تهافت الفلاسفة (الغزالي)
مسألة في إبطال قولهم بقدم العالم مذهب الفلاسفة تفصيل المذهب: اختلفت الفلاسفة في قدم العالم. فالذي استقر عليه رأي جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين القول بقدمه وأنه لم يزل موجوداً مع الله تعالى ومعلولاً له ومسوقاً له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة ومساوقة النور للشمس، وأن تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان. وحكي عن أفلاطن أنه قال: العالم مكون ومحدث. ثم منهم من أول كلامه وأبى أن يكون حدث العالم معتقداً له. وذهب جالينوس في آخر عمره في الكتاب الذي سماه "ما يعتقده جالينوس رأياً" إلى التوقف في هذه المسألة. وأنه لا يدري العالم قديم أو محدث. وربما
دل على أنه لا يمكن أن يعرف وأن ذلك ليس لقصور فيه بل لاستعصاء هذه المسألة في نفسها على العقول، ولكن هذا كالشاذ في مذهبهم وإنما مذهب جميعهم أنه قديم وأنه بالجملة لا يتصور أن يصدر حادث من قديم بغير واسطة أصلاً. اختيار أشد أدلتهم وقعاً في النفس إيراد أدلتهم. لو ذهبت أصف ما نقل عنهم في معرض الأدلة وذكر في الاعتراض عليه لسودت في هذه المسألة أوراقاً، ولكن لا خير في التطويل. فلنحذف من أدلتهم ما يجري مجرى التحكم أو التخيل الضعيف الذي يهون على كل ناظر حله. ولنقتصر على إيراد ما له وقع في النفس، مما لا يجوز أن ينهض مشككاً لفحول النظار، فإن تشكيك الضعفاء بأدنى خبال ممكن. وهذا الفن من الأدلة ثلاثة:
الأول يستحيل حدوث حادث من قديم مطلقاً قولهم يستحيل صدور حادث من قديم مطلقاً، لأنا إذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم مثلاً فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح بل كان وجود العالم ممكناً إمكاناً صرفاً، فإذا حدث بعد ذلك لم يخل إما أن تجدد مرجح أو لم يتجدد، فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما قبل ذلك، وإن تجدد مرجح فمن محدث ذلك المرجح؟ ولم حدث الآن ولم يحدث من قبل؟ والسؤال في حدوث المرجح قائم. وبالجملة فأحوال القديم إذا كانت متشابهة فإما أن لا يوجد عنه شيء قط وإما أن يوجد على الدوام، فأما أن يتميز حال الترك عن حال الشروع فهو محال. لم لم يحدث العالم قبل حدوثه؟ ... وتحقيقه أن يقال: لم لم يحدث العالم قبل حدوثه؟ لا يمكن أن يحال على عجزه عن الأحداث ولا على استحالة الحدوث، فإن ذلك يؤدي إلى أن ينقلب القديم من العجز إلى القدرة والعالم من الاستحالة إلى الإمكان، وكلاهما محالان. ولا أمكن أن يقال: لم يكن قبله غرض ثم تجدد غرض، ولا أمكن أن يحال على فقد آلة ثم على وجودها، بل أقرب ما يتخيل أن يقال: لم يرد وجوده قبل ذلك. فيلزم أن يقال: حصل وجوده لأنه صار مريداً لوجوده
بعد أن لم يكن مريداً، فيكون قد حدثت الإرادة. أو قبل حدوث الإرادة؟ وحدوثه في ذاته محال لأنه ليس محل الحوادث، وحدوثه لا في ذاته لا يجعله مريداً. ولنترك النظر في محل حدوثه. أليس الإشكال قائماً في أصل حدوثه! وأنه من أين حدث؟ ولم حدث الآن ولم يحدث قبله؟ أحدث الآن لا من جهة الله؟ فإن جاز حادث من غير محدث فليكن العالم حادثاً لا صانع له، وإلا فأي فرق بين حادث وحادث؟ وإن حدث بإحداث الله فلم حدث الآن ولم يحدث من قبل؟ ألعدم آلة أو قدرة أو غرض أو طبيعة؟ فلما أن تبدل ذلك بالوجود وحدث عاد الإشكال بعينه. أو لعدم الإرادة؟ فتفتقر الإرادة إلى إرادة وكذى الإرادة الأولى، ويتسلسل إلى غير نهاية. يستحيل حدوث حادث من غير تغير ... فإذن قد تحقق بالقول المطلق أن صدور الحادث من القديم من غير تغير أمر من القديم في قدرة أو آلة أو وقت أو غرض أو طبع محال، وتقدير تغير حال محال، لأن الكلام في ذلك التغير الحادث كالكلام في غيره
والكل محال، ومهما كان العالم موجوداً واستحال حدثه ثبت قدمه لا محالة.
وهذا أقوى أدلتهم فهذا أخبل أدلتهم. وبالجملة كلامهم في سائر مسائل الإلهيات أرك من كلامهم في هذه المسألة، إذ يقدرون هاهنا على فنون من التخييل لا يتمكنون منه في غيرها. فلذلك قدمنا هذه المسألة وقدمنا أقوى أدلتهم. لماذا يستحيل حدوث حادث بإرادة قديمة؟ الاعتراض من وجهين: أحدهما أن يقال: بم تنكرون على من يقول: إن العالم حدث بإرادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه، وأن يستمر العدم إلى الغاية التي استمر إليها، وأن يبتدئ الوجود من حيث ابتدأ، وأن الوجود قبله لم يكن مراداً فلم يحدث لذلك، وأنه في وقته الذي حدث فيه مراد بالإرادة القديمة فحدث لذلك، فما المانع لهذا الاعتقاد وما المحيل له؟ قولهم لكل حادث سبب ... فإن قيل: هذا محال بين الإحالة لأن الحادث موجب ومسبب. وكما يستحيل حادث بغير سبب وموجب، يستحيل وجود موجب قد تم بشرائط إيجابه وأركانه وأسبابه حتى لم يبق شيء منتظر البتة ثم يتأخر الموجب، بل وجود الموجب عند تحقق الموجب بتمام شروطه ضروري وتأخره محال حسب استحالة وجود الحادث الموجب بلا موجب. فقبل وجود العالم كان المريد موجوداً والإرادة موجودة ونسبتها إلى المراد موجودة ولم يتجدد مريد ولم يتجدد إرادة ولا تجدد للإرادة نسبة لم تكن، فإن كل ذلك تغير فكيف تجدد المراد وما المانع من التجدد قبل ذلك؟ وحال التجدد لم يتميز عن الحال السابق في شيء من الأشياء وأمر من الأمور وحال من الأحوال ونسبة من النسب، بل الأمور كما كانت بعينها. ثم لم يكن يوجد المراد، وبقيت بعينها كما كانت، فوجد المراد ما هذا إلا غاية الإحالة. وذلك في الأمور الوضعية أيضاً، في الطلاق مثلاً وليس استحالة هذا الجنس في الموجب والموجب الضروري الذاتي بل وفي العرفي والوضعي، فإن الرجل لو تلفظ بطلاق زوجته ولم تحصل البينونة في الحال لم يتصور أن تحصل بعده لأنه جعل اللفظ علة للحكم بالوضع
والاصطلاح، فلم يعقل تأخر المعلول إلا أن يعلق الطلاق بمجيء الغد أو بدخول الدار، فلا يقع في الحال ولكن يقع عند مجيء الغد وعند دخول الدار، فإنه جعله علة بالإضافة إلى شيء منتظر. فلما لم يكن حاضراً في الوقت، وهو الغد والدخول، توقف حصول الموجب على حضور ما ليس بحاضر، فما حصل الموجب إلا وقد تجدد أمر وهو الدخول وحضور الغد، حتى لو أراد أن يؤخر الموجب عن اللفظ غير منوط بحصول ما ليس بحاصل، لم يعقل، مع أنه الواضع وأنه المختار في تفصيل الوضع. فإذا لم يمكننا وضع هذا بشهوتنا ولم نعقله فكيف نعقله في الإيجابات الذاتية العقلية الضرورية؟ المقصود فعله لا يتأخر إلا بمانع وأما في العادات فما يحصل بقصدنا لا يتأخر عن القصد، مع وجود القصد إليه، إلا بمانع، فإن تحقيق القصد والقدرة وارتفعت الموانع لم يعقل تأخر المقصود، وإنما يتصور ذلك في العزم لأن العزم غير كاف في وجود الفعل، بل العزم على الكتابة لا يوقع الكتابة ما لم يتجدد قصد هو انبعاث في الإنسان متجدد حال الفعل، فإن كانت الإرادة القديمة في حكم قصدنا إلى الفعل فلا يتصور تأخر المقصود إلا بمانع، ولا يتصور تقدم القصد، فلا يعقل قصد في اليوم
إلى قيام في الغد إلا بطريق العزم. وإن كانت الإرادة القديمة في حكم عزمنا فليس ذلك كافياً في وقوع المعزوم عليه، بل لا بد من تجدد انبعاث قصدي عند الإيجاد، وفيه قول بتغير القديم. لماذا يحدث القصد؟ ثم يبقى عين الإشكال في أن ذلك الانبعاث أو القصد أو الإرادة أو ما شئت سمه لم حدث الآن ولم يحدث قبل ذلك؟ فإما أن يبقى حادث بلا سبب أو يتسلسل إلى غير نهاية. ورجع حاصل الكلام إلى أنه وجد الموجب بتمام شروطه ولم يبق أمر منتظر، ومع ذلك تأخر الموجب ولم يوجد في مدة لا يرتقي الوهم إلى أولها بل آلاف سنين لا تنقص شيئاً منها، ثم انقلب الموجب بغتة من غير أمر تجدد وشرط تحقق، وهو محال في نفسه. قولنا من أين تعرفون الأمر؟ ... والجواب أن يقال: استحالة إرادة قديمة متعلقة بإحداث شيء أي شيء كان، تعرفونه بضرورة العقل أو نظره؟ وعلى لغتكم في المنطق تعرفون الالتقاء بين هذين الحدين بحد أوسط أو من غير حد أوسط. فإن ادعيتم حداً أوسط وهو الطريق النظري فلا بد من إظهاره، وإن ادعيتم معرفة ذلك ضرورة فكيف لم يشارككم في معرفته مخالفوكم والفرقة المعتقدة بحدث العالم بإرادة قديمة لا يحصرها بلد ولا يحصيها عدد؟ ولا شك في أنهم لا يكابرون العقول عناداً مع المعرفة، فلا بد من إقامة برهان على شرط المنطق يدل على استحالة ذلك، إذ ليس في جميع ما ذكرتموه إلا الاستبعاد والتمثيل بعزمنا وإرادتنا وهو فاسد، فلا تضاهي الإرادة القديمة القصود الحادثة، وأما الاستبعاد المجرد فلا يكفي من غير برهان. ... من ضرورة العقل فإن قيل: نحن بضرورة العقل نعلم أنه لا يتصور موجب بتمام شروطه من غير موجب، ومجوز ذلك مكابر لضرورة العقل. خصومكم يقولون القول نفسه في علم الله قلنا: وما الفصل بينكم وبين خصومكم إذا قالوا لكم: إنا بالضرورة نعلم
إحالة قول من يقول: إن ذاتاً واحداً عالم بجميع الكليات من غير أن يوجب ذلك كثرة ومن غير أن يكون العلم زيادة على الذات ومن غير أن يتعدد العلم مع تعدد المعلوم، وهذا مذهبكم في حق الله، وهو بالنسبة إلينا وإلى علومنا في غاية الإحالة، ولكن تقولون: لا يقاس العلم القديم بالحادث. وطائفة منكم استشعروا حالة هذا فقالوا: إن الله لا يعلم إلا نفسه، فهو العاقل وهو العقل وهو المعقول والكل واحد. فلو قال قائل: اتحاد العقل والعاقل والمعقول معلوم الاستحالة بالضرورة، إذ تقدير صانع للعالم لا يعلم صنعه محال بالضرورة، والقديم إذا لم يعلم إلا نفسه - تعالى عن قولكم وعن قول جميع الزائغين علواً كبيراً - لم يكن يعلم صنعه البتة. بل لا نتجاوز إلزامات هذه المسألة. دورات الفلك إن كان لا نهاية لأعدادها، لا يكون لها أقسام فنقول: بم تنكرون على خصومكم إذ قالوا: قدم العالم محال لأنه يؤدي إلى إثبات دورات للفلك لا نهاية لأعدادها ولا حصر لآحادها، مع أن لها سدساً وربعاً ونصفاً، فإن فلك الشمس يدور في سنة وفلك زحل في ثلاثين سنة، فتكون أدوار زحل ثلث عشر أدوار الشمس، وأدوار المشتري نصف سدس أدوار الشمس، فإنه يدور في اثني عشر سنة. ثم كما أنه لا نهاية لأعداد دورات زحل لا نهاية لأعداد دورات الشمس مع أنه ثلث عشره، بل لا نهاية لأدوار فلك الكواكب الذي يدور في ستة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة، كما لا نهاية للحركة المشرقية التي للشمس في اليوم والليلة مرة. فلو قال قائل: هذا مما يعلم استحالته ضرورة، فبماذا تنفصلون عن قوله؟ بل لو قال قائل: أعداد هذه الدورات شفع أو وتر، أو شفع ووتر جميعاً، أو لا شفع ولا وتر. ولا تكون شفع أو وتر فإن قلتم: شفع ووتر جميعاً، أو لا شفع ولا وتر، فيعلم بطلانه ضرورةً. وإن قلتم: شفع، فالشفع يصير وتراً بواحد، فكيف أعوز ما لانهاية له واحد؟ وإن قلتم: وتر، فالوتر يصير بواحد شفعاً، فكيف أعوز ذلك الواحد الذي به يصير شفعاً؟ فيلزمكم القول بأنه ليس بشفع ولا وتر.
قولهم المتناهي وحده يوصف بالشفع والوتر فإن قيل: إنما يوصف بالشفع والوتر المتناهي، وما لا يتناهى لا يوصف به. قولنا تكون هناك جملة آحاد قلنا: فجملة مركبة من آحاد لها سدس وعشر كما سبق ثم لا توصف بشفع ولا وتر يعلم بطلانه ضرورة من غير نظر، فبماذا تنفصلون عن هذا؟ قولهم ليست هنالك جملة آحاد فإن قيل: محل الغلط في قولكم أنه جملة مركبة من آحاد، فإن هذه الدورات معدومة. أما الماضي فقد انقرض وأما المستقبل فلم يوجد، والجملة إشارة إلى موجودات حاضرة، ولا موجود هاهنا!. قولنا لا بأس قلنا: العدد ينقسم إلى الشفع والوتر ويستحيل أن يخرج عنه سواء كان المعدود موجوداً باقياً أو فانياً. فإذا فرضنا عدداً من الأفراس لزمنا أن نعتقد أنه لا يخلو من كونه شفعاً أو وتراً، سواء قدرناها موجودة أو معدمة. فإن انعدمت بعد الوجود لم تتغير هذه القضية. أمر نفس الإنسان على أنا نقول لهم: لا يستحيل على أصلكم موجودات حاضرة هي آحاد متغايرة بالوصف ولا نهاية لها وهي نفوس الآدميين المفارقة للأبدان بالموت، فهي موجودات لا توصف بالشفع والوتر، فبم تنكرون على من يقول: بطلان هذا يعرف ضرورة، وهذا الرأي في النفوس هو الذي اختاره ابن سينا ولعله مذهب رسطاليس. قولهم النفس واحدة فإن قيل: فالصحيح رأي أفلاطن، وهو أن النفس قديمة وهي واحدة وإنما تنقسم في الأبدان، فإذا فارقتها عادت إلى أصلها واتحدت. قولنا هذا مما يخالف ضرورة العقل ... قلنا: فهذا أقبح وأشنع وأولى بأن يعتقد مخالفاً لضرورة العقل. فإنا نقول: نفس زيد عين نفس عمرو أو غيره، فإن كان عينه فهو باطل بالضرورة، فإن كل واحد يشعر بنفسه ويعلم أنه ليس هو نفس غيره. ولو كان هو عينه لتساويا في العلوم التي هي صفات ذاتية للنفوس داخلة مع النفوس في كل إضافة. وإن قلتم: إنه غيره وإنما انقسم بالتعلق بالأبدان، قلنا: وانقسام الواحد الذي ليس له عظم في الحجم وكمية مقدارية محال بضرورة العقل، فكيف يصير الواحد اثنين بل ألفاً ثم يعود ويصير واحداً؟ بل هذا يعقل فيما له عظم وكمية
كماء البحر ينقسم بالجداول والأنهار ثم يعود إلى البحر. فأما ما لا كمية له فكيف ينقسم؟ ولذا هم مفحمون والمقصود من هذا كله أن نبين أنهم لم يعجزوا خصومهم عن معتقدهم في تعلق الإرادة القديمة بالأحداث إلا بدعوى الضرورة وأنهم لا ينفصلون عمن يدعي الضرورة عليهم في هذه الأمور على خلاف معتقدهم، وهذا لا مخرج عنه. قولهم إن الله قبل خلق العالم ... فإن قيل: هذا ينقلب عليكم في أن الله قبل خلق العالم كان قادراً على الخلق بقدر سنة أو سنتين - ولا نهاية لقدرته - فكأنه صبر ولم يخلق ثم خلق، ومدة الترك متناه أو غير متناه. فإن قلتم: متناه، صار وجود الباري متناهي الأول، وإن قلتم: غير متناه، فقد انقضى مدة فيها إمكانات لا نهاية لأعدادها. راجع الدليل الثاني قلنا: المدة والزمان مخلوق عندنا. وسنبين حقيقة الجواب عن هذا في الانفصال عن دليلهم الثاني. قولهم ما الذي ميز وقتاً معيناً عما قبله وعما بعده؟ ... فإن قيل: فبم تنكرون على من يترك دعوى الضرورة ويدل عليه من وجه آخر وهو أن الأوقات متساوية في جواز تعلق الإرادة بها؟ فما الذي ميز وقتاً معيناً عما قبله وعما بعده وليس محالاً أن يكون التقدم والتأخر مراداً؟ بل في البياض والسواد والحركة والسكون فإنكم تقولون: يحدث البياض بالإرادة القديمة والمحل قابل للسواد قبوله للبياض، فلم تعلقت الإرادة القديمة بالبياض دون السواد؟ وما الذي ميز أحد الممكنين عن الآخر في تعلق الإرادة به؟ ونحن بالضرورة نعلم أن الشيء لا يتميز عن مثله إلا بمخصص، ولو جاز ذلك لجاز أن يحدث العالم وهو ممكن الوجود كما أنه ممكن العدم، ويتخصص
جانب الوجود المماثل لجانب العدم في الإمكان بغير مخصص. .. وما الذي خصص الإرادة؟ وإن قلتم: إن الإرادة خصصت، فالسؤال عن اختصاص الإرادة وأنها لم اختصت. فإن قلتم: القديم لا يقال له، لم؟ فليكن العالم قديماً ولا يطلب صانعه وسببه، لأن القديم لا يقال فيه: لم. فإن جاز تخصص القديم بالاتفاق بأحد الممكنين فغاية المستبعد أن يقال: العالم مخصوص بهيئات مخصوصة كان يجوز أن يكون على هيئات أخرى بدلاً عنها. فيقال: وقع كذلك اتفاقاً كما قلتم: اختصت الإرادة بوقت دون وقت وهيئة دون هيئة اتفاقاً. وإن قلتم: إن هذا السؤال غير لازم لأنه وارد على كل ما يريده وعائد على كل ما يقدره، فنقول: لا، بل هذا السؤال لازم لأنه عائد في كل وقت وملازم لمن خالفنا على كل تقدير. قولنا الإرادة تميز الشيء عن مثله قلنا: إنما وجد العالم حيث وجد وعلى الوصف الذي وجد وفي المكان الذي وجد بالإرادة، والإرادة صفة من شأنها تمييز الشيء عن مثله، ولولا أن هذا شأنها لوقع الاكتفاء بالقدرة. ولكن لما تساوى نسبة القدرة إلى الضدين ولم يكن بد من مخصص يخصص الشيء عن مثله فقيل: للقديم وراء القدرة صفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله، فقول القائل: لم اختصت الإرادة بأحد المثلين، كقول القائل: لم اقتضى العلم الإحاطة بالمعلوم على ما هو به؟ فيقال: لأن العلم عبارة عن صفة هذا شأنها، فكذى الإرادة عبارة عن صفة هذا شأنها، بل ذاتها تمييز الشيء عن مثله.
في الأمرين تناقض فإن قيل: إثبات صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله غير معقول بل هو متناقض، فإن كونه مثلاً معناه أنه لا تميز له، وكونه مميزاً معناه أنه ليس مثلاً، ولا ينبغي أن يظن أن السوادين في محلين متماثلان من كل وجه لأن هذا في محل وذاك في محل آخر، وهذا يوجب التميز. ولا السوادان في وقتين في محل واحد متماثلان مطلقاً لأن هذا فارق ذلك في الوقت، فكيف يساويه من كل وجه. وإذا قلنا: السوادان مثلان، عنينا به في السوادية مضافاً إليه على الخصوص لا على الإطلاق، وإلا فلو اتحد المحل والزمان ولم يبق تغاير لم يعقل سوادان ولا عقلت الإثنينية أصلاً. العطشان إذا كان بين يديه قدحان متساويان لا يمكن أن يأخذ أحدهما بدون تمييز يحقق هذا أن لفظ الإرادة مستعارة من إرادتنا ولا يتصور منا أن نميز بالإرادة الشيء عن مثله، بل لو كان بين يدي العطشان قدحان من الماء يتساويان من كل وجه بالإضافة إلى غرضه، لم يمكن أن يأخذ أحدهما، بل إنما يأخذ ما يراه أحسن أو أخف أو أقرب إلى جانب يمينه، إن كان عادته تحريك اليمين أو سبب من هذه الأسباب إما خفي وإما جلي، وإلا فلا يتصور تمييز الشيء عن مثله بحال. إنكار الأمر في حق الله ... والاعتراض من وجهين: الأول أن قولكم: إن هذا لا يتصور، عرفتموه ضرورة أو نظراً؟ ولا يمكن دعوى واحد منهما، وتمثيلكم بإرادتنا مقايسة فاسدة تضاهي المقايسة في العلم، وعلم الله يفارق علمنا في أمور قررناها، فلم تبعد المفارقة في الإرادة بل هو كقول القائل: ذات موجودة لا خارج العالم ولا داخله ولا متصلاً ولا منفصلاً لا يعقل لأنا لا نعقله في حقنا. قيل: هذا عمل توهمك، وأما دليل العقل فقد ساق العقلاء إلى التصديق بذلك، فبم تنكرون على من يقول: دليل العقل ساق إلى إثبات صفة لله تعالى من شأنها تمييز الشيء عن مثله؟ فإن لم يطابقها اسم الإرادة فلتسم باسم آخر، فلا مشاحة في الأسماء. وإنما أطلقناها نحن بإذن الشرع، وإلا فالإرادة موضوعة في اللغة لتعيين ما فيه غرض،
ولا غرض في حق الله، وإنما المقصود المعنى دون اللفظ. .. وفي حق الإنسان، فإنه إذا كانت بين يديه تمرتين متساويتين، يأخذ إحداهما. على أنه في حقنا لا نسلم أن ذلك غير متصور، فإنا نفرض تمرتين متساويتين بين يدي المتشوف إليهما العاجز عن تناولهما جميعاً، فإنه يأخذ إحداهما لا محالة بصفة شأنها تخصيص الشيء عن مثله. وكل ما ذكرتموه من المخصصات من الحسن أو القرب أو تيسر الأخذ فإنا نقدر على فرض انتفائه، ويبقى إمكان الأخذ. فأنتم بين أمرين: إما إن قلتم: إنه لا يتصور التساوي بالإضافة إلى أغراضه فقط، وهو حماقة وفرضه ممكن، وإما إن قلتم: التساوي إذا فرض بقي الرجل المتشوف أبداً متحيراً ينظر إليهما فلا يأخذ إحداهما بمجرد الإرادة والاختيار المنفك عن الغرض، وهو أيضاً محال يعلم بطلانه ضرورةً. فإذن لابد لكل ناظر شاهداً أو غائباً في تحقيق الفعل الاختياري من إثبات صفة شأنها تخصيص الشيء عن مثله. لماذا اختص العالم ببعض الوجوه؟ ... الوجه الثاني في الاعتراض هو أنا نقول: أنتم في مذهبكم ما استغنيتم عن تخصيص الشيء عن مثله، فإن العالم وجد من سببه الموجب له على هيئات مخصوصة تماثل نقائضها، فلم اختص ببعض الوجوه؟ واستحالة تميز الشيء عن مثله في الفعل أو في اللزوم بالطبع أو بالضرورة لا تختلف. .. قولهم بضرورة النظام الكلي فإن قلتم: إن النظام الكلي للعالم لا يمكن إلا على الوجه الذي وجد، وإن العالم لو كان أصغر أو أكبر مما هو الآن عليه لكان لا يتم هذا النظام، وكذا القول في عدد الأفلاك وعدد الكواكب. وزعمتم أن الكبير يخالف الصغير والكثير يفارق القليل في ما يراد منه فليست متماثلة بل هي مختلفة، إلا أن القوة البشرية تضعف عن درك وجوه الحكمة في مقاديرها وتفاصيلها وإنما تدرك الحكمة في بعضها كالحكمة في ميل فلك البروج عن معدل النهار والحكمة في الأوج والفلك الخارج المركز، والأكثر لا يدرك السر فيها ولكن يعرف اختلافها، ولا بعد في أن يتميز الشيء عن خلافه لتعلق نظام الأمر به. وأما الأوقات
فمتشابهة قطعاً بالنسبة إلى الإمكان وإلى النظام، ولا يمكن أن يدعي أنه لو خلق بعد ما خلق أو قبله بلحظة لما تصور النظام، فإن تماثل الأحوال يعلم بالضرورة. قولنا لا. مثلان ... فنقول: نحن وإن كنا نقدر على معارضتكم بمثله في الأحوال إذ قال قائلون: خلقه في الوقت الذي كان الأصلح الخلق فيه، لكنا لا نقتصر على هذه المقابلة بل نفرض على أصلكم تخصصاً في موضعين لا يمكن أن يقدر فيه اختلاف: أحدهما اختلاف جهة الحركة والآخر تعين موضع القطب في الحركة عن المنطقة. ... مثل القطب الشمالي والقطب الجنوبي أما القطب فبيانه أن السماء كرة متحركة على قطبين كأنهما ثابتان، وكرة السماء متشابهة الأجزاء فإنها بسيطة، لا سيما الفلك الأعلى الذي هو التاسع فإنه غير مكوكب أصلاً، وهما متحركان على قطبين شمالي وجنوبي. فنقول: ما من نقطتين متقابلتين من النقط التي لا نهاية لها عندهم إلا ويتصور أن يكون هو القطب. فلم تعينت نقطتا الشمال والجنوب للقطبية والثبات؟ ولم لم يكن خط المنطقة ماراً بالنقطتين حتى يعود القطب إلى نقطتين متقابلتين على المنطقة؟ فإن كان في مقدار كبر السماء وشكله حكمة فما الذي ميز محل القطب عن غيره حتى تعين لكونه قطباً دون سائر الأجزاء والنقط، وجميع النقط متماثلة وجميع أجزاء الكرة متساوية؟ وهذا لا مخرج عنه؟ قولهم لعل ذلك الموضع يفارق غيره بخاصية فإن قيل لعل الموضع الذي عليه نقطة القطب يفارق غيره بخاصية تناسب كونه محلاً للقطب حتى يثبت، فكأنه لا يفارق مكانه وحيزه ووضعه أو ما يفرض إطلاقه عليه من الأسامي، وسائر مواضع الفلك يتبدل بالدور وضعها من الأرض ومن الأفلاك والقطب ثابت الوضع، فلعل ذلك الموضع كان أولى بأن يكون ثابت الوضع من غيره. تقولون بتشابه السماء ... قلنا: ففي هذا تصريح بتفاوت أجزاء الكرة الأولى في الطبيعة وأنها ليست متشابهة الأجزاء، وهو على خلاف أصلكم، إذ أحد ما استدللتم به على لزوم
كون السماء كرى الشكل أنه بسيط الطبيعة متشابه لا يتفاوت، وأبسط الأشكال الكرة، فإن التربيع والتسديس وغيرهما يقتضي خروج زوايا وتفاوتها، وذلك لا يكون إلا بأمر زائد على الطبع البسيط. ... ومن أين تلك الخاصية؟ ولكنه وإن خالف مذهبكم فليس يندفع الإلزام به، فإن السؤال في تلك الخاصية قائم، إذ سائر الأجزاء هل كان قابلاً تلك الخاصية أم لا؟ فإن قالوا نعم، فلم اختصت الخاصية من بين المتشابهات ببعضها؟ وإن قالوا: لم يكن ذلك إلا في ذلك الموضع وسائر الأجزاء لا تقبلها، فنقول: سائر الأجزاء من حيث أنها جسم قابل للصور متشابه بالضرورة، وتلك الخاصية التي يستحقها ذلك الموضع بمجرد كونه جسماً ولا بمجرد كونه سماء، فإن هذا المعنى يشاركه فيه سائر أجزاء السماء، فلا بد وأن يكون تخصيصه به بتحكم أو بصفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله، وإلا فكما يستقيم لهم قولهم: إن الأحوال في قبول وقوع العالم فيها متساوية، يستقيم لخصومهم أن أجزاء السماء في قبول المعنى الذي لأجله صار ثبوت الوضع أولى به من تبدل الوضع متساوية، وهذا لا مخرج منه. ما سبب تباين حركات السماء؟ الإلزام الثاني تعين جهة حركة الأفلاك بعضها من المشرق إلى المغرب وبعضها بالعكس، مع تساوي الجهات، ما سببها وتساوي الجهات كتساوي الأوقات من غير فرق؟ قولهم تلك المناسبات مبدأ الحوادث في العالم فإن قيل: لو كان الكل يدور من جهة واحدة لما تباينت أوضاعها ولم تحدث مناسبات الكواكب بالتثليث والتسديس والمقارنة وغيرها ولكان الكل على وضع واحد لا يختلف قط، وهذه المناسبات مبدأ الحوادث في العالم. قولنا ولم العكس بالعكس؟ قلنا: لسنا نلزم اختلاف جهة الحركة بل نقول: الفلك الأعلى
يتحرك من المشرق إلى المغرب والذي تحته بالعكس، وكل ما يمكن تحصيله بهذا يمكن تحصيله بعكسه وهو أن يتحرك الأعلى من المغرب إلى المشرق وما تحته في مقابلته فيحصل التفاوت، وجهات الحركة بعد كونها دورية وبعد كونها متقابلة متساوية فلم تميزت جهة عن جهة تماثلها؟ قولهم الجهتان متضادتان فإن قالوا: الجهتان متقابلتان متضادتان فكيف يتساويان؟ قولنا والأوقات! قلنا: هذا كقول القائل: التقدم والتأخر في وجود العالم يتضادان فكيف يدعي تشابههما؟ ولكن زعموا أنه يعلم تشابه الأوقات بالنسبة إلى إمكان الوجود وإلى كل مصلحة يتصور فرضه في الوجود. فكذلك يعلم تساوي الأحياز والأوضاع والأماكن والجهات بالنسبة إلى قبول الحركة وكل مصلحة تتعلق بها. فإن ساغ لهم دعوى الاختلاف مع هذا التشابه كان لخصومهم دعوى الاختلاف في الأحوال والهيئات أيضاً. الاعتراض الثاني صدور حادث من قديم الاعتراض الثاني على أصل دليلهم أن يقال: استبعدتم حدوث حادث من قديم، ولا بد لكم من الاعتراف به فإن في العالم حوادث ولها أسباب. فإن استندت الحوادث إلى الحوادث إلى غير نهاية فهو محال، وليس ذلك معتقد عاقل. ولو كان ذلك ممكناً لاستغنيتم عن الاعتراف بالصانع وإثبات واجب وجود هو مستند الممكنات. وإذا كانت الحوادث لها طرف ينتهي إليه تسلسلها فيكون ذلك الطرف هو القديم، فلا بد إذن على أصلهم من تجويز صدور حادث من قديم. قولهم في حصول الاستعداد وحضور الوقت فإن قيل: نحن لا نبعد صدور حادث من قديم أي حادث كان، بل نبعد صدور حادث هو أول الحوادث من القديم، إذ لا يفارق حال الحدوث ما قبله في ترجح جهة الوجود، لا من حيث حضور وقت ولا آلة ولا شرط ولا طبيعة ولا غرض ولا سبب من الأسباب. فأما إذا لم يكن هو الحادث الأول
جاز أن يصدر منه عند حدوث شيء آخر من استعداد المحل القابل وحضور الوقت الموافق أو ما يجري هذا المجرى. قولنا ومن أين ذلك؟ قلنا: فالسؤال في حصول الاستعداد وحضور الوقت وكل ما يتجدد قائم، فإما أن يتسلسل إلى غير نهاية أو ينتهي إلى قديم يكون أول حادث منه. قولهم وجود الحركة الدورية ... فإن قيل: المواد القابلة للصور والأعراض والكيفيات ليس شيء منها حادثاً والكيفيات الحادثة هي حركة الأفلاك، أعني الحركة الدورية وما يتجدد من الأوصاف الإضافية لها من التثليث والتسديس والتربيع، وهي نسبة بعض أجزاء الفلك والكواكب إلى بعض وبعضها نسبة إلى الأرض، كما يحصل من الطلوع والشروق والزوال عن منتهى الارتفاع والبعد عن الأرض بكون الكوكب في الأوج، والقرب بكونه في الحضيض والميل عن بعض الأقطار بكونه في الشمال والجنوب، وهذه الإضافة لازمة للحركة الدورية بالضرورة فموجبها الحركة الدورية. وهي سبب الحوادث في العناصر ... وأما الحوادث فيما يحويه مقعر فلك القمر، وهو العناصر بما يعرض فيها من كون وفساد وامتزاج وافتراق واستحالة من صفة إلى صفة، فكل ذلك حوادث مستند بعضها إلى بعض في تفصيل طويل، وبالآخرة تنتهي مبادئ أسبابها إلى الحركة السماوية الدورية ونسب الكواكب بعضها إلى بعض أو نسبتها إلى الأرض. ... وهي قديمة ... فيخرج من مجموع ذلك أن الحركة الدورية الدائمة الأبدية مستند الحوادث كلها ومحرك السماء حركتها الدورية نفوس السموات، فإنها حية نازلة منزلة نفوسنا بالنسبة إلى أبداننا، ونفوسها قديمة، فلا جرم الحركة الدورية التي هي موجبها أيضاً قديمة. ولما تشابه أحوال النفس لكونها قديمة تشابه أحوال الحركات أي كانت دائرة أبداً. ولها أجزاء حادثة فإذن لا يتصور أن يصدر الحادث من قديم إلا بواسطة حركة دورية أبدية تشبه القديم من وجه فإنه دائم أبداً، وتشبه الحادث من وجه فإن كل جزء يفرض منه كان حادثاً بعد أن لم يكن، فهو من حيث أنه
حادث بأجزائه وإضافاته مبدأ الحوادث، ومن حيث أنه أبدي متشابه الأحوال صادر عن نفس أزلية. فإن كان في العالم حوادث فلا بد من حركة دورية، وفي العالم حوادث، فالحركة الدورية الأبدية ثابتة. قولنا هذا كلام باطل! إذ لا بد من سبب آخر قلنا: هذا التطويل لا يغنيكم، فإن الحركة الدورية التي هي المستند حادث أم قديم؟ فإن كان قديماً فكيف صار مبدأ لأول الحوادث؟ وإن كان حادثاً افتقر إلى حادث آخر وتسلسل. وقولكم: إنه من وجه يشبه القديم ومن وجه يشبه الحادث، فإنه ثابت متجدد أي هو ثابت التجدد متجدد الثبوت. فنقول: أهو مبدأ الحوادث من حيث أنه ثابت أو من حيث أنه متجدد؟ فإن كان من حيث أنه ثابت فكيف صدر من ثابت متشابه الأحوال شيء في بعض الأوقات دون بعض؟ وإن كان من حيث أنه متجدد فما سبب تجدده في نفسه؟ فيحتاج إلى سبب آخر ويتسلسل، فهذا غاية تقرير الإلزام. سيأتي الكلام عن ذلك ولهم في الخروج عن هذا الإلزام نوع احتيال سنورده في بعض المسائل بعد هذه كيلا يطول كلام هذه المسألة بانشعاب شجون الكلام وفنونه. على أنا سنبين أن الحركة الدورية لا يصلح أن تكون مبدأ الحوادث وأن جميع الحوادث مخترعة لله ابتداءً، ونبطل ما قالوه من كون السماء حيواناً متحركاً بالاختيار حركة نفسية كحركاتنا.
الثاني قولنا ليس الله متقدماً بالذات فقط ... زعموا أن القائل بأن العالم متأخر عن الله والله متقدم عليه ليس يخلو إما أن يريد به أنه متقدم بالذات لا بالزمان كتقدم الواحد على الاثنين، فإنه بالطبع، مع أنه يجوز أن يكون معه في الوجود الزماني، وكتقدم العلة على المعلول مثل تقدم حركة الشخص على حركة الظل التابع له وحركة اليد مع حركة الخاتم وحركة اليد في الماء مع حركة الماء، فإنها متساوية في الزمان وبعضها علة وبعضها معلول، إذ يقال: تحرك الظل لحركة الشخص وتحرك الماء لحركة اليد في الماء، ولا يقال تحرك الشخص لحركة الظل وتحرك اليد لحركة الماء، وإن كانت متساوية. فإن أريد بتقدم الباري على العالم هذا لزم أن يكونا حادثين أو قديمين واستحال أن يكون أحدهما قديماً والآخر حادثاً. ... ولا بالزمان وإن أريد به أن الباري متقدم على العالم والزمان لا بالذات بل بالزمان، فإذن قبل وجود العالم والزمان زمان كان العالم فيه معدوماً، إذ كان العدم سابقاً على الوجود وكان الله سابقاً بمدة مديدة لها طرف من جهة الآخر ولا طرف لها من جهة الأول. فإذن قبل الزمان زمان لا نهاية له وهو متناقض، ولأجله يستحيل القول بحدوث الزمان. وإذا وجب قدم الزمان، وهو عبارة عن قدر الحركة، وجب قدم الحركة ووجب قدم المتحرك الذي يدوم الزمان بدوام حركته. اعتراض ليس قبل الخليقة زمان: القول بأن "كان الله ولا عالم" لا يدل إلا على أمرين ... الاعتراض هو أن يقال: الزمان حادث ومخلوق وليس قبله زمان أصلاً، ونعني بقولنا إن الله متقدم على العالم والزمان إنه كان ولا عالم ثم كان ومعه عالم. ومفهوم قولنا: كان ولا عالم، وجود ذات الباري وعدم ذات العالم فقط، ومفهوم قولنا: كان ومعه عالم، وجود الذاتين فقط. فنعني بالتقدم انفراده بالوجود فقط، والعالم كشخص واحد. ولو قلنا: كان الله ولا عيسى مثلاً ثم كان وعيسى معه لم يتضمن اللفظ إلا وجود ذات وعدم ذات ثم
وجود ذاتين، وليس من ضرورة ذلك تقدير شيء ثالث، وإن كان الوهم لا يسكن عن تقدير ثالث فلا التفات إلى أغاليط الأوهام. ... قولهم لا، بل على أمر ثالث فإن قيل لقولنا: كان الله ولا عالم، مفهوم ثالث سوى وجود الذات وعدم العالم، بدليل أنا لو قدرنا عدم العالم في المستقبل كان وجود ذات وعدم ذات حاصلاً ولم يصح أن نقول: كان الله ولا عالم، بل الصحيح أن نقول: يكون الله ولا عالم. ونقول للماضي: كان الله ولا عالم. فبين قولنا "كان" و "يكون" فرق، إذ ليس ينوب أحدهما مناب الآخر. فلنبحث عن ما يرجع إليه الفرق: ولا شك في أنهما لا يفترقان في وجود الذات ولا في عدم العالم بل في معنى ثالث، فإنا إذا قلنا لعدم العالم في المستقبل: كان الله ولا عالم، قيل لنا: هذا خطأ فإن "كان" إنما يقال على ماض، فدل أن تحت لفظ "كان" مفهوماً ثالثاً وهو الماضي، والماضي بذاته هو الزمان، والماضي بغيره هو الحركة فإنها تمضي بمضي الزمان. فبالضرورة يلزم أن يكون قبل العالم زمان قد انقضى حتى انتهى إلى وجود العالم. قولنا ليس هو إلا نسبة إلينا قلنا: المفهوم الأصلي من اللفظين وجود ذات وعدم ذات. والأمر الثالث الذي فيه افتراق اللفظين نسبة لازمة بالإضافة إلينا، بدليل أنا لو قدرنا عدم العالم في المستقبل ثم قدرنا لنا بعد ذلك وجوداً ثانياً لكنا عند ذلك نقول: كان الله ولا عالم. ويصح قولنا، سواء أردنا به العدم الأول أو العدم الثاني الذي هو بعد الوجود، وآية أن هذه نسبة، أن المستقبل بعينه يجوز أن يصير ماضياً فيعبر عنه بلفظ الماضي. قبل المبتدأ نتوهم "قبلاً" ... وهذا كله لعجز الوهم عن فهم وجود مبتدأ إلا مع تقدير "قبل" له، وذلك "القبل" الذي لا ينفك الوهم عنه يظن أنه شيء محقق موجود هو الزمان. ... كما نتوهم وراء العالم "فوقاً" وهو كعجز الوهم عن أن يقدر تناهي الجسم في جانب الرأس مثلاً إلا على سطح له فوق، فيتوهم أن وراء العالم مكاناً إما ملاء وإما خلاء. وإذا قيل: ليس فوق سطح العالم فوق ولا بعد أبعد منه، كاع الوهم عن
الإذعان لقبوله، كما إذا قيل: ليس قبل وجود العالم "قبل" هو وجود محقق، نفر عن قبوله، وكما جاز أن يكذب الوهم في تقديره فوق العالم خلاء هو بعد لا نهاية له، بأن يقال له: الخلاء ليس مفهوماً في نفسه، وأما البعد فهو تابع للجسم الذي تتباعد أقطاره، فإذا كان الجسم متناهياً كان البعد الذي هو تابع له متناهياً، وانقطع الملاء والخلاء غير مفهوم فثبت أنه ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء، وإن كان الوهم لا يذعن لقبوله. ولكن ذلك وهم فكذلك يقال: كما أن البعد المكاني تابع للجسم فالبعد الزماني تابع للحركة، فإنه امتداد الحركة كما أن ذلك امتداد أقطار الجسم وكما أن قيام الدليل على تناهي أقطار الجسم منع من إثبات بعد مكاني وراءه. فقيام الدليل على تناهي الحركة من طرفيه يمنع من تقدير بعد زماني وراءه، وإن كان الوهم متشبثاً بخياله وتقديره ولا يرعوى عنه. ولا فرق بين البعد الزماني الذي تنقسم العبارة عنه عند الإضافة إلى "قبل" و "بعد" وبين البعد المكاني الذي تنقسم العبارة عنه عند الإضافة إلى فوق وتحت. فإن جاز إثبات "فوق" لا "فوق" فوقه جاز إثبات "قبل" ليس قبله "قبل" محقق، إلا خيال وهمي كما في الفوق. وهذا لازم فليتأمل، فإنهم اتفقوا على أنه ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. قولهم ليس هناك موازنة فالعالم ليس له "فوق" إلا بالاسم الإضافي المتبدل ... فإن قيل: هذه الموازنة معوجة لأن العالم ليس له "فوق" ولا "تحت" بل هو كري، وليس للكرة "فوق" و "تحت"، بل إن سميت جهة "فوقاً" من حيث أنه يلي رأسك والآخر "تحتاً" من حيث أنه يلي رجلك، فهو اسم تجدد له بالإضافة إليك، والجهة التي هي "تحت" بالإضافة إليك "فوق" بالإضافة إلى غيرك، إذا قدرت على الجانب الآخر من كر ة الأرض واقفاً يحاذي أخمص قدمه أخمص قدميك، بل الجهة التي تقدرها فوقك من أجزاء السماء نهاراً هو بعينه تحت الأرض ليلاً، وما هو تحت الأرض يعود إلى فوق الأرض في الدور. وأما الأول لوجود العالم لا يتصور أن ينقلب آخراً. ... كما في مثل الخشبة وهو كما لو قدرنا خشبة أحد طرفيها غليظ والآخر دقيق واصطلحنا على أن نسمي الجهة التي
تلي الدقيق فوقاً إلى حيث ينتهي والجانب الآخر تحتاً، لم يظهر بهذا اختلاف ذاتي في أجزاء العالم بل هي أسامي مختلفة قيامها بهيئة هذه الخشبة، حتى لو عكس وضعها انعكس الاسم والعالم لم يتبدل. فالفوق والتحت نسبة محضة إليك لا تختلف أجزاء العالم وسطوحه فيه. وأما العدم المتقدم على العالم والنهاية الأولى لوجوده ذاتي لا يتصور أن يتبدل فيصير آخراً، ولا العدم المقدر عند إفناء العالم الذي هو عدم لاحق يتصور أن يصير سابقاً. فطرفا نهاية وجود العالم الذي أحدهما أول والثاني آخر طرفان ذاتيان ثابتان لا يتصور التبدل فيه بتبدل الإضافات البتة بخلاف الفوق والتحت. ولكن لوجود العالم "قبل" فإذن أمكننا أن نقول: ليس للعالم فوق ولا تحت ولا يمكنكم أن تقولوا: ليس لوجود العالم "قبل" ولا "بعد". وإذا ثبت القبل والبعد فلا معنى للزمان سوى ما يعبر عنه بالقبل والبعد. قولنا كما أن العالم ليس له "خارج"، كذلك ليس له قبل قلنا: لا فرق فإنه لا غرض في تعيين لفظ الفوق والتحت، بل نعدل إلى لفظ الوراء والخارج ونقول: للعالم داخل وخارج، فهل خارج العالم شيء من ملاء أو خلاء؟ فسيقولون: ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. وإن عنيتم بالخارج سطحه الأعلى فله خارج، وإن عينتم غيره فلا خارج له. فكذلك إذا قيل لنا: هل لوجود العالم "قبل"؟ قلنا: إن عني به: هل لوجود العالم بداية أي طرف منه ابتدأ، فله "قبل" على هذا كما للعالم خارج على تأويل أنه الطرف المكشوف والمنقطع السطحي. وإن عنيتم بقبل شيئاً آخر، فلا "قبل" للعالم، كما أنه إذا عني بخارج العالم شيء سوى السطح قيل: لا خارج للعالم. فإن قلتم: لا يعقل مبتدأ وجود لا "قبل" له، فيقال: ولا يعقل متناهى وجود من الجسم لا خارج له. فإن قلت: خارجه سطح الذي هو منقطعه لا غير، قلنا: قبله بداية وجوده الذي هو طرفه لا غير. نسبة ذلك للمكان والزمان من عمل الوهم ... بقي أنا نقول: لله وجود ولا عالم معه. وهذا القدر أيضاً لا يوجب إثبات شيء آخر، والذي يدل على أن هذا عمل الوهم أنه مخصوص بالزمان والمكان. فإن الخصم، وإن اعتقد قدم الجسم، يذعن وهمه لتقدير حدوثه. ونحن، وإن اعتقدنا
حدوثه، ربما أذعن وهمنا لتقدير قدمه. هذا في الجسم. فإذا رجعنا إلى الزمان، لم يقدر الخصم على تقدير حدوث زمان لا "قبل" له، وخلاف المعتقد يمكن وضعه في الوهم تقديراً وفرضاً. وهذا مما لا يمكن وضعه في الوهم كما في المكان، فإن من يعتقد تناهي الجسم ومن لا يعتقد كل واحد يعجز عن تقدير جسم ليس وراءه لا خلاء ولا ملاء، بل لا يذعن وهمه لقبول ذلك. وهذا هو سبب الغلط ولكن قيل: صريح العقل إذا لم يمنع وجود جسم متناه بحكم الدليل لا يلتفت إلى الوهم. فكذلك صريح العقل لا يمنع وجوداً مفتتحاً ليس قبله شيء. وإن قصر الوهم عنه فلا يلتفت إليه، لأن الوهم، لما لم يألف جسماً متناهياً إلا وبجنبه جسم آخر أو هواء تخيله خلاء، لم يتمكن من ذلك في الغائب. فكذلك لم يألف الوهم حادثاً إلا بعد شيء آخر، فكاع عن تقدير حادث ليس له "قبل" هو شيء موجود قد انقضى. فهذا هو سبب الغلط، والمقاومة حاصلة بهذه المعارضة.
