انتقل إلى المحتوى

رحلة جرجي زيدان إلى أوربا/ثانياً: إنكلترا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة










ثانياً - إنكلترا









١ - نظام حكومتها

إن نظام الحكومة الإنكليزية من النوع الملكي المقيد وإنكلترا من أعرق الأمم في الدستور وهي أم الحكومات الدستورية يرجع الحكم فيها إلى رأي الأمة فلا تسن الحكومة قانوناً أو تنفذ رأياً إلا بعد موافقة الأمة عليه وينوب عن الأمة مجلسان يباحثان الحكومة ويجادلانها أو يقترحان عليها هما: مجلس الأعيان ومجلس العموم ويعبر عنهما بالبرلمان تأسسا في أوائل القرن الرابع عشر. ويلتئم البرلمان بإيعاز الملك بعد إشارة المجلس الخصوصي قبل وقت اجتماعه بخمسة وثلاثين يوماً على الأقل. وجرت العادة أن يوالي اجتماعه بين فبراير وأغسطس من كل سنة للنظر فيما يعرض عليه من الشؤون. وبعد المباحثات والاقتراحات يصدر قراراته بأغلبية الأصوات.

يتألف مجلس الأعيان من الأشراف ويبلغ عدد أعضائه نحو ٦٥٠ عضواً وتنال عضويته إما بحق الإرث أو باقتراح الملك أو باستحقاق المنصب كالأساقفة ونحوهم أو بالانتخاب. ويتألف مجلس العموم من أعضاء ينتخبهم عامة الشعب لينوبوا عنهم وفيهم من ينوب عن المقاطعات أو المدن أو المراكز أو نحوها من إنكلترا وسكوتلاند وأيرلندا. ويشترط في المنتخب أن يكون بالغًا رشده
غرفة منام نابوليون الاول

وأن يكون اسمه مقيداً في سجل المنتخبين. وللحكومة شروط في نيل حق الانتخاب لا محل لها هنا. ويبلغ عدد المنتخبين نحو سدس الأهلين ثلاثة أرباعهم من إنكلترا والباقون من سكوتلاندا وأيرلاندا. وانتخاب أعضاء البرلمان سري ولا يُنتخب عضو لم يتجاوز سنه ٢١ سنة ولا يجوز انتخاب أحد من الأشراف لعضوية مجلس العموم.

والقوة التنفيذية في الدولة الإنكليزية في قبضة الوزارة أو مجلس الوزراء لكنها تصدر باسم جلالة الملك. على أن هذا المجلس يتوقف تعيينه على مجلس العموم فهو يعين رئيس الوزارة بأكثرية الأصوات وهذا يشكل الوزارة ولذلك كانت الحكومة في أيدي الشعب. ومجلس الوزراء أو النظار عندهم مؤلف من ١٨ وزيراً كل منهم يتولى رئاسة دائرة من دوائر الحكومة وهي ثماني عشرة دائرة أو وزارة: الخزينة والعدلية والختم الخاص والخارجية والهند والداخلية والمالية والمستعمرات والحربية والبحرية وأيرلندا والتجارة والمحلية والمعارف وسكوتلاندا والزراعة والأسماك والبريد ولانكستر. على كل منها رئيس.
٢ - عظمتها وعمرانها

إن المملكة الإنكليزية بما يلحقها من المستعمرات أعظم الممالك المتمدنة وأكثرها سكاناً وأوسعها ثروة وهي تتألف من بريطانيا العظمى وتشتمل على إنكلترا وويلس وسكوتلاندا وأيرلندا. ومن مستعمراتها الكثيرة في القارات الخمس، فمساحة بريطانيا ١٢١٣٩١ ميلاً مربعاً وعدد سكانها نحو ٤٥٠٠٠٠٠٠ نفس. وأما المستعمرات فإنها أوسع من ذلك كثيراً تقدر مساحتها بأضعاف مساحة بريطانيا. فهي تزيد على ١١٥٥٩٠٠٠ ميل مربع وعدد سكانها يزيد على ستة أضعاف سكان بريطانيا أي نحو ٣٠٠٠٠٠٠٠٠ نفس تتفرق على هذه الصورة:

مستعمراتها مساحتها بالأميال عدد سكانها
في أوربا ١١٩ ٢١٣٦١٥
في آسيا ١٦٣٧٢١٥ ٢٣٨٦٦٤٦٠٩
في أفريقيا ٢٨٨٠٣١١ ٤٣٤٦٧٦١٥
في أمريكا ٣٨٦٥٢٦٥ ٧٤٢٦٤٦٣
في أوستراليا ٣١٧٦٠٢٢ ٥١٢٠٩٩٦
(المجموع) ١١٥٥٨٩٣٢ ٢٩٤٨٩٣٢٩٨
وتناهز ميزانية الحكومة الإنكليزية نحو ٢٠٠ مليون جنيه تجمع من الضرائب المختلفة وتنفق في مصالح الحكومة والجندية والديون وغيرها.
ثروة الأمة الإنكليزية

وإذا نظرنا إلى ثروة الأمة الإنكليزية رأينا ما يدهش العقل. وقد عقد أحد الباحثين فصلاً ضافياً في مجلة القرن التاسع عشر الإنكليزية في هذا الموضوع: خلاصته أن تجارة بريطانيا الخارجية بلغت في العام الماضي نحو ١٨٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه أكثرها حمل في البحار وأن ثروة الأمة الإنكليزية نحو ٢٥٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. ودخلها في السنة نحو ٣٣٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. وما من دولة تداني الأمة الإنكليزية في الثروة. والمشهور أن الأمة الفرنساوية تدانيها أو تفوقها. ولكن كاتب المقالة المتقدم ذكرها يجعل ثروة فرنسا نصف ثروة إنكلترا أي نحو ٢١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه ويقول إن أقرب الأمم ثروة إلى الإنكليز الولايات المتحدة الأمريكية فإنه يقدر ثروتها بنحو ٢١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه.

وأكثر ثروة الأمة الإنكليزية في بريطانيا يليها الهند وكندا وأوستراليا على هذه النسبة:

ثروة الأمة دخلها
إنكلترا وويلس ١٣٧١٦٧٧٩٠٠٠ ١٧٤٠٠٠٠٠٠٠
سكوتلاندا ١٤٥١٦٢٥٠٠٠ ١٧٣٥٠٠٠٠٠
أرلندا ٧١٤٢٧٩٠٠٠ ١٠٣٠٠٠٠٠٠
الهند ٣٦٠٠٠٠٠٠٠٠ ٦٠٨٠٠٠٠٠٠
كندا ٢٠٧٢٠٠٠٠٠٠ ٢٥٩٠٠٠٠٠٠
أوستراليا ١٣١٢٠٠٠٠٠٠ ١٦٤٠٠٠٠٠٠
جنوب أفريقيا ٦٠٠٠٠٠٠٠٠ ٧٥٠٠٠٠٠٠
نيوزيلاند ٣٢٠٠٠٠٠٠٠ ٤٠٠٠٠٠٠٠
الحمايات وغيرها ١٢٠٠٠٠٠٠٠٠ ١٧٠٠٠٠٠٠٠
الجملة ٢٤٩٨٦٦٨٣٠٠٠ ٣٣٣٢٥٠٠٩٠٠

وقابل الكاتب بين دخل الأمة الإنكليزية وما تنفقه في الدفاع عن حوزتها فبلغ نحو ثلاثة جنيهات عن كل مائة جنيه من الدخل أي ١٠٢٠٠٠٠٠٠ جنيه.

ويهمنا من هذه المملكة الواسعة في هذا المقام لندن العاصمة لأننا درسناها أكثر من سواها وفيها المتاحف والآثار سنصفها مع بعض البلاد الأخرى فيما يلي:

٣ - حالتها العلمية

التعليم في إنكلترا ثلاث درجات: الابتدائي والثانوي والعالي فنقتصر هنا على وصف التعليم العالي في الكليات والجامعات. وأقدم هذه المعاهد العلمية بني خارج لندن. وأقدم جامعات لندن أُنشئت سنة ١٨٣٦ وظلت هذه وحيدة في لندن إلى أوائل القرن الحاضر فأُنشئ سواها كما ستراه. وأما خارج لندن فيرجع تاريخ بعض الكليات إلى الأجيال الوسطى. وأرقاها جميعاً جامعتا أكسفورد وكمبريدج وسنعود إليهما عند وصف هذين البلدين من رحلتنا. أما سائر الجامعات والكليات في بريطانيا فأقدمها أُنشئ في اسكوتلاندا في القرن الخامس عشر. وهذا جدول بأسماء جامعات بريطانيا وكلياتها حسب سني إنشائها:

اسم الجامعة مقرها سنة تأسيسها
جامعة سنت أندرو اسكوتلاندا ١٤١١
« كلاسغو « ١٤٥٠
« أبردين « ١٤٩٤
« أيدنبرج « ١٥٨٢
« دبلن أيرلندا ١٥٩١
« درهام إنكلترا ١٨٣١
« لندن لندن ١٨٣٦
« فكتوريا ١٨٨٠
« برمنهام برمنهام ١٩٠٠
« لفربول ليفربول ١٩٠٣
« ويلس ويلس ١٩٠٣
اسم الجامعة مقرها سنة تأسيسها
جامعة ليدس ليدس ١٩٠٤
كلية جامعة لندن لندن ١٩٠٥
جامعة شفيلد شفليد ١٩٠٥
« برستول برستول ١٩٠٩
« أيرلندا الوطنية دبلن ١٩٠٩
« بلفاست أيرلندا ١٩٠٩

وهناك جامعات وكليات أخرى في سائر مدائن إنكلترا الكبرى مثل منشستر وغيرها. وأكثر الجامعات مؤلف من كليات تختلف عدداً باختلاف أهميتها. ففي جامعة لندن ٢٤ كلية وفي جامعة أكسفورد ٢٢ كلية وفي كامبردج ١٧ كلية وتختلف أيضاً في عدد الأساتذة والتلاميذ. ولكن يقال على الإجمال إن الأساتذة في تلك الجامعات يتجاوزون بضعة آلاف والتلامذة يُعدون بعشرات الألوف. ولأكثر هذه الجامعات أوقاف متوارثة يُنفق من ريعها على التعليم وفيها المعامل الكيماوية والبكتيريولوجية والمعارض التشريحية والجيولوجية والنباتية والحيوانية وغيرها. أما المدارس الابتدائية والثانوية فيضيق المقام عن وصفها.

ومعظم هذه المدارس تنفق الحكومة عليها، على أن جمعيات التعليم كثيرة في إنكلترا مما أُنشئ لتهذيب الناشئة من الفقراء: منها جمعية في لندن تُسمى «لله وللوطن» أُنشئت من ٤٧ سنة لجمع اللقطاء والمتشردين من الذكور والإناث وتعليمهم وتربيتهم وتثقيف عقولهم. وهي تجمع الإعانات من أموال المحسنين. وقد بلغ المال الذي جمعته إلى الآن نحو ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه منها ٢٣٥٠٠٠ جنيه جُمعت في السنة الماضية. وبلغ عدد الذين آوتهم من الأطفال والمساكين في السنة المذكورة ٩٠٤٩ غلاماً وهي تعتني بهؤلاء المساكين وتعلمهم الصنائع وتبعث بهم إلى المستعمرات ولا سيما كندا وتشترط في قبول المعوزين أن يكونوا مقطوعين ولا نصير لهم. ولا يقبل منهم إلا ما بين الطفولية إلى السنة ١٤ ولها بضعة عشر مركزاً في لندن والولايات المتحدة ورئيسها اسمه الدكتور برناردو.

