عبقرية محمد (1941)/مقدمة
تعود بنا هذه المقدمة ثلاثين سنة ، الى اليوم الذي سمعت فيه أول اقتراح بتأليف كتاب عن محمد عليه السلام .
وكنت أقيم يومئذ في ضاحية العباسية البحرية على مقربة من الساحة التي كانت معدة للاحتفال بالمولد النبوي في كل عام .
ولنا رهط1 من الأصدقاء المشتغلين بالأدب يشتركون في قراءة كتبه العربية والافرنجية ، ويترددون معا على الأحياء الوطنية، وقلَّما يترددون على غيرها . فلا يزالون متنقلين فترة بعد فترة بين الحي الحسيني والحي الزينبي ، أو بين منشية القلعة ، وضاحية العباسية ، أو بين الروضة والخليج .. على حسب المناسبات ، وعلى غير مناسبة في كثير من الأوقات .
وكان رهطًا له نقائض2 الدنيا مجتمعات: نقائض الشباب ونقائض الحياة الفنية، ونقائض الاختلاف في البيئة بين ناشيء في العاصمة وناشيء في الريف وناشيء في الصعيد وناشيء في الثغور3، الى غير ذلك من النقائض التي كانت حلية لهذه الجماعة ، ولم تكن فيها من دواعي التفرق والشتات 4.
ومن عجائبها أن الذي كان يغريها بالأحياء الوطنية هو قراءتها في الكتب الإفرنجية التي كانت شائعة5 بينها؛ لأنهم كانوا يقرأون أكثر ما كانوا يقرأون كتب «دكنز» و«هازليت» و«لي هانت» و«كارليل» .. وهم كتَّاب مولعون6 بعرض الأخلاق الاجتماعية ودراسة العادات المحلية، وتمثيل الريفيين ، والحضريين7 في أوضاعهم المختلفة، ولهم فصول عن الأسواق، والدكاكين ، والباعة ، تفيض بحسن الملاحظة وبراعة الفكاهة ومتعة القراءة، وتعوّد من يدمن قراءتها أن يتحرى نظائرها8 حيثما رآها .
ففي يوم من أيام المولد — والرهط يزورني لنؤم9 الساحة مجتمعين في المساء — كان الكاتب الانجليزي العظيم توماس كارليل هو محور الحديث كله ، لأنه كما يعلم الكثيرون بين قراء العربية صاحب كتاب الأبطال الذي عقد فيه فصلا عن النبي محمد عليه السلام ، وجعله نموذج البطولة النبوية بين أبطال العالم الذين اختارهم للوصف والتدليل .
وإنا لنتذاكر آراءه ومواضع ثنائه على النبي، إذ بدرت10 من أحد الحاضرين الغرباء عن الرهط كلمة نابية11 غضبنا لها واستنكرناها لما فيها من سوء الأدب وسوء الذوق وسوء الطوية12 وكان الفتى الذي بدرت منه الكلمة متحذلقا13، يتظاهر بالمعرفة ويحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاع على الفلسفة والعلوم الحديثة .. فكان مما قاله: شيء عن النبي والزواج، وشيء عن البطولة، فحواه : أن بطولة محمد انما هي بطولة سيف ودماء !
قلت: «ويحك!14 !.. ما سوغ15 أحد السيف كما سوغته أنت بهذه القولة النابية!».
وقال صديقنا المازني: « بل السيف أكرم من هذا ، وإنما سوغ صاحبنا شيئا آخر يستحقه .. وأشار إلى قدمه !».
وارتفعت لهجة النقاش هنيهة 16 ، ثم هدأت بخروج الفتى صاحب الكلمة من الندى 17، واعتذاره قبل خروجه بتفسير كلامه على معنى مقبول ، أو خيل اليه انه مقبول.
وتساءلنا : ما بالنا نقنع بتمجيد18 كارليل للنبي ، وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه ، ولا يعرف الاسلام كما نعرفه .. ثم سألني بعض الاخوان: « ما بالك أنت يا فلان لا تضع لقراء العربية كتابا عن محمد على النمط19 الحديث؟».
