وهنا أيضًا كانت ضوابط الإيمان القوي في نفس عمر كأقوى ما تكون.
ولا أحسب أنَّ قلبَهُ الكبيرَ جمحت به في الجاهلية أو الإسلام سورة أكبر من سورته يوم نُعي النبي إلى المسلمين، فأنكر أن يُنعَى، وأبى أن يسمع صوتًا بين المسلمين يزعم أنَّ محمدًا قد مات، وصاح والناس في رهبة منه كرهبتهم من شبح الموت المخيم يومئذ على الرءوس: «والله إني لأرجو أن تقطع أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه قد مات.»
ثم أقبل أبو بكر من مسكنه على فرسه، فنزل فتمشى وئيدًا صامتًا لا يكلم أحدًا، وتيمم النبي وهو مغشى بالثوب، فكشف عن وجهه ثم أَكَبَّ عليه وقَبَّلَه، وبكى.
ثم أحسَّ صولةَ عمرَ وهو يكلم الناس، فخرج إليهم فقال: اجلس يا عمر. وأقبلَ على المسلمين يُكلمهم بكلام السماء: «أما بعد، فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ.» فأهوى عمرُ إلى الأرض وأنابَ.
وكأنه والمسلمين معه ما علموا أن أنزلت هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر تلك الساعة.
يا لروعة الشلال الزاخر!
ويا لروعة السابح القاهر الذي لوى به ليًّا، كأنما قبض منه على عرف، وأخذ له بعنان!
أكبر ميدان من ميادين الدنيا لا يرينا صراعًا عاتيًا هو أولى بالروعة من نفس عمر وهي متراوحة بين شعوره الزاخر، وإيمانه الوثيق.
لحظة هائلة من أهول ما تحس النفوس، ثم انهزام كأسرع ما يكون الانهزام، وانتصار كأسرع ما يكون الانتصار، وغاشية تنجلي عن صاحب تلك النفس، وهو مالك لزمامه، ماضٍ بشعوره إلى حيث يمضي
(1) أي متأنیا متمهلا (۲) قصده أو تقصده . (۲) أي مغطى (4) أي مجاوزا للحد ۰ (۰) أي أشد (6) أي تنكشف