وللإنكليز فضل كبير على العلم الحديث ولا سيما بما يتعلق بالاختراعات المحسوسة التي توقف عليها تسهيل المواصلات وتقريب المسافات كالسكك الحديدية والآلات البخارية وكثير من الصنائع الحديثة كالنسيج والغزل والخياطة. ومنهم شارب دروين صاحب مذهب النشوء والارتقاء وشكسبير مؤسس نهضة الأدب العصري وولتر سكوت وملتن غير أصحاب الاكتشافات العلمية في الطب والكيمياء والطبيعيات وعلم الحياة والاجتماع ومنهم ليستر وجنر وهكسلي وسبنسر غير رجال السياسة والإدارة أصحاب الأدمغة الكبيرة.

ومن قبيل الحالة العلمية تكاثر المكاتب وغرف المطالعة وهي عديدة. وكذلك الصحافة فإن في لندن وضواحيها نحو ٤٠٠ صحيفة بعضها يطبع مئات الألوف من النسخ كل يوم - غير المراسح للتمثيل والمعارض العلمية والجمعيات العلمية والأدبية والأكاديمية وغير ذلك مما يطول شرحه.

وفي إنكلترا اليوم حركة فكرية وإقدام على الكتابة والتأليف في المواضيع المختلفة وقد أحصى بعضهم أشهر الكتاب الإنكليز المعاصرين ورتَّبهم حسب المواضيع وخلاصة ذلك كما يأتي:

عدد الكتاب عدد الكتاب
١٢٥ في الأدب ٣٥ في التاريخ الديني
١٧٢ « التراجم والمذكرات ٥٢ « تاريخ إنكلترا
٥٧ « الدين ٤٠ « التاريخ الحديث
٨٩ « التمثيل ١٢٠ « سائر التواريخ
١٦ « انتقاد التمثيل ١٢٠ كتاب الصحف
٣٥ « الاقتصاد السياسي ٦٠ في القضاء
٦٠ « التهذيب ١٥٠ « اللغة الإنكليزية وآدابها
٥٥ « الآثار القديمة ٢٠٠ « سائر اللغات
٢٥ « هندسة البناء ٢٠ « الموسيقى
٥٥ « الفنون الجميلة ٤٥ « الفلسفة
٥٧٠ « الفكاهات والروايات ١٨٠ « الشعر





لا اطار
لا اطار
مشايخ مصريون في زمن بونابرت
عدد الكتاب عدد الكتاب
٤٨ في السياسة ٤٩ في علم العمران
٣٨ « الطب ٥٠ « الصيد وتوابعه
٤٩ « التاريخ الطبيعي ١٤٠ « اللاهوت
١٥ « الرياضيات ١٤٥« السياحات ونحوها
١٢ « الجيولوجيا ٣٠٢٧ (الجملة)
لندن
هي عاصمة المملكة الإنكليزية طولها ١٤ ميلاً ومتوسط عرضها نحو عشرة أميال ومساحتها بالتقريب نحو ١٣٠ ميلاً مربعاً. فيها ٨٠٠٠ شارع إذا اتصلت حتى يتألف منها شارع واحد كان طوله ٣٠٠٠ ميل. وأحصوا أبنيتها بنحو ٦٥٠٠٠٠ بناء منها: ١٥٠٠ كنيسة و٦٥٠٠ محل عمومي و١٧٠٠ نادٍ و٥٠٠ أوتيل. وهي أكثر مدائن العالم سكاناً يقدر سكانها بنحو ٦٠٠٠٠٠٠ نفس أكثرهم من الإنكليز طبعاً لكن فيها جماعات كبيرة من الأمم الأخرى. حتى قالوا إن فيها من الاسكوتلانديين أكثر مما في أبردين ومن الأيرلنديين أكثر مما في دبلن. وفيها من اليهود أكثر مما في فلسطين. ومن الكاثوليك أكثر مما في رومية. وسنعود إلى وصف المتاحف والتحف، ونكتفي هنا بذكر الفرق بين لندن وباريس:
الفرق بين لندن وباريس
(١) إنهما توأمان في الفخامة والعظمة ولكن لندن أوسع مساحةً وأضخم أبنيةً وأظلم جواً. وأما باريس فإنها أجمل منظراً وأكثر زهواً وأشرق سماءً وأصفى هواءً.
(٢) ليس في لندن أماكن للجلوس في سبيل اللهو أو الراحة كالقهوات والبارات التي ذكرناها في باريس. فالغريب إذا احتاج إلى الراحة في غير المنازل ليس له إلا المقاعد في الحدائق العمومية أو يمر بالشوارع للفرجة. وفي لندن حانات كثيرة لأنواع الخمور وحوانيت لشرب الشاي أو القهوة أو غيرهما من المرطبات أو المخدرات. لكنها كالمخازن التجارية تطلب ما تريده وتتناوله وتنصرف كما تفعل لو أردت تناول الطعام في مطعم. وليس عندهم مجالس للتسلية إلى موائد كما في القاهرة مثلاً. والقاهرة من حيث القهوات وأماكن اللهو كثيرة الشبه بباريس. على أن بعضهم أنشئوا في لندن أماكن من هذا القبيل تشبه ما في باريس لكنها قليلة وليست على قوارع الطرق.
(٣) إن الماشي في شوارع باريس إذا اقتضى أن يوسع لمقبل عليه خوفاً من التصادم تحول نحو اليمين كما يفعل أهل القاهرة. فالمركبات والدواب والناس يتحولون في شوارع باريس إلى يمينهم أما في لندن فبعكس ذلك. لأن المارة في شوارعها إذا تلاقوا تحول كل منهم إلى يساره. وقد نبهوا الناس إلى ذلك بألواح كتبوا عليها قولهم «إلى اليسار» فإذا تلاقى اثنان وتحول كل منهما إلى يمينه لا يتصادمان وكذلك إذا تحولا إلى اليسار. أما إذا تحوَّل أحدهما إلى يمينه، والآخر إلى يساره فإنهما يتصادمان. ولذلك فالفرنساوي والإنكليزي إذا تلاقيا ومشى كل منهما على ما تعوده في بلده لا بد من تصادمهما!
(٤) ليس في لندن أماكن عمومية للفحشاء كما في باريس لأن الحكومة الإنكليزية تحظر على الناس الاتجار بها> خلافاً لمعظم حكومات أوربا وقد أحسنت إنكلترا ويا حبذا لو اقتدت مصر بها في ذلك فأخذته عنها كما أخذت غيره من أسباب المدنية - ولكن مصر أباحت إنشاء تلك الأماكن اقتداء بفرنسا وغيرها من الدول التي تبيحه وقد أخطأت كما بينا ذلك في الهلال.
(٥) إن هيبة التدين ظاهرة في لندن أكثر مما في باريس ولا سيما في أيام الآحاد. فإن تلك المدينة الضخمة التي تعج أسواقها بالناس عجيجاً في أثناء الأسبوع وقد بسطت فيها البضائع وعرضت السلع على قوارع الطرق تصبح في يوم الأحد خاليةً خاوية لا تجد فيها بائعاً ولا شارياً ولا صانعاً ولا عاملاً وإنما يخرج الناس بعد الصلاة للنزهة في الحدائق العمومية أو غيرها في لندن وضواحيها. وهكذا تفعل سائر مدن إنكلترا وقراها حتى السكك الحديدية فإن حركتها تخف في أيام الآحاد والأعياد. فالإنكليز من أكثر أمم أوربا تديناً وقد نفعهم ذلك في كثير من أحوالهم الاجتماعية.
(٦) إن عادة البخشيش شائعة في لندن لكنها أقل كثيراً مما في باريس لقلة القهوات والملاهي كما قدمنا.
(٧) لا تجد في الشوارع العمومية من بنات الرصيف ما تجده في باريس.

وسنعود إلى لندن عند الكلام عن المتاحف والآثار.

٤ - نظام الاجتماع فيها

نظام الاجتماع في إنكلترا يشبه على إجماله نظام سائر الممالك الأوربية من حيث العائلة والحكومة والمدرسة والكنيسة. لكنه يمتاز في إنكلترا بخصائص لا يخلو ذكرها من فائدة هاك أهمها:

١ - طبقات الأمة

لا يخفى أن إنكلترا أم الحكومات الدستورية وأقدم مَن اعترف بحقوق العامة. ومع ذلك فالأمة عندهم مؤلفة من طبقتين متباينتين لا تختلط إحداهما بالأخرى — نعني الخاصة والعامة أو الشرفاء والعمال والأعيان والعموم — وذلك من بقايا القرون الوسطى التي كان فيها اللورد صاحب الأرض وله السيادة هو وأهله على بلده وسائر الناس أعوان له أو عمال في مزارعه. وكان ذلك شأن أكثر أمم أوربا في عصر الإقطاع. لكن أكثرهم عدلوا عنه وساووا بين طبقات الأمة في الحقوق والواجبات. إلا الإنكليز فلا يزال لأهل السيادات القديمة حقوق يمتازون بها عن سواهم في بعض الأحوال السياسية والاقتصادية. ولكل من هاتين الطبقتين شأن خاص مستقل عن شأن الطبقة الأخرى. ونواب الأمة طبقتان في مجلسين: مجلس الأعيان ومجلس العموم. وقد ترى مثل هذين المجلسين في بعض الأمم الأخرى لكنه عند الإنكليز مبني على تسلسل الأرستقراطية من الأجيال الوسطى. ولا يزال كثير من الأرضين ملكاً للشرفاء يتوارثونها ولا يبيعونها بيعاً قاطعاً وإنما يبيعون مرافقها إلى أجل معين والغالب أن يبيعك الشريف الأرض تملكها إلى ٩٩٩ سنة فتدفع له ثمنها أو حق صيرورتها إليك بعد تلك المدة … ويبقى له عليك مال يتقاضاه كل سنة يتم الاتفاق عليه يسمونه في اصطلاحهم (chief) وقد يحتالون في تمليك الأرض حيلة شرعية فيتفق الشاري والبائع على مبلغ يدفعه الشاري مرة واحدة بدل الأقساط السنوية نحو ما تفعل الحكومة المصرية في استبدال معاش المستخدمين. فإذا دفع الشاري ذلك المال صار مالكاً للأرض. عرفنا صديقاً لنا في منشستر ابتاع منزلاً من أحد الشرفاء بألفي جنيه دفعها معجلاً وبقي عليه الأقساط (التشيف) نحو مائة جنيه يدفعها كل سنة. وأخبرنا أنه ينوي أن يستبدل الأقساط بألفي جنيه أخرى فيصير المنزل ملكاً له.

فالإنكليز عندهم الحرية والإخاء وليس عندهم المساواة. على أنهم عاملون على نزع تلك الامتيازات من الشرفاء. وقد أفلحوا في كثير من مطالبهم لكن المساواة الكلية يبطئ الوصول إليها تأصل الأرستوقراطية في نفوس القوم من أجيال متوالية. حتى تراها في كثير من آدابهم الاجتماعية. ومن آثارها المحسوسة أنه ليس في قطر السكك الحديدية درجة وسطى بين الأعيان والعموم. فالقطار عندهم فيه عربات من الدرجة الأولى وعربات من الدرجة الثالثة. ولا تجد درجة ثانية في قطرهم إلا ما يتصل منها بالقطر الفرنساوي وغيرها على الحدود.