صيغة ثانية لهم في إلزام قدم الزمان قولهم كان الله قادراً على أن يخلق العالم قبل أن خلقه بقدر سنين ... قالوا: لا شك في أن الله عندكم كان قادراً على أن يخلق العالم قبل أن خلقه بقدر سنة ومائة سنة وألف سنة، وإن هذه التقديرات متفاوتة في المقدار والكمية، فلا بد من إثبات شيء قبل وجود العالم ممتد مقدر بعضه أمد وأطول من البعض. ... أو أن يخلق قبله عالماً ثانياً مثله بحيث ينتهي إلى زماننا هذا بقدر عدد أكثر من الدورات وإن قلتم: لا يمكن إطلاق لفظ سنين إلا بعد حدوث الفلك ودوره فلنترك لفظ سنين ولنورد صيغة أخرى فنقول: إذا قدرنا أن العالم من أول وجوده قد دار فلكه إلى الآن بألف دورة مثلاً، فهل كان الله قادراً على أن يخلق قبله عالماً ثانياً مثله بحيث ينتهي إلى زماننا هذا بألف ومائة دورة؟ فإن قلتم: لا، فكأنه انقلب القديم من العجز إلى القدرة أو العالم من الاستحالة إلى الإمكان. وإن قلتم: نعم، ولا بد منه، فهل كان يقدر على أن يخلق عالماً ثالثاً بحيث ينتهي إلى زماننا بألف ومائتي دورة؟ ولا بد من نعم. قولنا فهناك مقدار معلوم ... فنقول: هذا العالم الذي سميناه بحسب ترتيبنا في التقدير ثالثاً، وإن كان هو الأسبق، فهل أمكن خلقه مع العالم الذي سميناه ثانياً وكان ينتهي إلينا بألف ومائتي دورة والآخر بألف ومائة دورة وهما متساويان في مسافة الحركة وسرعتها؟ فإن قلتم: نعم، فهو محال إذ يستحيل أن يتساوى حركتان في السرعة والبطء ثم تنتهيان إلى وقت واحد، والأعداد متفاوتة. وإن قلتم: إن العالم الثالث الذي ينتهي إلينا بألف ومائتي دورة لا يمكن أن يخلق مع العالم الثاني الذي ينتهي إلينا بألف ومائة دورة، بل لا بد وأن يخلقه قبله بمقدار يساوي المقدار الذي تقدم العالم الثاني على العالم الأول، وسمينا الأول ما هو أقرب إلى وهمنا، إذ ارتقينا من وقتنا
إليه بالتقدير، فيكون قدر إمكان هو ضعف إمكان آخر، ولا بد من إمكان آخر هو ضعف الكل. ... فهناك زمان فهذا الإمكان المقدر المكمم الذي بعضه أطول من البعض بمقدار معلوم لا حقيقة له إلا الزمان، فليست هذه الكميات المقدرة صفة ذات الباري تعالى عن التقدير ولا صفة عدم العالم، إذ العدم ليس شيئاً حتى يتقدر بمقادير مختلفة، والكمية صفة فتستدعى ذا كمية، وليس ذلك إلا الحركة، والكمية إلا الزمان الذي هو قدر الحركة. فإذن قبل العالم عندكم شيء ذو كمية متفاوتة وهو الزمان. فقبل العالم عندكم زمان. اعتراض وكذلك، فوراء العالم خلاء أو ملاء ... الاعتراض أن كل هذا من عمل الوهم، وأقرب طريق في دفعه المقابلة للزمان بالمكان. فإنا نقول: هل كان في قدرة الله أن يخلق الفلك الأعلى في سمكه أكبر مما خلقه بذراع؟ فإن قالوا: لا، فهو تعجيز. وإن قالوا: نعم، فبذراعين وثلاثة أذرع، وكذلك يرتقي إلى غير نهاية. ونقول: في هذا إثبات "بعد" وراء العالم له مقدار وكمية، إذ الأكبر بذراعين ما كان يشغل ما يشغله الأكبر بذراع، فوراء العالم بحكم هذا كمية فتستدعي ذاكم وهو الجسم أو الخلاء. فوراء العالم خلاء أو ملاء، فما الجواب عنه؟ ... فيكون الخلاء مقداراً وكذلك هل كان الله قادراً على أن يخلق كرة العالم أصغر مما خلقه بذراع ثم بذراعين؟ وهل بين التقديرين تفاوت فيما ينتفي من الملاء والشغل للأحياز؟ إذ الملاء المنتفي عند نقصان ذراعين أكثر مما ينتفي عند نقصان ذراع، فيكون الخلاء مقدراً، والخلاء ليس بشيء، فكيف يكون مقدراً؟ وجوابنا في تخييل الوهم تقدير الإمكانات الزمانية قبل وجود العالم كجوابكم في تخييل الوهم تقدير الإمكانات المكانية وراء وجود العالم، ولا فرق. قولهم كون العالم أكبر أو أصغر مما هو عليه ليس بممكن فإن قيل: نحن لا نقول: إن ما ليس بممكن فهو مقدور، وكون العالم أكبر مما هو عليه ولا أصغر منه ليس بممكن فلا يكون مقدوراً.
ولماذا؟ وهذا العذر باطل من ثلاثة أوجه: أحدها أن هذا مكابرة العقل، فإن العقل في تقدير العالم أكبر أو أصغر مما عليه بذراع ليس هو كتقديره الجمع بين السواد والبياض والوجود والعدم، والممتنع هو الجمع بين النفي والإثبات، وإليه ترجع المحالات كلها فهو تحكم بارد فاسد. وجود العالم يكون واجباً! الثاني أنه إذا كان العالم على ما هو عليه لا يمكن أن يكون أكبر منه ولا أصغر. فوجوده على ما هو عليه واجب لا ممكن، والواجب مستغن عن علة. فقولوا بما قاله الدهريون من نفي الصانع ونفي سبب هو مسبب الأسباب، وليس هذا مذهبكم. ووجوده قبل الوجود غير ممكن! الثالث هو أن هذا الفاسد لا يعجز الخصم عن مقابلته بمثله. فنقول: إنه لم يكن وجود العالم قبل وجوده ممكناً بل وافق الوجود الإمكان من غير زيادة ولا نقصان. فإن قلتم: فقد انتقل القديم من القدرة إلى العجز، قلنا: لا، لأن الوجود لم يكن ممكناً فلم يكن مقدوراً، وامتناع حصول ما ليس بممكن لا يدل على العجز. وإن قلتم: إنه كيف كان ممتنعاً فصار ممكناً؟ قلنا: ولم يستحيل أن يكون ممتنعاً في حال، ممكناً في حال؟ فإن قلتم: الأحوال متساوية، قيل لكم: والمقادير متساوية، فكيف يكون مقدار ممكناً وأكبر منه أو أصغر بمقدار ظفر ممتنعاً؟ فإن لم يستحل ذلك لم يستحل هذا. فهذا طريقة المقاومة. إن الله إذا أراد فعل والتحقيق في الجواب أن ما ذكروه من تقدر الإمكانات لا معنى لها، وإنما المسلم أن الله قديم قادر لا يمتنع عليه الفعل أبداً لو أراد، وليس في هذا القدر ما يوجب إثبات زمان ممتد إلا أن يضيف الوهم بتلبيسه إليه شيئاً آخر.
الثالث قولهم إمكان العالم كان موجوداً، فالعالم أيضاً كان موجوداً تمسكوا بأن قالوا: وجود العالم ممكن قبل وجوده، إذ يستحيل أن يكون ممتنعاً ثم يصير ممكناً، وهذا الإمكان لا أول له، أي لم يزل ثابتاً ولم يزل العالم ممكناً وجوده، إذ لا حال من الأحوال يمكن أن يوصف العالم فيه بأنه ممتنع الوجود. فإذا كان الإمكان لم يزل فالممكن على وفق الإمكان أيضاً لم يزل، فإن معنى قولنا أنه ممكن وجوده أنه ليس محالاً وجوده. فإذا كان ممكناً وجوده أبداً لم يكن محالاً وجوده أبداً، وإلا فإن كان محالاً وجوده أبداً بطل قولنا إنه ممكن وجوده أبداً، وإن بطل قولنا إنه ممكن وجوده أبداً بطل قولنا إن الإمكان لم يزل، وإن بطل قولنا إن الإمكان لم يزل صح قولنا إن الإمكان له أول، وإذا صح أن له أولاً كان قبل ذلك غير ممكن، فيؤدي إلى إثبات حال لم يكن العالم ممكناً ولا كان الله عليه قادراً. اعتراض العالم لم يزل ممكن الحدوث الاعتراض أن يقال: العالم لم يزل ممكن الحدوث، فلا جرم ما من وقت إلا ويتصور أحداثه فيه، وإذا قدر موجوداً أبداً لم يكن حادثاً فلم يكن الواقع على وفق الإمكان بل خلافه. وهذا كقولهم في المكان وهو أن تقدير العالم أكبر مما هو، أو خلق جسم فوق العالم ممكن، وكذى آخر فوق ذلك الآخر، وهكذا إلى غير نهاية. فلا نهاية لإمكان الزيادة ومع ذلك فوجود ملاء مطلق لا نهاية له غير ممكن. فكذلك وجود لا ينتهي طرفه غير ممكن، بل كما يقال الممكن جسم متناهي السطح ولكن لا تتعين مقاديره في الكبر والصغر، فكذلك الممكن الحدوث ومبادئ الوجود لا تتعين في التقدم والتأخر وأصل كونه حادثاً متعين فإنه الممكن لا غير.
الرابع قولهم كل حادث تسبقه مادة ... وهو أنهم قالوا: كل حادث فالمادة التي فيه تسبقه، إذ لا يستغني الحادث عن مادة، فلا تكون المادة حادثة وإنما الحادث الصور والأعراض والكيفيات على المواد. ... ممكنة له وبيانه أن كل حادث فهو قبل حدوثه لا يخلوا إما أن يكون ممكن الوجود أو ممتنع الوجود أو واجب الوجود، ومحال أن يكون ممتنعاً لأن الممتنع في ذاته لا يوجد قط، ومحال أن يكون واجب الوجود لذاته فإن الواجب لذاته لا يعدم قط، فدل أنه ممكن الوجود بذاته. فإذن إمكان الوجود حاصل له قبل وجوده، وإمكان الوجود وصف إضافي لا قوام له بنفسه، فلا بد له من محل يضاف إليه، ولا محل إلا المادة فيضاف إليها كما نقول: هذه المادة قابلة للحرارة والبرودة أو السواد والبياض أو الحركة والسكون، أي ممكن لها حدوث هذه الكيفيات وطريان هذه التغيرات، فيكون الإمكان وصفاً للمادة. والمادة لا يكون لها مادة، فلا يمكن أن تحدث، إذ لو حدثت لكان إمكان وجودها سابقاً على وجودها وكان الإمكان قائماً بنفسه غير مضاف إلى شيء، مع أنه وصف إضافي لا يعقل قائماً بنفسه. معنى الإمكان لا يرجع إلى كونه مقدوراً ... ولا يمكن أن يقال إن معنى الإمكان يرجع إلى كونه مقدوراً وكون القديم قادراً عليه، لأنا لا نعرف كون الشيء مقدوراً إلا بكونه ممكناً. فنقول: هو مقدور لأنه ممكن، وليس بمقدور لأنه ليس بممكن. فإن كان قولنا: هو ممكن، يرجع إلى أنه مقدور، فكأنا قلنا: هو مقدور لأنه مقدور وليس بمقدور لأنه ليس بمقدور، وهو تعريف الشيء بنفسه. فدل أن كونه ممكناً قضية أخرى في العقل ظاهرة بها تعرف القضية الثانية وهو كونه مقدوراً. ... ولا إلى كونه معلوماً ويستحيل أن يرجع ذلك إلى علم القديم بكونه ممكناً، فإن العلم يستدعي معلوماً. فالإمكان المعلوم غير العلم
لا محالة، ثم هو وصف إضافي فلا بد من ذات يضاف إليه، وليس إلا المادة. فكل حادث فقد سبقه مادة، فلم تكن المادة الأولى حادثة بحال. اعتراض الإمكان هو قضاء العقل وهو يستدعي شيئاً موجوداً ... الاعتراض أن يقال: الإمكان الذي ذكروه يرجع إلى قضاء العقل. فكل ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع عليه تقديره سميناه ممكناً، وإن امتنع سميناه مستحيلاً، وإن لم يقدر على تقدير عدمه سميناه واجباً. فهذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود حتى تجعل وصفاً له. بدليل ثلاثة أمور: ... كذلك الامتناع أحدها أن الإمكان لو استدعى شيئاً موجوداً يضاف إليه ويقال إنه إمكانه لاستدعى الامتناع شيئاً موجوداً يقال إنه امتناعه، وليس للممتنع وجود في ذاته ولا مادة يطرى عليها المحال حتى يضاف الامتناع إلى المادة. إمكان السواد والثاني أن السواد والبياض يقضي العقل فيهما قبل وجودهما بكونهما ممكنين. فإن كان هذا الإمكان مضافاً إلى الجسم الذي يطريان عليه، حتى يقال معناه إن هذا الجسم يمكن أن يسود وأن يبيض، فإذن ليس البياض في نفسه ممكناً ولا له نعت الإمكان، وإنما الممكن الجسم والإمكان مضاف إليه. فنقول: ما حكم نفس السواد في ذاته أو هو ممكن أو واجب أو ممتنع، ولا بد من القول بأنه ممكن، فدل أن العقل في القضية بالإمكان لا يفتقر إلى وضع ذات موجود يضيف إليه الإمكان. إمكان النفوس والثالث أن نفوس الآدميين عندهم جواهر قائمة بأنفسها ليس بجسم ومادة ولا منطبع في مادة. وهي حادثة على ما اختاره ابن سينا والمحققون منهم، ولها إمكان قبل حدوثها وليس لها ذات ولا مادة. فإمكانها وصف إضافي ولا يرجع إلى قدرة القادر وإلى الفاعل، فإلى ماذا يرجع؟ فينقلب عليهم هذا الإشكال. قولهم الإمكان ليس بقضاء العقل فإذا قدر عدم القضاء، لم يزل الإمكان فإن قيل: رد الإمكان إلى قضاء العقل محال، إذ لا معنى لقضاء العقل
إلا العلم بالإمكان. فالإمكان معلوم وهو غير العلم، بل العلم يحيط به ويتبعه ويتعلق به على ما هو، والعلم لو قدر عدمه لم ينعدم المعلوم. والمعلوم إذا قدر انتفاؤه انتفى العلم. فالعلم والمعلوم أمران اثنان أحدهما تابع والآخر متبوع. ولو قدرنا إعراض العقلاء عن تقدير الإمكان وغفلتهم عنه لكنا نقول: لا يرتفع الإمكان بل الممكنات في أنفسها، ولكن العقول غفلت عنها أو عدمت العقول والعقلاء. فيبقى الإمكان لا محالة. للامتناع موضوع ... وأما الأمور الثلاثة فلا حجة فيها، فإن الامتناع أيضاً وصف إضافي يستدعي موجوداً يضاف إليه. ومعنى الممتنع الجمع بين الضدين، فإذا كان المحل أبيض كان ممتنعاً عليه أن يسود مع وجود البياض، فلا بد من موضوع يشار إليه موصوف بصفة. فعند ذلك يقال: ضده ممتنع عليه، فيكون الامتناع وصفاً إضافياً قائماً بموضوع مضافاً إليه. وأما الوجوب فلا يخفى أنه مضاف إلى الوجود الواجب. ولإمكان السواد موضوع وأما الثاني، وهو كون السواد في نفسه ممكناً، فغلط. فإنه إن أخذ مجرداً دون محل يحله كان ممتنعاً لا ممكناً، وإنما يصير ممكناً إذا قدر هيئة في جسم. فالجسم مهيأ لتبدل هيئة، والتبدل ممكن على الجسم، وإلا فليس للسواد نفس مفردة حتى يوصف بإمكان. ولإمكان النفوس موضوع وأما الثالث، وهو النفس، فهي قديمة عند فريق ولكن ممكن لها التعلق بالأبدان، فلا يلزم على هذا. ومن سلم حدوثه فقد اعتقد فريق منهم أنه منطبع في المادة تابع للمزاج، على ما دل عليه كلام جالينوس في بعض المواضع، فتكون في مادة وإمكانها مضاف إلى مادتها. وعلى مذهب من سلم أنها حادثة وليست منطبعة، فمعناه أن المادة ممكن لها أن يدبرها نفس ناطقة، فيكون الإمكان السابق على الحدوث مضافاً إلى المادة، فإنها وإن لم تنطبع فيها فلها علاقة معها إذ هي المدبرة والمستعملة لها، فيكون الإمكان راجعاً إليها بهذا الطريق. الجواب الإمكان هو قضاء العقل، كما يصرح بأن الكليات موجودة والجواب أن رد الإمكان والوجوب والامتناع إلى قضايا عقلية صحيح، وما ذكر بأن معنى قضاء العقل علم والعلم يستدعي معلوماً. فنقول له:
معلوم كما أن اللونية والحيوانية وسائر قضايا الكلية ثابتة في العقل عندهم، وهي علوم لا يقال لا معلوم لها، ولكن لا وجود لمعلوماتها في الأعيان، حتى صرح الفلاسفة بأن الكليات موجودة في الأذهان لا في الأعيان. وإنما الموجود في الأعيان جزئيات شخصية وهي محسوسة غير معقولة، ولكنها سبب لأن ينتزع العقل منها قضية مجردة عن المادة عقلية. فإذن اللونية قضية مفردة في العقل سوى السوادية والبياضية، ولا يتصور في الوجود لون ليس بسواد ولا بياض ولا غيره من الألوان، ويثبت في العقل صورة اللونية من غير تفصيل، ويقال: هي صورة وجودها في الأذهان لا في الأعيان. فإن لم يمتنع هذا لم يمتنع ما ذكرناه. لو قدر عدم العاقل ... وأما قولهم: لو قدر عدم العقلاء أو غفلتهم ما كان الإمكان ينعدم، فنقول: ولو قدر عدمهم هل كانت القضايا الكلية وهي الأجناس والأنواع تنعدم؟ فإذا قالوا: نعم، إذ لا معنى لها إلا قضية في العقول، فكذلك قولنا في الإمكان، ولا فرق بين البابين. وإن زعموا أنها تكون باقية في علم الله فكذى القول في الإمكان. فالإلزام واقع والمقصود إظهار تناقض كلامهم. امتناع وجود شريك لله وأما العذر عن الامتناع بأنه مضاف إلى المادة الموصوفة بالشيء إذ يمتنع عليه ضده، فليس كل محال كذلك فإن وجود شريك لله محال، وليس ثم مادة يضاف إليها الامتناع. فإن زعموا أن معنى استحالة الشريك أن انفراد الله تعالى بذاته وتوحده واجب والانفراد مضاف إليه، فنقول: ليس واجب، فإن العالم موجود معه فليس منفرداً. فإن زعموا أن انفراده عن النظير واجب ونقيض الواجب ممتنع، وهو إضافة إليه، قلنا: نعني أن انفراد الله عنها ليس كانفراده عن النظير، فإن انفراده عن النظير واجب وانفراده عن المخلوقات الممكنة غير واجب، فنتكلف إضافة الإمكان إليه بهذه الحيلة كما تكلفوه في رد الامتناع إلى ذاته بقلب عبارة الامتناع إلى الوجوب ثم بإضافة الانفراد إليه بنعت الوجوب. السواد هو في العقل وأما العذر عن السواد والبياض بأنه لا نفس له ولا ذات منفرداً، إن عني
بذلك في الوجود فنعم، وإن عني بذلك في العقل فلا، فإن العقل يعقل السواد الكلي ويحكم عليه بالإمكان في ذاته. وهو في الحق يضاف إلى الفاعل وإلى المادة ثم العذر باطل بالنفوس الحادثة فإن لها ذواتاً مفردة وإمكاناً سابقاً على الحدوث، وليس ثم ما يضاف إليه. وقولهم: إن المادة ممكن لها أن يدبرها النفس، فهذه إضافة بعيدة. فإن اكتفيتم بهذا فلا يبعد أن يقال: معنى إمكان الحادث أن القادر عليها يمكن في حقه أن يحدثها، فيكون إضافة إلى الفاعل، مع أنه ليس منطبعاً فيه، كما أنه إضافة إلى البدن المنفعل، مع أنه لا ينطبع فيه. ولا فرق بين النسبة إلى الفاعل والنسبة إلى المنفعل إذا لم يكن انطباع في الموضعين. قولهم قابلتم الإشكالات بالإشكالات فإن قيل: فقد عولتم في جميع الاعتراضات على مقابلة الإشكالات بالإشكالات ولم تحلوا ما أوردوه من الإشكال، قولنا المعارضة تبين فساد الكلام قلنا: المعارضة تبين فساد الكلام لا محالة، وينحل وجه الإشكال في تقدير المعارضة والمطالبة. ونحن لم نلتزم في هذا الكتاب إلا تكدير مذهبهم والتغبير في وجوه أدلتهم بما نبين تهافتهم. ولم نتطرق الذب عن مذهب معين فلم نخرج لذلك عن مقصود الكتاب، ولا نستقصي القول في الأدلة الدالة على الحدث إذ غرضنا إبطال دعواهم معرفة القدم. إثبات المذهب الحق يكون في كتاب قواعد العقائد وأما إثبات المذهب الحق فسنصنف فيه كتاباً بعد الفراغ من هذا إن ساعد التوفيق إن شاء الله ونسميه قواعد العقائد، ونعتني فيه بالإثبات كما اعتنينا في هذا الكتاب بالهدم، والله أعلم.
مسألة في إبطال قولهم في أبدية العالم والزمان والحركة هذه المسألة فرع الأولى ... ليعلم أن هذه المسألة فرع الأولى، فإن العالم عندهم كما أنه أزلي لا بداية لوجوده فهو أبدي لا نهاية لآخره، ولا يتصور فساده وفناؤه بل لم يزل كذلك ولا يزال أيضاً كذلك. والأدلة الأربعة التي ذكرت لا تزال جارية وأدلتهم الأربعة التي ذكرناها في الأزلية جارية في الأبدية، والاعتراض كالاعتراض من غير فرق. فإنهم يقولون: إن العالم معلول علته أزلية أبدية، فكان المعلول مع العلة. ويقولون: إذا لم تتغير العلة لم يتغير المعلول. وعليه بنوا منع الحدوث، وهو بعينه جار في الانقطاع. وهذا مسلكهم الأول. الدليل الأول والمسلك الثاني ومسلكهم الثاني أن العالم إذا عدم فيكون عدمه بعد وجوده، فيكون له بعد ففيه إثبات الزمان. الدليل الأول والمسلك الثالث وهو فاسد لأنه لا يستحيل بقاء العالم أبداً: ويعرف الواقع من الشرع ومسلكهم الثالث إن إمكان الوجود لا ينقطع. فكذلك الوجود الممكن يجوز أن يكون على وفق الإمكان. إلا أن هذا الدليل لا يقوى، فإنا نحيل أن يكون أزلياً ولا نحيل أن يكون أبدياً لو أبقاه الله تعالى أبد، إذاً ليس من ضرورة الحادث أن يكون له آخر، ومن ضرورة الفعل أن يكون حادثاً وأن يكون له أول. ولم يوجب أن يكون للعالم لا محالة آخر إلا أبو الهذيل العلاف، فإنه قال: كما يستحيل في الماضي دورات لا نهاية لها فكذلك في المستقبل، وهو فاسد لأن كل المستقبل قط لا يدخل في الوجود لا متلاحقاً ولا متساوقاً، والماضي قد دخل كله في الوجود متلاحقاً وإن لم يكن متساوقاً. وإذا تبين أنا لا نبعد بقاء العالم أبداً من حيث العقل بل نجوز بقاءه وإفناءه، فإنما يعرف الواقع من قسمي الممكن بالشرع فلا يتعلق النظر فيه بالمعقول.
الدليل الأول والمسلك الرابع وأما مسلكهم الرابع فهو جار، لأنهم يقولون: إذا عدم العالم بقي إمكان وجوده، إذ الممكن لا ينقلب مستحيلاً، وهو وصف إضافي. فيفتقر كل حادث بزعمهم إلى مادة سابقة، وكل منعدم فيفتقر إلى مادة ينعدم عنها. فالمواد والأصول لا تنعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض الحالة فيها. الجواب ما سبق، ويضاف إليه دليلان آخران والجواب عن الكل ما سبق. وإنما أفردنا هذه المسألة لأن لهم فيها دليلين آخرين:
الأول دليل جالينوس لا يظهر أن الشمس لا تقبل الانعدام ما تمسك به جالينوس إذ قال: لو كان الشمس مثلاً تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول في مدة مديدة، والأرصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف سنين لا تدل إلا على هذا المقدار، فلما لم تذبل في هذه الآماد الطويلة دل أنها لا تفسد. الاعتراض من الوجه الأول لعلها تفسد بغير طريق الذبول كما في حال البغتة الاعتراض عليه من وجوه: الأول إن شكل هذا الدليل أن يقال: إن كان الشمس تفسد فلا بد وأن يلحقها ذبول، لكن التالي محال فالمقدم محال، وهو قياس يسمى عندهم الشرطي المتصل، وهذه النتيجة غير لازمة لأن المقدم غير صحيح ما لم يضف إليه شرط آخر وهو قوله: إن كان تفسد فلا بد وأن تذبل، فهذا التالي لا يلزم هذا المقدم إلا بزيادة شرط وهو أن نقول: إن كان تفسد فساداً ذبولياً فلا بد وأن تذبل في طول المدة. أو يبين أنه لا فساد بطريق الذبول حتى يلزم التالي للمقدم. ولا نسلم أنه لا يفسد الشيء إلا بالذبول، بل الذبول أحد وجوه الفساد. ولا يبعد أن يفسد الشيء بغتة وهو على حال كماله. الاعتراض من الوجه الثاني الفساد لا يظهر للحس الثاني أنه لو سلم له هذا وأنه لا فساد إلا بالذبول، فمن أين عرف أنه ليس يعتريها الذبول؟ وأما التفاته إلى الأرصاد فمحال لأنها لا تعرف مقاديرها إلا بالتقريب. والشمس التي يقال إنها كالأرض مائة وسبعين مرة أو ما يقرب منه لو نقص منها مقدار جبال مثلاً لكان لا يبين للحس، فلعلها
في الذبول، وإلى الآن قد نقص مقدار جبال وأكثر. والحس لا يقدر على أن يدرك ذلك لأن تقديره في علم المناظر لم يعرف إلا بالتقريب وهذا كما أن الياقوت والذهب مركبان من العناصر عندهم وهي قابلة للفساد، ثم لو وضع ياقوته مائة سنة لم يكن نقصانه محسوساً، فلعل نسبة ما ينقص من الشمس في مدة تاريخ الأرصاد كنسبة ما ينقص من الياقوت في مائة سنة. وذلك لا يظهر للحس فدل أن دليله في غاية الفساد. وباقي الأدلة ليست أكثر قوة وقد أعرضنا عن إيراد أدلة كثيرة من هذا الجنس يستركها العقلاء وأوردنا هذا الواحد ليكون عبرة ومثالاً لما تركناه واقتصرنا على الأدلة الأربعة التي يحتاج إلى تكلف في حل شبهها كما سبق.
الثاني الدليل الثاني لا يعقل سبب معدم ... لهم في استحالة عدم العالم أن قالوا: العالم لا تنعدم جواهره لأنه لا يعقل سبب معدم له، وما لم يكن منعدماً ثم انعدم فلا بد وأن يكون بسبب، وذلك السبب لا يخلوا إما من أن يكون إرادة القديم، وهو محال لأنه إذا لم يكن مريداً لعدمه ثم صار مريداً فقد تغير، أو يؤدي إلى أن يكون القديم وإرادته على نعت واحد في جميع الأحوال، والمراد يتغير من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم. وما ذكرناه من استحالة وجود حادث بإرادة قديمة يدل على استحالة العدم. ولا فعله فإن الأقوال بهذا الأمر باطلة ويزيد هاهنا إشكال آخر أقوى من ذلك، وهو أن المراد فعل المريد لا محالة، وكل من لم يكن فاعلاً ثم صار فاعلاً فإن لم يتغير هو في نفسه فلا بد وأن يصير فعله موجوداً بعد أن لم يكن موجوداً. فإنه لو بقي كما كان إذ لم يكن له فعل، والآن أيضاً لا فعل له، فإذن لم يفعل شيئاً. والعدم ليس بشيء فكيف يكون فعلاً؟ وإذا أعدم العالم وتجدد له فعل لم يكن، فما ذلك الفعل؟ أهو وجود العالم؟ وهو محال إذا انقطع الوجود، أو فعله عدم العالم؟ وعدم العالم ليس بشيء حتى يكون فعلاً، فإن أقل درجات الفعل أن يكون موجوداً وعدم العالم ليس شيئاً موجوداً حتى يقال: هو الذي فعله
الفاعل وأوجده الموجد. ولإشكال هذا زعموا: افترق المتكلمون في التقصي عن هذا أربع فرق وكل فرقة اقتحمت محالاً. قول المعتزلة بخلق الفناء ... أما المعتزلة فإنهم قالوا: فعله الصادر منه موجود وهو الفناء، يخلقه لا في محل فينعدم كل العالم دفعة واحدة، وينعدم الفناء المخلوق بنفسه حتى لا يحتاج إلى فناء آخر، فيتسلسل إلى غير نهاية. وهو فاسد من وجوده أحدها أن الفناء ليس موجوداً معقولاً حتى يقدر خلقه، ثم إن كان موجوداً فلم ينعدم بنفسه من غير معدم، ثم لم يعدم العالم فإنه إن خلق في ذات العالم وحل فيه فهو محال لأن الحال يلاقي المحلول، فيجتمعان ولو في لحظة، فإذا جاز اجتماعهما لم يكن ضداً فلم يفنه. وإن خلقه لا في العالم ولا في محل فمن أين يضاد وجوده وجود العالم؟ ثم في هذا المذهب شناعة أخرى وهو أن الله لا يقدر على إعدام بعض جواهر العالم دون بعض، بل لا يقدر إلا على إحداث فناء يعدم العالم كله، لأنها إذا لم تكن في محل كان نسبتها إلى الكل على وتيرة. وقول الكرامية بإحداث الإعدام في الذات ... الفرقة الثانية الكرامية حيث قالوا: إن فعله الإعدام، والإعدام عبارة عن موجود يحدثه في ذاته تعالى عن قولهم فيصير العالم به معدوماً. وكذلك الوجود عندهم بإيجاد يحدثه في ذاته فيصير الموجود به موجوداً. وهذا أيضاً فاسد إذ فيه كون القديم محل الحوادث، ثم خروج عن المعقول إذ لا يعقل من الإيجاد إلا وجود منسوب إلى إرادة وقدرة. فإثبات شيء آخر سوى الإرادة والقدرة ووجود المقدور وهو العالم لا يعقل، وكذى الإعدام.
وقول الأشعرية بعدم خلق البقاء ... الفرقة الثالثة الأشعرية إذ قالوا: أما الأعراض فإنها تفنى بأنفسها ولا يتصور بقاءها، لأنه لو تصور بقاءها لما تصور فناؤها لهذا المعنى. وأما الجواهر فليست باقية بأنفسها ولكنها باقية ببقاء زائد على وجودها، فإذا لم يخلق الله البقاء انعدم لعدم المبقى. وهو أيضاً فاسد لما فيه من مناكرة المحسوس في أن السواد لا يبقى والبياض كذلك وأنه متجدد الوجود، والعقل ينبوا عن هذا كما ينبوا عن قول القائل: إن الجسم متجدد الوجود في كل حالة، والعقل القاضي بأن الشعر الذي على رأس الإنسان في يوم هو الشعر الذي كان بالأمس لا مثله يقضي أيضاً به في سواد الشعر. ثم فيه إشكال آخر وهو أن الباقي إذا بقي ببقاء فيلزم أن تبقى صفات الله ببقاء. وذلك البقاء يكون باقياً فيحتاج إلى بقاء آخر، ويتسلسل إلى غير نهاية. وقول الفرقة الرابعة بعدم خلق الحركة أو السكون والفرقة الرابعة طائفة أخرى من الأشعرية إذ قالوا: إن الأعراض تفنى بأنفسها، وأما الجواهر فإنها تفنى بأن لا يخلق الله فيها حركة ولا سكوناً ولا اجتماعاً ولا افتراقاً، فيستحيل أن يبقى جسم ليس بساكن ولا متحرك فينعدم. وكأن فرقتي الأشعرية مالوا إلى أن الإعدام ليس بفعل، إنما هو كف عن الفعل، لما لم يعقلوا كون العدم فعلاً. وإذا بطلت هذه الطرق لم يبق وجه للقول بجواز إعدام العالم. وقولهم باستحالة انعدام النفس الحادثة ... هذا لو قيل بأن العالم حادث، فإنهم مع تسليمهم حدوث النفس الإنسانية يدعون استحالة انعدامها بطريق يقرب مما ذكرناه. وباستحالة انعدام كل قائم بنفسه وبالجملة عندهم كل قائم بنفسه لا في محل لا يتصور انعدامه بعد
وجوده، سواء كان قديماً أو حادثاً. وإذا قيل لهم: مهما أغلي النار تحت الماء انعدم الماء، قالوا لم ينعدم ولكن انقلب بخاراً ثم ماء. فالمادة وهي الهيولى باقية في الهواء وهي المادة التي كانت لصورة الماء، وإنما خلعت، الهيولى صورة المائية ولبست صورة الهوائية. وإذا أصاب الهواء برد كثف وانقلب ماء، لا من مادة تجددت بل المواد مشتركة بين العناصر، وإنما يتبدل عليها صورها. الجواب الإعدام بإرادة الله الذي أجد العدم والجواب: أن ما ذكرتموه من الأقسام وإن أمكن أن نذب عن كل واحد ونبين أن إبطاله على أصلكم لا يستقيم لاشتمال أصولكم على ما هو من جنسه، ولكنا لا نطول به ونقتصر على قسم واحد ونقول: بم تنكرون على من يقول: الإيجاد والإعدام بإرادة القادر؟ فإذا أراد الله أوجد وإذا أراد أعدم، وهذا معنى كونه قادراً على الكمال، وهو في جملة ذلك لا يتغير في نفسه وإنما يتغير الفعل. وأما قولكم: إن الفاعل لا بد وأن يصدر منه فعل، فما الصادر منه؟ قلنا: الصادر منه ما تجدد وهو العدم، إذ لم يكن عدم ثم تجدد العدم، فهو الصادر عنه. قولهم العدم ليس بشيء فإن قلتم: إنه ليس بشيء فكيف صدر منه؟ قولنا هو واقع فهو معقول ... قلنا: وهو ليس بشيء فكيف وقع؟ وليس معنى صدوره منه إلا أن ما وقع مضاف إلى قدرته، فإذا عقل وقوعه لم لا تعقل إضافته إلى القدرة؟ وما الفرق بينهم وبين من ينكر طريان العدم أصلاً على الأعراض والصور ويقول: العدم ليس بشيء فكيف يطرى وكيف يوصف بالطريان والتجدد؟ ولا نشك في أن العدم يتصور طريانه على الأعراض، فالموصوف بالطريان معقول وقوعه سمى شيئاً أو لم يسم، فإضافة ذلك الواقع المعقول إلى قدرة القادر أيضاً معقول. لا يقع العدم، بل أضداد الطريان فإن قيل: هذا إنما يلزم على مذهب من يجوز عدم الشيء بعد وجوده، فيقال له: ما الذي طرى؟ وعندنا لا ينعدم الشيء الموجود، وإنما معنى انعدام
الأعراض طريان أضدادها التي هي موجودات لا طريان العدم المجرد الذي ليس بشيء، فإن ما ليس بشيء كيف يوصف بالطريان؟ فإذا ابيض الشعر فالطاري هو البياض فقط وهو موجود، ولا نقول الطاري هو عدم السواد. قولنا يقع العدم وهذا فاسد من وجهين: أحدهما أن طريان البياض هل تضمن عدم السواد أم لا؟ فإن قالوا: لا، فقد كابروا المعقول. وإن قالوا: نعم، فالمتضمن غير المتضمن أم عينه؟ فإن قالوا: هو عينه، كان متناقضاً إذ الشيء لا يتضمن نفسه. وإن قالوا غيره، فذلك الغير معقول أم لا؟ فإن قالوا: لا، قلنا: فبم عرفتم أنه متضمن؟ والحكم عليه بكونه متضمناً اعتراف بكونه معقولاً. وإن قالوا: نعم، فذلك المتضمن المعقول وهو عدم السواد قديم أو حادث. فإن قالوا: قديم، فهو محال. وإن قالوا: حادث، فالموصوف بالحدوث كيف لا يكون معقولاً؟ وإن قالوا: لا قديم ولا حادث، فهو محال لأنه قبل طريان البياض لو قيل: السواد معدوم، كان كذباً، وبعده إذا قيل: إنه معدوم، كان صدقاً فهو طار لا محالة. فهذا الطاري معقول فيجوز أن يكون منسوباً إلى قدرة قادر. الحركة وما إليها تنعدم دون وقوع أضدادها الوجه الثاني أن من الأعراض ما ينعدم عندهم، لا بضده فإن الحركة لا ضد لها، وإنما التقابل بينهما وبين السكون عندهم تقابل الملكة والعدم، أي تقابل الوجود والعدم، ومعنى السكون عدم الحركة. فإذا عدمت الحركة لم يطر سكون هو ضده بل هو عدم محض، وكذلك الصفات التي هي من قبيل الاستكمال كانطباع أشباح المحسوسات في الرطوبة الجليدية من العين، بل انطباع صور المعقولات في النفس فإنها ترجع إلى استفتاح وجود من غير زوال
ضده، وإذا عدم كان معناها زوال الوجود من غير استعقاب ضده. فزوالها عبارة عن عدم محض قد طرى، فعقل وقوع العدم الطاري وما عقل وقوعه بنفسه، وإن لم يكن شيئاً عقل أن ينسب إلى قدرة القادر. قدرة القادر في إمكانها أن تحدث العدم كما تحدث الوجود. فتبين بهذا أنه مهما تصور وقوع حادث بإرادة قديمة لم يفترق الحال بين أن يكون الواقع عدماً أو وجوداً.
مسألة في بيان تلبيسهم بقولهم إن الله فاعل العالم وصانعه وأن العالم صنعه وفعله وبيان أن ذلك مجاز عندهم وليس بحقيقته قولنا لا يتصور على مساق أصلهم أن يكون العالم من صنع الله وقد اتفقت الفلاسفة سوى الدهرية على أن للعالم صانعاً وأن الله هو صانع العالم وفاعله وأن العالم فعله وصنعه، وهذا تلبيس على أصلهم. بل لا يتصور على مساق أصلهم أن يكون العالم من صنع الله، من ثلاثة أوجه: وجه في الفاعل ووجه في الفعل ووجه في نسبة مشتركة بين الفعل والفاعل. خبالهم من ثلاثة وجوه أما الذي في الفاعل فهو أنه لا بد وأن يكون مريداً مختاراً عالماً بما يريده، حتى يكون فاعلاً لما يريده. والله تعالى عندهم ليس مريداً بل لا صفة له أصلاً، وما يصدر عنه فيلزم منه لزوماً ضرورياً. والثاني أن العالم قديم والفعل هو الحادث. والثالث أن الله واحد عندهم من كل وجه، والواحد لا يصدر منه عندهم إلا واحد من كل وجه، والعالم مركب من مختلفات، فكيف يصدر عنه؟ في الفاعل: تقولون أن العالم من الله باللزوم ... ولنحقق وجه كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة مع خبالهم في دفعه.
الأول فنقول: الفاعل عبارة عمن يصدر منه الفعل، مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار ومع العلم بالمراد. وعندكم أن العالم من الله كالمعلول من العلة يلزم لزوماً ضرورياً، لا يتصور من الله دفعه، لزوم الظل من الشخص والنور من الشمس، وليس هذا من الفعل في شيء. ولا يقال الفاعل فاعلاً إلا على وجه الإرادة والاختيار بل من قال إن السراج يفعل الضوء والشخص يفعل الظل فقد جازف وتوسع في التجوز توسعاً خارجاً من الحد واستعار اللفظ اكتفاء بوقوع المشاركة بين المستعار له والمستعار عنه في وصف واحد، وهو أن الفاعل سبب على الجملة والسراج سبب الضوء والشمس سبب النور. ولكن الفاعل لم يسم فاعلاً صانعاً بمجرد كونه سبباً بل بكونه سبباً على وجه مخصوص، وهو على وجه الإرادة والاختيار، حتى لو قال القائل: الجدار ليس بفاعل والحجر ليس بفاعل والجماد ليس بفاعل وإنما الفعل للحيوان، لم ينكر ذلك ولم يكن قوله كاذباً. وللحجر فعل عندهم وهو الهوى والثقل والميل إلى المركز، كما أن للنار فعلاً وهو التسخين، وللحائط فعل وهو الميل إلى المركز ووقوع الظل، فإن كل ذلك صادر منه، وهذا محال. قولهم الفعل جنسان ... فإن قيل: كل موجود ليس واجب الوجود بذاته بل هو موجود بغيره، فإنا نسمي ذلك الشيء مفعولاً ونسمي سببه فاعلاً ولا نبالي كان السبب فاعلاً بالطبع أو بالإرادة، كما أنكم لا تبالون أنه كان فاعلاً بآلة أو بغير آلة. بل الفعل جنس وينقسم إلى ما يقع بآلة وإلى ما يقع بغير آلة، فكذلك هو جنس وينقسم إلى ما يقع بالطبع وإلى ما يقع بالاختيار. ويقال "فعل" بالطبع والاختيار بدليل أنا إذا قلنا "فعل" بالطبع لم يكن قولنا "بالطبع" ضداً لقولنا "فعل"، ولا دفعاً ونقضاً له بل كان بياناً لنوع الفعل كما إذا قلنا "فعل" مباشرة بغير آلة لم يكن نقضاً بل كان تنويعاً وبياناً. وإذا قلنا "فعل" بالاختيار لم يكن
تكراراً مثل قولنا: حيوان إنسان، بل كان بياناً لنوع الفعل كقولنا "فعل" بآلة. ولو كان قولنا "فعل" يتضمن الإرادة وكانت الإرادة ذاتية للفعل من حيث أنه فعل لكان قولنا "فعل" بالطبع متناقضاً كقولنا فعل وما فعل. قولنا الجماد لا فعل له ... قلنا: هذه التسمية فاسدة ولا يجوز أن يسمى كل سبب بأي وجه كان فاعلاً ولا كل مسبب مفعولاً. ولو كان كذلك لما صح أن يقال الجماد لا فعل له وإنما الفعل للحيوان، وهذه من الكلمات المشهورة الصادقة. إلا بالاستعادة فإن سمى الجماد فاعلاً فبالاستعارة كما قد يسمى طالباً مريداً على سبيل المجاز، إذ يقال الحجر يهوى لأنه يريد المركز ويطلبه، والطلب والإرادة حقيقية لا يتصور إلا مع العلم بالمراد المطلوب، ولا يتصور إلا من الحيوان. فالفعل يتضمن الإرادة وأما قولكم: إن قولنا "فعل" عام وينقسم إلى ما هو بالطبع وإلى ما هو بالإرادة، غير مسلم وهو كقول القائل: قولنا "أراد" عام وينقسم إلى من يريد مع العلم بالمراد وإلى من يريد ولا يعلم ما يريد، وهو فاسد، إذ الإرادة تتضمن العلم بالضرورة، فكذلك الفعل يتضمن الإرادة بالضرورة. "الفعل بالطبع" استعارة وأما قولكم: إن قولنا "فعل" بالطبع ليس بنقض للأول، فليس كذلك فإنه نقض له من حيث الحقيقة، ولكن لا يسبق إلى الفهم التناقض ولا يشتد نفور الطبع عنه لأنه يبقى مجازاً، فإنه لما أن كان سبباً بوجه ما والفاعل أيضاً سبب سمي فعلاً مجازاً. الفعل بالاختيار حقيقة هو فعل حقيقي وإذا قال "فعل" بالاختيار فهو تكرير على التحقيق كقوله "أراد" وهو عالم بما أراده. إلا أنه لما تصور أن يقال "فعل" وهو مجاز ويقال "فعل" وهو حقيقة لم تنفر النفس عن قوله "فعل" بالاختيار وكان معناه فعل فعلاً حقيقياً لا مجازياً كقول القائل: تكلم بلسانه ونظر بعينه فإنه لما جاز أن يستعمل النظر في القلب مجازاً والكلام في تحريك الرأس واليد حتى يقال قال برأسه أي نعم، لم يستقبح أن يقال: قال بلسانه
ونظر بعينه، ويكون معناه نفي احتمال المجاز. فهذا مزلة القدم، فليتنبه لمحل انخداع هؤلاء الأغبياء. قولهم يقال النار تحرق فإن قيل: تسمية الفاعل فاعلاً إنما يعرف من اللغة، وإلا فقد ظهر في العقل أن ما يكون سبباً للشيء ينقسم إلى ما يكون مريداً وإلى ما لا يكون. ووقع النزاع في أن اسم الفعل على كلى القسمين حقيقة أم لا؟ ولا سبيل إلى إنكاره، إذ العرب تقول: النار تحرق والسيف يقطع والثلج يبرد والسقمونيا تسهل والخبز يشبع والماء يروي. وقولنا "يضرب" معناه يفعل الضرب، وقولنا "تحرق" معناه تفعل الاحتراق، وقولنا "يقطع" معناه يفعل القطع. فإن قلتم: إن كل ذلك مجاز كنتم متحكمين فيه من غير مستند. قولنا من ألقى إنساناً في نار فمات هو القاتل دون النار ... والجواب أن كل ذلك بطريق المجاز وإنما الفعل الحقيقي ما يكون بالإرادة. والدليل عليه أنا لو فرضنا حادثاً توقف في حصوله على أمرين أحدهما إرادي والآخر غير إرادي، أضاف العقل الفعل إلى الإرادي. وكذى اللغة فإن من ألقى إنساناً في نار فمات يقال: هو القاتل دون النار، حتى إذا قيل: ما قتله إلا فلان، صدق قائله. لأنه مختار فإن كان اسم الفاعل على المريد وغير المريد على وجه واحد لا بطريق كون أحدهما أصلاً وكون الآخر مستعاراً منه، فلم يضاف القتل إلى المريد لغة وعرفاً وعقلاً؟ مع أن النار هي العلة القريبة في القتل، وكأن الملقى لم يتعاط إلا الجمع بينه وبين النار. ولكن لما أن كان الجمع بالإرادة وتأثير النار بغير إرادة سمي قاتلاً ولم تسم النار قاتلاً إلا بنوع من الاستعارة. فدل أن الفاعل من صدر الفعل عن إرادته، وإذا لم يكن الله مريداً عندهم ولا مختاراً لفعل لم يكن صانعاً ولا فاعلاً إلا مجازاً. قولهم نعني بكون الله فاعلاً أن العالم قوامه به فإن قيل: نحن نعني بكون الله فاعلاً أنه سبب لوجود كل موجود سواه وأن العالم قوامه به، ولولا وجود البارئ لما تصور وجود العالم، ولو قدر عدم البارئ لانعدم العالم، كما لو قدر عدم الشمس لانعدم
الضوء. فهذا ما نعنيه بكونه فاعلاً، فإن كان الخصم يأبى أن يسمي هذا المعنى فعلاً فلا مشاحة في الأسامي بعد ظهور المعنى. قولنا لا تقولوا إن الله "صانع" العالم قلنا: غرضنا أن نبين أن هذا المعنى لا يسمى فعلاً وصنعاً، وإنما المعنى بالفعل والصنع ما يصدر عن الإرادة حقيقية. وقد نفيتم حقيقة معنى الفعل ونطقتم بلفظه تجملاً بالإسلاميين، ولا يتم الدين بإطلاق الألفاظ الفارغة عن المعاني. فصرحوا بأن الله لا فعل له، حتى يتضح أن معتقدكم مخالف لدين المسلمين. ولا تلبسوا بأن الله صانع العالم وأن العالم صنعه فإن هذه لفظة أطلقتموها ونفيتم حقيقتها، ومقصود هذه المسألة الكشف عن هذا التلبيس فقط.
