سر النجاح (1922)/الفصل الأول
الفصل الأول
في الاعتماد على النفس
- قال يوحنا سنِوَرْت ملْ. قيمة المملكة تتوقف على قيمة أفرادها
- وقال دزرائيلي. إننا نعتمد على القوانين أكثر مما يجب وعلى الإنسان أقل مما يجب
اعتماد الإنسان على نفسهِ أصل لكل نجاح حقيقيّ وإذا اتَّصف بهِ كثيرون من أمَّةٍ من الأمم ارتقت تلك الأمة وتقوَّت وكان هو سرَّ ارتقائها وتقوِّيها. وما ذلك إلَّا لأن الإنسان يقوى عزمهُ باعتمادهِ على نفسهِ ويضعف باعتماده على غيرهِ. ألا ترى أنَّ المساعدة التي ينالها الإنسان من غيرهِ تذهب بنشاطهِ غالباً لأنها لا تدع مُوجباً لسعيهِ في خير نفسهِ فتغادرهُ ضعيفاً عاجزاً ولا سيما إذا فاقت حدَّ الاقتضاء. وما أحسن ما قالهُ الطغرائي في هذا المعنى
وأفضل الشرائع لا يجدي الإنسان نفعاً أكثر من جعله حرّاً ليعتمد على نفسهِ وينكبَّ على إصلاح شأْنهِ. غير أنَّ البَشر قد اعتقدوا في كل أينٍ وآنٍ أنَّ خيرهم وراحتهم منوطان بشرائع بلادهم لا بسلوكهم فحسبوا الشرائع علةً لتقدُّمهم وبالغوا في الاعتماد عليها أيَّ مبالغة. ولكن كاد يتقرَّر عند أهل هذا العصر أنهُ ليس لشرائع الدول من فائدة سوى حماية رعاياها بتأمينهم على حياتهم وحريتهم ومالهم. فالشرائع التي يتولَّاها حكام أمناءُ تمكِّن الإنسان من اجتناءِ ثمار أتعابهِ العقلية والجسدية بقليل من الخسارة ولكنها ما كانت لتصيِر البليد نجيباً والكسلانَ مجتهداً والمبذر مقتصداً مهما كانت عادلة لأن هذا منوط بالإصلاح الشخصي أي بالاجتهاد والاقتصاد وإنكار الذات وما أشبه.
وما حكومة الشعب سوى صورةِ أفرادهِ فإذا فاقت الشعبَ لم تلبث أنْ تتقهقر إليهِ وإذا انحطَّت عنهُ لم تلبث أنْ ترقى إليهِ مع الزمن. ومهما تكن أخلاق الشعب فإنها تظهر في حكومتهِ فإذا كان مستقيماً حُكم بالاستقامة وإذا كان معوجّاً حُكم بالاعوجاج. والاختبار يدلنا أنَّ قوة الشعوب ودرجتها لا تتوقفان على حكومتها كتوقفهما على أخلاق أفرادها إذ ليس الشعب سوى مجموع أفرادهِ وليس تمدُّنهُ سوى تمدُّن أفرادهِ كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً. فتقدُّم الشعب هو مجموع علم أفرادهِ واجتهادهم واستقامتهم وتأخرهُ هو جهل أفرادهِ وكسلهم والْتِوَاؤُهم. وإذا دققنا النظر وجدنا أنَّ أكثر الشرور التي اعتدنا نسبتها إلى الشعب إجمالًا هي شوائب نامية في حياة آحادهٍ وإذا استُؤصِلت بواسطة الشرائع عادت فنمت من ناحية أخرى بهيئة أخرى ما لم تتغيَّر طباع الناس وأخلاقهم ويترتَّب على ما تقدَّم أنَّ الغيرة الوطنية لإصلاح الوطن يجب أنْ تُبذَل في إصلاح سياستهِ وشرائعهِ بل في إنهاض أهله لكي يصلحوا شأنهم بيدهم.
إذا كان كل التقدُّم موقوفاً على كيفية حكم الإنسان على نفسه غلا أهمية كبيرة للحكام المتسلِّطين عليهِ إذ ليس العبدُ من يستعبده فيرُه بل من يُستعبد لجهلهِ وكبريائهِ وهواهُ. فهذا هو العبد الذليل والشعب المستعبد على هذا النمط لا يحرّرهُ تغيير الشرائع والمسلطين عليهِ ولا سيما إذا ظلَّ يتوهَّم أنَّ حريته متوقفة على كيفية حكومتهِ. لأن أساس الحرية الثابت قائمٌ على صلاح الشعب الذي هو السند الوحيد لنظام الاجتماع الإنساني والتقدم الوطني. ولقد أجاد الفيلسوف يوحنا سنورت ملّ إذ قال: «إنَّ الاستبداد لا يضرُّ كثيراً ما دام كل شخص مستقلًّا بنفسه. ولكن كل ما يحطّم الاستقلال الشخصي هو استبدادٌ مهما اختلفت أسماؤه». وما أحسن ما قالهُ وليم درغن أحد مشاهير المحامين عن استقلال إرلندا في معرض دَبْلِن الأول قال: «إنني لم أسمع قطُّ لفظة الاستقلال إلَّا خطر على بالي وطني وأهلهُ. وكثيرًا ما سمعت عن الاستقلال الذي نفوز بهِ بمساعدة الغير ولا يسعني أنْ أنكر كمْ كنت أتمنى مساعدة الغير وأحترمها على أنهُ لم يبرح من بالي قطُّ أنَّ استقلالنا الأدبي والماديَّ يتوقف كلهُ علينا. وعندي أننا بإقبالنا على العلم والصناعة واستخدام ما لنا من الوسائل قد بلغنا درجة من التقدُّم لم نبلغها من قبلُ. والسبب الأكبر لنجاحنا مثابرتنا على ما بهِ خيرنا. وإني لمتيقّنٌ أنَّا إذا واظبنا على ما نحن عليهِ من الغيرة والاجتهاد وصلنا قريباً إلى درجة من السعادة والراحة لا يفوقنا فيها أحد».
إنَّ جميع الشعوب قد اتصلوا إلى ما اتصلوا إليه من التقدُّم اجتهاد ألوف من رجالهم زماناً طويلاً. فالفَعَلة وحارثو الأرض ومستخرجو المعادن وأرباب الصنائع والمخترعون والمكتشفون والمصنفون والشعراء والفلاسفة ورجال السياسة جميعهم سعوا في تطلُّب تلك الغاية المجيدة التي هي ترقية شأن بلادهم وازدياد عمرانها. هؤلاءِ هم الذين أوجدوا العمران ورفعوا شأن النوع الإنساني بمثابرتهم على العلم والعمل. وكل جيل بنى على أتعاب سلفهِ في هذا البناءِ العظيم. ونحن ورثنا العمران كما تركهُ لنا أسلافنا وعلينا أن لا نتركهُ لخلفائنا كما تُرك لنا بل أنْ نجدَّ ونسعى في توطيده وتهذيبه كما فعل من تقدَّمنا.
