حرب في الكنائس/الفصل السادس: ثيودوروس ونيقيفوروس واستقامة الرأي
ثيودوروس الإستوديتي: (٧٥٩ - ٨٢٦) ولد في مدينة القسطنطينية في أواسط القرن الثامن. ونشأ وترعرع فيها. وقال قسطنطين الخامس بالإبطال وتمادى وتاه فزهد بلاتون خال ثيودوروس واستقال من وظيفته في مالية الدولة ولجأ إلى دير السيمبولي في جبل أوليمبوس في بيثنية وترهب فيه. وفي السنة ٧٧٠ أصبح رئيسه1. وكان صحيح الإيمان ناضح العلم محكم الرأي والتدبير فأسس في السنة ٧٨١ دير السكوذيون ودعا إليه رهباناً صادقين مخلصين. ثم سنمت شقيقته ثيوكتيستة الحياة في القسطنطينية وشاركها زوجها فوطينوس رأيها. فقاما بأولادهما ثيودوروس ويوسف وأفثيميوس إلى بوسكيتيون بالقرب من السكوذيون وعاشوا عيشة تيه ومسكنة، واستأنس ثيودوروس بالوحشة وأخلـد إلى الوحدة فلفت بذلك نظر خاله بلاتون، فأرهف بلاتون عزم ثيودوروس وحبب إليه الرهبنة وقبله في ديره2. فمارس الحراثة والزراعة وقرأ الأسفار وكتب الآباء فأعجب بباسيليوس الكبير وانكب على عظاته ورسائله يغرف منها غرفاً. ورغب ثيوذوروس في تطبيق قوانين باسيليوس فوافقه خاله على ذلك ورقاه إلى درجة الكهنوت على يد البطريرك طراسيوس ثم جعله في السنة ٧٩٤ رئيس السكوذيون3. واشتد نشاط ثيودوروس واتسع أفقه فلم يكتف بإرشاد الرهبان في الدير بل سعى لإصلاح الدولة بأسرها وطالب بتعزيز المبادئ المسيحية واستقلال الكنيسة عن الدولة وحرية انتخاب الأساقفة وتطهير الكراسي من كل راشٍ أو مرتشٍ. وقاوم المبطلين ودافع عن إكرام الأيقونات فنفي في السنة ٧٩٥ مع رهبانه إلى تسالونيكية. ثم عاد إلى القسطنطينية بعودة إيرينة إلى الحكم أي في السنة ٧٩٧. ووصل المسلمون إلى بيثنية فلم يتمكن ثيوذوروس من الرجوع إلى دير السكوذيون فأقام في دير الأستوديون في العاصمة ورممه وأصلحه4.
وليس لنا الآن أن ننظر في طريقة ثيوذوروس في الرهبنة وأثرها في الحياة الرهبانية في الشرق ولا سيما في روسية5 وإنما نريد أن نذكر مصنفاته ولا سيما موقفه من إبطال الأيقونات. ونظم ثيودوروس بالاشتراك مع أخيه يوسف رئيس أساقفة تسالونيكية معظم كتاب التريوذيون الخشوعي. وكتب في أصول الإيمان كتابي الكتاكيزموس الكبير والصغير فلقيا رواجاً كبيراً. وتوفي في الحادي عشر من تشرين الثاني سنة ٨٢٦ وتلاميذه حوله يرتلون المزمور: «طوبى للذين». وتناول هو الأسرار وأخذ يرتل هذا المزمور، فلما بلغ إلى القول: «إلى الدهر لا أنسى حقوقك» أسلم الروح.
