انتقل إلى المحتوى

حرب في الكنائس/الفصل الأول: الرسوم والصور والأيقونات في القرون الأولى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الأول
الرسوم والصور والأيقونات في القرون الأولى

الهيكل والبيت: واظب المؤمنون بادئ ذي بدء على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبر والصلوات ولازموا الهيكل بنفس واحدة ولكنهم «كسروا الخبز» أي الأفخارستيا في البيوت1. ولما كان كسر الخبر هو العلامة الفارقة بين المسيحيين الأولين وبين اليهود جاز لنا القول أن المعبد المسيحي الأول قام في بيوت المؤمنين.

وظل البيت المعبد الأول مدة من الزمن لا نستطيع تحديدها بالضبط. ثم قبل النعمة أشراف وأغنياء فاتسعت بيوتهم وقصورهم للأعداد المتزايدة من المؤمنين. ووافقت هندسة هذه القصور ظرف العبادة. فكان لكل قصر دار فسيحة يحيط بها رواق معمد فغرف للأكل والجلوس تفتح أبوابها على الرواق والدار. فتمكن الآباء من فصل الموعوظين عن المؤمنين عند الحاجة ومن فرز النساء عن الرجال ومن تخصيص مكان معين للآباء والشمامسة.

الكتاكوم: لفظ يوناني مركب cata cumbos معناه الموضع حيث يحرق الميت أو التراب الذي يركم على رماده أو رفاته. ثم أطلق على المرقد والقبر والمدفن. ولجأ الأقدمون في مصر وفينيقية إلى المغاور الطبيعية لدفن الموتى ثم حفروا هذه المغاور تحت الأرض ونقروها في الصخور. ونقل الأتروسكيون هذه العادة إلى إيطالية فشاعت فيها ودعيت هذه المدافن في إيطالية كتاكومات.

وثابر المسيحيون الأمميون على عادات الأمم التي انتموا إليهـا في ملابسهم ومآكلهم وأفراحهم وأحزانهم2 فدفنوا موتاهم في بعض أماكن من الغرب في الكتاكومات وفي الشرق فوق الأرض3. وزيَّن المصريون والفينيقيون واليونانيون والأتروسكيون والرومانيون مدافنهم ولا سيما الكتاكومات فزيَّن المسيحيون كتاكوماتهم. واستعانوا لهذه الغاية بالرسامين أنفسهم الذين تخصصوا في هذا النوع من الفن ومارسوه في تزيين مدافن الوثنيين. واتبع هؤلاء الرسامون التقاليد الفنية الهلينية فعمدوا إلى الخطوط الهندسية الأنيقة الظريفة وإلى الأواني والزهور والطيور. وخلدوا في بعض الأحيان مشاهد معينة من حياة الميت المدفون.

التصوير الديني: وطفحت قلوب المؤمنين في القرون الثلاثة الأولى بالرجاء وقرب اللقاء فنقروا في جدران الكتاكومات كنائس صغيرة وأضافوا إلى الرسوم التقليدية رسوماً دينية مسيحية. وضنوا بوقار السيد وجلاله وتوجسوا من الوثنيين واليهود خوفاً فاكتفوا بالرموز. واستوحوا مشاهدهم الدينية من أمثال السيد فجعلوه في رسومهم راعياً صالحاً لا يختلف في مظهره عن الإله اليوناني الروماني هرميس كريوفوروس Hermes Criophoros حامل الكبش. وأظهروه في بعض الأحيان بمظهر أورفيوس Orpheios المغني اليوناني الذي كان يزيح الصخور والجبال بعزفه «الذي نزل إلى الجحيم وصعد منها» وآثروا فيما يظهر الامرأة المصلية ذات العينين المتجهتين نحو العلا والذراعين المرتفعين الشاكرة الطالبة الرحمة. واستعان هؤلاء المسيحيون بالطاووس الوثني للتدليل على الخلود. وبالعنقاء phoinix للإشارة إلى القيامة وبالحمامة طير إلهة الحب للتذكير بالروح القدس أو بالنفس. ثم أدخلوا بعض الرموز إدخالاً منها الدرفيل الملفوف حول الخطاف المثلث وفيه إشارة ظاهرة إلى الصليب ومنها أيضاً حرف Tau اليوناني وفيه رمز إلى الفداء ومنها السمكة ولفظها اليوناني يجمع الحروف الأولى من كلمات الآية «يسوع المسيح ابن الله المخلص».