قلت: «أفعل .. وأرجو أن يتم ذلك في وقت قريب ».
ولكنه لم يتم في وقت قريب .. بل تمَّ بعد ثلاثين سنة! .. وشاءت المصادفة العجيبة أن تتم فصوله في مثل الأيام التي سمعت فيها الاقتراح لأول مرة .. فكتبت السطر الاخير فيه يوم مولد النبي على حسب الشهور الهجرية ، واتفقت هذه المصادفة على غير تدبير مني ولا من أحد ، لأني لم أدبر لنفسي أوقات الفراغ التي هيأت لي اتمام فصوله وتقسيم العمل فيه يوما بعد يوم.
والخيرة في الواقع..
والخيرة كذلك في هذا التأخير..
فانني لو كتبته يومئذ لعدت إلى كتابته الآن من جديد، واحتجت إلى السنين الثلاثين أضيف خبرتها وقراءتها ورياضتها النفسية والفكرية الى محصول ذلك العمر الباكر20.. إذ هو عمر يستطيع المرء أن يمتليء فيه اعجابا بمحمد ، لأنه عمر الاعجاب والحماسة الروحية. بيد انه لا يستطيع أن يقيسه بمقياسه وأن يشعر بشعوره في مثل تجاربه، وفي مثل السن التي اضطلع فيها بالرسالة . وان تقارب السن هنا لضرورة لا غنى عنها لتقريب ذلك الشأو21 البعيد من شتى22 نواحيه.
أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟..
انها مسافات في عالم الفكر والروح .. لو تمثلت مكانا منظورا ، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار وامتداد النظر بغير قرار .
كم رأي؟ .. كم مذهب؟ .. كم وسواس؟.. كم محنة.. كم مراجعة؟.. كم زلزال يتضعضع23 له الكيان وتميد24 معه الدعائم25 والأركان؟.. كم وكم في ثلاثين سنة مما يطرق نفسا لا تعفيها الحياة من التجارب والعوارض26 لمحة عين في نهار؟.. وكم لذلك كله من أثر في توطيد27 الرأي وتهدئة الثوائر28 وتجلية الغبار؟.. وكم يضيف ذلك كله الى الشباب الباكر الذي كان يحلم يومئذ بالعظمة في كل أوج 29، وبالأوج المحمدي في عليا مراتب الأنبياء؟ ..
الخيرة في الواقع..
الخيرة في ذلك التأخير..
واليوم ونحن نضع كتابنا هذا عن «عبقرية محمد» بين يدي القراء، لا نقول .. اننا قد استوفيناه كما أردناه ، ولا اننا فصلنا فيه الغرض الذي توخيناه30 .. ولكننا نقول اننا التزمنا فيه الباعث الذي أوحى الاقتراح بتأليفه لأول مرة. كأننا شرعنا في كتابته مساء ذلك اليوم قبل ثلاثين سنة ، فكتبناه ونحن نستحضر في الذهن تبرئة المقام المحمدي من تلك الأقاويل التي يلغط31 بها الأغرار 32والجهلاء عن حذلقة33 أو سوء نية، ونظرنا اتفاقا، فإذا بأطول الفصول فيه الفصلان اللذان شرحنا فيهما موقف محمد من الحرب ومن الحياة الزوجية .. لأنهما كانا مثار اللغط تلك الليلة على مقربة من ساحة المولد ، وكانا مثار اللغط في كل ما ردده سفهاء الشانئين34 من الأصلاء والمقتدين في هذا الباب .
فسيرى القاريء أن « عبقرية محمد » عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة ولا يتعداها ، فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة تضاف إلى السير العربية والافرنجية التي حفلت بها « المكتبة المحمدية » حتى الآن .. لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها في هذه الصفحات ، على اعتقادنا أن المجال متسع لعشرات من الأسفار 35 في هذا الموضوع ، ثم لا يقال انه استنفد كل الاستنفاد.
وليس الكتاب شرحا للاسلام أو لبعض أحكامه أو دفاعا عنه أو مجادلة لخصومه .. فهذه أغراض مستوفاة في مواطن شتى36، يكتب فيها من هم ذووها37 ولهم دراية بها وقدرة عليها.
