انتقل إلى المحتوى

عيون الأنباء في طبقات الأطباء/الباب السابع/النضر بن الحارث بن كلدة الثقفي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: النضر بن الحارث بن كلدة الثقفي


هو ابن خالة النبي صلى الله علية وسلم، وكان النضر قد سافر البلاد أيضا كأبيه، واجتمع مع الأفاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الأحبار والكهنة، واشتغل وحصل من العلوم القديمة أشياء جليلة القدر، واطلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة، وتعلم من أبيه، أيضاً، ما كان يعلمه من الطب وغيره، وكان النضر يؤاتي أبا سفيان في عداوة النبي صلى الله علية وسلم، لكونه كان ثقفياً، كما قال رسول اللَّه صلى الله علية وسلم قريش والأنصار حليفان، وبنو أمية وثقيف حليفان، وكان النضر كثير الأذى والحسد للنبي صلى الله علية وسلم، ويتكلم فيه بأشياء كثيرة، كيما يحط من قدره عند أهل مكة، ويبطل ما أتي به بزعمه، ولم يعلم، بشقاوته، إن النبوة أعظم؛ والسعادة أقدر؛ والعناية الألهية أجل؛ والأمور المقدرة أثبت، وإنما النضر اعتقد أن بمعلوماته وفضائله وحكمته يقاوم النبوة، وأين الثرى من الثريا، والحضيض من الأوج، والشقي من السعيد، وما أحسن ما وجدت حكاية ذكرها أفلاطن في كتاب النواميس في أن النبي وما يأتي به لا يصل إليه الحكيم بحكمته، ولا العالم بعلمه، قال أفلاطون وقد كان مارينون، ملك اليونانيين الذي يذكره أوميرس الشاعر باسمه وجبروته، وما تهيأ لليونانيين في سلطانه، رمي بشدائد في زمانه، وخوارج في سلطانه، ففزع إلى فلاسفة عصره، فتأملوا مصادر أموره ومواردها، وقالوا له قد تأملنا أمرك، فلم نجد فيه من جهتك شيئًا يدعو إلى ما لحقك، وإنما يعلم الفيلسوف الافراطات وسوء النظام الواقعين في الجزء، فأما ما خرج عنه فليس تبحث عنه الفلسفة، وإنما يوقف عليه من جهة النبوة، وأشاروا عليه أن يطلب نبي عصره ليجتمع له مع علمهم ما ينبئ به، وقالوا أنه لا يسكن في البلدان العامرة، وإنما يكون بين أقاصي المقفرة بين فقراء ذلك العصر فسألهم ما يجب أن يكون عليه رسله إليه، وما يكون دليلًا لهم عليه فقالوا اجعل رسلك إليه من لانت سجيته، وظهرت قناعته، وصدقت لهجته، وكان رجوعه إلى الحق أحب من ظفره به، فإن بين من استولى عليه هذا الوصف وبينه وصلة تدلهم عليه، وتقدم إليهم في المسألة عنه، عند مسقط رأسه ومنشئه، وسيرته في هذه المواضع، فإنك تجده زاهدًا في النعيم، راغبًا في الصدق، مؤثرًا للخلوة، بعيدًا من الحيلة غير حظي من الملوك، ينسبونه إلى تجاوز حده والخروج عما جرى عليه أهل طبقته، تتأمل فيه الخوف، وتخال فيه الغفلة، إذا تكلم في الأمر توهمت أنه عالم بأصوله وليس يعرف ما يترقى إليه به، وإذا سئل عما يصدر عنه ذكر أنه، يلقى على لسانه وفي خاطره، في اليقظة وبين النوم واليقظة، ما لم ير فيه، وإذا سئل عن شيء، رأيته كأنه يقتضي الجواب من غيره، ولا يفكر فيه تفكير القادر عليه، والمستنبط له، وإذا وجدوه، فسيجمع لهم إلى ما تقرر من وصفه أعاجيب تظهر على لسانه ويده. فجمع سبعة نفر وأضاف إليهم أمثل من وجد من الفلاسفة، فخرجوا يلتمسونه، فوجدوه على مسافة خمسة أيام من