٢ - ضرائب الدخل

لا تخلو دولة من ضرائب تضربها على رعاياها تسد بها نفقات رعايتهم والقيام على حراستهم أو القضاء بينهم لكن الإنكليز يزيدون على ذلك نوعًا من الضرائب اقتضاه تفاوت الثروة في طبقات الأمة. فجعلوا مقدار الضريبة بنسبة تلك الثروة ويعولون في تقديرها على الدخل لا على رأس المال فيفرضون على الغني أو التاجر مبلغاً من دخله السنوي يسمونه ضريبة الدخل. أصلها إعانة فرضتها الحكومة على الأمة للاستعانة بها على محاربة الفرنساويين سنة ١٥١٢ فقرر البرلمان يومئذٍ أن يدفع العامة ١٥/٣ من دخلهم تلك السنة والكهنة الخمس. وفي سنة ١٧٩٨ زادوها لمثل ذلك السبب وما زالوا يزيدون الضرائب وينوعونها ويعدلونها حتى بلغت ما هي عليه الآن. وهي تختلف حسب السنين ولكنها نحو خمسة في المائة من الدخل أو شلن في الجنيه. ولا يدفع هذه الضريبة إلا الذي يبلغ دخله ١٦٠ جنيهاً في السنة فما فوق. ولهم شروط لمن يزيد دخله على ذلك إلى ٧٠٠ جنيه فهؤلاء يعفونهم من بعض الضريبة. أما مَن زاد دخله على ٧٠٠ جنيه فيدفع الضريبة كاملة. وقد بلغ دخل الحكومة من هذه الضريبة نحو ٣٢٠٠٠٠٠٠ جنيه في السنة غير ضرائب الجمارك وعوائد الروحيات وسائر المسكرات والمخدرات. وغير حق الرخص والإذن في معاطاة المهن على اختلاف أشكالها.

٣ - العامة والعناية بهم

للعامة في إنكلترا مشاكل من اعتصاب وإضراب كما في فرنسا لكن للإنكليز عناية خاصة بهم ولا سيما طبقات العمال والخدم. لعل ذلك من بقايا واجبات الأرستوقراطية في العهد القديم. لأن رب البلد (اللورد) كان يرى نفسه مسئولاً عن حال أتباعه من حيث أسباب معائشهم. ولو تتبعت تاريخ وضع ضرائب الدخل المتقدم ذكرها لرأيتها تنوعت وتعدلت طبقاً لمصلحة العمال أو الفقراء من أصحاب التجارات الصغرى. كانت في أول وضعها شاملة كل إنكليزي مهما قل دخله ثم أخذوا يعدلونها حتى أعفوا منها أصحاب الدخل القليل الذي لا يزيد على ١٦٠ جنيهاً وخففوها عن الذين لا يزيد دخلهم على ٧٠٠ جنيه وأبقوها على سائر الناس كما رأيت. ولا يخفى أن الأموال التي تجمع من الضرائب تنفق في مرافق الأمة بلا تمييز بين الغني والفقير أو هي لمصلحة الفقير أكثر مما لمصلحة الغني وهي عناية بالعامة كالزكاة في صدر الإسلام تؤخذ من الأغنياء وتنفق في الفقراء.

والحكومة الإنكليزية تعد نفسها وصية على الفقراء من رعاياها فتضع القوانين لمصلحتهم وتجبرهم على اتباعها. أو هي تتولى تنفيذها عليهم — لعلها تتقي اعتصابهم أو إضرابهم — من ذلك قانون صدر في الصيف الماضي ونحن في إنكلترا وضعته الحكومة لمنفعة الخدم وصغار المستخدمين اسمه (National lnsurance act) في ١٤٠ صفحة كبيرة. مآله ضمان مستقبل كل مستخدم في المملكة الإنكليزية سنه بين ١٦ و٧٠ سنة يقل دخله السنوي عن ١٦٠ جنيهاً. وكل عامل يشتغل بيده لحساب نفسه ولو زاد دخله عن ١٦٠ جنيهاً في السنة. فتفرض على كل من هؤلاء أن يختزن من دخله مالًا يعينه في شيخوخته أو مرضه — جعلت ذلك إجبارياً لا يرى العامل مفراً منه بوجه من الوجوه — وهو يشمل الممثلين في المراسح وأساتذة المدارس الصغرى والثانوية وكتاب المصارف والمتاجر وخدام المنازل وعمال المعامل وفيهم أصحاب العاهات البدنية وساقة المركبات والنوتية وغيرهم وكل عامل له رئيس يدفع له أجرة.

وكيفية ذلك الضمان أن الحكومة طبعت أوراقاً كالسراكي أو الاستمارات في اصطلاحنا تفرقها في العمال. وعلى العامل أن يقدم واحدة منها كل أسبوع وعليها طوابع مختومة يشترك هو ورئيسه والحكومة في دفع قيمتها وتختلف تلك القيمة باختلاف راتب
بنات انكليزيات يلعبن بالسيف

العامل. فالرجل الذي تزيد أجرته على شلنين ونصف شلن في اليوم يدفع هو أربعة بنسات في الأسبوع ورئيسه يدفع ثلاثة بنسات والحكومة تدفع بنسين. الجملة تسعة بنسات (نحو ثلاثة قروش ونصف) تُلصق بقيمتها طوابع على الاستمارة وتختم وتُقدم للحكومة كل أسبوع. وإذا كان العامل صاحب هذه الأجرة امرأة تعامل مثل معاملة الرجل إلا ما تدفعه هي فيكون ثلاثة بنسات بدلاً من أربعة ويختلف مقدار المدفوع باختلاف درجة العامل ومقدار أجرته.

والحكومة تحفظ للعامل ما يقدمه كل أسبوع وتختزنه لحسابه وقد تستثمره له فيضمن مستقبله رغم إرادته. ومعظم هذا الضمان من رئيسه والحكومة وهي لا تضرها لكن تنفع العامل المسكين. وفي ذلك القانون شروط وأحكام تفصيلية لا محل لها. لكنها بلا شك من أحسن ما استنبطته القرائح لمصلحة العمال وضمان مستقبلهم على نفقة الحكومة وأصحاب الأموال. فضلاً عما فيها من المشقة على أصحاب التجارات أو المعامل. فإن كل واحد منهم مكلف بالتوقيع على السراكي أو الاستمارات بيده كل أسبوع وقد يكون عنده مائة عامل أو ألف.
٥ - أخلاق الإنكليز
١ - الثبات والتعويل على الحقيقة

للإنكليز أخلاق بارزة واضحة تختلف عما لسواهم من الأمم يمكن تلخيصها بكلمتين نعني (١) «أنهم يجنحون في أعمالهم وشئونهم إلى الحقيقة المحسوسة دون الظواهر» (٢) «أنهم ثابتون في مبادئهم وعاداتهم ومشاريعهم» فإذا عرفت ذلك فيهم هان عليك تعليل أكثر ما يعرض لك من أخلاقهم. والإنكليزي هادئ الخلق يندر أن تتغلب عليه الحدة حتى تخرجه عن طور إرادته ولذلك تجدهم يبحثون في أهم المسائل وأحرج المشاكل ويتجادلون ويتناقشون بهدوء وسكينة. ويغلب في أدلتهم أن تبنى على العقل أكثر مما على العواطف. ويظهر لك الإنكليزي جامداً وقد ترى في نفسك تفوقاً عليه بسرعة الخاطر لكنك عند العمل تجده أثبت منك قدماً وأصبر على التعب وأقدر على المشاريع الكبرى وترى فيه سكوتاً وطول أناة في موقف يستفز سواه ويهيج غضبه وليس ذلك من بلادة في طبعه وإنما هو من قبيل ثباته في أعماله وتعويله على الحقائق فلا يكترث بالصغائر بل يجعل همَّه الغرض الذي يسعى إليه لا يبالي بما يقف في طريقه من العقبات ولا سيما إذا كانت تلك العقبات أموراً وهمية كالكلام في الصحف ونحوها إذا لم يكن مبنياً على حقائق محسوسة - فهو يهمه أن يصل حماره إلى العباسية ولا يلتفت إلى شقشقة المكاري في أثناء الطريق.

٢ - الكبرياء والأنانية

ومن الأخلاق المشهورة عن الإنكليز أنهم متكبرون يترفعون عن مخالطة سواهم من الأمم. وهي تهمه لا تخلو من الحقيقة. إن الإنكليزي معجب بنفسه يفتخر بدولته وأمته وينفرد عن سائر الأمم فلا يزاوجهم أو يختلط بهم إلا بما تقتضيه المصلحة التجارية أو السياسية. ولا عجب فإننا في عصر الأنجلوسكسون كما كان العرب في إبان دولتهم والرومان قبلهم. ولكل أمة عصر إذا تفوقت فيه على سواها توهمت امتيازها الفطري عليهم بالجبلة الأصلية - وهي طبعاً لا تنال ذلك التفوق إلا لمواهب فيها تمتاز بها عن سواها.

ومما يوجه إلى الإنكليز من الانتقاد أنهم أنانيون يحبون الاستئثار بالمنافع لأنفسهم وهو خلق فطري في الإنسان لا يختص بأمة دون أخرى لكنه يظهر في الإنكليزي لأنه لا يبالي أن يظهره ويتمسك به. ولا يهمه ما يسميه الآخرون أريحية أو نجدة ويعدونها من أسمى المناقب فهو لا يعرض نفسه للخسارة لمنفعة سواه كما يفعل الفرنساويون مثلاً أو كما يفعل العرب ويعدونه من مفاخرهم. ولذلك كان العرب أسرع اختلاطاً بالفرنساويين مما بالإنكليز.

ومن مقتضيات الجنوح إلى الحقائق أن الإنكليزي صريح في أقواله وأعماله لا يقول غير ما يعتقده ولو ساءك قوله. فيظهر ذلك منه مظهر الجفاء. ولكنه يعد المجاملة ضرباً من العبث فلا يزال يتجنبك حتى يتعرفك ويثق بك فيمد لك يده ويصافحك ويكون عند ذلك من أخلص الأصدقاء وأظرف الجلساء.

٣ - التربية الأدبية والعقلية
ومن مقتضيات ذلك الخلق أيضاً ما تراه من ثبات الإنكليز في أفضل وسائل التربية البدنية والعقلية ولا سيما الرياضة وهم قدوة الأمم فيها. وقد ألف ديمولان الكاتب الفرنساوي كتابه سر تقدم الإنكليز ليحرض قومه على الاقتداء بهم في التربية والأخلاق والتعليم وغير ذلك. واختص غوستاف لابون أخلاق الإنكليز بالإطراء في كتابه «العوامل الأخلاقية في تكون الأمم» فالإنكليزي رأى بعين الحقيقة أن هذا الضرب من التربية مفيد له فاتبعه ووضع له قواعد أساسها الفائدة الحقيقية بلا زخرف ولا تنميق وزادهم ثباتاً فيها أنهم فطروا على احترام آراء رجال التاريخ وأصحاب المواهب منهم والعمل بها بلا جدال أو نقد — لعله من بقايا خضوعهم للشرفاء في عصر الإقطاع. ولهذه المنقبة فضل كبير في جمع كلمتهم وتأييد مساعيهم لأن الأمة إذا عملت برأي عقلائها كانت كلها عقلاء بخلاف الأمم التي يزعم كل من أفرادها أنه صاحب الرأي الأصوب والنفوذ الأعلى ويرى الانصياع لرأي سواه صغاراً ومذلة كما هو شأن الأمم الضعيفة التي صارت إلى الشيخوخة وآذن الزمان بفساد أمورها وانقضائها.
٤ - الصدق والوفاء

المشهور أن الإنكليزي على الإجمال بطيء الخاطر غير مفرط الذكاء لكنه ناجح على الغالب في أعماله ومشاريعه فما هي علة نجاحه؟ العلة الحقيقية أنهم يعملون بالقواعد التي قرر عقلاؤهم أنها وسيلة النجاح وقد رسخت في أذهانهم بالتربية للأسباب التي قدمناها وهي تعلمهم أن التاجر أو الصانع يجب أن يعول في أعماله على الحقائق مع المنفعة المتبادلة فجعلوا معولهم على الصدق والأمانة والثبات وهي أهم أسباب نجاحهم في أعمالهم الكبرى والصغرى. وقد اشتهر ذلك عنهم حتى جرى مجرى الأمثال. والمشهور بين تجار الأرض أن الإنكليزي إذا سألته عن سعر بضاعته أعطاك آخر سعر يوافقه ولا يفتح باباً للأخذ والرد أو المساومة كما تفعل سائر الأمم.

