من سيف الدولة سوى أربعة دراهم فضة في اليوم يخرجها فيما يحتاج إليهِ من ضروري عيشهِ. ويُذكَر عنهُ أيضاً أنهُ قال قرأت السماع لأرسطو أربعين مرة وأرى أني محتاج إلى معاودتهِ. وهذا يماثل ما ذكرهُ ابن سينا عن نفسهِ قال إني قرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيهِ والتبس عليَّ غرض واضعهِ حتى أعدت قراءتهُ أربعين مرة وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمهُ وأيست من نفسي وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمهِ وإذا إنهُ يوماً حضرت وقت العصر في سوق الورَّاقين وبيد دلَّال مجلَّد ينادي عليهِ فعرضهُ عليَّ فرددتهُ ردَّ متبرم معتقد أنْ لا فائدة في هذا العلم فقال لي اشترِ مني هذا فإنهُ رخيص أبيعكهُ بثلاثة دراهم وصاحبهُ محتاج إلى ثمنهِ فاشتريتهُ فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. فرجعت إلى بيتي وأسرعت إلى قراءتهِ فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنهُ قد صار على ظهر القلب. وقال (أي ابن سينا) واصفاً كيفية انكبابهِ على الدرس «كنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي وأشتغل بالقراءة والكتابة حتى إذا غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليَّ قوتي ومتى أخذني النوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها حتى إنَّ كثيراً منها انفتح عليَّ وجوهها في المنام.» وهذا شأن كلِّ العلماءِ العظام فإن العلم لا يهبط عليهم بالوحي والشهرة لا تأتيهم عفواً بل لا بُدَّ لهم من الدرس الكثير نهاراً وليلًا
وأكثر الذين ألَّفوا في التاريخ والجغرافية من علماءِ الإسلام كانوا ينزعون إلى الارتحال والتجول طلباً لأسباب العلم والتقاطاً لدررهِ ويجمعون في أسفارهم شتات الأخبار ونوادر الآثار ويتفحصون عن خواص البلدان وأمزجة الأقاليم. فالمسعودي لم يؤلف كتبهُ النفيسة حتى طاف أكثر الممالك الإسلامية ودخل الهند وتفحص عن أقطارها