأخبرنا عمَّا عثرت عليه من المواقع بعد أن استطلعت العقل نيرًا في أوج الغوامض.
إنني بعد أن أولجت نظري طويلًا في بحر زاخر من الظلام الهائل حيثما كانت أمواج التيه والمعاثر تتلاطم تحت مَهَبِّ عواصف الأيام والليالي، أنفذته أخيرًا من هذه اللجج العميقة إلى سهل فسيح الأمد يعانق بباع نهايته أفق البداية، وإذا مرسح عظيم قد انفتح أمامي؛ وإذ كنت عاجزًا عن استجلاء الأشباح اللاعبة فيه تمامًا لشدة توغلهم في عباب القدميَّة، وضعت على أعيني نظارة الاستقراء وجعلت أتأمل.
فرأيت جموعًا عديدةً من الناس قائمين بمهمات عظيمة، ومقيمين ضوضاء حافلة وهم يصيحون بعضهم على بعض قائلين: هلموا نبتني لأميرنا برجًا يبلغ رأسه إلى السماء؛ فكان البعض يقطع من الجبال حجارة، والبعض يصنع طينًا، وآخرون يشوون لبِنًا، وغيرهم يسرد ترابًا، وما برحوا يحفلون بموسم البنيان حتى انتصب برج عظيم وصارت تخفق عليه راية أمير القبيلة.
وهكذا شرع كلٌّ من الناس يبني له بيتًا ولمواشيه مذودًا حتى قامت مدينة عظيمة المشاد، يضج في شوارعها أفواج وافرة من العباد. ولما صارت الأسواق تطن بمطارق معامل المعادن، والشوارع ترن بأصوات الصنائع والأشغال، والساحات ترتجف تحت أقدام المحافل والمعامع، والمراسح تتموَّج لدى لطم أمواج الأصوات الاحتفالية الآتية من أفواه آلات الطرب، صار يدوِّي في آذان الشعوب المتفرِّقة صوت ذلك الضجيج المرتفع واللغط الهادر، فكانوا يتقاطرون أجواقًا أجواقًا، ويخيمون في ظلال المدينة طالبين من سكانها أن يقبَلوهم في الجوار لكي يتخلصوا من مشاقِّ البادية ويفوزوا براحة الحضر.
وهكذا كانت تلك المدينة تقبلهم بكل إكرام على شرط أن يخضعوا لأحكامها وشرائعها ويؤدِّوا الأعشار لأميرها؛ فلم تلبث أن تعاظمت جدًّا، وتضاعفت مساحةً وسكانًا، وصارت محاطة بأسوار رفيعة وحصون منيعة، حتى أضحت مركز رهبة يدور عليه احترام القبائل وموضوع عظمة يُحمل عليه حسد البشر.
وبينما كانت هذه المدينة الزاهرة رافلةً بأذيال اليمن والكرامة، مختلة بسربال الهدوِّ والسلامة، تطفح في حاناتها كاسات السرور، وتشدو في حدائقها بلابل الحبور، وإذا عَجَاجٌ يثور عن بعيد، ونقع غبار يتصاعد إلى الجو، حتى عاد يُظن أن زوبعة شديدة قد نهضت من جوف الثرى وهمت أن تكحل أعين السماء بإثمد تراب الأرض، وكانت أصوات كهدير هجمات المياه تهب من تلك الجهة، فصليل تمازجه قعقعة اللجم وصهيل تتخلَّله نقرات حوافر الخيل. وما كان إلا كتردد الفكر بين شَكٍّ ويقين، حتى أسفر ذلك الغبار عن جيش جرار يتموَّج على الصهوات ويفري بطون الفلوات.
فلما نظرت عينا الأمير ذلك العَجَاجَ الثائر وسمعت أذناه تلك الأصوات الضاجَّة، لم يعد عنده ريب أن عدوًّا سمع بجلال مدينته فدفعه لهيب الحسد إلى إشهار الحرب وإيقاع الحصار.
ولما ثبت عنده ذلك الغضب المقبل، أخذته ثورة الحَمِيَّة ودارت في رأسه حرارة الوطن، ونادى في جميع المدينة معلنًا صوت الحرب حيثما صارت كافة الأهالي فريسةً ترتعد بين مخالب الجزع والهلع لما عاينوا مما لم يعاينوا؛ فأوعز إليهم أن يجتمعوا في إحدى الساحات الفسيحة رؤساء ومرءوسين، رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، أغنياء وفقراء، بدون أدنى امتياز أو مميز؛ لكون الجميع يلزمهم أن يحاموا عن حقوق الوطن ويقتسموا مطاليب محبته سوية لوجوب حقه على كل من لا ينكر عليه حق التمتع بخيراته.