٥ - المحافظة على التقاليد

قد رأيت الأمة الإنكليزية لا تزال حتى الآن محافظة على الأرستوقراطية رغم إعراقها في الدستورية - حتى الدستور عندها لا يزال محفوظاً بالتقليد أي إنهم لم يدونوا قواعده وشروطه بما يسميه العثمانيون القانون الأساسي أو نحوه. وإنما يجرون به على التقاليد الماضية فيحكمون في شئونه بالقياس على أحكام سابقة أصدرها أسلافهم مع مراعاة مقتضيات الأحوال، وإذا عرضت مسألة لم يسبق الحكم فيها حكموا فيها وعدوا حكمهم سابقة لمن يأتي بعدهم فالإنكليز من أكثر الأمم محافظة على التقاليد المتوارثة. وذلك من قبيل الثبات في أخلاقهم. ولهذا السبب كانوا من أشد الناس احتراماً لرجال التاريخ منهم ينصبون لهم التماثيل ويعملون بأقوالهم. ولنفس هذا السبب جروا في استعمارهم على احترام تقاليد الأمم التي تدخل في سلطانهم أو حمايتهم. فلا يتعرضون لهم في شيء من أديانهم أو عاداتهم بل يساعدونهم على القيام بشعائرهم الدينية أو الوطنية. ولذلك كان الشرقيون أكثر ارتياحاً إلى سيادتهم مما إلى سواها لولا ترفعهم وبعدهم عن المجاملة.

٦ - التدين والنظام

ومن قبيل الثبات والمحافظة على التقاليد أنهم متمسكون بعقائدهم الدينية. ورغم تطرف أكثر الأمم من جيرانهم وزملائهم في الحرية الدينية حتى جاهروا بمناوأة رجال الكهنوت ومطاردة الجمعيات الدينية فالإنكليز ما زالوا متمسكين بأهداب الدين يحافظون على طقوسه وتعاليمه ولا سيما الراحة يوم الأحد فقد ذكرنا كيف يقفلون الحوانيت والمخازن وغيرها في أيام الآحاد والأعياد.

ومن هذا القبيل أيضًا خضوعهم للنظام وتقديسه والإذعان له باحترام وافتخار لا يستنكف من ذلك كبيرهم ولا صغيرهم ولا يرى الملك بأساً أن يعترف بالخطأ بين يدي أصغر رعاياه ولا يعد ذلك حطة. وإنما هو من نتاج جنوحهم إلى الحقيقة واحترامهم إياها. وتجد كتبهم المدرسية مشحونة بالحكايات التي تعلِّم هذه المنقبة وأمثالها من الصراحة بالقول والاعتراف بالخطأ. غير القدوة الحسنة التي يستفيدها التلاميذ من أساتذتهم أو والديهم أو كبارهم في هذا السبيل.

٧ - الشعور بالواجب

إن الشعور بالواجب عام في الممالك الراقية لكنه ظاهر كل الظهور في أخلاق الإنكليز. فالإنكليزي يعرف ما عليه من حق أدبي أو مادي فيؤديه في حينه بلا مطالبة أو استحثاث. يفعل ذلك بهدوء وسكينة. لأنه من أكثر الناس عملاً وأقلهم كلاماً فإذا وعدك بزيارة كن على ثقة أنه منجز وعده وإذا كلفته بخدمة فمن التأدب عندهم ألا يؤكد لك نجاحه فيها وإنما يقول «إني سأجرب» فإذا قال هذا قائل منهم عدوا قوله وعداً أكيداً وهكذا إذا عزم أحدهم على تكليف آخر بخدمة أو مطالبته بحق له أو وعد يتوقعه فإنه يجعل طلبه بصورة الاستفهام أو الشك فيقول مثلاً: «ماذا تظن لو فعلت كذا؟» فيجيبه «أظنني فاعلاً كذا» فيعد ذلك وعداً لا بد من قضائه. وهذه التعابير تكون غالبًا في الطبقة الراقية من القوم.

٨ - المرأة الإنكليزية

المرأة في إنكلترا تشبه سائر النساء في أوربا في أكثر الأحوال الاجتماعية والأدبية لكنها تفرق عنهن بما يقتضيه الخلق الإنكليزية أو التربية الإنكليزية من بعض الوجوه. فهي أميل إلى الحقائق في آدابها وعاداتها وأزيائها. ويمتاز الزي الإنكليزي غالباً بالبساطة لأنهم يلاحظون فيه المنفعة الحقيقية — شأنهم في كل شيء. وإذا رأيت إنكليزية بثوب مزخرف فإنها تقلد به غير الإنكليز.

ومن هذا القبيل انصرافها إلى الرياضة البدنية بالألعاب المشهورة عندهم حتى لعب السيف وركوب الخيل. ولذلك كانت الإنكليزية صحيحة البنية نشيطة الحركة ممشوقة القوام مشرقة الوجه قوية الإرادة وقد أخذت تتشبَّه بالرجال وتجاريهم في أعمالهم وتطرفت طائفة من المتهوسات حتى طلبن حق التصويت في مجلس النواب وبالغن في ذلك وخرجن به عن طورهن الذي خلقن له واستخدمن العنف في مطالبهن. ولا نظنهن إلا راجعات إلى الصواب. وحكمنا على المرأة الإنكليزية من هذا الوجه مثل حكمنا على المرأة الفرنساوية عند كلامنا عن أخلاق الفرنساويين:

«إن المرأة الإنكليزية خلقت لتهتم بشئون بيتها وعائلتها فإذا تحولت عن ذلك إلى أعمال الرجال خرجت عن طبيعتها»
على أن المرأة الإنكليزية في أصل فطرتها كثيرة الخضوع لرجلها تستهلك في سبيل راحته وراحة سائر العائلة ولو مهما كلفها ذلك. لكنها وهي عذراء تتمتع بما يتمتع به الشاب من الحرية الشخصية في ذهابها وإيابها وقيامها وقعودها. فإذا تزوجت انقطعت إلى بيتها ولم يعد يهمها سواه مع احترام زوجها ومعرفة حقه. فلعل المطالبات بحقوق الرجال من غير المتزوجات.
٩ - طريقتهم في الاستعمار

وترى الخلق الإنكليزي الأساسي — نعني التعويل على الحقيقة مع الثبات — ظاهراً في طرقهم السياسية كالاستعمار مثلاً فإن لهم فيه طريقة تخالف طرق المستعمرين فهم ينظرون من وراء الاستعمار إلى الفائدة الحقيقية لا يهمهم زخرف السيادة وأبهة الدولة والتفاخر بسعة السلطة بقدر ما تهمهم المصلحة الحقيقية في الاستعمار. وقد وجدوا بعين العقل أن المصلحة الحقيقية من الفتح أو الاحتلال إنما هي المرافق الاقتصادية أو المالية فيوجهون سعيهم إليها ولا يهمهم بعدها أن تكون لهم سيادة إن لم يكن الغرض منها المنفعة الاقتصادية ومن ثباتهم وطول أناتهم صبرهم على استثمار مطامعهم الاستعمارية أعواماً متطاولة ترسخ في أثنائها أقدامهم أو تسنح لهم فرص يغتنمونها ويؤيدون بها حقوقهم.

ولهذا السبب رأيتهم لا يتعجَّلون وضع الحماية أو إعلان السيادة بل بعكس ذلك يتساهلون مع مستعمراتهم في الاستقلال الإداري حتى لا يبقى فرق يذكر بينه وبين الاستقلال الحقيقي ويهمهم من البلد الداخل في حيازتهم أو تحت نفوذهم أن تكون مصالحهم المادية رائجة فيه ولا يبالون أن يجيئهم ذلك بطريق الاحتلال أو الحماية أو الاستعمار. وعلى هذا المبدأ حلوا قيود أوستراليا وكندا والترانسفال وغيرها. ولا نرى مانعاً من أن يفعلوا ذلك في الهند وغيرها إذا تحققوا ضمان مصالحهم الاقتصادية وبقاء علائقهم الودية وأن تكون لهم الأفضلية من الاعتبارات الأخرى.

فالسطوة التي بلغت إليها الأمة الإنكليزية في هذا العصر تتوقف على أخلاقهم أكثر مما على ذكائهم. إن الأخلاق التي ذكرنا أمثلة منها جعلت أربعين مليون إنكليزي يحكمون نحو ٣٥٠ مليون نفس من أمم شتى في القارات الخمس. وفيهم القوقاسي والمغولي والهندي والزنجي وغيرهم من طبقات الناس يتكلمون عشرات من اللغات المختلفة. إن الإنكليز استطاعوا ذلك بأخلاقهم المتينة وأساسها الثبات والتعويل على الحقيقة وإلا فإن بين الأمم الداخلة في سلطانهم شعوباً لا يقلون عنهم ذكاء ويفوقونهم في كثير من المواهب العقلية وإنما تنقصهم الأخلاق اللازمة للتغلب أو الاستقلال.

١٠ - المدنية الحديثة ومدنية العرب

فالإنكليز من أوضح الأمثلة للأخلاق الملائمة لروح هذه المدينة — وإن كانت لا تلائم المدنيات الأخرى إذ لكل مدنيَّة قواعد تبنى عليها دعائمها ولا تصلح إلا بها فمدنية العرب أساسها مناقب العرب في صدر الإسلام أهمها الأريحية والنجدة والجوار والوفاء والحلم وسعة الصدر وكرم الخلق ونحوها مما لا يلائم المدنية الحديثة. كان الخليفة أو الأمير يعفو أحيانًا عن القاتل لاعتبار قام بنفسه من قول سمعه أو فكر خطر له ويعد ذلك أريحية وكان القوم يتواصون بالعفو عند المقدرة والأخذ بأسباب الكرم يقيمون بيوت الضيافة ينزل فيها الأضياف أشهراً لا يسألهم أحد من هم. وكان لهم ضرب من الارتزاق بالسخاء من الخليفة فمن حوله وأتباعهم وحواشيهم وأعوانهم يقيم في بيت الأمير أو العامل عشرات أو مئات من الناس يأكلون ويشربون ويلبسون ولا عمل لهم وقس على ذلك مما فصلناه في تاريخ التمدن الإسلامي. فهذه المناقب بعيدة عن مقتضيات المدنية الحديثة التي أساسها مبادلة الحقوق والواجبات لا حلم ولا عفو ولا أريحية ولا نجدة. وإنما ينال المرء من الرزق أو المنصب على قدر سعيه ومواهبه بمقتضى القواعد الاقتصادية والاعتبارات السياسية فلا يرتقي في هذا السلك غير العارف بأحكام السياسة الذي ينظر إلى حقائق الأشياء بالنظر إلى مصلحة الأمة ويحافظ على العدالة وشروطها لا ينفق قرشاً إلا في طريقه وغير ذلك من المناقب الشائعة في أوربا لهذا العهد - ولكل دولة أيام ورجال.