وأشهر ما قال ثيودوروس في الأيقونات ردوده الثلاثة على الهراطقة6 وهو يستعين في هذه الردود بجميع الحجج التي تذرع بها القديسان جرمانوس القسطنطيني ويوحنا الدمشقي ولكنه يظهرها بثوب أرسطوطاليسي مدرسي أكثر بكثير من ذي قبل. فهو يعالج في رده الأول مشكلة الحصر أي حصر المسيح ابن الله فيلجئ خصمه إنكار أي أساس لتصوير المسيح في الأسفار المقدسة فيجيب أن ما يصح عن النموذج وعن العلة يصح أيضاً عن المثال وعن المعلول. والفرق الوحيد أنه إنما يقال في الحالة الأولى على المعنى الأصلي، إذ أنه يقال بالمعنى الطبيعي، بينما يقال في الحالة الثانية بالمعنى غير الأصلي لأنه يقال بالتباس. وبالتالي يثير خصمه المبطل مسألة ما إذا كانت صورة المسيح هي المسيح أم صورته وحسب، فيجيب ثيودوروس أن المتقابلات، أي الطبيعة والوضع والنموذج والمثال والعلة والمعلول والمسيح وصورته، هي من حيث الجوهر والشكل والحقيقة مختلفة. فالصورة هي المسيح وصورته معاً من حيث الشبه، وهي المسيح بالتباس وصورة المسيح نسبة. والإشارات للمفاهيم المتلابسة والمقولة النسبة في صلتها بالصور، وكذلك مفاهيم التقابل والتوازي هي من الحجج الكبرى التي اعتمدها ثيودوروس ونيقيفوروس أيضاً. وهي من أصل أرسطوطاليسي واضح.
وفي رده الثاني على الهراطقة عالج ثيودوروس ما إذا كان ينبغي عبادة صورة المسيح أم لا. وهنا استمر المناقش الأرثوذكسي في استخدام مفاهيم النموذج والمثال فأثبت أن المسيح نفسه يدعى المسيح بالترادف أو بمعنى أصلي. أما صورته فتدعى المسيح بالتباس أو بمعنى غير أصلي. ولكي يثبت ثيودوروس أن رسماً يمثل المسيح هو أولى بالعبادة من رسم يمثل الصليب ألجأ المبطل إلى الإقرار أن الأمثلة إنما تختلف باختلاف نماذجها كما ألجأه إلى إقرار ذلك في الرد الأول7.
ولرد ثيودوروس الثالث شكل خاص. فالمؤلف يعلن في مطلعه ما يلي: «سوف استخدم بعض الأقيسة ουλλογιπμος في معرض بحثي. وهذه الأقيسة ليست مركبة على طريقة أرسطو على أساس لغوي أبسط هو قوة الحقيقة8، ثم يعرب ثيودوروس عن أمله أن لا تذهب جهوده سدى عند القارئ. فالعالم بوسعه أن يستخدمها كأساس لمباحث أعمق بينما المبتدئ قد يعتبرها بمثابة مقدمة. ومن هنا ينطلق ثيودوروس إلى تقسيم الموضوع إلى أربعة «رؤوس» أي فصول، وهكذا يسم مقالته بسمة الشكل الأدبي الخاص بها أي الرأس. فالرأس الأول يدور على مسألة حصر المسيح. والرد الإيجابي يستند إلى عدد كبير من الأبيخيرياته απιχειρματα قياسياً. ويتلو واحدها الآخر تحت عنوان «يضاف إلى ذلك». وهذه الأبيخيرياتة مقتبسة من المفاهيم الكلية في الفلسفة ومن الكتاب المقدس ومن الخريستولوجية. والبعض منها عبارة عن اعتراض للخصم يشفعه ثيودوروس بجواب أو بإبطال على سبيل الخلف reductio ad absurdum. ولما كانت آراء ثيودوروس الخريستولوجية تتخذ طابعاً أرسطوطاليسياً هو الطابع المتعارف منذ أيام لاونديوس البيزنطي فهذا الرأس يحفل بالإصطلاحات الأرسطوطاليسية وهكذا فإن ثيودوروس يدلل في الرأس الثاني على القول أنه قد يكون لدينا صورة المسيح يمكننا تأمله من خلالها فيثبت في الرأس الثالث أن عبادة المسيح وعبادة صورته هما شيء واحد. ويقول في الرأس الرابع أن للمسيح وصورته مثالاً واحداً ومعبوداً واحداً9.
نيقيفوروس: (٧٥٨-٨٢٩) وليس لنا أن نعيد الكلام في سيرة هذا الجليل في القديسين نيقيفوروس المعترف، فقد سبق الكلام في هذا الموضوع في تضاعيف هذه الرسالة. فليراجع في محله. وجل ما يجب قوله هنا هو أن نيقيفوروس كان كبيراً عظيماً اشتهر بدرايته واتزانه وصبره وثباته وتفانيه في خدمة الكنيسة واستقامة رأيه.
