وكان ميتا كثير الخشوع والبكاء، ولما اتى امير المؤمنين أبو عبد الله الناصر الى
مدينة فاس، بعث اليه أن يصله ليراه، فطلع اليه في ضحى يوم الاثنين، فدخل عنده الى
قصره الذي على وادى فاس، فاجتمع به وسلّم عليه وبقى يحادثه، ويستحسن كلامه
وألفاظهة إلى أن حان وقت صلاة الظهر، فقال له: قم فصل بنا، ففعل. فقال: من تركت في
موضعك؟، فقال: "تركت فيه من هو خير منّى؛ وهو معلّمى الذي قرأت عليه كتاب الله
العزيز، لما وصلنى رسولك تحيرت في أمر المحراب والصلاة بالناس"، وقلت: "لا أعلم متى يكون
رجوعي"، فمررت بمعلّمى الذي هو سيدى مولاى؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم من
علّمك ءاية من كتاب الله تعالى، فاعلمته القضية واستخلفته في مكانى. فقال له الناصر: "جزاك
الله خيرا"، ثم أمره بالانصراف وأتبعه مملوكا بسبعة ثياب وخريطة فيها ألف دينار، فرجع
إلى أمير المومنين فشكره ودعا له. وقال له: "يا أمير المومنين؛أما الثياب فقبلتها، وأما الدراهم
فلا حاجة لى بها، فانى رجل نسّاخ اتعيّش من نسخ يدى". فقال له: "تستعين بها وتصرّفها
فيما يصلح لك". فقال له: "يا أمير المومنين؛ لا تفتح على هذا البيت، وأعفنى من اخذها،
فانت احقّ بها منّى تفرّقها في الاجناد والغزات، وتصرّفها في مصالح المسلمين، وسدّ
ثغورهم". فانصرف ولم ياخذ منها شيا، ولم يزل اماما وخطيبا الى أن توفّي رحمه الله؛ يوم
الاحد الحادى عشر من رجب الفرد، عام أحد عشر وستّ مائة، وكان قد استخلف في
موضعه؛ الفقيه أبا محمّد قاسم القصاعيّ معلّمه الكتاب الله العزيز، فلما توفّى، أقام أبو محمّد
القضاعي؛ يؤم ويخطب عوضا منه، فانتقد عليه وطعن فيه بعض الفقهاء والاشياخ، ووقالوا:
"انه يبعث الصبيان الى النفائس". فكتب الفقيه ابو محمّد بن نميريّ الى أمير المومنين
يخبره. فقال لهم:"أن الذي قدّمه إلى الصلاة أقرّ بين يدى، انه خير منه فاتركوه على حاله".
فحينئذ ترك الغقيه أبو محمّد قاسم القضاعيّ المكتب، واعتكف في الجامع، وسكن الدار
المحبسة على الايمة الى أن توفّى رحمه الله؛ يوم الخميس الثانى والعشرين من شهر رمضان
المعظم سنة خمس عشرة وستّ مائة، فخطب بعده الفقيه الصالح أبو عبد الله محمّد
بن عبد الرحمان السقفىّ، وكان من أهل العلم والدين والفضل، وكان له صوت حسن،
ومعرفة بالاوقات والنجوم وفى مدّة امامته؛ جآء الفقيه المؤذن أبو الحجّاج يوسف بن
محمد بن علىّ السقطىّ من قصر كتامة، وكان له صوت حسن فى الاذان والقراءة ومعرفة
بالاوقات، فأمر الفقيه القاضي أبو يعقوب يوسف بن عمران الخطيب أبا عبد الله الشلبىّ؛
أن يتركه يخطب يوما واحدا، ليشتهد بذلك ويرتسم في زمام الخطباء، فتمارض الشلبيّ
وخطب في موضعه، وكان يخطب بجامع القصبة اذا مرض خطيبه، وتوفّى الفقيه أبو عبد
الله.
صفحة:الأنيس المطرب بروض القرطاس (1917).pdf/45
المظهر
٤٥