٦ - آثارها

لإنكلترا آثار معنوية في نفوس العقلاء مرجعها إلى الإعجاب بأخلاقهم وتربيتهم ونظام عائلاتهم - حتى أعداؤهم فإنهم يعترفون لهم بسمو الأخلاق وثباتها ويحرضون أقوامهم على تحديها.

أما الآثار البنائية فإنها كثيرة في إنكلترا ولا سيما في لندن. وقد ذكرنا شيئاً منها في كلامنا عن هذه المدينة وعددنا ما فيها من الأبنية والشوارع وغيرها. ولا يستطيع المار في شوارعها وساحاتها غير الإعجاب بما يراه منصوباً هناك من التماثيل الفخيمة لمشاهير الرجال فإن الإنكليز كثيرو الاحترام لأسلافهم يقيمون لهم التماثيل كما يقيمونها للقديسين. وكما يعجب الفرنساويون ببونابرت وينصبون تماثيله في شوارعهم وحدائقهم وساحاتهم وقصورهم فالإنكليز يفعلون نحو ذلك بتماثيل ولنتن ونلسن ونحوهما وناهيك بالقصور الكبرى والمعابد الفخيمة فإنها كثيرة في لندن فنكتفي بالإشارة إلى أشهرها مما وفقنا لزيارته في هذه الرحلة فنقول:

١ - كنيسة القديس بولس

إنها قائمة في منتصف المدينة وهي أفخم أبنيتها وأعلاها ومن أقدمها عهداً لم يتفق المؤرخون على أصل بنائها ولكنهم متفقون على أنه كان في مكانها معبد من زمن الرومانيين ثم خرب وأقاموا مكانه كنيسة سنة ٦١٠م واحترقت سنة ٩٦١م فأُعيد بناؤها وتوالى عليها الخراب والترميم مراراً حتى جددت كلها في أواخر القرن السابع عشر على يد مهندس شهير اسمه خريستوفر رين بدءوا ببنائها سنة ١٦٧٥ وتمت سنة ١٧١٠ وأنفق في سبيل ذلك ٨٥٠٠٠٠ جنيه أخذت من الأهلين بضريبة وضعتها الحكومة على الفحم الوارد إلى لندن وكان رين هذا يستولي في أثناء هذه المدة على راتب سنوي مقداره ٢٠٠ جنيه في السنة.

بنيت هذه الكنيسة على مثال كنيسة القديس بطرس في رومية لكنها أصغر منها. ومع ذلك فهي أكبر كنائس العالم بعد كنائس رومية وميلان وأشبيلية وفلورنسا. شكلها كالصليب الروماني طولها ٥٠٠ قدم وعرضها ١١٨ قدماً وعلو قبتها ٣٦٤ قدماً قطر قبتها مائة قدم وقدمان وقطر قبة كنيسة القديس بطرس في رومية ١٣٩ قدماً ويزيد أهميتها في نظر الزائرين ما على جدرانها من النقوش والصور وما أقاموه في جوانبها من تماثيل عظماء الإنكليز وأكثرهم من كبار القواد فهي بهذا الاعتبار معرض عظمة إنكلترا وإنما يفوقها بذلك دير وستمنستر الآتي ذكره.

مدخلها الأكبر من جهة الغرب. وهي قائمة في الداخل على ركائز ضخمة مربعة الجوانب تشبه ركائز جامع السلطان أحمد في الآستانة وتشبهها أيضاً بالشرفة المستديرة المحيطة بأعلى تلك الركائز يتوهم الداخل لأول وهلة أنها كنيسة كاثوليكية لكثرة ما يراه فيها من الصور لكنه لا يلبث أن يرى معظم تلك الصور تمثل مشاهير الرجال لا يستطيع الداخل إليها إلا التهيب مما يشاهده من فخامة البناء وسعة المكان وما نصب في جوانبه من التماثيل الرخامية والبرونزية فيحسب نفسه في ساحة الحرب أو في ساعة الدينونة وقد اجتمع نخبة الرجال ليؤدوا حساباً عما فعلوه أو ليتفاخروا فيمن كان أشدهم بطشاً وأكثرهم فضلاً في تعزيز العلم البريطاني وفي الجناح الأيسر من صحن الكنيسة تماثيل جماعة يعرفهم السودان مثل الجنرال القراء وكان لهم دخل في شؤون مصر ستيوارت قائد الفرقة التي تعجلت الذهاب إلى الخرطوم لإنقاذ غوردون سنة ١٨٨٤ وكنا في جملتها فأُصيب قائدها ستيوارت برصاصة في بطنه في معركة انتشبت بيننا وبين الدراويش قرب المتمة. سقط ونحن نراه ولا ننسى تلك الساعة الرهيبة لأننا كنا في أشد ساعات الخطر وتمثال الجنرال غوردون وقد قتل في الخرطوم قبل وصول الحملة بيومين. وتمثال دوق ولنتون صاحب معركة وترلو وتماثيل الجنرال بتكن والجنرال بونسي قتلا في وترلو والأميرال نابيه قائد الأسطول الإنكليزي في البلطيك سنة ١٨٥٤ وهناك طائفة من الأدباء وأرباب الأقلام بينهم رينولدس المصور وباتريك نابيه وهلاند المؤرخان.

وقس على ذلك التماثيل العديدة في الجناح الأيمن والمواقف الأخرى يعرف القراء من أصحابها الأميرال نلسون الذي أغرق الأسطول في أبي قير سنة ١٧٩٨ واشتهر بمواقع رفع فيها شأن الإنكليز في كوبنهاكن وترافلغار وغيرهما. وقد نقشت أسماء تلك المواقع على قاعدة تمثاله وقد خسر ذراعه اليمنى في واقعة قادس فجعلوه في التمثال متشحاً برداء يغطي تلك الذراع ومنهم الجنرال أبركرومبي الذي قتل في أبي قير سنة ١٨٠١ والجنرال مور الذي قُتل في كروتا بإسبانيا والأميرال هو الذي أنقذ جبل طارق سنة ١٧٨٢ وفي بعض الحنايا تذكار للمقتولين في حرب القرم وحوله الأعلام التي كانت لهم هناك. ومن المشاهد الهامة في هذه الكنيسة قبتها لما تشرف عليه من الأبنية البعيدة فقد صعدنا إلى قمتها بسلم درجاته ستمائة وعشرون درجة فأشرفنا على لندن كلها كما أشرفنا على باريس من قمة برج إيفل أما القبة فلها شأن خاص شاهدنا مثله وراء محراب كنيسة أريني بالآستانة. نعني تفخيم الصوت فإن حول قاعدة هذه القبة من الداخل شرفة مستديرة قطرها نيف ومائة قدم ومحيطها نحو ٣٢٠ قدماً يشرف المار فيها على صحن الكنيسة وتُسمى «قاعة التهامس» دخلناها من باب في بعض جوانبها فرأينا شيخاً يهمس في الحائط بصوت يكاد لا يسمعه الواقف بجانبه فأومأ إلينا أن نذهب إلى مقعد في الجانب الآخر من تلك الشرفة فمشينا ونحن نسمع الصوت يرتفع كلما بعدنا عن ذلك الشيخ فلما وصلنا إلى الطرف الآخر سمعناه كالخطيب يتلو علينا خطاباً في تاريخ هذا البناء.

وتحت أرض الكنيسة سراديب مرصفة بالفسيفساء فيها تماثيل وأضرحة للمشاهير أيضاً منها ضريح للدوق ولنتن من الرخام السماقي قائم على قاعدة من الغرانيت وحوله الأعلام التي اكتسبها من إسبانيا والبرتغال وفرنسا وبجانبه المركبة التي حملت جثته وضريح بكتن زميله في وترلو. وفي مكان آخر يقابل منتصف القبة ضريح نلسون فيه تابوت مصنوع من خشب السارية الوسطى من سواري الدارعة الفرنساوية (لوريان) التي أحرقها أسطوله في أبي قير سنة ١٧٩٨ وبجانبه ضريح رفيقه كولنوود وضريحان لنابيه ونورتسك. وتماثيل جماعات من رجال الأدب والتاريخ بينهم السير وليم هورد رسل أعظم مكاتب حربي في القرم. وأضرحة لنساء شهيرات في العلم وغيره.

٢ - قصر جيلد هول

اشتهر هذا القصر بقاعته التي تُلقى فيها الخطب العمومية. وفيها خطب روزفلت منذ بضع سنين خطابه المشهور الذي ذكر فيه مصر وسياسة إنكلترا فيها. يمر الزائر من كنيسة القديس بولس إلى جيلد هول بشوارع هي أكثر شوارع لندن ازدحاماً - في جهة اسمها شيبسايد يساوي متر الأرض فيها ٢٥٠ جنيهاً.

بني هذا القصر للمرة الأولى في أوائل القرن الخامس عشر مقراً لقضاة ومجالس البلدية ثم تخرب وأُعيد بناؤه وأنشئت فيه القاعة المذكورة وطولها ١٥٢ قدماً وعرضها ٥٠ وعلوها ٨٩ قدماً تجتمع فيها المجالس البلدية للانتخابات ونحوها وتتلى فيها الخطب العامة وفيها حوكم جماعة من المجرمين العظماء مثل أرل سيري واللادي جان غراي وغيرهما وفيها تماثيل مشاهير الإنكليز ولاسيما ونلتن ونلسن وشتام وبت ومور. وفي قاعة أخرى تماثيل أخرى في جملتها تمثالان خشبيان غريبا الشكل يعرفان بياجوج وماجوج ولم نعلم سبب هذه التسمية.

وفي جيلد هول مكتبة فيها ١٤٣٠٠٠ مجلد معروضة للناس.
مجوهرات العرش الإنكليزي

وفيها متحف صناعي للساعات وغيرها من المصنوعات الدقيقة - وخرائط كبيرة وقاعة صور فيها صور تاريخية منها صورة معركة جبل طارق بين الإنكليز والإسبان سنة ١٧٨٢ وصور كثيرين من الملوك وصورة يوبيل الملكة فكتوريا الماسي سنة ١٨٩٧ بالمركبة التي كان يجرها ثمانية أفراس. وتحت الأرض سراديب مثل سراديب كنيسة القديس بولس فيها قبور ونواويس قديمة.

٢ - بنك إنكلترا

نحن الآن على مقربة من بنك إنكلترا الشهير فلا ينبغي لنا أن نمر به سكوتاً. بني سنة ١٧٣٤ وأعيد بناؤه كما هو الآن سنة ١٨٢٧ ليس في ظاهره نافذة لكنهم يضيئونه من الداخل مبالغة في الاحتفاظ به. أما البنك نفسه أي العمل المالي المعروف بهذا الاسم فقد أنشئ سنة ١٦٩٧ وظل هو البنك الوحيد في لندن إلى سنة ١٨٣٤ فأنشئت بنوك أخرى لكنه لا يزال أعظمها جميعاً ويمتاز عنها كلها بأن الحكومة أذنت له بإصدار الأوراق المالية (بنك نوط) كان رأس ماله الأصلي ١٢٠٠٠٠٠٠ جنيه ثم تضاعف مراراً. عدد عماله ألف عامل ولا يخلو من ٢٠٠٠٠٠٠٠ جنيه ذهب مختزنة في سراديبه المتينة و٢٥٠٠٠٠٠٠ جنيه عملة ورق بين أيدي الناس وهو ينوب عن الحكومة الإنكليزية فيما يتعلق بالديون التي عليها وقيمتها ٦٧٢٠٠٠٠٠٠ جنيه بين قبض ودفع وترصيد وفي البنك مطبعة تطبع أوراق (البنك نوط) يصدر منها ٥٠٠٠٠ قطعة كل يوم من فئة خمسة جنيهات إلى ألف جنيه. ويطبع فيها أيضاً البنك نوط الهندي. وآلاتها بغاية الإتقان وطريقة طبعها تستدعي الإعجاب. ومن عادات هذا البنك أن يتلف كل ما يرجع إليه من أوراقه ولا يدفع للناس إلا أوراقاً جديدة خارجة من تحت يد الطابع - لكنه لا يتلف الأوراق المرتجعة حال استلامها بل يحفظها خمس سنوات في خزائن من حديد لئلا يقتضي الأمر مراجعة شيء منها لشهادة قضائية أو نحوها ثم تحرق. ويبلغ عدد ما يجمع عندهم منها في السنوات الخمس ٨٠٠٠٠٠٠٠ ورقة وزنها ٩٠ طناً وقيمتها المالية ١٧٥٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. وإذا فرشت الواحدة بجانب الأخرى في خط واحد تألَّف منها درج طوله ١٣٠٠٠ ميل. وفي البنك آلة لوزن الجنيهات الذهب وفرزها تزن ٣٣ جنيهاً في الدقيقة فما كان منها ناقصاً لفظته خارجاً. وفي البنك مخزن لحفظ المجوهرات ويحرس البنك شرذمة من الجند ليلاً ونهاراً.