الاعتماد على النفس من أخص ما يوصف به الشعب الإنكليزي وعليهِ تتوقف قوتهُ كشعب. فإذا التفتنا إلى الخاصَّة منه رأينا أنهُ قد قام من بينهم أناس فاقوا مَن سواهم فاستحقوا الإكرام من الجميع. ولكن لم يتوقف تقدُّم البلاد الإنكليزية على هؤلاء الأفراد القلائل بل شاركهم فيهِ أناس دونهم رتبةً أي على أشخاص من العامَّة قلَّ ما يُعرف عنهم. ألا ترى أنَّ مَن يذكر خبر انتصار جيش في واقعة من وقائع الحرب يقتصر على ذكر قواد الجيش مع أنَّ النصر تمَّ على يد آحادهِ. كذلك في هذه الحياة التي هي أشبه شيء بدار حربٍ دائمةٍ الاسمُ فيها لأُولِي المقام السامي. ولكنَّ في زوايا النسيان رجالًا لا يحصى عددهم كانوا وسائط فعَّالة في إيجاد العمران ورفع شأن الشعوب وهم أكثر عدداً من الذين أنصف التاريخُ فذَكَرَهم. بل يمكننا أنْ نقول إنَّ كلَّ مَن كان قدوةً لغيرهِ في الاجتهاد والنزاهة والاستقامة لهُ يد في خير البلاد الحاضر والمستقبل وحياتهُ مثال يَقتدي بهِ معاصروهُ وخلفاؤهم جيلاً بعد جيل.
والاختبار اليومي شاهد بأن قدوة المجتهدين تؤثِّر في غيرهم تأثيراً كبيراً يفوق تأثير العلوم. بل ما من علم يؤثِّر في حياة الإنسان مثل العلم الذي يراهُ يوميًّا في البيوت والشوارع والحقول والمعامل. هذه هي العلوم الانتهائية التي يجب على كل أحد أنْ يتقنها لكي يحق لهُ الدخول في الهيئة الاجتماعية. هذه هي العلوم التي سمَّاها شِلر علوم الجنس البشري. وهي تقوم بالعمل والسلوك والتهذيب والطاعة أو بكل ما يؤهل الإنسان لتعاطي أعمال الحياة. وهذه العلوم لا تُحصَّل في المدارس ولا ترى في الكتب. وما أحسن ما قالهُ الشهير باكون وهو: «إنَّ جُلَّ فائدة العلوم أنْ تُرشِد الإنسان إلى حكمة فوقها لا تكتسب بالدرس بل بالملاحظة.» والاختبار يعلمنا أنَّ الإنسان يصير كاملًا بالعمل أكثر مما بالعلم؛ أي إنَّ شأن الإنسان يُصلَح بالعمل والاجتهاد والاستقامة، لا بالعلم والدرس والشهرة.
ولما كانت القدوة من الأمور الفعَّالة في شؤون البشر كانت كتب سير المشاهير ولا سيما الفضلاء منهم من أكثر الكتب فائدةً حتى إنَّ بعضهم قد وضعها في المنزلة الأولى بعد الكتب المُنْزلة لأن فيها أمثلة كثيرة للاعتماد على النفس وثبات العزم وعلو الهمة والنشاط والاستقامة والسعي في النفع العام ونحو ذلك من المحامد التي تعلن بكلام صريح ما يستطيعهُ الإنسان من الارتقاء في ذرى المجد وتبين ببلاغة فائقة أنَّ الذي يكرم نفسهُ ويعتمد عليها ينال اسماً حسناً وشهرة لا تُنسى.
ورجال العلوم والفنون والآداب أرباب الأفكار وأهل الحصافة لم ينحصروا في فئة من البشر ولم يختصوا بأهل المراتب العالية بل نبغوا من المدارس والمعامل ومن الدساكر والمزراع من أكواخ الفقراء الحقيرة وقصور الأغنياء الرفيعة. وكم من أناس ارتقوا من أدنى الدركات إلى أعلى المراتب ولم تصدهم المصاعب عن نيل ما شمروا له الذيل بل كثيراً ما كانت تستحيل إلى أكبر مساعدٍ لهم باثارتها قوتهم ونشاطهم وإيقاظها ما ربما كان يخمل من قواهم لو لم تكن الحال كذلك. وأمثلة هذا كثيرة جدًّا لا يسعنا تعدادها وجميعها تثبت قول المثل القائل: «كُلُّ مَنْ جَدَّ وَجَد». ألا ترى أنْ جرمى تيلر الملقب عند الإنكليز بفم الذهب والسر رتشرد أركرَيت مخترع آلة الغزل ومؤسس معامل القطن واللورد تَنْتَرْدِن قاضي القضاة وتُرْنَر المصور الشهير نبغوا من دكان حلاق وشكسبير رأس شعراء الإنكليز لا تعلم حقيقة أمرهِ ولكن لا خلاف في أنهُ نبغ من أصل وضيع على حد قول ابن الوردي
فإن أباه كان راعياً وجزاراً وهو نفسهُ كان يعمل في صباه على بممشطة الصوف على ما يُظن. ومن الناس من يقول إنه كان خادماً في إحدى المدارس ثم صار كاتباً. وقد اجتمع في هذا الرجل الشهير كلُّ اختبار بني البشر كأنه تعاطى أعمالهم كلها. ولا شبهة أنهُ كان ذا قريحة وقَّادة وذكاءٍ مفرط ففاق من سواهُ في سرعة الخاطر وبنى كل كتاباتهِ على الملاحظة والاختبار فخدم بها جيلهُ ولم تزل لها السلطة القوية على الشعب الإنكليزي.
