عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات/المقالة الثانية/النظر الثالث
في كرة الهواء
الهواء جرم بسيط طباعه أن يكون حارا رطباً شفافاً متحركاً إلى المكان الذي تحت كرة النار و فوق الماء، زعموا أن الأجرام الواقعة ما بين سطح الماء وسطح فلك القمر ثلاثة أقسام: أولها ما يلي القمر، وآخرها ما يلي سطح الماء والأرض، وأوسطها الهواء الواقع بينهما، أما الهواء المماس لفلك القمر فلدوام دورانه مع الفلك و سرعة حركته صار ناراً في غاية الحرارة، ويسمّى الأثير، وقد مر ذكرها، وكلما كان منهبطاً إلى أسفل كان أبطأ حركة وأقل حرارة، وكلما قلت الحرارة غلبت البرودة إلى أن تصير في غاية البرد، ويسمى الزمهرير، وأما القسم الثالث: فإنه بواسطة مطارح شعاعات الشمس وغيرها من الكواكب على سطح الأرض وانعكاسها صار معتدلا، ولو لا ذلك لكان الهواء المماس لسطح الأرض أشد برداً ممّا سواه كما يعرض ذلك للموضع الذي تحت القطب الشمالي لبعد الشمس عنه، فيبرد فيه الهواء ويجمد الماء ويظلم الجو ويهلك الحيوان والنبات، وذكروا أن أكثر ما تكون كرة النسيم ستة عشر ألف ذراع ارتفاعاً، وأقله ما يطابق سطح الأرض، فإن أعلى جبل يوجد على وجه الأرض لا يبلغ ارتفاعه هذا المبلغ، ولا تمنع حرارة الجو هناك من انعقاد الغيم فإن المانع من انعقاد الغيم في الهواء حرارة الجو، وأما سطح كرة النسيم فإنه متداخل في عمق الأرض إلى نهاية ما ثم يقف، فإن النازلين إلى أسفل لطلب المعادن إذا احتاجوا إلى النسيم نفخوا بالمنافخ والأنابيب ليستنشقوا النسيم ويضيء سراجهم، فإن النسيم متى انقطع عنهم انطفأ سراجهم واختنقوا. ولا يعيش الحيوان دون البرية إلا في موضع يوجد به النسيم، وللهواء تغيرات عجيبة واستحالات من النور والظلمة والحر والبرد وقد سبق القول فيه، وأما ما يحدث من كثرة الأبخرة والأدخنة واختلاف الرياح والزوابع والهالة وقوس قزح والغيوم والرعود والبروق والصواعق والأمطار والضباب والطل والصقيع والثلوج والشهب وذوات الأذناب فإن بعضها يقع في كرة الأثير و قد ذكرناه، ومنها ما يقع في كرة الزمهرير وكرة النسيم فلنذكر الآن ذلك، واللّه الموفق للصواب.