واقع على ضفة التيمس وهو من أقدم أبنية لندن وأشهرها. كان معقلاً للملوك ثم جعلوه سجناً للمجرمين العظماء من الملوك أو القواد أو الأمراء. حوله خندق عميق يحيط به ردم سنة ١٨٤٣ وجعلت الحكومة برج لندن الآن ثكنة للجند. ورممت جدرانه ليبقى حصناً. شكله مربع غير منتظم مساحة أرضه ١٣ فداناً عليها عدة أبنية يحيط بها سور مزدوج عليه الأبراج. يقال في تاريخ بنائه إنه يرجع إلى وليم الظافر. أقدم قصوره الآن «البرج الأبيض» بني في القرن الحادي عشر. وهو فخيم وله ذكر رهيب في التاريخ لكثرة من سجن أو قتل فيه من العظماء. أشهر ضحاياه السير توماس مور قتل سنة ١٥٣٥ وحنة بولين قتلت سنة ١٥٣٦ وتوماس كرومويل قتل سنة ١٥٤٠ ومرجريت بول سنة ١٥٤١ والملكة كاترينة هورد سنة ١٥٤٢ والأميرال سيمور سنة ١٥٤٩ واللورد سمرست سنة ١٥٥٣ واللادي جان غراي وزوجها سنة ١٥٥٤ والسير جون إليوت مات فيه سنة ١٦٣٢ وغيرهم كثيرون. وممن سجنوا ولم يقتلوا جون بليول ملك اسكتلندا سنة ١٢٩٦ ووليم ولسن الاسكتلندي سنة ١٣٥٠ وداود برويس ملك اسكتلندا سنة ١٣٤٧ وجون ملك فرنسا أخذ أسيراً في بواتيه سنة ١٣٥٦ ودوق أورليان والد لويس الثاني عشر ملك فرنسا سنة ١٤١٥ والملك هنري السادس وغيرهم. وكان في البرج مأسدة نقلت إلى مسرح الحيوانات العام.

وفي هذا البرج تحف تاريخية لا يوجد مثلها في سواه منها الأسلحة والألبسة والمجوهرات أهمها المصوغات الملوكية سيأتي ذكرها. وأول ما يستلفت نظر الشرقي عند دخوله الباب الخارجي للبرج مدفع عثماني أهداه السلطان عبد المجيد لإنكلترا سنة ١٨٥٧ وإذا دخل البرج فأهم ما يشاهده هناك المصوغات الملوكية الإنكليزية. وقد ذكرنا المصوغات الملوكية الفرنساوية التي شاهدناها في متحف اللوفر لكن هذه أفخم وأثمن.

إن هذه المصوغات أو المجوهرات معروضة في غرفة صغيرة في وسطها دكة مثمنة الأضلاع يكاد يقرب شكلها من الاستدارة. عليها رفوف مرتبة بعضها فوق بعض بشكل هرمي وضعوا تلك المصوغات عليها بحيث يراها المشاهدون. لكنهم أحاطوا تلك الدكة بسياج من شبك الحديد وألواح من الزجاج. وبين الدكة والحائط ممر يكاد لا يتسع لمرور اثنين والحرس وقوف لمراقبة المتفرجين والمصوغات المشار إليها أكثرها تيجان مرصعة بالحجارة الكريمة بعضها قديم، والبعض الآخر حديث وهي: (١) تاج القديس إدوارد صنع لتتويج شارل الثاني. سرقه الكولونيل بلود سنة ١٦٧١ في جماعة من رفاقه بعد أن قتلوا الحارس لكنهم لم يفوزوا بغنيمتهم. (٢) تاج الملك إدوارد السابع صنع في الأصل للملكة فكتوريا سنة ١٨٣٨ ثم جدد للملك إدوارد سنة ١٩٠٢ وهو من المصوغات الحديثة مرصع بجواهر لا يقل عددها عن ٢٨١٨ ماسة و٣٠٠ لؤلؤة وجواهر أخرى. في مقدمه ياقوتة يقال إنها كانت للأمير الأسود أعطاه إياها دون بادرو صاحب قسطيلة سنة ١٣٦٧ وقد وضعها هنري الخامس على خوذته في معركة أجنكورت. تحتها ماسة كبيرة تُعرف بالماسة الكولينية قدمتها حكومة الترنسفال إلى الملك إدوارد سنة ١٩٠٧ وهي تنسب إلى ماسة اسمها كولينا سيأتي ذكرها وفي مؤخرة التاج حجر صغير يقال إنه كان لإدوارد المعترف. (٣) تاج ولي العهد من الذهب الخالص غير مرصع. (٤) تاج زوج الملكة ذهب مرصع. (٥) تاج الملكة ذهب مرصع. (٦) تاج الملكة هو طوق من الذهب مغشى بالماس واللؤلؤ وقد صنع كلاهما للملكة ماريا ديست زوجة جيمس الثاني. (٧) صولجان الملك إدوارد من الذهب الخالص طوله أربعة أقدام ونصف ووزنه ٩٠ رطلاً مصرياً قبضته ضخمة كالتاج يقال إن فيها قطعة من ذخيرة عود الصليب. (٨) الصولجان الملوكي طوله قدمان وتسعة قراريط عليه صليب مرصع بالحجارة الكريمة. (٩) صولجان الحمامة أو عصا المساواة على رأسها تمثال حمامة باسطة جناحيها. (١٠) صولجان آخر فيه صليب مرصع. (١١) الصولجان العاجي للملكة ماريا ديست فوقه حمامة من العقيق الأبيض. (١٢) صولجان الملكة ماري زوجة وليم الثالث. (١٣) مثال ماسة «كوه نور» الشهيرة وهي من أكبر حجارة الماس المعروفة وزنها ١٦٢ قيراطاً والماسة الأصلية الآن في قصر وندسر وكانت قبلاً في حوزة ملك لاهور ووصلت إلى أيدي الإنكليز سنة ١٨٤٩ لما فتحوا البنجاب. وشاهدنا مصوغات أخرى ثمينة منها أساور تتويج والمهماز الملوكي وإبريق زيت التتويج بشكل النسر والخاتم والملعقة والمملحة وغير ذلك. ويقدرون قيمة هذه المصوغات بمبلغ ٣٠٠٠٠٠٠ جنيه وفي تلك الغرفة خزانة (فترينة) فيها أمثلة من الأوسمة الكبرى ومثال للماسة الترنسفالية المسماة كولينا. أما كولينا الأصلية فقد قسموها إلى الماسة التي تقدم ذكرها في مقدم تاج الملك إدوارد وقسَّموا الباقي إلى ماسات وضعوها على الصولجان.

معرض الأسلحة

وفي برج لندن معرض للأسلحة والأدراع فيه أمثلة من المدافع والبنادق والسيوف والحراب والفئوس لبعضها ذكر تاريخي. منها سيف جلاد ملك أود وأسلحة هندية الأصل أو عربية. ومنها المدفع الذي غنمه الفرنساويون من مالطة سنة ١٧٩٨ وحملوه على الدارعة سنسيبل الفرنساوية فاسترجعه الإنكليز وهم على الباخرة سيهورس بقيادة القبطان فوت. وهناك أمثلة من آلات العذاب كالجامعة التي تقبض على الإبهامين معاً والفلق الذي يقبض على القدمين والأطواق بالإحاطة بالأعناق. وبينها فاس لقطع العنق صنع سنة ١٦٧٩ وبجانبه البلاطة التي يسند العنق إليها عند القطع. ومن الأدوات الحربية التاريخية ملاءة التف بها الجنرال وولف لما جرح سنة ١٧٥٩ وعليها مات. وثوب الدوق والمركبة المدفعية التي حملوا عليها جثة إدوارد السابع.

وفي قاعة أسلحة الفرسان كثير من الأدراع والرماح والخوذ والسهام على اختلاف الأعصر من القرن الرابع عشر فما بعده. وتماثيل أفراس عليها تماثيل فرسان بالألبسة الرسمية والأدراع الثمينة أحدها يمثل هنري الثامن على جواده وعليه درعه. وآخر يمثل جيمس الثاني سنة ١٦٨٨ وآخر يمثل شارل الأول وعليه درع مغشاة بالذهب. وهناك غرفة لها ذكر تاريخي لأنها كانت قاعة المجلس وفيها تنازل ريتشارد الثاني عن الملك وغرف أخرى كانت سجوناً استخدموها الآن لحفظ السجلات وغيرها.

وفي ساحة البرج بقعة فيها نحاسة مربعة نقش عليها ما معناه «إنه في هذا المكان قطع رأس الملكة حنة» وقد شاهدنا الأبراج والمخادع التي كانوا يستخدمونها للسجن ويأتون فيها ضروب الظلم والفتك بلا حساب ولا تقدير وناهيك بفنون التعذيب مما تقشعر له الأبدان. إن من يطلع على ذلك ويرى ما عليه الأمة الإنكليزية اليوم من أسباب المدنية ومحاربة الجهل ومطاردة الظلم يعلم أن الأمة لا بد لها من المرور في أطوار من جملتها هذا الطور من الهمجية وأن ذلك ليس خاصاً ببلد دون آخر ولا أمة دون أخرى.

دار الضرب

وفي هذا البرج بناء خاص لضرب النقود بني سنة ١٨١١ ثم توسع سنة ١٨٨٢ وقد أتقنت فيه صناعة الضرب وآلاته. ومنها ما يصنع ١٢٠ قطعة من النقود في الدقيقة وقد بلغ ما ضُرب سنة ١٩٠٩ وقيمته ١٥٠٠٠٠٠٠ جنيه منها ١١٨٠٠٠٠٠ قطعة فئة جنيه و٤٠٠٠٠٠٠ نصف جنيه ٣٨١٦٠٠٠ نصف ريال و٣٩٩٣٠٠٠ فلورين و٦٩٠٠٠٠٠ شلين و٧٠٢٨٠٠٠ نصف شلين و٥٦٠٠٠٠٠ ربع شلين و٢١٢٥٦٠٠٠ بنس فقس عليه.

