شم العوارض في ذم الروافض
► المصدر | ◄ |
[ مقدمة المؤلف ]
[عدل]الحمد لخالق البرايا، والشكر لواهب العطايا، والمدح لدافع البلايا، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وسند الأصفياء، وعلى آله وأصحابه الأتقياء، رغما للخوارج والروافض من الأغبياء.
أما بعد:
فيقول الراجي بر ربه الباري علي بن سلطان محمد القاري: إن أول ما يجب على العباد تحسين الاعتقاد بطريق الاعتماد؛ لينفعهم حين المعاد يوم التناد، ومن المعلوم عند أرباب العلوم وأصحاب المفهوم أن مبنى العقائد على الأدلة القطعية، [ لا على ] الحجج الظنية المفيدة في المسائل الفقهية الفرعية، وذلك لقوله تعالى في ذم الكفار: { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا * فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } والآيات في [ هذا ] المعنى كثيرة، والأحاديث في المبنى كثيرة شهيرة، والإجماع منعقد عليه [ عند ] من يؤخذ معرفة لديه.
وإنما الخلاف في أن إيمان المقلد هل هو صحيح أم لا؟ فالجمهور على أنه يصح إلا أنه مؤاخذ بترك ما يجب عليه، والمحققون لا يميلون إليه، حتى إمامنا الأعظم وهمامنا الأفخم أوجب الإيمان بمجرد العقل، ولو لم يبعث الرسل، ولم يظهر النقل، ويؤيده قوله تعالى: { وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون } أي ليعرفون، كما فسره حبر الأمة ومقتدى الأئمة.
وأما قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فالمراد به عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة، أو يجعل العقل أيضا رسولا؛ لأن به إلى معرفة الحق وصولا وبدونه، حتى مع وجود الرسول لم يكن حصولا.
ثم من الغريب ما وقع في القريب أنه صدر عني في بعض مجالس درسي ومجامع أنسي: أن سب الصحابة ليس كفرا بالدليل القطعي بل بالظني، وإنما يقتل الساب للأصحاب في مذهبنا سياسة للدواب عن قلة الآداب في هذا الباب، فتوشوش خاطر بعض الحاضرين من الرجال، ممن يشبه الأعور الدجال، الذي لم يفرق بين الحق من الأقوال، وبين الباطل الصادر عن أهل الضلال، واغتر بمن قرأ بعض المقدمات الرسمية من العلوم الغريبة الوهمية، ولم يميز بين العقائد القطعية والفوائد الظنية، حيث ألتقط عقيدته من ألسنة العوام، أو من آبائه الذين لم يكونوا من العلماء الأعلام، وقد قال تعالى في ذم هؤلاء الذين كالأنعام، قالوا: { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } أي: على أنوارهم مهتدون و: { كل حزب بما لديهم فرحون } ومعتمدون.
فترك صحبتنا وحضرتنا، واختار غيبتنا وعتبنا، وكان الواجب عليه من الأدب لديه أن يغمض عينه من بعض عيوبنا، لو تحقق شيء من ذنوبنا رعاية لحفظ قلوبنا، إذ غايته أنه إذا وقع خطأ منا والمجتهد قد يخطئ في مذهبنا، أو انفردنا بهذا القول عن غيرنا أو تبعنا أحدا من مشائخنا فتعين عليه أن يأتينا بنقل لديه، أو رواية وصلت إليه، أو يبحث معنا، ليظهر ما عندنا فيقبله منا أو يرده علينا، فنقبله [ منه ] أو ندفعه عنا، كما هو طريقة العلماء والطلبة من الفضلاء.
هذا الإمام الأعظم وأصحابه في مقامه الأفخم، كانوا يتباحثون في المسائل، ويتناقشون في الدلائل، ويتنافسون في الفضائل، فإما أن يرجع الإمام في أقوالهم، أو يرجعون إلى قوله بتحسين أحوالهم، وكذا كان حال السلف من الصحابة والتابعين في مجالسهم الجامعين، يتذاكرون في العلم ويتباحثون بالحلم هنالك، بخلاف الخلف حيث كان خلقهم على خلاف ذلك.
وكذا لما منع الإمام ولده حماد عن البحث في علم الكلام، وأجاب عنه بأني رأيتك تبحث في هذا المرام، فقال: نعم إني كنت في الجنة مع صاحبي وأخاف عليه من أن يخطئ في ذلك المقام، وأنتم في هذه الأيام تتباحثون، وكل منكم يريد أن صاحبه يقع في الكفر والملام، بل أنتم بهذا تفرحون وتتفاخرون، ومن أراد أن يذل صاحبه، ويكفر كفر قبل أن يكفر صاحبه.
ثم أغرب من هذا أنه انتقل منا إلى بعض إخواننا ممن يستعيض من عدونا، ويفيض من مددنا حيث لم يلق منه من بعدنا، فحرم من شمة وردنا وسابقة وردنا بعد اختيار بعدنا.
ومن اللطائف في مراتب الظرائف، أن بعض طلبة العلم الشريف بحث مع شيخه في محفل منيف، وكلما أتاه الأستاذ في دفع ما أورده عليه من الإيراد نقضه، وأجاب بما يناسبه من الأستاذ، فلما عجز عنه شيخه في الجواب، قال له في مقام العتاب: « ما أحسن دأبكم في مراعاة الآداب، أنه إذا وقعت [ زلة من معلمكم ] في فصل الخطاب، تتعلقون بحلقه ولا تتحملون بعض غلطه وزيفه، فما أحسن آداب الصوفية والمريدين، حيث يصدقون مشائخهم، ولو تكلموا بما يخالف من أمور الدين، فقال التلميذ هكذا دأبهم وآدابهم، وعلى نحو هذا العلماء وأصحابهم، ثم علم كل أناس مشربهم، وعرف كل طائفة مذهبهم.
إن قتل الأنبياء وطعنهم في الأنساب كفر
[عدل]ثم اعلم أن من القواعد القطعية في العقائد الشرعية، أن قتل الأنبياء وطعنهم في الأنساب كفر بإجماع العلماء، فمن قتل نبيا أو قتله نبي فهو من أشقى الأشقياء، وأما قتل العلماء والأولياء وسبهم على ألسنة الأغبياء، فليس بكفر إلا إذا كان [ على ] وجه الاستحلال أو الاستخفاف، كما هو ظاهر عند أرباب الإنصاف دون أهل التعصب والاعتساف.
قذف عائشة رضي الله عنها
[عدل]فقاتل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، لم يقل بكفره أحد من العلماء إلا الروافض في الثاني والخوارج في الأول، وأما من قذف عائشة فكافر بالإجماع؛ لمخالفته نص الآيات المبرئة لها من غير النزاع، وكذا من أنكر صحبة أبي بكر الصديق [ رضي الله عنه ] كفر؛ لإنكاره ما أثبت الله بإخباره في كتابه حيث قال تعالى: { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } بخلاف من أنكر صحبة عمر أو علي لعدم تضمنه مخالفة الكتاب، وإن كان صحة صحبتهما بطريق التواتر في هذا الباب، لأن إنكار كل متواتر لا يكون كفرا في معرض الكتاب.
ألا ترى أن من أنكر [ جود حاتم بل ] وجوده، أو عدالة نوشروان وشهوده لا يصير كافرا في هذا الصورة؛ لأن إنكار مثل هذا ونحوه ليس مما علم من الدين بالضرورة
مسألة من اعتقد أن سب الصحابة مباح فهو كافر
[عدل]وأما من سب أحدا من الصحابة، فهو فاسق ومبتدع بالإجماع إذا اعتقد أنه مباح، كما عليه بعض الشيعة وأصحابهم، أو يترتب عليه ثواب كما هو دأب كلامهم، أو اعتقد كفر الصحابة وأهل السنة في فصل خطابهم فإنه كافر بالإجماع، ولا يلتفت إلى خلاف مخالفتهم في مقام النزاع، فإذا عرفت ذلك فلا بد من تفصيل هنالك.
[ قول ] علماؤنا يقتل بالسياسة
[عدل]فإذا سب أحد أحدا منهم، فينظر هل معه قرائن حالية أو قالية على ما تقدم من الكفريات أم لا؟ ففي الأول كافر وفي الثاني فاسق، وإنما يقتل عند علمائنا بالسياسة لدفع فسادهم وشر عنادهم.
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث
[عدل]وإلا فقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحت طرقه عند المحدثين الأعلام: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة » رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن مسعود.
وقد أخرجه الإمام أحمد في ( مسنده ) أيضا لكن عن أبي إمامة بن سهل قال: « كنا مع عثمان وهو محصور في الدار، فقال: إنهم يتوعدونني بالقتل، قلنا: يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين، قال: ولم يقتلونني؟ سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا فيقتل بها، فوالله ما أحببت [ أن لي ] بديني [ بدلا ] منذ هداني الله، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام قط ولا قتلت نفسا، فبم يقتلونني؟ ».
تارك الصلاة يقتل خلافا للشافعي
[عدل]ففي الحديث جاء بصيغة الحصر في العبارة دلالة بطريق الإشارة: لا يقتل أهل البدعة من الروافض والخوارج إلا إذا صاروا من أهل البغي، وكذا تارك الصلاة لا يقتل خلافا للشافعي، ولا رأيت سندا عليه يعول.
وأما الحديث فليس على ظاهره
[عدل]وأما قوله عليه الصلاة والسلام: « من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر » فليس على ظاهره عند أهل السنة ممن اعتبر، بل هو مؤول بأن معناه قرب الكفر، فإن المعاصي بريد الكفر، أو جره إلى كفره في عاقبة أمره إن لم يتداركه الله بلطفه، أو شابه كفر الكافر في تركه، أو محمول على مستحله فيدخل في حد المرتد ونحوه.
وأما تفسير الشافعي للحديث بأنه استحق عقوبة الكفر، فليس ظاهرا في المدعى؛ لأنه يحتمل استحقاق عقوبته في الدنيا والآخرة، مع أنه لا يتأول بكفره في العقبى ولا يقتله بناء على كفره في الدنيا.
وأما ما ذكر بعضهم من أن المراد بالمرتد في الحديث الأول: « من بدل دينه »، وبالمفارق من غير بعض دينه فيدخل في الحديث أهل البغي والخوارج والروافض، فيجب المعاملة معهم حتى يرجعوا إلى الحق، ففيه من المعارضة والمقابلة أن الكلام في القتل لا في المعاملة، أما ترى أن الإجماع على عدم جواز قتل باغ بانفراده خارجي أو رافضي وحده من غير ظهور كفر منه غير بدعته.
وكذا مانعو الزكاة يقاتلون، بخلاف من تركها بغير قتال فإنه لا يقتل، فكذا تارك الصلاة لا يقتل بل يحبس ويعزر، وإذا كان أهل قرية تركوها، بل تركوا الأذان الذي هو سنة من شعارها لقوتلوا، كما صرح به الإمام محمد من أئمتنا، فحصلت الموافقة والمطابقة من هذا الحديث الشريف.
وحديث: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله » رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة.
ورواه ابن جرير والطبراني في ( الأوسط ) عن أنس، ولفظه: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، قيل: وما حقها؟ قال: زنا بعد إحصان أو كفر بعد إسلام أو قتل نفس فتقتل بها ».
وأخرجه مسلم عن أنس، ولفظه: « أمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دمائهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ».
إثبات كفر من سب الصحابة عموما أو الشيخين خصوصا
[عدل]فلنرجع إلى ما نحن بصدده من إثبات كفر من سب الصحابة عموما أو سب الشيخين خصوصا، فلا شك في أن أصول الأدلة ثلاثة هي: الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فأما الكتاب فهو خال عن هذا الخطاب، وكذا الإجماع مفقود في هذا الباب، فبقي الأحاديث وهي آحاد الإسناد، ظني الدلالة في مقام الأستناد، ولهذا لم يذكرها الفقهاء كفر الرافضي في كلمات الكفر ولا في باب الارتداد، فإن كان عند أحد نقل قائل للاعتماد، فعليه بالبيان في معرض ميدان الاعتقاد.
وإما ما اشتهر على ألسنة العوام من أن سب الشيخين كفر، فلم أر نقله صريحا ولا روايته ضعيفا ولا حسنا ولا صحيحا، وعلى تقدير ثبوته وتسليم صحته، فلا ينبغي أن يحمل على ظاهره؛ لاحتمال ما تقدم من التأويلات في كفر تارك الصلاة، إذ لو حمل الأحاديث كلها على الظواهر، لأشكل ضبط القواعد وحفظ النوادر، وحيث يدخل منه الاحتمال لا يصلح الاستدلال، لا سيما في قتل المسلم وتكفيره، وقد قيل: لو كان تسعة وتسعون دليلا على كفر أحد، ودليل واحد على إسلامه، ينبغي للمفتي أن يعمل بذلك الدليل الواحد؛ لأن خطأه في خلاصه خير من خطئه في حده وقصاصه.
لا يقال كيف نسبت قول سب الشيخين كفر إلى العوام، مع أنه مذكور في بعض كتب الفتاوى لبعض الأعلام، فإنا نقول: لم أر نقله إلا من المجهولين الذين هم في طريق التحقيق غير مقبولين، فلا يعتبر في باب الاعتقاد الذي مداره على ما يصح به الاعتماد.
