رسالة سليم الأول إلى قانصوه الغوري بخصوص النصر على الصفويين
الحمدُ لله الذي أذلَّ أعداءنا، وأجلَّ أولياءنا، وأظفر بِنيل المأرب رجاءنا، وجعل أيَّامنا بِالأيامن مُسفرة، ولياليها بِغُرر الميامن مُقمرة، ومساعينا بالمحامد مُثمرة، ومعاهد مُعادينا بِقهر النُقم مُقفرة. نحمدهُ حمدًا كثيرًا على أن منَّ عليَّ بِالفتح الأكبر والنجع الأزهر، والنصر الأشهر، واليُمن الأنصر، والعزّ الأشهق الأسنى، والفوز الأتم الأنمى، والسعد الأحمد الأجدى، وهو الفتحُ الذي يفرح بِرُؤياه مهاب الفُتُوح، وتلوح تباشير بُشراه في لوح الدهر لكان مُؤمن، فيتلقَّاها، بِالوجه السافر والصدر المشروح.
ونُصلِّي تصليةً دائمةً على ناسخ كُلِّ ملَّة، وفاسخ كُلِّ نحلة، المبعوث بعد امتدادٍ من الفترة، واشتدادٍ من الهترة، وانقطاعٍ من الهداية والدلالة، واتساعٍ من الغواية والضلالة، مُحمِّدٍ المُجتبى من أفخر القبائل، والمُصطفى من أطهر الفضائل، وعلى آله وأصحابه الذين هُم وُلاةُ الخلق، ورتقةُ الفتق، وغُررُ السَّبق، وفتحةُ الغرب والشرق، منهم من ردَّ ردَّة المُرتدين من إسلامها، ومنهم من أزلَّ أرجل الأكاسرة عن أسرَّتها، وتيجانها عن هامها، ومنهم الأشدَّاءُ على الكُفَّار، الأسداء إذا زاغت الأبصار، ومنهم الساجدون، والراكعون، ومنهم السابقون والتابعون؛ وسلِّم تسليمًا دائمًا ما هبَّت الصبا؛ واختلف الصُّبحُ والمسا.
وبعد، فإنَّا أرصدنا هذه المُفاوضة الشريفة إلى الحضرة العليَّة الأعلميَّة والأهمليَّة، والأورعيَّة الأروعيَّة، الأكمليَّة الأفضليَّة، الأعدليَّة الأكرميَّة، والأفخميَّة الأعظميَّة، العونيَّة الغوثيَّة الغيَّاثيَّة، وهو الذي جمع المحاسن كُلِّها، واستولى على المفاخر قلِّها وجُلِّها، وألقت إليه المعالي مقاليدها، وأرجعت إليه أخبار المكارم أسانيدها، حامي الحرمين المُكرَّمين، المُبجلين المُعظَّمين، كهف المظلومين، ملاذ الملهوفين، نصير الإسلام والمُسلمين ظهير أمير المُؤمنين. أعزَّ الله أنصاره؛ وضاعف اقتداره، وأيَّد دولته، وأجزل من الخيرات همَّته، ولا أخلى من نعمةٍ رياضها ممرعة؛ وحياضها مُترعة، وحدَّها…؛…هامُلاحظة 1 مُتمهِّد، وظلُّها ظليل، وحظُّها جزيل، ولا زالت الآمال به منوطة، ويده بِالمكارم مبسوطة، وما برح لِقوام المجد قوَّامًا، ولِلزمان ابتسامًا، ما قرَّت الأرض قرارها، وأبقت الأفلاك مدارها، تهدي إليه سلامًا، تشحن كتائب لُطفه حواشي الحشا، ونواحي الصُّدور، وتسكر جُمُوع الأسى وتكثر طلائع السُّرور، وتُبدي لعلمه الكريم أنَّ الرجل الجافي المدعو بِإسماعيل الصوفي قد خرج من جيلان، واجتمع على الملاحدة وأحزاب الشيطان، فسار معهم إلى شروان، ودخله غصبًا، وأوسعهُ نهبًا ثُمَّ هجم أذربيجان عنوةً، فنال منها حُظوةً.