هو قصر فخيم واقع على ضفة التيمس ينعقد فيه البرلمان الإنكليزي. وهو ينعقد في قاعتين فخمتين منه إحداهما لمجلس الأعيان والأخرى لمجلس العموم. وقبل الوصول إلى قاعات البرلمان يمر الزائر بقاعات عديدة. الأولى مغشاة بالصور في جملتها صورتان إحداهما تمثل معركة وترلو وقد فاز فيها الإنكليز. والأخرى تمثل واقعة ترافلغار وقد مات فيها نلسن. طول الواحدة منها نحو ١٥ متراً يتصل منها إلى قاعة أخرى جدرانها من الخشب الملون عليه صور أشهر ملوك إنكلترا ومنها دخلنا قاعة الأعيان في غير وقت الاجتماع طولها ٩٠ قدماً وعرضها ٤٥ قدماً وعلوها ٥٤ قدماً أرضها مغطاة بصفوف من المقاعد مغشاة بالجلد الأحمر تسع نحو ٦٥٠ شخصاً. وللقاعة ١٢ نافذة زجاجها مزين بصور ملوك إنكلترا وملكاتها منذ الفتح، وتضاء القاعة ليلًا بالكهربائية فتزداد جمالاً وعلى الجدران بين النوافذ تماثيل للبارونية الذين أخذوا الدستور من الملك جون. غير ما على الجدران من النقوش البديعة بينها الصور الجميلة للملوك وبعض المواقف الدينية وفي صدر القاعة عرش يجلس عليه الملك يصعد إليه ببضع درجات وإلى يمينه مجلس ولي العهد. وخرجنا من طرف القاعة الآخر إلى غرفة فيها تعاليق ومواقف للبرانيط والأردية لكل من الأعضاء تعليقة عليها اسمه. ومن




لا اطار
لا اطار
المهمازان والسيفان والابريق
هناك انتهينا إلى دهليز جدرانه مزدانة بالصور التاريخية. ومنها إلى قاعة متوسطة الحجم فدهليز آخر اتصلنا منه إلى قاعة مجلس العموم. طولها ٧٥ قدمًا وعرضها ٤٥ وعلوها ٤١ قدماً. وهي تشبه قاعة مجلس العموم بشكلها لكنها أقل فخامة وأبسط رياشاً. عليها مقاعد مكسوة بجلد أزرق مخضر لا يسع أكثر من ٤٧٦ شخصاً مع أن عدد أعضاء هذا المجلس نحو ٦٧٠ وقد ترتبت المقاعد صفوفاً. وكرسي الرئيس في صدر القاعة عند طرفها الشمالي وإلى يمينه مقاعد لنواب الحكومة كالوزراء ونحوهم وإلى يساره رؤساء حزب المعارضين. وبين يدي الرئيس طاولة يجلس إليها الكاتب. ويجلس المخبرون ومكاتبو الجرائد على مقاعد فوق مجلس الرئيس وفوقها مقاعد للسيدات وتجاه مجلس الرئيس في الطرف الآخر من القاعة مقاعد للزائرين.

لهذا الدير شأن عظيم عند الإنكليز لأنه مجتمع مفاخرهم ومدافن عظمائهم أو تماثيلهم. يحوي في تلك المفاخر أكثر مما يحويه كل مكان سواه ولا يدفن فيه أو ينصب تمثاله في أرضه إلا الممتازون بالشرف والفخر في خدمة الأمة والوطن. والإذن في دفن ميت هناك أعظم شرف تقدر الأمة أن تمنحه لذلك الميت.

والدير بناء قديم ولبنائه تاريخ طويل شكله يشبه من الداخل شكل كنيسة القديس بولس طوله ٥١٣ قدماً وأعرض نقطة فيه ٢٠٠ قدم وعلوه مائة قدم وقدمان وعلو برجه ٢٢٥ قدماً. دخلناه من بابه الشمالي ولم نكد نتوسط المكان ونلتفت ذات اليمين وذات الشمال حتى وقع بصرنا على ما هنالك من قبور العظماء وتماثيل الكبراء وقد ساد السكوت وتجلَّت هيبة الموت فغلب علينا التهيب وخيل لنا أننا نسمع من كل قبر نداء ونرى في كل تمثال خطيباً. لا غرو ونحن بين بقايا أعظم رجال إنكلترا وفيهم القائد الباسل والسياسي المحنك والشاعر المفلق والخطيب المفوه والعالم الحكيم والمخترع العظيم. وقد تكاتفوا جميعاً في خدمة أمتهم فنهضوا بها إلى أسمى منازل الدول فأخذتنا العبرة وتذكرنا حال دولتنا في العالم السياسي فتشاغلنا عن تلك الهواجس بما بين أيدينا من مفاخر الآخرين إذ لا فائدة من تلك الذكرى وإن عرفنا الداء إذ لا سبيل لنا إلى الدواء. وتجولنا في أنحاء الدير نتفقد المدافن والتماثيل ونقرأ أسماء أصحابها فإذا فيهم نخبة الساسة والعلماء والشعراء والخطباء وغيرهم يعدون بالمئات ويضيق هذا المقام عن تعدادهم فنذكر أمثلة من ذلك في مجاميع حسب الأماكن منهم: وليم بت السياسي المتوفى سنة ١٧٧٨ وجون هولس دوق نيوكسل (١٧١١) وجورج كانين السياسي (١٨٢٧) والجنرال مالكولم واللورد بالمرستون واللورد متسفيلد والأميرال ورين والسير روبرت بيل السياسي (١٨٥٠) وفي مجموع آخر جورج غوردون أرل إيردين والسير توماس رافلس (١٨٢٦) وتشارلس جيمس فوكس وكابتن مونتاغيو وغيرهم. وهناك زاوية خاصة بالشعراء والأدباء فيها تماثيل جورج غروت الشاعر وماكولي المؤرخ ودوق أرغيل الشهير وشكسبير إمام شعرائهم. وروبرت برنس وتنسن وشارلس دكنس وجون ملتن ولو فلو وغيرهم من الشعراء والأدباء. وهناك زوايا للشرفاء وأخرى للأساقفة وغيرهم ممن يستغرق تعداد أسمائهم فقط عشرات من الصفحات، فكيف بذكر مناقبهم.

٧ - متاحفها
١ - المتحف البريطاني

هو أعظم متاحف إنكلترا ومن أعظم متاحف العالم. يشتمل على التحف والآثار مثل اللوفر بباريس ويمتاز عنه باشتماله على مكتبة نفيسة يندر مثلها بين مكاتب أوربا. وبناء المتحف فسيح تأسس سنة ١٧٠٠ ونما ببنائه ومحتوياته حتى بلغ ما هو عليه الآن فنذكر تحفه التاريخية أولاً ثم نأتي إلى مكتبته.

دار التحف

هي عبارة عن المنحوتات والمصنوعات والمنقوشات من الآثار التاريخية والفنون الجميلة والتحف والذخائر ويصح أن يقال في وضعها إنها جمعت آثار الإنسان من أول عهد العمران إلى الآن في القارات الخمس وفيها من كل شيء أحسنه مرتبة على الدول والأمم في قاعات لآثار الآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين والحثيين والفرس واليونان والرومان والهند والصين واليابان والعرب في الجاهلية والإسلام وأمم أوربا الحية وآثارها وأمثلة من مصنوعات الأمم المتوحشة وآثارها ومظاهر عاداتها في أفريقيا وأوستراليا وأمريكا وجزائر المحيط. ومصنوعات الأمم المتمدنة من الفنون الجميلة والتصوير والنقش والحفر وفيها أمثلة تدهش الناظر ولكن هذا القسم من التحف في اللوفر أحسن منه في المتحف البريطاني وأوسع. وفي هذا المتحف مجموعة نفيسة جداً من النقود قديمها وحديثها ومجموعة للأوسمة وطوابع البريد وغير ذلك. غير آثار الإنسان قبل التاريخ.

وكل قسم من هذه التحف يشغل عدة قاعات وبينها من النوادر ما لا يوجد عند الأمم الأصلية التي أخذت التحف منها. مثال ذلك أن بين التحف المصرية مخطوطات من البردي لا مثيل لها في المتحف المصري بالقاهرة وفيها حجر رشيد — نعني الحجر الذي حلوا منه القلم المصري القديم (الهيروغليف) على أثر حملة بونابرت — فإن هذا الحجر اتصل إلى المتحف البريطاني قبل إنشاء المتحف المصري. شاهدناه في صدر الآثار المصرية في خزانة وهو أسود اللون مكسور من أعلاه وفي المتحف المصري نسخة من هذا الحجر لكنها غير التي استعانوا بها على حل القلم المصري. وهناك آثار مصرية ثمينة وموميات عديدة ومصوغات.

وقس على ذلك الآثار الآشورية والبابلية ولعلها في المتحف البريطاني أغنى منها في سواه وبينها ألوف من السجلات القرميدية المنقوشة بالحرف المسماري بينها القرميدة التي عليها قصة الطوفان كما يرويها البابليون. غير قراميد الصكوك والعقود والمراسلات وتماثيل قديمة جداً يظن أنها نحتت نحو ٤٥٠٠ قبل الميلاد. وفيها آثار نينوى وقصور آشورية كاملة نقلت من بين النهرين إلى هذا المتحف بجدرانها وسقوفها وتماثيلها وفي جملتها تماثيل رجال اشتهروا بالتاريخ مثل أسرحدون نقلاً عن صورته على صخر عند نهر الكلب في بيروت وغير ذلك مما يطول بنا شرحه.

وهناك قاعات للآثار الدينية على اختلاف الأعصر والأمم وفيها من المشابهة في الظواهر ما يدهش العقل ومجموعة للساعات القديمة والحديثة والأسطرلاب وغيرها من صنع الأجيال الوسطى. وقد بحثنا بينها عن الساعة التي أهداها الرشيد لشارلمان فلم نقف على خبرها. وشاهدنا بين هذه التحف تمثال طاووس من فولاذ عليه نقوش فارسية وكتابة عربية وهو تمثال «طاوس» إله اليزيديين حملوه من بلد قرب ديار بكر طوله متر وبعض المتر واقف على قاعدة كالطاعة المقلوبة وعليها نقوش.

وفي قاعة المصنوعات الزجاجية مصنوعات عربية من مصابيح وكؤوس ونحوها عليها كتابة عربية بعضها من القرن الثالث عشر للميلاد وبينها قطع زجاجية عليها كتابة من عهد الدولة العباسية.

وفي قاعات العادات والأزياء والمصنوعات الشرقية سيوف بعضها تاريخي ينسب إلى بلاده في الهند والصين وفي جملتها السيوف الدمشقية الشهيرة والفارسية والهندية والأفغانية لكل منها شكل خاص. الفارسية منحنية والهندية والأفغانية معتدلة وكذلك الدمشقية ولكنها شديدة الصقل قبضتها من ذهب بعضها بحد واحد والبعض الآخر بحدين وقس على ذلك السروج وأشكالها.

مكتبة المتحف البريطاني

يعرف القراء غنى هذه المكتبة بالكتب العربية مما يقرأونه في تاريخ اللغة العربية عن الكتب الموجودة فيها. ويزيد عدد الكتب في هذه المكتبة على مليون كتاب في اللغات المختلفة والمواضيع على اختلاف الأعصر. بينها مجموعة نفيسة من المخطوطات العربية وفيها معرض لتاريخ الخطوط بينها خطوط مشاهير الملوك والقواد والعلماء منها توقيع ملوك إنكلترا من ريكاردوس الثاني إلى الملكة فكتوريا وتوقيع ملوك آخرين. غير المخطوطات القديمة للكتب الهامة ولا سيما التوراة في العبرانية والسامرية واليونانية.

وهناك مجموع لتاريخ الطباعة فيه أمثلة من المطبوعات من أول عهد الطباعة إلى الآن منها نسخة من التوراة باللغة الألمانية طبعها غوتنبرغ سنة ١٨٩٧ بمبلغ ٤٠٠٠ جنيه وهي أقدم المطبوعات على الإجمال. ثم قاعات لتاريخ الطباعة في كل مملكة على حدة.

