شفاه غليظة/الجنتلمان
كنت و صديقي عزوز ، إذا طالت جلستنا في القهوة ، ورغبنا في تناول العشاء ، قصدنا مطعم فورفاتلى ، بشارع عدلي وكنا تفضله على سائر المطاعم - بالرغم من صغره وتواضعه لعنايته بإعداد بعض الألوان الإيطالية الأصيلة
وأعلن السنيور فورفاتلي ، أنه سيحدث انقلابا في مطعمه ، يتناول كل شيء فيه بالتجديد . وذهبنا يوم الاحتفال بافتتاح المطعم في مظهره الحديث ، فلم تر إلا تغيرا يسيرا سطحيا إذا استثنيت أمراً واحداً جديرا بالملاحظة ؛ ذلك أن السنيور فورفاتلى ، رأى أن ينصب على مقربة من باب والمطعم دمية من ورق مقویى ، تمثل سيداً أنيقا يحمل في يده قائمة الطعام ، وكانوا يسلطون على هذه الدمية نورا كهربياً تبدو به بهيجة تستوقف الأنظار . ووقفت أتأمل هذه الدمية ، فلم ترقنى هيئنها ، على ما امتازت . به من إتقان في الصنعة
كانت هذه الدمية تمثل شخصية السيد المتظرف الأنيق رجل الصالون العصرى ، ، وأنيس كل حفلة شائقة ، ومن منا يجهل هذا المزهو المتحذلق وهو يخطر في لبوس المحافل الرسمي ، ووجهه الأمرد مرد مستنير بشبه ابتسامة يختلط فيها الترحيب بالكبرياء ، وهذا المونوكل ، المثبت على حق عينه بمهارة خليفة بالإنجاب ، وهذه الشملة السوداء ذات البطانة الحريرية البيضاء سطها على كتفيه في تأنق مصحوب بإهمال مقصود ، وأخيرا هذه اليد المكسوة بالقفاز الأبيض آخذة بعصاً مفضة المقبض ، متلاعبة بها . لبثت أتأمل الدمية وقتا وقد شغلتني شخصيتها عن قائمة الطعام الماثلة في يدها اليسرى ، ولكن السنيور فورفاتلی، جاء ينيهني إلى أن عشاء الليلة يحوى غير الاسبجتي النابو ليتانية ، صحناً من الرافيولى، الفاخر، ثم تركنا ليستقبل بعض رواد مطعمه . ومات على صديق عزوز ، أقول وأنا أشير إلى الدمية : ما رأيك في هذا الصديق الجديد ؟ .... لقد أنى به الستيور فورفاتلى ، ليستقبل ضيوف المطعم. ألا ترى يده التي تحمل القائمة مشيرة إلى الباب ترشدنا إليه؟ إنها طريقة جديدة في تكريم الزوار ؛ كأني أسمعه يقول لنا وهو يدعونا إلى الدخول : تفضلوا يا سادة ... وبالسم الهارى ... !
وتناولت عشاني وأنا أزدرد الطعام غير شاعر بمذاقه ؛ اذ كنت مشغول الفكر بهذه الدمية الحقيرة . وكيف تأتي لها أن تظهر في هذا اللباس الفاخر ، وألقيت مرة بنظرة في المرأة أمامي فيدت لي حملتي الجديدة .. التي أدفع ثمنها أقساطا شهرية - غير جديرة بالثناء ...
كنت كلما ذهبت إلى مطعم فورفاتلي ، لقيني وجه ذلك الجنتلمان الأنيق بابتسامته الكاسفة ، فيرشق كل منا صاحبه بنظرة عجلى ، نظرة يتجلى فيها الاحتقارة والزراية ، وما هي إلا أن أحول طرفي عنه ، وأنا أحث خطاي نحو الباب . وجلست مع صديقي عزوز على مائدتنا المختارة في المطعم ، تتذوق حساء المنسترون ، اللذيذ . وبغتة ، رفعت رأسي وقلت : لو كنت حاكما بأمره لقضيت على هذه الفئة الغشوم . فقال عزوز وهو منهمك يأكل أي فئة تعنى ؟ : فئة هؤلاء الجنتيلمن من المريفين . فئة هؤلاء السادة المتعطلين . هاته الدمى التي تخفى تحت مظهرها الرشيق رءوساً خاوية لا يسكنها إلا الصلف والازدراء بالناس... فأجابي عزوز ، وهو ما زال منكبا على حسانه : ولا تنس أن هذه الفئة هي زينة حياتنا الاجتماعية العصرية! ...
وأقبل علينا السنيور فورفاتلى، يستطلع رأينا في حساء المينسترون، وقبل أن نجيبه بكلمة انطلق لسانه بحديث كأنه السيل الجارف يصف محاسن هذا الحساء وجودة طهوه ....