ثُمَّ استولى على ممالك الشرق يومًا فيومًا، قد ناب من استلامهم خطَّة خُراسان، التي هي سُرَّة بلاد إيران ما تاب، وأصاب ديار البوارات ما أصاب، نزع الله الرأفة من قُلُوبهم، فنقلها إلى عدُوٍّ لهم، وعذَّب بهم ما يُريده من تعذيبهم، واشتعلت نار جُملتهم في فحم ذُنُوبهم، وزيَّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون، وأمدَّهم في طُغيانهم يعمهون، رفعوا التكليفات، وحفظوا الشرعيَّات، وقد تعيَّن الجهاد على كُلِّ مُسلم، ولم يكن أحد يكون لهُ هذا الحُلم غير مُتألِّم، فيتصدَّى لِدفعهم مُلُوك الإسلام، فأنقموا منهم وما بلغوا المرام. من حارب هذا العدُوَّ الكافر ما غُلب بل غَلب، ومن صادف ذلك الغويّ الفاجر ما سُلب بل سَلب، فعجز الناس وتبرَّأوا من اعتداد العدَّة والغدر جرى على كُلِّ لسانٍ لِكُلِّ قومٍ مُدَّة، فأظلمت الآفاق من غياباتهم، وأشفق الإسلام من نكاياتهم، فنادى بِلسان الحال كُلَّ قومٍ: أين المُؤدُّون فرض الجهاد المُتعيِّن؟ وأين المُهتدون في تهييج الرشاد المُتبيِّن؟
فلمَّا اقتربت الساعة التي قدَّر فيها رُغم أنفه، وحان ظُهُور الآية التي جُعلت سببًا لِهلاكه وحتفه، ألهمنا الله أن نهتمَّ لِهذا الأمر الخطير، فإنَّهُ من أفرُض الهام وأهم الفُرُوض، واختال في صُدُورنا أن ننفرد في عبء هذا القادم الباهظ بِالنُهُوض، فقُلنا إنَّ هذه فضيلة خصَّنا الله بها، وأسعدنا بِسببها، بل هي بليَّة، جلا علينا وجميع الجهات جُمُوع الجهاد، واجتمع جمٌّ غفير. فعبئت العساكر الإسلاميَّة لِلتوجُّه إلى بلاد الشرق في زمن الربيع النضير، فعبرنا بعد الاستخارة لله تعالىٰ في شهر صفر، خُتم بِالخير والظَّفر، من خليج قُسطنطينيَّة، حماها الله عن البليَّة، وكتبنا إليه كتابًا مُستطابًا، مُتضمنًا لِلنصيحة والموعظة، فأمرنا فيه أن يتوب من جرائمه وجرائره، ويستغفر لِصغائره وكبائره، ويُغيِّر ما تعوَّد في الأيَّام الماضية، والأعوام الخالية، من سوء الاعتقاد، وتعذيب العباد، والفعل اللئيم، والخلق الذميم، فقُلنا: ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أوضحنا المعالي المُنيفة بِاللفظ الوجيز، فما وُفِّق لِذلك، والتوفيقُ عزيز.
فسرتُ مُستعينًا بالله إلى دياره وبلاده، مُصمِّم العزيمة على قتاله وجلاده، فمادت الأرض بحركتنا، وغامت السماء من غبرتنا، واضطربت السُهُول والوُعُوث والدُّغوث، وانبعثت الهمم وهجم البُعُوث، والعسكر في كُلِّ يومٍ يعدُّون ويغتدون، وفيما يجدون الطريق إليه من النكاية في العدوِّ يمدُّون ويجيدون. فلمَّا بلغ السير إلى بلدة سيواس، صانها الله من الأندراس، عرضنا عساكرنا المنصورة، وكان عرضها مُذكرًا لِيوم العرض، ومن شاهدها تلا: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ﴾، فرأينا أنَّ الأرض شاكية من إجحاف الجحافل، فانتخبنا منها الأنجاد، وجدَّدنا الجدُود، واستجدنا الجياد، وأعدنا ما وراء البحر بقيَّة الأجناد. ثُمَّ ارتحلنا منها في جُنُودٍ محسورة وبُنُودٍ منشورة، لِلعدُوِّ طالبًا، وبِالعزم غالبًا، ولِلنصر صاحبًا، ولِذيل العزِّ ساحبًا، فنزلنا على بلدة أرزنجان فطار الخبر إليه، فطار قُلُوبُ من معهُ رُعبًا وطاشت، وخضعت أفئدتهم خوفًا من جيش الإسلام وجاشت. وأرسلنا إليه منها كتابًا آخر، داعيًا لِلطعن والضَّرب، مُستدعيًا منه المُقارعة والحرب، ومن موضعٍ آخر كتابًا رصيف المباني، مُؤكدًا لِلأوَّل والثاني، وأردفنا رسولًا بِرسول، وألزمناه القتال بِمعقولٍ ومنقول ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾. فسرنا منها نحو سرير مُلكه شهرًا، وبدَّلنا ثياب العُهُود سرَّها جهرًا، وخطبنا من الله الكريم بكر فتح، وجعلنا بذل المهج لها مهرًا، وصار العدوِّ المخذول في هذه الأيَّام يطوف حول القُرى من قريةٍ إلى أُخرى، بحيث لا يُعرف شأنه ولا يُعلم مكانه.