[ حكم سب الصحابة عند الحنفية ]
[عدل]والحاصل: أنه ليس بمنقول عن أحد من أئمتنا المتقدمين كأبي حنيفة وأصحابه، وأما غيرهم فهم رجال ونحن رجال، فلا نقلد قولهم من غير دليل عقلي ونقلي، يؤتى به من طريق ظني أو قطعي، مع أنه مخالف للأدلة القطعية والظنية المأخوذة من الكتاب والسنة المروية التي تفيد في العقائد الدينية أو تفيد في القواعد الفقهية، فإن ما ورد فيها إما ضعيف في سنده أو مؤول في مستنده، لئلا يعارض القواعد الشرعية، فإن القول بالتكفير معارض لما نص عليه أبو حنيفة في ( الفقه الأكبر )، موافق لما عليه جمع المتكلمين من أهل القبلة لا يكفر، وعليه الأئمة الثلاثة من مالك والشافعي وأحمد، وسائر أهل العلم المعتمد في المعتقد.
وقد صرح العلامة التفتازاني في ( شرح العقائد ) بأن سب الصحابة بدعة وفسق، وكذا صرح أبو الشكور السالمي في ( تمهيده ): أن سب الصحابة ليس بكفر، وقد ورد عنه ﷺ: « أن من سب الأنبياء قتل، ومن سب أصحابي جلد » رواه الطبراني عن علي كرم الله وجهه، رواه أيضا عن ابن عباس: « من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ».
ثم لا وجه لتخصيص الشيخين فيما ذكر، فإن حكم الحسنين كذلك، بل سائر الصحابة هنالك، كما يستفاد من عموم الأحاديث وخصوصها، فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام: « من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله » رواه أحمد والحاكم عن أم سلمة.
بل وقد بالغ ﷺ وقال: « من سب العرب فأولئك هم المشركون » رواه البيهقي عن عمر رضي الله عنه.1
إلا أنه يجب حمله على أنه أراد باللام الاستغراق، أو الجنس الشامل للنبي الصلاة والسلام بالاتفاق، فهذا تحقيق هذه المسألة المشكلة على ما ذكر في ( المواقف ).
وأما ما في كتب العقائد، فمن اعتقد غير هذا فليحذر عقيدته، وليتب عن تعصبه وحماقته، ويترك حمية جاهليته، وإلا فيلهث غيظا على حقده وحسده وطغيته، ويدفن في تربة خباثته ونجاسته ظنيته إلى أن يتبين بطلان مظنته في ساعة قيامته { يوم تبلى السرائر }، فيظهر ضمائر ويتميز الكفر من الإسلام والكبائر من الصغائر.
ثم [ من ] ادعى بطلان هذا البيان، فعليه أن يظهر في ميدان البرهان، إما بتقرير اللسان هو، وإما بتحرير البيان والله المستعان، والحق يعلو ولا يعلى إلا البطلان، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: « أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس مائة سنة من يجدد لها دينها » ورواه أبو داود والحاكم والبيهقي في ( المعرفة ) عن أبي هريرة.
فوالله العظيم، ورب النبي الكريم، أني لو عرفت أحدا أعلم مني بالكتاب والسنة، من جهة مبناها أو من طريق معناها، لقصدت إليه ولو حبوا بالوقوف لديه، وهذا لا أقوله فخرا، بل تحدثا بنعمة الله وشكرا، واستزيد من ربي ما يكون لي ذخرا.
حديث: من سب أصحابي فعليه لعنة الله
[عدل]نعم ورد: « حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الإيمان وبغضهما كفر، وحب الأنصار من الإيمان وبغضهم كفر، وحب العرب من الإيمان وبغضهم كفر، ومن سب أصحابي فعليه لعنة الله، ومن حفظني فيهم فأنا أحفظ يوم القيامة » رواه ابن عساكر عن جابر.
المراد بالكفر كفران النعمة
[عدل]والمراد بالكفر كفران النعمة أو كفر دون كفر، أو أريد به التغليظ والوعيد والتهديد الشديد مبالغة في الزجر والنهي، كما هو معروف في الكتاب والسنة.
سباب المسلم
[عدل]وجاء في حديث كاد أن يكون متواترا: « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر » رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن مسعود.
وابن ماجة أيضا عن أبي هريرة وعن سعد، والطبراني عن عبد الله بن مغفل، وعن عمرو بن النعمان بن مقرن، والدارقطني في ( الأفراد ) عن جابر، والطبراني أيضا عن ابن مسعود، وزاد: « وحرمة ماله كحرمة دمه ».
فهذا الحديث صريح في أن سب المسلم فسق غاية أن الفسق له المراتب، كما أن المسلمين لهم تفاوت باختلاف المناقب، كما روى ابن عساكر عن البراء موقوفا: « لا تسبوا أصحاب رسول الله ﷺ فوالذي نفسي بيده لمقام أحدهم مع رسول الله قال رسول الله ﷺ أفضل من عمل أحدكم عمره » فكأنه أشار إلى قوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى }.
[ ذم التعصب في دين الله ]
[عدل]ثم اعلم أن التعصب في دين الله [ تعالى ] على وجه التشدد والتصلب ممنوع ومحظور؛ لأنه يترتب عليه أمور في كل منها ضرر ومحذور، قال الله تعالى: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق }، و { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل }، وقال عز وجل: { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }.
وقال سبحانه: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } واستدل بهذه الآية شيخنا المبرور المغفور محمد بن أبي الحسن البكري، في منع معرف كان بمكة في مقام الحنفي، ويقول بالصوت الجلي: « لعن الله الرافضة من الأوباش وطائفة القزلباش »، وقال هذا يكون تسبيبا سبهم طائفة أهل السنة والجماعة، كما عليه أهل العناد في الصناعة.
ولقد صدق الصديقي في مقامه الحقيقي، ووافق كلام أستاذي المرحوم في علم القراءة، مولانا معين الدين بن الحافظ زين الدين من أهل زيارتكاه، وهو أول من استشهد أيام الرافضة في سبيل الله، وذلك أنه لما ظهر سلطانهم المسمى بشاه إسماعيل، وفتح ملك العراق بعد القال والقيل، وفشوا القتال والقتيل، أرسل إلى خراسان مكتوبا فيه إظهار غلبته في هذا الشأن، وكتب في آخره سب بعض الصحابة من الأكابر والأعيان.
وكان الحافظ المذكور خطيبا في جامع بلد هراة المشهور، فأمر بقراءته فوق المنبر بالإملاء عند حضور العلماء والمشائخ والأمراء، ومن جملتهم العلامة الولي شيخ الإسلام الهروي سبط المحقق الرباني مولانا سعد الدين التفتازاني، فلما وصل الخطيب إلى محل السب انتقل منه على طريق الأدب، فتعصب كلاب الأرفاض لهذا السبب، وقالوا: تركت المقصود الأعظم والمطلوب الأفخم، فأعد الكلام لتكون على وجه التمام، وتوقف الخطيب في ذلك المقام، فأشار شيخ الإسلام إليه أن يقرأ ما هو المسطور لديه، لأن عند الإكراه لا جناح عليه، فأبى عن السب وصمم على اختيار العزيمة على الرخصة الذميمة، فنزلوه وقتلوه وحرقوه.
ثم لما جاء السلطان إلى خراسان، وطلب شيخ الإسلام وسائر أكابر الزمان، وأمر الشيخ بالسب في ذلك المكان، امتنع عنه رضاء للرحمة، فاعترض عليه بأنك أمرت به الخطيب سابقا، فكيف تخالف الأمر لاحقا، فقال: « ذاك فتوى، وهذا كما ترى تقوى، وأيضا ذلك الوقت كان أيام الفتنة التامة، وهجوم الخلائق والعامة، ورأيت اليوم في تخت السلطنة التي تجب عليك فيه العدالة، وسماع ما يتعلق بهذه المقالة، وتصحيح ما يكون العمل به أولى في هذه الحالة ».
فسأله عن كيفيته وتحقيق ماهيته وكميته؟.
فقال له: « أفعل أحد [ هذين ] الشيئين من الأمرين الحسنين:
أولهما: أني اثبت لك أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق وغيره هو الباطل المطلق، وذلك بأني أظهر لك تصانيف آبائك وأجدادك من المشائخ الذين سلفوا في بلادك بخطوطهم، وتعمل بما في سطورهم وفق ما في صدورهم، وإن كانوا الآن في قبورهم.
وثانيهما: أنك تنادي علماء مذهبك وفضلاء مشربك فتباحثت في مجلسك، فمن غلب في الحجة نقلا وعقلا، فيتبع فرعا وأصلا ».
فشاور وزرائه وأمرائه وعلمائه وفقهائه، فقالوا له: « هذا عالم كبير وفضله كثير لا يغلبه أحد منا في الكلام، و آبائك وأجدادك صنفوا في زمان السنة، وكان يجب عليهم التقية في هذه القضية » فتبعهم وصار من أهل الطغيان والكفران، كفرعون حيث شاور هامان، فقتله شهيدا وجعله سعيدا.
والحاصل: أن ولد الخطيب الذي هو أستاذي الأديب، كان يقول: إن زيادة التعصب والعناد في هذه الطائفة اللعينة، إنما وقعت من تعصبات الطبقة الأزبكية، حيث إذا رأوا شخصا يبتدئ في غسل الأيدي من مرق أو مسح على رجله، أو وضع حجرا في مسجده قتلوه، فعارضهم بأن من غسل رجله أو مسح رقبته وأذنه قتلوه، وكل من صلى مرسلا يديه قتله هؤلاء، فعارضوهم بأن من صلى واضعا يديه قتلوه، إلى أن زداد التعصب بين الطائفتين.
فمن سب الصحابة ولو مكرها قتلوه، فزادوا عليهم في القباحة والوقاحة، بأن أمروا أهل السنة بسب الصحابة فمن امتنع عنه قتلوه، وأشتد الأمر على القبيلتين حتى كان مدار العقيدة على هذا بين المسألتين، وكفر كل واحد غيره من الطائفتين.
[ أصل الفساد بسبب ترك السنة وفعل البدعة ]
[عدل]وأصل هذا الفساد، وإنما وقع بين العباد وشاية ترك السنة وفعل البدعة، حيث اختار بعض السلاطين والأمراء أن يذكر اسمه فوق المنبر على ألسنة الخطباء، فقيل لهم لم يتصور ذلك بأن يذكر الخلفاء الأربعة أولا هنالك.
ثم أحدث بنو أمية سب علي واتباعه في الخطبة مدة معينة، إلى أن أظهر الله سبحانه عمر بن عبد العزيز [ وأعز الله الإسلام به انتهاء، كما أعز الله الإسلام بعمر بن الخطاب ] ابتداء، فاظهر غاية العدالة ونهاية الرعاية في الرغبة والجمالة، فأول ما خطب عمر هذا على المنبر، حمد الله سبحانه وأثنى وشكر ووعظ ونصح لمن اعتبر ثم لما وصل إلى موضع سب الخطباء لخاتم الخلفاء وخاتم الحنفاء قرأ هذه الآية: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } أوصيكم عباد الله بتقوى الله، ونزل عن المنبر، فصار قراءة هذه الآية المقررة المعتبرة.
سب الصحابة الكرام من أكبر الكبائر
[عدل]وحاصل الكلام وتحقيق المرام أن سب الصحابة الكرام من أكبر الكبائر، بل متضمن أكثرها عند أهل السرائر؛ لأنه اجتمع فيه حق الله وحق العبد وحق رسوله [ ﷺ، فإنه لا يهون عليه إهانة من يكون مقربا لديه ] ومنسوبا إليه.
وأيضا من المقرر إجماعا أن قتل النفس أكبر الكبائر بعد الشرك بالله تعالى، وقتل المؤمن متعمدا إنما يقع المؤمن حال كمال غضبه وذهاب عقله وأدبه حتى يكاد أن يكون مجنونا، ثم لا شك أن يكون بعد ذلك نادما ومحزونا، ويتوب إلى الله ويتضرع إلى مولاه، بخلاف الرفضة حيث يسبون في حال اختيارهم ووقت اقتدارهم ويصممون على ذلك ولا يرجعون عما صدر عنهم هنالك إذ لم يعتقدوا قبحه، بل يتوهمون رجحه.
وكذا قيل ليس [ تقبل ] توبة لأهل البدعة؛ لأن بدعتهم عندهم قربة وطاعة، وأما ما ذكر بعض المشائخ أنهم لم يسبوا أصحاب النبي ﷺ، وإنما سبوا جميعا زعموا فيهم أنهم ظلموا عليا كرم الله وجهه، وأخذوا حقه مع جعله عليه الصلاة والسلام وصيه، وليس هؤلاء بهذا الوصف موجودين، ولا بهذا النعت مشهورين، فلا يفيد ذلك ولا يكون عذرا هنالك، كما قال بعض جهلة الصوفية أن عبدة الأصنام إنما عبدوا الملك العلام، سواء علموا هذا المعنى أو عقلوا عن هذا المبنى، فإن الشريعة الغراء تبطل مثل هذه الأشياء، فنحن نحكم بالظاهر والله اعلم بالسرائر.
ولا يخفى أن طائفة الشيعة تغاير طوائف المبتدعة الشنيعة، لما لم يتبعوا الأحاديث والأخبار وحرموا حقائق الأسرار ودقائق الأنوار التي حملته العلماء الأبرار ونقلته الفضلاء الكبار عن النبي ﷺ برواية الأصحاب والتابعين، وأتباعهم من العلماء العاملين والمشائخ الكاملين بأسانيد عدول ضابطين وثقة حافظين، وقعوا فيما وقعوا من الخطأ والخطل وافسدوا ما عندهم من العلم والعمل، واعتقدوا ما بنوه على ما طاحوا فيه من الزلل، وإلا فكيف يبغض من كان صاحب النبي صلى ﷺ في الغار، ورفيقه في سائر الأسفار، وأول من آمن به من الرجال الكبار.