(وقام من العرب وغيرهم من أمم المشرق أناس عصاميُّون لا يُحْصَى عددهم داسوا الفقر الذي ولدوا فيه وجعلوهُ مرقاة إلى ذرى المجد. فأبو الطيب المتنبي كان ابن سقَّاء ولكنهُ رقي بتوقد ذهنه وبلاغة شعره أسمى المراتب وجمعت حكمهُ فكانت مثل حكم أرسطاطاليس كبير الفلاسفة حتى قال فيه بعضهم:
وأبو العتاهية الشاعر المشهور كان يبيع الجِرَار فقيل لهُ الجرَّار. وأبو تمام حبيب الطائي نشأ بمصر وكان يسقي الناس ماءً بالجرة في جامع مصر وقيل كان يخدم حائكًا ويعمل عنده بدمشق وكان أبوه خمَّاراً بها. ثم قال الشعر البليغ وجمع الكتب النفيسة وكان واحد عصره في ديباجة لفظه وبضاعة شعره وحسن أسلوبه ولهُ كتاب الحماسة التي دل على إتقان معرفته بحسن اختيارهِ ولهُ مجموع آخر سماهُ فحول الشعراء وكتاب الاختيارات من شعر الشعراءِ. ولما مات رثاهُ الحسن بن وهب بقولهِ:
وجرير الشاعر كان أبوهُ فقيراً مدقعاً. ذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني أنَّ رجلًا قال لجرير: «من أشعر الناس؟ فقال له: قم حتى أُعرفك الجواب. فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه عطية وقد أخذ عنزاً له فاعتقلها وجعل يمصُّ ضرعها فصاح به: أخرج يا أبتِ فخرج شيخ دميم رث الهيئة وقد سال لبن العنز على لحيتهِ ثم قال: أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرًا وقارعهم به فغلبهم جميعًا!»
والزجَّاج النحوي الشهير كان يخرط الزجاج ثم تركه واشتغل بالأدب فنال منه الحظ الأوفر. والسيرافي كان يتعيَّش بنسْخ الكتب. وابن الحاجب صاحب الكافية كان أبوه حاجباً للأمير عز الدين الصلاحي.
والإمام أبو حنيفة كان خزازاً يبيع الخزا. والحكيم ثابت بن قرَّة الفلسفي كان صيرفيّاً بحران ثم انتقل إلى بغداد واشتغل بعلوم الأوائل فمهر فيها وبرع في علم الطب والفلسفة وهو الذي قيل فيه:
وأبو بكر الرازي الطبيب المشهور كان في شبيبته يضرب بالعود ثم قبل على دراسة كتب الطب والفلسفة فقرأها قراءة رجل متعقب على مؤلفيها فصار إمام عصره في علم الطب وصنف فيه الكتب النافعة كالحاوي والجامع ونحوهما.
وياقوت الحموي المؤرخ المشهور صاحب معجم البلدان أُسر من بلاده صغيراً واشتراهُ تاجر ببغداد اسمه إبرهيم الحموي فلما كبر شغَّله بالأسفار في متاجرهِ فأحرز أشتات الفوائد التي دوَّنها في مصنفاته الجليلة وكتابه معجم البلدان من أجل الكتب الموضوعة في الجغرافية.
ونشأ من بين العبيد والمماليك جمهور غفير من الأمراءِ والعظماءِ كبدر الجمالي الذي كان عبداً عند جمال الدولة بن عمَّار فصار بجده وزير السيف والقلم عند المستنصر وهو الملك الأفضل. والأمير أبو شجاع فاتك الكبير أُسر صغيراً من بلاد الروم ثم اشتهر بالشجاعة والإقدام وصار من الأمراءِ العظام وهو الذي مدحهُ أبو الطيب المتنبي بقصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:
ولما مات رثاهُ بقصيدته التي مطلعها:
وقال فيه أيضًا:
والملك العادل سيف الدين بن السلَّار كان من آحاد الجند وهو كردي الأصل.
والحجاج بن يوسف الثقفي كان يعلّم الصبيان هو وأبوه بالطائف ثم لحق بروح بن زنباع الجذامي — وزير عبد الملك بن مروان — فكان في عديد شرطتهِ ثم رقي المناصب العالية بهمتهِ وإقدامهِ حتى صار أمير العراق وخراسان وسائر المشرق.
ونظام الملك الطوسي كان من أولاد الدهاقين. وابن الزيات وزير المعتصم كان أبوه زياتًا وهو كان كاتباً بباب المعتصم فاستوزره لأدبه وعلو همته وهو الذي مدحهُ البحتري بقوله:
وقام من بين الفعلة أناس يستحقون الذكر الجميل منهم برندلي المهندس وكوك الخبير بسلك البحر وبرنس الشاعر. ومن بين البنائين وصافي القرميد بن جنصن الذي عمل في بناء منزل لنكلن وفي يدهِ ملعقة البناءِ وفي جيبهِ الكتاب. وأدْوَرْدْس وتلفُرْد المهندسان وهيوملر الجيولوجي وألَن كننهام المؤلف النقاش. ومن بين النجارين أنيغو جونس وهريسن صانع الخرونومتر ويوحنا هنتر الفسيولوجي ورُمني وأوبي المصوران والأستاذ لي البارع في اللغات الشرقية ويوحنا جبسن النقاش. ومن بين الحاكة سمسُن الرياضي وباكُن النقاش وفستر المؤلف وولسن العارف بالطيور والدكتور لفنستن الرحَّالة الأفريقي وتَناهِل الشاعر. ومن بين الأساكفة السر كلودسلي شوڤل أمير البحر الكبير وسترجون الكهربائي وصموئيل درو المؤلف وجيفرد محرر جريدة كورترلي رڤيو وبلمُفيلد الشاعر ووليم كاري وموريسن المبشّران. وموريسن لم يكن سكافاً بل صانع قوالب للأساكفة. ومنذ سنين قليلة قام من بين الأساكفة الرجل الشهير توما إدوردس الذي درس جميع العلوم الطبيعيَّة وهو يعمل في حرفتهِ واكتشف نوعاً جديداً بين الحيوانات القشرية الصغيرة سماه الطبيعيون پرانيزا إدوردسي (Praniza Edwardsii) نسبةً إليهِ.
وقام من بين الخياطين يوحنا ستو المؤرخ وجكسن المصور والبطل السر يوحنا هكسود الذي أعطاه الملك إدورد الثالث لقب النَّيْط جزاءً لشجاعتهِ. والأميرال هبصن كان صانعاً عند خياط في جزيرة وَيْط فحدث أنَّ أسطولاً بحريّاً اجتاز أمام تلك الجزيرة فذهب مع بعض الفتيان إلى الشاطئ ليراهُ ولما شاهدهُ تحرَّك فيهِ ميل شديد إلى سفر البحر فنزل في قارب كان هناك وأخذ يجذف إلى أنْ وصل إلى سفينة الأميرال فصعد إليها وعرض نفسه متطوعاً ولم تمضِ عليه إلَّا سنوات قليلة حتى صار أميرالًا.