زعموا أن الشمس إذا أشرقت على الماء والأرض حللت من الماء أجزاء لطيفة مائية تسمى بخارا، ومن الأرض أجزاء لطيفة أرضية تسمى دخاناً، فإذا ارتفع البخار والدخان في الهواء ودافعهما الهواء إلى الجهات ومن فوقهما برد الزمهرير، ومن أسلفهما مادة البخار غلظاً في الهواء، وتداخلت أجزاء بعضها في بعض فيكون منهما سحاب مؤلف متراكم، ثم إن السحاب كلّما ارتفع انضمت أجزاء البخار بعضها إلى بعض حتى يصير ما كان منهما دخاناً ركاماً، وما كان بخاراً ماء، ثم تلتئم تلك الأجزاء المائية بعضه إلى بعض فتصير قطرا ثم تأخذ راجعة إلى أسفل فإن كان صعود ذلك البخار بالليل والهواء شديد البرد منعه من الصعود وأجمده أوّلا فصار سحاباً رقيقاً، وإن كان البرد مفرطاً أجمده البخار في الغيم، وكان ذلك ثلجاً لأن البرد يجمد الأجزاء المائية ويختلط بالأجزاء الهوائية و ينزل برفق، فلذلك لا يكون له في الأرض وقع شديد كما للمطر والبرد، فإن كان الهواء دفيئاً ارتفع البخار في الغيوم وتراكمت منه السحب طبقات بعضها فوق بعض كما ترى في أيام الربيع والخريف كأنها جبال من قطن مندوف، فإذا عرض لها برد الزمهرير من فوق غلظ البخار وصارت ماء وانضمت أجزاؤها فصارت قطراً عرض لها الثقل، فأخذت تهوى من أعلى السحب و تلتئم القطرات الصغار بعضها إلى بعض حتى إذا خرجت من أسلفها صارت قطراً كباراً، فإن عرض لها برد مفرط في طريقها جمدت و صارت بردا قبل أن تبلغ الأرض، وإن لم تبلغ الأبخرة إلى الهواء البارد فإن كانت كثيرة صارت ضباباً، وإن كانت قليلة وتكاثفت ببرد الليل ولم تجمد نزلت طلاً، وإن انجمدت نزلت صقيعاً، واللّه أعلم.
واعلم أن من لطف الباري عز وجل أن أنزل المطر في كل سنة مقداراً معلوماً عنده إلى مستقر الحيوان لا إلى القفار البلاقع التي لا حيوان بها، فإن أهل التجربة زعموا أن كل بقعة بينها وبين البحر لا يكون أكثر من مسيرة أربعين يوماً، فإنها لا تصلح لمسكن الحيوان لأن المطر لا ينزل بها، ثم من تمام لطفه عز و جل أن أنزل القدر الذي يكون كافياً لا قاصراً فلا ينبت شيئا ولا زائداً على الحاجة فيعفن النبات، ويفسده ويضر بالحيوان كما فعل بقوم نوح عليه السلام، وإلى هذا المعنى أشار جلت قدرته بقوله: ﴿ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ﴾ ثم إنزاله قطرات صغيرة فلو صبه صبّاً خدش الأرض وأتلف الزرع، فسبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه وأوضح برهانه، واللّه الموفق.
زعموا أن حدوث الرياح من تموج الهواء و تحركه إلى الجهات، كما أن تموّج البحر هو تدافع الماء بعضه لبعض إلى الجهات، فإن الهواء والماء بحران واقعان غير أن أجزاء الماء ثقيلة الحركة وأجزاء الهواء خفيفة الحركة، وأما كيفية حدوثها فإن الأدخنة التي تصعد من الأرض من تأثير الشمس وغيرها إذا وصلت إلى الطبقة الباردة إما أن ينكسر حرها وإما أن تبقى على حرارتها، فإن انكسر حرها تكاتفت وقصدت النزول فيموج بها الهواء فيحدث الريح، وإن بقيت على حرارتها تصاعدت إلى كرة النار المتحركة بحركة الفلك فتردها الحركة الدورية إلى أسفل، فيموج بها الهواء فيحدث الريح وربما يحلل تلك الأدخنة الهواء فتحرك من جانب إلى جانب، فيحدث منها الريح أيضاً، وسبب تحلل الهواء لها إما من خروجها من مخرج معوج أورد الرياح النازلة إياها من الصعود المستقيم، وربما تصل إليها رياح أخر، وتمدها أدخنة من السفل فتميلها إلى جهة أخرى، واللّه الموفق.
ومن الرياح العجيبة الزوبعة وهي الريح التي تدور على نفسها شبه منارة وأكثر تولدها من رياح ترجع من الطبقة الباردة فتصادف سحابا تذروه الرياح المختلفة فيحدث من دوران الغيم تدوير في الريح فينزل على تلك الهيئة، وربما يكون مسلك صعودها مدورا فيبقى هبوبها كذلك مدورا، كما يشاهد في الشعر الجعد فإن سبب جعودته قد يكون لا عوجاج المسام وربما يكون سبب الزوبعة التقاء ريحين مختلفين الهبوب، فإنهما إذا تلاقيا تمنع إحداهما الأخرى عن الهبوب فيحدث بسبب ذلك ريح مستديرة تشبه منارة، وربما صادفت الزوبعة السفينة فترفعها وتدورها وتغرقها، وربما وقعت قطعة من الغيم في وسط الزوبعة فتدورها في الهواء فترى شبه تنين يدورها في الجو، وهذا كله من أمر اللّه وقدره، واللّه أعلم بالصواب.