إنما الكتاب تقدير « لعبقرية محمد » بالمقدار الذي يدين به كل انسان ولا يدين به المسلم وكفى ، وبالحق الذي يبث 38له الحب في قلب كل انسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى.
فمحمد هنا عظيم .. لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس ..
عظيم لأنه على خُلق عظيم .. وايتاء العظمة حقها لازم في كل آونة39 وبين كل قبيل .. ولكنه في هذا الزمن وفي عالمنا هذا ألزم منه في أزمنة أخرى ، لسببين متقاربين لا لسبب واحد : أحدهما أن العالم اليوم أحوج مما كان إلى المصلحين النافعين لشعوبهم وللشعوب كافة .. ولن يتاح لمصلح أن يهدي قومه وهو مغموط40 الحق معرض للجفوة41 والكنود42.
والسبب الآخر أن الناس قد اجترأوا على العظمة في زماننا بقدر حاجتهم الى هدايتها .. فان شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناسا من صغار النفوس بإنكار الحقوق الخاصة ، حقوق العلية43 النادرين الذين ينصفهم التمييز وتظلمهم المساواة .. والمساواة هي شرعة44 السواد45 الغالبة في العصر الحديث.
ولقد جار هذا الفهم الخاطئ للمساواة على حقوق العظماء السابقين، كما جار على حقوق العظماء من الأحياء والمعاصرين، ثم أغرى الناس بالجور46 بعد الجور غرورهم بطرائف العصر الحديث ، واعتقادهم انه قد أتى بالجديد الناسخ47 للقديم في كل شيء .. حتى في ملكات النفوس والأذهان، وهي مزية خالدة لا ينسخ فيها الجديد القديم.
يرون أن البخار يلغي الشراع48، وربما كان الاختراع السابق أدل على القدرة وأبين عن الفضل من الاختراع الذي تلاه ، ولم يكن ليتلوه لولا ما تقدم عليه ..
وينظرون إلى أقطاب الدنيا كأن الأصل في النظر إليهم أن يتجنوا عليهم ويثلبوا49 كرامتهم، ولا يثوبوا50 الى الاعتراف لهم بالفضل الا مكرهين، بعد أن تفرغ عندهم وسائل التجني والثلب والافتراء51.
هذه الآفة حِطَّةٌ تهبط بالخلق الإنساني إلى الحضيض52، وتهبط بالرجاء في اصلاح العيوب الخلقية والنفسية الى ما دون الحضيض ..
فماذا يساوي انسان لا يساوي الانسان العظيم شيئا لديه ؟ وأي معرفة بحق من الحقوق يناط53 بها الرجاء اذا كان حق العظمة بين الناس غير معروف؟ .. وإذا ضاع العظيم بين أناس، فكيف لا يضيع بينهم الصغير؟ .
لهذا كان تقدير «محمد» بالقياس الذي يفهمه المعاصرون ويتساوى في اقراره المسلمون وغير المسلمين، نافعا في هذا الزمن الذي التوت فيه مقاييس التقدير ..
إنه لنافع لمن يقدرون محمدا، وليس بنافع لمحمد أن يقدِّروه لأنه في عظمته الخالدة لا يضار54 بانكار، ولا ينال منه بغي55 الجهلاء إلا كما نال منه بغي الكفار .
وإنه لنافع للمسلم أن يقدر محمدا بالشواهد والبينات التي يراها غير المسلم، فلا يسعه الا أن يقدرها ويجري على مجراه فيها .. لأن مسلما يقدر محمدا على هذا النحو يحب محمدا مرتين : مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره ، ومرة بحكم الشمائل الانسانية التي يشترك فيها جميع الناس..
وحسبنا من «عبقرية محمد» أن نقيم البرهان على أن محمدًا عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية، الا ان يرين56 العنت57 على الطبائع فتنحرف عن السواء وهي خاسرة بانحرافها، ولا خسارة على السواء.
ان عمل محمد لكاف جد الكفاية لتخويله58 المكان الأسنى59 من التعظيم والإعجاب والثناء ..