فإذا بلغنا المنازل القريبة من بلدة تبريز، دعته الضلالة إلى المُكابرة بِحسِّه، وخطاره بِنفسه، عيَّن لِجُنُوده، وثبَّت وُفُوده، وبلَّ ندى جُمُوعه، وصبَّ عليهم ماء دُرُوعه، فسار بِكثره وقِلِّه، وجُزئه وكُلِّه، وجاء والإدبار قائده، والخُذلان رائده، موضعًا يُسمَّى بِخالدران، فاختاره لأن يكون معارك القتال، ومصارع الرجال، ومجامع الأبطال، ومطالع اللقاء، ومواضع الهيجاء، ومصالت الإقدام، ومثابت الأقدام، ومواقف الصُّفُوف، ومصاف الوُقُوف، وأماكن البُعُوث، ومكامن اللُّيوث، وقادها هُنا تُطرح الرؤوس، وتُمسك النُفُوس، وتُسفك الدماء، وتُهلك الدُهماء، ويُسمح بِالرُّوح، ويُصبر على اقتراح القُرُوح، واجتراع الجُرُوح. وإذ قرع مسامعنا هذا الخبر، بذلنا الجُهد…مُلاحظة 2 على مُقابلتهم ومُعاينتهم، فطوينا المراحل، وقطعنا المنازل ذلك اليوم، فمرقنا وقت العصر على جبلٍ منيعٍ نرى منه خيامهم، وخلفهم وقُدَّامهم، فضُربت سرادقاتنا، ورُكِّزت أعلامنا، فحجز الليل بين الفريقين، وحجزت الخيل على الطريقين. وكان الجمعان في تلك الليلة الظلماء على تعبئتهما، وإجابة داعي الموت بِتلبيتهما، وبات الإسلامُ لِلكُفر مُقابلًا، والرُّشد لِلرفض مُقاتلًا والهُدى لِلضلالة مُراقبًا، والحقُّ لِلباطل مُجاريًا، وهُيِّأت دركات النيران، وهُنِّأت درجات الجنان، وانتظر مالك، واستبشر رضوان.
فلمَّا تجلَّى الصبح وعموده، وانهزم الليل وجُنُوده، وانتكست أعلامه وبُنودُه، نفر النفير غُراب الغُبار، وانتبهت في الجُفُون الصوارم وسقط النار، وكان اليوم يوم الأربعاء، وهو اليوم الثاني من شهر رجب المُرجَّب. وماجت خضارمنا، وهاجت ضراغمنا، وثارت غمائمها، سدَّت الأُفق غمائمها، وترتَّبت أطلابنا على قلبٍ وجناح، داعين لِلفوز والنجاح، وعُيِّن لِكُلِّ أميرٍ موقفٍ لا يبرح عنه، ولا يغيب جمعه ولا أحدٌ عنه، فاتحدنا عليهم بِهيئةٍ مهيبة، وأُبَّهةٍ عجيبة، والتوفيق مسامرنا، والتأييد مُؤازرنا، والتمكين مُقارننا، والجدُّ مُكاثرنا، واليمين مُحاضرنا، والقدر مُسامرنا، والظَّفر مُجاورنا، والإسلام شاكرنا، والله ناصرنا. وقابلنا العدُوَّ والخُدور في عدَّتهم وعديدهم، وقُوَّتهم وحديدهم، بِالسلاهبمُلاحظة 3 المُجنَّبة، والقواضب المُقرَّبة، والصوائب المُجعَّبة، عارضًا لِهامةٍ ناير الغنامة، باشر الأعلامة، فسار عسكره، وثار عنتره، ونعرت كوساته، وصاحت بوقاته، وكانوا في زهاء ألف [ألف]مُلاحظة 4 أو يزيدون، ويكيدون وما يكيدون. فلمَّا أحسَّ في نفسه عدم الاستطاعة من ضرب حُسامنا، وسطوة عبيدنا وخُدَّامنا، جعل جُمُوعه فرقتين، وصُفُوفه شرذمتين، فعيَّن لأحدهما قسمٌ رأسه، وشكيمته بأسه، أميرًا هو الحاكم للديار البكريَّة، المعروف بِمُحمَّد استراحالي، فأرسلهُ على ميمنتنا البادة، وهجم بِنفسه وجيشه ومطاعينه وشياطينه على ميسرتنا السَّادة، فتصادم الصُّفُوف، وتزاحم الرُّجُوف، وأُطلقت الأعنَّة، وأُشرعت الأسنَّة، وقامت الحُرُوب بين أهل الحق، وبين الطائفة الجافية الفاجرة، وقد كانت لهم آيةٌ في: ﴿فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ﴾.
