علم الملاحة في علم الفلاحة/الباب الثامن
وذكر أراضيها وأوقات زرعها، وحصاد ذلك واختباره، وما يوافقه من الأرض وما يحفظه وذكر منافع ذلك وخواصه على التفصيل.
اعلم أن القمح يغتذي من الأرض كثيرا ويمتص ما فيها من قوة ورطوبة، والشعير غذاؤه من الأرض أقل من القمح، وكثيرا ما تضعف الأرض عند توالي زراعتها فيها، فإذا أرنا منع ذلك زرعنا الشعير بدل القمح فإنه أبقى لقوتها. والعدس والجلَّبان يطيبان الأرض، لا سيما الرقيقة وهي لذلك أشد حاجة لهما. والحمص فيه عشبة تفسد الأرض كثيرا، ومع هذا فاغتذاؤه من الأرض أقل من القمح والشعير. وأما الكرسنَّة والفول والجلبان والعدس فأرضها نافعة لزراعة القمح. والقطن أرضه طيبة للزراعة، والترمس يزرع في الأرض الرقيقة الضعيفة فتقوى به، وإذا زرع القمح بعده جاد، لأنه يطيب الأرض الرديئة. ويزرع القمح في الأرض الطيبة السهلة، والشعير في الأرض المتوسطة الحال بين الرقيقة الطيبة، والفول في الأرض الندية الرطبة ويزرع قبل موعده، والحمص كذلك وإن بكرت بالحمص، فازرعه عند زرع الشعير فيجود ويأتي طريا، وإن أريد للخزن يزرع في نصف كانون إلى آخر آذار. والعدس إذا زرع في الأرض الرقيقة يطيبها وموعده من نصف كانون الآخر إلى الاستواء الربيعي. وقيل إن زرع الخرفي جاد وحسن. والسلت تنفعه الأرض الرملية ويزرع على وجه الأرض المهملة فينبت وكذا الترمس، ويبكر بالسلت في الخرفي.
والدخن يزرع في الأرض الرملية وتحرث أرضه مرات، وينقى حشيشه باستمرار. والذرة تزرع في القيعان الرطبة والرملية الندية ويزرع متأخرا كالدخن. والأرز أحسنه ما يكون على السقي، وقد يزرع على غير سقي في القيعان الرطبة بعد حراثتها والعناية بها، ويزرع في نيسان وإذا زرع على السقي ونقل بعد نباته جاد. والسمسم يزرع في الأرض الرطبة كالجزائر والقيعان فيجود، وتتأخر زراعته إلى الاستواء الربيعي وقليله في البدر كاف وإذا زرع على وجه الأرض وأصابه مطر ثم طلعت عليه الشمس ضغطته الأرض ضغطا يؤيد إلى الضعف والفساد. وكذلك القطن فتؤخر زراعته حتى يستقيم الهواء. والكتان يزرع في الأرض الطيبة جدا لئلا يغلظ سلقه ويكثر من بزره فيلتف بعضه على بعض لرقة اللحاء. والقنب يزرع في الأرض الخصبة الدائمة الرطوبة في وقت طلوع السماك الرامح من السادس عشر من شباط إلى وقت الاستواء الربيعي، وهو الرابع عشر من آذار، وقد يزرع في نصف نيسان فيجود وهو مما يمتص باقي الأرض من غذاء فيتركها صفيقة هزيلة، ولذلك تزبل بعده الأرض حتى يمكن زراعتها في المستقبل.
والقطن يزرع في القيعان والجزائر المستوية في أيار بعد حرث الأرض مرات كثيرة كي ترتخي وكلما زادت حراثتها قبل بدره كان أجود. وينقى بعد خروجه مرات ويقلع من حوله سائر الأعشاب فيجود جدا. والجلبان يزرع وقت الباقلاء وهو الفول، وقد يؤخر إلى شباط، ويطيب له كالعدس. وقيل يزرع القمح في الأرض الندية، وإن زرع في الجافة قطعت أصوله الديدان وإن سلم جاء ضعيفا، وكذا الجلبان، وإذا أخصب زرع القمح والشعير وطال في الأرض الرطبة يخشى أن يركب بعضه بعضا ويفسد ولذلك تترك فيه الدواب لترعاه فتمنع فساده وينبت ويجود. وينبغي أن تؤخر الزراعة في الأرض الباردة جدا إلا أن يكون ذلك النبات كالقمح والشعير فلا بأس من زراعته لأنه لا يبالي بالثلج والهواء، ويبكر بزراعة الكتان، ويؤخر مثل الدخن والذرة والسمسم والقنب والقطن وكذا البقول، وإذا دفن البزر مع هبوب ريح الجنوب يأتي الزرع كثير البركة، ويبدر يوم مطر ولا يبدر شيء من الزرع حتى تجف الأرض. وقيل لا يزرع القمح إلا بعد ثلاث حراثات أو أربع مع قلب طيب وثرى معتدل وجو خال من الهواء والمطر. والشعير بحراثتين أو ثلاث، والقطاني يكرر عليها مرات مفردة نحو العشر حرثات إن أمكن. ويكون البدر في ثلاث دفعات متفرقات، دفعة في أول الموسم ودفعة في وسطه ودفعة في آخره، فلا يخيب كله، ويتوخى زيادة القمر، إلا الكتان جرّب في النقصان فلم يخب، والزرع الباكر من نصف أيلول، ما زرع قبل ذلك لا يفلح، وما زرع في شباط ربما يفلح قليلا، والوقت المتوسط من زرعها إلى حصادها مائة يوم ولا ينبغي أن يزرع قمح ولا شعير في الحادي والعشرين من كانون الثاني حتى آخره.