وعندما تم الاجتماع وشملت النخوة كل الجموع وقف ذلك الأمير على محلٍّ عالٍ وأنشأ يقول: هو ذا الغربا قد أحدقوا بنا فدونكم والطراد، الأعداء قد هاجمونا فعليكم بالجِلاد، أنتم الأسود وهم الكلاب، فوا عجبًا لكلب يقتحم الغاب! هيا إلى النزال هيا إلى القتال، أنزلوا بهم الحسام المسنون، وانظروا أي منقلب ينقلبون.
ولما فرغ الأمير من مقالِه برز رجل عليه سيما الفصاحة والحماسة ورفع صوته في وسط الجمع وجعل ينشد:
فما فرغ من إنشاده الحربية حتى صارت أعين القوم تنثر شرر نيران الحَمِيَّة التي كانت تتوقد في القلوب؛ فأخذ جميع الرجال يتراكضون إلى الأسلحة أفواجًا، ويندفعون من أبواب الأسوار كاندفاع الصواعق من بطون السحب وهم يصرخون: لا جبن إلا وراء السور. وكان الأمير ساعيًا أمامهم كأحد الجنود.
أما النساء فكنَّ يحافظن على الأولاد ويجهزن أدوات الحرب، وهكذا أخذت الحرب تنتشب بين الجيوش؛ فكانت أصوات المقاليع ترن بين الأودية، والحجارة تترامى بين الصفوف، وعمد الحديد تتساقط على الرءوس، ولم يزل حتى صارت الصدور تتلاطم والأيدي تتقاوم، وكان الغبار يتصاعد من الأرض كتصاعد الدخان من فم الأتون. وما برحت هذه الملحمة حتى أخذ جيش العدو يتقهقر إلى الخلف ناكصًا على الأعقاب، وصارت جيوش المدينة تنادي خلفه بالغلبة والظفر، ولم تلبث أن شتَّت شمل الأعداء ونثرت نظام صفوفهم واستأسرت أكثر أجنادهم فوقعت خشية الأمير في قلوب سائر الأخصام، وعمت هيبته على كافة الصقع وازدادت محبته في نفوس شعبه الخاص وصار الجميع يقدمون له الخراج ويقولون: ليعِشِ الملك ولتَدُمِ المملكة.
وهكذا لم تزل هذه المملكة تنمو وتتسع ويمتد سلطانها إلى الأباعد، حتى صارت أخيرًا واسعة السياسة قائمة الشرائع والروابط؛ بحيث لم يمكن لأحد أن يعيش إلا تحت ذلك النظام.
فحينئذٍ يظهر لنا ممَّا تقدم أنه قد كان ظهور السيادة والسياسة على هذا النمط في العالم القديم وعلى ذلك المنوال كان قيام الممالك. فمن يعلم أن مملكة آثور أو فينيقية لم يكن ظهورها وامتدادها على النسق المذكور، ومن يعلم أن مكدونية التي ابتلعت تينك الأمتين لم تكن هكذا، ومعلوم أن رومية التي خفق نسرها على المسكونة قد كانت أكواخًا.1 ولما فرغ الفيلسوف من مقالته هذه نظر إليه الملك نظرة المندهش وقال له: ولئن كان خطابك هذا مبنيًّا على نتائج الوساوس والظنون مفعمًا من أحلام المخيلة وأوهام الفكر، إلا أنه مع ذلك لا يخلو من رائحة الصواب وسمة الحقيقة فلا بأس فيه.
وهكذا رمقته ملكة الحكمة بمقلة المرتضي واستصوبت خطابه، وبعد وقوع السكوت في مرسح المطارحة برهةً زهيدةً وخلو الكلام من الموضوعات، أخذ الملك يناجي الملكة بصوت سرِّيٍّ لم أعلم من موضوعه سوى الأهمية.
وإذ رأى الفيلسوف أن بواعث المناقشة صارت تحُول بينه وبين الخواطر، نهض مخليًا لهما ساعة المناجاة وسار قاصدًا جهة قائد جيش التمدُّن الذي كان يتخطر على مسافة، ولمَّا دنا منه وتلاطمت النظرات تبادلَا مصافحة الأكُفِّ وسلما على بعضهما، ثم جلسا معًا على جذع شجرة عظيمة قد أضجعها الزمان.