وقد جعله الصلاة والسلام خليفة في مدينة الإسلام بمنصب الإمامة لعامة الأنام، كما أجمع عليه العلماء الأعلام، حتى قال علي كرم الله وجهه في هذا المقام: « قد رضيه ﷺ لديننا أفلا نرضاه لدنيانا » فإن لم يكن هذا الأمر منه الصلاة والسلام صريحا في الوصية، فأقل ما يكون جعله إشارة إلى القضية، مع أن المعقول المقرر عند أرباب العقل المعتبر أن الصحابة الذين فدوا أنفسهم وأموالهم في الإيمان بالله ومحبة رسول الله ﷺ،لم يكونوا مجتمعين على الضلالة بترك الحق الواضح لعلي رعاية لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، مع علو نسب علي وكثرة قومه وقبيلته وشجاعته وشوكته، وقلة قوم أبي بكر وأهل حمية.
إجماع المفسرين
[عدل]وأيضا فقد ورد النص القطعي- ولو كان مجملا – في [ أبي بكر ] رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة مجملا بقوله: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } وأجمع المفسرون على أن أبا بكر [ رضي الله تعالى عنه ] من السابقين الأولين، وكذا علي وخديجة وزيد وبلال رضي الله عنهم أجمعين.
فبأي دليل من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة يستحق أبا بكر الصديق شيئا من الملامة والمذمة، وإنما الحكمة في ذلك أن لعن لاعنيه يرجع إليهم، ويكون سببا بغضب الله عليهم، وموجبا له في زيادة الدرجات العالية والمقامات الغالية، كما أن مسابقته في الإيمان صارت باعثا لمشاركته في ثواب إسلام أهل الإيمان.
[ خراسان ليست بدار حرب ]
[عدل]وبهذا الذي قررناه وفي هذا المقام حررناه، تبين أن خراسان ليست بدار الحرب، كما توهم بعض الفقهاء، بل دار بدعة كما هو ظاهر عند العلماء، وتوضيحه أن أكثر سكانه على مذهب أهل السنة والجماعة، وغالبهم الحنفية وفيهم بعض الشافعية، وإنما العسكرية جماعة معدودة وشرذمة قليلة، يدعون أنهم الشيعة [ ولا يتحاشون عن الشنيعة ].
وقد صرح علماء الكلامية بأن الشيعة من الطوائف الإسلامية، نعم فيهم طوائف، فمنهم من يحب ولا يسب، وإنما يفضل عليا على البقية، ومنهم من لا يحب ولا يسب [ زعما منه أنه على الطريقة النقية، ومنهم من يسب ] ولا يستحل السب، وإنما يشتم عند الغضب، ومنهم من يستحل ويستبيح ولا يبالي من العتب، ومنهم من يعد السب قربة وطاعة ويجعله وظيفة وصناعة.
ولقد سمعت عن سيدي وسندي في علم التفسير، الشيخ عطية المكي السلمي: أن خارجيا ممن يزعم أنه من الفضلاء العلماء، كان ورده سب علي كرم الله وجهه ألف مرة، بين صلاة الصبح وصلاة العشاء، فسبحان من خلق في ملكه ما يشاء.
وقد ورد: « لا تسبوا الشيطان وتعوذوا بالله من شره » وفيه تنبيه نبيه على الترقي من حال التفرقة المعبر عنها بالأبنية إلى مقام التوحيد الصرف والجمعية، والحمد لله على ما أعطاني من التوفيق والقدرة على الهجرة من دار البدعة إلى خير ديار السنة، التي هي مهبط الوحي وظهور النبوة، وأثبتني على الإقامة من غير حول مني ولا قوة.
ومع هذا أكره رؤية هذه الطائفة الرديئة خصوصا عند طواف الكعبة الشريفة العلية، مع أنهم كالمنافقين في مقام التقية، والتستر فيما بين الجماعة الشافعية التقية حتى يسمعوا الشافعية، وبهذا الموجب اشتبه، قال بعض الشافعية [ عند السادة الحنفية لكن الفرق الشافعية ] يقبضون أصابعهم ويشرون بالمسبحة عند التشهد، كما هو المعتمد في مذهبنا، بخلاف الشيعة، فإنهم تركوا هذه السنة من سنن الشريعة مخالف لمذاهب أهل السنة والجماعة البديعة المنيفة.
ومن علاماتهم في الطواف أنهم يوسوسون في ابتدائه، ويحرفون عن الكعبة حال إنشائه، ثم في الشوط السابع قبل انتهائه يقفون منحرفين في المستجار، نعوذ بالله من حال أهل النار.
هذا وإذا تبين لك أن خراسان من دار البدعة لا من دار الحرب، ظهر بطلان ما يفعله الأزبك في حقهم من قتل العام وعدم التمييز بين الأنام، وسبي نسائهم وذراريهم في تلك الأيام، إلى أن وقع الناس في كفر ظاهر من استحلال فروجهن واستخدام أولادهن.
وأغرب من هذا أنهم فعلوا مثل هذا في بلاد أهل السنة، مثل تاشكنة وغيره مقام العلماء والسادة، حتى باعوا في سوق بخارى بنت الأمير سيف الدين، كان سيدا ومفتيا وصالحا متقيا بعد حكم سلطانهم بقتل عامة البلد، حتى النساء والأطفال والعلماء والمشائخ والسادات وأرباب الأحوال، لذنب وقع من بعض العساكر الجهال فإنا لله وإنا إليه راجعون، كيف يدعون الإسلام ويفعلون هذه الذنوب العظام.
وقد ذكر ابن الهمام: أن من فتح قلعة من بلاد أهل الكفر وكانوا ألوفا مجتمعة، ويقال إن فيهم واحدا من أهل الذمة لا يجوز قتلهم على العموم.
مسألة سلطان الزمان
[عدل]وأغرب من هذا أن بعض العوام يسمون سلطانهم عادلا، وقد صرح علماؤنا من قبل هذا الزمان أن من قال سلطان زماننا عادلا فهو كافر، نعم هو عادل عن الخلق كما قال تعالى: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } وقد ظهر الفساد في البر والبحر بما يعملون، ولكن قد ورد: « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون » رواه الشيخان عن المغيرة.
ثم إني لم أقل بكفر الطائفة الأزبكية، كما قال بعض العلماء الحنفية، فإنهم - وإن فعلوا ما فعلوا - لم يعرف من بواطنهم أنهم من المستبيحين لذلك، أو من المستقبحين لما هنالك، فالسكوت عنهم أيضا أسلم، والله سبحانه اعلم.
مسألة: هل معك دليل ظني على كفر الرفضة
[عدل]فإن قلت: هل معك دليل ظني على كفر الرفضة؟ قلت: نعم أما الكتاب فمنه قوله تعالى: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء } الآية فإنه يشير إلى تكفيرهم من وجهين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى بين أن النبي ﷺ وأصحابه وأتباعه وأحبابه، مذكورون في الكتب السالفة من التوراة والإنجيل بما بينه من طريق التمثيل، ثم ذكر وعدهم بأن لهم مغفرة وأجرا عظيما في العقبى لما أصابهم من المحن والبلوى في محبة المولى وطريق المصطفى في الدنيا، فمن أبغضهم يكون شرا من اليهود والنصارى؛ لأنهم قائلون بأن أفضل الخلق أصحاب موسى وعيسى، ولا شك أن الخلفاء الأربعة هم السابقون الأولون من المهاجرين، وقد قال الله تعالى في حقهم: { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ثم قوله سبحانه في الآية السابقة: { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } بلفظ ليس لإخراج بعضهم - كما زعم الرفضة - فإن ( من ) للبيان لا للتبعيض المنافي لمقام المنة.
وثانيهما: أنه فسر قوله: { والذين آمنوا معه } بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي رزق التوفيق بكونه معه في الدار والغار، وفي سائر الأسفار إلى أن دفن معه في برزخ دار القرار، وقد قال سيد الأبرار: « إنه يحشر أبو بكر في اليمين وعمر في اليسار رضي الله عنهما » وهكذا يدخل معهما في الجنة بإذن الملك الغفار.
وفسر: { أشداء على الكفار } بعمر بن الخطاب الفاروق، المبالغ في الفرق بين الخطأ والصواب المبين لقبه في الكتاب، حيث قتل المنافق الذي ما رضي لحكم النبي ﷺ لليهودي في فصل الخطاب.
وفسر: { رحماء بينهم } بعثمان بن عفان، الذي استحى منه ملائكة الرحمن، والذي رزق الحظ بالسرورين في تلقيبه بذي النورين، حتى من كمال رحمه على رحمه له ما جرى في أنواع البلوى.
وفسر: { تراهم ركعا سجدا } يعني المرتضى، وابن عم المصطفى، وزوج البتول الزهراء؛ لكثرة ركوعه وخشوعه، ولإطالة سجوده مع كمال كرمه وجوده، حتى جاد في حال ركوعه، وفي مقام شهوده كما يشير إليه قوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } والتعبير بصيغة الجمع: أما تعظيما لشأنه وحاله، أو تنبيها على أن المراد هو مع أمثاله في تحسين أقواله وتزيين أفعاله وأحواله.
تفسير قوله أشداء
[عدل]والمقصود أن قوله سبحانه: { أشداء على الكفار } [ إشعارا بأنه كان شديد على الكفار الأولين فكذا على الكفار ] الآخرين، فإن شدة الرفضة في حقه من الأمر الظاهر الذي لا ينكره إلا المعاند المكابر، حتى يقول أحدهم ما حب عمري لتجنيسه بعمري، ويقوي هذا المعنى ما رتبه سبحانه على وجهة التمثيل من تعليل المبنى بقوله: { ليغيظ بهم الكفار } ومن في معناهم من الفجار.
ويؤكد هذا التحقيق ما ورد في حق الصديق: « أبى الله والمسلمون إلا أبا بكر »، وذلك عند منصب الإمامة المشير إلى صحة الخلافة، فمن أباه بعد أن النبي صلى الله [ تعالى ] عليه وسلم أجتباه، لا يكون داخلا في أهل الإسلام، [ ويكون خارجا ] عن مقام الإكرام، وهذا كان سبب إجماع الصحابة على خلافته، وعدم الالتفات إلى من توقف في إطاعته حيث قالوا: « رضيه عليه الصلاة والسلام لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟ » وقد صح أيضا [ عن ] علي هذه المقالة في تلك الحالة.
[ منع الفيء عمن سب الصحابة رضي الله عنهم ]
[عدل]ومنه قوله تعالى: { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم } إلى قوله: { والذين تبوأوا الدار والأيمان } إلى أن قال: { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا } الآية فإن الله تعالى قسم الفيء المأخذ من الكفار بين ثلاث طوائف: المؤمنين الأبرار وبدأ بالمهاجرين والأنصار، ثم ختم بمن بعدهم من التابعين، ومن بعدهم من سائر المؤمنين أجمعين إلى يوم الدين، بوصف أنهم: { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالأيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا }
فخرج هؤلاء الطائفة من بين المؤمنين؛ لأنهم [ لم ] يستغفروا للسابقين الموقنين، بل جعلوا غلهم في قلوبهم حتى عكسوا القضية، وبدلوا طلب المغفرة والرحمة بالسب والمذمة، بل بنوا مدار مذهبهم على اللعنة، وما أحسن قول بعض أهل الفطنة: لعن الله على مذهب مداره على اللعنة والطعنة، مع أن لعنهم يرجع إليهم في العاقبة، ويكون سبب زيادة الرحمة للصحابة، كما رواه ابن عساكر عن جابر بن عبد الله y قال: « قيل لعائشة: إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله ﷺ حتى إنهم يتناولون أبا بكر وعمر، فقالت: أتعجبون من هذا؟! إنما قطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر ».
[ الدليل من السنة على كفرهم ]
[عدل]وأما الدليل من طريق السنة على كفرهم في مقام العناد، فقد ورد في أخبار الآحاد ما يصلح الجملة للاستناد بالاعتماد، ولو كان بغالب الظن في باب الاعتقاد؛ لأن أصل [ تفصيل ] هذه المسألة من تفضيل الصحابة، بل تفضيل الأنبياء [ على بعضهم ]، وتفضيل الملائكة على البشر ونحوه، من بحث الإمامة والخلافة كلها من الظنيات الفرعيات المناسب ذكرها في المسائل الفقهيات، لأن مدار الاعتقاد على الدلالات القطعيات، إذ من المعلوم أنه لو وجد شخص ولم يعلم تفصيل هذه الحالات،لم يحكم بكفره ولا ينقصه في مقام الديانات، ولقد أخطأ خطاء فاحشا من عد مثل هذه الأمور المذكورة مما علم من الدين بالضرورة.
فمنها ما ورد عن علي كرم الله وجهه قال رسول الله ﷺ: « سيأتي قوم لهم نبز - أي لقب - يقال لهم الرافضة إن لقيتهم فاقتلوهم فإنهم مشركون، قلت: يا نبي الله ما العلامة؟ قال: يفرطونك بما ليس فيك ويطعنون على أصحابي ويشتمونهم ». رواه ابن [ أبي ] عاصم في ( السنة ) 2 وابن شاهين.
فهذا الحديث يدل على أن باغض علي وسائر الصحابة كلهم رفضة، وإن اختص باغض علي بالخوارج بخروجهم على علي وقت الفتنة، وذلك لأن الرفض بمعنى الترك لغة، ثم نقل إلى ترك محبة الصحابة، فلا وجه لتخصيص سب الشيخين للكفر، إلا لكونهما زيادة في الفضيلة بناء على قول جمهور أهل السنة؛ لأن أبا بكر أفضل، وقيل عمر وهو المسمى بالفاروقية، وقيل عباس وهم طائفة من العباسية [ يقال لهم الراوندية، وقيل علي وهم الإمامية ]، وقال بعض المتكلمين بالسوية، وقال بعضهم إلى التوقف في القضية أو الفضيلة، إن كانت بمعنى أكثرية المثوبة فهي غير معلومة لنا، وإن كانت بمعنى أكثرية العلم والحلم فالأدلة فيه متعارضة عندنا.