مستقر مارينوس في قرية قد خرج أكثر أهلها عنها، وسكنوا قريبًا من مدينة مارينوس لما آثروه من لين جواره وكثرة الانتفاع به، ولم يبق فيها إلا نفر من الزهاد قد قعدوا عن الاكتساب، ومشايخ وزمنى خلفهم الجهد، وهو بينهم في منزلة شعث، وحول النزل جماعة من هؤلاء القوم، قد شغفهم جواره، وإلهاهم عن الحظوظ التي وصل إليها غيرهم، فتلقاهم أهل القرية بالترحيب، وسألوهم عن سبب دخولهم قريتهم الشعثة التي ليس فيها ما يحبس أمثالهم عليه، فقالوا رغبنا في لقاء هذا الرجل ومشاركتكم في فوائده، وسألوهم عن وقت خلوته، فقالوا ما له شيء يشغله عنكم، فدخلوا إليه فوجدوه مختبئًا بين جماعة قد غضوا أبصارهم من هيبته، فلما رآه السبعة نفر سبقتهم العبرة؛ وغمرتهم الهيبة، ومعهم الفيلسوف ممسك لنفسه، ومتهم لحسه، يريد أن يستبرئ أمره، فسلموا عليه، فرد عليهم السلام ردا ضعيفًا وهو كالناعس المتحير، ثم زاد نعاسه حتى كادت حبوته أن تنحل فلما تبين من حوله ما تغشاه غضوا أبصارهم ووقفوا وقوف المصلي، فقال يا رسل الخاطئ الذي ملك جزءًا من عالمي، فنظر إلى صلاحه في سوق الخيرات الجسدية إليه، فأفسده بما غمره منها، وكان سبيله سبيل من وكل بجزء من بستان كثير الزهر والثمار، فصرف إليه أكثر من حصته من ماء ذلك البستان، وظن أنه أصلح له فكان ما زاده منه على حصته، ناقصًا من طعوم ثماره، ورائح أزهاره؛ وسببًا لجفاف أشجار جزءٍ جزءٍ منه وتصويح نبته، فلما سمع السبعة نفر هذا لم يملكوا أنفسهم حتى قاموا مع أولئك فوقفوا وقوف المصلين، قال الفيلسوف فبقيت جالسًا خارجًا عن جملتهم لاستبرئ أمره، وأتقصى عجائبه، فصاح بي أيها الحسن الظن بنفسه، الذي كان أقصى ما لحقه أن سلك بفكره بين المحسوسات الجزئية والمعقولات الكلية، واستخلص منها علمًا وقف به على طبائع المحسوسات وما قرب منها؛ فظن أنه يبلغ به كل علة ومعلول، أنك لا تصل إلي بهذه الطريق، لكن بمن جعلته بيني وبين خلقي، ونصبته للدلالة على إرادتي، فاصرف أكثر عنايتك إلى الاستدلال عليه، فإذا أصبته فأردد إليه ما فضل من معرفتك، فقد حملته من جودي ما فرقت به بينه وبين غيره، وجعلته سمة له يستعرضها إفهام المخلصين للحق. ثم تماسك وقوي طرفه، فرجع من حوله إلى ما كانوا عليه، وخرجت من عنده، فلما كان العشية عدت إليه فسمعته يخاطب أصحابه والسبعة نفر بشيء من كلام الزهاد، وينهاهم فيه عن طاعة الجسد، فلما انقضى كلامه قلت له قد سمعت ما سلف لك في صدر هذا اليوم وأنا أسألك زيادتي منه، فقال كلما سمعته فإنما هو شيء صور في نفسي وأُنطق به لساني، وليس لي فيه إلا التبليغ، وإن كان منه شيء سنقف عليه، فأقمت عنده ثلاثة أيام، أُدِّبر السبعة نفر على الرجوع إلى أوطانهم فيأبون ذلك علي، فلما كان اليوم الرابع دخلت عليه، فما تمكنت من مجلسه حتى تغشاه ما كان غشيه في اليوم الذي دخلنا عليه، ثم قال يا رسول الخاطئ المستبطئ نفسه في الرجوع له، ارجع إلى بلدك فإنك لا تلحق صاحبك، وإني أنسخه بمن يعدِّل ميل الجزء الذي في يده، فخرجت من عنده فلحقت بلدي وقد قضى نحبه، وتولى الأمر كهل من أهل بيت مارينوس، فرد المظالم وخلص الأرواح مما غشيها من لبوسات الترفة والبطالة، أقول ولما