أصول الرياح أربعة:
- الشمال ومهبها من بنات نعش إلى مغرب الشمس
- الجنوب ومهبها من مطلع سهيل إلى مشرق الشمس.
- الصبا ومهبها من مطلع بنات نعش إلى لمشرق.
- الدبور ومهبها من مطلع سهيل إلى المغرب.
أما الشمال فإنّها باردة يابسة لأنها تأتي من الناحية التي لا تسامتها الشمس أصلاً بل لا تقرب منها، وتكون الثلوج والمياه الجامدة بها كثيرة، فالريح يجتاز بها ويكتسب منها، وأيضاً هذه الناحية ليلة البحار كثيرة البراري والجبال، فتكتسب منها يبساً وتكون أشد هبوباً من الجنوب لأنّها تهب من موضع ضيق من وسط الجبال، والجبال بناحية الشمال كثيرة، فيكون مهبها كخروج الماء من الأنبوب الضيق.
وأما الجنوب فمهبها على البحار المتسعة فتكون كخروج الماء من الإناء الواسع الرأس. والشمال تصح الأبدان و تصلبها وتقوى الأدمغة وتصفى اللون و تصحح الحواس و تهيج الشهوة، وزعموا أن الرياح الشمالية والجنوبية إذا دام هبوبها على مواضع تولد الحيوان، و الشمالية تجعل أكثر أولادها ذكوراً، والجنوبية أكثر أولادها إناثاً، واللّه أعلم.
وأما الجنوب فحارة رطبة لأن هبوبها من ناحية خط الاستواء، والحر مفرط هناك لأن الشمس تسامتها في السنة دفعتين ولا تباعد عنها، فتزداد بذلك حرّا، وأيضاً هذه الجهة كثيرة البحار، فتبخر الشمس منها أبخرة رطبة، فتكسب الجنوب منها رطوبة، والجنوب ترخي الأبدان وتورث الكسل وتحدث ثقلا في الأسماع وغشاوة في البصر، ويظهر عند هبوب الجنوب في البحر سواد عظيم.
ومن العجب أن الجنوب إذا هبت على الماء الحار بردته، والشمال إذا هبت عليه تركته على حرارته كما كان، قالوا: سبب ذلك أن عند هبوب الشمال تكمن الحرارة في داخل الماء، كما ترى في الشتاء أن الحرارة تكمن في جوف الأرض فيبقى داخلها حارا، وأما عند هبوب الجنوب فتخرج الحرارة من داخل الماء كما ترى في الصيف، فإن الحرارة تخرج من جوف الأرض إلى خارجها ويبقى داخلها باردا فخرجت الحرارة من داخل الماء عند هبوب الجنوب، والماء في نفسه بارد يعود إلى طبعه.
والعرب تزعم أن اللواقح من الجنوب و لا يأتي بالمطر إلا الجنوب.
وأمّا الصبا: قريبة من الاعتدال فإن كان هبوبها في أول النهار، فهي مثائلة إلى البرد لأنها تمر على مواضع باردة فبردت ببعد الشمس عنها بالليل فتكون طيبة جدّا إلا أن زمانها قليل؛ لأن شعاع الشمس يسوقها من خلفها، فإذا طلعت الشمس ساقها إلى قدامها فلا تزال كذلك تمر قدام الشعاع والشمس تلطفها وتسخنها بحرها وضيائها حتى تصير معتدلة، وهي النسيم السحري الذي يلتذ به الإنسان، ويطيب النوم عليه، ويجد المريض راحة عند هبوبها ويكون هبوب هذا الريح بالأسحار من الليل والغدوات من النهار، واللّه الموفق.