واشتدَّ الهياج، وامتدَّ العجاج، وتصافح الصفاح، وتشاجر الرماح، وتكاثر الجراح، واشتغل الضرام، وتطايرت السهام، تضايق المجال، وتسابقت الآجال، والتفَّت الساق بالسَّاق، وتلاعبت الأسياف بالأكتاف، وخضَّبت الدماء الخناجر، وبلغت القُلُوب الحناجر. وأمَّا الطائفة التي أتت على الميمنة فقام أمير الميمنة في صُدُورهم، وأشرع الأسنَّة في نُحُورهم، وروى اللهازم من تامورهم، ودفع صولتهم، ومنع سطوتهم، وكسر حدَّتهم، فهزمهم بإذن الله، ولم يبقَ أحدٌ من شريفهم وخسيسهم، حتَّى حزَّ رأس رئيسهم. وأمَّا حال الميسرة فجاء عليه العدوّ المُدبِّر بِرُمَّته وكُليَّته، وبذل جُهده، واستفرغ ما في وسعه وقُدرته، فحمل عليهم حمل الليث الحاذر، وسطا عليهم سطوة الأسد الزائر، لكنَّ السيل إذا بلغ الجُب الراسي وقف، والليل إذا انتهى إلى الصُّبح انكشف. وتناوبت الحملات، وتناوبت الأسلاتمُلاحظة 5، والصُفُوف ما خرجت عن مقارِّها، ولا انزعجت عن محل قرارها، وواصل النبال النصال، والنصال النبال، فثبت في وُجوههم منَّا صفٌ مرصوص البُنيان، وأسرعوا إلى نحو تلك الذئاب ثعالب الحرصان، وقُتل جمٌّ غفيرٌ من الغاوي، فمُلأت منهم دركات النيران، واستُشهد منَّا جماعة استحلوا طعام الطعان، وساقهم خبا الجِنان.
وكان أمير الميسرة مقروحًا بِقُرُوحٍ عديدة، ومجروحًا بِجُرُومٍ مُبيدة، فخرج عن مواضع الهيجا، واندرج بعد ساعةٍ في زُمرة الشُهدا، والصالحين والسُّعدا، فما أثَّر في أحزابنا هذا النصب، ولا صدَّهم عن الطلب ذلك التعب. فبرز الأمر العالي أن يمدُّهم جماعة من العلوجيِّين، وحزبٌ من الغُرباء وثُلَّةٌ من الآجلين، فلمَّا نالهم المدد تسنَّت لِلإسلام مناهج، ووُضِّحت لِلسعادة مباهج، وتألَّفت في الإقدام مُقدِّمات ونتائج المناهج، والتأمت في مدِّ الرحال مدارج، واتفقت حسنات، وحسُنت اتفاقات، وكانت لنا كسرات، ولِأعدائنا مساءات. وساعدت الأقدار وتباعدت الأكدار، كُلَّما حلُّوا رُدُّوا وأرادوا، وكُلَّما ساروا وشدُّوا أُسروا وشُدُّوا وناسبهم النشَّاب، فعادت أُسُودهم قنافذ، وسابقتهم السهام، فوسَّعت فيهم الخرق النافذ، واستُعملت الكفيات، الصريزاياتمُلاحظة 6، فمطرت عليهم البنادق والحجارات، ﴿كَصَيِّبٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِىٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ ۚ﴾، فصار حسب حالهم ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَٰحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَآ إِلَىٰٓ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾، وحلَّ بهم الصغار، والذُّلَّة والدمار، فأووا إلى جبلٍ لِيعصمهم من طوفان الدمار. فمنَّ الله علينا بِالفتح الجميل، وأيَّدنا من عنده بِالنصر الجليل، فزُلَّت أقدامهم، ولم تخفق لوقفة أعلامهم، بل رأوا النجاة من أيدي الرزايا، والخلاص من حبائل المنايا، والخُرُوج عن الولايا، فخرجوا عنها هاربين، ولِلنجاة طالبين، وقطعوا المنازل، وطووا المراحل، وتركوا الدواب والرحال، وطرحوا الأحمال والأثقال، وعدُّوا فراسخ الفرار، وإن امتدَّت خُطوة، وأيَّام الهرب، وإن طالت لمحة، وهذه حالهم، وشرٌّ منَّا ما لهم، لا يحميه جارٌ، ولا تأويه دارٌ، وكُلُّ ذلك عاقبة الظالمين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