واختلف هل عثمان أفضل أم علي؟ ومال الأكثر إلى الأول وجمع إلى الثاني، والقولان مرويان عن إمامنا الأعظم والله سبحانه [ وتعالى ] أعلم.
وهذا وقد ذكر الكردري في ( مناقب أبي حنيفة ) قال: إن من اعترف بالخلافة والفضيلة للخلفاء، وقال أحب عليا أكثر لا يؤاخذ إن شاء الله تعالى؛ لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: « اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك ».
[ التفضيل ] فيما عدا العشرة المبشرين بالجنة:
[عدل]وأغرب من هذا كله قول طائفة - منهم ابن عبد البر المالكي -: « إن من توفي من الصحابة حال حياته أفضل ممن بقي بعدهما »، ولعله محمول على ما عدا العشرة المبشرة، وممن كمل في صفاته وأمن الفتنة في وقت وفاته.
وقال بعض المشائخ: إن عليا في آخر أمره وانتهاء عمره، صار أفضل من أبي بكر الصديق وغيره؛ لزيادة المكاسب العلمية والمراتب العملية.
فهذا الاختلاف بين هذه الطوائف الإسلامية دليل صريح على أن مسألة التفضيل ليست من الأمور القطعية؛ لأن الأحاديث المروية - مع كونها ظنية - معترضة مانعة من كونها من الأمور اليقينية، على أنه ليس فيها تصريح بأن الأفضلية من أي الحيثية، ليعلم أنه بمعنى الأكثر ثوابا عند الله في العقبى، أو بمعنى الأعلمية بابا عند الخلق في الدنيا، فترك الفوز في هذه المبحث هو الأولى؛ لأن المدار على طاعة المولى؛ ولقوله تعالى: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } أي بل تسألون عن تحسين أعمالكم وتزيين أحوالكم.
ولقوله الصلاة والسلام: « إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ».
فقد حكي أن بعض الصوفية لما سمع الحديث قال: كفاني.
وهو نظير صحابي قرأ عليه ﷺ قوله تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } [ فقال: حسبي ].
وقد ورد عنه الصلاة والسلام أنه قال: « إني أعلم آية لو عمل بها جميع الخلق لكفتهم: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره }»، وذلك لأن من اتقى الله علمه الله ما يأمره ونهاه، كما يشير إليه قوله تعالى: { واتقوا الله ويعلمكم الله }.
وقد ورد: « من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ».
وروي: « ما أتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه » أي بالعلم الكسبي، أو العمل اللدني الوهبي، كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم }.
وعن زفر أن الإمام سئل عن علي ومعاوية وقتلى صفين، فقال: « إذا قدمت على الله يسألني عما كلفني ولا يسألني عن أمورهم ».
وروي أنه قال: « تلك دماء طهر الله منها سناتنا أفلا نطهر منها لساننا؟ » وفي رواية قرأ تلك الآية.
وإنما بنيت هذه المسألة المعضلة لما فيها من العوارض المشكلة المحتاجة إلى الأقوال المفصلة، ومما يدل على عدم قطع الأفضلية ما صدر عن عمر في الشورى، حيث جعل الأمر لأحد من الستة، فإنه لو كان أفضلية عثمان أو علي قطعيا، لكان تعين للخلافة بالأولوية، مع أنه يجوز صحة الخلافة بشرائطها الشرعية في المفضول إجماعا، خلافا لطائفة الشيعة في أكاذيبهم الشنيعة.
ومنها ما [ روي ] عن علي أيضا قال: قال رسول الله ﷺ: « يا علي ألا أدلك على عمل إذا فعلته كنت من أهل الجنة - وإنك من أهل الجنة - إنه سيكون بعدي أقوام يقال لهم الرافضة، فإن أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون وقال علي: سيكون بعدنا أقوام ينتحلون مودتنا تكونون علينا بارقة، وآية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما » رواه خثيمة بن سليمان الطرابلسي في ( فضائل الصحابة ) واللالكائي في ( السنة ).
وفي رواية له [ عنه ] أيضا: « يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يسمون الرافضة يرفضون الإسلام، فاقتلوهم فإنهم مشركون » أي كالمشركين في الخروج عن كمال دين المسلمين، أو أطلق ويراد به للزجر والمبالغة في التهديد والوعيد، وكذا قوله: « يرفضون الإسلام » أي بعض ما يجب عليهم من الأحكام.
ومنها عن علي كرم الله وجهه أن النبي ﷺ قال له: « إن سرك أن تكون من أهل الجنة، فإن قوما ينتحلون حبك يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، لهم نبز يقال لهم الرافضة، فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون ». رواه ابن بشران والحاكم في ( الكنى ).
فهذه الأحاديث وإن كانت أسانيدها ضعيفة، لكن يتقوى بعضها ببعض، فترتقي إلى درجة الحسن، الذي يصح الاستدلال به في الأمور الظنية الفقهية، فيقتل الساب للصحابة من الطائفة الخارجة والرافضة، وإنما قلنا بطريق السياسة العرفية الفرعية، لا بطريق الأصالة من الأمور الشرعية؛ لئلا يخالف القواعد الكلية الثابتة من الكتاب والسنة النبوية، أنه لا يقتل أمرؤ مسلم إلا بإحدى ثلاث: قتل النفس بالنفس، وزنا بإحصان وارتداد.
والسياسة واردة في الأخبار ومشاهير الآثار، ومن جملتها تغريب العام للزاني وقطع يد النباش وأمثالهما، ومنها قتل تارك الصلاة في مذهب الشافعية، فاندفع اعتراضهم على الحنفية في قتل الرفضة، حيث وهموا أنهم ليس لهم دليل في ذلك، ولم يحقق ما قدمنا هنالك.
ويؤخذ من هذه الأحاديث أيضا جواز مقاتلة الأرفاض، ويؤيده مقاتلة علي للخوارج في حال الاعتراض، إلا أنه يعامل معهم معاملة علي مع أمثالهم من عدم سبي نسائهم وذراريهم، وعدم التعرض لإفرادهم بعد فراغ قتالهم ودخولهم في الإطاعة، كما حقق هذه الأمور جميعا في محالها المفصلة في بيان أحوالهم.
ومنها عن علي رضي الله عنه قال: قال لي النبي ﷺ: « أنت وشيعتك في الجنة، وسيأتي قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون » رواه أبو نعيم في ( الحلية ) والخطيب وابن الجوزي في ( الواهيات )،3 وفيه: محمد بن حجر، ثقة غال في التشيع روى [ له ] الشيخان، ولا شبهة أن شيعته كل من شايعه في سنته، وتابعه في طريقته وسيرته المطابقة لما هي عليه النبي وأصحابه في ظاهره وسريرته، ويقويه قوله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون }.
ويؤيده ما رواه الدينوري عن المدائني قال: نظر علي بن أبي طالب إلى قوم ببابه، فقال لقنبر: « يا قنبر من هؤلاء؟ قال: هؤلاء شيعتك، قال: وما لي لا أرى فيهم سيما الشيعة؟ [ قال: وما سيمى الشيعة؟ ] قال: خمص البطون من الطوى، يبس الشفاه من الضمأ، عش العيون من البكاء ».
وكأنه رضي الله عنه وكرم وجهه أشار إلى تفسير قوله تعالى: { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } وقوله سبحانه } وتعالى في حق أهل الصفة: { تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } وقوله سبحانه { وتعالى في حق المنافقين: { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول }.
ومن اللطائف ما وقع من أرباب الظرائف، وهو: كان سنيا في غاية من حسن الصورة ونور البصيرة، لكنه مولع بالفسق من شرب الخمر وغيرها من الأمور الخطيرة، وهو من ندماء الشيعي من الأمراء، فذكر في مجلسه بيان أمارات الأتقياء وعلامات الأشقياء، فقال السني: « أنا من فساق أهل السنة وانظروا في وجهي من سيما نور أهل الجنة، وأبصروا في طلعة الحسامي وغاظ الشيعة وأتقيائهم على مظنتهم الشيعة تروا عليه من غبر الظلمة المشاهدة، على أنه من حملة الظلمة ».
ولعله أخذ هذا المعنى اللطيف والمبنى الظريف من قوله تعالى: { وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة }.
وقد ورد: « كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تحشرون ».
وقد صح: « أن الظاهر عنوان الباطن ».
وهذا أصل في باب الفراسة وكتاب الكياسة، وقد قال تعالى: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } أي المتقين.
وفي الحديث: « اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله » وهذا قد يكون بأمارات الظاهرية، وقد يكون بعلامة باطنية تتجلى عند أصحاب نتكشف لأرباب الأبصار والبصيرة والأسرار.
ومنها ما [ روي ] عن جحيفة سمعت: عليا على المنبر يقول: « هلك في رجلان محب غال، ومبغض غال » رواه العشاري في ( فضائل الصديق ) وابن أبي عاصم واللالكائي في ( السنة ).
وفي رواية لابن أبي عاصم عن علي قال: « يهلك فينا أهل البيت فريقان: محب مطر وباهت مفتر » والإطراء: هو المجاوزة عن الحد في الثناء، والباهت: هو الذي يأتي بالبهتان على طريق الافتراء.
وفي رواية أخرى له عنه قال: « يحبني قوم حتى يدخلهم حبي النار، ويبغضني قوم حتى يدخلهم بغضي النار ».
وفي رواية أخرى عنه - ورواية الأصبهاني في ( الحجة ) عنه أيضا - بلفظ: « يهلك في رجلان محب مفرط، ومبغض مفرط » ولا شك أن المحب الغالي هو الرافضي، والمبغض الغالي هو الخارجي.
وأما السني: فمحب لعلي في المقام العالي؛ لأنه في الوسط الذي هو القسط الذي أشار إليه قوله تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } الآية وتحقيقه أن خير الأمور أوسطها، وهذا يجري في الاعتقاد، وفي الأفعال والأخلاق وسائر الأحوال، كما لا يخفى على أرباب الكمال، فإن مدار التوحيد على التوسط بين التشبيه والتنزيه، كما في الآيات والأحاديث المتشابهات، [ وكقولهم ]: لا عين ولا غير في تحقيق صفات الذات كذا مذهبهم، وبين المعطلة والمجسمة وبين القدرية والجبرية وبين الرفض والخروج.
وكذا يعتبر التوسط في استحسان الأخلاق كالشجاعة، فإنه حالة بين التهور والجبن، والسخاوة بين التبذير والبخل، والتواضع بين الكبر والمهانة ونحوها عند من يعرف علم الأخلاق، ويفرق بين الخسة والذميمة، وقد قال تعالى في علم المعاش: { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما }
ما عال من اقتصد
[عدل]وفي [ الحديث ]: « الاقتصاد نصف المعيشة »4 وفي رواية: « ما عال من اقتصد »{{ضعفه الألباني في الجامع]</ref> وقال تعالى: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } وقال تعالى حكاية عن وصية لقمان: { واقصد في مشيك واغضض من صوتك }.
فإذا عرفت ذلك علمت أن شيعة علي ليس إلا أهل السنة هنالك، فإن غيرهم إما مبغض مفرط كالخوراج، حيث سبوه ولعنوه وكفروه وحاربوه، وإما محب مفرط كالروافض، فإنهم فضلوه على غير النبي ﷺ من سائر الأنبياء والرسل الأصفياء، كما ينادي مناديهم: « ما بين الأرض والسماء محمد وعلي خير البشر ».
وهذا مع كونه بدعة قبيحة في إدخاله بين كلمات الأذان، كلمة كفر فيها فضيحة عند الأعيان، بخلاف بدعتهم في قولهم: « حي على خير العمل » فأمر سهل، حيث يصح في المعنى، وإن لم يرد في الآذان هذا المبنى، مع أنه مستدرك مستغنى عنه بعد قوله: « حي على الصلاة، حي على الفلاح ».
ثم بالغ طائفة منهم فكفرت أبا بكر لأخذه حق علي ومخالفته، وكفرت عليا لسكوته عنه ورضائه بموافقته، ونفوا جواز التقية، فإنها لو كانت جائزة لكان أولى أن يقاتل مع معاوية بهذه القضية، فإنه كان أكثر جنودا من الصديق، وأكبر قبيلة منه عند التحقيق.
ثم بالغ طائفة منهم في محبته حتى فضلته على النبي وسائر أمته، كما اشتهر عن بعض شعرائهم المعتبر عند كبرائهم أنه قال: لم يكن غرض من كسر الأصنام إلا أنه يوصل المصطفى كتفه إلى قدم المرتضى ويتشرف في ذلك المقام إلا علي.
ومضمون هذا البيت مشهور الآن في المكان ويقرؤونه وينقلونه ويستحسنونه، ولم يعرفوا من كمال حماقتهم في مرتبة العقل وجهالتهم في مقام النقل أن كسر الأصنام فرض في دين الإسلام، وأنه قط لم يفضل ولي على نبي في شيء من الأحكام.
ثم بالغ طائفة منهم في سوء الاعتقاد من جعل النبي وعلي في الإيجاد بوصف الاتحاد في المعنى، ولو تغاير في المبنى.
ثم بالغ طائفة منهم فقالوا أخطأ جبريل في إيصال التنزيل، حيث أنزله على النبي [ ﷺ ] وغفل عن علي، ويسمون هذه الطائفة بالغرابية حيث توهموا أن النبي ﷺ يشابه عليا في كمال الصورة، بحيث يتوهم الاتحاد حال الضرورة.