وأما الدبور: فإنها مخالفة للصبا؛ لأنها و الشمس مدبرة عنها فلا تسخنها تسخين الصبا، وكذلك تهب في آخر النهار ولا تهب قبله ولا تهب بالليل، لأن الشمس تبلغ موضع مبهبها في ذلك الوقت فتحلل منه البخارات ولهذا المعنى يكون زمن هبوبها قليلا وجميع ما ذكرناه من فوائد الصبا أمر الدبور ضد ذلك، وحسبك قول النبي ﷺ: « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ».
منها: حكايتها لما تمر به من صوت أو رائحة أو كيفية أو بخار أو دخان، ومنها إلقاحها الشجر وترطيبها الزرع، وتجفيفها إياه، وتغييرها طباع الحيوان حتى قيل: إن لها تأثيرا في الذكور والإناث كما ذكرنا، وتأثيرها في الحيوان أن بعضها يرخي البدن وبعضها يصلب،
ومنها: ما يصحح القوى ويصفي البشرة، ويذكي الحواس ويهيج الشهوة، ومنها ما يكون بضد ذلك، ومنها إجراء السفينة الثقيلة وقطع المسافة الطويلة بمدة يسيرة وأعجب من هذا نشرها السحاب وسوقها إياه إلى المواضع المحتاجة إلى السقي لإحياء البلاد والعباد كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾.
زعموا أن الشمس إذا أشرقت على الأرض حللت منها أجزاء أرضية يخالطها أجزاء نارية، و يسمى المجموع دخانا، ثم الدخان يمازجه البخار ويرتفعان معا إلى الطبقة الباردة من الهواء، فينعقد البخار سحاباً ويحتبس الدخان فيه، فإن بقي على حرارته قصد الصعود، وإن صار بارداً قصد النزول وأيّا ما كان يمزق السحاب تمزيقا عنيفاً، فيحدث منه الرعد، وربما يشتعل نار لشدة المحاكة، فيحدث منه البرق إن كان لطيفاً والصاعقة إن كان غليظاً كثيراً، فتحرق كل شيء أصابته، فربّما يذيب الحديد على الباب، ولا يضر بخشبه وربّما يذيب الذهب في الخرقة ولا يضر الخرقة، وقد يقع على الماء فيحرق حيتانه، وعلى الجبل فيشقه، واعلم أن الرعد والبرق يحدثان معا، لكن يرى البرق قبل أن يسمع الرعد، وذلك لأن الرؤية تحصل بمراعاة البصر، وأما السمع فيتوقف على وصول الصوت إلى الصماخ، و ذلك يتوقف على تموج الهواء، وذهاب النظر أسرع من وصول الصوت، ألا ترى أن القصار إذا ضرب الثوب ثم يسمع الصوت بعد ذلك بزمان. والرعد والبرق لا يكونان في الشتاء لقلة البخار الدخاني ولهذا المعنى لا يوجد في البلاد الباردة عند نزول الثلج لأن شدة البرد تطفئ البخار الدخاني، والبرق الكثير يقع عنده مطر كثير، وذلك لتكاثف أجزاء الغمام فإنها إذا تكاثفت انحصر الماء فيها، فإذا نزل نزل بشدة كما إذا احتبس الماء ومنع جريه ثم أطلق فإنه يجري جرياً شديداً، و لهذه العلة من أمسك نفسه عن الضحك قهقه بغتة، واللّه الموفق.
قال القاضي عمر بن سهلان المناوي رحمه اللّه تعالى: تحقيق هذه الأمور موقوف على مقدمات.
