عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات/المقدمة الأولى
في شرح العجب
قالوا العجب حيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء أو عن معرفة كيفية تأثيرة فيه مثاله أنْ الإنسان إذا رأى خليّة النحل ولم يكن شاهده قبل لكثرته حيره لعدم معرفة فاعله، فلو علم أنه من عمل النحل لتحيّر أيضاً من حيث أنَّ ذلك الحيوان الضعيف كيف أحدث هذه السدسات المتساوية الأضلاع الذي عجز عن مثلها المهندس الحاذق مع الفرجات والمسطرة، ومن أين لها هذا الشمع الذي اتخذت منه بيوتها المتساوية التى لا تخالف بعضها بعضاً كأنها أفرغت في قالب واحد، ومن أين لها هذا العسل، الذي أودعته فيها ذخيرة للشتاء، وكيف عرفت أن الشتاء يأتيها وأنّها تفقد فيه الغذاء، وكيف اهتدت إلى تغطية خزانة العسل بغشاء رقيق ليكون الشمع محيطاً بالعسل من جميع جوانبه، فلا ينشفه الهواء ولا يصيبه الفأر، ويبقى كالبرنية المنضمة الرأس، فهذا معنى العجب، وكل ما في العالم بهذه المثابة.
إلا أن الإنسان يدركه في زمن صباه عند فقد التجربة ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلاً قليلاً وهو مستغرق الهم في قضاء حوائجه وتحصيل شهواته، وقد أنس بمدركاته ومحسوساته، فسقط عن نظره بطول الأنس بها، فإذا رأى بغتة حيواناً غريباً أو فعلاً خارقاً للعادات انطلق لسانه بالتسبيح فقال: سبحان الله، وهو يرى طول عمره أشياء تتحيّر فيها عقول العقلاء، وتدهش فيها نفوس الأذكياء، فمن أراد صِحّة أو صدق هذا القول، فلينظر بعين البصيرة إلى هذه الأجسام الرفيعة، وسعتها وصلابتها وحفظها من التغيّر والفساد، إلى أن يبلغ الكتاب أجله، فإن الأرض والهواء والبحار بالإضافة إليها كحلقة ملقاة في فلاة، قال الله تعالى:
﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾.
ثم إلى دورانها مختلفاً، فإن بعضها يدور بالنسبة إلينا رحوية، وبعضها حمائلية، وبعضها دولابية، وبعضها يدور سريعاً، وبعضها يدرر بطيئاً، ثم إلى دوام حركاتها من غير فتور وإلى إمساكها من غير عمد تعمد بها أو علاقة تدلى بها.
ثم لينظر إلى راكبها وكثرتها واختلاف ألوانها، فَإنّ بعضها يميل إلى الحمرة، وبعضها إلى البياض، وبعضها إلى لون الرصاص.
ثم إلى مسير الشمس وفلكها مدة سنة، وطلوعها وغروبها كل يوم لاختلاف الليل والنهار ومعرفة الأوقات، وتمييز وقت المعاش عن وقت الاستراحة.
ثم إلى إمالتها عن وسط السماء حتى وقع الصيف والشتاء والربيع والخريف. وقد اتفق الباحثون على أنّها مثل كرة الأرض مائة مرّة ونيّفاً وستّين مرّة، وفي لحظة تسير أكثر من قطر كرة الأرض، وقد عرض ذلك جبريل عليه السلام حيث قال للنبي ﷺ من وقت لا إلى أن قلت نعم سارت الشمس خمسمائة عام.
ثم لينظر إلى جرم القمر وكيفية اكتسابه النور من الشمس لينوب عنها بالليل.
ثم إلى امتلائه وانمحاقه، ثم إلى كسوف الشمس وخسوف القمر، ومن العجائب السواد الذي في جرم القمر، فإنّه لم يسمع فيه قول شاف إلى زماننا هذا. وكذلك أي المجرّة وهي البياض الذي يقال له شرج السماء وهو على ذلك يدور بالنسبة إلينا رحوية.
وعجائب السمـٰوات لا نستطيع إحصاء عشر عشيرها، لكن القدر الذي جرى في جرم القمر ذكرناه تبصرة لكل عبد منيب.
ثم لينظر إلى ما بين السماء والأرض من انقضاض الشهب والغيوم والرعود والبروق والصواعق والأمطار والثلوج والرياح المختلفة المهاب وليتأمل السحاب الكثيف المظلم كيف اجتمع في جو صاف لا كدورة فيه، وكيف حمل الماء وتسخر الرياح، فإنّها تتلاعب به وتسوقه إلى المواضع التي أرادها الله تعالى، فترش وجه الأرض وترسله قطرات متفاصلة لا تدرك قطرةٌ منها قطرة لصيب وجه الأرض برفق، فلو صبّه صبَاً لأفسد الزرع بخدشه وجه الأرض، ويرسلها مقداراً كافياً لا كثيراً زائداً على الحاجة، فيعفن النيات ولا قليلاً ناقصاً عن الحاجة، فلا يتم به النمو كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ ﴾.