الثاني إن كان العالم موجوداً فلا يمكن إيجاده في إبطال كون العالم فعلاً لله على أصلهم بشرط في الفعل، وهو أن الفعل عبارة عن الأحداث، والعالم عندهم قديم وليس بحادث، ومعنى الفعل إخراج الشيء من العدم إلى الوجود بإحداثه. وذلك لا يتصور في القديم إذ الموجود لا يمكن إيجاده. فإذن شرط الفعل أن يكون حادثاً، والعالم قديم عندهم، فكيف يكون فعلاً لله؟ قولهم الوجود متعلق بالفاعل ... فإن قيل: معنى الحادث موجود بعد عدم، فلنبحث أن الفاعل إذا أحدث كان الصادر منه المتعلق به الوجود المجرد أو العدم المجرد أو كلاهما. وباطل أن يقال: إن المتعلق به العدم السابق إذ لا تأثير للفاعل في العدم، وباطل أن يقال: كلاهما إذ بان أن العدم لا يتعلق به أصلاً، وأن العدم في كونه عدماً لا يحتاج إلى فاعل البتة، فبقي أنه متعلق به من حيث أنه موجود، وأن الصادر منه مجرد الوجود، وأنه لا نسبة إليه إلا الوجود. فإن فرض الوجود دائماً فرضت النسبة دائمة، وإذا دامت هذه النسبة كان المنسوب إليه أفعل وأدوم تأثيراً لأنه لم يتعلق العدم بالفاعل بحال. لا سبق العدم، وإن كان مشترطاً به فبقي أن يقال: إنه متعلق به من حيث أنه حادث، ولا معنى لكونه حادثاً إلا أنه وجود بعد عدم، والعدم لم يتعلق به، فإن جعل سبق العدم وصف الوجود وقيل: المتعلق به وجود مخصوص لا كل وجود وهو وجود مسبوق بالعدم، فيقال: كونه مسبوقاً بالعدم ليس من فعل فاعل وصنع صانع، فإن هذا الوجود لا يتصور صدوره من فاعله إلا والعدم سابق عليه، وسبق العدم ليس
بفعل الفاعل. فكونه مسبوق العدم ليس بفعل الفاعل فلا تعلق له به. فاشتراطه في كونه فعلاً اشتراط ما لا تأثير للفاعل فيه بحال. وأما قولكم: إن الموجود لا يمكن إيجاده، إن عنيتم به أنه لا يستأنف له وجود بعد عدم فصحيح. لا إيجاد إلا لموجود وإن عنيتم به أنه في حال كونه موجوداً لا يكون موجداً، فقد بينا أنه يكون موجداً في حال كونه موجوداً لا في حال كونه معدوماً. فإنه إنما يكون الشيء موجداً إذا كان الفاعل موجداً، ولا يكون الفاعل موجداً في حال العدم بل في حال وجود الشيء منه. والإيجاد مقارن لكون الفاعل موجداً وكون المفعول موجداً لأته عبارة عن نسبة الموجد إلى الموجد، وكل ذلك مع الوجود لا قبله. فإذن لا إيجاد إلا لموجود إن كان المراد بالإيجاد النسبة التي بها يكون الفاعل موجداً والمفعول موجداً. العالم فعل الله أزلاً وأبداً قالوا: ولهذا قضينا بأن العالم فعل الله أزلاً وأبداً، وما من حال إلا وهو فاعل له لأن المرتبط بالفاعل الوجود، فإن دام الارتباط دام الوجود، وإن انقطع انقطع لا كما تخيلتموه من أن البارئ لو قدر عدمه لبقى العالم، إذ ظننتم أنه كالبناء مع البناء، فإنه ينعدم ويبقى البناء، فإن بقاء البناء ليس بالباني بل هو باليبوسة الممسكة لتركيبه، إذ لو لم يكن فيه قوة ماسكة كالماء مثلاً لم يتصور بقاء الشكل الحادث بفعل الفاعل فيه. قولنا الفعل يتعلق بالفاعل من حيث حدوثه ... ? والجواب: إن الفعل يتعلق بالفاعل من حيث حدوثه لا من حيث عدمه السابق ولا من حيث كونه موجوداً فقط، فإنه لا يتعلق به في ثاني حال الحدوث عندنا وهو موجود، بل يتعلق به في حال حدوثه من حيث أنه حدوث وخروج من العدم إلى الوجود، فإن نفى منه معنى الحدوث لم يعقل كونه فعلاً ولا تعلقه بالفاعل. ولا يتعلق به سبق العدم وقولكم: إن كونه حادثاً يرجع إلى كونه مسبوقاً بالعدم وكونه مسبوقاً بالعدم، ليس من فعل الفاعل وجعل الجاعل فهو كذلك، لكنه شرط في كون الوجود فعل الفاعل، أعني كونه مسبوقاً
بالعدم. فالوجود الذي ليس مسبوقاً بعدم بل هو دائم لا يصلح لأن يكون فعل الفاعل، وليس كل ما يشترط في كون الفعل فعلاً ينبغي أن يكون بفعل الفاعل، فإن ذات الفاعل وقدرته وإرادته وعلمه شرط في كونه وليس ذلك من أثر الفعل ولكن لا يعقل فعل إلا من موجود، فكان وجود الفاعل شرطاً وإرادته وقدرته وعلمه ليكون فاعلاً وإن لم يكن من أثر الفاعل. الفعل مع الفاعل كالماء مع اليد في تحريك الماء فإن قيل: إن اعترفتم بجواز كون الفعل مع الفاعل غير متأخر عنه، فيلزم أن يكون الفعل حادثاً إن كان الفاعل حادثاً، وقديماً إن كان قديماً. وإن شرطتم أن يتأخر الفعل عن الفاعل بالزمان، فهذا محال إذ من حرك اليد في قدح ماء تحرك الماء مع حركة اليد لا قبله ولا بعده، إذ لو تحرك بعده لكان اليد مع الماء قبل تنحيه في حيز واحد، ولو، تحرك قبله لانفصل الماء عن اليد، وهو مع كونه معه معلوله وفعل من جهته. فإن فرضنا اليد قديمة في الماء متحركة كانت حركة الماء أيضاً دائمة وهي مع دوامها معلولة ومفعولة. ولا يمتنع ذلك بفرض الدوام، فكذلك نسبة العالم إلى الله. قولنا يكون الفعل حادثاً?! وليس الكلام عن المعلول قلنا: لا نحيل أن يكون الفعل مع الفاعل بعد كون الفعل حادثاً، كحركة الماء فإنها حادثة عن عدم، فجاز أن يكون فعلاً ثم سواء كان متأخراً عن ذات الفاعل أو مقارناً له. وإنما نحيل الفعل القديم فإن ما ليس حادثاً عن عدم فتسميته فعلاً مجاز مجرد لا حقيقة له. وأما المعلول مع العلة فيجوز أن يكونا حادثين وأن يكونا قديمين، كما يقال: إن العلم القديم علة لكون القديم عالماً، ولا كلام فيه وإنما الكلام فيما يسمى فعلاً، ومعلول العلة لا يسمى فعل العلة إلا مجازاً، بل ما يسمى فعلاً فشرطه أن يكون حادثاً عن عدم، فإن تجوز متجوز بتسمية القديم الدائم الوجود فعلاً لغيره كان متجوزاً في الاستعارة. الحركة دائمة الحدوث وقولكم: لو قدرنا حركة الإصبع مع الإصبع قديماً دائماً لم يخرج حركة الماء عن كونه فعلاً، تلبيس، لأن الإصبع لا فعل له وإنما الفاعل ذو الإصبع وهو المريد، ولو قدر قديماً لكانت حركة الإصبع فعلاً له من حيث أن كل جزء من الحركة فحادث عن عدم، فبهذا
الاعتبار كان فعلاً وأما حركة الماء فقد لا نقول أنه من فعله بل هو من فعل الله. وعلى أي وجه كان فكونه فعلاً من حيث أنه حادث، إلا أنه دائم الحدوث وهو فعل من حيث أنه حادث. قولهم لا تسمي هذا فعلاً بل معلولاً فإن قيل: فإذا اعترفتم بأن نسبة الفعل إلى الفاعل من حيث أنه موجود كنسبة المعلول إلى العلة ثم سلمتم تصور الدوام في نسبة العلة، فنحن لا نعني بكون العالم فعلاً إلا كونه معلولاً دائم النسبة إلى الله تعالى فإن لم تسموا هذا فعلاً فلا مضايقة في التسميات بعد ظهور المعاني. قولنا استعمالكم لفظة "فعل" مجاز قلنا: ولا غرض من هذه المسألة إلا بيان أنكم تتجملون بهذه الأسماء من غير تحقيق وأن الله عندكم ليس فاعلاً تحقيقاً ولا العالم فعله تحقيقاً وأن إطلاق هذا الاسم مجاز منكم لا تحقيق له، وقد ظهر هذا.
الثالث لا يكون العالم فعل الله إذا لا يصور من الواحد إلا شيء واحد في استحالة كون العالم فعلاً لله على أصلهم بشرط مشترك بين الفاعل والفعل، وهو أنهم قالوا: لا يصدر من الواحد إلا شيء واحد، والمبدأ واحد من كل وجه والعالم مركب من مختلفات، فلا يتصور أن يكون فعلاً لله بموجب أصلهم. قولهم بطريق التوسط ... فإن قيل: العالم بجملته ليس صادراً من الله بغير واسطة، بل الصادر منه موجود واحد هو أول المخلوقات وهو عقل مجرد، أي هو جوهر قائم بنفسه غير متحيز يعرف نفسه ويعرف مبدأه ويعبر عنه في لسان الشرع بالملك، ثم يصدر منه الثالث ومن الثالث رابع وتكثر الموجودات بالتوسط. عن أسباب الكثرة فإن اختلاف الفعل وكثرته إما أن يكون لاختلاف القوى الفاعلة كما أنا نفعل بقوة الشهوة خلاف ما نفعل بقوة الغضب، وإما أن يكون لاختلاف المواد كما أن الشمس تبيض الثوب المغسول وتسود وجه الإنسان وتذيب بعض الجواهر وتصلب بعضها، وإما لاختلاف الآلات كالنجار الواحد ينشر بالمنشار وينحت بالقدوم ويثقب بالمثقب، وإما أن تكون كثرة الفعل بالتوسط بأن يفعل فعلاً واحداً ثم ذلك الفعل يفعل غيره فيكثر الفعل. والتوسط وحده ممكن وهذه الأقسام كلها محال في المبدأ الأول إذ ليس في ذاته اختلاف واثنينية وكثرة، كما سيأتي في أدلة التوحيد، ولا ثم اختلاف مواد فإن الكلام في المعلول الأول والذي هي المادة الأولى مثلاً، ولا ثم اختلاف
آلة إذ لا موجود مع الله في رتبته. فالكلام في حدوث الآلة الأولى، فلم يبق إلا أن تكون الكثرة في العالم صادرة من الله بطريق التوسط كما سبق. قولنا في العالم مركبات قلنا: فيلزم من هذا أن لا يكون في العالم شيء واحد مركب من أفراد، بل تكون الموجودات كلها آحاداً وكل واحد معلول لواحد آخر فوقه وعلة لآخر تحته إلى أن ينتهي إلى معلول لا معلول له كما انتهى في جهة التصاعد إلى علة لا علة له. وليس كذلك فإن الجسم عندهم مركب من صورة وهيولى وقد صار باجتماعهما شيئاً واحداً. والإنسان مركب من جسم ونفس ليس وجود أحدهما من الآخر بل وجودهما جميعاً بعلة أخرى. والفلك عندهم كذلك فإنه جرم ذو نفس، لم تحدث النفس بالجرم ولا الجرم بالنفس بل كلاهما صدرا من علة سواهما. حيث يقع التقاء الواحد والمركب يبطل القول بأن الواحد لا يصدر منه إلا واحد فكيف وجدت هذه المركبات؟ أمن علة واحدة؟ فيبطل قولهم: لا يصدر من الواحد إلا واحد، أو من علة مركبة؟ فيتوجه السؤال في تركيب العلة إلى أن يلتقي بالضرورة مركب ببسيط. فإن المبدأ بسيط وفي الأواخر تركيب ولا يتصور ذلك إلا بالتقاء، وحيث يقع التقاء يبطل قولهم إن الواحد لا يصدر منه إلا واحد. قولهم مذهبنا في انقسام الموجودات ... فإن قيل: إذا عرف مذهبنا اندفع الإشكال، فإن الموجودات تنقسم إلى ما هي في محال كالأعراض والصور وإلى ما ليست في محال، وهذا ينقسم إلى ما هي محال لغيرها كالأجسام وإلى ما ليست بمحال كالموجودات التي هي جواهر قائمة بأنفسها، وهي تنقسم إلى ما يؤثر في الأجسام ونسميها نفوساً وإلى ما لا يؤثر في الأجسام بل في النفوس ونسميها عقولاً مجردة. أما الموجودات التي تحل في المحال كالأعراض فهي حادثة ولها علل حادثة وتنتهي إلى مبدأ هو حادث من وجه دائم من وجه، وهي الحركة الدورية وليس الكلام فيها. القائمة بأنفسها وإنما الكلام في الأصول القائمة بأنفسها لا في محال وهي ثلاثة: أجسام وهي أخسها، وعقول مجردة وهي التي لا تتعلق بالأجسام
لا بالعلاقة الفعلية ولا بالانطباع فيها وهي أشرفها، ونفوس وهي أوسطها فإنها تتعلق بالأجسام نوعاً من التعلق وهو التأثير والفعل فيها، فهي متوسطة في الشرف فإنها تتأثر من العقول وتؤثر في الأجسام. ثم الأجسام عشرة تسع سموات والعاشر المادة التي هي حشو مقعر فلك القمر، والسموات التسع حيوانات لها أجرام ونفوس ولها ترتيب في الوجود كما نذكره. ترتيب الصدور ... وهو أن المبدأ الأول فاض من وجوده العقل الأول، وهو موجود قائم بنفسه ليس بجسم ولا منطبع في جسم، يعرف نفسه ويعرف مبدأه، وقد سميناه العقل الأول ولا مشاحة في الأسامي سمي ملكاً أو عقلاً أو ما أريد. ويلزم عن وجوده ثلاثة أمور: عقل ونفس الفلك الأقصى وهي السماء التاسعة وجرم الفلك الأقصى. ثم لزم من العقل الثاني عقل ثالث ونفس فلك الكواكب وجرمه، ثم لزم من العقل الثالث عقل رابع ونفس فلك زحل وجرمه، ولزم من العقل الرابع عقل خامس ونفس فلك المشتري وجرمه، وهكذى حتى انتهى إلى العقل الذي لزم منه عقل ونفس فلك القمر وجرمه. وأخيراً العقل الفعال والمادة الخ. والعقل الأخير هو الذي يسمى العقل الفعال، ولزم حشو فلك القمر وهي المادة القابلة للكون والفساد من العقل الفعال وطبائع الأفلاك. ثم إن المواد تمتزج بسبب حركات الكواكب امتزاجات مختلفة يحصل منها المعادن والنبات والحيوان، ولا يلزم أن يلزم من كل عقل عقل إلى غير نهاية، لأن هذه العقول مختلفة الأنواع، فما ثبت لواحد لا يلزم للآخر. في المعلول الأول ثلاثة أشياء فخرج منه أن العقول بعد المبدأ الأول عشرة والأفلاك تسعة ومجموع هذه المبادئ الشريفة بعد الأول تسعة عشر، وحصل منه أن تحت كل عقل من العقول الأول ثلاثة أشياء: عقل ونفس فلك وجرمه، فلا بد وأن يكون في مبدئه تثليث لا محالة، ولا يتصور كثرة في المعلول الأول إلا
من وجه واحد وهو أنه يعقل مبدأه ويعقل نفسه، وهو باعتبار ذاته ممكن الوجود لأن وجوب وجوده بغيره لا بنفسه، وهذه معان ثلاثة مختلفة. والأشرف من المعلولات الثلاثة ينبغي أن ينسب إلى الأشرف من هذه المعاني فيصدر منه العقل من حيث أنه يعقل مبدأه، ويصدر نفس الفلك من حيث أنه يعقل نفسه، ويصدر جرم الفلك من حيث أنه ممكن الوجود بذاته. لا يصدر من المبدأ الأول لزوماً إلا واحد فيبقى أن يقال: هذا التثليث من أين حصل في المعلول الأول ومبدؤه واحد؟ فنقول: لم يصدر من المبدأ الأول إلا واحد وهو ذات هذا العقل الذي به يعقل نفسه، ولزمه ضرورة لا من جهة المبدأ إن عقل المبدأ، وهو في ذاته ممكن الوجود وليس له الإمكان من المبدأ الأول بل هو لذاته. ونحن لا نبعد أن يوجد من الواحد واحد يلزم ذلك المعلول، لا من جهة المبدأ، أمور ضرورية إضافية أو غير إضافية، فيحصل بسبه كثرة ويصير بذلك مبدأ لوجود الكثرة. فعلى هذا الوجه يمكن أن يلتقي المركب بالبسيط إذ لا بد من الالتقاء، ولا يمكن إلا كذلك فهو الذي يجب الحكم به. فهذا هو القول في تفهيم مذهبهم. قولنا إنها ترهات! والاعتراضات لا تنحصر، وإليكم بعضها قلنا: ما ذكرتموه تحكمات وهي على التحقيق ظلمات فوق ظلمات، لو حكاه الإنسان عن منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه، أو أورد جنسه في الفقهيات التي قصارى المطلب فيها تخمينات لقيل أنها ترهات لا تفيد غلبات الظنون. ومداخل الاعتراض على مثله لا تنحصر ولكنا نورد وجوهاً معدودة. إن جاز صدور الكثرة عن إمكان الوجود، جاز صدورها عن وجوب الوجود الأول هو أنا نقول: ادعيتم أن أحد معاني الكثرة في المعلول الأول أنه ممكن الوجود، فنقول: كونه ممكن الوجود عين وجوده أو غيره، فإن كان عينه فلا ينشأ منه كثرة، وإن كان غيره فهلا قلتم: في المبدأ الأول
كثرة، لأنه موجود وهو مع ذلك واجب الوجود، فوجوب الوجود غير نفس الوجود، فليجز صدور المختلفات منه لهذه الكثرة. وإن قيل: لا معنى لوجوب الوجود إلا الوجود، فلا معنى لإمكان الوجود إلا الوجود. فإن قلتم: يمكن أن يعرف كونه موجوداً ولا يعرف كونه ممكناً فهو غيره، فكذا واجب الوجود يمكن أن يعرف وجوده ولا يعرف وجوبه إلا بعد دليل آخر فليكن غيره. وبالجملة الوجود أمر عام ينقسم إلى واجب وإلى ممكن، فإن كان فصل أحد القسمين زائداً على العام فكذى الفصل الثاني ولا فرق. قولهم إمكان الوجود غير الوجود فإن قيل: إمكان الوجود له من ذاته ووجوده من غيره، فكيف يكون ما له من ذاته وما له من غيره واحداً؟ قولنا كذلك وجوب الوجود قلنا: وكيف يكون وجوب الوجود عين الوجود ويمكن أن ينفى وجوب الوجود ويثبت الوجود؟ والواحد الحق من كل وجه هو الذي لا يتسع للنفي والإثبات إذ لا يمكن أن يقال: موجود وليس بموجود أو واجب الوجود وليس بواجب الوجود، ويمكن أن يقال: موجود وليس بواجب الوجود كما يمكن أن يقال: موجود وليس بممكن الوجود. وإنما يعرف الوحدة بهذا فلا يستقيم تقدير ذلك في الأول إن صح ما ذكروه من أن إمكان الوجود غير الوجود الممكن. إن جاز صدور الكثرة عن قوة العقل، جاز صدورها عن المبدأ الأول الاعتراض الثاني هو أن نقول: عقله مبدأه عين وجوده وعين عقله نفسه أم غيره؟ فإن كان عينه فلا كثرة في ذاته إلا في العبارة عن ذاته، وإن كان غيره فهذه الكثرة موجودة في الأول فإنه يعقل ذاته ويعقل غيره. فإن زعموا أن عقله ذاته عين ذاته ولا يعقل ذاته ما لم يعقل أنه مبدأ لغيره، فإن العقل يطابق المعقول فيكون راجعاً إلى ذاته. فنقول: والمعلول عقله ذاته عين ذاته فإنه عقل بجوهره فيعقل نفسه، والعقل والعاقل والمعقول منه أيضاً واحد. ثم إذا كان عقله ذاته عين ذاته فليعقل ذاته معلولاً لعلة فإنه كذلك، والعقل يطابق المعقول فيرجع الكل إلى ذاته فلا كثرة إذن. وإن
كانت هذه كثرة فهي موجودة في الأول، فليصدر منه المختلفات. ولنترك دعوى وحدانيته من كل وجه إن كانت الوحدانية تزول بهذا النوع من الكثرة. قولهم الأول لا يعقل إلا ذاته فإن قيل: الأول لا يعقل إلا ذاته وعقله ذاته هو عين ذاته، فالعقل والعاقل والمعقول واحد ولا يعقل غيره. قولنا لا والجواب من وجهين: أحدهما أن هذا المذهب لشناعته هجره ابن سينا وسائر المحققين وزعموا أن الأول يعلم نفسه مبدأ لفيضان ما يفيض منه ويعقل الموجودات كلها بأنواعها عقلاً كلياً لا جزئياً، إذ استقبحوا قول القائل: المبدأ الأول لا يصدر منه إلا عقل واحد ثم لا يعقل ما يصدر منه، ومعلوله عقل ويفيض منه عقل ونفس فلك وجرم فلك ويعقل نفسه ومعلولاته الثلاث وعلته ومبدأه، فيكون المعلول أشرف من العلة من حيث أن العلة ما فاض منها إلا واحد. وقد فاض من هذا ثلاثة أمور، والأول ما عقل إلا نفسه، وهذا عقل نفسه ونفس المبدأ ونفس المعلولات. ومن قنع أن يكون قوله في الله راجعاً إلى هذه الرتبة فقد جعله أحقر من كل موجود يعقل نفسه ويعقله، فإن ما يعقله ويعقل نفسه أشرف منه إذا كان هو لا يعقل إلا نفسه. أنزلوا الله منزلة الجاهل! هكذا يعامل الله المتكبرين فقد انتهى منهم التعمق في التعظيم إلى أن أبطلوا كل ما يفهم من العظمة وقربوا حاله من حال الميت الذي لا خبر له مما يجري في العالم، إلا أنه فارق الميت في شعوره بنفسه فقط. وهكذى يفعل الله بالزائغين عن سبيله والناكبين لطريق الهدى المنكرين لقوله: "ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم"، "الظانين بالله ظن السوء"، المعتقدين أن الأمور الربوبية يستولي على كنهها القوى البشرية، المغرورين بعقولهم زاعمين أن فيها مندوحة عن تقليد الرسل وأتباعهم.
فلا جرم اضطروا إلى الاعتراف بأن لباب معقولا رجعت إلى ما لو حكي في منام لتعجب منه. ولا يعقل المعلول الأول غيره الجواب الثاني هو أن من ذهب إلى أن الأول لا يعقل إلا نفسه إنما حاذر من لزوم الكثرة، إذ لو قال به للزم أن يقال: عقله غيره غير عقله نفسه. وهذا لازم في المعلول الأول فينبغي أن لا يعقل إلا نفسه، لأنه لو عقل الأول أو غيره لكان ذلك غير ذاته ولافتقر إلى علة غير علة ذاته، ولا علة إلا علة ذاته وهو المبدأ الأول، فينبغي أن لا يعلم إلا ذاته، وتبطل الكثرة التي نشأت من هذا الوجه. قولهم يعقل المبدأ فإن قيل: لما وجد وعقل ذاته لزمه أن يعقل المبدأ. قولنا لا يلزمه ذلك بعلة وجوده قلنا: لزمه ذلك بعلة أو بغير علة؟ فإن كان بعلة فلا علة إلا المبدأ الأول وهو واحد، ولا يتصور أن يصدر منه إلا واحد وقد صدر وهو ذات المعلول، فالثاني كيف يصدر منه؟ وإن لزم بغير علة فليلزم وجود الأول موجودات بلا علة كثيرة وليلزم منها الكثرة. فإن لم يعقل هذا من حيث أن واجب الوجود لا يكون إلا واحداً والزائد على الواحد ممكن والممكن يفتقر إلى علة، فهذا اللازم في حق المعلول. إن كان واجب الوجود بذاته فقد بطل قولهم: واجب الوجود واحد، وإن كان ممكناً فلا بد له من علة ولا علة له فلا يعقل وجوده. ولا بعلة إمكان وجوده وليس هو من ضرورة المعلول الأول لكونه ممكن الوجود فإن إمكان الوجود ضروري في كل معلول. أما كون المعلول عالماً بالعلة ليس ضرورياً في وجود ذاته كما أن كون العلة عالماً بالمعلول ليس ضرورياً في وجود ذاته. بل لزوم العلم بالمعلول أظهر من لزوم العلم بالعلة، فبان أن الكثرة الحاصلة من علمه بالمبدأ محال فإنه لا مبدأ له وليس هو من ضرورة وجود ذات المعلول، وهذا أيضاً لا مخرج منه. في المعلول الأول أكثر من التثليث الاعتراض الثالث هو أن عقل المعلول الأول ذات نفسه عين ذاته أو غيره. فإن كان عينه فهو محال لأن العلم غير المعلوم، وإن كان غيره
فليكن كذلك في المبدأ الأول فيلزم منه كثرة ويلزم فيه تربيع لا تثليث بزعمهم، فإنه ذاته وعقله مبدأه وإنه ممكن الوجود بذاته. ويمكن أن يزاد أنه واجب الوجود بغيره فيظهر تخميس، وبهذا يتعرف تعمق هؤلاء في الهوس. التثيلث لا يكفي في جرم السماء الأول الاعتراض الرابع أن نقول: التثليث لا يكفي في المعلول الأول فإن جرم السماء الأول لزم عندهم من معنى واحد من ذات المبدأ وفيه تركيب من ثلاثة أوجه: لا بد له من صورة وهيولى أحدها أنه مركب من صورة وهيولى وهكذى كل جسم عندهم. فلا بد لكل واحد من مبدأ إذ الصورة تخالف الهيولى. وليست كل واحدة على مذهبهم علة مستقلة للأخرى حتى يكون أحدهما بواسطة الآخر من غير علة أخرى زائدة عليه. ومقدار ... الثاني أن الجرم الأقصى على حد مخصوص في الكبر. فاختصاصه بذلك القدر من بين سائر المقادير زائد على وجود ذاته إذ كان ذاته ممكناً أصغر منه وأكبر فلا بد له من مخصص بذلك المقدار زائد على المعنى البسيط الموجب لوجوده، لا كوجود العقل فإنه وجود محض لا يختص بمقدار مقابل لسائر المقادير. فيجوز أن يقال: لا يحتاج إلا إلى علة بسيطة. قولهم لا غنى عنه في تحصيل النظام فإن قيل: سببه أنه لو كان أكبر منه لكان مستغنى عنه في تحصيل النظام الكلي، ولو كان أصغر منه لم يصلح للنظام المقصود. قولنا النظام ليس هو كاف فنقول: وتعين جهة النظام هل هو كاف في وجود ما به النظام أم يفتقر إلى علة موجدة؟ فإن كان كافياً فقد استغنيتم عن وضع العلل، فاحكموا بأن كون النظام في هذه الموجودات اقتضى هذه الموجودات بلا علة زائدة، وإن كان ذلك لا يكفي بل افتقر إلى علة فذلك أيضاً لا يكفي للاختصاص بالمقادير بل يحتاج أيضاً إلى علة التركيب.
خواص القطب الثالث أن الفلك الأقصى انقسم إلى نقطتين هما القطبان وهما ثابتا الوضع لا يفارقان وضعهما. وأجزاء المنطقة يختلف وضعها فلا يخلوا أما إن كان جميع أجزاء الفلك الأقصى متشابهاً، فلم لزم تعين نقطتين من بين سائر النقط لكونهما قطبين؟ أو أجزاؤها مختلفة ففي بعضها خواص ليست في البعض، فما مبدأ تلك الاختلافات؟ والجرم الأقصى لم يصدر إلا من معنى واحد بسيط، والبسيط لا يوجب إلا بسيطاً في الشكل وهو الكرى ومتشابهاً في المعنى وهو الخلو عن الخواص المميزة، وهذا أيضاً لا مخرج منه. قولهم لعل في المبدأ أنواعاً من الكثرة لازمة لا من جهة المبدأ فإن قيل: لعل في المبدأ أنواعاً من الكثرة لازمة لا من جهة المبدأ، وإنما ظهر لنا ثلاثة أو أربعة والباقي لم نطلع عليه، وعدم عثورنا على عينه لا يشككنا في أن مبدأ الكثرة كثرة وأن الواحد لا يصدر منه كثير. قولنا الموجودات كلها تكون صادرة عن المعلول الأول ... قلنا: فإذا جوزتم هذا فقولوا: إن الموجودات كلها على كثرتها وقد بلغت آلافاً صدرت من المعلول الأول، فلا يحتاج أن يقتصر على جرم الفلك الأقصى ونفسه، بل يجوز أن يكون قد صدر منه جميع النفوس الفلكية والإنسانية وجميع الأجسام الأرضية والسماوية، بأنواع كثرة لازمة فيها لم يطلعوا عليها فيقع الاستغناء بالمعلول الأول. لا بل عن العلة الأولى ثم يلزم منه الاستغناء بالعلة الأولى، فإنه إذا جاز تولد كثرة يقال إنها لازمة لا بعلة مع أنها ليست ضرورية في وجود المعلول الأول، جاز أن يقدر ذلك مع العلة الأولى ويكون وجودها لا بعلة ويقال: إنها لزمت ولا يدرى عددها، وكلما تخيل وجودها بلا علة مع الأول تخيل ذلك بلا علة مع الثاني، بل لا معنى لقولنا: مع الأول والثاني، إذ ليس بينهما مفارقة في زمان ولا مكان. فما لا يفارقهما في مكان وزمان ويجوز أن يكون موجوداً بلا علة لم يختص أحدهما بالإضافة إليه. قولهم يبعد أن يبلغ الألف في المعلول الأول فإن قيل: لقد كثرت الأشياء حتى زادت على ألف، ويبعد أن تبلغ الكثرة
في المعلول إلى هذا الحد، فلذلك أكثرنا الوسائط. قولنا ولماذا؟ قلنا: قول القائل: "يبعد" هذا رجم ظن لا يحكم به في المعقولات إلا أن يقول: إنه يستحيل. فنقول: لم يستحيل؟ وما المرد والفيصل مهما جاوزنا الواحد واعتقدنا أنه يجوز أن يلزم المعلول الأول، لا من جهة العلة، لازم واثنان وثلث؟ فما المحيل لأربع وخمس وهكذى إلى الألف؟ وإلا فمن يتحكم بمقدار دون مقدار؟ فليس بعد مجاوزة مرد، الواحد، وهذا أيضاً قاطع. عن تلك الكواكب صدر المعلول الثاني ... ثم نقول: هذا باطل بالمعلول الثاني فإنه صدر منه فلك الكواكب وفيه ألف ونيف ومئتا كوكب، وهي مختلفة العظم والشكل والوضع واللون والتأثير والنحوسة والسعادة، فبعضها على صورة الحمل والثور والأسد وبعضها على صورة الإنسان، ويختلف تأثيرها في محل واحد من العالم السفلي في التبريد والتسخين والسعادة والنحوس، وتختلف مقاديرها في ذاتها. ففيه أنواع من العلل فلا يمكن أن يقال: الكل نوع واحد مع هذا الاختلاف، ولو جاز هذا أن يقال: كل أجسام العالم نوع واحد في الجسمية فيكفيها علة واحدة. فإن كان اختلاف صفاتها وجواهرها وطبائعها دل على اختلافها فكذى الكواكب مختلفة لا محالة، ويفتقر كل واحد إلى علة لصورته وعلة لهيولاه وعلة لاختصاصه بطبيعته المسخنة أو المبردة أو المسعدة أو المنحسة ولاختصاصه بموضعه ثم لاختصاص جملها بأشكال البهائم المختلفة. وهذه الكثرة إن تصور أن تعقل في المعلول الثاني تصور في الأول ووقع الاستغناء. إن بيان العلل التي ذكرتموها لمما يضحك منها الاعتراض الخامس هو أنا نقول: سلمنا هذه الأوضاع الباردة والتحكمات الفاسدة ولكن كيف لا تستحيون من قولكم: إن كون المعلول الأول ممكن الوجود اقتضى وجود جرم الفلك الأقصى منه، وعقله نفسه اقتضى وجود نفس الفلك منه، وعقله الأول يقتضي وجود عقل منه؟ وما الفصل بين هذا وبين قائل عرف وجود إنسان غائب وأنه ممكن الوجود وأنه يعقل نفسه وصانعه فقال: يلزم من كونه ممكن الوجود وجود
فلك؟ فيقال: وأي مناسبة بين كونه ممكن الوجود وبين وجود فلك منه؟ وكذلك يلزم من كونه عاقلاً لنفسه ولصانعه شيئان آخران. وهذا إذا قيل في إنسان ضحك منه، فكذى في موجود آخر إذ إمكان الوجود قضية لا تختلف باختلاف ذات الممكن إنساناً كان أو ملكاً أو فلكاً. فلست أدري كيف يقنع المجنون في نفسه بمثل هذه الأوضاع فضلاً من العقلاء الذين يشقون الشعر بزعمهم في المعقولات. اعتراض فماذا تقولون أنتم؟ فإن قال قائل: فإذا أبطلتم مذهبهم فماذى تقولون أنتم؟ أتزعمون أنه يصدر من الشيء الواحد من كل وجه شيئان مختلفان، فتكابرون المعقول؟ أو تقولون: المبدأ الأول فيه كثرة، فتتركون التوحيد؟ أو تقولون لا كثرة في العالم، فتنكرون الحس؟ أو تقولون: لزمت بالوسائط، فتضطرون إلى الاعتراف بما قالوه؟ قولنا ليس من غير المعقول أن يصدر اثنان من واحد وهذا ما ورد به الأنبياء قلنا: نحن لم نخض في هذا الكتاب خوض ممهد، وإنما غرضنا أن نشوش دعاويهم وقد حصل. على أنا نقول: ومن زعم أن المصير إلى صدور اثنين من واحد مكابرة المعقول أو اتصاف المبدأ بصفات قديمة أزلية مناقض للتوحيد، فهاتان دعوتان باطلتان لا برهان لهم عليهما، فإنه ليس يعرف استحالة صدور الاثنين من واحد كما يعرف استحالة كون الشخص الواحد في مكانين، وعلى الجملة لا يعرف بالضرورة ولا بالنظر. وما المانع من أن يقال: المبدأ الأول عالم قادر مريد يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يخلق المختلفات والمتجانسات كما يريد وعلى ما يريد؟ فاستحالة هذا لا يعرف بضرورة ولا نظر، وقد ورد به الأنبياء المؤيدون بالمعجزات فيجب قبوله. البحث عن الكيفية من الفضول وأما البحث عن كيفية صدور الفعل من الله بالإرادة ففضول وطمع في غير مطمع. والذين طمعوا في طلب المناسبة ومعرفته رجع حاصل نظرهم
إلى أن المعلول الأول من حيث أنه ممكن الوجود صدر منه فلك، ومن حيث أنه يعقل نفسه صدر منه نفس الفلك، وهذه حماقة لا إظهار مناسبة. فلتتقبل مبادئ هذه الأمور من الأنبياء! فلتتقبل مبادئ هذه الأمور من الأنبياء وليصدقوا فيها إذ العقل لا يحيلها، وليترك البحث عن الكيفية والكمية والماهية. فليس ذلك يتسع له القوى البشرية، ولذلك قال صاحب الشرع: تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله.
مسألة في بيان عجزهم عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم قولنا يقولون إن صانع العالم قديم فنقول: الناس فرقتان: فرقة أهل الحق وقد رأوا أن العالم حادث وعلموا ضرورة أن الحادث لا يوجد بنفسه فافتقر إلى صانع، فيعقل مذهبهم في القول بالصانع، وفرقة أخرى هم الدهرية وقد رأوا العالم قديماً كما هو عليه ولم يثبتوا له صانعاً، ومعتقدهم مفهوم وإن كان الدليل يدل على بطلانه. وأما الفلاسفة فقد رأوا أن العالم قديم ثم أثبتوا له مع ذلك صانعاً، وهذا المذهب بوضعه متناقض لا يحتاج فيه إلى إبطال. قولهم هو المبدأ الأول فإن قيل: نحن إذا قلنا: للعالم صانع، لم نرد به فاعلاً مختاراً يفعل بعد أن لم يفعل كما نشاهد في أصناف الفاعلين من الخياط والنساج والبناء، بل نعني به علة العالم ونسميه المبدأ الأول على معنى أنه لا علة لوجوده وهو علة لوجود غيره، فإن سميناه صانعاً فبهذا التأويل. لأنه من المحال أن تتسلسل العلل إلى غير نهاية. وثبوت موجود لا علة لوجوده يقوم عليه البرهان القطعي على قرب، فإنا نقول: العالم وموجوداته إما أن يكون له علة أو لا علة له. فإن كان له علة فتلك العلة لها علة أم لا علة لها؟ وكذى القول في علة العلة: فإما أن يتسلسل إلى غير نهاية وهو محال، وإما أن ينتهي إلى طرف فالأخير علة أولى لا علة لوجودها، فنسميه المبدأ الأول. وإن كان العالم موجوداً بنفسه لا علة له فقد ظهر المبدأ الأول، فإنا لم نعن به إلا موجوداً لا علة له، وهو ثابت بالضرورة. الخلاف في الصفات مسألة غير هذه نعم لا يجوز أن يكون المبدأ الأول هي السموات لأنها عدد، ودليل
التوحيد يمنعه فيعرف بطلانه بنظر في صفة المبدأ، ولا يجوز أن يقال إنه سماء واحد أو جسم واحد أو شمس أو غيره لأنه جسم والجسم مركب من الصورة والهيولى، والمبدأ الأول لا يجوز أن يكون مركباً، وذلك يعرف بنظر ثان. والمقصود أن موجوداً لا علة لوجوده ثابت بالضرورة والاتفاق. وإنما الخلاف في الصفات وهو الذي نعنيه بالمبدأ الأول. قولنا الأجسام تكون لا علة لها والجواب من وجهين: أحدهما أنه يلزم على مساق مذهبكم أن تكون أجسام العالم قديمة، كذلك لا علة لها. وقولكم: إن بطلان ذلك يعلم بنظر ثان فسيبطل ذلك عليكم في مسألة التوحيد وفي نفي الصفات بعد هذه المسألة. تلك العلل تكون إلى غير نهاية الثاني وهو الخاص بهذه المسألة هو أن يقال: ثبت تقديراً أن هذه الموجودات لها علة ولكن لعلتها علة ولعلة العلة علة، كذلك وهكذى إلى غير نهاية. وتقولون إنها حوادث هكذا وقولكم: إنه يستحيل إثبات علل لا نهاية لها، لا يستقيم منكم، فإنا نقول: عرفتم ذلك ضرورة بغير وسط أو عرفتموه بوسط، ولا سبيل إلى دعوى الضرورة. وكل مسلك ذكرتموه في النظر بطل عليكم بتجويز حوادث لا أول لها. وإذا جاز أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له فلم يبعد أن يكون بعضها علة للبعض، وينتهي من الطرف الأخير إلى معلول لا معلول له، ولا ينتهي من الجانب الآخر إلى علة لا علة لها، كما أن الزمان السابق له آخر وهو الآن الراهن ولا أول له. حتى الموجودة معاً، كالنفوس البشرية فإن زعمتم أن الحوادث الماضية ليست موجودة معاً في الحال ولا في بعض الأحوال والمعدوم لا يوصف بالتناهي وعدم التناهي، فيلزمكم النفوس البشرية المفارقة للأبدان فإنها لا تفنى عندكم، والموجود المفارق للبدن من النفوس لا نهاية لأعدادها، إذ لم تزل نطفة من إنسان وإنسان من
نطفة إلى غير نهاية. ثم كل إنسان مات فقد بقي نفسه وهو بالعدد غير نفس من مات قبله ومعه وبعده، وإن مكان الكل بالنوع واحداً فعندكم في الوجود في كل حال نفوس لا نهاية لأعدادها. قولهم لا ترتيب لها فإن قيل: النفوس ليس لبعضها ارتباط بالبعض ولا ترتيب لها لا بالطبع ولا بالوضع، وإنما نحيل نحن موجودات لا نهاية لها إذا كان لها ترتيب بالوضع كالأجسام فإنها مرتبة بعضها فوق البعض، أو كان لها ترتيب بالطبع كالعلل والمعلولات، وأما النفوس فليست كذلك. قولنا الترتيب بالزمان يكفي قلنا: وهذا الحكم في الوضع ليس طرده بأولى من عكسه، فلم أحلتم أحد القسمين دون الآخر؟ وما البرهان المفرق؟ وبم تنكرون على من يقول: إن هذه النفوس التي لا نهاية لها لا تخلوا عن ترتيب إذ وجود بعضها قبل البعض؟ فإن الأيام والليالي الماضية لا نهاية لها. وإذا قدرنا وجود نفس واحد في كل يوم وليلة كان الحاصل في الوجود الآن خارجاً عن النهاية واقعاً على ترتيب في الوجود أي بعضها بعد البعض. والعلة غايتها أن يقال: إنها قبل المعلول بالطبع كما يقال إنها فوق المعلول بالذات لا بالمكان. فإذا لم يستحل ذلك في القبل الحقيقي الزماني فينبغي أن لا يستحيل في القبل الذاتي الطبعي. وما بالهم لم يجوزوا أجساماً بعضها فوق البعض بالمكان إلى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل البعض بالزمان إلى غير نهاية؟ وهل هذا إلا تحكم بارد لا أصل له؟ قولهم إن العلل، إن كانت ممكنة، افتقرت إلى علة زائدة. فإن قيل: البرهان القاطع على استحالة علل إلى غير نهاية أن يقال: كل واحد من آحاد العلل ممكنة في نفسها أو واجبة. فإن كانت واجبة فلم تفتقر إلى علة، وإن كانت ممكنة فالكل موصوف بالإمكان، وكل ممكن فيفتقر إلى علة زائدة على ذاته، فيفتقر الكل إلى علة خارجة عنها. قولنا كل واحد ممكن، والكل ليس بممكن. قلنا: لفظ الممكن والواجب لفظ مبهم، إلا أن يراد بالواجب ما لا علة لوجوده ويراد بالممكن ما لوجوده علة. وإن كان المراد هذا فلنرجع إلى هذه اللفظة فنقول: كل واحد ممكن على معنى أن له علة
زائدة على ذاته، والكل ليس بممكن على معنى أنه ليس له علة زائدة على ذاته خارجة منه. وإن أريد بلفظ الممكن غير ما أردناه فهو ليس بمفهوم. قولهم فهذا يؤدي إلى أن يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود وهو محال فإن قيل: فهذا يؤدي إلى أن يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود وهو محال. قولنا كما يتقوم القديم بالأوائل قلنا: إن أردتم بالواجب والممكن ما ذكرناه فهو نفس المطلوب. فلا نسلم أنه محال وهو كقول القائل: يستحيل أن يتقوم القديم بالحوادث، والزمان عندهم قديم، وآحاد الدورات حادثة وهي ذوات أوائل، والمجموع لا أول له. فقد تقوم ما لا أول له بذوات أوائل وصدق ذوات الأوائل على الآحاد ولم يصدق على المجموع. فكذلك يقال على كل واحد: إن له علة، ولا يقال: للمجموع علة وليس كل ما صدق على الآحاد يلزم أن يصدق على المجموع، إذ يصدق على كل واحد أنه واحد وأنه بعض وأنه جزء ولا يصدق على المجموع. وكل موضوع عيناه من الأرض فإنه قد استضاء بالشمس في النهار وأظلم بالليل. وكل واحد حادث بعد أن لم يكن أي له أول. والمجموع عندهم ما له أول. فلا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول فتبين أن من يجوز حوادث لا أول لها، وهي صور العناصر الأربعة والمتغيرات، فلا يتمكن من إنكار علل لا نهاية لها. ويخرج من هذا أنه لا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول لهذا الإشكال، ويرجع فرقهم إلى التحكم المحض. قولهم إنما الكلام في الموجود في الأعيان فإن قيل: الدورات ليست موجودة في الحال ولا صور العناصر وإنما الموجود منها صورة واحدة بالفعل، وما لا وجود له لا يوصف بالتناهي وعدم التناهي إلا إذا قدر في الوهم وجودها، ولا يبعد ما يقدر في الوهم وإن
كانت المقدرات أيضاً بعضها عللاً لبعض فالإنسان قد يفرض ذلك في وهمه، وإنما الكلام في الموجود في الأعيان لا في الأذهان. نفوس الأموات لا يكون فيها عدد لا يبقي إلا نفوس الأموات. وقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أنها كانت واحدة أزلية قبل التعلق بالأبدان وعند مفارقة الأبدان تتحد فلا يكون فيه عدد، فضلاً من أن توصف بأنه لا نهاية لها. وقال آخرون: النفس تابع للمزاج وإنما معنى الموت عدمها ولا قوام لها بجوهرها دون الجسم. فإذن لا وجود في النفوس إلا في حق الأحياء، والأحياء الموجودون محصورون ولا تنتفي النهاية عنهم، والمعدمون لا يوصفون أصلاً لا بوجود النهاية ولا بعدمها، إلا في الوهم إذا فرضوا موجودين. قولنا هذا ما أوردناه على ابن سينا والفارابي الخ. والجواب: إن هذا الإشكال في النفوس أوردناه على ابن سينا والفارابي والمحققين منهم إذ حكموا بأن النفس جوهر قائم بنفسه وهو اختيار أرسطاليس والمعتبرين من الأوائل. ونقول لغيرهم عوض النفس قدروا أي حادث لا ينقضي. ومن عدل عن هذا المسلك فنقول له: هل يتصور أن يحدث شيء يبقى أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهو محال، وإن قالوا: نعم، قلنا: فإذا قدرنا كل يوم حدوث شيء وبقاءه اجتمع إلى الآن لا محالة موجودات لا نهاية لها. فالدورة وإن كانت منقضية فحصول موجود فيها يبقي ولا ينقضى غير مستحيل. وبهذا التقدير يتقرر الإشكال. ولا غرض في أن يكون ذلك الباقي نفس آدمي أو جني أو شيطان أو ملك أو ما شئت من الموجودات. وهو لازم على كل مذهب لهم، إذ أثبتوا دورات لانهاية لها.