وأقدم مصنفات نيقيفوروس تاريخه ΙανοριΧ Συντομος وقد بدأ فيه بتاريخ مصرع الفسيلفس موريقيوس في السنة ٦٠٢ ووقف عند ذكر زواج لاوون الخزري من إيرينة في السنة ٧٩٦. وقد عرفه علماء العصور الوسطى بال Breviarium10. ثم عرض له ما صرفه عن التأليف فعمل في القصر أولاً ثم اعتزل هذا العمل وأهمل كل شيء وانفرد متنسكاً. ثم تولى أمر المؤسسة الخيرية ومنها انتقل إلى السدة البطريركية.
وحين سمحت له ظروفه بالعودة إلى التأليف أملى عليه إيمانه الاهتمام بمسائل العقيدة فصنف بين السنة ٨١٣ و۸۱٥ أبولوغيته الصغرى11 ليردع بها من كان قد ضل من رجال الكنيسة وليرد على ضلالة الإبطال. ثم أردف هذه الأبولوغية في السنوات ۸۱۸ إلی ۸۲۰ بأبولوغيته الكبرى وفيها رسائله ضد الهراطقة12. وصنف أيضاً رداً خصوصياً على المبطلين أسماه Adversus Iconomachos وأعد في السنوات ٨٢٠ إلى ٨٢٨ مؤلفاً خصوصياً «لاوون الخامس وكتابه في دحض أوروس مجمع السنة ٨١٥13.
ومما جاء في أبولوغيته الكبرى في الرد على الهراطقة أن الإيمان المسيحي يرتكر إلى الكتاب المقدس وأقوال الآباء وقرارات المجامع وأن بعض الرهبان والكهنة المزيفين دنسوا كهنوتهم وإيمانهم فأبوا أن يعترفوا بقرارات المجمع المسكوني السابع. وأقبح أعمالهم في نظر نيقيفورس أنهم يحاولون ردَّ كل شخص خاضع للصولجان الروماني. وهم يضيفون إلى سابق معصياتهم قول مستنبط هذا الإلحاد قسطنطين الخامس أن المسيح اتخذ لنفسه جسداً لا يحصر. وقد جمع قسطنطين جملاً وعبارات من التوراة وأقوال الآباء تشير إلى الأصنام فما لبث أن طبقها على الرسوم المقدسة. وهو الذي نفخ روح الإبطال في الصدور بعد أن استلهمها من الآريوسية والمانوية. وقد لا ينخدع أحد بحجة التعبد للأصنام ولكن الحجة بالآريوسية خفية مكارة لا بد من تفنيدها. فقسطنطين الخامس استند فيها إلى أقوال أفسابيوس الآريوسي وبعض مقاطع من أقوال الآباء فلم يدرك معناها. ثم ينظر نيقيفوروس في ادعاء المبطلين أن جسم المسيح لا يحصر بالتصوير ακsριγρΧπτος فيعالج أقوال قسطنطين الخامس جملة جملة ويرد عليها واحدة واحدة. وينتقل نيقيفوروس بعد هذا إلى الإجابة عن سؤال المبطلين ما إذا كان هنالك أساس للتصوير في النصوص فيدلي بحججه الواحدة تلو الأخرى. ويشمل بحثه هذا النظر في تصوير القديسين والملائكة كما يتضمن رداً على من ادعى أن عهد قسطنطين الخامس كان عصر رخاء وهناء فيبين فقر جمهور المبطلين ويذكر الضربات التي حلت على الشعب في عهد قسطنطين كطاعون السنة ٧٤٧ والزلازل والمجاعات.