وأشهر الذين قاموا من بين الخياطين بالإجماع أندرو جُنسُن — رئيس الولايات المتحدة الأميركية — المشهور بالحزم والذكاءِ. قيل إنه ألقى خطبةً في مدينة وشنطون قصبة الولايات المتحدة وأخذ يراجع فيها تاريخ حياته وكيف أنه ارتقى من درجة إلى أخرى إلى أنْ صار رئيساً للولايات المتحدة فضجَّ المحفل الحاضر بصوت واحد: «من الخياط فصاعدًا». ولم يكن يعتدّ بتعبير خصومهِ بل يحولهُ من القدح إلى المدح. قال مرة: «يعيرني البعض بأنني كنت خيَّاطاً ولكنني لا أرى في ذلك شيئاً من العار لأنني كنت مشهوراً بالأمانة والمهارة في صناعتي وكنت دائماً أخيط الثياب وأعطيها لأصحابها في الأجل المعين علاوة على أنني كنت أخيطها خياطة محكمة متينة».
والكردينال ولسي العظيم كان ابن جزار وكذلك كان ده فو مؤلف كتاب روبنصن كروزو وإكنسيد الطبيب الشاعر. ويوحنا بَنْيَن كان تنكاريّاً ويوسف لنكستر كان سلَّالًا. ومن الذين لهم اليد الطولى في اختراع الآلة البخارية نيوكمن ووط وستفنسن والأول كان حدَّاداً والثاني نجَّاراً والثالث وقَّاداً. وبويك شيخ النقاشين في الخشب كان يعمل في معادن الفحم وددسلي الفيلسوف كان خادماً وهلكرفت المؤلف كان سائساً وبَفِن كان خادماً في سفينة وكذلك كان السر كلودسلي شفل. وهرشل الفلكي الشهير كان ينفخ بالمزمار وتشنتري كان نقاشاً وإني طبَّاعاً وفَرَداي تعلم تجليد الكتب وعمل فيه إلى أنْ بلغ الثانية والعشرين من عمره ولكنهُ يعد الآن من الطبقة الأولى بين الفلاسفة الطبيعيين حتى إنهُ يفضَّل على معلمه السر همفري داڤي.
وبين الذين لهم اليد الطولى في تقدم علم الهيئة كوبرنيكس وهو ابن خباز من بولونيا. وكبلر وهو ابن خمَّار من ألمانيا. ودالمبر وهو لقيط وجد ليلاً على دَرَج كنيسة مار يوحنا في باريز ورُبي عند امرأة زَجَّاج. ونيوتن ابن فلاح غير غني ولابلاس ابن فلاح فقير وهذان الشهيران نشآ في العسر ولكنهما حصَّلا باجتهادهما شهرة لا تساويها كنوز العالم. والمرجح أنهما لو كانا من ذوي الثروة ما اتصلا إلى ما اتصلا إليه ويؤيد ذلك الحادثة الآتية وهي: أنَّ أبا لكرنج الفلكي الرياضي الشهير كان مستلماً خزينة الحرب في تورين فاشتغل في بالكنتراتات وخسر خسارة فاحشة أوصلت بيتهُ إلى الفقر الشديد فصار ذلك سبباً لافتخار لكرنج لأنه كان يقول «لو كنت غنيّاً ما صرت رياضيّاً».
ومن الذين اشتهروا في بلاد الإنكليز أكثر من غيرهم أولاد القسوس وخَدَمة الدين لأننا نرى بينهم دراك ونلس الشهيرين بين رجال البحر. وولستن وَين وبَلَفير وبل المشهورين بالعلوم. ورن ورينلدُز وولسن وولكي المشهورين في التصوير. وثرلو وكمبل في الشريعة. وأديسن وثمسن وكلدسمث وكلردج وبنين في الإنشاء. واللورد هردنج والكلونل إدوردس والماجور هدصن الذين اشتهروا في حروب الهند. وقد استولت الدولة الإنكليزية على بلاد الهند بواسطة أناس من الطبقة الوسطى مثل كليڤ وورن وهستنس وخلفائهم رجال تربوا في المعامل وتعاطي الأعمال.
ونجد بين أولاد المحامين والصناع والباعة أدمند بُرك السياسي الفيلسوف وسميتن المهندس وسكوت ووردزورث الشاعرين والسر وليم بلاكستن واللورد جيفرد وكان اللورد دنمن ابن طبيب والقاضي تلفرد ابن خمَّار واللورد بُلُك ابن سرَّاج (صانع سروج) وملتن ابن كاتب وبوب وسوزي ابني بائعَي أنسجة واللورد ماكولي ابن تاجر أفريقي. وليَرْد مكتشف خرائب نينوى كان كاتباً والسر وليم أرمسترُنغ مخترع الآلة الهيدروليكية والمدفع المسمَّى باسمهِ درس الفقه في صغرهِ ومارس المحاماة مدة. وكيتس الشاعر كان صيدليًاً والسر همفري داڤي صانعاً عند صيدلي وهو الذي قال: إني بلغتُ ما بلغتُ بسعيي ولا أقول ذلك بعُجب بل ببساطة قلب. ورتشرد أوِن كبير علماءِ التاريخ الطبيعي كان في إحدى السفن الحربية ولم ينتظم في سلك طلبة العلم إلَّا بعد أنْ تقدم في السن. ويظهر أنه وضع أساس معارفهِ لما كان يرتب مجموع البقايا الذي جمعهُ يوحنا هنتر.
إذا التفتنا إلى تواريخ الأمم المختلفة غير الأمة الإنكليزية رأيناها مفعمة بذكر أشخاص كثيرين شرَّفوا الفقر الذي كان نصيبهم من الدنيا باجتهادهم وحذاقتهم. فمن الذين اشتهروا في الصناعات: كلود وهو ابن حلواني وجيفس وهو ابن خبَّاز وليوبلد روبرت وهو ابن صانع ساعات وهيدن وهو ابن صانع دواليب. والبابا غريغوريوس السابع ابن نجَّار وسكستوس الخامس ابن راعٍ وأدريانوس السادس ابن بحري. ويُروى أنهُ لما كان صغيراً لم يستطع أنْ يبتاع مصباحاً ليدرس على ضوئه فكان يدرس دروسه على ضوء المصابيح المعلقة في الأزقة. (وهذا يماثل ما قيل عن أبي نصر محمد الفارابي — الفيلسوف الشهير — الذي اتَّبع الفلسفة أقصاها وأدناها وألَّف فيها كتباً لا تعد لكثرتها مع ما كان عليهِ من العوز فإنهُ كان يسهر الليل للمطالعة والتأليف ويستضيء بقنديل الحارس وبقي على ذلك إلى أنْ عظم شأنهُ وظهر فضلهُ واشتهرت تصانيفهُ وكثرت تلاميذهُ وصار وحيد زمانهِ).