ومن عرف شمائله عليه الصلاة والسلام في الخلق والخلق، عرف أنه لا مناسبة بينه وبين علي، لا في الصورة ولا في السيرة، مع أن تخطئة جبريل مستلزم لتخطئة الرب الجليل، حيث إنه سبحانه ما نبه جبريل عليه ولا أشار إليه في مدة ثلاث وعشرين سنة بنجوم مفرقة، مع قوله تعالى: { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } وهذا كما ترى كفر صريح وإلحاد قبيح.
ثم بالغ طائفة منهم تسمى النصيرية يقولون لعلي بالإلوهية، ونحو ذلك مما بيناه في مواضع مما ألفناه.
[ مشابهة علي لعيسى بن مريم]
[عدل]والحاصل أن عليا له مشابهة بعيسى بن مريم في هذه القضية، حيث كفر اليهود بسبب إفراطهم في بغضه ونسبته إلى ما لا يليق به مما يصان عنه اللسان، وكفر النصارى في إفراطهم في حبه ونسبته إلى التثليث والاتحاد والعينية، المشاركة لهم في هذه بخصوصها الطائفة الوجودية، وبطلان أقوال هذه الطوائف ظاهر لأهل الإسلام من الخواص والعوام، وقد أوضحنا هذه الأدلة العقلية النقلية في كتبنا المتعلقة بالتفسير والأحاديث وأقوال الصوفية.
ثم من اللطائف ما ذكره المرغيناني: أن الشيطان الطاق - وهو شيخ الرافضة على الإطلاق - كان يتعرض للإمام الأعظم كثيرا من الأيام، فدخل الشيطان يوما في الحمام، وكان فيه الإمام، وكان قريب العهد بموت الأستاذ حماد، فقال الشيطان: مات أستاذكم فاسترضاه منه، فقال الإمام: أستاذنا مات وأستاذكم من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فتحير الرافضي وكشف عورته، فغمض الإمام ناظره فقال الشيطان: يا نعمان مذ كم أعمى الله بصرك؟ فقال: مذ هتك الله سترك، فبادر الإمام إلى الخروج من الحمام، وانشأ هذا الكلام [ يقول ]:
أقول وفي قولي بلاغ وحكمة ** وما قلت قولا حيث فيه بمنكر
ألا يا عباد الله خافوا إلهكم ** ولا تدخلوا الحمام إلا بمزر
ومنها ما قال أبو الفضل الكرماني: « إنه لما دخل الخوارج الكوفة، ورأيهم تكفير كل من أذنب، وتكفر كل تكفره، قيل لهم هذا شيخ هؤلاء، فأخذوا الإمام وقالوا: تب من الكفر فقال: أنا تائب من كل كفر، فقيل لهم: إنه قال أنا نائب من كفركم فاخذوه، فقال لهم: العلم قلتم أم نظن، قالوا: نظن، قال: إن بعض الظن أثم، والأثم ذنب فتوبوا من الكفر، قالوا: تب أيضا من الكفر، فقال: أنا تائب من كل كفر ». فهذا الذي قاله الخصوم: « إن الإمام استتب من الكفر مرتين »، ولبسوا على الناس، انتهى.
ووقع لي نظر هذا الحال مع بعض الجهال من قضاة الأروام، فإنه لما سمع بي أني طعنت في كلام ابن عربي وهو معتقد، قال: تب إلى الله، فقلت: أتوب إلى الله من جميع ما ذكره الله.
ومنها ذكره الغزنوي عن شريك بن عبد الله قال: « كنا عند الأعمش في مرضه الذي توفي فيه، فدخل عليه أبو حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، وكان الإمام أكبر فبدأ بالكلام، وقال: اتق الله فإنك في أول يوم من أيام الآخرة، وقد كنت تحدثت عن علي رضي الله عنه بأحاديث لكان أمسكتها لكان خيرا لك، فقال الأعمش: أسندوني ألمثلي يقال هذا؟ حدثني أبو المتوكل الشامي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ إذا كان يوم القيامة قال الله تعالى لي ولعلي بن أبي طالب: أدخلا الجنة من أحبكما وأدخل النار من أبغضكما، وذلك قوله تعالى: { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد } فقال الإمام قوموا حتى لا يجيء بأكثر من هذا، قال: فوالله ما جزنا الباب حتى مات ».5
ومنها ما ذكره الكردري أن للرافضة أحاديث موضوعات وتأويلات باطلة في الآيات، وزيادات وتصحيفات كزيادة: ( والعصر ونوائب الدهر )، وكقوله تعالى: { إن علينا للهدى } [ صحفوه بحذف النون فغيروا: ( إن عليا للهدى ) ].
وهم قوم بهت يزعمون أن عثمان أسقط خمسمائة كلمة من القرآن، منها قوله تعالى: { ولقد نصركم الله ببدر } وزادوا فيه: ( بسيف علي ).
قال علي: وهذا وأمثاله كفر، قال الله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } فمن أنكر حرفا مما في مصحف عثمان أو زاد فيه أو نقص فقد كفر، انتهى.
وقد صحف النصارى قوله سبحانه [ وتعالى ] في ( الإنجيل ): ولّت عيسى ( بتشديد اللام ) فخففوها وخرجوا عن الإسلام باعتقاد هذا الكلام.
ومنها أنه كان في الكوفة زمن أبي حنيفة رافضي له بغلتان، سمى أحدهما أبا بكر والأخرى عمر، وكان يضربهما في الخدمة ويعذبهما، فانتشر الخبر: أن أحدهما رفصته حتى قتلته، فقال الإمام انظروا فإن البغلة التي سميها بعمر هي التي قتلته، ففحصوا عن القضية فرأوا أن الأمر كما ذكر.
أقول: وما ذاك إلا لكون عمر من مظاهر الجلال، كما أن الصديق من مظاهر الجمال، ولذا كان أشد على الكفار والرافضة الفجار.
ولقد قال ﵇ حين شاور أصحابه الكرام في أسارى بدر، فأشار أبو بكر بأخذ الفداء منهم بلا هلاك [ وعمر بالهلاك ] فيهم، فقال: إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم [ ﵇ ] حيث قال: { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } وكعيسى [ ﵇ ] في قوله: { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ومثلك يا عمر كمثل نوح [ ﵇ ] في قوله تعالى: { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } وكموسى في قوله تعالى: { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } الآية.
وبهذا ظهر صحة معنى ما اشتهر عنه عليه الصلاة والسلام: « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » وإن كان مبناه مما لا أصل له عند المحدثين، غفل عن هذا السيد جمال الدين، حيث ذكره بعنوان الحديث في صدور ( روضة الأحباب ) والله اعلم بالصواب.
ومنها ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي إسحاق قال: « دعيت إلى ميت لأغسله، فلما كشفت الثوب عن وجهه، فإذا أنا بحية قد تطوقت على حلقه، فذكروا أنه كان يسب الصحابة رضي الله عنهم ».
وأخرج أيضا عن أبي إسحاق الفزاري أنه أتاه رجل فقال له: « كنت أنبش القبور، وكنت أجد قوما وجوههم لغير القبلة، فكتب إلى الأوزاعي يسأله، فقال: أولئك قوم ماتوا على غير السنة ».
وقد سئل الأوزاعي: « أنه يموت اليهودي والنصراني وسائر الكفار ولا ترى مثل هذا؟ فقال: نعم أولئك لا شك أنهم في النار، ويريكم في أهل التوحيد لتعتبروا »، ذكره السيوطي في ( شرح الصدور في أحوال القبور ).
ثم يتعلق بهذا المبحث مسائل مهمة ودلائل متمة، تركناها مخافة ملالة أرباب الجهالة وضلالة العامة، وإن كان الله سبحانه أختار لنا الطريقة الملائمة، فطائفة الأزبكية وجهلة ما وراء النهرية، ينسبون أهل خراسان إلى الروافض وهم بريئون منهم، وجماعة القلزباشية والعراقية الاوباشية ينسبونهم إلى الخوارج، وهم منزهون عنهم
من كمل من العلماء ابتلي بأربع
[عدل]وقد قيل من كمل من العلماء ابتنى بأربعة من الأشياء: « شماتة الأعداء وملامة الأصدقاء وطعن الجهلاء وحسد العلماء »، لكنني أقول كما قال وكيع من قول بديع الشعر:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ** قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ** ومات أكثرنا غيظا لما وجدوا
وقال الله تعالى: { قل موتوا بغيظكم } وقال تعالى عز وجل: { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ }.
ولقد أحسن محمد بن الحسن في قول أبي الحسن شعر:
لم يحسدوا شر الناس منزلة من عاش في الناس يوما غير محسود
قال تعالى: { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله }.
ولله در قائله:
ما يضر البحر أمسى زاخرا ** إن رمى فيه غلام بحجر
وقد عرف فانصف أن من صنف فقد استهدف، فأي كلام أفصح من كلام رب العالمين وقد قالوا: { أساطير الأولين }.
وقد قال زين العابدين رضي الله عنه وعن آبائه أجمعين:
يا رب جوهر علم لو أبوح به ** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي ** يرون أقبح ما يأتونه حسنا
ثم ما يجب علينا التنبيه مما ثبت لدينا، وهو أنه قد علم مما قدمنا أنه لم يثبت الكفر إلا بالأدلة القطعية، وإذا جوز علماؤنا الحنفية قتل الرافضي بالشروط الشرعية، على طريق السياسية العرفية، فلا يجوز إحراقه بالنار ونحوه من أنواع القتل الشنيعة، بل يقتل بالسيف ونحوه من آلات الموت السريعة، بقول صاحب الشريعة: « إذا قتلتم فأحسنوا القتلة » ولقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: « لا تعذبوا عذاب الله ».
ثم الرجم مختص بالزاني المحصن لا سواه، فقد ورد: « من بدل دينه فاقتلوه » ولم يقل فارجموه، بل اللائق به أنه يستتاب، وإن ظهر شبهة يؤتى له بالجواب ليظهر له وجه الصواب.
فعن ( الخلاصة ): « الجاهل إذا تكلم بكلمة الكفر ولم يدر أنها كفر، قال بعضهم: لا يكون كفرا ويعذر بالجهل، وقال بعضهم: يصير كافرا، ثم قال: وإذا كان في المسألة وجوه يوجب التكفير، ووجه واحد يمنع فعلى المفتي أن يميل إلى ذلك الوجه »، انتهى.
مسألة من اعتقد الحرام حلالا إنما يكفر إذا كانت الحرمة ثابتة بدليل مقطوع
[عدل]فيجب أن يتفحص عنه هل سب جاهلا وخاطئا أو مكرها أو مستحلا؟ ففي ( الخلاصة ): أن من اعتقد الحرام حلالا، إنما يكفر إذا كانت الحرمة ثابتة بدليل مقطوع به، أما إذا كانت بأخبار الآحاد لا يكفر.
ثم بعد قتله يجب على المسلمين تكفينه وتدفينه والصلاة على جنازته؛ لأن الشارع جعل هذه الكلمة من فروض الكفاية الواجب على بعض أهل الإسلام القيام بالرعاية بقوله عليه الصلاة والسلام: « صلوا على كل بر وفاجر ».
هذا وقد ورد: « إذا أراد الله بقوم خيرا أكثر فقهاؤهم وأقل جهالهم، فإذا تكلم الفقيه وجد أعوانا [ فإذا تكلم الفقيه قهر ] » رواه الديلمي عن ابن عمر.
وقال عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم }.
[ الترغيب بالعزلة عند فساد الزمان ]
[عدل]وفي الخبر الصحيح: « إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة، وأعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت الأمر لا بد لك منه، فعليك نفسك ودع أمر القوم، فإن ورائكم أيام الصبر، فمن صبر فيهم قبض على الجمر، للعالم فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون عمله »، وقال ابن المبارك: وزاد في رواية: « قيل: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم ».
وإلى هذا أشار ولي الله الشاطبي في قصيدته:
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على الجمر فتنجوا من البلاء
وزمانه كان في قرن خمسمائة، وأما اليوم فقد تجاوز الألف بضعة عشر، فتدبر فيما زاد من الكدر.
ولقد أجمع السلف الصالح على التحذير من أهل زمانهم ومن قرب مكانهم، وآثروا العزلة والخلوة واجتنبوا الخلطة والحلوة، وأمروا بذلك وتواصوا به هنالك، ولا شك أنهم كانوا أنصح وبأمر الدين أبصر، وأن الزمان ليس بعدهم خيرا مما كان بل شرا منه وأمر، وفي معناه ما ورد في الخبر المعتبر: « لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه » رواه البخاري.
وفي ( الكبير ) للطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا: « ما من عام إلا ينقص الخير فيه ويزيد الشر » وذلك لأن كل من أبعد عن نور المشعل المحمدي، وقع في نوع من ظلمة الجهل الرديء.
ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس: « ما من عام إلا ويحدث الناس بدعة ويميتون سنة حتى تمات السنن وتحيى البدع ».
وأخرج الترمذي عن أنس: « ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ».
وروى أحمد والبخاري والنسائي عن أنس: « لا يأتي عليكم عام ولا يوم إلا والذي [ بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ».
وعن الثوري: والذي ] لا إله إلا هو، لقد حلت العزلة في هذا الزمان » قال الغزالي: « ولئن حلت في زمانه ففي زماننا هذا وجبت ».
وكتب رجل على داره - ليضع نظر اعتبار على آثاره -: « جزا الله من لا يعرفنا خيرا كافة، ولا جزى بذلك أصدقائنا خاصة، فما أوذينا قط إلا منهم، وما صدر في صدرنا من الهم إلا عنهم، فالبعد عنهم هو السعد ».