التعبد في الكتاكوم: وقال السيد: «تأتي ساعة حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون». وقال بولس أن ما يزرعه المؤمنون لا يحيا إلا إذا مات وإن ما يزرعونه هو حبة من الحنطة يؤتيها الله جسماً على ما يريد4. فاحترم المؤمنون موتاهم وقاموا بزيارة قبورهم وصلوا وتناولوا طعاماً. وعصفت بهم أنواء الاضطهاد من آن إلى آخر فدفعتهم إلى الصلاة عند القبور لينالوا المعونة وليلجأوا إلى أماكن مقدسة في عرف الدولة لا يجوز العبث بحرمتها.

ولم يكتف المؤمنون بمجرد الزيارة وتقديم الصلاة في الكتاكومات بل إنهم نقروا في صخورها كبلَّات صغيرة أجروا فيها طقوس العبادة. وكانت هذه الكبلات مستطيلات مربعة تقابل مداخلها حنيات من النوع الذي نشيد اليوم وراء الموائد المقدسة. وبدأ المسيحيون في القرن الثاني يشيدون الكنائس على سطح الأرض أيضاً. ودليلنا على ذلك صدور الأوامر بهدم الكنائس والعثور على بقايا بعضها. وأشهر هذه وأقدمها كنيسة الصالحية على الفرات التي كشف التراب عنها علماء جامعة يايل الأميريكية منذ عشرين سنة.

أيقونات الكتاكومات: ومنذ أن بدأ المؤمنون بالتعبد في الكتاكومات بدأوا فيما يظهر يرسمون رسوماً دينية لغرض ديني معين هو تذكير المؤمنين بالعقائد الأساسية وتقريبها من مفهوم الجمهور بصور واضحة ناطقة بحد ذاتها. فرسموا منذ نهاية القرن الثاني المسيح والعذراء ودانيال في جب الأسود ونوح في فلكه وإبراهيم في محرقته. وبدأت تظهر صور آدم وحواء وصور المعمودية وقيامة ليعازر ولقاء المسيح بالسامرية وشفاء النازفة وعرس قانا الجليل وغير ذلك5. ويرى العالم الألماني بولس ستيغر أن كتاكومات القرن الثاني تعود إلى القرن الثالث أو الرابع وأن صورها ورموزها وثنية لا تمت إلى المسيحية بصلة، وهو قول ضعيف لا يقبله جمهور العلماء ورجال الاختصاص6.

كنيسة الصالحية: وأقدم آثار الكنائس الخاضعة لأنطاكية ما عثر عليه علماء جامعة يايل الأميريكية وعلماء أكاديمية النقوش والآداب الإفرنسية في الصالحية دورة أوروبوس القديمة. وكنيسة الصالحية هذه انشئت فيها يظهر عند نهاية القرن الثاني. وهي غرفة كبيرة مستطيلة من غرف بيت كبير بالقرب من أحد أبراج المدينة. وكان يدخل إليها من صحن البيت لا من الشارع.

وأبرز ما في هذه الكنيسة حنيتها وصورها، أما الحنية التي كانت قبلة أنظار المصلين فإنها قامت في جدار الكنيسة الغربي وفوق جرن للمعمودية. وأما الصور فإنها زينت الجدران وذكرت المؤمنين بعجائب السيد كقيام المقعد والمشي على الماء وبحوادث العهدين الجديد والقديم كقصة آدم وحواء ومثل الراعي الصالح والنسوة عند القبر وداود وجليات الجبار والامرأة السامرية. والنقوش الكتابية يونانية وقد نصت إحداها: «احفظوا المسيح» والثانية والثالثة: «واذكروا سيسیوس الحقير»7.

النواويس وتزويقها: الناووس معرَّب ناؤوس باليونانية معناه عند الفقهاء مقبرة النصارى ومنه قولهم النواويس إذا خربت قبل الإسلام جاز أخذ ترابها للسماد. والناووس تابوت من حجر تجعل فيه جثة الميت. ويقابله عند علماء الفرنجة اللفظ اليوناني المركب سركوفاغوس ومعناه الحرفي آكل اللحوم. والإشارة إلى نوع من الحجر اعتبره اليونانيون القدماء قادراً على أكل جثث الموتى.

وأجاز المسيحيون الأولون الدفن بالنواويس وابتاعوا ما وجدوه معداً للبيع منها. ولكنهم آثروا في انتقاء نواويسهم ما جاء خالياً من رسوم البشر الناتئة ورسوم الحيوانات عاملين بنص الوصية لا تصنع لك منحوتاً ولا صورة شيء، واكتفوا بالمخطط منها تخطيطاً.