مسألة في بيان عجزهم عن إقامة الدليل على أن الله واحد وأنه لا يجوز فرض اثنين واجبي الوجود كل واحد منهما لا علة له قولهم وجوب وجود الله إما لذاته وإما لعلة. المسلك الأول قولهم: إنهما لو كانا اثنين لكان نوع وجوب الوجود مقولاً على كل واحد منهما. وما قيل عليه أنه واجب الوجود فلا يخلوا إما أن يكون وجوب وجوده لذاته فلا يتصور أن يكون لغيره، أو وجوب الوجود له لعلة فيكون ذات واجب الوجود معلولاً، وقد اقتضت علة له وجوب الوجود. ونحن لا نريد بواجب الوجود إلا ما لا ارتباط لوجوده بعلة بجهة من الجهات. زيد هو معلول لأنه ليس وحده إنساناً وزعموا أن نوع الإنسان مقول على زيد وعلى عمرو. وليس زيد إنساناً لذاته إذ لو كان إنساناً لذاته لما كان عمرو إنساناً، بل لعلة جعله إنساناً. وقد جعل عمراً أيضاً إنساناً فتكثرت الإنسانية بتكثر المادة الحاملة لها. وتعلقها بالمادة معلول ليس لذات الإنسانية. فكذلك ثبوت وجوب الوجود لواجب الوجود إن كان لذاته فلا يكون إلا له، وإن كان لعلة فهو إذن معلول وليس بواجب الوجود، وقد ظهر بهذا أن واجب الوجود لا بد وأن يكون واحداً. قولنا هذا التقسيم لا يطبق على الذي لا علة له ... قلنا: قولكم: نوع وجوب الوجود لواجب الوجود لذاته أو لعلة تقسيم خطأ في وضعه، فإنا قد بينا أن لفظ وجوب الوجود فيه إجمال، إلا أن يراد به نفي العلة فلتستعمل هذه العبارة. فنقول: لم يستحيل ثبوت موجودين لا علة لهما وليس أحدهما علة للآخر؟ فقولكم: إن الذي لا علة له لا علة له لذاته أو لسبب تقسيم الخطأ، لأن نفي العلة واستغناء الوجود عن العلة لا يطلب
له علة. فأي معنى لقول القائل: إن ما لا علة له لا علة له لذاته أو لعلة؟ إذ قولنا: لا علة له، سلب محض، والسلب المحض لا يكون له سبب. ولا يقال فيه: إنه لذاته أو لا لذاته. وعلى واجب الوجود وإن عنيتم بوجوب الوجود وصفاً ثابتاً لواجب الوجود سوى أنه موجود لا علة لوجوده، فهو غير مفهوم في نفسه. والذي ينسبك من لفظه نفى العلة لوجوده، وهو سلب محض لا يقال فيه: إنه لذاته أو لعلة، حتى يبنى على وضع هذا التقسيم غرض، فدل أن هذا برهان من خرف لا أصل له. بل نقول: معنى أنه واجب الوجود أنه لا علة لوجوده ولا علة لكونه بلا علة، وليس كونه بلا علة معللاً أيضاً بذاته بل لا علة لوجوده ولا لكونه بلا علة أصلاً. ولا يطبق على الأسود فهل اللونية لذاتها أم لعلة؟ كيف وهذا التقسيم لا يتطرق إلى بعض صفات الإثبات فضلاً عما يرجع إلى السلب، إذ لو قال قائل: السواد لون لذاته أو لعلة: فإن كان لذاته فينبغي أن لا تكون الحمرة لوناً وأن لا يكون هذا النوع أعني اللونية إلا لذات السواد، وإن كان السواد لوناً لعلة جعلته لوناً فينبغي أن يعقل سواد ليس بلون أي لم تجعله العلة لوناً. فإن ما يثبت للذات زائداً على الذات بعلة يمكن تقدير عدمه في الوهم، وإن لم يتحقق في الوجود. ولكن يقال: هذا التقسيم خطأ في الوضع، فلا يقال للسواد: إنه لون لذاته، قولاً يمنع أن يكون ذلك لغير ذاته. وكذلك لا يقال: إن هذا الموجود واجب لذاته أو لا علة له لذاته، قولاً يمنع أن يكون ذلك لغير ذاته بحال. قولهم: لو فرضنا واجبي الوجود فإن كانا متماثلين من كل وجه يبطل تعددهما ... مسلكهم الثاني أن قالوا: لو فرضنا واجبي الوجود لكانا متماثلين من كل وجه أو مختلفين. فإن كانا متماثلين من كل وجه فلا يعقل التعدد والاثنينية إذ السوادان هما اثنان إذا كانا في محلين أو في محل واحد، ولكن
في وقتين إذ السواد والحركة في محل واحد في وقت واحد هما اثنان لاختلاف ذاتيهما. أما إذا لم يختلف الذاتان كالسوادين ثم اتحد الزمان والمكان، لم يعقل التعدد ولو جاز أن يقال: في وقت واحد في محل واحد: سوادان، لجاز أن يقال في حق كل شخص: إنه شخصان، ولكن ليس يبين بينهما مغايرة. وإن كانا مختلفين، يكونا متركبين ... وإذا استحال التماثل من كل وجه، ولا بد من الاختلاف، ولم يمكن بالزمان ولا بالمكان، فلا يبقى إلا الاختلاف في الذات. ومهما اختلفا في شيء فلا يخلوا إما أن اشتركا في شيء أو لم يشتركا في شيء. فإن لم يشتركا في شيء فهو محال إذ يلزم أن لا يشتركا في الوجود ولا في وجوب الوجود ولا في كون كل واحد قائماً بنفسه لا في موضوع. وإذا اشتركا في شيء واختلفا في شيء كان ما فيه الاشتراك غير ما فيه الاختلاف فيكون ثم تركيب وانقسام بالقول. ... ومن المحال أن يكون واجب الوجود مركباً وواجب الوجود لا تركيب فيه، وكما لا ينقسم بالكمية فلا ينقسم أيضاً بالقول الشارح إذ لا يتركب ذاته من أمور يدل القول الشارح على تعدده كدلالة الحيوان والناطق على ما تقوم به ماهية الإنسان فإنه حيوان وناطق. ومدلول لفظ الحيوان من الإنسان غير مدلول لفظ الناطق، فيكون الإنسان متركباً من أجزاء تنتظم في الحد بألفاظ تدل على تلك الأجزاء ويكون اسم الإنسان لمجموعه. وهذا لا يتصور، ودون هذا لا تتصور التثنية. قولنا هذا النوع من التركيب ليس من المحال في المبدأ الأول والجواب أنه مسلم أنه لا تتصور التثنية إلا بالمغايرة في شيء ما وأن المتماثلين من كل وجه لا يتصور تغايرهما. ولكن قولكم: إن هذا النوع من التركيب محال في المبدأ الأول، تحكم محض. فما البرهان عليه؟ في وحدانية الله ولنرسم هذه المسألة على حيالها فإن من كلامهم المشهور أن المبدأ الأول لا ينقسم بالقول الشارح كما لا ينقسم بالكمية، وعليه ينبنى إثبات وحدانية الله عندهم. قولهم الوحدة في الله تنفي الكثرة بل زعموا أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الوحدة لذات الباري
من كل وجه وإثبات الوحدة بنفي الكثرة من كل وجه، والكثرة تتطرق إلى الذوات من خمسة أوجه: كثرة الأجزاء ... الأول بقبول الانقسام فعلاً أو وهماً. فلذلك لم يكن الجسم الواحد واحداً مطلقاً، فإنه واحد بالاتصال القائم القابل للزوال فهو منقسم في الوهم بالكمية. وهذا محال في المبدأ الأول. ... والهيولى والصورة الثاني أن ينقسم الشيء في العقل إلى معنيين مختلفين. لا بطريق الكمية كانقسام الجسم إلى الهيولى والصورة فإن كل واحد من الهيولى والصورة، وإن كان لا يتصور أن يقوم بنفسه دون الآخر، فهما شيئان مختلفان بالحد والحقيقة، يحصل بمجموعهما شيء واحد هو الجسم. وهذا أيضاً منفي عن الله فلا يجوز أن يكون الباري صورة في جسم ولا مادة في هيولى لجسم ولا مجموعهما. أما مجموعهما فلعلتين إحديهما أنه منقسم بالكمية عند التجزئة فعلاً أو وهماً، والثانية أنه منقسم بالمعنى إلى الصورة والهيولى، ولا يكون مادة لأنها تحتاج إلى الصورة، وواجب الوجود مستغن من كل وجه فلا يجوز أن يرتبط وجوده بشرط آخر سواه، ولا يكون صورة لأنها تحتاج إلى مادة. ... وتنفي أيضاً الكثرة بالصفات ... الثالث الكثرة بالصفات بتقدير العلم والقدرة والإرادة. فإن هذه الصفات إن كانت واجبة الوجود كان وجوب الوجود مشتركاً بين الذات ويبن هذه الصفات ولزمت كثرة في واجب الوجود وانتفت الوحدة. ... وبالجنس والنوع ... الرابع كثرة عقلية تحصل بتركيب الجنس والنوع. فإن السواد سواد ولون والسوادية غير اللونية في حق العقل، بل اللونية جنس والسوادية فصل فهو مركب من جنس وفصل، والحيوانية غير الإنسانية في العقل فإن الإنسان حيوان وناطق والحيوان جنس والناطق فصل وهو مركب من الجنس والفصل، وهذا نوع كثرة. فزعموا أن هذا أيضاً منفي عن المبدأ الأول.
.. وبالماهية والوجود والخامس كثرة تلزم من جهة تقدير ماهية وتقدير وجود لتلك الماهية. فإن للإنسان ماهية قبل الوجود، والوجود يرد عليها ويضاف إليها. وكذى المثلث مثلاً له ماهية وهو أنه شكل يحيط به ثلاثة أضلاع، وليس الوجود جزءاً من ذات هذه الماهية مقوماً لها، ولذلك يجوز أن يدرك العاقل ماهية الإنسان وماهية المثلث، وليس يدري أن لهما وجوداً في الأعيان أم لا. ولو كان الوجود مقوماً لماهيته لما تصور ثبوت ماهيته في العقل قبل وجوده. فالوجود مضاف إلى الماهية سواء كان لازماً بحيث لا تكون تلك الماهية إلا موجودة كالسماء، أو عارضاً بعد ما لم يكن كماهية الإنسانية من زيد وعمرو وماهية الأعراض الصور الحادثة. فزعموا أن هذه الكثرة أيضاً يجب أن تنفى عن الأول. الواجب الوجود كالماهية فيقال: ليس له ماهية الوجود مضاف إليها، بل الوجود الواجب له كالماهية لغيره. فالوجود الواجب ماهية وحقيقة كلية وطبيعة حقيقية كما أن الإنسانية والشجرية والسمائية ماهية، إذ لو ثبت ماهية لكان الوجود الواجب لازماً لتلك الماهية غير مقوم لها، واللازم تابع ومعلول فيكون الوجود الواجب معلولاً وهو مناقض لكونه واجباً. ومع هذا يقولون إن الله مبدأ وأول موجود ... ومع هذا فإنهم يقولون للباري: إنه مبدأ وأول وموجود وجوهر وواحد وقديم وباق وعالم وعقل وعاقل ومعقول وفاعل وخالق ومريد وقادر وحي وعاشق ومعشوق لذيذ وملتذ وجواد وخير محض. وزعموا أن كل ذلك عبارة عن معنى واحد لا كثرة فيه، وهذا من العجائب. فينبغي أن نحقق مذهبهم للتفهيم أولاً ثم نشتغل بالاعتراض، فإن الاعتراض على المذاهب قبل تمام التفهيم رمي في عماية. ... ويردون هذه الأمور إلى السلب والإضافة والعمدة في فهم مذهبهم أنهم يقولون: ذات المبدأ واحد وإنما تكثر الأسامي بإضافة شيء إليه أو إضافته إلى شيء أو سلب شيء عنه، والسلب لا يوجب كثرة في ذات المسلوب عنه، ولا الإضافة توجب كثرة،
فلا ينكرون إذاً كثرة السلوب وكثرة الإضافات، ولكن الشأن في رد هذه الأمور كلها إلى السلب والإضافة. الأول والمبدأ والموجود والجوهر ... فقالوا: إذا قيل له: أول، فهو إضافة إلى الموجودات بعده. وإذا قيل: مبدأ، فهو إشارة إلى أن وجود غيره منه وهو سبب له، فهو إضافة إلى معلولاته. وإذا قيل: موجود، فمعناه معلوم. وإذا قيل: جوهر، فمعناه الوجود مسلوباً عنه الحلول في موضوع، وهذا سلب. وإذا قيل: ... والقديم والباقي ... قديم، فمعناه سلب العدم عنه أولاً. وإذا قيل: باق، فمعناه سلب العدم عنه آخراً، ويرجع حاصل القديم والباقي إلى وجود ليس مسبوقاً بعدم ولا ملحوقاً بعدم. ... وواجب الوجود وإذا قيل: واجب الوجود، فمعناه أنه موجود لا علة له وهو علة لغيره، فيكون جمعاً بين السلب والإضافة إذ نفي علة له سلب وجعله علة لغيره إضافة. ... والعقل ... وإذا قيل: عقل، فمعناه أنه موجود بريء عن المادة، وكل موجود هذا صفته فهو عقل أي يعقل ذاته ويشعر به ويعقل غيره، وذات الله هذا صفته أي هو بريء عن المادة، فإذن هو عقل وهما عبارتان عن معبر واحد. ... والعاقل والمعقول ... وإذا قيل: عاقل، فمعناه أن ذاته الذي هو عقل، فله معقول هو ذاته فإنه يشعر بنفسه ويعقل نفسه، فذاته معقول وذاته عاقل وذاته عقل والكل واحد، إذ هو معقول من حيث أنه ماهية مجردة عن المادة غير مستورة عن ذاته الذي هو عقل، بمعنى أنه ماهية مجردة عن المادة لا يكون شيء مستوراً عنه. ولما عقل نفسه كان عاقلاً، ولما كان نفسه معقولاً لنفسه كان معقولاً، ولما كان عقله بذاته لا بزائد على ذاته كان عقلاً، ولا يبعد أن يتحد العاقل والمعقول فإن العاقل إذا عقل كونه عاقلاً عقله بكونه عاقلاً، فيكون العاقل والمعقول واحداً بوجه ما، وإن كان ذلك يفارق عقل الأول فإن ما للأول بالفعل أبداً وما لنا يكون
بالقوة تارة وبالفعل أخرى. والخالق والفاعل والبارئ الذي عنه يفيض كل شيء لزوماً بعلم منه لا غفلة وإذا قيل: خالق وفاعل وبارئ وسائر صفات الفعل، فمعناه أن وجوده وجود شريف يفيض عنه وجود الكل فيضاناً لازماً، وإن وجود غيره حاصل منه وتابع لوجوده كما يتبع النور الشمس والإسخان النار. ولا تشبه نسبة العالم إليه نسبة النور إلى الشمس إلا في كونه معلولاً فقط، وإلا فليس هو كذلك فإن الشمس لا تشعر بفيضان النور عنها ولا النار بفيضان الإسخان فهو طبع محض، بل الأول عالم بذاته وأن ذاته مبدأ لوجود غيره، ففيضان ما يفيض عنه معلوم له فليس به غفلة عما يصدر منه. ولا هو أيضاً كالواحد منا إذا وقف بين مريض وبين الشمس فاندفع حر الشمس عن المريض بسببه لا باختياره ولكنه عالم به وهو غير كاره أيضاً له، فإن المظل الفاعل للظل شخصه وجسمه والعالم الراضي بوقوع الظل نفسه لا جسمه، وفي حق الأول ليس كذلك فإن الفاعل منه هو العالم وهو الراضي أي أنه غير كاره وأنه عالم بأن كماله في أن يفيض منه غيره. فيكون علمه علة فيضان كل شيء بل لو أمكن أن يفرض كون الجسم المظل بعينه هو العالم بعينه بوقوع الظل وهو الراضي، لم يكن أيضاً مساوياً للأول فإن الأول هو العالم وهو الفاعل وعلمه هو مبدأ فعله، فإن علمه بنفسه في كونه مبدأ للكل علة فيضان الكل، فإن النظام الموجود تبع للنظام المعقول بمعنى أنه واقع به، فكونه فاعلاً غير زائد على كونه عالماً بالكل إذ علمه بالكل علة فيضان الكل عنه، وكونه عالماً بالكل لا يزيد على علمه بذاته فإنه لا يعلم ذاته ما لم يعلم أنه مبدأ للكل، فيكون المعلوم بالقصد الأول ذاته ويكون الكل معلوماً عنده بالقصد الثاني، فهذا معنى كونه فاعلاً. ... والقادر ... وإذا قيل: قادر، لم نعن به إلا كونه فاعلاً على الوجه الذي قررناه وهو أن وجوده وجود يفيض عنه المقدورات التي بفيضانها ينتظم الترتيب في الكل على أبلغ وجوه الإمكان في الكمال والحسن. ... والمريد والعالم ... وإذا قيل: مريد، لم نعن به إلا أن ما يفيض عنه
ليس هو غافلاً عنه وليس كارهاً له، بل هو عالم بأن كماله في فيضان الكل عنه. فيجوز بهذا المعنى أن يقال: هو راض، وجاز أن يقال للراضي: إنه مريد. فلا تكون الإرادة إلا عين القدرة ولا القدرة إلا عين العلم ولا العلم إلا عين الذات، فالكل إذن يرجع إلى عين الذات. ... علم العلة، لا علم المعلول ... وهذا لأن علمه بالأشياء ليس مأخوذاً من الأشياء، وإلا لكان مستفيداً وصفاً أو كمالاً من غيره وهو محال في واجب الوجود. ولكن علمنا على قسمين: علم شيء حصل من صورة ذلك الشيء كعلمنا بصورة السماء والأرض، وعلم اخترعناه كشيء لم نشاهد صورته ولكن صورناه في أنفسنا ثم أحدثناه. فيكون وجود الصورة مستفاداً من العلم، لا العلم من الوجود، وعلم الأول بحسب القسم الثاني، فإن تمثل النظام في ذاته سبب لفيضان النظام عن ذاته. ... وليس هذا شأننا فإننا نحتاج مع العلم إلى القدرة نعم لو كان مجرد حضور صورة نقش أو كتابة خط في نفوسنا كافياً في حدوث تلك الصورة، لكان العلم بعينه منا هو القدرة بعينها والإرادة بعينها. ولكنا لقصورنا فليس يكفي تصورنا لإيجاد الصورة، بل نحتاج مع ذلك إلى إرادة متجددة تنبعث من قوة شوقية ليتحرك منهما معاً القوة المحركة للعضل والأعصاب الآلية. فيتحرك بحركة العضل والأعصاب اليد أو غيره، ويتحرك بحركته القلم أو آلة أخرى خارجة، وتتحرك المادة بحركة القلم كالمادة أو غيره ثم تحصل الصورة المتصورة في نفوسنا. فلذلك لم يكن نفس وجود هذه الصورة في نفوسنا قدرة ولا إرادة بل كانت القدرة فينا عند المبدأ المحرك للعضل، وهذه الصورة محركة لذلك المحرك الذي هو مبدأ القدرة، وليس كذلك في واجب الوجود فإنه ليس مركباً من أجسام تنبث القوى في أطرافه، فكانت القدرة والإرادة والعلم والذات منه واحداً. ... والحي ... وإذا قيل له: حي، لم يرد به إلا أنه عالم عليماً يفيض عنه الموجود الذي يسمى فعلاً له، فإن الحي هو الفعال الدراك، فيكون المراد به ذاته مع إضافة إلى الأفعال على الوجه الذي ذكرناه، لا كحياتنا فإنها لا تتم إلا بقوتين مختلفتين ينبعث عنهما الإدراك والفعل،
فحياته عين ذاته أيضاً. ... والجواد، الذي لا يكتسب بجوده شيئاً وإذا قيل له: جواد، أريد به أن يفيض عنه الكل لا لغرض يرجع إليه. والجود يتم بشيئين: أحدهما أن يكون للمنعم فائدة فيما وهب منه، فلعل من يهب شيئاً ممن هو مستغن عنه لا يوصف بالجود. والثاني أن لا يحتاج الجواد إلى الجود فيكون إقدامه على الجود لحاجة نفسه. وكل من يجود ليمدح أو يثنى عليه أو يتخلص من مذمة فهو مستعيض وليس بجواد، وإنما الجود الحقيقي لله فإنه ليس يبغي به خلاصاً عن ذم ولا كمالاً مستفاداً بمدح. فيكون الجواد اسماً منبئاً عن وجوده مع إضافة إلى الفعل وسلب للغرض، فلا يؤدي إلى الكثرة في ذاته. ... والخير المحض ... وإذا قيل: خير محض، فإما أن يراد به وجوده بريئاً عن النقص وإمكان العدم، فإن الشر لا ذات له بل يرجع إلى عدم جوهر أو عدم صلاح حال الجوهر، وإلا فالوجود من حيث أنه وجود خير فيرجع هذا الاسم إلى السلب لإمكان النقص والشر. وقد يقال: خير، لما هو سبب لنظام الأشياء، والأول مبدأ لنظام كل شيء، فهو خير، ويكون الاسم دالاً على الوجود مع نوع إضافة. ... وواجب الوجود وإذا قيل: واجب الوجود، فمعناه هذا الوجود مع سلب علة لوجوده وإحالة علة لعدمه أولاً وآخراً. ... والعاشق والمعشوق واللذيذ والملتذ وإذا قيل: عاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ، فمعناه هو أن كل جمال وبهاء وكمال فهو محبوب ومعشوق لذي الكمال ولا معنى للذة إلا إدراك الكمال الملائم. ومن عرف كمال نفسه في إحاطته بالمعلومات لو أحاط بها، وفي جمال صورته وفي كمال قدرته وقوة أعضائه وبالجملة إدراكه لحضور كل كمال هو ممكن له، لو أمكن أن يتصور ذلك في إنسان واحد، لكان محباً لكماله وملتذاً به، وإنما تنتقص لذته بتقدير العدم والنقصان فإن السرور لا يتم بما يزول أو يخشى زواله، والأول له البهاء الأكمل والجمال الأتم إذ كل كمال هو ممكن له فهو حاضر له. وهو مدرك لذلك الكمال مع الأمن من إمكان النقصان والزوال. والكمال
الحاصل له فوق كل كمال فإحبابه وعشقه لذلك الكمال فوق كل إحباب والتذاذه به فوق كل التذاذ، بل لا نسبة لذاتنا إليها البتة، بل هي أجل من أن يعبر عنها باللذة والسرور والطيبة. عدم وجود العبارات الخاصة إلا أن تلك المعاني ليس لها عبارات عندنا، فلا بد من الإبعاد في الاستعارة كما نستعير له لفظ المريد والمختار والفاعل منا مع القطع ببعد إرادته عن إرادتنا وبعد قدرته وعلمه عن قدرتنا وعلمنا، ولا بعد في أن يستبشع عبارة اللذة فيستعمل غيره. الله مغبوط وهو الخير المحض والمقصود أن حالته أشرف من أحوال الملائكة وأحرى بأن يكون مغبوطاً، وحالة الملائكة أشرف من أحوالنا، ولو لم تكن لذة إلا في شهوة البطن والفرج لكان حال الحمار والخنزير أشرف من حال الملائكة وليس لها لذة، أي للمبادئ من الملائكة المجردة عن المادة، إلا السرور بالشعور بما خص بها من الكمال والجمال الذي لا يخشى زواله. ولكن الذي للأول فوق الذي للملائكة، فإن وجود الملائكة التي هي العقول المجردة وجود ممكن في ذاته واجب الوجود بغيره، وإمكان العدم نوع شر ونقص، فليس شيء بريئاً عن كل شر مطلقاً سوى الأول فهو الخير المحض وله البهاء والجمال الأكمل. ثم هو معشوق عشقه غيره أو لم يعشقه كما أنه عاقل ومعقول عقله غيره أو لم يعقله. وكل هذه المعاني راجعة إلى ذاته وإلى إدراكه لذاته وعقله له، وعقله لذاته هو عين ذاته فإنه عقل مجرد، فيرجع الكل إلى معنى واحد. قولنا سنبين بذلك ما لا يصح على أصلهم وما هو فاسد فهذا طريق تفهيم مذهبهم،
وهذه الأمور منقسمة إلى ما يجوز اعتقاده فنبين أنه لا يصح على أصلهم، وإلى ما لا يصح اعتقاده فنبين فساده.
ولنعد إلى المراتب الخمسة في أقسام الكثرة ودعواهم نفيها، ولنبين عجزهم عن إقامة الدليل، ولنرسم كل واحد مسألة على حيالها.
مسألة الفلاسفة أجمعوا على نفي الصفات اتفقت الفلاسفة على استحالة إثبات العلم والقدرة والإرادة للمبدأ الأول، كما اتفقت المعتزلة عليه وزعموا أن هذه الأسامي وردت شرعاً، ويجوز إطلاقها لغة ولكن ترجع إلى ذات واحدة كما سبق، ولا يجوز إثبات صفات زائدة على ذاته، كما يجوز في حقنا أن يكون علمنا وقدرتنا وصفاً لنا زائداً على ذاتنا. ... لأنها توجب الكثرة في الله وزعموا أن ذلك يوجب كثرة، لأن هذه الصفات لو طرت علينا لكنا نعلم أنها زائدة على الذات إذ تجددت، ولو قدر مقارناً لوجودنا من غير تأخر لما خرج عن كونه زائدا على الذات بالمقارنة. فكل شيئين إذا طرى أحدهما على الآخر وعلم أن هذا ليس ذاك وذاك ليس هذا، فلو اقترنا أيضاً عقل كونهما شيئين، فإذن لا تخرج هذه الصفات بأن تكون مقارنة لذات الأول عن أن تكون أشياء سوى الذات، فيوجب ذلك كثرة في واجب الوجود وهو محال. فلهذا أجمعوا على نفي الصفات. قولنا ما المانع أن تكون الصفات مقارنة للذات؟ فيقال لهم: وبم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه، وأنتم مخالفون من كافة المسلمين سوى المعتزلة، فما البرهان عليه؟ فإن قول القائل: الكثرة محال في واجب الوجود مع كون الذات الموصوفة واحدة، يرجع إلى أنه يستحيل كثرة الصفات، وفيه النزاع. وليس استحالته معلومة بالضرورة، فلا بد من البرهان. قولهم إما أن يستغني كل واحد من الصفة والموصو عن الآخ أو يفتقر كل واحد إلى الآخر أو يستغني واحد عن الآخ ويحتاج الآخر: وكل ذلك محال ولهم مسلكان: الأول قولهم: البرهان عليه أن كل واحد من الصفة والموصوف، إذا لم يكن هذا ذاك ولا ذاك هذا، فإما أن يستغني كل واحد عن الآخر في وجوده، أو يفتقر كل واحد إلى الآخر، أو يستغني واحد عن الآخر
ويحتاج الآخر. فإن فرض كل واحد مستغنياً فهما واجبا وجود وهو التثنية المطلقة وهو محال. وإما أن يحتاج كل واحد منهما إلى الآخر فلا يكون واحد منهما واجب الوجود، إذ معنى واجب الوجود ما قوامه بذاته وهو مستغن من كل وجه عن غيره، فما احتاج إلى غيره فذك الغير علته، إذ لو رفع ذلك الغير لامتنع وجوده فلا يكون وجوده من ذاته بل من غيره. وإن قيل: أحدهما يحتاج دون الآخر، فالذي يحتاج معلول والواجب الوجود هو الآخر، ومهما كان معلولاً افتقر إلى سبب، فيؤدي إلى أن ترتبط ذات واجب الوجود بسبب. قولنا المختار من هذه الأقسام هو القسم الأخير هذا وإنكم لا تنفون القسم الأول والاعتراض على هذا أن يقال: المختار من هذه الأقسام هو القسم الأخير. ولكن إبطالكم القسم الأول وهو التثنية المطلقة قد بينا أنه لا برهان لكم عليها في المسألة التي قبل هذه وأنها لا تتم إلا بالبناء على نفي الكثرة في هذه المسألة وما بعدها. فما هو فرع هذه المسألة؟ كيف تنبنى هذه المسألة عليه؟ ولكن المختار أن يقال: الذات في قوامه غير محتاج إلى الصفات، والصفة محتاجة إلى الموصوف كما في حقنا. قولهم المحتاج إلى غيره لا يكون واجب الوجود فيبقى قولهم: إن المحتاج إلى غيره لا يكون واجب الوجود. قولنا الصفة قديمة لا فاعل لها فيقال: إن أردت بواجب الوجود أنه ليس له علة فاعلية، فلم قلت ذلك؟ ولم استحال أن يقال: كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفته قديمة معه ولا فاعل لها؟ وإن أردت بواجب الوجود
أن لا يكون له علة قابلية، فهو ليس بواجب الوجود على هذا التأويل ولكنه مع هذا قديم لا فاعل له. فما المحيل لذلك؟ قولهم هي معلولة فإن قيل: واجب الوجود المطلق هو الذي ليس له علة فاعلية ولا قابلية. فإذا سلم أن له علة قابلية فقد سلم كونه معلولاً. قولنا قطع تسلل العلل ممكن بواحد له صفات قلنا: تسمية الذات القابلة علة قابلية من اصطلاحكم، والدليل لم يدل على ثبوت واجب وجود بحكم اصطلاحكم وإنما دل على إثبات طرف ينقطع به تسلسل العلل والمعلولات ولم يدل إلا على هذا القدر، وقطع التسلسل ممكن بواحد له صفات قديمة لا فاعل لها كما لا فاعل لذاته ولكنها تكون متقررة في ذاته. فليطرح لفظ واجب الوجود فإنه ممكن التلبس فيه، فإن البرهان لم يدل إلا على قطع التسلسل ولم يدل على غيره البتة. فدعوى غيره تحكم. قولهم لا في العلل القابلية فإن قيل: كما يجب قطع التسلسل في العلة الفاعلية يجب قطعها في القابلية، إذ لو افتقر كل موجود إلى محل يقوم فيه وافتقر المحل أيضاً للزم التسلسل كما لو افتقر كل موجود إلى علة وافتقرت العلة أيضاً إلى علة. قولنا يكفي أن ينقطع التسلسل بالذات قلنا: صدقتم، فلا جرم قطعنا هذا التسلسل أيضاً وقلنا: إن الصفة في ذاته وليس ذاته قائماً بغيره، كما أن علمنا في ذاتنا وذاتنا محل له وليس ذاتنا في محل. فالصفة انقطع تسلسل علتها الفاعلية مع الذات إذ لا فاعل لها كما لا فاعل للذات، بل لم تزل الذات بهذه الصفة موجودة بلا علة له ولا لصفته. وأما العلة القابلية لم ينقطع تسلسلها إلا على الذات. ومن أين يلزم أن ينتفي المحل حتى تنتفي العلة؟ والبرهان ليس يضطر إلا إلى قطع التسلسل. فكل طريق أمكن قطع التسلسل به فهو وفاء بقضية البرهان الداعي إلى واجب الوجود.
واجب الوجود ما ليس له علة فاعلية وإن أريد بواجب الوجود شيء سوى موجود ليس له علة فاعلية حتى ينقطع به التسلسل، فلا نسلم أن ذلك واجب أصلاً. ومهما اتسع العقل لقبول موجود قديم لا علة لوجوده، اتسع لقبول قديم موصوف لا علة لوجوده في ذاته وفي صفاته جميعاً. قولهم تكون الذات علة العلم المسلك الثاني قولهم: إن العلم والقدرة فينا ليس داخلاً في ماهية ذاتنا بل هو عارض. وإذا أثبت هذه الصفات للأول لم يكن أيضاً داخلاً في ماهية ذاته بل كان عارضاً بالإضافة إليه وإن كان دائماً له. ورب عارض لا يفارق أو يكون لازماً لماهية ولا يصير بذلك مقوماً لذاته. وإذا كان عارضاً كان تابعاً للذات وكان الذات سبباً فيه فكان معلولاً، فكيف يكون واجب الوجود؟ قولنا لا تكون علة، بل محلاً وهذا هو الأول مع تغيير عبارة. فنقول: إن عنيتم بكونه تابعاً للذات وكون الذات سبباً له أن الذات علة فاعلية له وأنه مفعول للذات فليس كذلك، فإن ذلك ليس يلزم في علمنا بالإضافة إلى ذاتنا إذ ذواتنا ليست بعلة فاعلة لعلمنا. وإن عنيتم أن الذات محل وأن الصفة لا تقوم بنفسها في غير محل، فهذا مسلم فلم يمتنع هذا. فبأن يعبر عنه بالتابع أو العارض أو المعلول أو ما أراده المعبر لم يتغير المعنى إذا لم يكن المعنى سوى أنه قائم بالذات قيام الصفات بالموصوفات، ولم يستحيل أن يكون قائماً في ذات وهو مع ذلك قديم ولا فاعل له. فإن أريد هذا المعنى، فليعبر عنه بغير عبارة فكل أدلتهم تهويل بتقبيح العبارة بتسميته ممكناً وجائزاً وتابعاً ولازماً ومعلولاً، وإن ذلك مستنكر. فيقال: إن أريد بذلك أن له فاعلاً فليس كذلك. وإن لم يرد به إلا أنه لا فاعل له ولكن له محل هو قائم فيه فليعبر عن هذا المعنى بأي عبارة أريد فلا استحالة فيه. قولهم هذا يؤدي إلى أن يكون الأول محتاجاً إلى الصفات وربما هولوا بتقبيح العبارة من وجه آخر فقالوا: هذا يؤدي إلى أن يكون
الأول محتاجاً إلى هذه الصفات فلا يكون غنياً مطلقاً إذ الغني المطلق من لا يحتاج إلى غير ذاته. قولنا بها يتم له الكمال! وهذا كلام وعظي في غاية الركاكة، فإن صفات الكمال لا تباين ذات الكامل حتى يقال: إنه محتاج إلى غيره. فإذا لم يزل ولا يزال كاملاً بالعلم والقدرة والحياة فكيف يكون محتاجاً؟ أو كيف يجوز أن يعبر عن ملازمة الكمال بالحاجة وهو كقول القائل: الكامل من لا يحتاج إلى كمال؟ فالمحتاج إلى وجود صفات الكمال لذاته ناقص فيقال: لا معنى لكونه كاملاً إلا وجود الكمال لذاته. فكذلك لا معنى لكونه غنياً إلا وجود الصفات المنافية للحاجات لذاته. فكيف تنكر صفات الكمال التي بها تتم الإلهية بمثل هذه التخييلات اللفظية؟ قولهم فيحتاج إلى مركب فليس هو جسماً فإن قيل: إذا أثبتم ذاتاً وصفة وحلولاً للصفة بالذات فهو تركيب، وكل تركيب يحتاج إلى مركب، ولذلك لم يجز أن يكون الأول جسماً لأنه مركب. قولنا كله قديم الجسم حادث قلنا: قول القائل: كل تركيب يحتاج إلى مركب، كقوله: كل موجود يحتاج إلى موجد، فيقال له: الأول موجود قديم لا علة له ولا موجد. فكذلك يقال: هو موصوف قديم ولا علة لذاته ولا لصفته ولا لقيام صفته بذاته بل الكل قديم بلا علة. وأما الجسم فإنما لم يجز أن يكون هو الأول لأنه حادث من حيث أنه لا يخلوا عن الحوادث، ومن لم يثبت له حدوث الجسم يلزمه أن يجوز أن تكون العلة الأولى جسماً كما سنلزمه عليكم من بعد. فالأدلة باطلة وكل مسالكهم في هذه المسألة تخييلات. لا يقدرون رد الجميع إلى نفس الذات ثم إنهم لا يقدرون على رد جميع ما يثبتونه إلى نفس الذات. فإنهم أثبتوا كونه عالماً ويلزمهم أن يكون ذلك زائداً على مجرد الوجود فيقال لهم: أتسلمون أن الأول يعلم غير ذاته؟ ومنهم من يسلم ذلك ومنهم من قال: لا يعلم إلا ذاته.
علمه بالكليات ... فأما الأول فهو الذي اختاره ابن سينا. فإنه زعم أنه يعلم الأشياء كلها بنوع كلي لا يدخل تحت الزمان، ولا يعلم الجزئيات التي يوجب تجدد الإحاطة بها تغيراً في ذات العالم. فنقول: علم الأول بوجود كل الأنواع والأجناس التي لا نهاية لها عين علمه بنفسه أو غيره. فإن قلتم: إنه غيره، فقد أثبتم كثرة ونقضتم القاعدة. وإن قلتم: إنه عينه، لم تتميزوا عن من يدعي أن علم الإنسان بغيره عين علمه بنفسه وعين ذاته، ومن قال ذلك سفه في عقله. ... غير علمه بذاته وقيل: حد الشيء الواحد أن يستحيل في الوهم الجمع فيه بين النفي والإثبات. فالعلم بالشيء الواحد لما كان شيئاً واحداً استحال أن يتوهم في حالة واحدة موجوداً ومعدوماً، ولما لم يستحل في الوهم أن يقدر علم الإنسان بنفسه دون علمه بغيره قيل: إن علمه بغيره غير علمه بنفسه، إذ لو كان هو هو لكان نفيه نفياً له وإثباته إثباتاً له، إذ يستحيل أن يكون زيد موجوداً وزيد معدوماً، أعني هو بعينه في حالة واحدة، ولا يستحيل مثل ذلك في العلم بالغير مع العلم بنفسه. وكذى في علم الأول بذاته مع علمه بغيره إذ يمكن أن يتوهم وجود أحدهما دون الآخر، فهما إذن شيئان. ولا يمكن أن يتوهم وجود ذاته دون وجود ذاته. فلو كان الكل كذلك لكان هذا التوهم محالاً. فكل من اعترف من الفلاسفة بأن الأول يعرف غير ذاته فقد أثبت كثرة لا محالة. قولهم كونه يعلم ذاته مبدأ للكل يؤدي إلى أن يعلم الأشياء بالقصد الثاني فإن قيل: هو لا يعلم الغير بالقصد الأول بل يعلم ذاته مبدأ للكل، فيلزمه العلم بالكل بالقصد الثاني إذ لا يمكن أن يعلم ذاته إلا مبدأ فإنه حقيقة ذاته، ولا يمكن أن يعلم ذاته مبدأ لغيره إلا ويدخل الغير في علمه بطريق التضمن واللزوم، ولا يبعد أن يكون لذاته لوازم. وذلك لا يوجب كثرة في ماهية الذات وإنما يمتنع أن يكون في نفس الذات كثرة.
قولنا علمه بوجود ذاته غير علمه بكونه مبدأ للكل والجواب من وجوه: الأول أن قولكم: إنه يعلم ذاته مبدأ، تحكم، بل ينبغي أن يعلم وجود ذاته فقط. فأما العلم بكونه مبدأ يزيد على العلم بالوجود لأن المبدئية إضافة للذات ويجوز أن يعلم الذات ولا يعلم إضافته، ولو لم تكن المبدئية إضافة لتكثر ذاته وكان له وجود ومبدئية وهما شيئان. وكما يجوز أن يعرف الإنسان ذاته ولا يعلم كونه معلولاً إلى أن يعلم، لأن كونه معلولاً إضافة له إلى علته، فكذلك كونه علة إضافة له إلى معلوله. فالإلزام قائم في مجرد قولهم: إنه يعلم كونه مبدأ إذ فيه علم بالذات وبالمبدئية، وهو الإضافة والإضافة غير الذات، فالعلم بالإضافة غير العلم بالذات بالدليل الذي ذكرناه وهو أنه يمكن أن يتوهم العلم بالذات دون العلم بالمبدئية ولا يمكن أن يتوهم العلم بالذات دون العلم بالذات لأن الذات واحدة. هناك معلومان، فهناك علمان الوجه الثاني هو أن قولهم: إن الكل معلوم له بالقصد الثاني، كلام غير معقول فإنه مهما كان علمه محيطاً بغيره كما يحيط بذاته كان له معلومان متغايران وكان له علم بهما، وتعدد المعلوم وتغايره يوجب تعدد العلم إذ يقبل أحد المعلومين الفصل عن الآخر في الوهم، فلا يكون العلم بأحدهما عين العلم بالآخر إذ لو كان لتعذر تقدير وجود أحدهما دون الآخر، وليس ثم آخر مهما كان الكل واحداً. فهذا لا يختلف بأن يعبر عنه بالقصد الثاني. الكليات لا تتناهى! ثم ليت شعري كيف يقدم على نفي الكثرة من يقول: إنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض إلا أنه يعرف الكل بنوع كلي، والكليات المعلومة له لا تتناهى، فيكون العلم المتعلق بها مع كثرتها وتغايرها واحداً من كل وجه. فابن سينا لا يحترز من لزوم "الكثرة" وقد خالف ابن سينا في هذا غيره من الفلاسفة الذين ذهبوا إلى أنه لا يعلم إلا نفسه احترازاً من لزوم الكثرة. فكيف شاركهم في نفي الكثرة
ثم باينهم في إثبات العلم بالغير؟ ولما استحيا أن يقال: إن الله لا يعلم شيئاً أصلاً في الدنيا والآخرة وإنما يعلم نفسه فقط وأما غيره فيعرفه ويعرف أيضاً نفسه وغيره فيكون غيره أشرف منه في العلم. فترك هذا حياء من هذا المذهب واستنكافاً منه، ثم لم يستحي من الإصرار على نفي الكثرة من كل وجه وزعم أن علمه بنفسه وبغيره بل وبجميع الأشياء هو ذاته من غير مزيد، وهو عين التناقض الذي استحيا منه سائر الفلاسفة لظهور التناقض فيه في أول النظر. فإذن ليس ينفك فريق منهم عن خزي في مذهب، وهكذى يفعل الله بمن ضل عن سبيله وظن أن الأمور الإلهية يستولي على كنهها بنظره وتخييله. قولهم العلم يكون بمعرفة واحدة علم الأب والابن ... فإن قيل: إذا ثبت أنه يعرف نفسه مبدأ على سبيل الإضافة فالعلم بالمضاف واحد، إذ من عرف الابن عرفه بمعرفة واحدة وفيه العلم بالأب وبالأبوة والبنوة ضمناً، فيكثر المعلوم ويتحد العلم. فكذلك هو يعلم ذاته مبدأ لغيره، فيتحد العلم وإن تعدد المعلوم. ثم إذا عقل هذا في معلول واحد وإضافته إليه ولم يوجب ذلك كثرة، فالزيادة فيما لا يوجب جنسه كثرة لا توجب كثرة. العلم يكون بعلم الشيء وبعلم العلم بالشيء وكذلك من يعلم الشيء ويعلم علمه بالشيء فإنه يعلمه بذلك العلم. فكل علم هو علم بنفسه وبمعلومه فيتعدد المعلوم ويتحد العلم. تقولون إن معلومات الله لا نهاية لها وعلمه واحد ويدل عليه أيضاً أنكم ترون أن معلومات الله لا نهاية لها وعلمه واحد ولا تصفونه بعلوم لا نهاية لأعدادها. فإن كان تعدد المعلوم يوجب تعدد ذات العلم فليكن في ذات الله علوم لا نهاية لأعدادها وهذا محال. قولنا يقتضي ذلك كثرة أكثر مما إذا أضيف وجود إلى ماهية قلنا: مهما كان العلم واحداً من كل وجه لم يتصور تعلقه بمعلومين، بل يقتضي ذلك كثرة ما على ما هو وضع الفلاسفة واصطلاحهم في تقدير الكثرة، حتى بالغوا فقالوا: لو كان للأول ماهية موصوفة بالوجود لكان لذلك كثرة. فلم يعقلوا شيئاً واحداً له حقيقية ثم يوصف بالوجود، بل زعموا
أن الوجود مضاف إلى الحقيقة وهو غريه فيقتضي كثرة. فعلى هذا الوجه لا يمكن تقدير علم يتعلق بمعلومات كثيرة إلا ويلزم فيه نوع كثرة أجلى وأبلغ من اللازم في تقدير وجود مضاف إلى ماهية. القول الأول باطل ... وأما العلم بالابن وكذى سائر المضافات ففيه كثرة، إذ لا بد من العلم بذات الابن وذات الأب وهما علمان. وعلم ثالث وهو الإضافة. نعم هذا الثالث مضمن بالعلمين السابقين إذ هما من شرطه وضرورته وإلا فما لم يعلم المضاف أولاً لا تعلم الإضافة. فهي علوم متعددة بعضها مشروطة في البعض. فكذلك إذا علم الأول ذاته مضافاً إلى سائر الأجناس والأنواع بكونه مبدأ لها افتقر إلى أن يعلم ذاته وآحاد الأجناس وأن يعلم إضافة نفسه بالمبدئية إليها، وإلا لم يعقل كون الإضافة معلومة له. ... والثاني أيضاً ... وأما قولهم: إن من علم شيئاً علم كونه عالماً بذلك العلم بعينه فيكون المعلوم متعدداً والعلم واحداً، فليس كذلك بل يعلم كونه عالماً بعلم آخر وينتهي إلى علم يغفل عنه ولا يعلمه. ولا نقول: يتسلسل إلى غير نهاية، بل ينقطع على علم متعلق بمعلومه وهو غافل عن وجود العلم لا عن وجود المعلوم، كالذي يعلم السواد وهو في حال علمه مستغرق النفس بمعلومه الذي هو سواد وغافل عن علمه بالسواد وليس ملتفتاً إليه، فإن التفت إليه افتقر إلى علم آخر إلى أن ينقطع التفاته. ... وأما الثالث، فعليكم البرهان وأما قولهم: إن هذا ينقلب عليكم في معلومات الله فإنها غير متناهية والعلم عندكم واحد، فنقول: نحن لم نخض في هذا الكتاب خوض الممهدين بل خوض الهادمين المعترضين ولذلك سمينا الكتاب: تهافت الفلاسفة، لا تمهيد الحق. فليس يلزمنا هذا الجواب. قولهم في الأمر إشكال على جميع الفرق فإن قيل: إنا لا نلزمكم مذهب فرقة معينة من الفرق. فأما ما ينقلب على كافة الخلق وتستوي الأقدام في إشكاله فلا يجوز لكم إيراده، وهذا الإشكال منقلب عليكم ولا محيص لأحد من الفرق عنه. قولنا المقصود تشكيككم في دعاويكم قلنا: لا، بل المقصود تعجيزكم عن دعواكم معرفة حقائق الأمور بالبراهين
القطعية وتشكيككم في دعاويكم. أنتم تعترضون على المؤمنين بالرسول ... وإذا ظهر عجزكم ففي الناس من يذهب إلى أن حقائق الأمور الإلهية لا تنال بنظر العقل، بل ليس في قوة البشر الإطلاع عليه. ولذلك قال صاحب الشرع: تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله. فما إنكاركم على هذه الفرقة المعتقدة صدق الرسول بدليل المعجزة المقتصرة من قضية العقل على إثبات ذات المرسل المحترزة عن النظر في الصفات بنظر العقل المتبعة صاحب الشرع فيما أتى به من صفات الله المقتفية أثره في إطلاق العالم والمريد والقادر والحي المنتهية عن إطلاق ما لم يؤذن فيه المعترفة بالعجز عن درك العقل. ... ونحن نعترض عليكم! وإنما إنكاركم عليهم بنسبتهم إلى الجهل بمسالك البراهين ووجه ترتيب المقدمات على أشكال المقاييس ودعواكم أنا قد عرفنا ذلك بمسالك عقلية. وقد بان عجزكم وتهافت مسالككم وافتضاحكم في دعوى معرفتكم وهو المقصود من هذا البيان. فأين من يدعي أن براهين الإلهيات قاطعة كبراهين الهندسيات؟ قولهم الأول لم يعلم إلا نفسه فإن قيل: هذا الإشكال إنما لزم على ابن سينا حيث زعم أن الأول يعلم غيره. فأما المحققون من الفلاسفة قد اتفقوا على أنه لا يعلم إلا نفسه، فيندفع هذا الإشكال. قولنا كل واحد من العقلاء يعلم أشياء كثيرة! فنقول: ناهيكم خزياً بهذا المذهب، ولولا أنه في غاية الركاكة لما استنكف المتأخرون عن نصرته. ونحن ننبه على وجه الخزي فيه، فإن فيه تفضيل معلولاته عليه، إذ الملك والإنسان وكل واحد من العقلاء يعرف نفسه ومبدأه ويعرف غيره، والأول لا يعرف إلا نفسه فهو ناقص بالإضافة إلى آحاد الناس فضلاً عن الملائكة، بل البهيمة مع شعورها بنفسها تعرف أموراً أخر سواها. ولا شك في أن العلم شرف وان عدمه نقصان. فأين قولهم: إنه عاشق ومعشوق لأن له البهاء الأكمل والجمال الأتم؟ وأي جمال لوجود بسيط لا ماهية له ولا حقيقة ولا خبر له مما يجري في العالم ولا مما يلزم
ذاته ويصدر منه؟ وأي نقصان في عالم الله يزيد على هذا؟ بلغ الفلاسفة هذا المبلغ! وليتعجب العاقل من طائفة يتعمقون في المعقولات بزعمهم ثم ينتهي آخر نظرهم إلى أن رب الأرباب ومسبب الأسباب لا علم له أصلاً بما يجري في العالم. وأي فرق بينه وبين الميت إلا في علمه بنفسه؟ وأي كمال في علمه بنفسه مع جهله بغيره؟ وهذا مذهب تغني صورته في الافتضاح عن الإطناب والإيضاح. الذات غير العلم بالذات، كما في الإنسان ثم يقال لهؤلاء: لم تتخلصوا عن الكثرة مع اقتحام هذه المخازي أيضاً، فإنا نقول: علمه بذاته عين ذاته أو غير ذاته. فإن قلتم: إنه غيره، فقد جاءت الكثرة، وإن قلتم: إنه عينه، فما الفصل بينكم وبين قائل: إن علم الإنسان بذاته عين ذاته؟ وهو حماقة إذ يعقل وجود ذاته في حالة هو فيها غافل عن ذاته ثم تزول غفلته ويتنبه لذاته فيكون شعوره بذاته غير ذاته لا محالة. قولهم الإنسان قد يطرى عليه العلم فيكون غيره فإن قلتم: إن الإنسان قد يخلوا عن العلم بذاته فيطرى عليه فيكون غيره لا محالة. قولنا يقدر طريان الذات فنقول: الغيرية لا تعرف بالطريان والمقارنة فإن عين الشيء لا يجوز أن يطرى على الشيء، وغير الشيء إذا قارن الشيء لم يصر هو هو ولم يخرج عن كونه غيراً. فبأن كان الأول لم يزل عالماً بذاته لا يدل على أن علمه بذاته عين ذاته، ويتسع الوهم لتقدير الذات ثم طريان الشعور. ولو كان هو الذات بعينه لما تصور هذا التوهم. قولهم ذاته عقل وعلم ... فإن قيل: ذاته عقل وعلم فليس له ذات ثم علم قائم به. قولنا يردون الله إلى حقائق الأغراض! ... قلنا: الحماقة ظاهرة في هذا الكلام، فإن العلم صفة وعرض يستدعي موصوفاً، وقول القائل: هو في ذاته عقل وعلم، كقوله: هو قدرة وإرادة وهو قائم بنفسه. ولو قيل: به، فهو كقول القائل في سواد وبياض: إنه قائم بنفسه، وفي كمية وتربيع وتثليث: إنه قائم بنفسه. وكذى في كل الأعراض. وبالطريق الذي يستحيل أن تقوم صفات الأجسام بنفسها دون جسم هو غير الصفات،
بعين ذلك الطريق يعلم أن صفات الأحياء من العلم والحياة والقدرة والإرادة أيضاً لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بذات. فالحياة تقوم بالذات فيكون حياته بها، وكذلك سائر الصفات. فإذن لم يقنعوا بسلب الأول سائر الصفات ولا بسلبه الحقيقة والماهية حتى سلبوه أيضاً القيام بنفسه وردوه إلى حقائق الأعراض والصفات التي لا قوام لها بنفسها.