فأمَّا من أُسر فلم يكفِ أطناب الخيام لِقيده وشدِّه، وأمَّا من قُتل فلقد حصرت الألسن عن حصره وعدِّه، فلم تقع عينٌ إلَّا على أشلاءٍ طريحة، وأعضاءٍ جريحة، وأصابع مقصومة، وأشاجع مفصومة، وصُدُورٍ مدصوصة، ونُحُورٍ مبصوصة، وأجسادٍ مُنصفة، وأعضادٍ مُنصفة، وصارت تلك المعركة بالدِّماء دارًا، وعادت الغبراء حمراء، وجرت أنهار الدم النهر، وسُقي بِتلك الخبائث وجه الدين المُطهَّر. فقعدنا في ذلك المنزل يومًا واحادًا ثُمَّ أصبحنا على عقبه سائرين، مسرورين محبورين، والوُجُوه سافرة، والألسُن بِأنعُم الله شاكرة، والأنفُس لِلألسنة مُسامرة، والأقدام بِالأقدار مُتظافرة مُتظاهرة، فحللنا بِالطائر الأسعد، والمجد الأمجد، ببلدة تبريز. وانحسمت الظُلمة المُستولية بِمُقدَّمنا العزيز، فطابت قُلُوب الرعايا، وبُشِّرت من الله بما ظهر من ألطافه الخفايا، لمَّا بدَّلوا من الظُلُمات نورًا، وأعقبوا من الموت نُشُورًا، فوجدناها بلدةٌ أُخربت فيها بقاع الخيرات ومساكن العباد، وعُطِّلت المساجد، فجعل هذا الظالم بعضها إصطبلًا لِلدواب، وبعضها مسكنًا لِلشرَّاد والحدَّاد، فأمرنا أن تعود كُلَّها إلى وضعها القديم، ويُذكرُ فيها اسم الله الرحمٰن الرحيم.
فلمَّا دخل يوم الجُمُعة أصبح الناس يقولون هذا يومٌ كريم…مُلاحظة 7 موسمٌ عظيم، يومٌ تُجاب فيه الدعوات، وتُصبُّ البركات، فطوبى لمن عاش حتَّى حضر هذا اليوم، الذي انتعش فيه الإسلام وارتأس، ما أفضل هذه…مُلاحظة 8 فأشرف من هذه الجماعة التي شرَّفها الله تعالىٰ لِتوفيق هذه الطاعة، امتلأ الجامع، واختلفت المجامع، وتوحَّشت الأبصار والمسامع، وغصَّت بالسابقين إليه المواضع، واجتمع الزَّاهد [و]العابد، وتوافد الرَّاكع والساجد، والخاشع والواجد، والقائم والقاعد، وعبد الأحد والواحد، وأُبكي الحُفَّاظ، فتُلي التنزيل، وأُسلي الوُعَّاظ بِحق الحق، وبطُلت الأباطيل. وصعد الخطيبُ المنبر فخطب وأنصتوا، ونطق فسكتوا، ووعظ في خطبته، وخطب بِموعظته، وتلاها على مذهب أهل السُنَّة وجماعتهم، وذكر الخُلفاء الراشدين، والأئمة المجيدين، رضوان الله عليهم أجمعين، بالتعظيم والتبجيل على ترتيب خلافتهم، بعد أن لم يُذكروا بِالخير أمدًا مديدًا، وعهدًا بعيدًا، ورقَّت القُلُوب، وجفَّت الكُرُوب، وتصاعدت الزفرات، وتجدَّدت العبرات، وصاح التوَّابون، وماج الأوَّابون. فلمَّا دعا بِخُلُود أيَّام دولتنا، وإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ختم بِقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ﴾، ونزل وصلَّى بِالمحراب، وافتتح بِسم الله من أوَّل الكتاب، فصلَّينا معهُ والصُّفوف على سعة المسجد بها مُتَّصلة، والأُمَّة إلى الله تعالىٰ بِدوام نُصرتنا مُبتهلة؛ وامَّا قُضيت الصلاة انتشر الناس، واستمدَّ الإيناس، وطابت النُفُوس والأنفاس.