ثم جاء القرن الثالث فإذا بالمؤمنين يجيزون بعض الرسوم الناتئة كرسم الراعي الصالح حاملاً الكبش على كتفيه أو رسمه ناظراً إلى الامرأة المصلية. وأجازوا أيضاً رسم هامة الرسل بطرس حاملاً كبشاً يحيط به عدد من الرعاة. وجاء أيضاً رسم بولس وتوما وفيليبوس والحبشي ورسوم المعمودية والعشاء الرباني8.

نقطة الانطلاق: وفك قسطنطين القيود (٣١٣) وساوى بين النصرانية والوثنية وعطف على النصارى. فانطلقوا أحراراً بعد كبت دام طويلًا. وراحوا يتبارون في تشييد الكنائس وتزيينها. واستبشع البعض الجدران الخاوية وانقبضت منها نفوسهم، فعمدوا إلى تزيينها وحاولوا أن يجمعوا بين الزينة والفائدة فجعلوا من جدران الكنائس الجديدة توراةً وإنجيلاً مصورين تصويراً. فبدأوا بجنة عدن وانتقلوا منها إلى بلوطة ممرة وقبر سارة ولقاء يوسف بإخوته فموسى والشريعة فبيت راحاب فسبي إسرائيل فبشارة مريم فقيامة ليعازر فآلام السيد فموته فقيامته فصعوده. وكتبوا تحت هذه التصاوير عبارات تبين مواضيعها9. وتمَّ كشف اللثام عن المحيا فبرغ وجه السيد مشرقاً. واحتل شخصه نقطة الدائرة في فن جدید10. واستعان رجال الفن من المسيحيين بالفسيفساء الملونة وسبقت رومة غيرها، فيما يظهر في هذا المضار فانتج رجالهـا في عهد البابا سيريقيوس (٣٨٤-٣٩٩) فسيفساء كنيسة القديسة بودنسية التي تعد بحق أولى روائع الفن المسيحي11.

بدء المعارضة: وما كاد رجال هذا الفن ينطلقون إلى العمل والإخراج حتى انبرى لمقاومتهم عدد من كبار الآباء ورجال الدين. واشتدت المقاومة في إسبانية فاتخذ مجمع إلفيرة قراراً في حوالي السنة ٣٠٠ حرَّم به وجود الصور في الكنائس كي لا يرسم على الجدران من يكرم ويعبد12.

ولم يرضَ أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين (علامة الخنجرية ٣٤٠) عن هذا التزيين والترويق ورأى في تعليق الصور وإقامة التماثيل بدعة وضلالاً. وهو يذكر لهذه المناسبة تمثال السيد في بانياس فيقول أن تلك التي دنت من وراء السيد ومست هدب ردائه فبرئت كانت من بانياس فينيقية. فلما عادت إلى بلدتها أقامت أمام بيتها تمثالين من النحاس أحدهما يمثل امرأة جاثية مادة يديها متضرعة والآخر يمثل السيد واقفاً ناظراً إليها ماداً يده نحوها. يعلق أفسابيوس فيذكر أن هذين التمثالين كانا لا يزالان قائمين في عصره وأن النبات عند قدمي تمثال السيد كان يشفي جميع الأمراض13. وكتب هذا الأسقف إلى قسطندية ابنة قسطنطين محتجاً على جرأة أولئك الذين يعلقون صورة الجوهر الإلهي الروحي14. واشترك في هذه المعارضة في هذا القرن الرابع إستيريوس أسقف أماسية البونط فاحتج على التطرف في تزيين الكنائس15. ولعل القديس إبيفانيوس لم يرض هو أيضاً عن إدخال الصور إلى المعابد16.

أما باسيليوس الكبير وغريغوريوس النيسي فأنها استصوبا الاستعانة بالتصوير فقال الأول: وما يعجز التاريخ عن تعليمه بالسماع يقربه التصوير الصامت بالقدوة والمثال17. وقال غريغوريوس واصفاً الكنيسة التي شيدت على اسم الشهيد ثيودوروس: لقد تمكن الفنان من إظهار أعمال هذا الشهيد وآلامه بفنه الملون كأنه يكتب بلسان. فالتصوير الصامت يتكلم على الجدران فيقدم أكبر الخدمات. وذاك الذي ضم الحجارة بالفسيفساء جعل الأرض التي نطأ بأرجلنا جديرة بالتاريخ18. والجدير بالذكر لمناسبة الإشارة إلى الفسيفساء أن هذه الصناعة الفنية تقدمت تقدماً ملموساً في القرن الرابع وشاعت في رومة وتوابعها فزينت جدران الكنائس وأرضها. وأروع ما صنع منها في هذا القرن مشهد المسيح محاطاً ببطرس وبولس وسائر الرسل في باسيليقة القديسة برودنسية التي شيدت في عهد البابا سيريقيوس (٣٨٤-۳۹۹)19.