أما كتابه الدحض Refutatio et Eversio فإنه لا يزال بعيد المنال مخطوطاً14. وجل ما ظهر منه خلاصة بالإنكليزية ألحقها الأستاذ بولس الكسندر بكتابه «نيقيفوروس»15. وقد جاء الدحض في قسمين رئيسيين تضمن الأول منها نقد أوروس مجمع السنة ٨١٥ ونقد الثاني محتويات الأنثولوجية التابعة. وقد ضاهى نيقيفوروس النصوص التي جمعها المبطلون ونسبوها إلى بعض الآباء بنصوص هؤلاء الآباء فأظهر تلاعب المبطلين وفساد استنتاجاتهم.
وكان نيقيفوروس من أولي العرفان وأهل التحصيل فحضن المنطق المدرسي وتذرع بمفاهيم الكيفيات الجوهرية والخواص الدالة فرد على أحجية قسطنطين الخامس، وقد سبق تفصيلها، باعتبارها ضرباً من التخصيص على سبيل التعميم! ووافق نيقيفوروس المدرسيين في تمييزهم بين التحديد بالمعنى الدقيق والرسم. وعمد إلى إبطال دعوى قسطنطين في أن تصوير المسيح يؤدي إلى القول بأقنوم آخر في المسيح بحسب الجسد منفصل عن وجوده الإلهي فطبق على صورة المسيح النتائج المنطقية التي تلزم عن كونها معنى نسبياً بالمفهوم المدرسي. وهكذا توصل إلى إثبات خلاف جوهري بين الصورة والمشال بريء عن النتائج الخريستولوجية التي استنتجها المبطلون. وبالإضافة إلى المنطق تذرع نيقيفوروس بعلم الطبيعة المدرسي. فكثيراً ما يشير إلى مذهب سببية عند المدرسين. فالنموذج والصورة عنده بمثابة العلة والمعلول. وفي إبطاله لمزاعم خصومه اعتمد كتاب الطبيعة وكتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو. فجعل لكلمة العلة خمسة معان: الفاعل الآلي والنموذجي والمادي والغائي. وهذه المعاني تصدق في نظره على المصنوعات أيضاً. صورة المرء هي نتيجة لهذه العلل. فالعلة النموذجية لصورة المسيح هي المسيح أو ماهيته. المبطلون في نظره يرفعون صورة المسيح الجسدية فيعتبرون بعملهم هذا صورته زائفة. وهكذا؟؟في سائر العلل.
- ↑ Vie de Saint Théodore le Studite, P.G., Vol. 99, Col. 121.
- ↑ Ibid., Col. 121-125, 236-241; MARIN, Saint Théodore, 13 ff.
- ↑ Vie de Saint Théodore, P.G., Vol. 99, Col. 129-133, 248-249; MARIN, op. cit., 24-25.
- ↑ DELEHAYE, H., Studion-Studios, Anal. Boll., 1934, 64; JANIN, R., Eglises du Précurseur à Constantinople, Echos d'Orient, 1938, 319.
- ↑ Lettre à Nicolas, P.G., Vol. 99, Col. 940-944, 1799-1812; GARDNER Alice, Theodore of Studium, 93-94; PARGOIRE, Une Loi Monastique de Saint Platon, Byz.Zeit., 1899, 98-101.
- ↑ Antirrhetici, P.G., Vol. 99, Col. 329 ff.
- ↑ P.G., Vol. 99, Col. 360, 368.
- ↑ P.G., Vol. 99, Col. 389; SCHISSEL, O., "Proclus, Elements of Theology," Byz. Zeit., 1937, 113-117.
- ↑ LADNER, G.B., Origen and Significance of the Byz. Iconoclastic Controversy, Med. Studies, II, 127-149; ALEXANDER, P.J., op. cit., 191-194.
- ↑ BOOR, C. de, Nicephori Archiepiscopi Constantinopolitani Opuscila Historica, Leipzig, 1880.
- ↑ Apologeticus Minor, P.G., Vol. 100, Col. 833-850.
- ↑ Apologeticus atque Antirrhetici, P.G., Vol. 100, Col. 533-831, 205-533.
- ↑ Refutatio et Eversio.
- ↑ Parisianus Graecus, 1250; Coislinianus, 93; BLAKE, R.P., Note sur l'Activité Littéraire de Nicéphore I, Patriarche de Constantinople, Byzantion, 1939, 1-15.
- ↑ ALEXANDER, P.J., op. cit., 242-262.