.. ولا يقيمون الدليل على كونه عالماً ... وسنبين ذلك على أنا سنبين بعد هذا عجزهم عن إقامة الدليل على كونه عالماً بنفسه وبغيره في مسألة مفردة. مسألة في إبطال قولهم أن الأول لا يجوز أن يشارك غيره في جنس ويفارقه بفصل وأنه لا يتطرق إليه انقسام في حق العقل بالجنس والفصل رأيهم وقد اتفقوا على هذا وبنوا عليه أنه إذا لم يشارك غيره بمعنى جنسي لم ينفصل عنه بمعنى فصلي، فلم يكن له حد إذ الحد ينتظم من الجنس والفصل، وما لا تركيب فيه فلا حد له. وهذا نوع من التركيب. وزعموا أن قول القائل: أنه يساوي المعلول الأول في كونه موجوداً وجوهراً وعلة لغيره ويباينه بشيء آخر لا محالة، فليس هذا مشاركة في الجنس بل هو مشاركة في لازم عام. في الجنس وفرق بين الجنس واللازم في الحقيقة وإن لم يفترقا في العموم على ما عرف في المنطق، فإن الجنس الذاتي هو العام المقول في جواب ما هو ويدخل في ماهية الشيء المحدود ويكون مقوماً لذاته. فكون الإنسان حياً داخل في ماهية الإنسان أعني الحيوانية فكان جنساً. وكونه مولوداً ومخلوقاً لازم له لا يفارقه قط ولكنه ليس داخلاً في الماهية. وإن كان لازماً عاماً، ويعرف ذلك في المنطق معرفة لا يتمارى فيها. قولهم إن الوجود لا يدخل في ماهية الأشياء ... وزعموا أن الوجود لا يدخل قط في ماهية الأشياء بل هو مضاف إلى الماهية: إما لازماً لا يفارق كالسماء، أو وارداً بعد أن لم يكن كالأشياء الحادثة، فالمشاركة في الوجود ليس مشاركة في الجنس. ... ولا يدخل فيها "كونه علة" ... وأما مشاركته في كونه علة لغيره كسائر العلل فهو مشاركة في إضافة لازمة لا تدخل أيضاً في الماهية، فإن المبدئية والوجود لا يقوم واحد منهما الذات بل يلزمان الذات بعد تقوم الذات بأجزاء ماهيته. فليس المشاركة فيه إلا مشاركة في لازم عام يتبع الذات لزومه لا في جنس. ولذلك لا تحد الأشياء إلا بالمقومات، فإن حدث باللوازم كان ذلك رسماً للتمييز لا لتصوير حقيقة الشيء. فلا يقال في حد المثلث إنه الذي تساوي
زواياه القائمتين، وإن كان ذلك لازماً عاماً لكل مثلث، بل يقال إنه شكل يحيط به ثلاثة أضلاع. ... ولا يدخل فيها كونه جوهراً ... وكذلك المشاركة في كونه جوهراً، فإن معنى كونه جوهراً أنه موجود لا في موضوع، والموجود ليس بجنس. فبأن يضاف إليه أمر سلبي وهو أنه لا في موضوع فلا يصير جنساً مقوماً، بل لو أضيف إليه إيجابه وقيل موجود في موضوع لم يصر جنساً في العرض، وهذا لأن من عرف الجوهر بحده الذي هو كالرسم له وهو أنه موجود لا في موضوع فليس يعرف كونه موجوداً، فضلاً أن يعرف أنه في موضوع أو لا في موضوع، بل معنى قولنا في رسم الجوهر أنه الموجود لا في موضوع أي أنه حقيقة ما إذا وجد وجد لا في موضوع. ولسنا نعني به أنه موجود بالفعل حالة التحديد فليس المشاركة فيه مشاركة في جنس. ... بل الوجود الواجب هو للأول لا لغيره بل المشاركة في مقومات الماهية هي المشاركة في الجنس المحوج إلى المباينة بعده بالفصل وليس للأول ماهية سوى الوجود الواجب. فالوجود الواجب طبيعة حقيقية وماهية في نفسه هو له لا لغيره. وإذا لم يكن وجوب الوجود إلا له لم يشارك غيره فلم ينفصل عنه بفصل نوعي، فلم يكن له حد. قولنا المطالبة فهذا تفهيم مذهبهم. والكلام عليه من وجهين: مطالبة وإبطال. أما المطالبة فهو أن يقال: هذا حكاية المذهب، فبم عرفتم استحالة ذلك في حق الأول حتى بنيتم عليه نفي التثنية؟ إذ قلتم: إن الثاني ينبغي أن يشاركه في شيء ويباينه في شيء والذي فيه ما يشارك به وما يباين به فهو مركب والمركب محال. أبطلنا إمكان التركيب في الأول فنقول: هذا النوع من التركيب من أين عرفتم استحالته؟ ولا دليل عليه
إلا قولكم المحكي عنكم في نفي الصفات وهو أن المركب من الجنس والفصل مجتمع من أجزاء، فإن كان يصح لواحد من الأجزاء أو الجملة وجود دون الآخر فهو واجب الوجود دون ما عداه، وإن كان لا يصح للأجزاء وجود دون المجتمع ولا للمجتمع وجود دون الأجزاء فالكل معلول محتاج. وقد تكلمنا عليه في الصفات وبينا أن ذلك ليس بمحال في قطع تسلسل العلل، والبرهان لم يدل على قطع التسلسل. البرهان لا يدل إلا على قطع التسلسل فقط فأما العظائم التي اخترعوها في لزوم اتصاف واجب الوجود به فلم يدل عليه دليل. فإن كان واجب الوجود ما وصفوه به وهو أنه لا يكون فيه كثرة فلا يحتاج في قوامه إلى غيره، فلا دليل إذن على إثبات واجب الوجود وإنما الدليل دل على قطع التسلسل فقط، وهذا قد فرغنا منه في الصفات. ليس بين الجنس والفصل مباينة تامة وهو في هذا النوع أظهر فإن انقسام الشيء إلى الجنس والفصل ليس كانقسام الموصوف إلى ذات وصفة، فإن الصفة غير الذات والذات غير الصفة والنوع ليس غير الجنس من كل وجه، فمهما ذكرنا النوع فقد ذكرنا الجنس وزيادة. وإذا ذكرنا الإنسان فلم نذكر إلا الحيوان مع زيادة نطق. فقول القائل: إن الإنسانية هل تستغني عن الحيوانية؟ كقوله: إن الإنسانية هل تستغني عن نفسها إذا انضم إليها شيء آخر؟ فهذا أبعد عن الكثرة من الصفة والموصوف. إن لم تكن المباينة في الفصل ... ومن أي وجه يستحيل أن تنقطع سلسلة المعلولات على علتين إحديهما علة السموات والأخرى علة العناصر أو أحدهما علة العقول والآخر علة الأجسام كلها ويكون بينهما مباينة ومفارقة في المعنى كما بين الحمرة والحرارة في محل واحد؟ فإنهما يتباينان بالمعنى من غير أن نفرض في الحمرة تركيباً جنسياً وفصلياً بحيث يقبل الانفصال، بل إن كان فيه كثرة فهو نوع كثرة لا يقدح في وحدة الذات.
فمن أي وجه يستحيل هذا في العلل؟ وبهذا يتبين عجزهم عن نفي إلهين صانعين. إما أن يكون هذا شرطاً في وجوب الوجود وإما أن لا يكون، ولا يصح في الحالين فإن قيل: إنما يستحيل هذا من حيث أن ما به من المباينة بين الذاتين إن كان شرطاً في وجوب الوجود فينبغي أن يوجد لكل واجب وجود فلا يتباينان، وإن لم يكن هذا شرطاً ولا الآخر شرطاً فكل ما لا يشترط في وجوب الوجود فوجوده مستغنى عنه ويتم وجوب الوجود بغيره. قولنا يجب الكلام عن الموجود الذي لا علة له قلنا: هذا عين ما ذكرتموه في الصفات وقد تكلمنا عليه. ومنشأ التلبيس في جميع ذلك في لفظ واجب الوجود، فليطرح فإنا لا نسلم أن الدليل يدل على واجب الوجود إن لم يكن المراد به موجود لا فاعل له قديم، وإن كان المراد هذا فليترك لفظ واجب الوجود وليبين أن موجوداً لا علة له ولا فاعل يستحيل فيه التعدد والتباين ولا يقوم عليه دليل. بعض التباين هو شرط في "كون" اللون لوناً فيبقى قولهم: إن ذلك هل هو شرط في أن لا يكون له علة؟ فهو هوس فإن ما لا علة له قد بينا أنه لا يعلل كونه لا علة له حتى يطلب شرطه، أو هو كقول القائل: إن السوادية هل هي شرط في كون اللون لوناً؟ فإن كان شرطاً فلم كان الحمرة لوناً؟ فيقال: أما في حقيقته فلا يشترط واحد منهما، أعني ثبوت حقيقة اللونية في العقل، وأما في وجوده فالشرط أحدهما لا بعينه، أي لا يمكن جنس في الوجود إلا وله فصل.
فكذلك من يثبت علتين ويقطع التسلسل بهما فيقول: يتباينان بفصل، وأحد الفصول شرط الوجود لا محالة ولكن لا على التعين. قولهم وجوب الوجود كوجود اللونية لا كماهيته فإن قيل: هذا يجوز في اللون فإن له وجوداً مضافاً إلى الماهية زائداً على الماهية، ولا يجوز في واجب الوجود إذ ليس له إلا وجوب الوجود، وليس ثم ماهية يضاف الوجود إليها. وكما أن فصل السواد وفصل الحمرة لا يشترط للونية في كونها لونية إنما يشترط في وجودها الحاصل بعلة، فكذلك ينبغي أن لا يشترط في الوجود الواجب فإن الوجود الواجب للأول كاللونية للون لا كالوجود المضاف إلى اللونية. قولنا كلا، وسيأتي الكلام عن الأمر قلنا: لا نسلم، بل له حقيقة موصوفة بالوجود على ما سنبينه في المسألة التي بعده. وقولهم: إنه وجود بلا ماهية، خارج عن المعقول. ورجع حاصل الكلام إلى انهم بنوا نفي التثنية على نفي التركيب الجنسي والفصلي ثم بنوا ذاك على نفي الماهية وراء الوجود، فمهما أبطلنا الأخير الوجود، فمهما أبطلنا الأخير الذي هو أساس الأساس بطل عليهم الكل، وهو بنيان ضعيف الثبوت قريب من بيوت العنكبوت. العقلية مشتركة بين الأول والمعلول الأول المسلك الثاني الإلزام وهو أنا نقول: إن لم يكن الوجود والجوهرية والمبدئية جنساً لأنه ليس مقولاً في جواب ما هو فالأول عندكم عقل مجرد، كما أن سائر العقول التي هي المبادئ للوجود المسمى بالملائكة عندهم التي هي معلومات الأول عقول مجردة عن المواد، فهذه الحقيقة تشمل الأول ومعلوله الأول فإن المعلول الأول أيضاً بسيط لا تركيب في ذاته إلا من حيث لوازمه وهما مشتركان في أن كل واحد عقل مجرد عن المادة وهذه حقيقة جنسية. فليس العقلية المجردة للذات من اللوازم بل هي الماهية وهذه الماهية مشتركة بين الأول وسائر العقول. فإن لم يباينها بشيء آخر فقد عقلتم اثنينية من غير مباينة، وإن باينها فما به المباينة غير ما به المشاركة
والعقلية. وهذه المشاركة هي في ذات كليهما والمشاركة فيها مشاركة في الحقيقية فإن الأول عقل نفسه وعقل غيره عند من يرى ذلك من حيث أنه في ذاته عقل مجرد عن المادة، وكذى المعلول الأول وهو العقل الأول الذي أبدعه الله من غير واسطة مشارك في هذا المعنى، والدليل عليه أن العقول التي هي معلولات أنواع مختلفة وإنما اشتراكها في العقلية وافتراقها بفصول سوى ذلك، وكذلك الأول شارك جميعها في العقلية فهم فيه بين نقض القاعدة أو المصير إلى أن العقلية ليست مقومة للذات، وكلاهما محالان عندهم.
مسألة في إبطال قولهم إن وجود الأول بسيط أي هو وجود محض ولا ماهية ولا حقيقة يضاف الوجود إليها بل الوجود الواجب له كالماهية لغيره المطالبة بالدليل والكلام عليه من وجهين: الأول المطالبة بالدليل فيقال: بم عرفتم ذلك؟ أبضرورة أو نظر؟ وليس بضروري فلا بد من ذكر طريق النظر. قولهم يكون الوجود الواجب معلولاً وهو محال فإن قيل: لأنه لو كان له ماهية لكان الوجود مضافاً إليها وتابعاً لها ولازماً لها والتابع معلول فيكون الوجود الواجب معلولاً وهو متناقض. قولنا هو محال إذا لم يكن له علة فاعلية فنقول: هذا رجوع إلى منبع التلبيس في إطلاق لفظ الوجود الواجب، فإنا نقول: له حقيقة وماهية وتلك الحقيقة موجودة أي ليست معدومة منفية ووجودها مضاف إليها، وإن أحبوا أن يسموه تابعاً ولازماً فلا مشاحة في الأسامي بعد أن يعرف أنه لا فاعل للوجود بل لم يزل هذا الوجود قديماً من غير علة فاعلية. فإن عنوا بالتابع والمعلول أن له علة فاعلية فليس كذلك، وإن عنوا غيره فهو مسلم ولا استحالة فيه إذ الدليل لم يدل إلا على قطع تسلسل العلل، وقطعه بحقيقة موجودة وماهية ثابتة ممكن فليس يحتاج فيه إلى سلب الماهية. قولهم تكون الماهية سبباً فاعلاً فإن قيل: فتكون الماهية سبباً للوجود الذي هو تابع له فيكون الوجود معلولاً ومفعولاً. قولنا أي أنه لا يستغنى عنه قلنا: الماهية في الأشياء الحادثة لا تكون سبباً للوجود فكيف في القديم؟ إن عنوا بالسبب الفاعل له وإن عنوا به وجهاً آخر وهو أنه لا يستغنى
عنه فليكن كذلك فلا استحالة فيه، إنما الإستحالة في تسلسل العلل فإذا انقطع فقد اندفعت الإستحالة، وما عدى ذلك لم تعرف استحالته فلا بد من برهان على استحالته. وكل براهينهم تحكمات مبناها على أخذ لفظ واجب الوجود بمعنى له لوازم وتسلم أن الدليل قد دل على واجب الوجود بالنعت الذي وصفوه وليس كذلك كما سبق. من الضلال أن يقال إن كل ماهية موجودة فمتكثرة وعلى الجملة دليلهم في هذا يرجع إلى دليل نفي الصفات ونفي الإنقسام الجنسي والفصلي، إلا أنه أغمض وأضعف لأن هذه الكثرة لا ترجع إلا إلى مجرد اللفظ وإلا فالعقل يتسع لتقدير ماهية واحدة موجودة وهو يقولون: كل ماهية موجودة فمتكثرة إذ فيه ماهية ووجود. وهذا غاية الضلال فإن الموجود الواحد معقول بكل حال ولا موجود إلا وله حقيقة ووجود الحقيقة لا ينفي الوحدة. وجود بلا ماهية ولا حقيقة غير معقول المسلك الثاني هو أن نقول: وجود بلا ماهية ولا حقيقة غير معقول، وكما لا نعقل عدماً مرسلاً إلا بالإضافة إلى موجود يقدر عدمه فلا نعقل وجود مرسلاً إلا بالإضافة إلى حقيقة معينة، لا سيما إذا تبين ذاتاً واحدة، فكيف يتعين واحداً متميزاً عن غيره بالمعنى ولا حقيقة له؟ فإن نفي الماهية نفي للحقيقة وإذا نفى حقيقة الموجود لم يعقل الوجود، فكأنهم قالوا: وجود ولا موجود، وهو متناقض. لا يعقل في المعلول نفي الماهية من الوجود ويدل عليه أنه لو كان هذا معقولاً لجاز أن يكون في المعلولات وجود لا حقيقة له يشارك الأول في كونه لا حقيقة ولا ماهية له ويباينه في أن له علة، والأول لا علة له، فلم لا يتصور هذا في المعلولات؟ وهل له سبب إلا أنه غير معقول في نفسه؟ وما لا يعقل في نفسه فبأن ينفي علته لا يصير معقولاً، وما يعقل فبأن يقدر له علة لا يخرج عن كونه معقولاً. والتناهي إلى هذا الحد غاية ظلماتهم فقد ظنوا أنهم
ينزهون فيما يقولون فانتهى كلامهم إلى النفي المجرد، فإن نفي الماهية نفي للحقيقة ولا يبقى مع نفي الحقيقة إلا لفظ الوجود ولا مسمى له أصلاً إذا لم يضف إلى ماهية. قولهم ماهيته هي أنه واجب فإن قيل: حقيقته أنه واجب وهو الماهية. قولنا الوجود غير المعلول لا يستغني عن الماهية قلنا: ولا معنى للواجب إلا نفي العلة وهو سلب لا يتقوم به حقيقة ذات، ونفي العلة عن الحقيقة لازم الحقيقة، فلتكن الحقيقة معقولة حتى توصف بأنه لا علة لها ولا يتصور عدمها إذ لا معنى للوجوب إلا هذا. على أن الوجوب إن زاد على الوجود فقد جاءت الكثرة، وإن لم يزد فكيف يكون هو الماهية والوجود ليس بماهية؟ فكذى ما لا يزيد عليه.
مسألة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم قولنا وما الأمر إذا كان الأول جسماً قديماً؟ فنقول: هذا إنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث من حيث أنه لا يخلوا عن الحوادث، وكل حادث فيفتقر إلى محدث. فأما أنتم إذا عقلتم جسماً قديماً لا أول لوجوده مع أنه لا يخلوا عن الحوادث فلم يمتنع أن يكون الأول جسماً إما الشمس وإما الفلك الأقصى وإما غيره؟ قولهم الأول لا يقبل القسمة والجسم لا يكون إلا مركباً فإن قيل: لأن الجسم لا يكون إلا مركباً منقسماً إلى جزئين بالكمية وإلى الهيولى والصورة بالقسمة المعنوية وإلى أوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر الأجسام، وإلا فالأجسام متساوية في أنها أجسام وواجب الوجود واحد لا يقبل القسمة بهذه الوجوه. قولنا أبطلنا هذا فيما سبق قلنا: وقد أبطلنا هذا عليكم وبينا أنه لا دليل لكم عليه سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معلولاً. وقد تكلمنا عليه وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجد له لم يبعد تقدير مركب لا مركب له وتقدير موجودات لا موجد لها، إذ نفي العدد والتثنية بنيتموه على نفي التركيب ونفي التركيب على نفي الماهية سوى الوجود وما هو الأساس الأخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه. قولهم الجسم بلا نفس لا يكون فاعلاً وإن كان له نفس فنفسه علة له فإن قيل: الجسم إن لم يكن له نفس لا يكون فاعلاً وإن كان له نفس فنفسه علة له فلا يكون الجسم أولاً. قولنا كلا قلنا: نفسنا ليس علة لوجود جسمنا ولا نفس الفلك بمجردها علة
لوجود جسمه عندكم بل هما يوجدان بعلة سواهما فإذا جاز وجودهما قديماً جاز أن لا يكون لهما علة. قولهم كيف اتفق اجتماعهما؟ فإن قيل: كيف اتفق اجتماع النفس والجسم؟ قولنا وما المانع إذا كانا قديمين؟ قلنا: هو كقول القائل: كيف اتفق وجود الأول؟ فيقال: هذا سؤال عن حادث فأما ما لم يزل موجوداً فلا يقال كيف اتفق. فكذلك الجسم ونفسه إذا لم يزل كل واحد موجوداً لم يبعد أن يكون صانعاً؟ قولهم لأن الجسم لا يخلق غيره والنفس لا تخلق إلا بواسطة الجسم فإن قيل: لأن الجسم من حيث أنه جسم لا يخلق غيره والنفس المتعلقة بالجسم لا تفعل إلا بواسطة الجسم ولا يكون الجسم واسطة للنفس في خلق الأجسام ولا في إبداع النفوس وأشياء لا تناسب الأجسام. قولنا هذا أمر لا يدل عليه برهان قلنا: ولم لا يجوز أن يكون في النفوس نفس تختص بخاصية تتهيأ بها لأن توجد الأجسام وغير الأجسام منها؟ فاستحالة ذلك لا يعرف ضرورة ولا برهان يدل عليه، إلا أنه لم نشاهد من هذه الأجسام المشاهدة وعدم المشاهدة لا يدل على الاستحالة فقد أضافوا إلى الموجود الأول بما لا يضاف إلى موجود أصلاً، ولم نشاهد من غيره وعدم المشاهدة من غيره لا يدل على استحالته منه فكذى في نفس الجسم والجسم. قولهم الجسم يقدر بمقدار فإن قيل: الجسم الأقصى أو الشمس أو ما قدر من الأجسام فهو متقدر بمقدار يجوز أن يزيد عليه وينقص منه فيفتقر اختصاصه بذلك المقدار الجائز إلى مخصص فلا يكون أولاً. قولنا وهذا المقدار يكون على حسب نظام الكل قلنا: بم تنكرون على من يقول: إن ذلك الجسم يكون على مقدار يجب أن يكون عليه لنظام الكل ولو كان أصغر منه أو أكبر لم يجز؟ كما أنكم قلتم: إن المعلول الأول يفيض الجرم الأقصى منه متقدراً بمقدار وسائر المقادير بالنسبة إلى ذات المعلول الأول متساوية ولكن تعين بعض
المقادير لكون النظام متعلقاً به، فوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه، فكذى إذا قدر غير معلول. قولنا إذا أثبتم مبدأ للتخصيص اضطررتم إلى تجويز التخصيص بغير علة بل لو أثبتوا في المعلول الأول الذي هو علة الجرم الأقصى عندهم مبدأ للتخصيص مثل إرادة مثلاً لم ينقطع السؤال إذ يقال: ولم أراد هذا المقدار دون غيره؟ كما ألزموه على المسلمين في إضافتهم الأشياء إلى الإرادة القديمة، وقد قلبنا عليهم ذلك في تعين جهة حركة السماء وفي تعين نقطتي القطبين. فليطلق ذلك على غير المعلول أيضاً فإذا بان أنهم مضطرون إلى تجويز تميز الشيء عن مثله في الوقوع بعلة فتجويزه بغير علة كتجويزه بعلة إذ لا فرق بين أن يتوجه السؤال في نفس الشيء فيقال: لم اختص بهذا القدر؟ وبين أن يتوجه في العلة فيقال: ولم خصصه بهذا القدر عن مثله؟ فإن أمكن دفع السؤال عن العلة بأن هذا المقدار ليس مثل غيره إذ النظام مرتبط به دون غيره أمكن دفع السؤال عن نفس الشيء ولم يفتقر إلى علة، وهذا لا مخرج عنه فإن هذا المقدار المعين الواقع إن كان مثل الذي لم يقع فالسؤال متوجه أنه كيف ميز الشيء عن مثله، خصوصاً على أصلهم وهم ينكرون الإرادة المميزة، وإن لم يكن مثلاً له فلا يثبت الجواز بل يقال: وقع كذلك قديماً كما وقعت العلة القديمة بزعمهم. راجع ما سبق وليستمد الناظر في هذا الكلام مما أوردناه لهم من توجيه السؤال في الإرادة القديمة وقلبنا ذلك عليهم في نقطة القطب وجهة حركة الفلك. الخاتمة وتبين بهذا أن من لا يصدق بحدوث الأجسام فلا يقدر على إقامة دليل على أن الأول ليس بجسم أصلاً.
مسألة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن للعالم صانعاً وعلة قولنا ما المانع أن يقال عن الجسم القديم أنه بغير علة؟ فنقول: من ذهب إلى أن كل جسم فهو حادث لأنه لا يخلوا عن الحوادث عقل مذهبهم في قولهم: إنه يفتقر إلى صانع وعلة. وأما أنتم فما الذي يمنعكم من مذهب الدهرية وهو أن العالم قديم؟ كذلك ولا علة له ولا صانع وإنما العلة للحوادث وليس يحدث في العالم جسم ولا ينعدم جسم وإنما تحدث الصور والأعراض، فإن الأجسام هي السموات وهي قديمة والعناصر الأربعة التي هي حشو فلك القمر وأجسامها وموادها قديمة وإنما تتبدل عليها الصور بالامتزاجات والاستحالات وتحدث النفوس الإنسانية والنباتية، وهذه الحوادث تنتهي عللها إلى الحركة الدورية والحركة الدورية قديمة ومصدرها نفس قديمة للفلك، فإذن لا علة للعالم ولا صانع لأجسامه بل هو كما هو عليه لم يزل قديماً كذلك بلا علة أعني الأجسام. فما معنى قولهم إن هذه الأجسام وجودها بعلة وهي قديمة؟ قولهم لا يكون واجب الوجود وهو محال فإن قيل: كل ما لا علة له فهو واجب الوجود وقد ذكرنا من صفات واجب الوجود ما تبين به أن الجسم لا يكون واجب الوجود. قولنا بل ينقطع تسلسل العلل قلنا: وقد بينا فساد ما ادعيتموه من صفات واجب الوجود وأن البرهان لا يدل إلا على قطع السلسلة، وقد انقطع عند الدهري في أول الأمر إذ يقول: لا علة للأجسام وأما الصور والأعراض فبعضها علة للبعض إلى أن تنتهي إلى الحركة الدورية وهي بعضها سبب للبعض، كما هو مذهب
الفلاسفة، وينقطع تسلسلها بها. ومن تأمل ما ذكرناه علم عجز كل من يعتقد قدم الأجسام عن دعوى علة لها ولزمه الدهر والإلحاد كما صرح به فريق فهم الذين وفوا بمقتضى نظر هؤلاء. قولهم الأجسام غير واجبة الوجود فهي ممكنة فإن قيل: الدليل عليه أن هذه الأجسام إما أن كانت واجبة الوجود وهو محال، وإما أن كانت ممكنة وكل ممكن يفتقر إلى علة. قولنا ولم لا تكون بغير علة؟ قلنا: لا يفهم لفظ واجب الوجود وممكن الوجود، فكل تلبيساتهم مغباة في هاتين اللفظتين. فلنعدل إلى المفهوم وهو نفي العلة وإثباته، فكأنهم يقولون: هذه الأجسام لها علة أم لا علة لها، فيقول الدهري: لا علة لها، فما المستنكر؟ وإذا عني بالإمكان هذا فنقول: إنه واجب وليس بممكن. وقولهم: الجسم لا يمكن أن يكون واجباً، تحكم لا أصل له. قولهم إن الأجزاء تكون سابقة في الذات على الجملة فإن قيل: لا ينكر أن الجسم له أجزاء وأن الجملة إنما تتقوم بالأجزاء وأن الأجزاء تكون سابقة في الذات على الجملة. قولنا لا يمكنكم الرد على إبطال الكثرة قلنا: ليكن كذلك فالجملة تقومت بالأجزاء واجتماعها ولا علة للأجزاء ولا لاجتماعها بل هي قديمة كذلك بلا علة فاعلية. فلا يمكنهم رد هذا إلا بما ذكروه من لزوم نفي الكثرة عن الموجود الأول وقد أبطلناه عليهم ولا سبيل لهم سواه. الخاتمة فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام فلا أصل لاعتقاده في الصانع أصلاً.
مسألة في تعجيز من يرى منهم أن الأول يعلم غيره ويعلم الأنواع والأجناس بنوع كلي قولنا دليل المسلمين دليل صحيح ... فنقول: أما المسلمون، لما انحصر عندهم الوجود في حادث وفي قديم ولم يكن عندهم قديم إلا الله وصفاته وكان. ما عداه حادثاً من جهته بإرادته، حصل عندهم مقدمة ضرورية في علمه، فإن المراد بالضرورة لا بد وأن يكون معلوماً للمريد، فبنوا عليه أن الكل معلوم له لأن الكل مراد له وحادث بإرادته، فلا كائن إلا وهو حادث بإرادته ولم يبق إلا ذاته، ومهما ثبت أنه مريد عالم بما أراده فهو حي بالضرورة وكل حي يعرف غيره، فهو بأن يعرف ذاته أولى، فصار الكل عندهم معلوماً لله وعرفوه بهذا الطريق بعد أن بان لهم أنه مريد لإحداث العالم. وأما أنتم، فما هو دليلكم؟ فأما أنتم فإذا زعمتم أن العالم قديم لم يحدث بإرادته فمن أين عرفتم أنه يعرف غير ذاته؟ فلا بد من الدليل عليه. قولهم الموجود لا في مادة يعقل جميع المعقولات وحاصل ما ذكره ابن سينا في تحقيق ذلك في إدراج كلامه يرجع إلى فنين: الفن الأول: أن الأول موجود لا في مادة، وكل موجود لا في مادة فهو عقل محض، وكل ما هو عقل محض فجميع المعقولات مكشوفة له فإنه المانع عن درك الأشياء كلها التعلق بالمادة والاشتغال بها، ونفس الآدمي مشغول بتدبير المادة أي البدن وإذا انقطع شغله بالموت ولم يكن قد
تدنس بالشهوات البدنية والصفات الرذيلة المتعدية إليه من الأمور الطبيعية انكشف له حقائق المعقولات كلها. ولذلك قضى بأن الملائكة كلهم يعرفون جميع المعقولات ولا يشذ عنهم شيء لأنهم أيضاً عقول مجردة لا في مادة. قولنا النتيجة تحتاج إلى برهان فنقول: قولكم: الأول موجود لا في مادة، إن كان المعنى به أنه ليس بجسم ولا هو منطبع في جسم بل هو قائم بنفسه من غير تحيز واختصاص بجهة فهو مسلم. فيبقى قولكم: وما هذا صفته فهو عقل مجرد، فماذا تعني بالعقل إن عنيت ما يعقل سائر الأشياء؟ فهذا نفس المطلوب وموضع النزاع فكيف أخذته في مقدمات قياس المطلوب؟ وإن عنيت به غيره وهو أنه يعقل نفسه فربما يسلم لك إخوانك من الفلاسفة ذلك ولكن يرجع حاصله إلى أن ما يعقل نفسه يعقل غيره فيقال: ولم ادعيت هذا؟ وليس ذلك بضروري وقد انفرد به ابن سينا عن سائر الفلاسفة فكيف تدعيه ضرورياً وإن كان نظرياً فما البرهان عليه؟ قولهم المادة مانع من درك الأشياء فإن قيل: لأن المانع من درك الأشياء المادة ولا مادة. قولنا المانع والمادة لا يتفقان فنقول: نسلم أنه مانع ولا نسلم أنه المانع فقط. وينتظم قياسهم على شكل القياس الشرطي وهو أن يقال: إن كان هذا في المادة فهو لا يعقل الأشياء ولكنه ليس في المادة فإذن يعقل الأشياء. فهذا استثناء نقيض المقدم واستثناء نقيض المقدم غير منتج بالاتفاق وهو كقول القائل: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان لكنه ليس بإنسان فإذن ليس بحيوان. فهذا لا يلزم إذ ربما لا يكون إنساناً ويكون فرساً فيكون حيواناً. نعم استثناء نقيض المقدم ينتج نقيض التالي على ما ذكر في المنطق بشرط وهو ثبوت انعكاس التالي على المقدم وذلك بالحصر وهو كقولهم: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكن الشمس ليست طالعة
فالنهار غير موجود لأن وجود النهار لا سبب له سوى طلوع الشمس فكان أحدهما منعكساً على الآخر. وبيان هذه الأوضاع والألفاظ يفهم في كتاب مدارك العقول الذي صنفناه مضموماً إلى هذا الكتاب. قولهم يتفقان فإن قيل: فنحن ندعي التعاكس وهو أن المانع محصور في المادة فلا مانع سواه. قولنا فما الدليل عليه؟ قلنا: وهذا تحكم فما الدليل عليه؟ قولهم الكل من فعل الأول الفن الثاني قوله: إنا وإن لم نقل: إن الأول مريد الأحداث ولا إن الكل حادث حدوثاً زمانياً، فإنا نقول: إنه فعله وقد وجد منه إلا أنه لم يزل بصفة الفاعلين فلم يزل فاعلاً فلا نفارق غيرنا إلا في هذا القدر، وأما في أصل الفعل فلا، وإذا وجب الفاعل عالماً بالاتفاق فعله فالكل عندنا من فعله. قولنا ففعله لازم والجواب من وجهين: أحدهما أن الفعل قسمان: إرادي كفعل الحيوان والإنسان، وطبيعي كفعل الشمس في الإضاءة والنار في التسخين والماء في التبريد. وإنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي كما في الصناعات البشرية، وأما الفعل الطبيعي فلا. وعندكم إن الله فعل العالم بطريق اللزوم عن ذاته بالطبع والاضطرار لا بطريق الإرادة والاختيار، بل لزم الكل ذاته كما يلزم النور الشمس، وكما لا قدرة للشمس على كف النور ولا للنار على كف التسخين
فلا قدرة للأول على الكف عن أفعاله تعالى عن قولهم علواً كبيراً وهذا النمط وإن تجوز بتسميته فعلاً فلا يقتضي علماً للفاعل أصلاً. قولهم النظام الكلي صادر عن العلم فإن قيل: بين الأمرين فرق وهو إن صدر الكل عن ذاته بسبب علمه بالكل فتمثل النظام الكلي هو سبب فيضان الكل ولا مبدأ له سوى العلم بالكل والعلم بالكل عين ذاته فلو لم يكن له علم بالكل لما وجد منه الكل بخلاف النور من الشمس. قولنا إذا نفيت الإرادة، فما المانع أن يحال هذا المذهب؟ قلنا: وفي هذا خالفك إخوانك فإنهم قالوا: ذاته ذات يلزم منه وجود الكل على ترتيبه بالطبع والاضطرار لا من حيث أنه عالم بها، فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقتهم على نفي الإرادة؟ ولما لم يشترط علم الشمس بالنور للزوم النور بل يتبعه النور ضرورة؟ فليقدر ذلك في الأول ولا مانع منه. يقتصر علم الأول على علم المعلول الأول وهو محال الوجه الثاني هو أنه إن سلم أن صدور الشيء من الفاعل يقتضي العلم أيضاً بالصادر فعندهم فعل الله واحد وهو المعلول الأول الذي هو عقل بسيط فينبغي أن لا يكون عالماً إلا به، والمعلول الأول يكون عالماً أيضاً بما صدر منه فقط فإن الكل لم يوجد من الله دفعة بل بالوساطة والتولد واللزوم، فالذي يصدر مما يصدر منه لم ينبغي أن يكون معلوماً له ولم يصدر منه إلا شيء واحد؟ بل هذا لا يلزم في الفعل الإرادي فكيف في الطبيعي؟ فإن حركة الحجر من فوق جبل قد يكون بتحريك إرادي يوجب العلم بأصل الحركة ولا يوجب العلم بما يتولد منه بوساطته من مصادمته وكسره غيره. فهذا أيضاً لا جواب له عنه. قولهم إن كان الأول لا يعرف إلا نفسه أمست المعلولات فوقه شرفاً فإن قيل: لو قضينا بأنه لا يعرف إلا نفسه لكان ذلك في غاية الشناعة فإن غيره يعرف نفسه ويعرفه ويعرف غيره فيكون في الشرف فوقه كيف يكون المعلول أشرف من العلة؟ قولنا هذا أمر لازم! ... قلنا: فهذه الشناعة لازمة من مقاد الفلسفة في نفي الإرادة ونفي
حدث العالم فيجب ارتكابها كما ارتكب سائر الفلاسفة أو لا بد من ترك الفلسفة والاعتراف بأن العالم حادث بالإرادة. أو لا بد من إبطاله ثم يقال: بم تنكر على من قال من الفلاسفة إن ذلك ليس بزيادة شرف؟ فإن العلم إنما احتاج إليه غيره ليستفيد به كمالاً فإنه في ذاته قاصر والإنسان شرف بالمعقولات إما ليطلع على مصلحته في العواقب في الدنيا والآخرة وإما لتكمل ذاته المظلمة الناقصة، وكذى سائر المخلوقات. وأما ذات الله فمستغنية عن التكميل، بل لو قدر له علم يكمل به لكان ذاته من حيث ذاته ناقصاً. فكما أن علمه بالخواص من النقصان، كذلك علمه بالكليات وهذا كما قلت في السمع والبصر وفي العلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان فإنك وافقت سائر الفلاسفة بأن الله منزه عنه وأن المتغيرات الداخلة في الزمان المنقسمة إلى ما كان ويكون لا يعرفه الأول لأن ذلك يوجب تغيراً في ذاته وتأثراً، ولم يكن في سلب ذلك عنه نقصان بل هو كمال وإنما النقصان في الحواس والحاجة إليها، ولولا نقصان الآدمي لما احتاج إلى حواس لتحرسه عما يتعرض للتغير به. وكذلك العلم بالحوادث الجزئية زعمتم أنه نقصان. فإذا كنا نعرف الحوادث كلها وندرك المحسوسات كلها والأول لا يعرف شيئاً من الجزئيات ولا يدرك شيئاً من المحسوسات ولا يكون ذلك نقصاناً، فالعلم بالكليات العقلية أيضاً يجوز أن يثبت لغيره ولا يثبت له ولا يكون فيه نقصان أيضاً، وهذا لا مخرج عنه.
مسألة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أنه يعرف ذاته أيضاً قولنا المسلمون عندهم برهان فنقول: المسلمون لما عرفوا حدوث العالم بإرادته استدلوا بالإرادة على العلم ثم بالإرادة والعلم جميعاً على الحياة ثم بالحياة على أن كل حي يشعر بنفسه وهو حي فيعرف ذاته فكان هذا منهجاً معقولاً في غاية المتانة. وأما أنتم فلا فأما أنتم فإذا نفيتم الإرادة والإحداث وزعمتم أن ما يصدر منه يصدر بلزوم على سبيل الضرورة والطبع، فأي بعد أن تكون ذاته ذاتاً من شأنها أن يوجد منه المعلول الأول فقط ثم يلزم المعلول الأول المعلول الثاني إلى تمام ترتيب الموجودات؟ ولكنه مع ذلك لا يشعر بذاته كالنار يلزم منها السخونة والشمس يلزم منها النور، ولا يعرف واحد منهما ذاته كما لا يعرف غيره بل ما يعرف ذاته يعرف ما يصدر منه فيعرف غيره. وقد بينا من مذهبهم أنه لا يعرف غيره وألزمنا من خالفهم في ذلك موافقتهم بحكم وضعهم، وإذا لم يعرف غيره لم يبعد أن لا يعرف نفسه. قولهم يكون الأول ميتاً! فإن قيل: كل من لا يعرف نفسه فهو ميت فكيف يكون الأول ميتاً؟ قولنا إن نفيت الصفات من الأول، فما حاجته إلى معرفة نفسه؟ قلنا: فقد لزمكم ذلك على مساق مذهبكم إذ لا فصل بينكم وبين من قال: كل من لا يفعل بإرادة وقدرة واختيار ولا يسمع ولا يبصر فهو ميت ومن لا يعرف غيره فهو ميت. فإن جاز أن يكون الأول خالياً عن هذه الصفات كلها فأي حاجة به إلى أن يعرف ذاته؟ فإن عادوا إلى أن
كل بريء عن المادة عقل بذاته فيعقل نفسه فقد بينا أن ذلك تحكم لا برهان عليه. قولهم الحي أشرف من الميت فإن قيل: البرهان عليه أن الموجود ينقسم إلى حي وإلى ميت، والحي أقدم وأشرف من الميت والأول أقدم واشرف، فليكن حياً وكل حي يشعر بذاته إذ يستحيل أن يكون في معلولاته الحي هو لا يكون حياً. قولنا لم يستحيل كون المعلول أشرف من العلة؟ قلنا: هذه تحكمات فإنا نقول: لم يستحيل أن يلزم مما لا يعرف نفسه ما يعرف نفسه بالوسائط الكثيرة أو بغير واسطة؟ فإن كان المحيل لذلك كون المعلول أشرف من العلة فلم يستحيل أن يكون المعلول أشرف من العلة وليس هذا بديهياً؟ فيكون شرفه لا في معرفة الذات بل في كونه مبدأ لذوات المعرفة ثم بم تنكرون أن شرفه في أن وجود الكل تابع لذاته لا في علمه؟ الدليل عليه أن غيره ربما عرف أشياء سوى ذاته ويرى ويسمع وهو لا يرى ولا يسمع. ولو قال قائل: الموجود ينقسم إلى البصير والأعمى والعالم والجاهل، فليكن البصير أقدم وليكن الأول بصيراً وعالماً بالأشياء. لكنكم تنكرون ذلك وتقولون: ليس الشرف في البصر والعلم بالأشياء بل في الاستغناء عن البصر والعلم وكون الذات بحيث يوجد منه الكل فيه العلماء وذوو الأبصار. فكذلك لا شرف في معرفة الذات بل في كونه مبدأ لذوات المعرفة وهذا شرف مخصوص به. الخاتمة ليس هناك دليل على تلك الأمور إن لم تؤخذ إلا من نظر العقل فبالضرورة يضطرون إلى نفي علمه أيضاً بذاته إذ لا يدل على شيء من ذلك سوى الإرادة ولا يدل على الإرادة سوى حدث العالم. وبفساد ذلك يفسد هذا كله على من يأخذ هذه الأمور من نظر العقل. فجميع
ما ذكروه من صفات الأول أو نفوه لا حجة لهم عليها إلا تخمينات وظنون تستنكف الفقهاء منها في الظنيات. ولا غرو لو حار العقل في الصفات الإلهية ولا عجب، إنما العجب من عجبهم بأنفسهم وبأدلتهم ومن اعتقادهم أنهم عرفوا هذه الأمور معرفة يقينية مع ما فيها من الخبط الخبال.
مسألة في إبطال قولهم إن الله تعالى عن قولهم لا يعرف الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن وما كان وما يكون اتفاقهم على هذه المسألة وقد اتفقوا على ذلك فإن من ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه فلا يخفى هذا عن مذهبه، ومن ذهب إلى أنه يعلم غيره وهو الذي اختاره ابن سينا فقد زعم أنه يعلم الأشياء علماً كلياً لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي. ولا بد أولاً من فهم مذهبهم ثم الاشتغال بالاعتراض. قولهم إن كسوف الشمس في المستقبل والحاضر والماضي نعلمه بعلوم ثلاثة ونبين هذا بمثال وهو أن الشمس مثلاً ينكسف بعد أن لم يكن منكسفاً ثم يتجلى فيحصل له ثلثة أحوال أعني الكسوف حالة هو فيها معدوم منتظر الوجود أي سيكون وحال هو فيها موجود أي هو كائن وحالة ثالثة هو فيها معدوم ولكنه كان من قبل. ولنا بإزاء الأحوال الثلثة ثلثة علوم مختلفة فإنا نعلم أولاً أن الكسوف معدوم وسيكون وثانياً أنه كائن وثالثاً أنه كان وليس كائناً الآن، وهذه العلوم الثلثة متعددة ومختلفة وتعاقبها على المحل يوجب تغير الذات العالمة فإنه لو علم بعد الانجلاء أن الكسوف موجود الآن كان جهلاً لا علماً ولو علم عند وجوده أنه معدوم كان جهلاً فبعض هذه لا يقوم مقام بعض. إن الله لا يعلم لأنه لا يتغير ... فزعموا أن الله لا يختلف حاله في هذه الأحوال الثلثة فإنه يؤدي إلى التغير، وما لم يختلف حاله لم يتصور أن يعلم هذه الأمور الثلثة فإن العلم يتبع المعلوم فإذا تغير المعلوم تغير العلم وإذا تغير العلم فقد تغير العالم لا محالة، والتغير على الله محال. ... إلا بعلم لا يختلف ومع هذا زعم أنه يعلم الكسوف وجميع صفاته وعوارضه ولكن علماً هو يتصف به في الأزل ولا يختلف مثل أن يعلم مثلاً أن الشمس موجود وأن القمر موجود فإنهما حصلا منه بواسطة الملائكة التي سموها باصطلاحهم عقولاً مجردة، ويعلم أنها تتحرك حركات دورية، ويعلم أن بين فلكيهما تقاطع على نقطتين هما الرأس والذنب وأنهما يجتمعان في بعض الأحوال في العقدتين فينكسف الشمس أي يحول جرم القمر بينهما وبين أعين الناظرين فيستتر الشمس عن الأعين، وأنه إذا جاوز العقدة مثلاً بمقدار كذى وهو سنة مثلاً فإنه ينكسف مرة أخرى وأن ذلك الإنكساف يكون في جميعه أو ثلثه أو نصفه وأنه يمكث ساعة أو ساعتين، وهكذى إلى جميع أحوال الكسوف وعوارضه، فلا يعزب عن علمه شيء ولكن علمه بهذا قبل الكسوف وحالة الكسوف وبعد الانجلاء على وتيرة واحدة لا يختلف ولا يوجب تغيراً في ذاته. فجميع الحوادث مكشوفة له انكشافاً واحداً لا يؤثر فيه الزمان وكذى علمه بجميع الحوادث فإنها إنما تحدث بأسباب وتلك الأسباب لها أسباب أخر إلى أن تنتهي إلى الحركة الدورية السماوية وسبب الحركة نفس السموات وسبب تحريك النفس الشوق إلى التشبه بالله والملائكة المقربين. فالكل معلوم له أي هو منكشف له انكشافاً واحداً متناسباً لا يؤثر فيه الزمان، ومع هذا فحالة الكسوف لا يقال: إنه يعلم أن الكسوف
موجود الآن ولا يعلم بعده أنه انجلى الآن وكل ما يجب في تعريفه الإضافة إلى الزمان فلا يتصور أن يعلمه لأنه يوجب التغير هذا فيما ينقسم بالزمان. فهو يعلم الخواص ولا يعلم عوارضها ... وكذى مذهبهم فيما ينقسم بالمادة والمكان كأشخاص الناس والحيوانات فإنهم يقولون: لا يعلم عوارض زيد وعمرو وخالد وإنما يعلم الإنسان المطلق بعلم كلي ويعلم عوارضه وخواصه، وأنه ينبغي أن يكون بدنه مركباً من أعضاء بعضها للبطش وبعضها للمشي وبعضها للإدراك وبعضها زوج وبعضها فرد، وأن قواه ينبغي أن تكون مبثوثة في أجزائه، وهلم جرا إلى كل صفة في داخل الآدمي وباطنه وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه حتى لا يعزب عن علمه شيء ويعلمه كلياً. ... وأما العوارض فلا يميزها إلا الحس فأما شخص زيد فإنما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل فإن عماد التمييز إليه الإشارة إلى جهة معينة، والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية والمكان الكلي، فأما قولنا هذا وهذا فهو إشارة إلى نسبة حاصلة لذلك المحسوس إلى الحاس بكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة وذلك يستحيل في حقه. قولنا وبذلك يستأصلون الأديان وهذه قاعدة اعتقدوها واستأصلوا بها الشرائع بالكلية إذ مضمونها
أن زيد مثلاً لو أطاع الله أو عصاه لم يكن الله عالماً بما يتجدد من أحواله لأنه لا يعرف زيداً بعينه فإنه شخص وأفعاله حادثة بعد أن لم تكن، وإذا لم يعرف الشخص لم يعرف أحواله وأفعاله بل لا يعلم كفر زيد ولا إسلامه وإنما يعلم كفر الإنسان وإسلامه مطلقاً كلياً لا مخصوصاً بالأشخاص، بل يلزم أن يقال: تحدى محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة وهو لم يعرف في تلك الحالة أنه تحدى بها، وكذلك الحال مع كل نبي معين وإنه إنما يعلم أن من الناس من يتحدى بالنبوة وأن صفة أولئك كذى وكذى فأما النبي المعين بشخصه فلا يعرفه فإن ذلك يعرف بالحس والأحوال الصادرة
منه لا يعرفها لأنها أحوال تنقسم بانقسام الزمان من شخص معين ويوجب إدراكها على اختلافها تغيراً. فهذا ما أردنا أن نذكره من نقل مذهبهم أولاً ثم تفهيمه ثانياً ثم من القبايح اللازمة عليه ثالثاً. فلنذكر الآن خبالهم ووجه بطلانه. قولهم من علم علماً مختلفاً متعاقباً تغير وخبالهم أن هذه أحوال ثلثة مختلفة والمختلفات إذا تعاقبت على محل واحد أوجبت فيه تغيراً لا محالة. فإن كان حالة الكسوف عالماً بأنه سيكون كما كان قبله
فهو جاهل لا عالم، وإن كان عالماً بأنه كائن وقبل ذلك كان عالماً بأنه ليس بكائن وأنه سيكون فقد اختلف علمه واختلف حاله فلزم التغير إذ لا معنى للتغير إلا اختلاف العالم فإن من لم يعلم شيئاً ثم علمه فقد تغير ولم يكن له علم بأنه كائن ثم حصل حالة الوجود فقد تغير. في الإضافة وحققوا هذا بأن الأحوال ثلثة حالة هي إضافة محضة، ككونك يميناً وشمالاً فإن هذا لا يرجع إلى وصف ذاتي بل هو إضافة محضة، فإن تحول الشيء الذي كان على يمينك إلى شمالك تغيرت إضافتك ولم تتغير ذاتك بحال، وهذا تبدل إضافة على الذات وليس بتبدل الذات. ومن هذا القبيل إذا كنت قادراً على تحريك أجسام حاضرة بين يديك فانعدمت الأجسام أو انعدم بعضها لم تتغير قوتك الغريزية ولا قدرتك لأن القدرة قدرة على تحريك الجسم المطلق أولاً ثم على المعين ثانياً من حيث أنه جسم، فلم تكن إضافة القدرة إلى الجسم المعين وصفاً ذاتياً بل إضافة محضة، فعدمها يوجب زوال إضافة لا تغيراً في حال القادر. والثالث تغير في الذات وهو أن لا يكون عالماً فيعلم أو لا يكون قادراً فيقدر فهذا تغير.