في القرنين الخامس والسادس: والغريب في التصوير الكنسي في القرنين الخامس والسادس أن المصورين استوحوا بعض مواضيعهم وتفاصيلها من أناجيل الأبوقريفة، وهو أمر ذو بال يوضح، كما سنرى في حينه، نوعاً معيناً من أنواع المقاومة20. ومن مميزات التصوير في هذين القرنين الاهتمام الشديد، بعد مجمع أفسس، بتصوير العذراء ملكة السماوات إما وحدها أو محاطة بالرسل أو حاملة بين ذراعيها الطفل يسوع. ومن مميزات هذا العصر أيضاً تصوير الملائكة شباناً بأجنحة على طراز تماثيل النصر الوثنية، وأنجز ديونيسيوس الأريوباغي الكاذب في مستهل القرن السادس رأيه الخيالي في الهيرارخية السماوية فأوحى بذلك بعض مشاهد الظفر في صور هذا العصر21.

وأصبح بناء الكنيسة في القرن السادس قصر المسيح. فأخذ المهندسون والرسامون وسائر الفنانين عن قصور الأباطرة مخططاتها وطرق تشييدها وأعمدتها وسقوفها وبلاطها وآنيتها وألبستها. وظهر بعض القديسين والشهداء ببرات كبار رجال البلاط الفاخرة الزاهية22.

الصور الخصوصية: وأقدم المؤمنون منذ تحرر النصرانية على اقتناء صور صغيرة تمثل المسيح أو العذراء أو القديسين. واشتدت عنايتهم بهذه الصور وتعلقوا بها. ومن هنا اهتمام قسطندية أخت قسطنطين برسم صورة المسيح عن صورة سمعت بوجودها. ومن هنا أيضاً ابتهاج أبجر ملك الرها بصورة المسيح التي رسمها حنَّان له واعتناؤه بها وحفظه لها في محل لائق بمقامها في قصره23. وأقدم ما تبقى من هذه الصور الخصوصية الصغيرة ما وجد في دير القديسة كاترينة في سيناء وحفظ بعدئذ في متحف أكاديمية كيف الكنسي. وهي صور رسمت على لوحات من الخشب صغيرة بألوان شمعية تمثل المسيح أو العذراء أو يوحنا المعمدان أو القديسين سرجيوس وباخوس أو غيرهم من الشهداء24.

إكرام الصور: ولعل الكاربوكراتيين الغنوسيين المسيحيين سبقوا غيرهم إلى إكرام صورة المسيح والسجود لها وذلك في النصف الثاني من القرن الثاني، ولكنهم تمشوا في ذلك على طرق الوثنيين. فإنهم لم يكتفوا بالإكرام والسجود بل مارسوا أمام صورة المسيح وتماثيله المتوجة طقوساً وثنية معروفة25.

ثم جاء القرن الرابع بزهَّاده القديسين وعجائبهم فبدأ المؤمنون يتبركون بذخائر من خصهم بروع منه. وكان بين هذه الذخائر صور الزهاد أنفسهم مبصومة على لوحات من الطوب أعدها القديسون أنفسهم من الغبار الذي أحاط بهم ومن عرق أجسادهم أو ما شاكل ذلك. فأكرم المؤمنون هذه الذخائر واعتبروها متوشحة بروح الله الذي حل على من صنعها. وشمل إكرام المؤمنين كذلك الصور التي لم ترسمها يد بشرية وإنما انطبعت انطباعاً على قطعة من القماش أو غير ذلك لاصقت وجه القديس. ومن الذخائر العجائبية التي شاعت في هذا العصر جثث القديسين أو أثوابهم أو تراب الأرض التي جرت عليها حوادث مقدسة. وإذا حفظت هذه الذخائر في صناديق معينة ورسمت على هذه الصناديق صور محتوياتها انتقلت قداسة المحتويات إلى الصور اللاصقة بها. وهكذا أصبحت الصور مقدسة لاتصالها المباشر إما بالقديسين أنفسهم أو بذخائرهم وأصبحت آنية لقوة الله. ثم تطور هذا القول مع مرور الزمن فشمل كل صورة مقدسة، كل أيقونة، سواء ألاصقت قديساً أم لا تلاصقه26. وعم هذا القول جميع الكنائس ولم يشذ النساطرة كما يرتأي العالم الألماني كارل هول في كتابه المشار إليه في الهامش. فقد أوضح لورانس براون أن النساطرة لم يتزعوا الأيقونات من كنائسهم قبل العصور الحديثة27.