ثم إلى اختلاف الرياح، فِإنَّ منها ما يسوق السحب، ومنها ما ينشرها، ومنها ما يجمعها، ومنها ما يعصرها، ومنها ما يلقح الأشجار، ومنها ما يربي الزرع والثمار، ومنها ما يجففها.
ثم لينظر إلى الأرض وجعلها قراراً لتكون فراشاً ومهاداً، ثم إلى سعة أكنافها، وبعد أقطارها حتى عجز الأدميون عن بلوغ جميع جوانبها، ﴿ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾، ثم إلى جعل ظهرها محلاً للأحياء وبطنها مقرا للأموات، فتراها وهي ميتة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأظهرت أجناس المعادن وأنبتت أنواع النبات وأخرجت أصناف الحيوان، ثم إلى إحكام أطراقها بالجبال الشامخات كأوتاد لها يمنعونها من أن تميد، ثم إلى إيداع أوشال المياه في خزانات ليخرج منها قليلاً قليلاً، فتنفجر منها العيون، وتجري منها الأنهار دائماً. ثم لينظر إلى البحار العميقة التي هي خلجان من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض حتى أن جميع المكشوف من البوادي والجبال، بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مستورة بالماء.
ثم إلى ما فيها من الحيوان والجواهر وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله وأضعافه، وفيها أجناس لا يعهد لها نظير في البر.
ثم لينظر إلى خلق اللؤلؤ في صدفه تحت الماء، ثم إلى إنبات المرجان في صميم الصخر تحت الماء، وهو نبات على هيئة شجرة ينبت من الحجر، ثم إلى ما عداه من العنبر وإلى أصناف النفائس التي يقذفها البحر وتُستخرج منه.
ثم إلى السفن كيف سيرت في البحار وسرعة جريها، وإلى إيجاد الأنهار، ومعرفة النواتي موارد الرياح ومهابها وسواقيها.
وعجائب البحار كثيرة لا مطمع في إحصائها، وقد قيل: حدّث عن البحر ولا حرج وفيما ذكرناه كفاية.
ثم لينظر إلى أنواع المعادن المودعة تحت الجبال فمنها ما ينطبع كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص، ومنها ما لا ينطبع كالفيروزج والياقوت والزبرجد، ثم إلى كيفية استخراجها وتنقيتها واتخاذ الحلي والآلات والأواني منها، ثم إلى معادن الأرض كالنفط والقير والكبريت وغيرها، وأقلها الملح فلو خلت منه بلدة لتسارع الفساد إلى أهلها.
ثم لينظر إلى أنواع النبات وأصناف فواكهها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والأرابيج تسقى بماء واحد، وتفضل بعضها على بعض في الأكل مع اتحاد الأرض والهواء والماء، فيخرج من نواة نخلة مطوقة بعناقيد الرطب وبرة حبة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ثم لينظر إلى أرض البوادي وتشابه أجزائها، فإنّها إذا نزل القطر عليها ﴿ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾.
ثم إلى كثرتها وأختلاف أصنافها متشابهة وغير متشابهة، ثم إلى كثرة أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها واختلاف طبائعها، وكثرة منافعها، فلم ينبت من الأرض ورقة إلا وفيها منفعة أو منافع يقف فهم البشر دون إدراكها.
ثم لينظر إلى أصناف الحيوان وانقسامها إلى ما يطير ويقوم ويمشي، وانقسام الماشي إلى ما يمشي على بطنه، وإلى ما يمشي على رجلين، وإلى ما يمشي على أربع، وإلى أشكالها وألوانها وصورها وأخلاقها وأفعالها ليرى عجائب تدهش منها العقول بل في البقة أو النمل أو العنكبوت أو النحل، فإنُها من ضعاف الحيوانات ليري ما يتحير منه من بنائها البيت وحجمعها الغذاء، وادخارها القوت لوقت الشتاء وحلقها في هندستها ونصبها الشبكة للصيد، ولا من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى، وإنما سقط التعجب هنا للأنس وكثرة المشاهدة.
وعجائب السمـٰوات والأرض كما قال تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ بحار لا يدرى سواحلها ولا يعرف أوائلها ولا أواخرها، والله الموفق للصواب.