تغير المعلوم يوجب تغير علم العالم وهي الإضافة وتغير المعلوم يوجب تغير العلم فإن حقيقة ذات العلم تدخل فيه الإضافة إلى المعلوم الخاص إذ حقيقة العلم المعين تعلقه بذلك المعلوم المعين على ما هو عليه، فتعلقه به على وجه آخر علم آخر بالضرورة فتعاقبه يوجب اختلاف حال العالم. ولا يمكن أن يقال: إن للذات علم واحد فيصير علماً بالكون بعد كونه علماً بأنه سيكون ثم هو يصير علماً بأنه كان بعد أن كان علماً بأنه كائن، فالعلم واحد متشابه الأحوال وقد تبدلت عليه الإضافة لأن الإضافة في العلم حقيقة ذات العلم فتبدلها يوجب تبدل ذات العلم فيلزم منه التغير وهو محال على الله. قولنا ما المانع أن يكون لله علم واحد مع تغير ما ينزل منزلة الإضافة المحضة؟ والاعتراض من وجهين: أحدهما أن يقال: بم تنكرون على من يقول: إن الله تعالى له علم واحد بوجود الكسوف مثلاً في وقت معين وذلك العلم قبل وجوده علم بأنه سيكون وهو بعينه عند الوجود علم بالكون وهو بعينه بعد الانجلاء علم بالانقضاء وإن هذه الاختلافات ترجع إلى إضافات لا توجب تبدلاً في ذات العلم فلا توجب تغيراً في ذات العالم وأن ذلك ينزل منزلة الإضافة المحضة فإن الشخص الواحد يكون على يمينك ثم يرجع إلى قدامك ثم إلى شمالك فتتعاقب عليك الإضافات والمتغير ذلك الشخص المنتقل دونك؟ وهكذى ينبغي أن بفهم الحال في علم الله فإنا نسلم أنه يعلم الأشياء بعلم واحد في الأزل والأبد والحال لا يتغير وغرضهم نفي التغير وهو متفق عليه.
في إمكان الله أن يخلق لنا مثل هذا العلم وقولهم: من ضرورة إثبات العلم بالكون الآن والانقضاء بعده تغير، فليس بمسلم فمن أين عرفوا ذلك؟ بل لو خلق الله لنا علماً بقدوم زيد غداً عند طلوع الشمس وأدام هذا العلم ولم يخلق لنا علماً آخر ولا غفلة عن هذا العلم لكنا عند طلوع الشمس عالمين بمجرد العلم السابق بقدومه الآن وبعده بأنه قدم من قبل وكان ذلك العلم الواحد الباقي كافياً في الإحاطة بهذه الأحوال الثلثة. اعتراضهم فيبقى قولهم: إن الإضافة إلى المعلوم المعين داخلة في حقيقته ومهما اختلفت الإضافة اختلف الشيء الذي الإضافة ذاتية له ومهما حصل الاختلاف والتعاقب فقد حصل التغير. تقولون بأن الله لا يعلم "الإنسان المطلق" الخ فنقول: إن صح هذا فاسلكوا مسلك إخوانكم من الفلاسفة حيث قالوا: إنه لا يعلم إلا نفسه وإن علمه بذاته عين ذاته لأنه لو علم الإنسان المطلق والحيوان المطلق والجماد المطلق وهذه مختلفات لا محالة فالإضافات إليها تختلف لا محالة، فلا يصلح العلم الواحد لأن يكون علماً بالمختلفات لأن المضاف مختلف والإضافة مختلفة والإضافة إلى المعلوم ذاتية للعلم فيوجب ذلك تعدداً واختلافاً لا تعدداً فقط مع التماثل، إذ المتماثلات ما يسد بعضها مسد البعض والعلم بالحيوان لا يسد مسد العلم بالجماد ولا العلم بالبياض يسد مسد العلم بالسواد فهما مختلفان. ... فكم بالأحرى بهذا الأمر؟ ثم هذه الأنواع والأجناس والعوارض الكلية لا نهاية لها وهي مختلفة. فالعلوم المختلفة كيف تنطوي تحت علم واحد ثم ذلك العلم هو ذات العالم من غير مزيد عليه؟ وليت شعري كيف يستجير العاقل من نفسه أن يحيل الاتحاد في العلم بالشيء الواحد المنقسم أحواله إلى الماضي والمستقبل والآن وهو لا يحيل الاتحاد في العلم المتعلق بجميع الأجناس والأنواع المختلفة، والاختلاف والتباعد بين الأجناس والأنواع المتباعدة أشد من الاختلاف الواقع بين
أحوال الشيء الواحد المنقسم بانقسام الزمان؟ وإذا لم يوجب ذلك تعدداً واختلافاً كيف يوجب هذا تعدداً واختلافاً؟ ومهما ثبت بالبرهان أن اختلاف الأزمان دون اختلاف الأجناس والأنواع وأن ذلك لم يوجب التعدد والاختلاف فهذا أيضاً لا يوجب الاختلاف، وإذا لم يوجب الاختلاف جاز الإحاطة بالكل بعلم واحد دائم في الأزل والأبد ولا يوجب ذلك تغيراً في ذات العالم. هلا تعقلون قديماً متغيراً؟ الإعتراض الثاني هو أن يقال: وما المانع على أصلكم من أن يعلم هذه الأمور الجزئية وإن كان يتغير؟ وهلا اعتقدتم أن هذا النوع من التغير لا يستحيل عليه؟ كما ذهب جهم من المعتزلة إلى أن علومه بالحوادث حادثة وكما اعتقد الكرامية من عند آخرهم أنه محل الحوادث ولم ينكر جماهير أهل الحق عليهم إلا من حيث أن المتغير لا يخلوا عن التغير، وما لا يخلوا عن التغير والحوادث فهو حادث وليس بقديم. وأما أنتم فمذهبكم أن العالم قديم وأنه لا يخلوا عن التغير. فإذا عقلتم قديماً متغيراً فلا مانع لكم من هذا الإعتقاد. قولهم يكون العلم حادثاً إما من جهته أو من جهة غيره والحال أنه محال في الحالين فإن قيل: إنما أحلنا ذلك لأن العلم الحادث في ذاته لا يخلوا إما أن يحدث من جهته أو من جهة غيره، وباطل أن يحدث منه فإنا بينا أن القديم لا يصدر منه حادث ولا يصير فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً فإنه يوجب تغيراً وقد قررناه في مسألة حدث العالم، وإن حصل ذلك في ذاته من جهة غيره فكيف يكون غيره مؤثراً فيه ومغيراً له حتى تتغير أحواله على سبيل التسخر والاضطرار من جهة غيره؟
قولنا عليكم ألا ترفضوا الحال الأول ... قلنا: كل واحد من القسمين غير محال على أصلكم. أما قولكم: إنه يستحيل أن يصدر من القديم حادث، قفد أبطلناه في تلك المسألة. كيف وعندكم يستحيل أن يصدر من القديم حادث هو أول الحوادث؟ فشرط استحالته كونه أولاً، وإلا فهذه الحوادث ليست لها أسباب حادثة إلى غير نهاية بل تنتهي بواسطة الحركة الدورية إلى شيء قديم هو نفس الفلك وحياته. فالنفس الفلكية قديمة والحركة الدورية تحدث منها وكل جزء من أجزاء الحركة يحدث وينقضي وما بعده متجدد لا محالة. فإذن الحوادث صادرة من القديم عندكم ولكن إذ تشابه أحوال القديم تشابه فيضان الحوادث منه على الدوام كما يتشابه أحوال الحركة لما أن كانت تصدر من قديم متشابه الأحوال. فاستبان أن كل فريق منهم معترف بأنه يجوز صدور حادث من قديم إذا كانت تصدر على التناسب والدوام، فلتكن العلوم الحادثة من هذا القبيل. ... ولا الحال الثاني وذلك لا للزوم التغير ... وأما القسم الثاني وهو صدور هذا العلم فيه من غيره فنقول: ولم يستحيل ذلك عندكم؟ وليس فيه إلا ثلثة أمور: أحدها التغير وقد بينا لزومه على أصلكم. ... ولا لحدوث التغير من جهة غيره ... والثاني كون الغير سبباً لتغير الغير وهو غير محال عندكم فليكن حدوث الشيء سبباً لحدوث العلم به كما أنكم تقولون: تمثل الشخص المتلون بإزاء الحدقة الباصرة سبب لانطباع مثال الشخص في الطبقة الجليدية من الحدقة عند توسط الهواء المشف بين الحدقة والمبصر. فإذا جاز أن يكون جماد سبباً لانطباع الصورة في الحدقة وهو معنى الإبصار فلم يستحيل أن يكون حدوث الحوادث سبباً لحصول علم الأول بها؟ فإن القوة الباصرة كما أنها مستعدة للإدراك ويكون حصول الشخص
المتلون مع ارتفاع الحواجز سبباً لحصول الإدراك فليكن ذات المبدأ الأول عندكم مستعداً لقبول العلم ويخرج من القوة إلى الفعل بوجود ذلك الحادث. فإن كان فيه تغير القديم فالقديم المتغير عندكم غير مستحيل، وإن زعمتم أن ذلك يستحيل في واجب الوجود فليس لكم على إثبات واجب الوجود دليل إلا قطع سلسلة العلل والمعلولات كما سبق. وقد بينا أن قطع التسلسل ممكن بقديم متغير. ... ولا "لتسخر" القديم والأمر الثالث الذي يتضمنه هذا هو كون القديم متغيراً بغيره وإن ذلك يشبه التسخر واستيلاء الغير عليه فيقال: ولم يستحيل عندكم هذا وهو أن يكون هو سبباً لحدوث الحوادث بوسائط ثم يكون حدوث الحوادث سبباً لحصول العلم له بها فكأنه هو السبب في تحصيل العلم لنفسه ولكن بالوسائط؟. تقولون إن ما يصدر من الله يصور على سبيل اللزوم والطبع وقولكم إن ذلك يشبه التسخر، فليكن كذلك فإنه لائق بأصلكم إذ زعمتم أن ما يصدر من الله يصدر على سبيل اللزوم والطبع ولا قدرة له على أن لا يفعل. وهذا أيضاً يشبه نوعاً من التسخر ويشير إلى أنه كالمضطر في ما يصدر منه. قولهم كماله في أن يكون مصدر الكل فإن قيل: إن ذلك ليس باضطرار لأن كماله في أن يكون مصدراً لجميع الأشياء. قولنا ... وفي أن يعلم الكل فهذا ليس بتسخر فإن كماله في أن يعلم جميع الأشياء ولو حصل لنا علم مقارن لكل حادث لكان ذلك كمالاً لنا لا نقصاناً وتسخراً. فليكن كذلك في حقه.
مسألة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن السماء حيوان مطيع لله تعالى بحركته الدورية قولهم وقد قالوا إن السماء حيوان وإن له نفساً نسبته إلى بدن السماء كنسبة نفوسنا إلى أبداننا، وكما أن أبداننا تتحرك بالإرادة نحو أغراضها بتحريك النفس فكذى السموات، وإن غرض السموات بحركتها الذاتية عبادة رب العالمين على وجه سنذكره. لا ينكر إمكانه ومذهبهم في هذه المسألة مما لا ينكر إمكانه ولا يدعى استحالته فإن الله قادر على أن يخلق الحياة في كل جسم فلا كبر الجسم يمنع من كونه حياً ولا كونه مستديراً فإن الشكل المخصوص ليس شرطاً للحياة إذ الحيوانات مع اختلاف أشكالها مشتركة في قبول الحياة. ولكن لا يعرف بدليل العقل ولكنا ندعى عجزهم عن معرفة ذلك بدليل العقل وإن هذا إن كان صحيحاً فلا يطلع عليه إلا الأنبياء بإلهام من الله أو وحي وقياس العقل ليس يدل عليه. نعم لا يبعد أن يتعرف مثل ذلك بدليل إن وجد الدليل وساعد، ولكنا نقول ما أوردوه دليلاً لا يصلح إلا لإفادة ظن، فأما أن يفيد قطعاً فلا. الضلال في قولهم بأن السماء متحرك وخبالهم فيه أن قالوا: السماء متحرك وهذه مقدمة حسية. وكل جسم متحرك فله محرك وهذه مقدمة عقلية إذ لو كان الجسم يتحرك لكونه جسماً لكان كل جسم متحركاً. كل متحرك إما أن يكون قسرياً أو طبيعياً أو إرادياً وكل محرك فإما أن يكون منبعثاً عن ذات المتحرك كالطبيعة في
حركة الحجر إلى أسفل والإرادة في حركة الحيوان مع القدرة، وإما أن يكون المحرك خارجاً ولكن يحرك على طريق القسر كدفع الحجر إلى فوق. وكل ما يتحرك بمعنى في ذاته فإما أن لا يشعر ذلك الشيء بالحركة ونحن نسميه طبيعة كحركة الحجر إلى أسفل، وإما أن يشعر به ونحن نسميه إرادياً ونفسانياً فصارت الحركة بهذه التقسيمات الحاصرة الدائرة بين النفي والإثبات إما قسرية طبيعية وإما طبيعية وإما إرادية، وإذا بطل قسمان تعين الثالث. ولا يمكن أن يكون قسرياً ولا يمكن أن يكون قسرياً لأن المحرك القاسر إما جسم آخر يتحرك بالإرادة أو بالقسر وينتهي لا محالة إلى إرادة، ومهما أثبت في أجسام السموات متحرك بالإرادة فقد حصل الغرض، فأي فائدة في وضع حركات قسرية وبالآخرة لا بد من الرجوع إلى الإرادة، وإما أن يقال: إنه يتحرك بالقسر والله هو المحرك بغير واسطة وهو محال، لأنه لو تحرك به من حيث أنه جسم وأنه خالقه للزم أن يتحرك كل جسم فلا بد وأن تختص الحركة بصفة به يتميز عن غيره من الأجسام وتلك الصفة هي المحرك القريب إما بالإرادة أو الطبع. ولا يمكن أن يقال إن الله يحركه بالإرادة لأن إرادته تناسب الأجسام نسبة واحدة، فلم استعد هذا الجسم على الخصوص لأن يراد تحريكه دون غيره؟ ولا يمكن أن يكون ذلك جزافاً فإن ذلك محال كما سبق في مسألة حدث العالم وإذا ثبت أن هذا الجسم ينبغي أن يكون فيه صفة هو مبدأ الحركة بطل القسم الأول وهو تقدير الحركة القسرية. ولا أن يكون طبيعياً لأنه يعود إلى المكان المهروب عنه. فهو إذا إرادياً فيبقى أن يقال: هي طبيعية وهو غير ممكن لأن الطبيعة بمجردها قط لا تكون سبباً للحركة لأن معنى الحركة هرب من مكان وطلب لمكان آخر، فالمكان الذي فيه الجسم إن كان ملائماً له فلا يتحرك عنه ولهذا لا يتحرك زق مملوء من الهواء على وجه الماء، وإذا غمس في الماء تحرك إلى وجه الماء فإنه وجد المكان الملائم فسكن والطبيعة
قائمة، ولكن إن نقل إلى مكان لا يلائمه هرب منه إلى الملائم كما هرب من وسط الماء إلى حيز الهواء. والحركة الدورية لا يتصور أن تكون طبيعية لأن كل وضع وأين يفرض الهرب منه فهو عائد إليه، والمهروب عنه بالطبع لا يكون مطلوباً بالطبع ولذلك لا ينصرف زق الهواء إلى باطن الماء ولا الحجر ينصرف بعد الاستقرار على الأرض فيعود إلى الهوى. فلم يبق إلا القسم الثالث وهي الحركة الإرادية. الاعتراض هناك ثلاث احتمالات أخرى أن تكون حركة السماء بجسم غير سماوي الاعتراض هو أنا نقول: نحن نقرر ثلث احتمالات سوى مذهبكم لا برهان على بطلانها. الأول أن يقدر حركة السماء قهراً لجسم آخر مريد لحركتها يديرها على الدوام وذلك الجسم المحرك لا يكون كرة ولا يكون محيطاً فلا يكون سماء، فيبطل قولهم إن حركة السماء إرادية وإن السماء حيوان. وهذا الذي ذكرناه ممكن وليس في دفعه إلا مجرد استبعاد. أو تكون بإرادة الله الثاني هو أن يقال الحركة قسرية ومبدؤها إرادة الله، فإنا نقول: حركة الحجر إلى أسفل أيضاً قسري يحدث بخلق الله الحركة فيه، وكذى القول في سائر حركات الأجسام التي ليست حيوانية. والاعتراض على الإرادة قد أبطلناه فيبقى استبعادهم أن الإرادة لم اختصت به وسائر الأجسام تشاركها في الجسمية فقد بينا أن الإرادة القديمة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله وأنهم مضطرون إلى إثبات صفة هذا شأنها في تعيين جهة الحركة الدورية وفي تعيين موضع القطب والنقطة فلا نعيده والقول الوجيز إن ما استبعدوه في اختصاص الجسم بتعلق الإرادة به من غير تميز بصفة ينقلب عليهم في تميزه بتلك الصفة، فإنا نقول: ولم
تميز جسم السماء بتلك الصفة التي بها فارق غيره من الأجسام، وسائر الأجسام أيضاً أجسام؟ فلم حصل فيه ما لم يحصل في غيره؟ فإن علل ذلك بصفة أخرى توجه السؤال في الصفة الأخرى، وهكذى يتسلسل إلى غير نهاية فيضطرون بالآخرة إلى التحكم في الإرادة وأن في المبادئ ما يميز الشيء عن مثله ويخصصه بصفة عن أمثاله. أو تكون بالطبع وبدون أن تشعر لا لطلب المكان ولا للهرب منه الثالث هو أن يسلم أن السماء اختص بصفة تلك الصفة مبدأ الحركة كما اعتقدوه في هوى الحجر إلى أسفل إلا أنه لا يشعر به كالحجر. وقولهم: إن المطلوب بالطبع لا يكون مهروباً عنه بالطبع، فتلبيس لأنه ليس ثم أماكن متفاصلة بالعدد عندهم بل الجسم واحد والحركة الدورية واحدة فلا للجسم جزء بالفعل ولا للحركة جزء بالفعل وإنما يتجزى بالوهم، فليست تلك الحركة لطلب المكان ولا للهرب من المكان. فيمكن أن يخلق جسم وفي ذاته معنى يقتضي حركة دورية وتكون الحركة نفسها مقتضى ذلك المعنى لا أن مقتضى المعنى طلب المكان، ثم تكون حركة للوصول إليه. الحركة نفس المقتضى لا لطلب مكان وقولكم: إن كل حركة فهو لطلب مكان أو هرب منه إذا كان ضرورياً، فكأنكم جعلتم طلب المكان مقتضى الطبع وجعلتم الحركة غير مقصودة في نفسها بل وسيلة إليه ونحن نقول: لا يبعد أن تكون الحركة نفس المقتضى لا لطلب مكان، فما الذي يحيل ذلك؟ الخلاصة فاستبان أن ما ذكروه إن ظن أنه أغلب من احتمال آخر فلا يتيقن قطعاً انتفاء غيره. فالحكم على السماء بأنه حيوان تحكم محض لا مستند له.
مسألة في إبطال ما ذكروه من الغرض المحرك للسماء قولهم إن السماء متقرب إلى الله وقد قالوا: إن السماء مطيع لله بحركته ومتقرب إليه لأن كل حركة بالإرادة فهو لغرض إذ لا يتصور أن يصدر الفعل والحركة من حيوان إلا إذا كان الفعل أولى به من الترك وإلا فلو استوى الفعل والترك لما تصور الفعل. في الكمال ثم التقرب إلى الله ليس معناه طلب الرضا والحذر من السخط فإن الله يتقدس عن السخط والرضا وإن أطلق هذه الألفاظ فعلى سبيل المجاز يكني بها عن إرادة العقاب وإرادة الثواب، ولا يجوز أن يكون التقرب بطلب القرب منه في المكان فإنه محال فلا يبقى إلا طلب القرب في الصفات، فإن الوجود الأكمل وجوده وكل وجود فبالإضافة إلى وجوده ناقص وللنقصان درجات وتفاوت فالملك أقرب إليه صفة لا مكاناً، وهو المراد بالملائكة المقربين أي الجواهر العقلية التي لا تتغير ولا تفنى ولا تستحيل وتعلم الأشياء على ما هي عليه، والإنسان كلما ازداد قرباً من الملك في الصفات ازداد قرباً من الله، ومنتهى طبقة الآدميين التشبه بالملائكة. الملائكة المقربون كمالهم لا يزداد وإذا ثبت أن هذا معنى التقرب إلى الله وأنه يرجع إلى طلب القرب منه في الصفات وذلك للآدمي بأن يعلم حقائق الأشياء وبأن يبقى بقاءً مؤبداً على أكمل أحواله الممكن له، فإن البقاء على الكمال الأقصى هو الله. والملائكة المقربون كل ما يمكن لهم من الكمال فهو حاضر معهم في الوجود إذ ليس فيهم شيء بالقوة حتى يخرج إلى الفعل، فإذن كمالهم في الغاية القصوى بالإضافة إلى ما سوى الله.
والملائكة السماوية يزداد كمالهم بتحريك السماء ويتشبهون بالله والملائكة السماوية هي عبارة عن النفوس المحركة للسموات وفيها ما بالقوة، وكمالاتها منقسمة إلى ما هو بالفعل كالشكل الكري والهيئة وذلك حاضر وإلى ما هو بالقوة وهو الهيئة في الوضع والأين. وما من وضع معين إلا وهو ممكن له ولكن ليست له سائر الأوضاع بالفعل فإن الجمع بين جميعها غير ممكن، فلما لم يمكنها استيفاء آحاد الأوضاع على الدوام قصد استيفاءها بالنوع فلا يزال يطلب وضعاً بعد وضع وأيناً بعد أين ولا ينقطع قط هذا الإمكان فلا تنقطع هذه الحركات وإنما قصده التشبه بالمبدأ الأول في نيل الكمال الأقصى على حسب الإمكان في حقه وهو معنى طاعة الملائكة السماوية لله. فإنهم يستوفون كل وضع ممكن، فيفيض منه الخير وقد حصل لها التشبه من وجهين: أحدهما استيفاء كل وضع ممكن له بالنوع وهو المقصود بالقصد الأول. والثاني ما يترتب على حركته من اختلاف النسب في التثليث والتربيع والمقارنة والمقابلة واختلاف الطوالع بالنسبة إلى الأرض فيفيض منه الخير على ما تحت فلك القمر ويحصل منه هذه الحوادث كلها، فهذا وجه استكمال النفس السماوية. وكل نفس عاقلة فمتشوقة إلى الاستكمال بذاتها. الاعتراض الانتقال من مكان إلى مكان ليس كمالاً والاعتراض على هذا هو أن في مقدمات هذا الكلام ما يمكن النزاع فيه، ولكنا لا نطول به ونعود إلى الغرض الذي عنيتموه آخراً ونبطله من وجهين. أحدهما أن طلب الاستكمال بالكون في كل أين يمكن أن يكون له حماقة لا طاعة، وما هذا إلا كإنسان لم يكن له شغل وقد كفي المؤونة في شهواته وحاجاته فقام وهو يدور في بلد أو بيت ويزعم أنه يتقرب
إلى الله فإنه يستكمل بأن يحصل لنفسه الكون في كل مكان أمكن، وزعم أن الكون في الأماكن ممكن لي ولست أقدر على الجمع بينها بالعدد فأستوفيه بالنوع فإن فيه استكمالاً وتقرباً، فيسفه عقله فيه ويحمل على الحماقة ويقال: الانتقال من حيز إلى حيز ومن مكان إلى مكان ليس كمالاً يعتد به أو يتشوف إليه، ولا فرق بين ما ذكروه وبين هذا. لماذا لا تختلف الحركة؟ والثاني هو أنا نقول: ما ذكرتموه من الغرض حاصل بالحركة المغربية فلم كانت الحركة الأولى مشرقية وهلا كانت حركات الكل إلى جهة واحدة؟ فإن كان في اختلافها غرض فهلا اختلفت بالعكس فكانت التي هي مشرقية مغربية والتي هي مغربية مشرقية؟ فإن كل ما ذكروه من حصول الحوادث باختلاف الحركات من التثليثات والتسديسات وغيرها يحصل بعكسه. وكذى ما ذكروه من استيفاء الأوضاع والأيون كيف ومن الممكن لها الحركة إلى الجهة الأخرى فما بالها لا تتحرك مرة من جانب ومرة من جانب استيفاء لما يمكن لها إن كان في استيفاء كل ممكن كمال؟ هذه الأمور يطلع عليها على سبيل الإلهام لا على سبيل الاستدلال فدل أن هذه خيالات لا حاصل لها وأن أسرار ملكوت السموات لا يطلع عليه بأمثال هذه الخيالات وإنما يطلع الله عليه أنبياءه وأولياءه على سبيل الإلهام لا على سبيل الاستدلال ولذلك عجز الفلاسفة من عند آخرهم عن بيان السبب في جهة الحركة واختيارها. الاستكمال بالحركة - وبهذه الحركة إفاضة الخير وقال بعضهم: لما كان استكمالها يحصل بالحركة من أي جهة كانت وكان انتظام الحوادث الأرضية يستدعي اختلاف حركات وتعين جهات، كان الداعي لها إلى أصل الحركة التقرب إلى الله والداعي إلى جهة الحركة إفاضة الخير على العالم السفلي. قولنا قد يكون بالسكون وهذا باطل من وجهين. أحدهما أن ذلك إن أمكن أن يتخيل فليقض بأن مقتضى طبعه السكون احترازاً عن الحركة والتغير وهو التشبه بالله على التحقيق فإنه مقدس عن التغير والحركة تغير، ولكنه اختار الحركة لإفاضة الخير فإنه كان ينتفع به غيره وليس يثقل عليه الحركة وليس تتعبه، فما المانع من هذا الخيال؟ أو باختلاف الحركات والثاني أن الحوادث تنبنى على اختلاف النسب المتولدة من اختلاف جهات الحركات، فلتكن الحركة الأولى مغربية وما عداها مشرقية وقد حصل به الاختلاف ويحصل به تفاوت النسب. فلم تعينت جهة واحدة، وهذه الاختلافات لا تستدعي إلا أصل الاختلاف، فأما جهة بعينها فليس بأولى من نقيضها في هذا الغرض. مسألة في إبطال قولهم إن نفوس السموات مطلعة على جميع الجزئيات الحادثة في هذا العالم وإن المراد باللوح المحفوظ نفوس السموات وإن انتقاش جزئيات العالم فيها يضاهي انتقاش المحفوظات في القوة الحافظة المودعة في دماغ الإنسان، لا أنه جسم صلب عريض مكتوب عليه الأشياء كما يكتبه الصبيان على اللوح لأن تلك الكتابة يستدعي كثرتها اتساع المكتوب عليه. وإذا لم يكن للمكتوب نهاية لم يكن للمكتوب عليه نهاية، ولا يتصور جسم لا نهاية له ولا يمكن خطوط لا نهاية لها على جسم ولا يمكن تعريف أشياء لا نهاية لها بخطوط معدودة. مذهبهم وقد زعموا أن الملائكة السماوية هي نفوس السموات وأن الملائكة الكرويين المقربين هي العقول المجردة التي هي جواهر قائمة بأنفسها لا تتحيز ولا تتصرف في الأجسام وأن هذه الصور الجزئية تفيض على النفوس السماوية منها وهي أشرف من الملائكة السماوية لأنها مفيدة وهي مستفيدة والمفيد أشرف من المستفيد، ولذلك عبر عن الأشرف بالقلم فقال تعالى: علم بالقلم، لأنه كالنقاش المفيد مثل المعلم وشبه المستفيد باللوح. هذا مذهبهم. هو محال، فنطالبهم بالدليل عليه والنزاع في هذه المسألة يخالف النزاع فيما قبلها فإن ما ذكروه من قبل ليس محالاً إذ منتهاه كون السماء حيواناً متحركاً لغرض وهو ممكن. أما هذه فترجع إلى إثبات علم لمخلوق بالجزئيات التي لا نهاية لها وهذا ربما يعتقد
استحالته فنطالبهم بالدليل عليه فإنه تحكم في نفسه. استدلالهم إرادة الحركة بإرادة دورية جزئية استدلوا فيه بأن قالوا: ثبت أن الحركة الدورية إرادية والإرادة تتبع المراد والمراد الكلي لا يتوجه إليه إلا إرادة كلية والإرادة الكلية لا يصدر منها شيء فإن كل موجود بالفعل معين جزئي والإرادة الكلية نسبتها إلى آحاد الجزئيات على وتيرة واحدة فلا يصدر عنها شيء جزئي بل لا بد من إرادة جزئية للحركة المعينة. فهي تدرك الجزئيات بإدراك جزئي فللفلك بكل حركة جزئية معينة من نقطة إلى نقطة معينة إرادة جزئية لتلك الحركة فله لا محالة تصور لتلك الحركات الجزئية بقوة جسمانية إذ الجزئيات لا تدرك إلا بالقوى الجسمانية، فإن كل إرادة فمن ضرورتها تصور لذلك المراد أي علم به سواء كان جزئياً أو كلياً. وبالتالي تدرك لوازمها ومهما كان للفلك تصور لجزئيات الحركات وإحاطة بها أحاط لا محالة بما يلزم منها من اختلاف النسب مع الأرض من كون بعض أجزائه طالعة وبعضها غاربة وبعضها في وسط سماء قوم وتحت قدم قوم، وكذلك يعلم ما يلزم من اختلاف النسب التي تتجدد بالحركة من التثليث والتسديس والمقابلة والمقارنة إلى غير ذلك من الحوادث السماوية إما بغير واسطة وإما بواسطة واحدة وإما بوسائط كثيرة. وعلى الجملة فكل حادث فله سبب حادث إلى أن ينقطع التسلسل بالارتقاء إلى الحركة السماوية الأبدية التي بعضها سبب للبعض. فإذن الأسباب والمسببات في سلسلتها تنتهي إلى الحركات الجزئية السماوية فالمتصور للحركات متصور للوازمها ولوازم لوازمها إلى آخر السلسلة. وبالتالي تدرك كل ما سيحدث فبهذا يطلع على ما يحدث فإن كل ما سيحدث فحدوثه واجب عن علته مهما تحققت العلة.
ونحن إنما لا نعلم ما يقع في المستقبل لأنا لا نعلم جميع أسبابها ولو علمنا جميع الأسباب لعلمنا المسببات، فإنا مهما علمنا أن النار سيلتقي بالقطن مثلاً في وقت معين فنعلم احتراق القطن ومهما علمنا أن شخصاً سيأكل فنعلم أنه سيشبع، وإذا علمنا أن شخصاً سيتخطى الموضع الفلاني الذي فيه كنز مغطى بشيء خفيف إذا مشى عليه الماشي تعثر رجله بالكنز وعرفه فنعلم أنه سيستغني بوجود الكنز. ولكن هذه الأسباب لا نعلمها وربما نعلم بعضها فيقع لنا حدس بوقوع المسبب فإن عرفنا أغلبها وأكثرها حصل لنا ظن ظاهر بالوقوع. فلو حصل لنا العلم بجميع الأسباب لحصل بجميع المسببات، إلا أن السماويات كثيرة ثم لها اختلاط بالحوادث الأرضية وليس في القوة البشرية الاطلاع عليه، ونفوس السموات مطلعة عليها لاطلاعها على السبب الأول ولوازمها ولوازم لوازمها إلى آخر السلسلة. قولهم يرى النائم ما يكون في المستقبل وذلك باتصاله باللوح المحفوظ، أي بنفس الفلك ولهذا زعموا: يرى النائم في نومه ما يكون في المستقبل وذلك باتصاله باللوح المحفوظ ومطالعته، ومهما اطلع على الشيء ربما بقي ذلك بعينه في حفظه وربما تسارعت القوة المتخيلة إلى محاكاتها فإن من غريزتها محاكاتها الأشياء بأمثلة تناسبها بعض المناسبة أو الانتقال منها إلى أضدادها فينمحى المدرك الحقيقي عن الحفظ ويبقى مثال الخيال في الحفظ فيحتاج إلى تعبير ما يمثل الخيال الرجل بشجر والزوجة بخف والخادم ببعض أواني الدار وحافظ مال البر والصدقات بزيت البذر فإن البذر سبب للسراج الذي هو سبب الضياء، وعلم التعبير يتشعب عن هذا الأصل. وهذا الاتصال مشغولون عنه في يقظتنا بما تورده الحواس وزعموا أن الاتصال بتلك النفوس مبذول إذ ليس ثم حجاب ولكنا في يقظتنا مشغولون بما تورده الحواس والشهوات علينا، فاشتغالنا بهذه الأمور الحسية صرفنا عنه، وإذا سقط عنا في النوم بعض اشتغال الحواس ظهر به استعداد ما للاتصال.
والنبي يرى في اليقظة وزعموا أن النبي مطلع على الغيب بهذا الطريق أيضاً. إلا أن القوة النفسية النبوية قد تقوى قوة لا تستغرقها الحواس الظاهرة، فلا جرم يرى هو في اليقظة ما يراه غيره في المنام. ثم القوة الخيالية تمثل له ما رآه، وربما يبقى الشيء بعينه في ذكره وربما يبقى مثاله، فيفتقر مثل هذا الوحي إلى التأويل كما يفتقر مثل ذلك المنام إلى التعبير. ولولا أن جميع الكائنات ثابتة في اللوح المحفوظ لما عرف الأنبياء الغيب في يقظة ولا منام، لكن جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ومعناه هذا الذي ذكرناه. فهذا ما أردنا أن نورده لتفهيم مذهبهم. جوابنا لا دليل لكم في هذا عن النبي والجواب أن نقول: بم تنكرون على من يقول إن النبي يعرف الغيب بتعريف الله على سبيل الابتداء؟ وكذى من يرى في المنام فإنما يعرفه بتعريف أو بتعريف ملك من الملائكة فلا يحتاج إلى شيء مما ذكرتموه، فلا دليل في هذا ولا دليل لكم في ورود الشرع باللوح والقلم فإن أهل الشرع لم يفهموا من اللوح والقلم هذا المعنى قطعاً، فلا متمسك في الشرعيات يبقي التمسك بمسالك العقول. وما ذكرتموه وإن اعترف بإمكانه مهما لم يشترط نفي النهاية عن هذه المعلومات فلا يعرف وجوده ولا يتحقق كونه، وإنما السبيل فيه أن يتعرف من الشرع لا من العقل. ننازع في ثلاث من المقدمات وأما ما ذكرتموه من الدليل العقلي أولاً فمبني على مقدمات كثيرة لسنا نطول بإبطالها ولكننا ننازع في ثلث مقدمات منها: تكلمنا عن حركة الفلك الإرادية المقدمة الأولى قولكم إن حركة السماء إرادية. وقد فرغنا من هذه المسألة وإبطال دعواكم فيها.
لا نسلم افتقار الإدراك إلى إرادة جزئية الثانية أنه إن سلم ذلك مسامحة به فقولكم إنه يفتقر إلى تصور جزئي للحركات الجزئية فغير مسلم، بل ليس ثم جزء عندكم في الجسم فإنه شيء واحد وإنما يتجزا بالوهم ولا في الحركة فإنها واحدة بالاتصال فيكفي تشوقها إلى استيفاء الأيون الممكنة لها كما ذكروه ويكفيها التصور الكلي والإرادة الكلية. نسلم هذا في شأن المتوجه إلى مكان ولنمثل للإرادة الكلية والجزئية مثالاً لتفهيم غرضهم. فإذا كان للإنسان غرض كلي في أن يحج بيت الله مثلاً فهذه الإرادة الكلية لا يصدر منها الحركة لا الحركة تقع جزئية في جهة مخصوصة بمقدار مخصوص بل لا يزال يتجدد للإنسان في توجهه إلى البيت تصور بعد تصور للمكان الذي يتخطاه والجهة التي يسلكها، ويتبع كل تصور جزئي إرادة جزئية للحركة عن المحل الموصول إليه بالحركة. فهذا ما أرادوه بالإرادة الجزئية التابعة للتصور الجزئي وهو مسلم لأن الجهات متعددة في التوجه إلى مكة والمسافة غير متعينة، فيفتقر تعين مكان عن مكان وجهة عن جهة إلى إرادة أخرى جزئية. لا في شأن الفلك وأما الحركة السماوية فلها وجه واحد فإن الكرة إنما تتحرك على نفسها وفي حيزها لا تجاوزها، والحركة مرادة وليس ثم إلا وجه واحد وجسم واحد وصوب واحد، فهو كهوى الحجر إلى أسفل فإنه يطلب الأرض في أقرب طريق، وأقرب الطرق الخط المستقيم، فتعين الخط المستقيم فلو يفتقر فيه إلى تجدد سبب حادث سوى الطبيعة الكلية الطالبة للمركز مع تجدد القرب والبعد والوصول إلى حد والصدور عنه، فكذلك يكفي في تلك الحركة الإرادة الكلية للحركة ولا يفتقر إلى مزيد.
فهذه مقدمة تحكموا بوضعها. نبطل معرفة لوازم الحركة المقدمة الثالثة وهي التحكم البعيد جداً قولهم إنه إذا تصور الحركات الجزئية تصور أيضاً توابعها ولوازمها، وهذا هوس محض كقول القائل إن الإنسان إذا تحرك وعرف حركته ينبغي أن يعرف ما يلزم من حركته من موازاة ومجاوزة، وهو نسبته إلى الأجسام التي فوقه وتحته ومن جوانبه، وأنه إذا مشى في شمس ينبغي أن يعلم المواضع التي عليها ظله والمواضع التي لا يقع وما يحصل من ظله من البرودة بقطع الشعاع في تلك المواضع وما يحصل من الإنضغاط لأجزاء الأرض تحت قدمه وما يحصل من التفرق فيها وما يحصل في أخلاطه في الباطن من الاستحالة بسبب الحركة إلى الحرارة وما يستحيل من أجزائه إلى العرق وهلم جرا إلى جميع الحوادث في بدنه وفي غيره من بدنه مما الحركة علة فيه أو شرط أو مهيء ومعد، وهو هوس لا يتخيله عاقل ولا يغتر به إلا جاهل، وإلى هذا يرجع هذا التحكم. الجزئيات المعلولة لنفس الفلك قد لا تكون الموجودة في الحال فقط. على أنا نقول: هذه الجزئيات المفصلة المعلومة لنفس الفلك هي الموجودة في الحال أو ينضاف إليها ما يتوقع كونها في الاستقبال. فإن قصرتموه على الموجود في الحال بطل إطلاعه على الغيب وإطلاع الأنبياء في اليقظة وسائر الخلق في النوم على ما سيكون في الاستقبال بواسطة، ثم بطل مقتضى الدليل فإنه تحكم بأن من عرف الشيء عرف لوازمه وتوابعه، حتى لو عرفنا جميع أسباب الأشياء لعرفنا جميع الحوادث المستقبلة، وأسباب جميع الحوادث حاضرة في الحال فإنها هي الحركة السماوية ولكن تقتضي المسبب إما بواسطة أو بوسائط كثيرة. ولا في الاستقبال إلى غير نهاية. وإذا تعدى إلى المستقبل لم يكن له آخر فكيف يعرف تفصيل
الجزئيات في الاستقبال إلى غير نهاية وكيف يجتمع في نفس مخلوق في حالة واحدة من غير تعاقب علوم جزئية مفصلة لا نهاية لأعدادها ولا غاية لآحادها؟ ومن لا يشهد له عقله باستحالة ذلك فلييأس من عقله. نفس الفلك أشبه بنفس الإنسان فإن قلبوا هذا علينا في علم الله فليس تعلق علم الله بالاتفاق بمعلوماته على نحو تعلق العلوم التي هي للمخلوقات، بل مهما دار نفس الفلك دورة نفس الإنسان كان من قبيل نفس الإنسان فإنه شاركه في كونه مدركاً للجزئيات بواسطة، فإن لم يلتحق به قطعاً كان الغالب على الظن أنه من قبيله، فإن لم يكن غالباً على الظن فهو ممكن، والإمكان يبطل دعواهم القطع بما قطعوا به. قولهم إن نفس الإنسان تدرك جميع الأشياء لولا انشغالها فإن قيل: حق النفس الإنسانية في جوهرها أن تدرك أيضاً جميع الأشياء ولكن اشتغالها بنتائج الشهوة والغضب والحرص والحقد والحسد والجوع والألم وبالجملة عوارض البدن وما يورده الحواس عليه، حتى إذا أقبلت النفس الإنسانية على شيء واحد شغلها عن غيره. وأما النفوس الفلكية فبرية عن هذه الصفات لا يعتريها شاغل ولا يستغرقها هم وألم وإحساس فعرفت جميع الأشياء. قولنا لعل نفس الفلك تنشغل قلنا: وبم عرفتم أنه لا شاغل لها؟ وهلا كانت عبادتها واشتياقها إلى الأول مستغرقاً لها وشاغلاً لها عن تصور الجزئيات المفصلة؟ أو ما الذي يحيل تقدير مانع آخر سوى الغضب والشهوة وهذه الموانع المحسوسة؟ ومن أين عرف انحصار المانع في القدر الذي شاهدناه من أنفسنا، وفي العقلاء شواغل من علو الهمة وطلب الرئاسة ما يستحيل تصوره عند الأطفال ولا يعتقدونها شاغلاً ومانعاً، فمن أين يعرف استحالة
ما يقوم مقامها في النفوس الفلكية؟ فهذا ما أردنا أن نذكره في "العلوم الإلهية" هذا ما أردنا أن نذكره في العلوم الملقبة عندهم بالإلهية.
أما الملقب بالطبيعيات وهي علوم كثيرة وصفها نذكر أقسامها ليعرف أن الشرع ليس يقتضي المنازعة فيها ولا إنكارها إلا في مواضع ذكرناها. وهي منقسمة إلى أصول وفروع. و أصولها ثمانية أقسام: أصولها ثمانية الأول يذكر فيه ما يلحق الجسم من حيث أنه جسم من الانقسام والحركة والتغير، وما يلحق الحركة ويتبعه من الزمان والمكان والخلاء، ويشتمل عليه كتاب سمع الكيان. الثاني يعرف أحوال أقسام أركان العالم التي هي السموات وما في مقعر فلك القمر من العناصر الأربعة وطبائعها وعلة استحقاق كل واحد منها موضعاً متعيناً، ويشتمل عليه كتاب السماء والعالم. الثالث يعرف فيه أحوال الكون والفساد والتولد والتوالد والنشوء والبلى والاستحالات وكيفية استبقاء الأنواع على فساد الأشخاص بالحركتين السماويتين الشرقية والغربية، ويشتمل عليه كتاب الكون والفساد. الرابع في الأحوال التي تعرض للعناصر الأربعة من الإمتزاجات التي منها تحدث الآثار العلوية من الغيوم والأمطار والرعد والبرق والهالة وقوس قزح والصواعق والرياح والزلازل. الخامس في الجواهر المعدنية. السادس في أحكام النبات.