الأباطرة والأيقونات: وليس في ما تبقى من آثار قسطنطين الكبير وخلفائه ما يدل على استعمال الأيقونات بشكل حكومي رسمي. وجل ما هنالك أن قسطنطين وخلفاءه اتخذوا من الصليب الذي ظهر لقسطنطين شارة لنصرهم وسلطتهم. وحاولت قسطندية بنت قسطنطين کما سبق وأشرنا أن تقتني صورة السيد بواسطة أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين فجاء رد هذا الأسقف مانعاً محرماً. وعلى الرغم مما جاء في رسائل البطاركة إلى تيوفيلوس28 وما أوردته بعض المراجع المتأخرة فانه لا يجوز افتراض ظهور صورة السيد على مسكوكات هؤلاء الأباطرة29.

وأقدم رسوم السيد المخلص في آثار الاباطرة ما جاء على دفتي ذبتيخة يوستينوس الفتى التي صنعت في السنة ٥٤٠. فقد جاء على كل دفة من دفتي هذه الذبتيخة رسم السيد قائماً بين رسمي يوستنيانوس وثيودورة30. ويجيء بعد هذا السيد على ذبتيغة رسم بربريني وهي في الأرجح ذبتيخة إمبراطورية صنعت للإمبراطور يوستنيانوس في حوالي السنة ٥٥٠31.

ورأى الروم في الحرب الفارسية حرباً مقدسة. فقد جاء لبروكوبيرس مؤرخ يوستنيانوس في كلامه عن حوادث السنة ٥٤٤ بأن كسرى ملك الفرس قاوم الله إله المسيحيين لا يوستنيانوس32. وجاء في حوليات بسكال عن نهاية هذه الحرب في عهد هرقل في السنة ٦٢٨ إن كسرى المتكبر المتجبر كان قد ثار على المسيح وأنه الثيوماخوس «محارب الله» والثيوميسيتوس «مبغض الله» وأن جيوش «محبي المسيح» رموا به إلى الهاوية ومحوا ذكره33. ورصَّع هرقل بياناته الرسمية بعبارات من المزامير وجعل أعداءه الفرس أعداء السيد. وأوجب جاورجيوس بيسيذس شاعر القصر محق ديانة الفرس لأنها كاذبة باطلة ودعا للنصرانية لأنها دين الحق. ورأى في جيش هرقل العدالة نفسها زاحفة ضد الشر34.

وفي غمرة هذا الحماس الديني وهذه الحرب بين دين المسيح ودین زرادشت أضاف طيباريوس الثاني (٥٧٨-٥٨٢) اسم قسطنطين إلى اسمه ولجأ إلى الصليب المقدس فضربه على مسكوكاته الذهبية فوق درجات النصر وضربه على مسكوكاته الفضية مكللاً35. وأرفقه بالعبارة Lux Mundi مذكراً برائد الدولة المسكوني. وظل الصليب مضروباً على مسكوكات الروم أعواماً طوالاً. ولم يستغن من خلفاء طيباريوس الأرثوذكسيين أو المحطمين.

ثم لجأ موريقيوس إلى منديل السيد في الرها فحمله عالياً في موقعة أرزامون36. وفي السنة ٦٢٢ عاد هرقل إلى هذا المنديل نفسه فرفعه بيديه وأظهره لجنوده قبيل الرحف على الفرس37. وأصبح المنديل شارة النصر وعنوان عناية المسيح بشعبه فاستوجب كل تقدير واحترام وإكرام.

ولجأ موريقيوس أيضاً إلى صورة السيدة والدة الإله في اختام الدولة فأحلها على صورة النصر الوثنية التي كانت لا تزال محفورة على هذه الاختام38. وجاء يوستنيانوس الثاني (٦٨٥ - ٦٩٥ و٧٠٥ - ٧١١) فأكمل احترام الأيقونات الرسمي بضربها على مسكوكاته39.