و صادفت غروز ، مساء أحد الأيام في القهوة ، فبادرني بقوله : سنذهب الليلة حتما إلى مطعم فورفاتلي. فقلت له وأنا أخلع طربوشى وأمسح وجهي : ولم - لقد مررت به وأنا في طريق إلى هنا فاستقبلتى صديقك الجنتلمان، وقرأت في قائمة الطعام التي يحملها في يده أن عشاء اليوم يحوى لونا من اللازانيا - اللازانيا ؟ ... إنها لذيذة ! - لذيذة جدا ! ... ولكن ... - ماذا ؟ ...
- ليس لى رغبة في الذهاب 1... كيف ؟ ... الست جائعا ؟
- جائع ... ولكنني ... ولكني أفضل أكلة طريفة من الطعمية والفول ....
- لقد سقم ذوقك بلا ريب ، أتفضل الطعمية والفول على اللازانيا ...؟ وماذا في ذلك ؟ أتذكر أنك كثيرا ما طلبت من السنيور فورفاتلي هذا اللون من الطعام ؟ ... هذا صحيح ... ولكني لا أحس الليلة رغبة في تناوله ... وأصررت على رأبي فلم أرافقه .
وقل اختلافي إلى مطعم فورفاتلي ، فكان صدیقی عزوز ، يعجب من انصرافي عنه وزهدى فيه ، ويسائلني في ذلك ، فأزعم له أن المطعم - منذ تحديده - قد فقد طابعه القديم ، و فقد مع هذا الطابع ميزته في جودة الطهو وإرضاء رواده . فكان. عزوز ، يحتيج على هذا ويستنكره ...!
وخرجت مرة من المطعم ، وبينما كنت مارا عن كثب بالجنتلمان، إذ عثرت قدى وكدت أسقط سقطة لا تخلو من خطر ، لولا أن أدرکنی عزوز ، فاعتدلت في وقفى وأنا أصلح من شأني ، ووقع بصرى على الجنتلمان ، وهو ماثل في وقفته الأرستقراطية المتحذلقة ، فإذا هو منطلق الوجه في بشر وانتصار وراعتني منه ابتسامة لم المحها على ثغرة في هذا المظهر الساخر قبل الآن ، وخيل إلى أن شفتيه تتحركان بغمغمة: ما أشد غباوتك من رجل غفل ! . و شملنی اعتقاد راسخ بأن هذا الجنتلمان كان سبب سقطتى؛ أتكون قدمه اليمني في حذاتها اللامع الأنيق قد امتدت في طريق فأعثرتني ؟ ... أو تكون لك العصا الممقوتة ذات المقبض المفضض قد استطالت واعترضت قدمی ؟ ... ودنوت منه وقد رفعت يدى الأهوى بها على خده المصغر ... ولكنني وجدتني انتزع قائمة الطعام من يده ، وأنهال عليها أمرقها شر ممزق
منذ ذلك الحادث لم تطاً قدمى مطعم فورفاتلي ، وقابلت عزوز، يوماً لحمل إلى خبراً خطيراً وذلك أن » السنيور فورفاتلي ، أفلس ؛ فلقد كان ممن يضاربون في السوق المالية فأصابته نكبة فادحة ، فاضطر إلى أن يغلق مطعمه، ورأيتني أناجي صديقي بقولى : والجنتلمان ، ؟ ... -إن مصابي في المطعم أكبر من أن يجعلى أهتم بهذه الدمية ...
- ولكنك تعلم على الأقل ما حل بمتاع السنيور فورفاتلي
- علمت أن كل ما يمتلكه في المطعم قد بسيع بالمزايدة ... ولم أطل معه الحديث في هذا الشأن ، وفي اليوم التالي قصدت إلى المكان الذي كان يشغله المطعم ، وطفقت أسأل البوابين والجيران عمن اشترى الجنتلمان ، فلم أحظ بجواب وتركت المكان ، وأنا مغيظ .....
وتوالت الأيام، وبينما كنت مارا في حارة جامع البنات. أمام حانوت كوهين الوراق إذ رأيت نفسى وجها لوجه أمام الجنتلمان ، فبهتت ، وأحسست لحظة حيرة وارتباكاً ولكن سرعان ما تزايل ذلك عنى ، وألقيت بنظرة متفحصة عليه ، فوجدته يحمل في يده اليسرى لوحا من الورق المفوى مثبتة فيه بطاقات زيارة في أشكال مختلفة وخطوط شتى ، وكان كعهدى به يرتدى لبوس السهرة، وعلى كتفه الشملة الثمينة ملقاة في إهمال مقصود ، وما زال قابضا ييده المنى على عصاء الثمينة ذات المقبض المفضض ، كان هو هو ذلك الجنتلمان ، الأرستقراطى، عروس الصالون العصرى ... ولكن شيئا واحداً لاحظته لم عهده فيه من قبل شينا راعي وأشعرتي بإحساس غريب ؛
هو تلك النظرة التي يرنو بها للناس . لقد تضاءلت المعتها الوهاجة المنطوية على الزهو والصلف ، أما وجهه فقد شاع فيه التحول والسقم واكتسى بطابع الأسى ، وخيل إلى وأنا أتفحصه أنه كان يزيغ بصره عنى ليتجنب مواجهي ، وكأنه يتململ في وقفته ضجرا.