ومن الذين نبغوا من أصل حقير أيضاً هوي المعدني وهو ابن حائك وهتفيل الميكانيكي وهو ابن خبَّاز ويوسف فريه الرياضي وهو ابن خيَّاط ودورند وهو ابن إسكاف وجسنر الطبيعي وهو ابن دباغ. قيل: إنَّ هذا خطا الخطوة الأولى في سلم الحياة يحيط بهِ كل ما يضعف الهمة كالفقر والمرض وانشغال البال ولكن لم تكن هذه المصاعب لتوهن عزمهُ وتصدهُ عن النجاح. وممن كانت أحوالهم مثل أحوال جسنر بطرس رامُس وهو ابن رجل مسكين من بيكردي وكان عملهُ في حداثتهِ رعاية الغنم ولكنهُ لم يرضَ بها حرفة ففر هارباً إلى باريز وبعد معاناة مشاق جزيلة دخل المدرسة الكلية في ناڤار خادماً ولكنه انتهز كل فرصة للدرس والمطالعة ولم يمض عليهِ وقت طويل حتى عدّ من أشهر رجال عصرهِ.
وڤوكولين الكيماوي الشهير ابن فلاح ويروى أنهُ لما كان يتعلم في المدرسة وهو فتى حديث السن لم يكن لهُ من الثياب ما يستر عريهُ ولكن أمارات الذكاء كانت تلوح على وجههِ فكان معلمهُ يقول لهُ عندما يريد مدحهُ على اجتهادهِ: «نعمَّا يا ولدي واظب على ما أنت فيه من الاجتهاد فتلبس يوماً ما ثياباً حسنة مثل ثياب خفير الكنيسة». وزار تلك المدرسة أحد الصيادلة فأعجبتهُ فاعجبته قوة ذراعيهِ فأخذهُ واستخدمهُ لسحق العقاقير ولكنهُ منعهُ من الذهاب إلى المدرسة فتركهُ ڤوكولين وتوجَّه إلى باريز ولما وصل إليها أخذ يعرض نفسهُ على الصيادلة خادماً فلم يجد من يستخدمهُ. ولكثرة ما ألمَّ بهِ من التعب والجوع أُصيب بمرض فأخذه بعض أهل الشفقة إلى أحد المستشفيات حيث ظن أنهُ يقضي نحبهُ ولكنَّ العناية كانت معدة لهُ شيئاً آخر فلم يمضِ عليهِ إلَّا وقت قصير حتى شُفي من مرضهِ فرجع إلى ما كان عليهِ من التفتيش عن مكان يخدم فيهِ فوجد مكاناً عند أحد الصيادلة. وبعد برهة يسيرة عرف بهِ فركروي الكيماوي الشهير فضمهُ إليهِ وبالغ في إكرامهِ حتى جعله كاتباً لهُ ولما مات ذلك الكيماوي الفيلسوف خلفه ڤوكولين في تدريس الكيمياء. وسنة ١٨٢٩ انتخبتهُ مقاطعة كلڤادو نائباً لها في مجلس النواب.
وليس في البلاد الإنكليزية أناس ارتقوا من أدنى مراتب الجند إلى أعلاها كما شاع في فرنسا بعد الثورة فإن هُش وأُمبر وبشغرو كانوا من عامة الجند فكان هش يطرز الصدرات ويبتاع بما يكسبهُ كتباً في علم الحرب. وأمبر هرب من بيت أبيهِ وهو في السادسة عشرة ودخل في خدمة تاجر ثم في خدمة عامل ثم في خدمة بائع جلود أرانب ثم تطوَّع جنديّاً ولم يمضِ عليهِ سنة من الزمان حتى صار قائد لواء. وقس عليهم كلابر ولفاڤر وسوشي وڤكتور ولان وسُلت وماسنا وسان سير ودرلون ومورا وأوجرو وبسير وناي وغيرهم ممن نشأوا من أدنى الرتب وارتقوا إلى أسماها. فمنهم من كان ارتقاؤه سريعاً. ومنهم من كان بطيئاً لأن سان سيركان ابن دبَّاغ فانتظم في سلك الفرسان ولم يلبث سنة حتى صار قبطاناً. وفكتور دوك بلونو دخل في الطبجية سنة ١٧٨١ ثم رُفِض من خدمته في الحوادث السابقة الثورة ورجع إليهِ عند افتتاح الحرب وفي برهة قصيرة صار أركان حرب ورئيس أُورطة. أمَّا مورا وهو ابن صاحب خان فانتظم أولًا في سلك الفرسان وطرد لعدم طاعتهِ ثم انتظم ثانيةً فارتقى سريعاً إلى رتبة أميرالاي. وثاي انتظم في سلك ألاي من الفرسان وعمره ثماني عشرة سنة ولما رأى الجنرال كلابر إقدامهُ رقاهُ درجة فدرجة إلى أنْ صار في رتبة ادجوتانت جنرال وهو ابن خمس وعشرين.
هذا من جهة الذين تقدموا بسرعة أمَّا الذين تقدموا ببطء فمنهم سُلت الذي مضى عليهِ أكثر من ست سنوات قبلما ارتقى إلى رتبة جاويش وهي الأولى فوق الجندي ولما صار وزير الخارجية أخذ يدرس الجغرافيا لأنه لم يكن يعرف شيئاً من العلوم فوجد فيها لذَّة كثيرة. ومسينا خدم في الجندية أربع عشرة سنة قبلما ارتقى إلى رتبة جاويش ومع أنهُ ارتقى أخيراً بالتوالي إلى منصب أميرالاي وجنرال ومرشال قال: إنَّ رتبة جاويش كلفتهُ تعباً أكثر من كل هذه الرتب. ولا يزال هذا الارتقاءُ بين رجال فرنسا إلى يومنا هذا لأن المرشال بوجو ظل نفراً أربع سنوات قبلما رقي ضابطاً. والمرشال رندون الذي صار وزير الحربية دخل في الخدمة ولداً يضرب الطبل ولا تزال صورتهُ في فرساليا ويده على طبل وقد صُوّرت كذلك بطلبهِ. فأمور مثل هذه تضرم نار الغيرة والحمية في نفوس الجنود الفرنسوية رجاءَ أن كل واحد منهم قد يصير مرشالًا إنْ لم نقل إمبراطوراً.
وهؤلاء الرجال قلال جدّاً في جانب الذين ضربنا صفحاً عن ذكرهم فليس ارتقاؤهم من الأمور النادرة التي لا يُبنى عليها حكم بل من الأمور الشائعة جدّاً حتى يمكننا أنْ نقول: إنَّ كل من سعى في طلب المجد بهمة عالية وواظب على السعي نال مبتغاهُ بل إذا نظرنا إلى كثيرين من الذين نجحوا بسعيهم رأينا أنَّ الصعوبات والمتاعب التي صادفوها في أول سعيهم كانت لازمة لنجاحهم.