  1. سفر أعمال الرسل ٤٢:٢ و٤٦
  2. Lettre à Diogenète, Argentoratensis, I, 4; Tertullianus, Apologeticum, 42.
  3. ZEILLER, J., La Vie Chrétienne aux Deux Premiers Siècles; FLICHE et MARTIN, Hist. de l'Eglise, I, 411-412.
  4. رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس ۱٥ : ۳٥-۳۸
  5. WILPERT, Mgr., Die Malereien der Katakamben Roms.; ELLIGER W. Zur Entstehung und Fruhen Entwicklung der Altchristlichen Bildkunst.
  6. STYGER, P., Die Romischen Katakomben, Berlin, 1933.
  7. ROSTOVTZEFF, M.I., The Excavations at Dura-Europos, Fifth Season, 1931-1932, 237-285.
  8. WILPERT, J., Sarcofagi Cristiani Antichi, I, Pl. I f.; RAMSAY, Sir William, Studies in the History and Art of the Eastern Provinces, Pl. I.
  9. GREGOIRE DE NYSSE, P.G., Vol. 46, Col. 737; GREGOIRE DE NAZIANCE, P.G., Vol. 35, Col. 1037; BREHIER, L., Art Chrétien, 107.
  10. LECLERCQ, Nimbe, Dict. Arch. Chrét.
  11. LABRIOLLE, P., Culture Chrétienne; FLICHE et MARTIN, Hist. de l'Eglise, III, 435.
  12. HEFELE-LECLERCQ, Hist. des Conciles, I, 240, n. 4.
  13. EUSEBE, Hist. Ecc., VII, 18.
  14. Mansi, XIII, Col. 313, 317; Pitra, Spicil. Sol., I, 383 ff.
  15. Hom. de divite et Lazaro; in Laudem S. Euphemiae.
  16. Mansi, XIII, Col. 291, 335.
  17. Hom, XIX.
  18. Pat. Gr., Vol. 46, Col. 757; Epist. CV.
  19. Mosaïque, Dict. Arch. Chrét. et de Liturgie.
  20. BREHIER, L., Art Chrétien, 61, 98; GRISAR, H., Hist. de Rome et des Papes, I, 272.
  21. LABRIOLLE, P., Culture Chrétienne; FLICHE et MARTIN, IV, 575-576.
  22. BREHIER, L. et BATIFFOL, P., Les Survivances du Culte Impérial Romain, Paris, 1920; GRABAR, A., L'Empereur dans l'Art Byzantin, Paris, 1936.
  23. Patr. Gr., Vol. 20, Col. 1545-1550; FLOROVSKfl, G., Origen, Eusebius, and the Iconoclastic Controversy, Church History, 1950, 77-96; Doctrina Addai, DOBSCHUTZ, Christusbilder, 171.
  24. SOTIRIU, G.A., Theotokos Ethroned, Baull. Corresp. Hellen., 1946, 552-556; Mélanges Grégoire, 607-610.
  25. DOBSCHUTZ, Christusbilder, 98.
  26. GRABAR, A., Martyrium, II, 343-357; Holk, K., Der Anteil der Styliten am Aufkommen der Bilderverehrung, Gesammelte Aufsatze zur Kirchengeschichte, II, 388-398; DOBSCHUTZ, Christusbilder, 277-279.
  27. BROWNE, L.E., The Eclipse of Christianity in Asia, 79 f.
  28. P.G., Vol.95, Col. 384.
  29. MAURICE, J., Numismatique Constantinienne, II, 256 f.
  30. GRABAR, A., Iconoclasme Byzantin, 18, 24.
  31. DELBRUECK, R., Die Consulardyptichen und Werwandte Denkmaler, 188; BAYNES and Moss, Byzantium, Pl. 37.
  32. De Bello Persico (Bonn) I, 205.
  33. Chronique Pascale, 728.
  34. GEORGES PISIDES, De Expeditione Persica, P.G., Vol. 92, Col. 1197 f., 1302, 1314-1315.
  35. GRABAR, A., op. cit., 28, n. 2.
  36. Theophyl. Samokatta, Hist. (de Boor), 73; DOBSCHUTZ, E. von, Christusbilder, 127.
  37. Georges PISIDES, Exp. Per., P.G., Vol. 92, Col. 1207-1208.
  38. GRABAR, A., op. cit., 34-35.
  39. Ibid., 36-45.