فابتسمت وقد انكببت على بطاقاته أتفرج، وأما أهمهم: يالحظ العاثر ... من مطعم فورفاتلي الفاخر في شارع عدلى ، إلى وراق صغير في حارة جامع البنات .. وداعبت بعصای عصام ، فشعرت بها تهتر في يده على وشك أن تتحطم . فتركته ومضيت في طريقي ... لا أدرى ما الذي دفعني إلى أن أكثر ترددى على حانوت كوهين ، الوراق ، فأجعله مكانا مختارا أقضى فيه بعض الأصائل. لعله ذلك الجو القديم الذي يشمل حارة جامع البنات ، وملحقاتها ، حيث يطيب للمرء أن يستعيد ذكريات الماضي المحبة ... أو لعله شی آخر لم أستبنه ، وعلى أية حال لا أنكر أنه كانت تحلو لى جلستي على المقعد الى الخشبي الخشن أمام الحانوت أرشف القهوة وأدخن على مهل ، أتحسس بين وقت وآخر حلتى الجديدة ، فخورا بجودة نسيجها وأناقة تفصيلها ، وغير بعيد عنى صاحبنا الجنتلمان ، في وقفته التي لا تتغير : يحمل على مضض وكره منه لوح البطاقات يعرضه على المارين ! ...
وكنا في مستهل الصيف، فهياً لى الرحيل إلى رأس البر، وأقمت فيه نحو شهر ، ولما عدت قصدت إلى دكان الوراق ، فلم ار صاحي الجنتلمان ، في مكانه المألوف ، فسألت كوهين . عنه فأخبرني وهو لم يغادر مقعده أمام مكتبه ، وأنفه المقوس الطويل يعبث في دفتر الحساب ، قائلا : لقد ضقنا ذرعاً به ؛ طالما شكا المارة منه ، زاعمين أنه يشغل حيزاً كبيرا في الحارة ، فيعوقهم في الغدو والرواح .! وما ذا صنعتم به ؟ بعناه . من ؟ لشخص لا أعرفه ... رضى أن يدفع لي مبلغ حسناً ثمنا له ...
فتركت الحانوت على الأثر ، وأنا ضيق الصدر ، وقد تجلت أمامي صورة ذلك السيد الأرستقراطى الأنيق وهو واقف في سوق الرقيق تتناقله الأيدي كمتاع غث رخيص ، وقد ستر وجهه بطرف شملته ؛ ليخفى نفسه عن أعين الشامتين
وانقضت بضعة أشهر كدت أنسى فيها حوادث صاحي الجنتلمان ، وبينما كنت أمر بحارة بين الصورين في الموسكى ، إذ شعرت أن يداً تأخذ بطرف سترتي ، فالتفت فلم أر الا كومة من الملابس البالية موضوعة على شبه مشجب أمام حانوت من حوانيت بيع المتاع القديم ، فلم أعن بالأمر و اعتزمت مواصلة سيرى ، غير أنه استرعى نظرى على حين بغنة هناة تشبه اليد في قفاز أبيض قدر ظهرت من بين الملابس وتصور لى أنها كانت تضطرب كأنها تستوقفى
فعدت أدراجي وقلى يدق، ومضيت على الفور أرفع كومة الملابس عن المشجب ، فيان لي رويداً صديقي الجنتلمان ... يا الله ! ما أشد تحويه، وما أكثر تجاعيد وجهه ! ورأيته كأنه يتنفس الصعداء، ويحاول أن يرفع قامته المقوسة التي حناها وأذلها وقر تلك الملابس القديمة ... وقفت أتأمله في حسرة وحيرة لا أجد من نفسى الشجاعة على الدنو منه ... لقد كان كل شيء فيه ينطق بالبؤس والفافة ؛ شملة ممزقة ، وكسوة قذرة عاثت فيها يد التخريب ... وعصاه الثمينة لم يبق منها غير مقبضها الفضى الحائل ، حرص على أن يبقية في يده ذكرى الحياة العز والسؤدد .و المتوكل ، لم أر له أثرا.
ولكن كل ذلك لم يعد شيئا مذكورا إذا قسناه بما دهم عينيه يا القدر القاسي لقد أصبحثا مثقوبتين؛ فهل فقد حاسة الإبصار ؟.
وأخيرا وجدتني أدنو منه بخطا هينة ثم أطبقت بيدى على يده وطفقت أهرها في حنو وإخلاص ، فأحسست شفتيه تختلجان بابتسامة مكتئبة ، وكأن جفنيه انطبقا وانحدرت منهما قطرتان لامعتان. وفي لحظة ألفيته ينهارأمامي ويصبح كومة من الأنقاض ...