انه نقل قومه من الايمان بالأصنام إلى الايمان بالله ، ولم تكن أصناما كأصنام يونان يحسب للمعجب بها ذوق الجمال إن فاته أن يحسب له هدى الضمير . ولكنها أصنام شائهات60 كتعاويذ السحر التي تفسد الأذواق وتفسد العقول، فنقلهم محمد من عبادة هذه الدمامة61 الى عبادة الحق الأعلى .. عبادة خالق الكون الذي لا خالق سواه، ونقل العالم كله من ركود62 الى حركة ومن فوضى إلى نظام، ومن مهانة63 حيوانية إلى كرامة إنسانية، ولم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات .
ان عمله هذا لكافٍ لتخويله المكان الأسنى بين صفوف الأخيار الخالدين، فما من أحد يضن64 على صاحب هذا العمل بالتوقير65 ثم يجود بالتوقير على اسم إنسان.
إلا أننا نمضي خطوة وراء هذا ، حين نقول ان التعظيم حق «لعبقرية محمد» ولو لم تقترن بعمل محمد ..
لأن العبقرية قيمة في النفس قبل أن تُبرزها66 الاعمال، ويكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يُغالى67 بها التقويم .
فإذا رجح بمحمد ميزان العبقرية، وميزان العمل، وميزان العقيدة .. فهو نبي عظيم وبطل عظيم وانسان عظيم.
وحسبنا من كتابنا هذا أن يكون بنانا68 تومئ69 الى تلك العظمة في آفاقها، فإن البنان لأقدر على الاشارة من الباع70 على الاحاطة، وأفضل من عجز المحيط طاقة المشير
- ↑ ما دون العشرة من الرجال
- ↑ نقيض الشيء : عكسه
- ↑ المراد: المدن المطلة على الشواطيء
- ↑ بمعنى الفرقة
- ↑ ذائعة منتشرة
- ↑ اي شغوفون
- ↑ سكان المدن
- ↑ اشباهها ومثيلاتها
- ↑ نقصد
- ↑ أي تسرع واحتد فأخطأ
- ↑ خارجة
- ↑ الضمير
- ↑ مدعيا العلم
- ↑ بمعنی ويلك
- ↑ جوُر
- ↑ أي فترة
- ↑ مجلس القوم ومتحدثهم
- ↑ تعظيم
- ↑ المنهج او النظام.
- ↑ اول العمر
- ↑ الغاية والامد
- ↑ اي جميع
- ↑ يتهدم
- ↑ تتمايل وتتحرك
- ↑ الاعمدة
- ↑ ما يعترضها في جنباتها
- ↑ تقوية
- ↑ اي الانفعالات
- ↑ الأوج:ضد الهبوط
- ↑ قصدناه
- ↑ اللغط : الصوت والجلبة
- ↑ الغافلون
- ↑ ادعاء للعلم
- ↑ المبغضين
- ↑ الكتب
- ↑ كثيرة ومتعدة
- ↑ اصحابها المتخصصون فيها
- ↑ ينشر.
- ↑ اي وقت
- ↑ غمط الناس : احتقارهم وازدراؤهم
- ↑ المراد : الهجر والغلظة
- ↑ كفران النعمة والتنكر للفضل
- ↑ جمع علي وهو الشريف الرفيع
- ↑ شريعة
- ↑ سواد الناس : عوامهم
- ↑ الظلم
- ↑ المزيل
- ↑ شراع السفينة
- ↑ يعيبوا
- ↑ يرجعوا
- ↑ الاختلاق
- ↑ القرار من الأرض عند منقطع الجبل
- ↑ بتملق
- ↑ يصيبه ضرر
- ↑ عدوان وظلم
- ↑ يغلب
- ↑ الإثم
- ↑ تمليكه
- ↑ الرفيع
- ↑ قبيحات
- ↑ الأصنام القبيحة
- ↑ خمول وسكون
- ↑ مذلة
- ↑ يبخل
- ↑ التعظيم
- ↑ تظهرها
- ↑ غالى بالشيء : اشتراه بثمن غال
- ↑ اصبع
- ↑ تشير
- ↑ الباع قدر مد اليدين