ولله در القائل [ حيث قال ]:
جزى الله عنا الخير من ليس بيننا وبينه ود ولا نتعارف
فما أصابنا هم ولا نالنا الأذى من الناس إلا من نود ونعرف
وقال الفضيل: « هذا زمان احفظ فيه لسانك، وأخف مكانك، وعالج جفانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر لتصلح شأنك ».
وقال الثوري: « هذا زمان السكوت، ولزوم البيوت، والرضا بالقوت إلى أن تموت ».
قلت: وكذا صح: « من صمت نجا ».
لكن ورد في صحيح الأخبار: « من علم بعلمه من كتم علما حكمة ألجمه الله بلجام من نار »، ولعله مقتبس من قوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم }.
فقد ظهر قوم غلب عليهم الجهل وطمهم وأعماهم حب الرئاسة وأصمهم، وتحرك عرق الحسد فيهم وعمهم، قد لكنوا عن علم الشريعة من الكتاب والسنة ونسوه، واكبوا على علم الفلاسفة ودرسوه، يريد الإنسان منهم أن يتقدم، ويأبى الله إلا أن يزيده تأخير، ويبتغي أحدهم العزة ولا علم عنده، فلا يجد له وليا ولا نصيرا، ومع ذلك فلا ترى هنالك إلا أنوفا مسمرة، وقلوبا عن الخلق مستكبرة، وأقوالا تصدر عنهم مفتراة مزورة، كلما هديتهم إلى الحق كان أصم وأعمى لهم، كأن الله لم يوكل بهم حافظين يطلبون أقوالهم وأعمالهم، فالعالم بينهم محزون يتلاعب به الجهال والصبيان، والعاقل عندهم مجنون داخل في ميدان النقصان، والله المستعان وإليه المشتكى وعليه التكلان.
[ لا تقبل شهادة مظهر سب السلف ]
[عدل]ثم أريد أن أزيد التوضيح والبيان، بإيراد ما بلغني من الروايات في هذا الشأن، ففي متون المذهب من الكتب المهذب: « أنه لا يقبل شهادة مظهر سب السلف الصالح، قال الحدادي ( شارح القدوري ): لظهور فسقه، والمراد بالسلف الصحابة والتابعون » انتهى.
وهذا تصريح بعدم تكفيره، كما لا يخفى أفادته في فصل من لا تقبل شهادته لفسقه، وتكلموا في الفسق الذي يمنع الشهادة، واتفقوا على أن الإعلان بكبيرة تمنع الشهادة، ثم قال: ومن كان يشتم أولاده وأهله وجيرانه، ذكر في بعض الروايات أنه لا يقبل شهادته، وقيل: من اعتاد بطلت عدالته، وإن فعل ذلك أحيانا لم تبطل، قال: أبو الليث: إن لم يكن قذفا لا تبطل عدالته.
ثم قال قاضي خان: لا تقبل شهادة من أظهر شتم أصحاب رسول الله ﷺ، وعن أبي يوسف: إن كان تبرأ منهم لا تبطل عدالته، وإن شتمهم بطلت عدالته، فهذه الرواية عن أبي يوسف صريحة في بطلان عدالته، دون كفره وضلالته.
ثم قال قاضي خان: وشهادة أهل الأهواء جائزة إلا الخطابية، ويروى ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف، فهذه الرواية عن الإمامين صريحة في قبول شهادة الرافضي، وهو لا يناقض ما سبق من أن من أظهر سب الصحابة لا تقبل شهادته؛ لأنه مقيد بالإظهار والإعلان، وهو قيد معتبر في هذا الشأن، فإنهم قالوا لا تقبل شهادة مدمن الخمر ولا بد من السكر.
قال قاضي خان: وإنما شرط الإدمان ليظهر ذلك عند الناس، فإن من اتهم بشرب الخمر تبطل العدالة، وقال محمد: « ما لم يظهر ذلك يكون مستور الحال ».
وفي ( خزانة المفتين ): ولا يقبل شهادة من يظهر سب السلف [ بخلاف من يكتمه.
وفي ( الإصلاح والإيضاح ): تقبل شهادة أهل الأهواء، وقال الشافعي: لا تقبل لأنه أغلظ وجوه الفسق – ولنا أنه فسق من حيث الاعتقاد – ثم قال: إلا الخطابية وهم قوم من غلاة الروافض، يعتقدون الشهادة لكل من حلف عندهم، ويقولون المسلم لا يحلف كاذبا سواء كان صادقا أو كاذبا، وقيل يجوزون الشهادة لشيعتهم واجبة، ثم قال: أو يتول أو يأكل فيه أو يظهر سب السلف ] - يعني الصالحين منهم – وهم: الصحابة والتابعون والعلماء المجتهدون كأبي حنيفة وأصحابه، انتهى.
ولا يخفى أنه جعل سب الصحابة والتابعين وأبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين في حكم واحد، من عدم قبول شهادتهم، ولو كان سب الصحابة كفرا لما أدخل غيرهم معهم.
وفي ( حاشية ) شيخ الإسلام الهروي على ( شرح الوقاية ): أن الرافضة: الجماعة الطاغية في الصحابة من الرفض بمعنى الترك، وسموا بذلك لتركهم زيد بن علي، حين نهاهم عن الطعن في الصحابة، والخوارج على اختلاف فرقها يجمعها القول بتكفير عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية، انتهى.
ولا يخفى أنهم مع هذا عدوا من الطوائف الإسلامية، كما هو في الكتب الكلامية، وإذا كان تكفير هؤلاء الأكابر من الصحابة لا يكون كفرا، كيف يكون سب الشيخين كفرا أيضا؟ ولو كان سب الصحابة كفرا لم يذكر في فصل من لا يقبل شهادته؛ لأنه موضوع في حق طوائف المسلمين.
وقال في ( الذخيرة ): وشهادة أهل الأهواء مقبولة عندنا إذا كان هوى لا يكفر به صاحبه، ولا يكون بإخبار يكون عدلا في تعاطيه، وهو الصحيح، قال: لأنهم إنما وقعوا في الهوى بالتأويل والتعمق في الدين، ألا ترى أن منهم من يعظم الذنب حتى يجعله كفرا، وفسقهم من حيث الاعتقاد لا يدل على كذبهم عمدا، انتهى.
ولعله أراد: « بهوى يكفر صاحبه » نحو المجسمة والمشبهة والحلولية والاتحادية والوجودية، وقول بعض غلاة الرفضة من أن عليا هو الإله الأكبر، وجعفر الصادق هو الإله الأصغر.
ثم قال: وما ذكر في الأصل - من أن شهادتهم جائزة عند أبي حنيفة - محمول على هذا.
ونقل في ( النهاية ) هذه الرواية بلا ذكر خلاف.
وفي ( شرح المجمع ) لابن فرشته: وترد شهادة من يظهر سب السلف؛ لأنه يكون ظاهر الفسق، وتقبل من أهل الأهواء: الجبر والقدر والرفض والخوارج والتشبيه والتعطيل، ثم يصير كل واحد منهم اثني عشر فرقة، فيبلغ إلى اثنين وسبعين فرقة.
وفي ( شرح المجمع ) للعيني: لا تقبل شهادة من يظهر سب السلف بالإجماع، لأنه إذا أظهر ذلك فقد ظهر فسقه، بخلاف من يكتمه لأنه فاسق مستور الحال.
وفي ( شرح الكنز ) للزيلعي قوله: أو يبول أو يأكل على الطريق، ويظهر سب السلف، يعني الصالحين منهم وهم الصحابة والتابعون؛ لأن هذه الأشياء تدل على قصور عقله وقلة مرؤته؛ ومن لم يمتنع عن مثلهما لا يمتنع عن الكذب عادة، بخلاف ما [ إذا ] كان يخفي السب، ثم قال: [ ولا يقبل من يكثر شتم أبله ولا في شتم الفاسق ثم قال: ] وأهل الأهواء إلا الخطابية.
وقال الشافعي: لا تقبل شهادة أهل الأهواء؛ لأنهم فسقة، إذ الفسق [ من حيث الاعتقاد أغلظ في الفسق ] من حيث التعاطي ولا شهادة للفاسق، ولنا أن الفاسق إنما ترد شهادته لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد، ولا يدل على ذلك بل ما أوقعه فيه إلا تدينه، ألا ترى أن فيهم من يكفر بالذنب، ومنهم من يجعل منزلته بين الإيمان والكفر، فيكون هو أقوى اجتنابا عن الكذب حذرا عن الخروج من الدين؛ ولأنه مسلم عدل لا يتعاطى الكذب فوجب قبول شهادته، قياسا على غير صاحب الهوى وهواه عن تأويل وتدين، فلا تبطل عدالته به، كمن يبيح المثلث أو متروك التسمية.
واستدل محمد ( رحمه الله ) على قبول شهادته، فقال: أرأيت أن أصحاب رسول الله ﷺ ساعدوا معاوية على مخالفة علي، ولو شهدوا بين يدي علي أكان يرد شهادتهم؟ ومخالفة علي بعد عثمان بدعة وهوى، فكيف الخروج عليه بالسيف؟ ولكن لما كان عن تأويل وتدين، لم يمنع قبول شهادته أن يكون هوى لا يكفر به صاحبه.
وأما ما ذكره القهستاني من أنه لا يقال: إن أهل الأهواء فاسقون بهذه الاعتقادات، فكيف تقبل شهادتهم مطلقا؟ لأنا نقول لا نسلم أنهم فاسقون، فإن الفسق لا يطلق على فعل القلب - كما في الكرماني - فخطأ فاحش من قائله وناقله، بلا تقدم من أن الفسق من حيث الاعتقاد اغلظ إلى الفسق من حيث التعاطي، ولأن بغض الصحابة فسق بالإجماع ومحله القلب؛ ولأن من في قلبه من الأخلاق الذميمة كالكبر والحسد وحب الدنيا من الفسقة، كما في ( الإحياء ) وغيره من كتب الأخلاق.
ويدل عليه قوله تعالى: { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وقوله: { ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } ولأن الفسق لغة وشرعا هو الخروج عن الطاعة، وعرفا مختص بالكبائر دون الكفر والصغائر، والله اعلم بالسرائر.
ومن هنا قال بعض الأكابر: من لم يتغلغل في علوم الصوفية مات مصرا على الكبائر ولا يعلم، والله الهادي إلى سواء السبيل.
في ( شرح البرجندي ): وتقبل الشهادة من أهل الأهواء، وهو من زاغ عن طريقة أهل السنة والجماعة، وكان من أهل القبلة، كذا في ( المغرب ).
قال: وكبار فرقهم سبع على ما في ( المواقف )، والمعتزلة وهم عشرون صنفا، والشيعة وهم اثنان وعشرون صنفا، والخوارج وهم عشرون صنفا، والمرجئة وهم خمسة أصناف، والنجارية ثلاثة أصناف، والجبرية والمشبهة وهم صنفان، ففرق أهل الأهواء اثنان وسبعون، وشهادة الكل تقبل؛ لأن وقوعه في الاعتقاد الباطل إنما هو الديانة والكذب حرام عند الجميع.
قال: ومن مشائخنا من فرق بين الهوى الذي هو كفر [ وبين الهوى الذي ليس بكفر، فمن الذي هو كفر ] اعتقاد بعض الروافض كان الأئمة آلهة، وأحكامهم أحكام المرتدين.
ثم قال وقد سألني من أهل الأهواء من يظهر سب السلف، وإنما لم يذكره هنا لأنه سيذكر فيما بعد، أو لأن رد شهادتهم احتمل أن يكون لأجل السب، ولو سب واحدا من الناس لا يجوز شهادته، فهنا أولى إليه، أشار في ( الذخيرة ).
ثم قال: ومن أنكر إمامة أبي بكر [ الصديق ]؟ فقال بعضهم: إنه مبتدع وليس بكافر، والصحيح أنه كافر، وكذا من أنكر خلافة عمر على أصح الأقوال، كذا في ( الظهيرية ).
ثم قال: ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف لظهور فسقه، بخلاف من يكتمه، قال: وذكر في ( الخلاصة ): إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر، انتهى.
وأنت ترى أن هذا مخالف لما سبق عن الجمهور، كما لا يخفى على ذوي النهى، وفيه تعليل منقول لتخصص الشيخين وجه معقول، ثم اعلم أنه لا بد للمفتي المقلد أن يعلم حال من يفتي بقوله، ومعرفة مرتبته في الرواية ودرجته في الدراية؛ ليكون على بصيرة وافية في التمييز بين القائلين المتخالفين، وقدرة كافية في الترجيح بين القولين المتعارضين.
بيان طبقات الفقهاء
[عدل]في قول كمال باشا زادة إن الفقهاء سبع طباق:
فقد قال كمال باشا زادة: إن الفقهاء سبع طباق:
طبقة المجتهدين في الشرع
[عدل]الأولى: طبقة المجتهدين في الشرع، كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول، واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس، على حسب تلك القواعد من غير تقليد لأحد لا في الفروع ولا في الأصول.
المجتهدين في المذاهب
[عدل]والثانية: طبقة المجتهدين في المذهب، كأبي يوسف ومحمد وسائر أصحاب أبي حنيفة، القادرين على استخراج الأحكام من الأدلة المذكورة على القواعد التي قررها أستاذهم أبو حنيفة، وإن خالفوه في بعض الفروع، لكن يقلدونه في قواعد الأصول، وبه يمتازون عن المعارضين في المذهب كالشافعي ونظرائه المخالفين، كأبي حنيفة في الأحكام غير مقلدين له في الأصول.
المجتهدين في المسائل
[عدل]والثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، كالخصاف وأبي جعفر الطحاوي وأبي الحسن الكرخي وشمس الأئمة الحلواني وشمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي وفخر الدين قاضي خان وأمثالهم، فإنهم لا يقدرون على المخالفة لشيخ في الأصول ولا في الفروع، لكنهم يستنبطون الأحكام في المسائل التي لا نص عنه فيها على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها وحررها.