السابع في الحيوانات وفيه كتاب طبائع الحيوانات. الثامن في النفس الحيوانية والقوى الدراكة وأن نفس الإنسان لا يموت بموت البدن وأنه جوهر روحاني يستحيل عليه الفناء. وفروعها سبعة أما فروعها فسبعة: الأول الطب ومقصوده معرفة مبادئ بدن الإنسان وأحواله من الصحة والمرض وأسبابها ودلائلها ليدفع المرض ويحفظ الصحة. الثاني في أحكام النجوم وهو تخمين في الاستدلال من أشكال الكواكب وامتزاجاتها على ما يكون من أحوال العالم والملك والمواليد والسنين. الثالث علم الفراسة وهو استدلال من الخلق على الأخلاق. الرابع التعبير وهو استدلال من المتخيلات الحلمية على ما شاهدته النفس من عالم الغيب فخيلته القوة المتخيلة بمثال غيره. الخامس علم الطلسمات وهو تأليف للقوى السماوية بقوى بعض الأجرام الأرضية ليأتلف من ذلك قوة تفعل فعلاً غريباً في العالم الأرضي. السادس علم النيرنجات وهو مزج قوى الجواهر الأرضية ليحدث منه أمور غريبة. السابع علم الكيمياء ومقصوده تبديل خواص الجواهر المعدنية ليتوصل إلى تحصيل الذهب والفضة بنوع من الحيل. لا نخالفهم شرعاً في شيء منها وليس يلزم مخالفتهم شرعاً في شيء من هذه العلوم وإنما نخالفهم من جملة هذه العلوم في أربعة مسائل: نخالفهم في أربعة مسائل الأولى حكمهم بأن هذا الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب
والمسببات اقتران تلازم بالضرورة، فليس في المقدور ولا في الإمكان إيجاد السبب دون المسبب ولا وجود المسبب دون السبب. الثانية قولهم إن النفوس الإنسانية جواهر قائمة بأنفسها ليست منطبعة في الجسم وإن معنى الموت انقطاع علاقتها عن البدن بانقطاع التدبير وإلا فهو قائم بنفسه في كل حال. وزعموا أن ذلك عرف بالبرهان العقلي. الثالثة قولهم إن هذه النفوس يستحيل عليها العدم بل هي إذا وجدت فهي أبدية سرمدية لا يتصور فناؤها. والرابعة قولهم: يستحيل رد هذه النفوس إلى الأجساد. المسألة الأولى: لإثبات المعجزات فقط وإنما يلزم النزاع في الأولى من حيث أنه ينبنى عليها إثبات المعجزات الخارقة للعادة من قلب العصا ثعباناً وإحياء الموتى وشق القمر. ومن جعل مجاري العادات لازمة لزوماً ضرورياً أحال جميع ذلك. وأولوا ما في القرآن من إحياء الموتى وقالوا: أراد به إزالة موت الجهل بحياة العلم. وأولوا تلقف العصا سحر السحرة على إبطال الحجة الإلهية الظاهرة على يد موسى شبهات المنكرين، وأما شق القمر فربما أنكروا وجوده وزعموا أنه لو يتواتر. قولهم لا تكون المعجزات إلا في القوة المتخيلة ولم يثبت الفلاسفة من المعجزات الخارقة للعادات إلا في ثلثة أمور: أحدها في القوة المتخيلة، فإنهم زعموا أنها إذا استولت وقويت ولم يستغرقها الحواس والاشتغال اطلعت على اللوح المحفوظ وانطبع فيها صور الجزئيات الكائنة في المستقبل وذلك في اليقظة للأنبياء ولسائر الناس في النوم، فهذه خاصية النبوة للقوة المتخيلة. وفي القوة العقلية، لأن البعض ينتبهون في أسرع الأوقات وأقربها الثانية خاصية في القوة العقلية النظرية وهو راجع إلى قوة الحدس وهو سرعة الانتقال من معلوم إلى معلوم. فرب ذكي إذا ذكر له المدلول تنبه للدليل
وإذا ذكر له الدليل تنبه للمدلول من نفسه وبالجملة إذا خطر له الحد الأوسط تنبه للنتيجة وإذا حضر في ذهنه حدا النتيجة خطر بباله الحد الأوسط الجامع بين طرفي النتيجة. والناس في هذا منقسمون فمنهم من يتنبه بنفسه ومنهم من يتنبه بأدنى تنبيه ومنهم من لا يدرك مع التنبيه إلا بتعب كثير. وإذا جاز أن ينتهي طرف النقصان إلى من لا حدس له أصلاً حتى لا يتهيأ لفهم المعقولات مع التنبيه جاز أن ينتهي طرف القوة والزيادة إلى أن ينتبه لكل المعقولات أو لأكثرها وفي أسرع الأوقات وأقربها. ولا سيما النبي ويختلف ذلك بالكمية في جميع المطالب أو بعضها وفي الكيفية حتى يتفاوت في السرعة والقرب. فرب نفس مقدسة صافية يستمر حدسها في جميع المعقولات وفي أسرع الأوقات. فهو النبي الذي له معجزة من القوة النظرية فلا يحتاج في المعقولات إلى تعلم بل كأنه يتعلم من نفسه، وهو الذي وصف بأنه يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور. وفي القوة النفسية العملية وهي تنفعل بها أعضاء البدن الثالث القوة النفسية العملية، وقد تنتهي إلى حد تتأثر بها الطبيعيات وتتسخر. ومثاله أن النفس منا إذا توهم شيئاً خدمته الأعضاء والقوى التي فيها فحركت إلى الجهة المتخيلة المطلوبة، حتى إذا توهم شيئاً طيب المذاق تحلبت أشداقه وانتهضت القوة الملعبة فياضة باللعاب من معادنها، وإذا تصور الوقاع انتهضت القوة فنشرت الآلة، بل إذا مشى على جذع ممدود على فضاء طرفاه على حائطين اشتد توهمه للسقوط فانفعل الجسم بتوهمه وسقط، ولو كان ذلك على الأرض لمشى عليه ولم يسقط، وذلك لأن الأجسام والقوى الجسمانية خلقت خادمة مسخرة للنفوس، ويختلف ذلك باختلاف صفاء النفوس وقوتها. وقد يكون الانفعال حتى في غير البدن فلا يبعد أن تبلغ قوة النفس إلى حد تخدمه القوة الطبيعية في غير بدنه لأن نفسه ليست منطبعة في بدنه إلا أن له نوع ونزوع وشوق إلى تدبيره خلق ذلك في جبلته فإذا جاز
أن تطيعه أجسام بدنه لم يمتنع أن يطيعه غيره، فيتطلع نفسه إلى هبوب ريح أو نزول مطر أو هجوم صاعقة أو تزلزل أرض لتخسف بقوم، وذلك موقوف حصوله على حدوث برودة أو سخونة أو حركة في الهواء، فيحدث في نفسه تلك السخونة والبرودة ويتولد منه هذه الأمور من غير حضور سبب طبيعي ظاهر، ويكون ذلك معجزة للنبي ولكنه إنما يحصل ذلك في هواء مستعد للقبول ولا ينتهي إلى أن ينقلب الخشب حيواناً وينفلق القمر الذي لا يقبل الإنخراق. قولنا هذا لا ننكره، ولكنا نثبت معجزات غيرها يستثنونها فهذا مذهبهم في المعجزات ونحن لا ننكر شيئاً مما ذكروه وأن ذلك مما يكون للأنبياء وإنما ننكر اقتصارهم عليه ومنعهم قلب العصا ثعباناً وإحياء الموتى وغيره فلزم الخوض في هذه المسألة لإثبات المعجزات ولأمر آخر وهو نصرة ما أطبق عليه المسلمون من أن الله قادر على كل شيء. فلنخض في المقصود.
مسألة الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر مثل الري والشرب والشبع والأكل والاحتراق ولقاء النار والنور وطلوع الشمس والموت وجز الرقبة والشفاء وشرب الدواء وإسهال البطن واستعمال المسهل وهلم جرا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه يخلقها على التساوق لا لكونه ضرورياً في نفسه غير قابل للفرق بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون جز الرقبة وإدامة الحيوة مع جز الرقبة وهلم جرا إلى جميع المقترنات، وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته. مثلاً النار والقطن والنظر في هذه الأمور الخارجة عن الحصر يطول، فلنعين مثالاً واحداً وهو الاحتراق في القطن مثلاً مع ملاقاة النار، فإنا نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق ونجوز حدوث انقلاب القطن رماداً محترقاً دون ملاقاة النار وهم ينكرون جوازه. قول الخصم فاعل الاحتراق هو النار فقط وهو فاعل بالطبع وللكلام في المسألة ثلثة مقامات: المقام الأول أن يدعي الخصم أن فاعل الاحتراق هو النار فقط
وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار فلا يمكنه الكف عما هو طبعه بعد ملاقاته لمحل قابل له. قولنا فاعل الاحتراق ليس هو النار بل الله وهذا مما ننكره بل نقول: فاعل الاحتراق بخلق السواد في القطن والتفرق في أجزائه وجعله حراقاً أو رماداً هو الله إما بواسطة الملائكة أو بغير واسطة، فأما النار وهي جماد فلا فعل لها. وهذا يكون بالحصول عنده لا بالحصول به فما الدليل على أنها الفاعل وليس له دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار؟ والمشاهدة تدل على الحصول عنده ولا تدل على الحصول به وأنه لا علة سواه، إذ لا خلاف في أن انسلاك الروح
والقوى المدركة والمحركة في نطفة الحيوانات ليس يتولد عن الطبائع المحصورة في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ولا أن الأب فاعل ابنه بإيداع النطفة في الرحم ولا هو فاعل حيوته وبصره وسمعه وسائر المعاني التي هي فيه، ومعلوم أنها موجودة عنده، ولم نقل أنها موجودة به بل وجودها من جهة الأول إما بغير واسطة وإما بواسطة الملائكة الموكلين بهذه الأمور الحادثة، وهذا مما يقطع به الفلاسفة القائلون بالصانع والكلام معهم فقد تبين أن الوجود عند الشيء لا يدل على أنه موجود به. فالأكمه إذا بصر فجأة ورأى الألوان لا يعلم أن نور الشمس هو السبب في انطباعها في بصره بل نبين هذا بمثال وهو أن الأكمه لو كان في عينه غشاوة ولم يسمع من الناس الفرق بين الليل والنهار لو انكشفت الغشاوة عن عينه نهاراً وفتح أجفانه فرأى الألوان ظن أن الإدراك الحاصل في عينه لصور الألوان فاعله فتح البصر وأنه مهما كان بصره سليماً ومفتوحاً والحجاب
مرتفعاً والشخص المقابل متلوناً فيلزم لا محالة أن يبصر، ولا يعقل أن لا يبصر حتى إذا غربت الشمس وأظلم الهواء علم أن نور الشمس هو السبب في انطباع الألوان في بصره. فمن أين يأمن الخصم أن يكون في المبادئ للوجود علل وأسباب يفيض منها الحوادث عند حصول ملاقاة بينها؟ إلا أنها ثابتة ليست تنعدم ولا هي أجسام متحركة فتغيب، ولو انعدمت أو غابت لأدركنا التفرقة وفهمنا أن ثم سبباً وراء ما شاهدناه، وهذا لا مخرج منه على قياس أصلهم. وواهب الصور ... ! ولهذا اتفق محققوهم على أن هذه الأعراض والحوادث التي تحصل عند وقوع الملاقاة بين الأجسام وعلى الجملة عند اختلاف نسبها إنما تفيض من عند واهب الصور وهو ملك أو ملائكة، حتى قالوا: انطباع صورة الألوان في العين يحصل من جهة واهب الصور وإنما طلوع الشمس والحدقة السليمة والجسم المتلون معدات ومهيئات لقبول المحل هذه الصورة، وطردوا هذا في كل حادث، وبهذا يبطل دعوى من يدعي أن النار هي الفاعلة للاحتراق والخبز هو الفاعل للشبع والدواء هو الفاعل للصحة إلى غير ذلك من الأسباب. قولهم الحوادث تفيض من المبادئ باللزوم والطبع ولكن الاستعداد لقبول الصور يحصل بهذه الأسباب المقام الثاني مع من يسلم أن هذه الحوادث تفيض من مبادئ الحوادث ولكن الاستعداد لقبول الصور يحصل بهذه الأسباب المشاهدة الحاضرة، إلا أن تيك المبادئ أيضاً تصدر الأشياء عنها باللزوم والطبع لا على سبيل التروي والاختيار صدور النور من الشمس، وإنما افترقت المحال في القبول لاختلاف استعدادها فإن الجسم الصقيل يقبل شعاع الشمس ويرده حتى يستضيء به موضع آخر والمدر لا يقبل والهواء لا يمنع نفوذ نوره والحجر يمنع وبعض الأشياء يلين بالشمس وبعضها يتصلب وبعضها يبيض كثوب القصار وبعضها يسود كوجهه، والمبدأ واحد والآثار مختلفة لاختلاف الاستعدادات في المحل،
فكذى مبادئ الوجود فياضة بما هو صادر منها لا منع عندها ولا بخل وإنما التقصير من القوابل. فلا يمكن لإبراهيم ألا يكون قد احترق وإذا كان كذلك فمهما فرضنا النار بصفتها وفرضنا قطنتين متماثلتين لاقتا النار على وتيرة واحدة فكيف يتصور أن تحترق إحديهما دون الأخرى وليس ثم اختيار؟ وعن هذا المعنى أنكروا وقوع إبراهيم في النار مع عدم الاحتراق وبقاء النار ناراً وزعموا أن ذلك لا يمكن إلا بسلب الحرارة من النار وذلك يخرجه عن كونه ناراً أو بقلب ذات إبراهيم وبدنه حجراً أو شيئاً لا يؤثر فيه النار، ولا هذا ممكن ولا ذاك ممكن. جوابنا إن الله يفعل بالإرادة والجواب له مسلكان: الأول أن نقول: لا نسلم أن المبادي ليست تفعل بالاختيار وأن الله لا يفعل بالإرادة، وقد فرغنا عن إبطال دعواهم في ذلك في مسألة حدث العالم. وإذا ثبت أن الفاعل يخلق الاحتراق بإرادته عند ملاقاة القطنة النار أمكن في العقل أن لا يخلق مع وجود الملاقاة. قولهم أفلا أرى بين يدي سباعاً ضارية؟ فإن قيل: فهذا يجر إلى ارتكاب محالات شنيعة، فإنه إذا أنكرت لزوم المسببات عن أسبابها وأضيف إلى إرادة مخترعها ولم يكن للإرادة أيضاً منهج مخصوص متعين بل أمكن تفننه وتنوعه فليجوز كل واحد منا أن يكون بين يديه سباع ضارية ونيران مشتعلة وجبال راسية وأعداء مستعدة بالأسلحة وهو لا يراها لأن الله تعالى ليس يخلق الرؤية له. إذا وضعت كتاباً في بيتي أفلا أعلم أنه انقلب غلاماً؟ ومن وضع كتاباً في بيته فليجوز أن يكون قد انقلب عند رجوعه إلى بيته غلاماً أمرد عاقلاً متصرفاً أو انقلب حيواناً، أو ترك غلاماً في بيته فليجوز انقلابه كلباً أو ترك الرماد فليجوز
انقلابه مسكاً وانقلاب الحجر ذهباً والذهب حجراً. وإذا سئل عن شيء من هذا فينبغي أن يقول: لا أدري ما في البيت الآن وإنما القدر الذي أعلمه أني تركت في البيت كتاباً ولعله الآن فرس وقد لطخ بيت الكتب ببوله وروثه، وإني تركت في البيت جرة من الماء ولعلها انقلبت شجرة تفاح، فإن الله قادر على كل شيء وليس من ضرورة الفرس أن يخلق من النطفة ولا من ضرورة الشجرة أن تخلق من البذر بل ليس من ضرورته أن يخلق شيء فلعله خلق أشياء لم يكن لها وجود من قبل، بل إذا نظر إلى إنسان لم يره إلا الآن وقيل له: هل هذا مولود:؟ فليتردد وليقل يحتمل أن يكون بعض الفواكه في السوق قد انقلب إنساناً وهو ذلك الإنسان فإن الله قادر على كل شيء ممكن وهذا ممكن فلا بد من التردد فيه، وهذا فن يتسع المجال في تصويره وهذا القدر كاف فيه. قولنا إن الله يخلق لنا علماً بأن هذه الممكنات لم يعلمها والجواب أن نقول: إن ثبت أن الممكن كونه لا يجوز أن يخلق
للإنسان علم بعدم كونه لزم هذه المحالات. ونحن لا نشك في هذه الصور التي أوردتموها فإن الله خلق لنا علماً بأن هذه الممكنات لم يفعلها، ولم ندع أن هذه الأمور واجبة بل هي ممكنة يجوز أن تقع ويجوز أن لا تقع، واستمرار العادة بها مرة بعد أخرى يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية ترسخاً لا تنفك عنه. العلم بحدوث الممكن يجوز للنبي لا للعامي بل يجوز أن يعلم نبي من الأنبياء بالطرق التي ذكرتموها أن فلاناً لا يقدم من سفره غداً، وقدومه ممكن ولكن يعلم عدم وقوع ذلك الممكن، بل كما ينظر إلى العامي فيعلم أنه ليس يعلم الغيب في أمر من الأمور ولا يدرك المعقولات من غير تعلم، ومع ذلك فلا ينكر أن تتقوى نفسه وحدسه بحيث يدرك ما يدركه الأنبياء على ما اعترفوا بإمكانه، ولكن يعلمون أن ذلك لم يقع، فإن خرق الله العادة بإيقاعها في زمان خرق العادات فيها انسلت هذه العلوم عن القلوب ولم يخلقها. فلا مانع إذن من أن يكون الشيء ممكناً في مقدورات الله ويكون قد جرى في سابق علمه أنه لا يفعله مع إمكانه في بعض الأوقات ويخلق
لنا العلم بأنه ليس يفعله في ذلك الوقت، فليس في هذا الكلام إلا تشنيع محض. إن الله يغير صفة النار أو صفة إبراهيم المسلك الثاني وفيه الخلاص من هذه التشنيعات وهو أن نسلم أن النار خلقت خلقة إذا لاقاها قطنتان متماثلتان أحرقتهما ولم تفرق بينهما إذا تماثلتا من كل وجه، ولكنا مع هذا نجوز أن يلقى نبي في النار فلا يحترق إما بتغيير صفة النار أو بتغيير صفة النبي فيحدث من الله أو من الملائكة صفة في النار يقصر سخونتها على جسمها بحيث لا تتعداه فيبقى معها سخونتها وتكون على صورة النار وحقيقتها ولكن لا تتعدى سخونتها وأثرها أو يحدث في بدن الشخص صفة ولا يخرجه عن كونه لحماً وعظماً فيدفع أثر النار. من يطلي نفسه بالطلق لا يتأثر بالنار فإنا نرى من يطلي نفسه بالطلق ثم يقعد في تنور موقدة ولا يتأثر به. والذي لم يشاهد ذلك ينكره. فإنكار الخصم اشتمال القدرة على إثبات صفة من الصفات في النار أو في البدن يمنع الاحتراق كإنكار من لم يشاهد الطلق وأثره. وفي مقدورات الله غرائب وعجائب ونحن لم نشاهد جميعها، فلم ينبغي أن ننكر إمكانها ونحكم باستحالتها؟ إن الله يغير الأشياء في وقت أقرب مما عهد فيه وكذلك إحياء الميت وقلب العصا ثعباناً يمكن بهذا الطريق وهو أن المادة قابلة لكل شيء فالتراب وسائر العناصر يستحيل نباتاً ثم النبات يستحيل عند أكل الحيوان دماً ثم الدم يستحيل منياً ثم المني ينصب في الرحم فيتخلق حيواناً، وهذا بحكم العادة واقع في زمان متطاول فلم يحيل الخصم أن يكون في مقدور الله أن يدير المادة في هذه الأطوار في وقت أقرب مما عهد فيه، وإذا جاز في وقت أقرب فلا ضبط للأقل فتستعجل هذه القوى في عملها ويحصل به ما هو معجزة النبي.
اعتراض أيصدر هنا من نفس النبي أم من مبدأ آخر؟ فإن قيل: وهذا يصدر من نفس النبي أو من مبدأ آخر من المبادئ عند اقتراح النبي. قولنا من الله لإثبات النبوة قلنا: وما سلمتموه من جواز نزول الأمطار والصواعق وتزلزل الأرض بقوة نفس النبي يحصل منه أو من مبدأ آخر. فقولنا في هذا كقولكم في ذاك والأولى بنا وبكم إضافة ذلك إلى الله إما بغير واسطة أو بواسطة الملائكة. ولكن وقت استحقاق حصولها انصراف همة النبي إليه وتعين نظام الخير في ظهوره لاستمرار نظام الشرع فيكون ذلك مرجحاً جهة الوجود ويكون الشيء في نفسه ممكناً والمبدأ به سمحاً جواداً، ولكن لا يفيض منه إلا إذا ترجحت الحاجة إلى وجوده وصار الخير، متعيناً فيه، ولا يصير الخير متعيناً فيه إلا إذا احتاج نبي في إثبات نبوته إليه لإفاضة الخير. هذا لائق بمساق كلامهم ولازم لهم فهذا كله لائق بمساق كلامهم ولازم لهم مهما فتحوا باب الاختصاص للنبي بخاصية تخالف عادة الناس، فإن مقادير ذلك الاختصاص لا ينضبط في العقل إمكانه فلم يجب معه التكذيب لما تواتر نقله وورد الشرع بتصديقه. تقبل الصور مختلفة بسبب اختلاف الاستعداد وعلى الجملة لما كان لا يقبل صورة الحيوان إلا النطفة وإنما تفيض القوى الحيوانية عليها من الملائكة التي هي مبادي الموجودات عندهم ولم يتخلق قط من نطفة الإنسان إلا إنسان ومن نطفة الفرس إلا فرس من حيث أن حصوله من الفرس أوجب ترجيحاً لمناسبة صورة الفرس على سائر الصور فلم يقبل إلا الصورة المترجحة بهذا الطريق، ولذلك لم ينبت قط من الشعير حنطة ولا من بذر الكمثرى تفاح. ثم رأينا أجناساً من الحيوانات تتولد من التراب ولا تتوالد قط كالديدان ومنها ما يتولد ويتوالد جميعاً كالفار والحية والعقرب وكان تولدها من التراب ويختلف استعدادها لقبول الصور بأمور غابت عنا ولم يكن في القوة البشرية الإطلاع عليها، إذ ليس تفيض الصور عندهم من الملائكة بالتشهي ولا جزافاً بل لا يفيض
على كل محل إلا ما تعين قبوله له بكونه مستعداً في نفسه، والاستعدادات مختلفة ومبادئها عندهم امتزاجات الكواكب واختلاف نسب الأجرام العلوية في حركاتها. مبادىء الاستعدادات فيها غرائب وعجائب فقد انفتح من هذا أن مبادىء الاستعدادات فيها غرائب وعجائب حتى توصل أرباب الطلسمات من علم خواص الجواهر المعدنية وعلم النجوم إلى مزج القوى السماوية بالخواص المعدنية فاتخذوا أشكالاً من هذه الأرضية وطلبوا لها طالعاً مخصوصاً من الطوالع وأحدثوا بها أموراً غريبة في العالم فربما دفعوا الحية والعقرب عن بلد والبق عن بلد إلى غير ذلك من أمور تعرف من علم الطلسمات. لماذا لا يحصل هذا في أقرب زمان فتكون معجزة؟ فإذا خرجت عن الضبط مبادىء الاستعدادات ولم نقف على كنهها ولم يكن لنا سبيل إلى حصرها فمن أين نعلم استحالة حصول الاستعداد في بعض الأجسام للاستحالة في الأطوار في أقرب زمان حتى يستعد لقبول صورة ما كان يستعد لها من قبل وينتهض ذلك معجزة؟ ما إنكار هذا إلا لضيق الحوصلة والأنس بالموجودات العالية والذهول عن أسرار الله سبحانه في الخلقة والفطرة، ومن استقرأ عجائب العلوم لم يستبعد من قدرة الله ما يحكى من معجزات الأنبياء بحال من الأحوال. اعتراض إذا حددتم المحال هكذا فإن قيل: فنحن نساعدكم على أن كل ممكن مقدور لله وأنتم تساعدون على أن كل محال فليس بمقدور، ومن الأشياء ما يعرف استحالتها ومنها ما يعرف إمكانها ومنها ما يقف العقل فلا يقضي فيه باستحالة ولا إمكان. فالآن ما حد المحال عندكم؟ فإن رجع إلى الجمع بين النفي والإثبات في شيء واحد فقولوا إن كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا فلا
يستدعي وجود أحدهما وجود الآخر. فالله قادر على خلق المحال وقولوا إن الله يقدر على خلق إرادة من غير علم بالمراد وخلق علم من غير حيوة ويقدر على أن يحرك يد ميت ويقعده ويكتب بيد مجلدات ويتعاطى صناعات وهو مفتوح العين محدق بصره نحوه ولكنه لا يرى ولا حيوة فيه ولا قدرة له عليه، وإنما هذه الأفعال المنظومة يخلقها الله تعالى مع تحريك يده والحركة من جهة الله، وبتجويز هذا يبطل الفرق بين الحركة الاختيارية وبين الرعدة فلا يدل الفعل المحكم على العلم ولا على قدرة الفاعل. وعلى قلب الأجناس وينبغي أن يقدر على قلب الأجناس فيقلب الجوهر عرضاً ويقلب العلم قدرة والسواد بياضاً والصوت رائحة كما اقتدر على قلب الجماد حيواناً والحجر ذهباً، ويلزم عليه أيضاً من المحالات ما لا حصر له. جوابنا لا والجواب أن المحال غير مقدور عليه والمحال إثبات الشيء مع نفيه أو إثبات الأخص مع نفي الأعم أو إثبات الاثنين مع نفي الواحد، وما لا يرجع إلى هذا فليس بمحال وما ليس بمحال فهو مقدور. المحال أن يجمع بين السواد والبياض وأن يكون الشخص في مكانين ... الخ أما الجمع بين السواد والبياض فمحال لأنا لا نفهم من إثبات صورة السواد في المحل نفي هيئة البياض ووجود السواد فإذا صار نفي البياض مفهوماً من إثبات السواد كان إثبات البياض مع نفيه محالاً. وإنما لا يجوز كون الشخص في مكانين لأنا نفهم من كونه في البيت عدم كونه في غير البيت فلا يمكن تقديره في غير البيت مع كونه في البيت المفهم لنفيه عن غير البيت.
وكذلك نفهم من الإرادة طلب معلوم فإن فرض طلب ولا علم لم تكن إرادة فكان فيه نفي ما فهمناه. والجماد يستحيل أن يخلق فيه العلم لأنا نفهم من الجماد ما لا يدرك فإن خلق فيه إدراك فتسميته جماداً بالمعنى الذي فهمناه محال وإن لم يدرك فتسميته الحادث علماً ولا يدرك به محله شيئاً محال فهذا وجه استحالته. إن الله لا يقدر على قلب الأجناس، لعدم وجود مادة مشتركة وأما قلب الأجناس فقد قال بعض المتكلمين أنه مقدور لله فنقول: مصير الشيء شيئاً آخر غير معقول لأن السواد إذا انقلب قدرة مثلاً فالسواد باق أم لا، فإن كان معدوماً فلم ينقلب بل عدم ذاك ووجد غيره وإن كان موجوداً مع القدرة فلم ينقلب ولكن انضاف إليه غيره وإن بقي السواد والقدرة معدومة فلم ينقلب بل بقي على ما هو عليه. وإذا قلنا: انقلب الدم منياً أردنا به أن تلك المادة بعينها خلعت صورة ولبست صورة أخرى فرجع الحاصل إلى أن صورة عدمت وصورة حدثت وثم مادة قائمة تعاقب عليها الصورتان. وإذا قلنا: انقلب الماء هواء بالتسخين أردنا به أن المادة القابلة لصورة المائية خلعت هذه الصورة وقبلت صورة أخرى فالمادة مشتركة والصفة متغيرة. وكذلك إذا قلنا: انقلب العصا ثعباناً والتراب حيواناً وليس بين العرض والجوهر مادة مشتركة ولا بين السواد والقدرة ولا بين سائر الأجناس مادة مشتركة فكان هذا محالاً من هذا الوجه.
إن الميت إذا حرك الله يده يكتب وأما تحريك الله يد ميت ونصبه على صورة حي يقعد ويكتب حتى يحدث من حركة يده الكتابة المنظومة فليس بمستحيل في نفسه مهما أحلنا الحوادث إلى إرادة مختار وإنما هو مستنكر لاطراد العادة بخلافه. لكن الدليل في علم الفاعل. وقولكم: تبطل به دلالة أحكام الفعل على علم الفاعل، فليس كذلك فإن الفاعل الآن هو الله وهو المحكم وهو فاعل به. يفرق بين الحركة المختارة والرعشة في أنفسنا وفي غيرنا وأما قولكم إنه لا يبقى فرق بين الرعشة والحركة المختارة فنقول: إنما أدركنا ذلك من أنفسنا لأنا شاهدنا من أنفسنا تفرقة بين الحالتين فعبرنا عن ذلك الفارق بالقدرة فعرفنا أن الواقع من القسمين الممكنين أحدهما في حالة والآخر في حالة، وهو إيجاد الحركة مع القدرة عليها في حالة وإيجاد الحركة دون القدرة في حالة أخرى. وأما إذا نظرنا إلى غيرنا ورأينا حركات كثيرة منظومة حصل لنا علم بقدرتها، فهذه علوم يخلقها الله تعالى بمجاري العادات يعرف بها وجود أحد قسمي الإمكان ولا يتبين به استحالة القسم الثاني كما سبق.
مسألة في تعجيزهم عن إقامة البرهان العقلي على أن النفس الإنساني جوهر روحاني قائم بنفسه لا يتحيز وليس بجسم ولا منطبع في الجسم ولا هو متصل بالبدن ولا هو منفصل عنه كما أن الله ليس خارج العالم ولا داخل العالم وكذى الملائكة عندهم مذهبهم في القوى وأقسامها القوى المدركة هي باطنة والخوض في هذا يستدعي شرح مذهبهم في القوى الحيوانية والإنسانية. والقوى الحيوائية تنقسم عندهم إلى قسمين: محركة ومدركة. والمدركة قسمان: ظاهرة وباطنة. والظاهرة هي الحواس الخمسة وهي معان منطبعة في الأجسام، أعني هذه القوى. وأما الباطنة فثلثة: والباطنة تنقسم إلى خيالية إحديها القوة الخيالية في مقدمة الدماغ وراء القوة الباصرة، وفيه تبقى صور الأشياء المرئية بعد تغميض العين، بل ينطبع فيها ما تورده الحواس الخمس فيجتمع فيه، ويسمى الحس المشترك لذلك. ولولاه لكان من رأى العسل الأبيض ولم يدرك حلاوته إلا بالذوق فإذا رآه ثانياً لا يدرك حلاوته ما لم يذق كالمرة الأولى، ولكن فيه معنى يحكم بأن هذا الأبيض هو الحلو، فلا بد وأن يكون عنده حاكم قد اجتمع عنده الأمر أعني اللون
والحلاوة حتى قضى عند وجود أحدهما بوجود الآخر. ووهمية والثانية القوة الوهمية وهي التي تدرك المعاني، وكان القوة الأولى تدرك الصور. والمراد بالصور ما لا بد لوجوده من مادة أي جسم، والمراد بالمعاني ما لا يستدعي وجوده جسماً ولكن قد يعرض له أن يكون جسم كالعداوة والموافقة، فإن الشاة تدرك من الذب لونه وشكله وهيئته، وذلك لا يكون إلا في جسم، وتدرك أيضاً كونه مخالفاً لها. وتدرك السخلة شكل الأم ولونه ثم تدرك موافقته وملايمته ولذلك تهرب من الذئب وتعدو خلف الأم. والمخالفة والموافقة ليس من ضرورتها أن تكون في الأجسام لا كاللون والشكل ولكن قد يعرض لها أن تكون في الأجسام أيضاً فكانت هذه القوة مباينة للقوة الثانية وهذا محله التجويف الأخير من الدماغ. ومتخيلة-مفكرة أما الثالثة فهي القوة التي تسمى في الحيوانات متخيلة وفي الإنسان مفكرة وشأنها أن تركب الصور المحسوسة بعضها مع بعض وتركب المعاني على الصور، وهي في التجويف الأوسط بين حافظ الصور وحافظ المعاني. ولذلك يقدر الإنسان على أن يتخيل فرساً يطير وشخصاً رأسه رأس إنسان وبدنه بدن فرس إلى غير ذلك من التركيبات وإن لم يشاهد مثل ذلك، والأولى أن تلحق هذه القوة بالقوى المحركة كما سيأتي لا بالقوى المدركة، وإنما عرفت مواضع هذه القوى بصناعة الطب فإن الآفة إذا نزلت بهذه التجويفات اختلت هذه الأمور. وإليها تضم القوة الحافظة والقوة الذاكرة ثم زعموا أن القوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات بالحواس الخمس تحفظ تلك الصور حتى تبقى بعد القبول، والشيء يحفظ الشيء لا بالقوة التي بها يقبل، فإن الماء يقبل ولا يحفظ والشمع يقبل برطوبته ويحفظ بيبوسته
بخلاف الماء، فكانت الحافظة بهذا الاعتبار غير القابلة فتسمى هذه قوة حافظة. وكذى المعاني تنطبع في الوهمية وتحفظها قوة تسمى ذاكرة فتصير الإدراكات الباطنة بهذا الاعتبار إذا ضم إليها المتخيلة خمسة كما كانت الظاهرة خمسة. والقوى المتحركة تنقسم إلى باعثة شهوانية وغضبية وأما القوى المحركة فتنقسم إلى محركة على معنى أنها باعثة على الحركة وإلى محركة على معنى أنها مباشرة للحركة فاعلة. والمحركة على أنها باعثة هي القوة النزوعية الشوقية وهي التي إذا ارتسم في القوة الخيالية التي ذكرناها صورة مطلوب أو مهروب عنه بعثت القوة المحركة الفاعلة على التحريك. ولها شعبتان شعبة تسمى قوة شهوانية وهي قوة تبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية أو نافعة طلباً للذة، وشعبة تسمى قوة غضبية وهي قوة تبعث على تحريك يدفع به الشيء المتخيل ضاراً أو مفسداً طلباً للغلبة. وبهذه القوة يتم الإجماع التام على الفعل المسمى إرادة. وفاعلة وأما القوة المحركة على أنها فاعلة هي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات المتصلة بالأعضاء
إلى جهة الموضع الذي فيه القوة أو ترخيها وتمددها طولاً فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف الجهة. فهذه قوى النفس الحيوانية على طريق الإجمال وترك التفصيل. للنفس العاقلة قوتان عملية ونظرية فأما النفس العاقلة الإنسانية المسماة الناطقة عندهم، والمراد بالناطقة العاقلة لأن النطق أخص ثمرات العقل في الظاهر، فنسبت إليه فلها قوتان: قوة عالمة وقوة عاملة، وقد يسمى كل واحدة عقلاً ولكن باشتراك الاسم. فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الصناعات المرتبة الإنسانية المستنبط ترتيبها بالروية الخاصة بالإنسان. وأما العالمة فهي التي تسمى النظرية وهي قوة من شأنها أن تدرك حقائق المعقولات المجردة عن المادة والمكان والجهات، وهي القضايا الكلية التي يسميها المتكلمون أحوالاً مرة ووجودها أخرى وتسميها الفلاسفة الكليات المجردة. الأولى تنقاد للبدن، والثانية مأخوذة من الملائكة فإذن للنفس قوتان بالقياس إلى جنبتين: القوة النظرية بالقياس إلى جنبة الملائكة إذ بها تأخذ من الملائكة العلوم الحقيقية، وينبغي أن تكون هذه القوة دائمة القبول من جهة فوق. والقوة العملية لها بالنسبة إلى أسفل وهي جهة البدن وتدبيره وإصلاح الأخلاق، وهذه القوة ينبغي أن تتسلط على سائر القوى البدنية وأن تكون سائر القوى متأدبة بتأديبها مقهورة دونها حتى لا تنفعل ولا تتأثر هي عنها بل تنفعل تلك القوى عنها لئلا يحدث في النفس من الصفات البدنية
هيآت انقيادية تسمى رذائل بل تكون هي الغالبة ليحصل للنفس بسببها هيآت تسمى فضائل. هذه كلها لا تنكر فهذا إيجاز ما فصلوه من القوى الحيوانية والإنسانية وطولوا بذكرها مع الإعراض عن ذكر القوى النباتية إذ لا حاجة إلى ذكرها في غرضنا. وليس شيء مما ذكروه مما يجب إنكاره في الشرع فإنها أمور مشاهدة أجرى الله العادة بها. اعتراضنا عليهم لأنهم يقصدون الدلالة وإنما نريد أن نعترض الآن على دعواهم معرفة كون النفس جوهراً قائماً بنفسه ببراهين العقل. ولسنا نعترض اعتراض من يبعد ذلك من قدرة الله أو يرى أن الشرع جاء بنقيضه بل ربما نبين في تفصيل الحشر والنشر أن الشرع مصدق له، ولكنا ننكر دعواهم دلالة مجرد العقل عليه والاستغناء عن الشرع فيه. فلنطالبهم بالأدلة ولهم فيه براهين كثيرة بزعمهم. الأول دليلهم الأول أن محل العلم لا ينقسم، فهو ليس جسماً قولهم إن العلوم العقلية تحل محل النفس الإنساني وهي محصورة وفيها آحاد لا تنقسم فلا بد وأن يكون محله أيضاً لا ينقسم، وكل جسم فمنقسم فدل أن محله شيء لا ينقسم. ويمكن إيراد هذا على شرط المنطق بأشكاله ولكن أقربه أن يقال إن كان محل العلم جسماً منقسماً فالعلم الحال أيضاً منقسم لكن العلم الحال غير منقسم فالمحل ليس جسماً. وهذا هو قياس شرطي استثنى فيه نقيض التالي
فينتج نقيض المقدم بالاتفاق فلا نظر في صحة شكل القياس ولا أيضاً في المقدمتين فإن الأول قولنا إن كل حال في منقسم ينقسم لا محالة بفرض القسمة في محله وهو أولي لا يمكن التشكك فيه، والثاني قولنا إن العلم الواحد يحل في الآدمي وهو لا ينقسم لأنه لو انقسم إلى غير نهاية كان محالاً وإن كان له نهاية فيشتمل على آحاد لا محالة لا تنقسم. وعلى الجملة نحن نعلم أشياء ولا نقدر أن نفرض زوال بعضها وبقاء بعض من حيث أنه لا بعض لها. اعتراضنا لماذا لا يكون محل العلم جوهراً فرداً؟ والاعتراض على مقامين: المقام الأول أن يقال: بم تنكرون على من يقول. محل العلم جوهر فرد متحيز لا ينقسم، وقد عرف هذا من مذهب المتكلمين. ولا يبقى بعده إلا استبعاد وهو أنه كيف تحل العلوم كلها في جوهر فرد وتكون جميع الجواهر المطيفة بها معطلة مجاورة. والاستبعاد لا خير فيه إذ يتوجه على مذهبهم أيضاً أنه كيف تكون النفس شيئاً واحداً لا يتحيز ولا يشار إليه ولا يكون داخل البدن ولا خارجه ولا متصلاً بالجسم ولا منفصلاً عنه. لكن هذه المسألة يطول حلها إلا أنا لا نؤثر هذا المقام فإن القول في مسألة الجزء الذي لا يتجزى طويل ولهم فيه أدلة هندسية يطول الكلام عليها ومن جملتها قولهم: جوهر فرد بين جوهرين، هل يلاقي أحد الطرفين منه عين ما يلاقيه الآخر أو غيره؟ فإن كان عينه فهو محال إذ يلزم منه تلاقي الطرفين فإن ملاقي الملاقي ملاق، وإن كان ما يلاقيه غيره ففيه إثبات التعدد والانقسام، وهذه شبهة يطول حلها وبنا غنية عن الخوض فيها، فلنعدل إلى مقام آخر.
إن الشاة تدرك عداوة الذئب وهي لا تنقسم المقام الثاني أن نقول: ما ذكرتموه من أن كل حال في جسم فينبغي أن ينقسم باطل عليكم بما تدركه القوة من الشاة من عداوة الذئب فإنها في حكم شيء وحد لا يتصور تقسيمه إذ ليس للعداوة بعض حتى يقدر إدراك بعضه وزوال بعضه، وقد حصل إدراكها في قوة جسمانية عندكم فإن نفس البهائم منطبعة في الأجسام لا تبقى بعد الموت. وقد اتفقوا عليه فإن أمكنهم أن يتكلفوا تقدير الانقسام في المدركات بالحواس الخمس وبالحس المشترك وبالقوة الحافظة للصور فلا يمكنهم تقدير الانقسام في هذه المعاني التي ليس من شرطها أن تكون في مادة. قد يقال ليس الكلام عن العداوة المجردة فإن قيل: الشاة لا تدرك العداوة المطلقة المجردة عن المادة بل تدرك عداوة الذئب المعين المشخص مقروناً بشخصه وهيكله. والقوة العاقلة تدرك الحقائق مجردة عن المواد والأشخاص. الإدراك لا ينقسم قلنا: الشاة قد أدركت لون الذئب وشكله ثم عداوته، فإن كان اللون ينطبع في القوة الباصرة وكذى الشكل وينقسم بانقسام محل البصر فالعداوة بماذى تدركها؟ فإن أدرك بجسم فلينقسم وليت شعري ما حال ذلك الإدراك إذا قسم، وكيف يكون بعضه؟ أهو إدراك لبعض العداوة فكيف يكون لها بعض؟ أو كل قسم إدراك لكل العداوة فتكون العداوة معلومة مراراً بثبوت إدراكها في كل قسم من أقسام المحل. فإذن هذه شبهة مشكلة لهم في برهانهم فلا بد من الحل. قد يقال لا شك في المقدمتين فإن قيل: هذه مناقضة في المعقولات والمعقولات لا تنقض فإنكم مهما لم تقدروا على الشك في المقدمتين، وهو أن العلم الواحد لا ينقسم وأن ما لا ينقسم لا يقوم بجسم منقسم، لم يمكنكم الشك في النتيجة. جوابنا بينا أن أقوالهم تتناقض والجواب أن هذا الكتاب ما صنفناه إلا لبيان التهافت والتناقض في كلام الفلاسفة، وقد حصل إذ انتقض به أحد الأمرين: إما ما ذكروه في النفس الناطقة أو ما ذكروه في القوة الوهمية.
ليس العلم كاللون ثم نقول: هذه المناقضة تبين أنهم غفلوا عن موضع تلبيس في القياس ولعل موضع الالتباس قولهم إن العلم منطبع في الجسم انطباع اللون في المتلون، وينقسم اللون بانقسام المتلون فينقسم العلم بانقسام محله. والخلل في لفظ الانطباع إذ يمكن أن لا تكون نسبة العلم إلى محله كنسبة اللون إلى المتلون حتى يقال إنه منبسط عليه ومنطبع فيه ومنتشر في جوانبه فينقسم بانقسامه. فلعل نسبة العلم إلى محله على وجه آخر وذلك الوجه لا يجوز فيه الانقسام عند انقسام المحل بل نسبته إليه كنسبة إدراك العداوة إلى الجسم. ووجوه نسبة الأوصاف إلى محلها ليست محصورة في فن واحد ولا هي معلومة التفاصيل لنا علماً نثق به، فالحكم عليه دون الإحاطة بتفصيل النسبة حكم غير موثوق به. لا دليل لهم وعلى الجملة لا ينكر أن ما ذكروه مما يقوي الظن ويغلبه وإنما ينكر كونه معلوماً يقيناً علماً لا يجوز الغلط فيه ولا يتطرق إليه الشك وهذا القدر مشكك فيه. دليل ثان دليلهم الثاني للعلم نسبة إلى العالم قالوا: إن كان العلم بالمعلوم الواحد العقلي وهو المعلوم المجرد عن المواد منطبعاً في المادة انطباع الأعراض في الجوهر الجسمانية لزم انقسامه بالضرورة بانقسام الجسم كما سبق، وإن لم يكن منطبعاً فيه ولا منبسطاً عليه واستكره لفظ الانطباع فنعدل إلى عبارة أخرى ونقول: هل للعلم نسبة إلى العالم أم لا؟ ومحال قطع النسبة فإنه إن قطعت النسبة عنه فكونه عالماً به لم صار أولى من كون غيره عالماً؟ وهذه النسبة تكون من ثلاثة أقسام إما إلى الكل أو إلى البعض أو لا تكون، وثلاثتها باطلة وإن كان له نسبة فلا يخلوا من ثلثة أقسام: إما أن تكون النسبة لكل جزء من أجزاء المحل
أو تكون لبعض أجزاء المحل دون البعض أو لا يكون لواحد من الأجزاء نسبة إليه. وباطل أن يقال: لا نسبة لواحد من الأجزاء، فإنه إذا لم يكن للآحاد نسبة لم يكن للمجموع نسبة فإن المجتمع من المباينات مباين. وباطل أن يقال: النسبة للبعض، فإن الذي لا نسبة له ليس هو من معناه في شيء وليس كلامنا عنه. وباطل أن يقال: لكل جزء مفروض نسبة إلى الذات، لأنه إن كانت النسبة إلى ذات العلم بأسره فمعلوم كل واحد من الأجزاء ليس هو جزءاً من المعلوم كما هو فيكون معقولاً مرات لا نهاية لها بالفعل، وإن كان كل جزء له نسبة أخرى غير النسبة التي للجزء الآخر إلى ذات العلم فذات العلم إذن منقسمة في المعنى، وقد بينا أن العلم بالمعلوم الواحد من كل وجه لا ينقسم في المعنى، وإن كان نسبة كل واحد إلى شيء من ذات العلم غير ما إليه نسبة الآخر فانقسام ذات العلم بهذا أظهر وهو محال. في الحس أقسام ومن هذا يتبين أن المحسوسات المنطبعة في الحواس الخمس لا تكون إلا أمثلة لصور جزئية منقسمة، فإن الإدراك معناه حصول مثال المدرك في نفس المدرك، ويكون لكل جزء من مثال المحسوس نسبة إلى جزء من الآلة الجسمانية. اعتراضنا وهذا شأن عداوة الذئب والاعتراض على هذا ما سبق فإن تبديل لفظ الانطباع بلفظ النسبة لا يدرأ الشبهة فيما ينطبع في القوة الوهمية للشاة من عداوة الذئب كما ذكروه فإنه إدراك لا محالة وله نسبة إليه، ويلزم في تلك النسبة ما ذكرتموه
فإن العداوة ليس أمراً مقدراً له كمية مقدارية حتى ينطبع مثالها في جسم مقدر وتنتسب أجزاؤها إلى أجزائه، وكون شكل الذئب مقدراً لا يكفي فإن الشاة أدركت شيئاً سوى شكله وهو المخالفة والمضادة والعداوة، والزيادة على الشكل من العداوة ليس لها مقدار وقد أدركته بجسم مقدر. فهذه الصور مشككة في هذا البرهان كما في الأول. قد يقال هلا تعترضون على الجوهر الفرد؟ فإن قال قائل: هلا دفعتم هذه البراهين بأن العلم يحل من الجسم في جوهر متحيز لا يتجزى وهو الجزء الفرد. جوابنا هذا البحث طويل لا فائدة فيه قلنا: لأن الكلام في الجوهر الفرد يتعلق بأمور هندسية يطول القول في حلها. ثم ليس فيه ما يدفع الإشكال فإنه يلزم أن تكون القدرة والإرادة أيضاً في ذلك الجزء فإن للإنسان فعلاً ولا يتصور ذلك إلا بقدرة وإرادة ولا يتصور الإرادة إلا بعلم وقدرة الكتابة في اليد والأصابع، والعلم بها ليس في اليد إذ لا يزول بقطع اليد ولا إرادتها في اليد فإنه قد يريدها بعد شلل اليد وتتعذر لا لعدم الإرادة بل لعدم القدرة. دليل ثالث دليلهم الثالث الإنسان دون الجزء هو العالم قولهم: العلم لو كان في جزء من الجسم لكان العالم ذلك الجزء دون سائر أجزاء الإنسان، والإنسان يقال له عالم والعالمية صفة له على الجملة من غير نسبة إلى محل مخصوص جوابنا وهو المبصر! وهذا هوس فإنه يسمى مبصراً وسامعاً وذائقاً، وكذى البهيمة توصف به وذلك لا يدل على أن إدراك المحسوسات ليس بالجسم بل هو نوع من التجوز كما يقال فلان في بغداذ وإن كان هو في جزء من جملة بغداذ لا في جملتها ولكن يضاف إلى الجملة.