وفيها أمثلة من الكتب المصورة بالألوان بعضها كتب حوالي العاشر للميلاد ومن المخطوطات الشرقية أقدمها إنجيل في العربية والسريانية كتب على رق غزال في القرن العاشر للميلاد. وأقدم الكتب المخطوطة في العربية القرآن ومنه نسخة في المكتبة الخديوية يظن أنها كتبت في القرن الثامن. ومن المخطوطات العربية المصورة بالمتحف البريطاني مقامات الحريري كتبت في القرن الثالث عشر وقد نشرنا صورة لها في الجزء الثالث من تاريخ آداب اللغة العربية.

متاحف أخرى

وفي لندن متاحف أخرى عديدة يطول بنا وصفها أهمها «تيت كاليري» ويسمى متحف الصناعة الإنكليزية وهو يشبه متحف لوكسنبرج في باريس فيه أمثلة من صنع أمهر المصورين والنحاتين الإنكليز أكثرها خيالي يراد به الفن من حيث تشخيص العادات والأخلاق أو الوقائع التاريخية تصويراً بالألوان أو نحتاً على الرخام. ومن أجمل المنحوتات المتقنة فيه تمثال ولنتن على جواده وصورة منحوتة تمثل حادثة الابن الضال ونحوها من الوقائع الشهيرة. ومن الصور صورة المارشال روبرتس على جواده ونابليون على الباخرة التي حملته إلى منفاه وأخرى تمثل الطوفان وغير ذلك. ومتحف ولس: أصله من المتاحف الخصوصية أهدته الليدي ولس المتوفاة سنة ١٨٩٧ للأمة الإنكليزية وهو يساوي ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه واشترت الحكومة المنزل لوضع المتحف فيه بثمانين ألف جنيه سنة ١٩٠٠ ويمتاز عن سائر المتاحف بدقة ما يحويه من المصنوعات ويظهر للمتأمل في تحفه أن جامعها تأنق في انتقائها وسخي في ابتياعها وأنه ذو ذوق سليم في الصناعة. ومن جملة ما شاهدناه فيها طاولة كتابة من زمن لويس الخامس عشر وصورة الملك جورج الرابع ومصنوعات مختلفة من القرن ١٧ و١٨ وهناك مجموعة صور محفورة في العاج أو الذهب أو العظم أو منزلة من ميناء في غاية الدقة. ومجموع ساعات وأسطرلابات وإبر مغنطيسية من صنع القرون الأخيرة وآلات هندسية. ورأينا مصباحاً عربياً عليه كتابة عربية منقول من أحد جوامع القاهرة. فهناك قاعة للأسلحة والأدراع والمدافع بينها بنادق قبضاتها منزلة بالعاج عليها نقش جميل مدهش وأدراع مذهبة نحو ما شاهدناه في برج لندن لكنها أتقن وأثمن وقاعات عديدة للصور الزيتية منها صورة تمثل رحيل يعقوب مع أبنائه إلى مصر وغير ذلك من الصور والمحفورات والمصنوعات.

ومتحف مدام تيسو: وهو كثير الشبه بمتحف جريفن في باريس فيه مشاهد تاريخية ممثلة بالشمع كما حدثت حتى يتوهم الناظر أنه يرى الحقيقة كما هي. كل مشهد في غرفة خاصة منها موقف ولنتن عند سرير نابليون وهو ميت، وتمثيل موت نلسن ومقتل
كنيسة القديس بولس من الظاهر عند مدخلها الاكبر

غوردون في الخرطوم وتولية الملكة فكتوريا. والملك جون يوقع ما يسمونه «ماجنا كارتا» ومشاهد أخرى شاهدنا مثلها في متحف غريفن. وتماثيل حديثة منها الملك إدوارد وقبطان التيتانيك وسان يتسان صاحب الانقلاب الصيني. وجمهور من عظماء الإنكليز منهم غلادستون وسالس بوري وتشمبرلن ولويد جورج واسكويث وإمبراطور الروس ومفاتيح قلعة متس. ومشاهير أمريكا مثل روزفلت وتافت وغيرهما وإذا وقع نظرك على أحدهم ظننته ينظر إليك يوشك أن يخاطبك.

ومتحف فكتوريا وألبرت: وهو أثري تاريخي فيه مصنوعات إيطالية قديمة أكثرها ديني بينها أمثلة من طرز البناء الإيطالي ومصنوعات إيطالية من البرونز والطاسات والأباريق والتماثيل والأصنام الصغيرة. وصور صنع بلنسية بإسبانيا في أوائل القرن الخامس عشر وهناك مصنوعات يونانية أكثرها كنائسي. وفي بعضها مصنوعات عربية منها قطعة من إفريز كتبوا عليه أنه منقول من جامع المؤيد بمصر. وساعة شمسية عليها كتابة عربية كاملة طولها متر وعرضها نحو نصف متر لم يذكروا مكانها. وقطعة من عتبة سبيل وغير ذلك. ومن التماثيل الضخمة في هذا المتحف تمثال من عمود تراجان في رومية في قطعتين طول كل منهما نحو ٢٠ متراً وعرض قاعدتهما ٢١ قدماً بقدمنا. وهناك عدد كبير من الآثار الدينية وأمثلة عديدة من آثار رومية منقولة بالجبس بينها رؤوس عشرات من القواد الرومانيين والقديسين. وعدة قاعات فيها أنواع من النسج والتطريز نحو ما شاهدناه في متحف كليني في باريس. ولا شك أن أصحاب الأزياء (المودة) يستفيدون من الاطلاع عليها لوضع الزي الجديد. ومنحوتات تمثل حوادث دينية في القرنين ١٣ و١٤ وعلب وأقفال من العاج المخرم في جملتها علبة صنعت في صقلية في القرن ١٣م على النمط العربي عليها صور مذهبة.

وفيها مصنوعات أخرى دقيقة تشبه ما في متحف ولس. وقاعات للأزياء والملابس حسب الأعصر والبلاد وهي مجموعة نفيسة لتاريخ الألبسة الشرقية والغربية. ويمتاز هذا المتحف عن سواه بهذه المصنوعات وإتقانها. ومنها سجادة طولها نحو ١٣ متراً كتب عليها «٩٤٦ للهجرة» وأنها حملت من جامع أردبيل وقس على ذلك.

ومن المتاحف التي تستحق الذكر في لندن المتحف الوطني (نيشنال كاليري) وهو مجموع مصورات ومنوعات مثل متحف لوكسنبرج بباريس.

بلاد الإنكليز خارج لندن

جمعت لندن أهم المتاحف والآثار ولكن في غيرها كثيراً مما يستحق الذكر. ونذكر منها ما وفقنا إلى رؤيته في أثناء هذه الرحلة في كامبردج وأكسفورد ومنشستر.

كمبريدج: وجدنا كمبريدج بلداً عامراً بالمدارس والكليات يكاد يكون قوام عمرانه على تلامذة المدارس وأساتذتها ومن يلحق بهم. وربما بلغ عددهم جميعاً نحو ٤٠٠٠ نفس. أما أهل البلد فلا يزيدون على ٤٥٠٠٠ نفس. ومما استلفت انتباهنا أبنية تلك المدارس التي يتألف من مجموعها «جامعة كمبريدج» الشهيرة فإنها متشابهة الشكل قديمة الطرز وهو طرز الأجيال الوسطى. والبناء عبارة عن مربع كل ضلع منه مؤلف من غرف متناسقة صفاً واحداً في ثلاث طبقات بعضها للتعليم والبعض الآخر للأكل أو النوم. ووسط المربع حديقة أو فسحة خالية. وفي كل مدرسة كنيسة، وتتألف المدرسة الواحدة من ثلاثة مربعات أو أربعة متقاربة يستطرق بعضها إلى بعض. وأبواب الغرفة صغيرة على نسق واحد بسيط كثيرة الشبه بالأبنية الشرقية وقد سهل علينا الأستاذ براون مشاهدة أجزاء هذه الأبنية واستلفت انتباهنا إلى باب غرفته وهو ثخانة الحائط فإذا كان الأستاذ في غرفته أغلق الباب الداخلي فقط فإذا خرج أغلق البابين جميعاً.

والسبب في بقاء هذه المدارس على الطرز القديم أنها تأسست في الأجيال الوسطى فبنيت على طرزها وحافظ أصحابها على ذلك الطرز. وقد وصفنا جامعة كمبريدج وعدد مدارسها وتلامذتها غير مرة في الهلال.

وفي كمبريدج متحف لا يذكر بالنظر إلى متاحف لندن لكننا شاهدنا فيه ترسًا مستديراً عليه نقوش فارسية بينها اسم السلطان نادر شاه فإذا كان المراد به القائد الفارسي المشهور بهذا الاسم كان هذا الترس من التحف الثمينة.

أكسفورد: وهي تشبه كمبريدج من أكثر الوجوه وقد عرفت بجامعتها واشتهرت بمكتبتها المعروفة بمكتبة بودليان فإنها من المكاتب النفيسة في الآثار الشرقية. وقد جاء ذكرها مراراً عديدة في أثناء ذكر أماكن الكتب بتاريخ آداب اللغة العربية. وفي كامبردج مكتبة نفيسة لكن هذه أوسع وأغنى. وقد سهل علينا الأستاذ مرجليوث رؤية كتب عربية نادرة فيها ذكرناها في أماكنها من تاريخ آداب اللغة. وفي مكتبة أكسفورد كتب خطية إنكليزية وأيرلندية دينية مصورة من القرن الثامن للميلاد.

منشستر: هي مدينة صناعية تكاد تكون معملاً كبيراً لكثرة ما فيها من المعامل والمتاجر يتوسم القادم فيها ذلك قبل وصوله إليها بما يشاهده من الدخان المتكاثف فوق أبنيتها. ولذلك كان أكثر سكن أهلها في الضواحي. وهي مثال للجد والعمل وتنافس المواهب الصناعية والتجارية وقد أُتيح لنا مشاهدة معمل للغزل بجوارها فيه نحو ١٠٠٠٠٠ مغزل و٢٠٠٠٠ مغزل مزدوج و٩٠٠ عامل. ويدير مغازله آلات بخارية قوتها ٢٥٠٠ حصان. رأينا القطن يدخل بآلات ويخرج مغزولاً خيوطاً دقيقة في غاية الضبط. ويضيق بنا المقام عن وصف تجارة هذه المدينة وفي شهرتها ما يغني عن الإطناب. وقد سرنا ما شاهدناه فيها من تقدم إخواننا السوريين فقد عرفنا منهم طائفة حسنة من كبار التجار كما شاهدنا في باريس وبينهم غير واحد من أصحاب الثروة والتجارة الواسعة وهم على الإجمال أهل سمعة حسنة وقد تخلَّق أكثرهم بأخلاق الإنكليز من المحافظة على الوقت والصدق في المعاملة والتأني في الحكم وهي ميزة للسوري على سواه نعني مقدرته العجيبة في تطبيق أحواله على الوسط الذي يعيش فيه. فتجده في فرنسا كأنه فرنساوي بحركاته وكلامه ومعاملته وسائر أحواله وهكذا بإنكلترا أو أمريكا. والتجار السوريون في منشستر لهم معاملات واسعة مع أبناء بلادهم في أقطار العالم شرقاً وغرباً ولعملائهم ثقة عظيمة فيهم مثل ثقتهم بالتجار الإنكليز. ومن البيوت التجارية السورية في منشستر محلات كحلا وغبريل وجبارة ومطر ومجدلاني وخوري حداد وفرح وبحمدوني وغيرهم.