أصحاب التخريج من المقلدين
[عدل]الرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، كالفخر الرازي وأضرابه، فإنهم على تفضيل قول مجمل ذي وجهين، وحكم مبهم محتمل لأمرين، منقول عن صاحب المذهب أو عن أحد من أصحاب المجتهدين، برأيهم ونظرهم في الأصول والمقايسة على أمثاله ونظرائه من الفروع، وما وقع في بعض المواضع من ( الهداية ) في قوله كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل.
أصحاب الترجيح من المقلدين
[عدل]الخامسة: طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين، كأبي الحسن القدوري وصاحب ( الهداية ) وأمثالها، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض أخر بقولهم: هذا أولى وهذا أصح رواية، وهذا أرفق للناس.
طبقة أصحاب التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف
[عدل]السادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف وظاهر المذهب وظاهر الرواية، [ والرواية ] النادرة كأصحاب المتون المعبرة عن المتأخرين، مثل صاحب ( الكنز ) وصاحب ( المختار ) وصاحب ( الوقاية ) وصاحب ( المجمع )، وشأنهم أن لا ينقلوا في كتبهم إلا الأقوال المردودة والروايات الضعيفة.
المقلدون الذين لا يقدرون على ما ذكر
[عدل]السابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر، ولا يفرقون بين الغث والسمين ولا يميزون الشمال عن اليمين، بل يخفون ما يجدون كحاطب الليل لهم، فالويل لهم ولمن قلدهم [ كل الويل ]، انتهى.
وفي أصول البزدوي: أجمع العلماء والفقهاء أن المفتي يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، [ فإن لم يكن من أهل الاجتهاد ] لا يحل له أن يفتي إلا بطريق الحكاية، فيحكي ما يحفظ من أقوال الفقهاء، ولا يحل له أن يفتي فيما لا يحفظ فيه قولا من أقوال المتقدمين.
وفي ( الظهيرية ): روي عن أبي حنيفة أنه قال: « لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا »، انتهى.
فإذا كان لا يجوز [ تقليد الإمام من غير دليل في الأحكام، فكيف يجوز ] تقليد المقلدين الذين ما وصلوا إلى مقام المجتهدين؟ نعم يجوز للعامي أن يقلد العالم - ولو مقلد الضرورة - أمر الدين، والمراد بالعالم هو العالم بأقوال الفقهاء، لا النحوي والصرفي والمنطقي وغيرهم ممن يزعم أنه من الفضلاء، ثم العامي إذا استثنى في الحادثة، ووقع في الاختلاف فيما بين الفقهاء، يأخذ بقول من هو أفقه وأورع من العلماء على ما في ( المحيط ).
وفي ( شرح المجمع المختار ): أن الفاسق لا يصلح أن يكون مفتيا - يعني ولو كان عالما - لأنه ربما يكذب في مقاله، وربما يراعي صاحبه في حاله، وربما ينقل رواية في مقام انتقاله، ومن المعلوم أن الفاسق لا تصح له الرواية، فكذا مقامه في باب الدراية، والله ولي الهداية في البداية والنهاية؛ ولأن مبنى الفتوى على الأمانة والاحتراز عن الخيانة، فإن بهما يتم أمر الديانة، وقيل يصلح للناس أن يكون مفتيا لا يحتاط فيه للسمعة والرياء كيلا ينسب إلى الخطأ.
[ ثم الاجتهاد لغة هو بذل المجهود لنيل المقصود ]، وأما أهليته: فأهل الاجتهاد من يكون عالما بالكتاب والسنة والآثار ووجوه الفقه، كذا في ( المحيط ).
وفي ( الظهيرية ): أن شرط صيرورة المرء مجتهدا، إن لم يعلم من الكتاب والسنة مقدار ما يتعلق به الأحكام دون ما يتعلق به المواعظ والقصص.
وفي ( الهداية ): وحاصله أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار، أو صاحب فقه له معرفة بالحديث كيلا يشتغل بالقياس في النصوص عليه، انتهى.
ومعنى قوله: « صاحب حديث له معرفة بالفقه » أي منسوب إلى الحديث لزيادة علمه ودرسه فيه، ولكن له فقه أيضا وليس هو بقدر علمه في الحديث، أو « صاحب فقه له معرفة به » أي منسوب إلى الفقه، ولكن له علم بالحديث أيضا وليس هو بقدر علمه بالفقه، كذا ذكره ابن الضياء.
ومجمله أنه لا يكون فقيها مجردا يحفظ الرواية، ولا محدثا خاليا عن الفقه والدراية، بل يكون جامعا بينهما في باب الهداية، قيل: وأن يكون صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس؛ لأن من الأحكام ما يبتني عليها في مقام القياس.
وفي ( شرح الأتقاني ): وإذا بلغ الرجل أن يكون عالما بالمنصوص من الكتاب والسنة، مما يتعلق به الأحكام الشرعية يصير مجتهدا، ويجب عليه العمل باجتهاده، ويحرم عليه تقليد غيره، كذا في ( الميزان ).
وفي ( أصول البزدوي ): الصحيح أن أهل الاجتهاد في مسائل الفقه، [ من يكون عالما بدلائل الفقه ] وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وفي ( فصول ) الاسروشني قال بعضهم: إذا كان صوابه أكثر من خطئه [ حل ] له الاجتهاد.
وفي ( النهاية ): وأما حكم الاجتهاد فالإصابة بغالب الرأي، حتى قلنا إن المجتهد يخطئ ويصيب { الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب }.
وقد ورد: « أن المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد ».
ينبغي للقاضي أن يعرف الناسخ والمنسوخ
[عدل]وفي ( المحيط ): ينبغي للقاضي أن يقضي بما في كتاب الله تعالى، وينبغي أن يعرف ما في كتاب الله من الناسخ والمنسوخ، وأن يعرف المتشابه، وما فيه اختلاف العلماء ليرجح قول البعض على البعض باجتهاده، فإن لم يجد في كتاب الله، يقضي بما جاء عن رسول الله ﷺ، وينبغي أن يعرف الناسخ والمنسوخ من الأخبار، فإن اختلف الأخبار يأخذ بما هو الاشبه، ويميل اجتهاده إليه، ويجب أن يعلم [ المتواتر والمشهور، وما كان من أخبار الآحاد، ويجب أن يعلم ] مراتب الرواة، فإن منهم من عرف بالفقه والعدالة كالخلفاء الراشدين والعبادلة وغيرهم، ومنهم من يعرف بذلك، ومنهم من لم يعرف بطول الصحبة.
وإن كانت حادثة لم يرد فيها شيء عن رسول الله ﷺ يقضي فيها بما اجتمع عليه الصحابة، فإن كانت الصحابة فيها مختلفين، يجتهد في ذلك ويرجح قول بعض على البعض إذا كان من أهل الاجتهاد، وليس له أن يخالفهم جميعا باختراع قول ثالث؛ لأنهم مع اختلافهم اتفقوا على أن ما عدا القولين باطل، وكان الخصاف يقول ذلك، والصحيح ما ذكرنا، ولا يفضل قول الجماعة على قول الواحد.
قال الفقيه أبو جعفر: وهذا على أصل أبي حنيفة، أما على أصل محمد فيفضل قول الجماعة على قول الواحد، ثم إجماع الصحابة [ ينعقد بطريقين: أحدهما اتفاق كل الصحابة ] على حكم بأقوالهم، وهذا متفق عليه، والثاني تنصيص البعض وسكوت الباقين بأن اشتهر قول بعض فقهائهم، وبلغ الباقين ذلك فسكتوا ولم ينكروا ذلك وهذا مذهبنا، ولكن هذا الإجماع في مرتبة دون الأول؛ لأن الأول مجمع عليه والثاني مختلف فيه، يعني فالأول إجماع قطعي والثاني ظني، وإن وجد من كل الصحابة اتفاق على حكم الأوحد، فإن خالفهم فعلى قول الكرخي لا يثبت حكم الإجماع، وهو قول الشافعي.
والصحيح عندنا أنهم إن سوغوا له الاجتهاد، لا ينعقد الإجماع مع مخالفته، نحو خلاف ابن عباس في زوجين وأبوين، قال: « للأم ثلث جميع المال »، وإن لم يسوغوا له الاجتهاد، بل أنكروا عليه الإجماع بدون قوله، نحو خلاف ابن عباس في ربا النقد، فإن الصحابة لما أنكروا عليه ثبت الإجماع بدون قوله، حتى لو قضى قاض بجواز بيع الدراهم بالدرهمين ينفذ قضاؤه، فإن جاء حديث واحد من الصحابة، ولم ينقل عن غيره خلاف ذلك.
فعن أبي حنيفة روايات، ففي رواية قال: [ أقلد منهم من كانوا من القضاة والمفتين.
وفي رواية قال ]: « أقلد جميع الصحابة إلا ثلاثة منهم: أنس بن مالك وأبا هريرة وسمرة بن جندب، أما أنس فإنه بلغني أنه اختلط عقله في آخر عمره، وكان يستفتي علقمة، وأنا لا أقلد علقمة، فكيف أقلد من يستفتي علقمة؟ وأما أبا هريرة فإنه لم يكن من أهل الفتوى، بل كان من الرواة فيما يروى، لا يتأمل في المعنى، وكان لا يعرف الناسخ والمنسوخ، ولأجل ذلك حجر عليه عمر على الفتوى في آخر عمره، وأما سمرة بن جندب فقد بلغني عنه أنه أمر شان، والذي بلغه عنه أنه كان يتوسع في الأشربة المسكرة سوى الخمر، وكان يتدلك في الحمام بالغمر » فلم يقلدهم في فتواهم لهذا، وأما فيما روي عن رسول الله ﷺ فإنه كان يأخذ بروايتهم.
وفي رواية قال: أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم، وهو الظاهر في المذهب.
وإذا اجتمعت الصحابة على حكم وخالفهم واحد من التابعين - إن كان المخالف ممن لم يدرك عهد الصحابة - لا يعتبر خلافه حتى لو قضى القاضي بقوله - بخلاف إجماع الصحابة - كان باطلا، وإن كان ممن أدرك عهد الصحابة، وزاحمهم في الفتوى وسوغوا له الاجتهاد: كشريح والنخعي والشعبي لا ينعقد الإجماع مع مخالفته.
[ ولهذا قال أبو حنيفة: لا ينعقد الإجماع مع مخالفته، ولهذا ] قال أبو حنيفة: لا يثبت إجماع الصحابة في الأشعار؛ لأن إبراهيم النخعي كان يكرهه وهو ممن أدرك عصر الصحابة، فلا يثبت الإجماع بدون قوله.
وإن كان حادثة ليس فيها إجماع الصحابة ولا قول أحد من الصحابة، لكن فيها إجماع [ التابعين، فإنه يقضي بإجماعهم، إلا أن إجماع التابعين في كونه حجة دون إجماع الصحابة، وكذلك إجماع كل قرن بعد ذلك ] حجة، ولكنه دون الأول في كونه حجة.
وإن كانت حادثة فيها اختلاف بين التابعين، يجتهد القاضي في ذلك - إذا كان من أهل الاجتهاد - ويقضي بما هو أقرب من الصواب وأشبه بالحق، وليس له أن يخالفهم جميعا باختراع قول ثالث عندنا، على نحو ما ذكرنا في الصحابة، وإن جاء عن بعض التابعين ولم ينقل عن غيرهم، فيه شيء فعن أبي حنيفة روايتان، في رواية قال: لا أقلدهم هم رجال اجتهدوا ونحن رجال نجتهد، وهو ظاهر المذهب.
وفي رواية ( النوادر ) قال: من كان منهم أفتى في زمن الصحابة، وسوغوا له الاجتهاد: كشريح ومسروق بن الأجدع والحسن فأنا أقلدهم، فإن لم يجد إجماع من بعدهم، وكان فيه اتفاق بين أصحابنا: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، يأخذ بقولهم ولا يسعه أن يخالفهم بداية؛ لأن الحق لا يعدوهم، فإن أبا يوسف كان صاحب حديث، حتى يروى أنه قال: « أحفظ عشرين ألف حديث من المنسوخ » فما ظنك من الناسخ؟ وكان صاحب فقه ومعنى، ومحمد كان صاحب فقه [ ومقرء ]، وكان صاحب قريحة أيضا؛ ولهذا قل رجوعه في المسائل، وكان مقدما في اللغة والإعراب، وله معرفة بالحديث أيضا.
و أبو حنيفة كان مقدما في هذا كله، إلا أنه قلت روايته لمذهب تفرد به في باب الحديث، [ وهو أنه إنما يجد رواية الحديث ] لمن يحفظ من حين يسمع إلى أن يروي، وإن اختلفوا فيما بينهم، قال عبد الله بن المبارك: يأخذ بقول أبي حنيفة لا محالة.
والمتأخرون من مشايخنا اختلفوا، بعضهم قالوا: إذا اجتمع اثنان منهم على شيء، وفيهما أبو حنيفة يأخذ بقول أبي حنيفة، وإن كان أبو حنيفة في جانب وأبو يوسف ومحمد في جانب، فإن كان القاضي من [ أهل الاجتهاد يجتهد، وإن لم يكن من ] أهل الاجتهاد ويستفتي غيره، ويأخذ بقول المفتي بمنزلة العامي، وبعضهم قالوا: [ أي ] إذا كان القاضي من أهل الاجتهاد يعمل برأيه ويأخذ بقول الواحد ويترك قول المثنى، سواء كان في المثنى أبو حنيفة أو لم يكن، وإن كان أبو حنيفة على رتبة، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، يأخذ بقول أبي حنيفة ولا ترك مذهبه.