ولم يخلُ مجلس نواب في بلاد الإنكليز من رجال كثيرين من هذا النوع نشأُوا من بين أصحاب الصنائع والحرف. قيل: إنَّ يوسف برذرتن نائب مقاطعة سلفرد قام في إحدى مباحثات هذا المجلس وجعل يعدد المشاق التي قاساها وهو صانع في معمل قطن فقال: ومن ثمَّ صممتُ على أنهُ إذا ساعدتني التقادير أبذل قصارى جهدي في إصلاح شأن العمَّال الذين كنت أعمل بينهم. فما أتمَّ كلامهُ حتى وقف السر يعقوب غريهم وقال: إني لم أعرف قط أنَّ أصل مستر برذرتن وضيع إلى هذا الحد ولكن الآن قد زاد افتخاري بمجلس النواب إذ رأيت فيه إنساناً ارتقى من درجة وضيعة إلى أنْ تساوى مع عظماءَ الأرض. ويماثل ذلك قول مستر فكس نائب أُلدهام الذي كان يرددهُ كثيراً وهو: «لما كنت صانعاً عند حائك في نوروك».
ولم يزل في مجلس نواب الإنكليز أعضاءٌ أصلهم حقير مثل هذين وربما أحقر. قصَّ المستر لندساي نائب سندرلند سيرة حياتهِ لمنتخبي ويموث مجيباً خصوماً لهُ في أمور سياسيَّة فقال: توفّي والدي ولي من العمر أربع عشرة سنة فتركتُ غلاسكو وقصدت ليڤربول ولم أكن قادراً على دفع أجرة السفر فارتضى ربَّان السفينة أنْ أخدمهُ بما يقوم بأجرة سفري واستخدمني في تنقية الفحم فوصلت إلى ليڤربول وأقمت فيها سبعة أسابيع قبل أنْ وجدتُ عملًا أعملهُ. وكنت أنام في الفلاءِ ولم أكد أحصل ما يسدُّ رمقي. ثم استخدمت في إحدى السفن. ولكني لم أبلغ التاسعة عشرة حتى ارتقيت إلى رآسة مركب بجدّي واستقامتي. ولما بلغت الثالثة والعشرين تركت البحر ومن ثمَّ أخذت في التقدم السريع وأؤكد لكم أنَّ السبب الحقيقي لتقدمي اجتهادي وسعيي وجريي على موجب تلك القاعدة الذهبية التي جعلتها دستوراً لكل أعمالي فكنت أعامل الغير كما أريد أنْ يعاملوني.
ومما يقارب ذلك تقدم مستر وليم جكسن عضو نورث دربيشير فهذا كان ابن جرَّاح في لنكستر. فتوفي أبوهُ عن أحد عشر ولداً وهو سابعهم فأُخرج من المدرسة قبل أنْ بلغ الثانية عشرة ووُضع في معمل وكان مضطرًّا أنْ يعمل فيه أربع عشرة ساعة كل يوم أي من قبل الظهر بست ساعات إلى ثمانٍ بعدهُ وبعد وقت قصير مرض معلمهُ فأُخرج من عنده ووُضع في بيت المحاسبات حيث كان لهُ شئ من الحريَّة فأكبَّ على الدرس وحينئذٍ تمكن من كتاب الانسيكلوبيذيا البريطانية فقرأه كله وكان أكثر قراءتهِ فيه ليلًا. ثم أكبَّ على التجارة فأفلح فيها أيَّ افلاح وصارت له سفن في كل البحار وعلاقات تجاريَّة مع كل بلادٍ على وجهِ الأرض.
ويماثل ذلك تقدُّم رتشرد كُبدن وهو ابن فلاح من مدهرست في سسكس فإنه أُرسل في حداثتهِ إلى لندن ودخل خادماً في بعض المخازن وكان حاذقاً ذكيَّاً حسن السيرة كثير المطالعة. وكثيراً ما كان ينهاهُ معلمه عن كثرة الدرس إلَّا أنه لم يمتثل أمرهُ بل واظب على ما كان فيه مالئًا عقلهُ بما في الكتب من كنوز المعرفة فتقدَّم من عمل إلى آخر إلى أنْ تعاطى المسائل السياسيَّة وخصَّص لها نفسهُ وكل ما كان يملكه. ويروى أنَّ أول خطبة خطبها لم تستحق أنْ يلتفت إليها أحد ولكنهُ لم ينفك يمارس الخطابة حتى صار من أشهر الخطباء وأقواهم حجةً وأنفذهم كلمةً وذاع صيتهُ في الآفاق حتى استحق مديح السر روبرت بيل الشهير. قال المسيو درون ده لِيس سفير فرنسا في إنكلترا إنَّ مستر كبدن هذا خير مثال لفعل الآداب والمواظبة والاجتهاد وهو مثال من أتم أمثلة الرجال الذين ارتقوا من أدنى الرتب إلى أعلاها باستحقاقهم وخدمهم الشخصيةالتي خدموا بها وطنهم ومثال من أندر الأمثلة للصفات الثابتة الموروثة في الشعب الإنكليزي.
وخلاصة ما تقدم أنهُ ما من أحد نال المجد والشرف إلَّا بعد السعي والكد وما من أحد قدر على نيلهما بالكسل والتواني وما أحسن ما قالهُ أبو الطيب المتنبي:
ويد الإنسان ورأسهُ يصيرانه حكيماً غنيّاً وإنْ وُلد في الغنى والسعة وكان من قوم لهم اسم وفضل لا يحصل على شهرة ما لم يكن مستحقّاً لها لأن الغنى يتصل بالإِرث وليس كذلك العلم والحكمة والغنيُّ يستأجر من يعمل لهُ أعمالهُ ولكنهُ لا يستطيع أنْ يستأجر من يفتكر عوضاً عنهُ ولا أنْ يشتري العلم والتهذيب ولا الشهرة التي يستحقها لأجلهما. فلا شهرة إَّلا بالسعي والاجتهاد وذلك يصدق على أصحاب الثروة كما يصدق على درو وجيفورد اللذين درسا في دكان السكاف وعلى هيوملر الذي درس دروسهُ الانتهائيَّة في مقلع الحجارة.