قال صاحب الفلاحة: إذا أخذ جاد ضبع وربط على المكيال عشرة أيام ثم اكتيلت به الحبوب وزرعت أمنت الطيور والدود والفار. وأيام الدفء في الشتاء هي الأجود لزرع الحنطة، وإن كان مع ريح الجنوب وزيادة القمر كان الموسم الأجود ويأتي الحب كبيرا وكذا سائر أصناف الحبوب، ومما يخصب الحبوب ويزيد في إنتاجها برادة قرون البقر والغنم بعد دقها بالهاون وخلطها مع الحبوب قبل البدار. ويقال في البدار المعتدل فيما ذكر من الحبوب، إذا بسط إنسان يده على ارض المزروعة قبل تغطية البدار بالحرث جاءت السنابل وفيها سبع أو ثمان حبات من القمح أو تسع أو عشر حبات من الشعير أو أربع حبات أو خمس أو ست من الفول، وكذا الترمس والحمص. ولا يزرع من الحبوب ما لحقته آفة فإنه لا ينبت ويذهب العمل هدرا، وأجود البدار ما كان عمره سنة ودونه ماله سنتان، وماله ثلاث سنين رديء إلا الجاروس وهو الذرة، والأرز وتكون الحبة سمينة صالحة، ولا خير فيما أكله السوس ونحوه.
وأما الحصاد فالقمح يحصد سريعا وفيه بعض رطوبته ليكون أجود وأحلى، والذي يؤخر حصاده يصمد أكثر، ويحصد الشعير أولا لئلا تتقلص حباته ويصفر لونه ويهزل، ويسارع في جمع الحبوب قبل جفافها كثيرا لئلا تتقبض، وإذا جف جفافا جيدا لا يسرع الفساد إليه. وأحسن الحصاد سحرا وآخر النهار، والتذرية في يوم ريح الشمال أصلح. وبعض لحكماء كان يأمر الحصادين ومن ينظف القمح والشعير ويجمعهما أن يغنوا ويرفعوا أصواتهم بألحان مليحة، فإن لذلك تأثيرا طيبا فيهما. والحبوب المحصودة باكرا تكون أطيب طعما، ويظهر ذلك العدس ونحوه وهو أسرع نضجا عند الطبخ، وتحصد القطاني برطوبتها في الندى ويجعل السنبل للشرق، ومحل قطع المنجل للغرب فلا يعتريه الفساد.
وأما موضع البيدر فيجعل إلى ناحية هبوب الشمال والجنوب مستويا غالبا بعيدا عن البساتين، فإن التبن يضر بالشجر المثمر إذا وقع على الثمر والورق ويجففها، وكذا البقول، فإنه بمنزلة السم القاتل، ويبعد به عن البيوت فإن غباره مضر. ويبعد به أيضا عن اصطبلات البقر والخيل ونحوهما. قال ابن زهير: إذا حصد القمح في يوم العنصرة وهو الرابع والعشرون من شهر حزيران، لم يدخل السوس ذلك القمح. وأما مخازنه فينبغي أن تكون كثيرة المنافس لدفع البخار ووصول الهواء البارد من الصبا أو الشمال. ولا يكون فيها نداوة ولا رائحة منتنة، ولا بخار كريه. وينبغي أن تطين حيطانه بطين عجن بالشعر بدل التبن، ثم بالطين الأبيض من داخل وخارج. ومما يحفظ الحنطة من الفساد أن يعد تراب أبيض يابس وورق شجر الرمان يابسا مدقوقا وينثر عند الخزن على كل مدّ من الحنطة مقدار الثُّمن. وكذا إذا خلط جص منخول بالشعير بقدر ما يرى بياضه أو دفنت جرار مملوءة بخل في وسط الشعير يسلم ذلك من الآفة. وإن نقع قثاء الحمار وورقه يومين في ماء وصفي وعجن به رماد ورمل، وكذا إن بُل الرمل بدردي الزيت، فإنه يقتل الهوام، وقد يخزن القمح والشعير في حفائر في الأرض البيضاء الجافة الباردة فيحفظ دهرا.