كان يوم بدر والتقى فيه المسلمون ومشركو قريش، وكان المقدم على المشركين أبو سفيان، وعدتهم ما بين التسعمائة والألف، والمسلمون يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر، وأيد اللَّه الإسلام ونصر نبيه صلى الله علية وسلم، ووقعت الكسرة على المشركين، وقتلت في جملتهم صناديد قريش، وأسر جماعة من المشركين، فبعضهم استفكوا أنفسهم، وبعضهم أمر النبي صلى الله علية وسلم، بقتلهم، وكان من جملة المأسورين عقبة بن أبي معيط، والنضر ابن الحرث بن كلدة، فقتلهما عليه السلام بعد منصرفه من بدر. حدثني شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد بن الحسن بن محمد الكاتب البغدادي ابن الكريم قال حدثنا أبو غالب محمد بن المبارك بن محمد بن الميمون، عن أبي الحسن علي بن أحمد بن الحسين بن محمويه الشافعي اليزدي عن أبي سعد أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن أبي القاسم الصيرفي البغدادي، عن أبي غالب محمد بن أحمد بن سهل بن بشران النحوي الواسطي، عن أبي الحسين علي بن محمد بن عبد الرحيم بن دينار الكاتب، عن أبي الفرج علي بن الحسين بن محمد الكاتب الأصبهاني، قال حدثنا محمد بن جرير الطبري، قال حدثنا ابن حميد، قال حدثنا مسلمة عن محمد بن إسحاق، قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان أن رسول اللّه صلى الله علية وسلم قتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط صبراً، أما عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري فضرب عنقه، ثم أقبل من بدر حتى إذا كنا بالصفراء قتل النضر بن الحرث بن كلدة الثقفي أحد بني عبد الدار، فقد أمر علي بن أبي طالب، رضي اللّه عنه، أن يضرب عنقه، فقالت فتيلة بنت الحرث ترثيه الكامل:

يا راكبًا أن الأثيل مظنة
من صبح خامسة وأنت موفق
بلغ به ميتًا فإن تحية
ما إن تزال بها الركائب تخنق
مني إليه وعبرة مسفوحة
جادت بدرتها وأخرى يخنق
فليسمع النضر أن ناديته
إن كان يسمع ميت أو ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
للّه أرحام هناك تمزق
صبرًا يقاد إلى المنية متعبًا
رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمدٌ ولأنت نسل نجيبة
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
مُنَّ الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من أخذت بزلة
وأحقهم إن كان عتق يعتق
لو كنت قابل فدية لفديته
بأعز ما يفدي به من ينفق

قال أبو الفرج الأصبهاني فبلغنا أن النبي صلى الله علية وسلم قال «لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته»، فيقال أن شعرها أكرم شعر موتورة وأعفه وأكفه وأحلمه، أقول كان عليه السلام أنما أخر قتل النضر بن الحرث إلى أن وصل الصفراء ليتروى فيه، ثم أنه رأى الصواب قتله فأمر بقتله، ويروى أيضًا في قولها والنضر أقرب من قتلت قرابة تشير إلى أنه قرابة النبي عليه السلام، وكانت وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وبدر موضع وهو اسم ماء، قال الشعبي بدر بئر كانت لرجل يدعى بدرًا ومنه يوم بدر، والصفراء من بدر على سبعة عشر ميلاً، ومن المدينة على ثلاث ليال قواصد.