المقدمة الأولى: في معنى انعكاس البصر وهو لا يقاس على انعكاس الضوء لأن انعكاس الضوء له حقيقة في الخارج، وأمّا انعكاس البصر فلا حقيقة له في الخارج، وإنّما يقدر بطريق التوهم إذ لا فرق في مقصودنا بين الانعكاسين، أمّا انعكاس الضوء فهو أن يقع شعاع من جسم مضيء على جسم كثيف صقيل ويعكس منه ويقع على جسم يكون وضعه من هذا الجسم الصقيل كوضع الجسم المضيء، من ذلك الصقيل، لكنه يخالفه في الجهة على وجه تكون زاوية الاتصال كزاوية الانعكاس، وليس ذلك بشكل هندسي ولتكن دائرة (كز) جرم الشمس، ودائرة خط المرآة الصقيلة وخط (اب) شعاع الشمس و(لح) الجسم الكثيف الذي هو في خلاف جهة الشمس من المرآة، فإن الشعاع يرجع من المرآة ويقع على الجسم الكثيف إذا لم يكن بينهما حائل، فلو قدرنا أن من شعاع (اب) يقوم على سطح المرآة خط كالعمود، وفرضنا على سطح المرآة خطّا وهو (دهـ) تظهر من خط (اب) الذي هو شعاع (يه) المفرض على سطح المرآة زاوية من خط (لح) الذي هو الشعاع الراجع من خط (يه) زاوية أخرى موازية للزاوية المتقدمة، فزاوية (ا ي د) زاوية اتصال الشعاع وزاوية (هـ ب ح) زاوية انعكاس الشعاع، فإذا فرضنا خط الشعاع عمودا على سطح المرآة كخط (و ي) كان ناقصا على أعقابه، فإذا عرف انعكاس الضوء فيقاس عليه انعكاس البصر، فنقول: إذا كان في محاذاة النظر جسم صقيل وتوهّمنا أن خطّا خرج من الحدقة واتصل بالجسم الصقيل، وقدرنا خروج خط من هذا السطح بين سطح الجسم الصقيل وبين سطح الخط المتصل من الناظر فيظهر من الخطين أعني الخط المتصل من الناظر إلى الجسم الصقيل والخط المرسوم على سطح الجسم زاويتان، فإن كانتا قائمتين فانعكاس البصر ناكص على أعقابه، وإن لم تكونا قائمتين فالتي تكون من طرف الناظر حادة، والأخرى منفرجة فلو فرضنا خطّا خارجاً من النقطة المشتركة بين هذين الخطين مخالفاً لجهة الناظر ويكون وضعه من هذا الجسم الصقيل كوضع خط الناظر، فكل جسم كثيف وقع في طريق هذا الخط يراه النّاظر، وتسمى هذه الرؤية انعكاس البصر كما إذا رأى الإنسان في المرآة من كان خلفه أو على جانبيه أو كان فوقه أو تحته إذا كان بهذه الشرائط، و اللّه الموفق.
المقدمة الثانية: إن المرآة الصغيرة لا يرى فيها شكل الأشياء كما هي بل يرى منها لونها كالشكل المربع والمثلث وأمثالهما، فإن شكلها لا يرى في المرآة الصغيرة بل يرى لونها كأحمر وأسود.
المقدمة الثالثة: إن المرآة إذا كانت ملونة لا يرى فيها لون الأشياء كما هي، بل فيها مشوبة بلون المرآة كالكافور في الشيء الأخضر، فإنه يرى أبيض مشوبا بلون الخضرة، وهكذا سائر الألوان.
