انتقل إلى المحتوى

شفاه غليظة/على الحياد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

كنا في فصل الصيف ، فاشتدت رغبتي في الخروج عصرا إلى بين منطقة الجيزة ، لأقضي ساعة في حدائق الأورمان ، أنعم بين جداولها الجارية ، وتحت خماتلها الوارفة ، بذلك النسيم الرطب الفواح الذي حرمت أن يزورني في مسكني العتيق بشارع محمد على

ركبت الحافلة رقم ،٦ من ميدان إبراهيم باشا ، وكانت المركبة خالية ، وعامل التذاكر في الدرجة الثانية يراجع نقوده في خمول . وما إن وقفت الحافلة ، عند المحطة التالية ، حتى شاهدت رجلا بدينا يدخل مشيد الخطا ... عرفته في الحال ، وهل يجهله أحد ؟ ... كلنا يعرفته بشكله وحده ، وقد غاب عنا أن نسأل عن اسمه ... من ينسى هذا الوجه المطهم المشرب بالحمرة الدائمة ، وذلك اللغد الأرستقراطى المدلى على رقبته ، وهذا الكرش الفخم الذي يسبقه في السير يفسح له الطريق ؟.... لا أذكر مرة أنني ذهبت إلى جروبي، إلا وجدته يملأ ركنا بأكمله ، وأمامه أطباق الفطائر الشهية يأكلها في تلذذ ورضا . ولم أقصد إلى مطعم من المطاعم الشهيرة إلا رأيته منفردا بنفسه ، و مائدته تحفل بالفاخر المتعدد من ألوان الطعام ، وهو يكرع بين الفينة والفينة من نبيذه الطيب ، فكنت أتأمله طويلا ، ثم أرمق على مضض ماندنى عليها الدجاجة المسلوقة ، وزجاجة الدواء الكريه المذاق ! ... وقد اتصلت بيني وبينه لكثرة رؤيتي له معرفة صامتة لا تتعدى التحية ، مشفوعة بالابتسامة السائحة

ما إن دخل المركية ولمحنى ، حتى بادرنى بتحيته العابرة ، ثم جلس على مقعد قريب من الباب ، وقد اجتمع کرشه أمامه اجتماع الوليد في حجر أمه ... وكان يرتدى حلة فاخرة من النيلي الأبيض، ولاحظت أنه يداعب بين فترة وأخرى ي من جيب سترته الأعلى سلسلة ذهبية ، تنتهي بساعة ثمينة من الذهب أيضا ، كان يتأملهما في عناية وشغف ، فتأكد لى أنهما . جدیدتان

وفي المحطة القائمة في حي بولاق ، صعد إلى المركية رجل ضيل الجسم ، أخذ يدور في المكان بعينيه ، فما إن وقع بصره علينا حتى دخل الدرجة الأولى ، وجلس معنا . واتضح لي من أول نظرة القيتها عليه إلى أي الطبقات ينتمى .

كان في أناقة مبتذلة ، وله عينان كميني الهر الجمع، وعلى فيه ابتسامة رخيصة لا تفارق شفتيه . جلس، ووضع ساقا على ساق، وأخذ يسارقنا النظر ، وإذ أخرج صديق البدين الثرى ساعته ينظر فيها وفي علاقتها معجبا فخورا : - رأيت عيني الهر قد التممتا يوميض ثائر .. !

منذ ذلك الوقت لم يحول الغريب نظره عن صدر صديقي ، وكنا قد دخلنا منطقة الزمالك ، واستقبلنا نسيم عطرى لطيف أخذ يداعب وجوهنا ، وألفيت الصديق البدين يسند رأسه إلى النافذة و يطبق جفنيه . ولم تطل به الحال حتى سمعت غطيطاً هادنا يصدر من ناحيته ! ...


وبسطنت أمامي صحيفة الأهرام ، ، وتظاهرت بقراءتها ، وأنا أرقب الهر مراقبة دقيقة ... كانت حدقتا عينيه تدوران في حركة عصبية ، فأدنيت الصحيفة من وجهي وأنا أبتسم ، وقد طغى على شعور طارىء ، وهو مزاج من غبطة وشر ! ... وأحسست الغريب يتعامل في جلسته ، فأرحت رأسى على النافذة ، وأطبقت جفنى متناوما، وشاعت على وجهى ابتسامة ضافية ... وبعد فترة شعرت بالهر" يدنو في حذر إلى موضع قریب من صديق الثرى !

وكان النسيم يهب مشبعا بعطر الزهر العمق ، فوجدتني استرسل في أحلام هانئة ، أعرض فيها مناظر مختلفة من حياتى ، كان يعترضها بين حين وحين جرم صديقي البدين وهو منهمك يأكل طعاما ... أو شبح الهر وهو يداعب بين أصابعه السلسلة الذهبية بساعتها الثمينة .... ولم تمض فترة حتى ذهب عنى التفكير في البدين وفي الغريب ... و استغرقتنى تأملات الخاصة ، وأنا منتعش بصافي النسيم !

وأخيراً أحسسست بدا تهزني ... فإذا عامل التذاكر يوقظني وينتهنى إلى أننا وصلنا إلى الجيزة « ؛ فتعجبت من سرعة انقضاء الوقت، وتأهبت للنزول ... ووجدت أمامى صديق الترى ينهادي في مشيته ووجهته السلم . أما الغريب فلم أعثر له في العربة على أثر وشعرت يدافع يحفر في إلى أن أسبق الثرى في النزول ، ومررت به وأنا أرمق جيب سترته الأعلى .

لقد اختفت السلسلة ومعها الساعة ! ... وعلت فمي ابتسامة عريضة أخذت تتحول سريعا إلى ضحكة عابئة ، وتركت المركبة وقد أخذت من جيب سترتى منديلاً أحبس به تلك الضحكة، أو أخفف من حيد حدتها ، ولكن سرعان ما وجدتني أتحسس جيبي ثم اندفعت أفتش فيه باهتمام وذعر : أين قلمى الباركر، الجديد الذي اشتريته نسيئة ، ولم أؤد من ثمنه إلا الدفعة الأولى ؟ ... ووقفت أمسح وجهى المحتقن ، وأنا أراقب في عطف صديق البدين ، وهو يتمايل في مسيره ، وقد بدأ الزحام يحتويه . . .

وتواصلت الأيام .... و توثقت بینی و بین صدیقي الثرى روابط صداقة متينة ، فكنت أشاركه بسرور ماندته في المطعم. وصرت لا أتافف من دجاجتي المسلوقة ، ولا من زجاجة الدواء الكريه المذاق ... .