المفتي بالخيار
[عدل]وفي ( فتاوى الخلاصة ) قال: المفتي بالخيار إن شاء أخذ بقول أبي حنيفة، وإن شاء أخذ بقولهما، وفي ( القنية ) - وعزاه شمس الأئمة الحلواني -: أن المسائل التي تتعلق بانقضاء الفتوى فيهما على قول أبي يوسف؛ لأنه حصل له زيادة علم بالتجربة انتهى.
وفي ( المحيط ): ولو لم يجد الرواية عن أبي حنفية وأصحابه، ووجد عن المتأخرين يقضي به ولو اختلف المتأخرون فيه، يختار واحدا من ذلك، ولو لم يجد عن المتأخرين يجتهد فيه، [ برواية إذا كان يعرف وجوه الفقه، ويشاور أهل الفقه فيه ] وذكر شمس الأئمة السرخسي: أن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق.
وفي ( الفتاوى العتابية ): قاض استفتى في حادثة، فأفتى ورأيه بخلاف رأي المفتي، فإنه يعمل برأي نفسه - إن كان من أهل الرأي - فإن ترك رأيه وقضى برأي المفتي لم يجز عندهما، كما في التحري، وعند أبي حنيفة ينفذ لمصادفته فصلا مجتهدا فيه.
وأما اجتهاد الصحابي في زمن رسول الله ﷺ، ففيه خلاف بين العلماء، قال في ( المحيط ): يجب أن يعلم أن العلماء اختلفوا في هذا على ثلاثة أقوال: منهم من قال كان له أن يجتهد، ومنهم من كان يبعد عن رسول الله ﷺ كان له الاجتهاد مطلقا.
واختلفوا أيضا أنه عليه الصلاة والسلام: هل كان يجتهد فيما لم يوح إليه؟ فيفصل الحكم باجتهاده بعضهم، قالوا: ما كان يجتهد بل كان ينتظر الوحي، ومنهم من قال: يرجع فيه إلى شريعة ما قبله، ومنهم من قال: كان لا يعمل بالاجتهاد إلى أن ينقطع طمعه عن الوحي، فإذا انقطع حينئذ كان يجتهد، فإذا اجتهد صار ذلك شريعة له، وإذا نزل الوحي بخلافه يصير ناسخا، ونسخ السنة بالكتاب جائز عندنا، وكان لا ينقض ما قضى بالاجتهاد، وكان يستأنف القضاء في المستقبل، انتهى كلام ( المحيط ).
وفي ( تهذيب الأسماء والكتاب ) في ترجمة معاذ: الذين يفتون في زمن النبي ﷺ ثلاثة من المهاجرين عمر وعثمان وعلي، ومن الأنصار ثلاثة أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت رضوان الله [ تعالى ] عليهم أجمعين.
وفي ( التحقيق ) شرح الأخسيكثي: واختلف في كونه عليه الصلاة والسلام متعبدا بالاجتهاد فيما لم يوح إليه من الأحكام، فأنكرت الأشعرية وأكثر المعتزلة كون الاجتهاد حظ النبي ﷺ في الأحكام الشرعية، وقال عامة أهل الأصول: كان [ له ] العمل في أحكام الشرع بالوحي والرأي جميعا، وهو منقول عن أبي يوسف من أصحابنا، وهو مذهب مالك والشافعي وعامة أهل الحديث.
وقال أكثر أصحابنا: إن كان عليه الصلاة والسلام متعبدا بانتظار الوحي في حادثة ليس فيها وحي، فإن لم ينزل الوحي بعد الانتظار كان ذلك دلالة على الأذن في الاجتهاد، ثم قيل مدة انتظار الوحي مقدرة بثلاثة أيام، وقيل مقدرة بخوف فوت الفرض، وذلك يختلف باختلاف الحوادث.
ثم اجتهاده عليه أفضل الصلاة والسلام لا يحتمل الخطأ عند أكثر العلماء، وعند أكثر أصحابنا يحتمل الخطأ، لكنه لا يحتمل القرار على الخطأ، فإذا أقره الله تعالى دل أنه كان هو الصواب، فيوجب علم اليقين كالنص، فيكون مخالفته حراما وكفرا بخلاف اجتهاد غيره من الأمة، حيث يجوز مخالفته لمجتهد آخر؛ لأن احتمال الاجتهاد والخطأ والقرار عليه جائزان في حق الأمة، فلا يتعين الصواب في حق أحد، وإن كان الحق لا يعدوهم، فيجوز لكل واحد مخالفة الآخر بالاجتهاد، ولاحتمال الصواب في اجتهاده واحتمال الخطأ في اجتهاد غيره.
ثم الاجتهاد في أنه قطعي من النبي ﷺ دون غيره - نظير الإلهام - وهو القذف في القلب من غير نظر في نص واستدلال بحجة، فإنه حجة قاطعة في حق النبي ﷺ حتى لم يجز لأحد مخالفته بوجه للتيقن أنه من عند الله، وعصمته عن الإقرار على الخطأ، وإلهام غيره ليس بحجة أصلا، انتهى كلام ( التحقيق ) والله ولي التوفيق.
وقد كره بعضهم الإفتاء بقوله عليه الصلاة والسلام: « أجرؤكم على النار أجرؤكم على الفتوى » رواه الدارمي مرسلا.
وعن سلمان الفارسي: أن ناسا كانوا يستفتونه فقال: « هذا خير لكم وشر لي ».
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: « أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالىعليه وسلم، فما منهم من أحد يسأل عن حديث أو فتوى إلا ود أن أخاه كفاه ذلك ».
والصحيح أنه لا يكره لمن كان أهلا له لقوله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وكان هذا أمرا بالإجابة عن السؤال.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: « من أفتى مفتيا غير ثبت فإنما أثمه على الذي أفتاه » رواه أحمد وأبو داود.
وقال في ( الملتقط ): ولا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء، ويعلم من أين قالوا، ويعرف معاملات الناس، فإن سئل عن مسألة يعلم أن العلماء الذين ينتحل مذهبهم قد اتفقوا عليه، فلا بأس بأن يقول هذا جائز وهذا لا يجوز، ويكون قوله على سبيل الحكاية، وإن كانت مسألة قد اختلفوا فيها فلا بأس بأن يقول: هذا جائز في قول فلان، وفي قول فلان لا يجوز وليس له الخيار، فيجب بقول بعضهم ما لم يعرف حجته.
وعن أبي يوسف وزفر وعافية بن يزيد أنهم قالوا: « لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا، ما لم يعلم من أين قلنا ».
قيل لعصام بن يوسف: « إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة، فقال: لأن أبي حنيفة أوتي من الفهم ما لم نؤت، فأدرك بفهمه ما لم ندركه، ولا يسعنا أن [ نفتي بقوله ما لم نفهم ».
وعن محمد بن الحسن أنه سئل ]: « متى يحل للرجل أن يفتي؟ قال: إذا كان صوابه أكثر من خطأه ».
وعن أبي بكر الإسكافي البلخي عن عالم في بلده ليس هناك اعلم منه، هل يسعه أن لا يفتي؟ قال: « إن كان من أهل الاجتهاد [ لا يسعه، قيل: كيف يكون من أهل الاجتهاد؟ ] وقال: أن يعرف وجوه المسائل ويناظر أقرانه إذا خافوه ».
وعن ابن مسعود قال: « من سئل منكم عن علم وهو عنده فليقل به، وإن لم يكن عنده، فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم لا أعلم ».
وسئل شداد بن حكيم عن قوله ﷺ: « إن الله خلق آدم على صورته »، فقال: نؤمن ولا نقس، قال أبو الليث: بهذا أمر الله تعالى بقوله: { والراسخون في العلم يقولون آمنا به }.
وعن ابن مسعود: « إن الذي يفتي به الناس [ في كل ] ما يسألونه مجنون ».
وعن الثوري: « العالم الفاجر فتنة لكل مفتون ».
وعن ابن شبرمة: « أن [ من ] المسائل ما لا يحل للسائل أن يسأل عنها، ولا للمجيب أن يجيب عنها »، وكأنه اقتبس من قوله تعالى: { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم }.
وعن الشعبي قال: « سلوا عما كان ولا تسألوا عما يكون ».
وحكي: « أن أبا يوسف دخل على هارون الرشيد، وعنده اثنان يتناظران في الكلام، فقال هارون أحكم بينهما، فقال له أبو يوسف: أنا لا أخوض فيما لا يعني، فقال له الخليفة: أحسنت، وأمر له بمائة ألف درهم، [ وأمر أن يكتب في الدواوين أن أبا يوسف: أخذ مائة ألف درهم ] بترك ما لا يعنيه »
سئل مالك عن أربعين مسألة
[عدل]وذكر ابن الحاجب: أن مالكا سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: « لا أدري ».
وسئل الشعبي عن مسألة فقال لا علم لنا بها، فقيل له: « ألا تستحي؟ قال: ولم أستحي مما لم يستحي منه الملائكة حتى قالت: { لا علم لنا } ».
وعن ابن مسعود: « جنة العالم لا أدري ».
وسئل ابن عمر رضي الله عنه عن فريضة، فقال: « ائت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالفرائض مني ».
وعن الشعبي ما حدثوك عن أصحاب محمد ﷺ فخذه، وما قالوه برأيهم فبل عليه.
وفي ( الملتقط ): وينبغي للمفتي إذا ظهر عنده أنه أخطأ، أن يرجع عنه ولا يستحيي ولا يأنف.
وعن أبي حنيفة: « لأن يخطئ الرجل عن فهم خير من أن يصيب من غير فهم ».
وقيل: « من قلت فكرته كثرت عثرته ».
ثم ما ذكر في شرائط المفتي: أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بمسألة حتى يعلم من أين قلنا، هل يحتاج في زماننا إلى هذا أم يكفي الحفظ؟ فقال بعضهم: يكتفي بالحفظ نقلا عن الكتب المصححة، وقال بعضهم: الحفظ لا يكفي، وقيل: هذا يختلف باختلاف الحفاظ، وقيل لا بد من ذلك الشرط كل زمان.
مسألة: إذا أجاب المفتي ينبغي أن يكتب عقب جوابه
[عدل]وفي ( أصول الفقه ) لأبي بكر الرازي: فأما ما يؤخذ من كلام رجل ومذهبه في كتاب معروف قد تداولته النسخ، يجوز لمن نظر فيه أن يقول: قال فلان كذا، وإن لم يسمعه من أحد، نحو كتب محمد بن الحسن وموطأ مالك ونحوها من الكتب المصنفة في أصناف العلوم؛ لأن وجودها على هذا الوصف بمنزلة خبر المتواتر والاستفاضة لا يحتاج مثله إلى إسناد، وينبغي أن يقدم المفتي من جاء أولا ولا يقدم الشريف على الضعيف، وإذا أجاب المفتي ينبغي أن يكتب عقب جوابه: والله اعلم، ونحو ذلك، وقيل في المسائل الدينية التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة ينبغي أن يكتب: والله الموفق، وبالله العصمة، وأمثاله.
وإذا سئل عن مسألة ينبغي أن يمعن النظر فيها، وإن كانت من جنس ما يفصل في جوابها يفصل، ولا يجب على الإطلاق فإنه يكون مخطئا، وعن أبي يوسف سمعت أبا حنيفة يقول: « لولا الخوف من الله [ تعالى ] ما أفتيت أحدا لكون الهناء لهم والوزر علينا ».
وقد نظم الإمام سراج الدين الغزي أخو صاحب ( المحيط ) هذا المبنى وزاد في المعنى حيث قال شعرا:
تركت الكتب في الفتوى وإني ** لمحتسب بهذا الترك أجرا
وما تركي لعجزي منه لكن ** أكرر من أصول الشرع وقرا
وأما ما درست بغير حفظ ** فيعظم ذكرها عدا وحصرا
ولي من سائر الأنواع حظ ** وما قولي معا والله كبرا
ولكن أذكر النعماء عندي ** من الرحمن إيمانا وشكرا
ولكن قد يكون الحكم طورا ** خلافيا وبالإجماع طورا
فترتعد الفرائص عند كتبي ** نعم أو لا بظني ذاك خيرا
وتركي قول مجتهد سواه ** لظن قد يكون الظن وزرا
تدبرت الأمور وكأن كتبي ** لدى الأمر حيثا وذكرا
فقلت هداك إن الناس طرا ** قد اتخذوك للنيران جسرا
فلا يغررك ذكر الناس واجهد ** لتكسب عند رب العرش ذكرا
وبادر في قبول الحق وأحذر ** قضاء لازما موتا وحشرا
ودع عنك العلو تكون عبدا ** قنوعا صالحا سرا وجهرا
ولا تركن إلى الدنيا وشمر ** لما يدعي لدى الرحمن ذخرا
فلا يغني مقال الحق عني ** هو المغني لما أرهقت عسرا
فحسبي عفو ربي عند تركي ** وحسبي كتبه الباقين عذرا
[ والله سبحانه وتعالى اعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب ]، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم [ تسليما كثيرا إلى يوم الدين ].
هامش
- ↑ [عده ابن حجر موضوعا في ترجمة مطرف بن معقل (لسان الميزان) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع]
- ↑ [قال الألباني في تعليقه: إسناده ضعيف]
- ↑ [ضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية]
- ↑ [قال الألباني في ضعيف الجامع: موضوع]
- ↑ [قال ابن الجوزي في الموضوعات: هذا الحديث موضوع وكذب على الأعمش ، والواضع له إسحاق النخعي، وقد ذكرنا أنه من الغلاة في الرفض الكذابين، ثم قد وضعه على يحيى بن عبد الحميد الحماني وهو كذاب أيضا]