فنشكُر الله شُكرًا كبيرًا على أن جعل أيَّامنا لِلفُتُوح مواسم، وأوقاتنا لِلزمان مباسم، ومآثرها في ضحو المعالي خالدة، ومناقبنا على ممر الليالي آيدة، ونرجو من لُطفه الخفيّ أن يجعل سعينا مشكورًا، ويُجزينا في الآخرة جزاءً موفورًا. ولا خفاء في أنَّ هذا الفتح الجليل العظيم، والصنيع الجليل الكريم، وفقنا الله به، أمر بِتبييض الأيَّام السود، وأعاد الحُسن المعقود، وأقرَّ الخير في قراره، وأسقط لواء الشرَّ بعد انتصابه، وأضحك وجه الإسلام، وبرَّد صُدُور الأنام. فأصبح ولو كان الفُتُوح جسمًا لحلَّ منهُ محلَّ الفُؤاد، ولو كانت أرضًا لكان سماؤها ذات العماد، وهو جديرٌ بأن تواردت نسبة البُشرى واليُسرى، وتدامت الكُتُب والأخبار على الأكارم والأقانيم، وسلاطين الأقاليم، سيَّما على حضرة من كان مقامنا الشريف، وثغره المُنيف، وشرف الجوار، وتفاوت الدار، وكمال المودَّة التي تصفوا مشاربها عن الأقذار ومناهلها عن الأكدار، وتُكتب آثارها بِسواد الليل على بياض النهار. فلهذا أُسطرت في اليوم الثالث والعشرين من شهر رجبٍ المُرجَّب، لِسنة عشرين وتسعُمائة، من بلدة تبريز، هذه المُكاتبة الشريفة، مُبشَّرة بما أجدَّهُ الله من الجد، وأُنجز من الوعد، وأُجزل من الوفد، وحلَّى وجه المُؤمنين بِبُشراه بُشرى، وملأ صُدُور المُوحدين مَنًّا، وقُلُوب المُلحدين ذُعرًا.
واختير لِتبليغ هذه البشارة العُظمى، على سبيل السُرعة والاستعجال، إلى مقامكم العالي المفضال، الأميري الكبيري الأوحدي الأمجدي، الأخصّ المُقرَّبي، المُؤتمني خير الدين، حضر رُزقت سلامته، وحمَّلناه من السلام ما هو ألطف من الغمام، والله تعالىٰ يُديم لكم من عاداته أجملها، ونعمه أجزلها، ومنحه أكملها، ما بثَّ الليلُ دُجاه، ونشر الصُّبحُ سناه، وحسبُنا الله ونعم الوكيل.
هوامش
[عدل]- ↑ عباراتٌ مطموسةٌ في النُّسخ الأصل.
- ↑ عبارةٌ مطموسةٌ في النُّسخ الأصل.
- ↑ السلاهب: جمع سَلْهَب، ويُقالُ أيضًا «سَلَاهِبَة»، أي الطويل، والسلهبة من الفساد: الجسيمة.
- ↑ ما بين المعقوفتين تكملة يقتضيها السياق.
- ↑ الأسلات أو الأَسَل: الرِّماح، وكُلُّ حديدٍ رهيفٍ من سيفٍ أو سكِّين.
- ↑ الصريزايات: لعلَّها «الطبرزينات»، وهي من أنواع الأسلحة القديمة.
- ↑ عبارةٌ مطموسةٌ في الأصل بِسبب تلف في ورقةٍ من المخطوط.
- ↑ عبارةٌ مطموسةٌ في الأصل بِسبب تلف في ورقةٍ من المخطوط.