المقدمة الرابعة: إن ما يرى في المرآة لا حقيقة له في المرآة لأنه لو كان له في المرآة حقيقة لكان الناظر إذا انتقل إلى مكان آخر رأى ذلك الشيء فيه على وضعه وليس كذلك لأنا نرى شجرة في المرآة، ثم إذا انتقلنا إلى جانب آخر نرى الشجرة في جانب غير ذلك الجانب وما كان حقيقيّا لا يتغير مكانه بسبب تغير مكان الناظر إليه، فثبت أن ما يرى في المرآة لا حقيقة له، بل هو من باب الخيال، ومضي الخيال في هذا المقام أن ترى صورة الشيء مع صورة غيره بتوهم أن إحداهما داخلة في الأخرى ولا يكون في الحقيقة كذلك، بل إحداهما ترى بواسطة الأخرى من غير ثبوتها فيها، فإذا نظر الناظر في المرآة فكل جسم تكون نسبته إلى المرآة كنسبة الناظر على ما بيناه في انعكاس شعاع البصر يصير مرئيّاً، إذا عرفت هذه المقدمات فنقول وباللّه التوفيق:
أما الهالة: فتحدث من أجزاء ثقيلة صغيرة حدثت في الجوّ وأحاطت بغيم رقيق لطيف لا يستر ماوراءه وانعكس من الأجزاء الثقيلة شعاع البصر إلى القمر لأن ضوء البصر وغيره إذا وقع على الصقيل ينعكس إلى الجسم الذي يكون وضعه من ذلك الصقيل كوضع المضيء منه إذا كانت جهته مخالفة لجهة المضيء فيرى ضوء القمر ولا يرى شكله لأن المرآة إذا كانت صغيرة لا يرى شكل المرئي فيها، بل ضوءه، فيؤدي كل واحد من تلك الأجزاء ضوءه، فيؤدي كل واحد من تلك الأجزاء ضوء القمر، فترى دائرة مضيئة و هي الهالة.
وأمّا قوس قزح: فإنّما يكون إذا حدثت في خلاف جهة الشمس أجزاء مائية شفافة صافية من نزول مطر وبخار، وكانت الشمس مكسوفة قريبة من الأفق المقابل، ووراء تلك الأجزاء جسم كثيف مثل جبل أو سحاب مظلم، وإذا استدبر الناظر الشمس ونظر إلى تلك الأجزاء صارت الشمس في خلاف جهة الناظر، فانعكس شعاع البصر من تلك الأجزاء إلى الشمس لكونها صقيلة، فأدّت ضوء الشمس دون الشكل لكونها أجزاء صغيرة، فكل واحد يؤدي ضوء الشمس دون شكلها كما بينا، وسبب استدارة القوس وقوع الأشياء مستديرة بحيث لو جعلنا مركز جسم الشمس قطب دائرة على محيط فلكها لكانت تلك الأجزاء مسامتة لتلك الدائرة، وتختلف ألوان القوس بحسب تركب لون المرآة ولون الشمس كما بينّا، فترى قسيا مختلفة الألوان بعضها أحمر وبعضها أخضر وبعضها أرجواني وأغلب الأوقات لونها مركب من ثمانية، وقد ترى في بعض الأوقات فيها أصفر أيضاً، فلو لم يكن وراء الأجزاء الثقيلة التي حدثت بعد المطر أو البخار جسم كثيف لا يظهر قوس قزح لأن الأجزاء الشفافة ينفذ شعاع البصر فيها ولا ينعكس كالبلور إذا جعلته في مقابلة الشمس من غير أن يكون وراءه جسم كثيف ينعكس عنه شعاع البصر، قال بعضهم: سبب اختلاف ألوانها قربها من الشمس و بعدها، فما يرى منها أحمر فإنه أقرب إلى الشمس، و ما يرى أصفر فإنّه أبعد من الأحمر، وما يرى أرجوانيّاً فبعيد عن الشمس ومخالط للظلمة، وما يرى كميتاً فمركب من الصفرة والأرجواني والبنفسجي. وحكى الشيخ الرئيس أنه كان على الجبل الذي بين باورد وطوس وأنّه أعلى الجبال، وكانت السماء مكشوفة، فقال: كنت في وسط الجبل، بيني وبين الأرض سحاب رطب، والشمس في وسط السماء، فنظرت إلى السحاب الذي كان بيني وبين الأرض فرأيت دائرة نقية بلون قوس قزح، فشرعت في النزول عن الجبل، والدائرة تصغر، فكلما نزلت رأيتها أصغر مما كانت قبل ذلك إلى أن وصلت إلى السحاب فاضمحلت.