ولما مكن الفيلسوف نظره من القائد وجد عينيه متقدتين بلهيب الغضب، ووجهه مبرقعًا بسحابة الغيظ، وأثوابه مضمخة بالدماء، علم أن هذه الظواهر ناجمة عن مواقع الحروب؛ فأخذ يُطَيِّبُ خاطره بعبارات لطيفة، ويبشره باقتطاف ثمرة مشروعه قائلًا:
ما لي أرى دخان الهيجاء يتصاعد إلى الآن من منخريك يا أيها القائد الشجاع؟
ولماذا يتناثر شرر السخط من عينيك؟ ولِمَ لَمْ تُلقِ عن وجهك لثام الكمود وأنت الظافر بالعدو والقاهر صفوف المرَدة والمنادي في مرسح الكفاح: ها أنا الغالب؟ هل الغضب لا يرحل بعد حلول الانتقام؟ وهل الانتقام لا يروي لدى فيضان نهر الانتصار؟ وكيف لا يتبسم الانتصار عندما يظهر إكليل الغار؟ رحِّب سعة صدرك؛ فقد أنزلت بالأعداء نكبات الضيق. شُدَّ حقويك بالقوة فقد ضعفت عزائم الأخصام، أنقذ أطوار وجهك من أسر الغيظ فقد سقطت دولة العبودية، كيف يزأر الأسد والفريسة ترتعد بين يديه؟ كيف يعتكر البحر والرياح قد سكنت أمامه؟ كيف يَدْلَهِمُّ الصباح والليل يتمزق إزاء وجهه؟
نعم قد بذرتَ الحروب ولكن حصدت السلامة، نعم قد غرست القتال ولكن جنيت الظفر، نعم قد أَمَتَّ العبودية ولكن أحييت الحرية، نعم قد قيدت البربرية ولكن أطلقت التمدن، فاحكم بما شئت واقضِ ما أنت قاضٍ، فأجابه القائد مبتسمًا وكأنه دخل في خلق جديد: إن دوام لوائح الغضب والكآبة على وجهي إلى الآن ليس مسبَّبًا عن تلك الحروب والمواقع التي ملكنا بها الغلبة والنصر، والتي تستدعي ظهور لوائح الفرح والابتهاج، بل عن سبب مهم جدًّا. أجاب الفيلسوف: وما هذا السبب؟
– هو اعتماد الحضرة الملوكية على إرجاع العصاة إلى أوطانهم ومملكتهم.
– نعم، قد بلغني ذلك، ولكن على شروط كثيرة منها إرفاقهم بجماعة من طرف دولتكم كنظار على كل أحوالهم وأحكامهم، ومنها إلزامهم باتباع شرائع التمدن وقوانينه.
– إن أولئك القوم هم محتالون منافقون، وليس لهم ذمم ولا عهود تربطهم، يقولون ما لا يفعلون وفي كل وادٍ يهيمون أمَا تعلم أنه لا يوجد لجماعة الخشونة والبربرية ميثاق سوى الكذب، ولا شريعة غير الاحتيال والمكر، ولا حكم عدا التعدي والظلم، ولا حاكم خلاف الرشوة؟ ومن أصعب الأمور إخضاعهم بدون تبديد شملهم وهتكهم عن آخرهم.
– نعم، كل ذلك هو أكيد ولا ريب فيه، ولكن متى شاعت بينهم شرائع التمدن وطفقوا يتعلمونها من نعومة أظفارهم، وقامت عليهم نُظَّار ومساعدون من طرفكم، لا يعودون لابثين على تلك الخصال التي ذكرتَها ويصيرون بعد قليل من الزمان طبق المراد.
– نعم، ربما يتم ذلك ولكن بعد ألف عام. ولماذا كل هذه المدة؟ لأنهم شعب مجموع من كل قبيلة وملة تحت السماء؛ فكل حزب منهم يبغض الآخر ويجتهد في خرابه ودثاره بِنًاء على أن المحبة لا تقوم في اختلاف الأجناس، ومتى بطلت المحبة زال التمدن؛ لأنها الأساس الأول له، ومتى زال التمدن تمزَّقت أحشاء الوطن وخفقت سناجق العبودية، فلا يمكن رفع كل هذه الصعوبات ما لم يمر زمان طويل جدًّا. إنه ولئن كانت كل هذه المبادئ صحيحة فقد لا يمتنع نهوض التمدن في وسطها؛ لأن قوة انتشاره تغلب كل تلك الصعوبات كما جرى ذلك في أقوام كثيرين مختلِفي الأصل والفصل، أظن أنه بدون قوة المعجزات لا يقوم انتشار التمدن بين هذه القبائل. وإذا كان جرى ذلك ما بين أقوام متعددين مختلفين أصلًا وفصلًا، فهم قد كانوا متفقين ميلًا ورأيًا. لا يجب عمل المعجزات هنا ولا الآيات؛ إذنْ بأي قوة ينتشر التمدن؟ بقوة دعائمه المرتكزة على قلب الإنسان طبعًا قبل انحرافه إلى الفساد.
– كم دعامة يوجد للتمدن؟
– خمس دعائم.
– هل يمكنك تعديدها لأنني أفتكر أنه يوجد أكثر من ذلك؟
– نعم، يوجد ولكن ينحصر الكل في تلك الخمس.
– فاشرح إذنْ لي ذلك.
- ↑ قوله أكواخًا في القاموس: الكوخ بالضم والكاخ بيت مسنم من قصب بلا كوة، والجمع أكواخ.