والغنى والراحة ليسا ضروريين لبلوغ المراتب العليا من الرقي وإلَّا لما كان الناس مديونين دائماً للذين نشأوا من أدنى الرتب. وذلك لأنه إذا كان الإنسان غنيّاً مترفهاً لم يضطرَّ أنْ يقاوم الصعوبات فلا تقوى عزيمته ولا تصيرهُ من ذوي الإقدام. وإذا كان الفقر عدوّاً فالاعتماد على النفس يجعلهُ صديقاً يولي العزم والإقدام ومناضلة الدهر وما يتبعها من الظفر والمجد. قال الفيلسوف باكن: إنَّ الناس لا يقدرون غناهم ولا قوتهم قدرهما لأنهم يقدرون الغنى أكثر مما يستحق والقوة أقل مما تستحق. أمَّا الاعتماد على النفس ومقاومة الأهواءِ فيعلمان الإنسان أنْ يشرب ماءً من جبهِ وأنْ يشتغل ويتعب لتحصيل معيشتهِ وإنفاق ما يصل إلى يده بالحكمة والاقتصاد.
والغنى يقود إلى الكسل والبطر وهما أمران نرى الإنسان مائلًا إليهما طبعاً حتى إنَّ الذين وُلدوا في نعمة وافرة إذا استهانوا بالراحة ولم يأنفوا من التعب في خدمة جيلهم كان لهم الفخر الأعظم. وما أكثر الأغنياء الذين تجشموا أشد المشاق في خدمة جيلهم. قيل: إنَّ أحد القواد الأغنياءِ كان ماشياً جانب فرقتهِ في حرب إسبانيا فخاضت تلك الفرقة في بالوعة وخاض هو معها فقيل: إنَّ خمسة عشر ألف جنيه سنويّاً تخوض في تلك البالوعة (يراد بذلك أنَّ دخل القائد كان خمسة عشر ألف جنيه في السنة). ومن عهد قريب شاهدت أحادير سفستابول ورمال الهند والسودان المحرقة البسالة الفائقة التي أظهرها شرفاء الإنكليز وأغنياؤهم فكم من شريف وغنيٍ خاطر بنفسه أو فقدها في تلك المعامع الهائلة خدمةَ لوطنهِ.
وما الأغنياء بمعزل عن إتباع العلم والفلسفة وإلَّا فمن هو باكن أبو الفلسفة الحديثة ووستر وبويل وكافنديس وتلبُت ورُصّ. ورصُّ هذا يُلقَّب ميكانيكي الأشراف ولو لم يولد أشريفاً لحاز أسمى الرتب بين المخترعين. قيل: إنه كان ماهراً مهارة فائقة في صناعة الحدادة حتى طلب منهُ رجلٌ يجهل نسبهُ أنْ يتولى إدارة معمل حديديٍ لهُ. ومن المعلوم أنَّ تلسكوب هذا الشريف الذي عملهُ بيدهِ من أعجب ما صُنع من نوعهِ إلى يومنا هذا غير أننا نجد أنَّ الفريق الأكبر من كبراء الإنكليز قد تعاطى فنون السياسة والأدب ولا يخفى أنَّ النجاح في هذه أيضاً متوقفٌ على الاجتهاد والدرس والمزاولة. فعلى الوزير أو الرئيس أنْ يكون من أكثر الناس اشتغالًا وجدًّا كبامرستون ودربي وروسل ودزرائيلي وغلادستون. ومن يعرف هؤلاء الرجال وأشغالهم الكثيرة رأى أنهم لا ينفكون عن الاستغال نهاراً وليلاً.
ومن أشهر رجال السياسة بالإجماع السر روبرت بيل فقد كان له جلد على مزاولة أشغالهِ العقلية يكاد يعدُّ من خوارق العادة فإنهُ لازم البرلمنت أربعين سنة واشتغل في غضونها أشغالًا تكاد لا تصدَّق لكثرتها وعظمتها. قيل إنه لم يشرع في أمر إلَّا أتمَّهُ، وكلُّ خطبهِ تشهد لهُ أنهُ درس درساً مدققاً في كل ما تكلم بهِ أو كتب فيهِ. وكان من المفرطين في الشغل والمفرِّطين في صحتهم ومصالحهم لكي يتمم كل ما شرع فيهِ. وفاق كل معاصريهِ في قوة الحجة وسمو الأفكار والمقدرة على امتلاك عقول سامعيه. وكان كلَّما تقدم في السن ازدادت معارفهُ ولانت عريكتهُ واستمرَّ إلى آخر نسمة من حياته فاتحاً باباً في ذهنه لقبول الآراء الجديدة. وكان نفوراً من التطرُّف في المسائل إلَّا أنه لم يقع في ما وقع فيهِ غيرهُ من التعصب للآراء القديمة الذي هو فالج يصيب عقول الأكثرين عند تقدمهم في السن.
وممَّن يضرب بهم المثل في الاجتهاد وعدم الملل اللورد برَوَم الذي خدم جيلهُ أكثر من ستين سنة تعاطى فيها الفقه والأدب والسياسة والعلم وأتقن كل ما تعاطاهُ. قيل سُئل السر صموئيل روملي أنْ يعمل عملاً جديداً فاعتذر بضيق وقتهِ ثم قال عليكم بهذا برَوَم لأنهُ يخلقُ وقتاً لكل شيء. والسرُّ في ذلك أنَّ اللورد برَوَم لم يدَع دقيقة من وقتهِ تمضي سدى. ولما بلغ السن الذي يتنحى فيه الناس عن الأعمال شرع في عمل شاقّ إلى الغاية وهو البحث في نواميس النور فجاءت أبحاثه مكللة بالنجاح وشهد لهُ فيها أشهر علماءِ باريز ولندن. وكان آخذاً حينئذ في طبع كتابهِ الشهير في العلماء والأدباءِ الذين نبغوا في عصر الملك جورج الثالث وقائماً بعبء منصبه في مجلس الأعيان حتى قيل: إنَّ سدني سميث أشار عليهِ مرة أنْ يقتصر على أعمال لا يقدر على القيام بها أقل من ثلاثة رجال إلَّا أنه كان لا يستكثر أعماله مهما كثرت وشقَّت ناهيك عن أنه كان مطبوعاً على إتقان الأعمال حتى قال بعضهم: إنهُ لو كانت حرفتهُ صبغ الأحذية لصار أوَّل صبَّاغ أحذية في المسكونة.
ومنهم السر بلور لتُّون الذي قلَّ من ماثله في تعاطي أعمال كثيرة وإفلاحه فيها كلها لأنهُ كان شاعراً وراويّاً ومؤرخاً ومؤلفاً وخطيباً وسياسيّاً. ولم يكن يسأل عن الراحة ولا يكترث للتعب. وقلَّ من جاراهُ من مؤلّفي الإنكليز في كثرة التآليف أو ساواهُ في سموّها. وكان من ذوي الثروة الرابين في مهد التنعُّم ولكنه أنكر نفسهُ ولم يمتعها بشيء مما يتمتع به أهل الغنى والقصوف بل سار في طريق المؤلفين الحَرِج فكانت تآليفه الأولى على جانب من الركاكة فرمقها الناس بعين الازدراء ولكنَّ ذلك لم يثنِ عزمهُ فواظب على الدرس والتأليف حتى حاز قصب السبق وصار يعدُّ من أبرع المؤلفين.
ومنهم دزرائيلي الشهير الذي رقي إلى أسمى المناصب بجدهِ وكدهِ.ألَّف في أول الأمر كتباً ازدراها الناس وعدوها من آثار الجنون. فغيَّر نسق تأليفهِ وألَّف ثلاثة كتب دلت على أن فيهِ جوهراً مكنوناً. ولما دخل مجلس النوَّاب وخطب فيهم الخطبة الأولى ضحكوا على كل جملةٍ منها هزءاً بها على فخامتها ولكنهُ ختم خطبته بهذه العبارة التي تحسب إنباءً بما وصل إليهِ وهي قوله: «إني شرعتُ في أمور مختلفة مراراً كثيرة ولم أنفكَّ عنها حتى نجحتُ فيها النجاح المطلوب فسيأتي وقت تصغون فيهِ إليَّ». ثم جاء الوقت المشار إليهِ وصار كل أهل المسكونة يصغون لقول ذلك الرجل العظيم. ولكنه لم ينل ما ناله من المجد والسؤدد إلَّا بجدهِ وحزمهِ فإنه لما كانت تحبط مساعيه لم يفعل ككثيرين من الشبَّان الذين إذا فشلوا مرة وهت عزائمهم ووقعوا في بالوعة اليأس بل كان يقرن العزم بالحزم ويفتش عن عيوبه ويصلحها ودرس أطوار سامعيهِ ومارس الخطابة طويلاً وملأ رأسه بما يحتاج إليهِ من المعارف ففاز بأمانيه وضحك لهُ مجلس النواب بعد أنْ ضحك عليهِ وصار أعظم الخطباء ورجال السياسة.
يظهر من الأمثلة المتقدمة أنَّ النجاح موقوف على الاجتهاد. وسنورد أمثلة أخرى تؤيد ذلك أيضاً. إلى من يعضدهُ ويعينهُ. ولقد أجاد الشاعر وردزورث إذ قال: «إنَّ افتقارنا إلى الغير واستقلالنا بأنفسنا لا بُدَّ من أنْ يسيرا معاً ويصطحبا ولو كان بينهما مناقضة ظاهرة». فكل واحد مفتقرٌ إلى غيرهِ في التغذية والتهذيب من طفوليتهِ إلى شيخوختهِ وإن تفاوت مقدار هذا الافتقار باختلاف الأشخاص. وأفضل الناس أقربهم إلى عرفان ما عليهم لغيرهم من الجميل والإحسان. قيل: إنَّ المسيو ألكسيس ده توكڤيل الشريف الفرنسوي المعم المخول دُعي إلى منصب في محكمة ڤرساليا وهو في الحادية والعشرين من عمرهِ فرأى أنهُ غير أهل لذلك المنصب وقد دُعي إليه لشرفه الموروث فرفضهُ عازماً أنْ يتأهَّل لهُ بجدهِ ثم ترك فرنسا وقصد الولايات المتحدة الأميركية واستصحب صديقهُ كستاف ده بومون. قال كستاف هذا: «إنَّ توكفيل مطبوع على عداوة الكسل فلا تراه بلا عمل في حال من الأحوال في حَضَر كان أو في سَفَر وأطيب الحديث عندهُ أنفعهُ وأسوأ الأيام أيام العطلة فيغتمُّ لإضاعة كل دقيقة من الوقت». وكتب توكڤيل إلى أحد أصحابه يقول: «الإنسان لا يفرغ من العمل في حياته ولا بُدَّ له من الجهاد الداخلي ولا سيما في الحداثة كما أنه لا بُدَّ لهُ من الجهاد الخارجي. وما الإنسان في هذه الدنيا سوى مسافر في بلاد يزداد بردها كلما تقدم في سفرهِ فعليهِ أنْ يزداد حركةً وسرعةً كلما تقدم وإلَّا فاجأتهُ منيتهُ في هيئة البرد. وأشد أمراض النفس مرض البرد إلَّا أنَّ قوانا العقلية والجسدية لا تكفينا لمقاومة هذا العدوّ الألد فعلينا أنْ نستعين بغيرنا.»
وقد جزم توكڤيل أن الاعتماد على النفس واجب على كل أحد إلَّا أنهُ لم يحطَّ قيمة المساعدة التي ينالها كل إنسان من غيرهِ ولو تفاوتت مقاديرها فإنه كثيراً ما أقرَّ بجميل ده كرغورلي وستوفلس الأول لأجل مساعدته العقلية والثاني لأجل معاضدته الأدبيَّة. وكتب إلى كرغورلي يقول: «إني مديون لكثيرين بأمور كثيرة فرعيَّة ولكني لست مديونًا لأحد بقدر ما أنا مديون لك بالمبادئ الأساسيَّة التي هي قاعدة السلوك». وأقرَّ أيضًا بفضل امرأته التي ساعدتهُ على مواظبة دروسه وأعماله. وكان يعتقد أنَّ المرأة الفاضلة تشرف اسم زوجها وتعلي آدابهُ والسليطة تدنيهِ تحقرهُ وفي ذلك يقول: «إنني كثيرًا ما شاهدت رجالًا من فضلاءِ الناس ونبلائهم وإنما كانوا كذلك لأن لهم زوجات يعنَّهم لا بإرشادهنَّ وتحذيرهنَّ لهم كأنَّ لهنَّ السيادة عليهم بل بميلهنَّ الطبيعي إلى الأعمال النبيلة. وشاهدت رجالًا آخرين كانوا على جانب من الشهامة والاستعداد الطبيعي للارتقاء ثم صاروا بواسطة نسائهم لؤماءَ أدنياءَ لا يهتمون بشأن وطنهم إلَّا إذا عاد اهتمامهم بالنفع عليهم.»
والخلاصة أنَّ الفواعل التي تفعل بأخلاق البشر كثيرة فمنها العلم والعمل والقول والقدوة والأصحاب والجيران والدنيا وسكانها من حاضرين وغابرين. ولكن مهما كان لهذه الفواعل من التأثير الشديد يبقى سعي الناس واعتمادهم على أنفسهم أقدر على رفعِ شأنهم من كل الفواعل الخارجيَّة.