دليل رابع دليلهم الرابع قد يكون العلم والجهل في المحل الواحد إن كان العلم يحل جزءاً من القلب أو الدماغ مثلاً فالجهل ضده فينبغي أن يجوز قيامه بجزء آخر من القلب أو الدماغ ويكون الإنسان في حالة واحدة عالماً وجاهلاً بشيء واحد، فلما استحال ذلك تبين أن محل الجهل هو محل العلم وأن ذلك المحل واحد يستحيل اجتماع الضدين فيه فإنه لو كان منقسماً لما استحال قيام الجهل ببعضه والعلم ببعضه لأن الشيء في محل لا يضاده ضده في محل آخر، كما تجتمع البلقة في الفرس الواحد والسواد والبياض في العين الواحدة ولكن في محلين. الحواس لا ضد لإدراكاتها ولا يلزم هذا في الحواس فإنه لا ضد لإدراكاتها ولكنه قد يدرك وقد لا يدرك فليس بينهما إلا تقابل الوجود والعدم. فلا جرم نقول: يدرك ببعض أجزائه كالعين والأذن ولا يدرك بسائر بدنه، وليس فيه تناقض. في المحل الواحد بغير المجاز ولا يغني عن هذا قولكم إن العالمية مضادة للجاهلية، والحكم عام لجميع البدن إذ يستحيل أن يكون الحكم في غير محل العلة فالعالم هو المحل الذي قام العلم به، فإن أطلق الاسم على الجملة فبالمجاز، كما يقال: هو في بغداذ وإن كان هو في بعضها، وكما يقال: مبصر، وإن كنا بالضرورة نعلم أن حكم الإبصار لا يثبت للرجل واليد بل يختص بالعين، وتضاد الأحكام كتضاد العلل فإن الأحكام تقتصر على محل العلل. في المحل المهيأ لكل من العلم والجهل ولا يخلص من هذا قول القائل إن المحل المهيأ لقبول العلم والجهل من الإنسان واحد فيتضادان عليه، فإن عندكم أن كل جسم فيه حيوة فهو قابل للعلم والجهل ولم تشترطوا سوى الحيوة شريطة أخرى، وسائر أجزاء البدن
عندكم في قبول العلم على وتيرة واحدة. اعتراضنا ولا تكون الشهوة والنفرة في المحل الواحد الاعتراض أن هذا ينقلب عليكم في الشهوة والشوق والإرادة فإن هذه الأمور تثبت للبهائم والإنسان، وهي معان تنطبع في الجسم، ثم يستحيل أن ينفر عما يشتاق إليه فيجتمع فيه النفرة والميل إلى شيء واحد بوجود الشوق في محل والنفرة في محل آخر، وذلك لا يدل على أنها لا تحل الأجسام وذلك لأن هذه القوى وإن كانت كثيرة ومتوزعة على آلات مختلفة فلها رابطة واحدة وهي النفس، وذلك للبهيمة والإنسان جميعاً، وإذا اتحدت الرابطة استحالت الإضافات المتناقضة بالنسبة إليه، وهذا لا يدل على كون النفس غير منطبع في الجسم كما في البهائم. دليل خامس دليلهم الخامس لولا ذلك لما عقل العقل نفسه قولهم: إن كان العقل يدرك المعقول بآلة جسمانية فهو لا يعقل نفسه والتالي محال فإنه يعقل نفسه فالمقدم محال. جوابنا ما الدليل عليه؟ قلنا: مسلم أن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم ولكن إذا ثبت اللزوم بين التالي والمقدم،، بل نقول: ما يسلم لزوم التالي وما الدليل عليه؟ قد يقال الإبصار لا يبصر فإن قيل: الدليل عليه أن الإبصار لما كان بجسم فالإبصار لا يتعلق بالأبصار فالرؤية لا ترى والسمع لا يسمع وكذى سائر الحواس. فإن كان العقل أيضاً لا يدرك إلا بجسم فلم يدرك نفسه، والعقل كما يعقل غيره يعقل نفسه فإن الواحد منا كما يعقل غيره يعقل نفسه ويعقل أنه عقل غيره وأنه عقل نفسه. جوابنا هذا يجوز بخرق العادات قلنا: ما ذكرتموه فاسد من وجهين:
أحدهما أن الإبصار عندنا يجوز أن يتعلق بنفسه فيكون إبصاراً لغيره ولنفسه كما يكون العلم الواحد علماً بغيره وعلماً بنفسه. ولكن العادة جارية بخلاف ذلك وخرق العادات عندنا جائز. فيكون حاسة منفردة والثاني وهو أقوى أنا سلمنا هذا في الحواس ولكن لم إذا امتنع ذلك في بعض الحواس يمتنع في بعض؟ وأي بعد في أن يفترق حكم الحواس في وجه الإدراك مع اشتراكها في أنها جسمانية،؟ كما اختلف البصر واللمس في أن اللمس لا يفيد الإدراك إلا باتصال الملموس بالآلة اللامسة، وكذى الذوق ويخالفه البصر فإنه يشترط فيه الانفصال حتى لو أطبق أجفانه لم ير لون الجفن لأنه لم يبعد عنه، وهذا الاختلاف لا يوجب الاختلاف في الحاجة إلى الجسم فلا يبعد أن يكون في الحواس الجسمانية ما يسمى عقلاً ويخالف سائرها في أنها تدرك نفسها. دليل سادس دليلهم السادس لولا ذلك لما أدرك العقل القلب قالوا: لو كان العقل يدرك بآلة جسمانية كالأبصار لما أدرك آلته كسائر الحواس ولكنه يدرك الدماغ والقلب وما يدعى آلته، فدل أنه ليس آلة له ولا محلاً وإلا لما أدركه. اعتراضنا كما سبق والاعتراض على هذا كالاعتراض على الذي قبله. فإنا نقول: لا يبعد أن يدرك الإبصار محله ولكنه حوالة على العادة. أو نقول: لم يستحيل أن تفترق الحواس في هذا المعنى وإن اشتركت في الانطباع في الأجسام كما سبق؟ ولم قلتم أن ما هو قائم في جسم
يستحيل أن يدرك الجسم الذي هو محله ولم يلزم أن يحكم من جزئي معين على كلي مرسل؟ لا يحكم ببعض الحواس على جميعها ومما عرف بالاتفاق بطلانه وذكر في المنطق أن يحكم بسبب جزئي أو جزئيات كثيرة على كلي حتى مثلوه بما إذا قال الإنسان إن كل حيوان فإنه يحرك عند المضغ فكه الأسفل لأنا استقرأنا الحيوانات كلها فرأيناها كذلك، فيكون ذلك لغفلته عن التمساح فإنه يحرك فكه الأعلى وهؤلاء لم يستقرئوا إلا الحواس الخمس، فوجدوها على وجه معلوم فحكموا على الكل به. فلعل العقل حاسة أخرى تجري من سائر الحواس مجرى التمساح من سائر الحيوانات، فتكون إذن الحواس مع كونها جسمانية منقسمة إلى ما يدرك محلها وإلى ما لا يدرك كما انقسمت إلى ما يدرك مدركه من غير مماسة كالبصر وإلى ما لا يدرك إلا باتصال كالذوق واللمس. فما ذكروه أيضاً إن أورث ظناً فلا يورث يقيناً موثوقاً به. قد يقال على العقل أن يدرك القلب دائماً إما ألا يدركه أبداً فإن قيل: لسنا نعول على مجرد الاستقراء للحواس بل نعول على البرهان ونقول: لو كان القلب أو الدماغ هو نفس الإنسان لكان لا يعزب عنه إدراكهما حتى لا يخلوا عن أن يعقلهما جميعاً كما أنه لا يخلوا عن إدراك نفسه، فإن أحداً لا يعزب ذاته عن ذاته بل يكون مثبتاً لنفسه في نفسه أبداً، والإنسان ما لم يسمع حديث القلب والدماغ أو لم يشاهد بالتشريح من إنسان آخر لا يدركهما ولا يعتقد وجودهما. فإن كان العقل حالاً في جسم فينبغي أن يعقل ذلك الجسم أبداً أو لا يدركه أبداً وليس واحد من الأمرين بصحيح بل يعقل حالة ولا يعقل حالة.
فهناك نسبة واحدة وهذا التحقيق وهو أن الإدراك الحال في محل إنما يدرك المحل لنسبة له إلى المحل، ولا يتصور أن يكون له نسبة إليه سوى الحلول فيه فليدركه أبداً، وإن كان هذه النسبة لا تكفي فينبغي أن لا يدرك أبداً إذ لا يمكن أن يكون له نسبة أخرى إليه كما أنه لما أن كان يعقل نفسه عقل نفسه أبداً ولم يغفل عنه بحال. جوابنا الإنسان يشعر بجسده قلنا: الإنسان ما دام يشعر بنفسه ولا يغفل عنه فإنه يشعر بجسده وجسمه. نعم لا يتعين له اسم القلب وصورته وشكله ولكنه يثبت نفسه جسماً حتى يثبت نفسه في ثيابه وفي بيته، والنفس الذي ذكروه لا يناسب البيت والثوب. دائماً وإن على وجه غير معين فإثباته لأصل الجسم ملازم له وغفلته عن شكله واسمه كغفلته عن محل الشم وإنهما زائدتان في مقدم الدماغ شبيهتين بحلمتي الثدي، فإن كل إنسان يعلم أنه يدرك الرائحة بجسمه ولكن محل الإدراك لا يتشكل له ولا يتعين وإن كان يدرك أنه إلى الرأس أقرب منه إلى العقب ومن جملة الرأس إلى داخل الأنف أقرب منه إلى داخل الأذن. فكذلك يشعر الإنسان بنفسه ويعلم أن هويته التي بها قوامه إلى قلبه وصدره أقرب منه إلى رجله فإنه يقدر نفسه باقياً مع عدم الرجل ولا يقدر على تقدير نفسه باقياً مع عدم القلب، فما ذكروه من أنه يغفل عن الجسم تارة وتارة لا يغفل عنه ليس كذلك. دليل سابع دليلهم السابع أن القوى الآلية يعرض لها من المواظبة على العمل كلال قالوا القوى الدراكة بالآلات الجسمانية يعرض لها من المواظبة على العمل بإدامة الإدراك كلال لأن إدامة الحركة تفسد مزاج الأجسام فتكلها، وكذلك الأمور القوية الجلية الإدراك توهنها وربما تفسدها حتى لا تدرك عقيبها الأخفى الأضعف كالصوت العظيم للسمع والنور العظيم
للبصر فإنه ربما يفسد أو يمنع عقيبه من إدراك الصوت الخفي والمرئيات الدقيقة، بل من ذاق الحلاوة الشديدة لا يحس بعده بحلاوة دونه. والأمر في القوة العقلية بالعكس والأمر القوة العقلية بالعكس فإن إدامتها للنظر إلى المعقولات لا يتعبها ودرك الضروريات الجلية يقويها على درك النظريات الخفية ولا يضعفها، وإن عرض لها في بعض الأوقات كلال فذلك لاستعمالها القوة الخيالية واستعانتها بها فتضعف آلة القوة الخيالية فلا تخدم العقل. قولنا الحواس تختلف بعضها عن بعض وهذا من الطراز السابق فإنا نقول: لا يبعد أن تختلف الحواس الجسمانية في هذه الأمور فليس ما يثبت منها للبعض يجب أن يثبت للآخر، بل لا يبعد أن تتفاوت الأجسام فيكون منها ما يضعفها نوع من الحركة ومنها ما يقويها نوع من الحركة ولا يوهنها وإن كان يؤثر فيها فيكون ثم سبب يجدد قوتها بحيث لا تحس بالأثر فيها. فكل هذا ممكن إذا الحكم الثابت لبعض الأشياء ليس يلزم أن يثبت لكله. دليل ثامن دليلهم الثامن العقل لا تعتريه الشيخوخة قالوا: أجزاء البدن كلها تضعف قواها بعد منتهى النشو والوقوف عند الأربعين سنة فما بعدها فيضعف البصر والسمع وسائر القوى والقوة العقلية في أكثر الأمر إنما تقوى بعد ذلك. يعوقه المرض ولا يلزم على هذا تعذر النظر في المعقولات عند حلول المرض في البدن وعند الخرف بسبب الشيخوخة، فإنه مهما بان أنه يتقوى مع ضعف البدن في بعض الأحوال فقد بان قوامه بنفسه، فتعطله عند تعطل البدن لا يوجب
كونه قائماً بالبدن فإن استثناء عين التالي لا ينتج فإنا نقول: إن كانت القوة العقلية قائمة بالبدن فيضعفها ضعف البدن بكل حال والتالي محال فالمقدم محال. وإذا قلنا: التالي موجود في بعض الأحوال، فلا يلزم أن يكون المقدم موجوداً. ولهذا الأمر مدلول ثم السبب فيه أن النفس لها فعل بذاتها إذا لم يعق عائق ولم يشغلها شاغل، فإن للنفس فعلين: فعل بالقياس إلى البدن وهو السياسة له وتدبيره وفعل بالقياس إلى مبادئه وإلى ذاته وهو إدراك المعقولات، وهما متمانعان متعاندان فمهما اشتغل بأحدهما انصرف عن الآخر وتعذر عليه الجمع بين الأمرين. وشواغله من جهة البدن الإحساس والتخيل والشهوات والغضب والخوف والغم والوجع، فإذا أخذت تفكر في معقول تعطل عليك كل هذه الأشياء الأخر. بل مجرد الحس قد يمنع من إدراك العقل ونظره من غير أن يصيب آلة العقل شيء أو يصيب ذاتها آفة، والسبب في كل ذلك اشتغال النفس بفعل عن فعل ولذلك يتعطل نظر العقل عند الوجع والمرض والخوف فإنه أيضاً مرض في الدماغ. وكيف يستبعد التمانع في اختلاف جهتي فعل النفس؟ وتعدد الجهة الواحدة قد يوجب التمانع فإن الفرق يذهل عن الوجع والشهوة عن الغضب والنظر في معقول عن معقول آخر. إذا عاد المريض صحيحاً عاد العلم من غير استئناف تعلم وآية أن المرض الحال في البدن ليس يتعرض لمحل العلوم، أنه إذا عاد صحيحاً لم يفتقر إلى تعلم العلوم من رأس بل تعود هيئة نفسه كما كانت وتعود تلك العلوم بعينها من غير استئناف تعلم.
اعتراضنا هناك أسباب كثيرة لزيادة بعض الحواس والاعتراض أن نقول: نقصان القوى وزيادتها لها أسباب كثيرة لا تنحصر، فقد يقوى بعض القوى في ابتداء العمر وبعضها في الوسط وبعضها في الآخر وأمر العقل أيضاً كذلك. فلا يبقى إلا أن يدعى الغالب. مثل الشم ولا بعد في أن يختلف الشم والبصر في أن الشم يقوى بعد الأربعين والبصر يضعف وإن تساويا في كونهما حالين في الجسم، كما تتفاوت هذه القوى في الحيوانات فيقوى الشم من بعضها والسمع من بعضها والبصر من بعضها لاختلاف في أمزجتها لا يمكن الوقوف على ضبطه، فلا يبعد أن يكون مزاج الآلات أيضاً يختلف في حق الأشخاص وفي حق الأحوال. والعقل ويكون أحد الأسباب في سبق الضعف إلى البصر دون العقل أن البصر أقدم فإنه مبصر في أول فطرته ولا يتم عقله إلا بعد خمسة عشر سنة أو زيادة على ما يشاهد اختلاف الناس فيه، حتى قيل إن الشيب إلى شعر الرأس أسبق منه إلى شعر اللحية لأن شعر الرأس أقدم. فهذه الأسباب إن خاض الخائض فيها ولم يرد هذه الأمور إلى مجاري العادات فلا يمكن أن ينبنى عليها علم موثوق به لأن جهات الاحتمال فيما تزيد بها القوى أو تضعف لا تنحصر فلا يورث شيء من ذلك يقيناً. دليل تاسع دليلهم التاسع مهما تبدل الجسم فالإنسان يبقى بعينه ومعه علوم قالوا: كيف يكون الإنسان عبارة عن الجسم مع عوارضه؟ وهذه الأجسام لا تزال تنحل والغذاء يسد مسد ما ينحل، حتى إذا رأينا صبياً انفصل من الجنين فيمرض مراراً ويذبل ثم يسمن وينموا فيمكننا أن نقول: لم يبق فيه بعد الأربعين شيء من الأجزاء التي كانت موجودة عند الانفصال بل كان أول وجوده من أجزاء المني فقط ولم يبق فيه شيء من أجزاء المني بل انحل كل ذلك وتبدل بغيره. فيكون هذا الجسم غير ذلك الجسم. ونقول:
هذا الإنسان هو ذلك الإنسان بعينه وحتى أنه يبقى معه علوم من أول صباه ويكون قد تبدل جميع أجسامه. فدل أن للنفس وجوداً سوى البدن وأن البدن آلته. وكلك الشجرة الاعتراض أن هذا ينتقض بالبهيمة والشجرة إذا قيست حالة كبرهما بحالة الصغر فإنه يقال إن هذا ذاك بعينه، كما يقال في الإنسان، وليس يدل ذلك على أن له وجوداً غير الجسم. وتبقى الصور المتخيلة وما ذكر في العلم يبطل بحفظ الصور المتخيلة فإنه يبقى في الصبي إلى الكبر وإن تبدل سائر أجزاء الدماغ فإن زعموا أنه لم يتبدل سائر أجزاء الدماغ فكذى سائر أجزاء القلب وهما من البدن فكيف يتصور أن يتبدل الجميع؟ والإنسان يبقى منه شيء بل نقول: الإنسان وإن عاش مائة سنة مثلاً فلا بد وأن يكون قد بقي فيه أجزاء من النطفة فأما أن تنمحى عنه فلا فهو ذلك الإنسان باعتبار ما بقي، كم أنه يقال: هذا ذاك الشجر وهذا ذاك الفرس، ويكون بقاء المني مع كثرة التحلل والتبدل. مثل الماء الذي تصب عليه وتأخذ منه مثاله ما إذا صب في موضع رطل من الماء ثم صب عليه رطل آخر حتى اختلط به ثم أخذ منه رطل ثم صب عليه رطل آخر ثم أخذ منه رطل
ثم لا يزال يفعل كذلك ألف مرة فنحن في المرة الأخيرة نحكم بأن شيئاً من الماء الأول باق وأنه ما من رطل يؤخذ منه إلا وفيه شيء من ذلك الماء لأنه كان موجوداً في الكرة الثانية، والثالثة قريبة من الثانية والرابعة من الثالثة وهكذى إلى الآخر. وهذا على أصلهم ألزم حيث جوزوا انقسام الأجسام إلى غير نهاية، فانصباب الغذاء في البدن وانحلال أجزاء البدن يضاهي صب الماء في هذا الإناء واغترافه عنه. دليل عاشر دليلهم العاشر في العقل كليات عامة قالوا: القوة العقلية تدرك الكليات العامة العقلية التي يسميها المتكلمون أحوالاً فتدرك الإنسان المطلق عند مشاهدة الحس لشخص إنسان معين وهو غير الشخص المشاهد فإن المشاهد في مكان مخصوص ولون مخصوص ومقدار مخصوص ووضع مخصوص، والإنسان المعقول المطلق مجرد عن هذه الأمور بل يدخل فيه كل ما ينطلق عليه اسم الإنسان وإن لم يكن على لون المشاهد وقدره ووضعه ومكانه، بل الذي يمكن وجوده في المستقبل يدخل فيه، بل لو عدم الإنسان يبقى حقيقة الإنسان في العقل مجرداً عن هذه الخواص، وهكذى كل شيء شاهده الحس مشخصاً فيحصل منه للعقل حقيقة ذلك الشخص كلياً مجرداً عن المواد والأوضاع حتى تنقسم أوصافه إلى ما هو ذاتي كالجسمية للشجر والحيوان والحيوانية للإنسان وإلى ما هو عرضي له كالبياض والطول للإنسان والشجر، ويحكم بكونه ذاتياً وعرضياً على جنس الإنسان والشجر وكل ما يدرك لا على الشخص المشاهد،
فدل أن الكلي المجرد عن القرائن المحسوسة معقولة عنده وثابتة في عقله. تجردها عن القرائن المحسوسة تتعلق بالنفس المجردة وذلك الكلي المعقول لا إشارة إليه ولا وضع له ولا مقدار، فإما أن يكون تجرده عن الوضع والمادة بالإضافة إلى المأخوذ منه وهو محال فإن المأخوذ منه ذو وضع وأين ومقدار، وإما أن يكون بالإضافة إلى الآخذ وهو النفس العاقلة فينبغي أن لا يكون للنفس وضع ولا إليه إشارة ولا له مقدار، وإلا لو ثبت ذلك لثبت للذي حل فيه. اعتراضنا ما يحل في الحس يحل في العقل، ولكن مفصلاً والاعتراض أن المعنى الكلي الذي وضعتموه حالاً في العقل غير مسلم بل لا يحل في العقل إلا ما يحل في الحس ولكن يحل في الحس مجموعاً ولا يقدر الحس على تفصيله والعقل يقدر على تفصيله. في العقل النسبة إلى جميع المفردات نسبة واحدة ثم إذا فصل كان المفصل المفرد عن القرائن في العقل في كونه جزئياً كالمقرون بقرائنه، إلا أن الثابت في العقل يناسب المعقول وأمثاله مناسبة واحدة فيقال إنه كلي على هذا المعنى وهو أن في العقل صورة المعقول المفرد الذي أدركه الحس أولاً، ونسبة تلك الصورة إلى سائر آحاد ذلك الجنس نسبة واحدة فإنه لو رأى إنساناً آخر لم يحدث له هيئة أخرى كما إذا رأى فرساً بعد إنسان فإنه يحدث فيه صورتان مختلفتان. ومثل هذا في الحس ومثل هذا قد يعرض في مجرد الحس فإن من رأى الماء حصل في خياله صورة، فلو رأى الدم بعده حصلت صورة أخرى، فلو رأى ماء آخر لم تحدث صورة أخرى بل الصورة التي انطبعت في خياله من الماء مثال لكل
واحد من آحاد المياه فقد يظن أنه كلي بهذا المعنى. فكذلك إذا رأى اليد مثلاً حصل في الخيال وفي العقل وضع أجزائه بعضها مع بعض وهو انبساط الكف وانقسام الأصابع عليه وانتهاء الأصابع على الأظفار، ويحصل مع ذلك صغره وكبره ولونه. فإن رأى يداً أخرى تماثله في كل شيء لم يتجدد له صورة أخرى بل لا تؤثر المشاهدة الثانية في إحداث شيء جديد في الخيال، كما إذا رأى الماء بعد الماء في إناء واحد على قدر واحد وقد يرى يداً أخرى تخالفه في اللون والقدر فيحدث له لون آخر وقدر آخر ولا يحدث له صورة جديدة لليد، فإن اليد الصغير الأسود يشارك اليد الكبير الأبيض في وضع الأجزاء ويخالفه في اللون والقدر، فما يساوي فيه الأول لا تتجدد صورته إذ تلك الصورة هي هذه الصورة بعينها وما يخالفه يتجدد صورته. وهذا لا يؤذن بثبوت كلي في العقل لا وضع له أصلاً فهذا معنى الكلي في العقل والحس جميعاً فإن العقل إذا أدرك صورة الجسم من الحيوان فلا يستفيد من الشجر صورة جديدة في الجسمية كما في الخيال بإدراك صورة الماءين في وقتين، وكذى في كل متشابهين وهذا لا يؤذن بثبوت كلي لا وضع له أصلاً. على أن العقل قد يحكم بثبوت شيء لا إشارة إليه ولا وضع كحكمه بوجود صانع العالم، ولكن من أين أن ذلك لا يتصور قيامه بجسم؟ وفي هذا القسم يكون المنتزع عن المادة هو المعقول في نفسه دون العقل والعاقل. فأما المأخوذ من المواد فوجهه ما ذكرناه.
مسألة في إبطال قولهم إن النفوس الإنسانية يستحيل عليها العدم بعد وجودها وأنها سرمدية لا يتصور فناؤها فيطالبون بالدليل عليه. ولهم دليلان: دليلهم الأول لا يكون بموت البدن أحدهما قولهم إن عدمها لا يخلوا إما أن يكون بموت البدن أو بضد يطرى عليها أو بقدرة القادر. وباطل أن تنعدم بموت البدن فإن البدن ليس محلاً لها بل هو آلة تستعملها النفس بواسطة القوى التي في البدن، وفساد الآلة لا يوجب فساد مستعمل الآلة إلا أن يكون حالاً فيها منطبعاً كالنفوس البهيمية والقوى الجسمانية، ولأن النفس فعلاً بغير مشاركة الآلة وفعلاً بمشاركتها فالفعل الذي لها بمشاركة الآلة التخيل والإحساس والشهوة والغضب فلا جرم يفسد بفساد البدن ويفوت بفواته، وفعلها بذاتها دون مشاركة البدن إدراك المعقولات المجردة عن المواد ولا حاجة في كونه مدركاً للمعقولات إلى البدن بل الاشتغال بالبدن يعوقها عن المعقولات، ومهما كان لها فعل دون البدن ووجود دون البدن لم تفتقر في قوامها إلى البدن. ولا بالضد وباطل أن يقال إنها تنعدم بالضد إذ الجواهر لا ضد لها، ولذلك
لا ينعدم في العالم إلا الأعراض والصور المتعاقبة على الأشياء إذ تنعدم صورة المائية بضدها وهو صورة الهوائية، والمادة التي هي المحل لا تنعدم قط وكل جوهر ليس في محل فلا يتصور عدمه بالضد إذ لا ضد لما ليس في محل فإن الأضداد هي المتعاقبة على محل واحد. ولا بالقدرة وباطل أن يقال: تفنى بالقدرة، إذ العدم ليس شيئاً حتى يتصور وقوعه بالقدرة وهذا عين ما ذكروه في مسألة أبدية العالم وقد قررناه وتكلمنا عليه. اعتراضنا الأول راجع ما سبق والاعتراض عليه من وجوه: الأول أنه بناء على أن النفس لا يموت بموت البدن لأنه ليس حالاً في جسم، وهو بناء على المسألة الأولى فقد لا نسلم ذلك: اعتراضنا الثاني حدوث النفس لا يكون إلا بحدوث البدن الثاني هو أنه لا يحل البدن عندهم فله علاقة بالبدن حتى لم يحدث إلا بحدوث البدن. هذا ما اختاره ابن سينا والمحققون وأنكروا على أفلاطن أن النفس قديمة ويعرض لها الاشتغال بالأبدان بمسلك برهاني محقق. كما تحقق الأمر وهو أن النفوس قبل الأبدان، إن كانت واحدة فكيف انقسمت وما لا عظم له ولا مقدار لا يعقل انقسامه. وإن زعم أنه لم ينقسم فهو محال إذ يعلم ضرورة أن نفس زيد غير نفس عمرو ولو كانت واحدة لكانت معلومات زيد معلومة لعمرو فإن العلم من صفات ذات النفس وصفات الذات تدخل مع الذات في كل إضافة، وإن كانت النفوس متكثرة فماذى تكثرت؟ ولم تتكثر بالمواد ولا بالأماكن ولا بالأزمنة ولا بالصفات إذ ليس فيها ما يوجب اختلاف الصفة بخلاف النفوس بعد
موت البدن فإنها تتكثر باختلاف الصفات عند من يرى بقاءها لأنها استفادت من الأبدان هيئات مختلفة لا تتماثل نفسان منها، فإن هيئاتها تحصل من الأخلاق والأخلاق قط لا تتماثل نفسان منها، فإن هيئاتها تحصل من الأخلاق والأخلاق قط لا تتماثل كما أن الخلق الظاهر قط لا يتماثل، ولو تماثلت لاشتبه علينا زيد بعمرو. والنفس تتعلق بالبدن المخصوص ببعض الوسائط ومهما ثبت بحكم هذا البرهان حدوثه عند حدوث النطفة في الرحم واستعداد مزاجها لقبول النفس المدبرة ثم قبلت النفس لا لأنها نفس فقط، إذ قد تستعد في رحم واحد نطفتان لتوأمين في حالة واحدة للقبول فيتعلق بهما نفسان يحدثان من المبدأ الأول بواسطة أو بغير واسطة ولا يكون نفس هذا مدبراً لجسم ذاك ولا نفس ذاك مدبراً لجسم هذا فليس الإختصاص إلا لعلاقة خاصة بين النفس المخصوص وبين ذلك البدن المخصوص، وإلا فلا يكون بدن أحد التوأمين بقبول هذه النفس أولى من الآخر، وإلا فقد حدثت نفسان معاً واستعدت نطفتان لقبول التدبير معاً. فإذا بطل البدن انعدمت النفس فما المخصص؟ فإن كان ذلك المخصص هو الانطباع فيه فيبطل ببطلان البدن، وإن كان ثم وجه آخر به العلاقة بين هذه النفس على الخصوص وبين هذا البدن على الخصوص حتى كانت تلك العلاقة شرطاً في حدوثه فأي بعد في أن تكون شرطاً في بقاءه؟ فإذا انقطعت العلاقة انعدمت النفس ثم لا يعود وجودها إلا بإعادة الله سبحانه وتعالى على سبيل البعث والنشور كما ورد به الشرع في المعاد.
قد يقال ليست هذه العلاقة، إلا بطريق الشوق فإن قيل: أما العلاقة بين النفس والبدن فليس إلا بطريق نزاع طبيعي وشوق جبلي خلق فيها إلى هذا البدن خاصة يشغلها ذلك الشوق بها عن غيره من الأبدان ولا يخليها في لحظة فتبقى مقيدة بذلك الشوق الجبلي بالبدن المعين مصروفاً عن غيره.
وذلك لا يوجب فساده بفساد البدن الذي هو مشتاق بالجبلة إلى تدبيره. نعم قد يبقى ذلك الشوق بعد مفارقة البدن إن استحكم في الحيوة اشتغالها بالبدن وإعراضها عن كسر الشهوات وطلب المعقولات فيتأذى بذلك الشوق مع فوات الآلة التي الشوق إلى مقتضاها. وبمناسبة تخفى علينا وأما تعين نفس زيد لشخص زيد في أول الحدوث فلسبب ومناسبة بين البدن والنفس لا محالة حتى يكون هذا البدن مثلاً أصلح لهذه النفس من الآخر لمزيد مناسبة بينهما فترجح اختصاصه، وليس في القوة البشرية إدراك خصوص تلك المناسبات، وعدم اطلاعنا على تفصيله لا يشككنا في أصل الحاجة إلى مخصص ولا يضرنا أيضاً في قولنا إن النفس لا تفنى بفناء البدن. جوابنا قد تكون على وجه يحوج النفس في بقائها قلنا: مهما غابت المناسبة عنا وهي المقتضية للاختصاص فلا يبعد أن تكون تلك المناسبة المجهولة على وجه يحوج النفس في بقائها إلى بقاء البدن
حتى إذا فسد فسدت، فإن المجهول لا يمكن الحكم عليه بأنه يقتضي التلازم أم لا، فلعل تلك النسبة ضرورية في وجود النفس فإن انعدمت انعدمت، فلا ثقة بالدليل الذي ذكروه. اعتراضنا الثالث تنعدم بقدرة الله الاعتراض الثالث هو أنه لا يبعد أن يقال: تنعدم بقدرة الله تعالى، كما قررناه في مسألة سرمدية العالم. اعتراضنا الرابع لعل هناك طرق غيرها الاعتراض الرابع هو أن يقال: ذكرتم أن هذه الطرق الثلث في العدم تنحسم، فهو مسلم. فما الدليل على أن عدم الشيء لا يتصور إلا بطريق من هذه الطرق الثلث؟ فإن التقسيم إذا لم يكن دائراً بين النفي والإثبات فلا يبعد أن يزيد على الثلث والأربع، فلعل للعدم طريقاً رابعاً وخامساً سوى ما ذكرتموه، فحصر الطرق في هذه الثلث غير معلوم بالبرهان. دليلهم الثاني كل جوهر يستحيل عليه العدم دليل ثان وعليه تعويلهم أن قالوا: كل جوهر ليس في محل فيستحيل عليه العدم، بل البسائط لا تنعدم قط. وهذا الدليل يثبت فيه أولاً أن موت البدن لا يوجب انعدامه لما سبق. ما ينعدم ففيه قوة الفساد وحامله يبقى فبعد ذلك يقال: يستحيل أن ينعدم بسبب آخر بسبب آخر لأن كل ما ينعدم بسبب ما أي سبب كان ففيه قوة الفساد، أي إمكان العدم سابق على الانعدام، كما أن ما يطرى وجوده من الحوادث فيكون إمكان الوجود سابقاً على الوجود ويسمى إمكان الوجود قوة الوجود وإمكان العدم قوة الفساد. وكما أن إمكان الوجود وصف إضافي لا يقوم إلا بشيء حتى يكون إمكاناً بالإضافة إليه فكذلك إمكان العدم، ولذلك قيل إن كل حادث فيفتقر إلى مادة سابقة يكون فيها إمكان وجود الحادث وقوته، كما سبق في مسألة قدم العالم، فالمادة التي فيها قوة الوجود قابلة للوجود الطاري والقابل غير المقبول فيكون القابل موجوداً مع المقبول عند طريانه وهو غيره. فكذلك قابل العدم ينبغي أن يكون موجوداً عند طريان العدم حتى يعدم منه شيء كما وجد فيه شيء ويكون ما عدم غير ما بقي ويكون ما بقي هو الذي فيه قوة العدم وقبوله وإمكانه
كما أن ما بقي عند طريان الوجود يكون غير ما طرى وقد كان ما فيه قوة قبول الطاري. وهو كالمادة فيلزم أن يكون الشيء الذي طرى عليه العدم مركباً من شيء انعدم ومن قابل للعدم بقي مع طريان العدم وقد كان هو حامل قوة العدم قبل طريان العدم ويكون حامل القوة كالمادة والمنعدم منها كالصورة. لكن النفس غير مركبة ولكن النفس بسيطة وهي صورة مجردة عن المادة لا تركيب فيها، فإن فرض فيها تركيب من صورة ومادة فنحن ننقل البيان إلى المادة التي هي السنخ والأصل الأول، إذ لا بد وأن ينتهي إلى أصل فنحيل العدم على ذلك الأصل وهو المسمى نفساً، كما نحيل العدم على مادة الأجسام فإنها أزلية أبدية، إنما تحدث عليها الصور وتنعدم منها الصور وفيها قوة طريان الصور عليها وقوة انعدام الصور منها فإنها قابلة للضدين على السواء وقد ظهر من هذا الوجود أن كل موجود أحدى الذات يستحيل عليه العدم. إن قوة الوجود للشيء يكون لغير ذلك الشيء ويمكن تفهيم هذا بصيغة أخرى وهو أن قوة الوجود للشيء يكون قبل وجود الشيء فيكون لغير ذلك الشيء ولا يكون نفس قوة الوجود. بيانه أن الصحيح البصر يقال أنه بصير بالقوة أي فيه قوة الإبصار، ومعناه أن الصفة التي لا بد منها في العين ليصح الإبصار موجودة، فإن تأخر الإبصار فلتأخر شرط آخر فيكون قوة الإبصار للسواد مثلاً موجوداً للعين قبل إبصار السواد بالفعل، فإن حصل إبصار السواد بالفعل لم يكن قوة إبصار ذلك السواد موجوداً عند وجود ذلك الإبصار إذ لا يمكن أن يقال: مهما حصل الإبصار فهو مع كونه موجوداً بالفعل موجود بالقوة، بل قوة الوجود لا يضام حقيقة الوجود الحاصل بالفعل أبداً. لو انعدم الشيء البسيط لاجتمع في الشيء الواحد قوة الوجود مع حصول الوجود وإذا ثبتت هذه المقدمة فنقول: لو انعدم الشيء البسيط لكان إمكان
العدم قبل العدم حاصلاً لذلك الشيء وهو المراد بالقوة، فيكون إمكان الوجود أيضاً حاصلاً فإن ما أمكن عدمه فليس واجب الوجود فهو ممكن الوجود، ولا نعني بقوة الوجود إلا إمكان الوجود فيؤدي إلى أن يجتمع في الشيء الواحد قوة وجود نفسه مع حصول وجوده بالفعل ويكون وجوده بالفعل هو عين قوة الوجود وقد بينا أن قوة الإبصار تكون في العين التي هي غير الإبصار ولا تكون في نفس الإبصار إذ يؤدي إلى أن يكون الشيء بالقوة والفعل وهما متناقضان، بل مهما كان الشيء بالقوة لم يكن بالفعل ومهما كان بالفعل لم يكن بالقوة، وفي إثبات قوة العدم للبسيط قبل العدم إثبات لقوة الوجود في حالة الوجود وهو محال. راجع ما سبق في مسألة أزلية العالم وهذا بعينه هو الذي قررناه لهم في مصيرهم إلى استحالة حدوث المادة والعناصر واستحالة عدمها في مسألة أزلية العالم وأبديته ومنشأ التلبيس وضعهم الإمكان وصفاً مستدعياً محلاً يقوم به. وقد تكمنا عليه بما فيه مقنع فلا نعيد فإن المسألة هي المسألة فلا فرق بين أن يكون المتكلم فيه جوهر مادة أو جوهر نفس.
مسألة في إبطال إنكارهم لبعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان ووجود النار الجسمانية ووجود الجنة والحور العين وسائر ما وعد به الناس وقولهم إن كل ذلك أمثلة ضربت لعوام الخلق لتفهيم ثواب وعقاب روحانيين هما أعلى رتبة من الجسمانية وهو مخالف لاعتقاد المسلمين كافة. فلنقدم تفهيم معتقدهم في الأمور الأخروية ثم لنعترض على ما يخالف الإسلام من جملته. قولهم اللذة السرمدية لا تكون إلا بالعلم والعمل وقد قالوا إن النفس تبقى بعد الموت بقاء سرمدياً إما في لذة لا يحيط الوصف بها لعظمها وإما في ألم لا يحيط الوصف به لعظمه، ثم قد يكون ذلك الألم مخلداً وقد ينمحى على طول الزمان. ثم تتفاوت طبقات الناس في درجات الألم واللذة تفاوتاً غير محصور كما يتفاوتون في المراتب الدنيوية ولذاتها تفاوتاً غير محصور، واللذة السرمدية للنفوس الكاملة الزكية والألم السرمدي للنفوس الناقصة الملطخة والألم المنقضي للنفوس الكاملة الملطخة، فلا تنال السعادة المطلقة إلا بالكمال والتزكية والطهارة والكمال بالعلم والزكاء بالعمل. تلتذ بهما القوة العقلية ووجه الحاجة إلى العلم أن القوة العقلية غذاؤها ولذتها في درك المعقولات كما أن القوة الشهوانية لذتها في نيل المشتهى والقوة البصرية لذتها في النظر إلى الصور الجميلة وكذلك سائر القوى. وإنما يمنعها من الاطلاع على المعقولات البدن وشواغله وحواسه وشهواته.
والنفس الجاهلة في الحيوة الدنيا حقها أن تتألم بفوات لذة النفس ولكن الاشتغال بالبدن ينسيه نفسه ويلهيه عن ألمه كالخائف لا يحس بالألم وكالخدر لا يحس بالنار، فإذا بقيت ناقصة حتى انحط عنه شغل البدن كان في صورة الخدر، إذا عرض على النار فلا يحس بالألم فإذا زال الخدر شعر بالبلا العظيم دفعة واحدة هجوماً. والبدن يشغل عنها والنفوس المدركة للمعقولات قد تلتذ بها التذاذاً خفياً قاصراً عما يقتضيه طباعه وذلك أيضاً لشواغل البدن وأنس النفس بشهواتها. ومثاله مثال المريض الذي في فيه مرارة يستبشع الشيء الطيب الحلو ويستهجن الغذاء الذي هو أتم أسباب اللذة في حقه فلا يتلذذ به لما عرض من المرض. فإذا انحط عنها أعباء البدن، أدركت اللذة دفعة فالنفوس الكاملة بالعلوم إذا انحط عنها أعباء البدن وشواغله بالموت كان مثاله مثال من عرض للطعم الألذ والذوق الأطيب وكان به عارض مرض يمنعه من الإدراك فزال العارض فأدرك اللذة العظيمة دفعة. أو مثال من اشتد عشقه في حق شخص فضاجعه ذلك الشخص وهو نائم أو مغمى عليه أو سكران فلا يحس به فتنبه فجأة فيشعر بلذة الوصال بعد طول الانتظار دفعة واحدة. اللذات الروحانية تفهم بالجسمانية وهذه اللذات حقيرة بالإضافة إلى اللذات الروحانية العقلية إلا أنه لا يمكن تفهيمه إلا بأمثلة مما شاهدها الناس في هذه الحيوة، وهذا كما أنا لو أردنا أن نفهم الصبي أو العنين لذة الجماع لم نقدر عليه إلا بأن نمثله في حق الصبي باللعب الذي هو ألذ الأشياء عنده وفي حق العنين بلذة الأكل الطيب مع شدة الجوع ليصدق بأصل وجود اللذة ثم يعلم أن ما فهمه بالمثال ليس يحقق عنده لذة الجماع وأن ذلك لا يدرك إلا بالذوق. وهذه أحط من الأولى لعدم وجودها في الملائكة والدليل على أن اللذات العقلية أشرف من اللذات الجسمانية أمران: أحدهما أن حال الملائكة أشرف من حال السباع والخنازير من البهائم
وليس لها اللذات الحسية من الجماع والأكل وإنما لها لذة الشعور بكمالها وجمالها الذي خص بها في نفسها في اطلاعها على حقائق الأشياء وقربها من ربي العالمين في الصفات لا في المكان وفي رتبة الوجود، فإن الموجودات حصلت من الله على ترتيب وبوسائط فالذي يقرب من الوسائط رتبته لا محالة أعلى. ولكن الإنسان يفضلها على غيرها والثاني أن الإنسان أيضاً قد يؤثر اللذات العقلية على الحسية، فإن من يتمكن من غلبة عدو والشماتة به يهجر في تحصيله ملاذ الأنكحة والأطعمة بل قد يهجر الأكل طول النهار في لذة غلبة الشطرنج والنرد مع خسة الأمر فيه ولا يحس بألم الجوع. وكذلك المتشوف إلى الحشمة والرئاسة يتردد بين انخرام حشمته بقضاء الوطر من عشيقته مثلاً بحيث يعرفه غيره وينتشر عنه فيصون الحشمة ويترك قضاء الوطر ويستحقر ذلك محافظة على ماء الوجه فيكون ذلك لا محالة ألذ عنده، بل ربما يهجم الشجاع على جم غفير من الشجعان مستحقراً خطر الموت شغفاً بما يتوهمه بعد الموت من لذة الثناء والإطراء عليه. فالأفضلية هي للذات العقلية الأخروية فإذن اللذات العقلية الأخروية أفضل من اللذات الحسية الدنيوية ولولا ذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال تعالى: "لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" فهذا وجه الحاجة إلى العلم. بعض العلوم نافعة والنافع من جملته العلوم العقلية المحضة وهي العلم بالله وصفاته وملائكته وكتبه وكيفية وجود الأشياء منه وما وراء ذلك إن كان وسيلة إليه، فهو نافع لأجله وإن لم يكن وسيلة إليه كالنحو واللغة والشعر
وأنواع العلوم المفترقة فهي صناعات وحرف كسائر الصناعات. النفس المواظبة على الشهوات تنال الأذى وأما الحاجة إلى العمل والعبادة فلزكاء النفس، فإن النفس في هذا البدن مصدود عن درك حقائق الأشياء لا لكونه منطبعاً في البدن بل لاشتغاله ونزوعه إلى شهواته وشوقه إلى مقتضياته، وهذا النزوع والشوق هيئة للنفس تترسخ فيها وتتمكن منها بطول المواظبة على اتباع الشهوات والمثابرة على الأنس بالمحسوسات المستلذة، فإذا تمكنت من النفس فمات البدن كانت هذه الصفات متمكنه من النفس ومؤذية من وجهين. فتكون عاجزة عن الاتصال بالملائكة أحدهما أنها تمنعها عن لذتها الخاصة بها وهو الاتصال بالملائكة والإطلاع على الأمور الجميلة الإلهية ولا يكون معه البدن الشاغل فيلهيه عن التألم كما قبل الموت. وعن اللذة الجسمانية والثاني أنه يبقى معه الحرص والميل إلى الدنيا وأسبابها ولذاتها وقد استلب منه الآلة فإن البدن هو الآلة للوصول إلى تلك اللذات فيكون حاله حال من عشق امرأة وألف رئاسة واستأنس بأولاد واستروح إلى مال وابتهج بحشمة فقتل معشوقه وعزل عن رئاسته وسبي أولاده ونساؤه وأخذ أمواله أعداؤه وأسقط بالكلية حشمته فيقاسي من الألم ما لا يخفى، وهو في هذه الحيوة غير منقطع الأمل عن عود أمثال هذه الأمور فإن الدنيا غاد ورائح فكيف إذا انقطع الأمل بفقدان البدن بسبب الموت. فالأولى أن يعرض عن الدنيا ولا ينجي عن التضمخ بهذه الهيئات إلا كف النفس عن الهوى والإعراض عن الدنيا والإقبال بكنه الجد على العلم والتقوى حتى تنقطع علائقه عن الأمور الدنيوية وهو في الدنيا وتستحكم علاقته مع الأمور الأخروية، فإذا مات كان كالمتخلص عن سجن فالواصل إلى جميع مطالبه فهو جنته.
لكن الضرورات البدنية جاذبة إليها ولا يمكن سلب جميع هذه الصفات عن النفس ومحوها بالكلية فإن الضرورات البدنية جاذبة إليها، إلا أنه يمكن تضعيف تلك العلاقة ولذلك قال تعالى: "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا". إلا أنه إذا ضعفت العلاقة لم تشتد نكاية فراقها وعظم الالتذاذ بما اطلع عليه عند الموت من الأمور الإلهية فأماط أثر مفارقة الدنيا والنزوع إليها على قرب، كمن يستنهض من وطنه إلى منصب عظيم وملك مرتفع فقد ترق نفسه حالة الفراق على أهله ووطنه فيتأذى أذى ما ولكن ينمحى بما يستأنفه من لذة الابتهاج بالملك والرئاسة. ولذلك ورد الشرع بالتوسط في الأخلاق وإذا لم يكن سلب هذه الصفات ورد الشرع في الأخلاق بالتوسط بين كل طرفين متقابلين لأن الماء الفاتر لا حار ولا بارد فكأنه بعيد عن الصفتين فلا ينبغي أن يبالغ في إمساك المال فيستحكم فيه حرص المال ولا في الإنفاق فيكون مبذراً ولا أن يكون ممتنعاً عن كل الأمور فيكون جباناً ولا منهمكاً في كل أمر فيكون متهوراً، بل يطلب الجود فإنه الوسط بين البخل والتبذير والشجاعة فإنها الوسط بين الجبن والتهور وكذلك في جميع الأخلاق، وعلم الأخلاق طويل والشريعة بالغت في تفصيلها ولا سبيل في تهذيب الأخلاق إلا بمراعاة قانون الشرع في العمل حتى لا يتبع الإنسان هواه فيكون قد اتخذ إلهه هواه بل يقلد الشرع فيقدم ويحجم بإشارته لا باختياره فتتهذب به أخلاقه. فمنهم من يكونون تعساء ومنهم سعداء على وجه كامل أو غير كامل ومن عدم هذه الفضيلة في الخلق والعلم جميعاً فهو الهالك ولذلك قال تعالى: "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". ومن جمع الفضيلتين العلمية والعملية فهو العارف العابد وهو السعيد المطلق
ومن له الفضيلة العلمية دون العملية فهو العالم الفاسق ويتعذب مدة ولكن لا يدوم لأن نفسه قد كمل بالعلم ولكن العوارض البدنية لطخته تلطيخاً عارضاً على خلاف جوهر النفس، وليس تتجدد الأسباب المجددة فينمحى على طول الزمان، ومن له الفضيلة العملية دون العلمية فيسلم وينجو عن الألم ولا يحظى بالسعادة الكاملة. وزعموا أن من مات فقد قامت قيامته. في الشرع صور وأما ما ورد في الشرع من الصور فالقصد ضرب الأمثال لقصور الأفهام عن درك هذه اللذات فمثل لهم ما يفهمون ثم ذكر لهم أن تلك اللذات فوق ما وصف لهم. فهذا مذهبهم. جوابنا أكثر الأمور صحيحة ولكن لا تعرف إلا بالشرع ونحن نقول: أكثر هذه الأمور ليس على مخالفة الشرع فإنا لا ننكر أن في الآخرة أنواع من اللذات أعظم من المحسوسات ولا ننكر بقاء النفس عند مفارقة البدن ولكنا عرفنا ذلك بالشرع إذ ورد بالمعاد ولا يفهم المعاد إلا ببقاء النفس، وإنما أنكرنا عليهم من قبل دعواهم معرفة ذلك بمجرد العقل. فالشرع يعلمنا حشر الأجساد ولكن المخالف للشرع منها إنكار حشر الأجساد وإنكار اللذات الجسمانية في الجنة والآلام الجسمانية في النار وإنكار وجود جنة ونار كما وصف في القرآن.
فما المانع من تحقيق الجمع بين السعادتين الروحانية والجسمانية وكذى الشقاوة،
وقوله: لا تعلم نفس ما أخفي لهم، أي لا يعلم جميع ذلك.
وقوله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت فكذلك وجود تلك الأمور الشريفة لا يدل على نفي غيرها بل الجمع بين الأمرين أكمل والموعود أكمل الأمور وهو ممكن فيجب التصديق به على وفق الشرع.
قد يقال هذه أمثال فإن قيل: ما ورد فيه أمثال ضربت على حد أفهام الخلق كما أن الوارد من آيات، التشبيه وإخباره أمثال على حد فهم الخلق والصفات الإلهية مقدسة عما يخيله عامة الناس.
قولنا لا محل للتأويل والجواب أن التسوية بينهما تحكم بل هما يفترقان من وجهين: أحدهما أن الألفاظ الواردة في التشبيه تحتمل التأويل على عادة العرب في الاستعارة وما ورد في وصف الجنة والنار وتفصيل تلك الأحوال بلغ مبلغاً لا يحتمل التأويل فلا يبقى إلا خمل الكلام على التلبيس بتخييل نقيض الحق لمصلحة الخلق وذلك مما يتقدس عنه منصب النبوة.
ولا للاستحالة والثاني أن أدلة العقول دلت على استحالة المكان والجهة والصورة ويد الجارحة وعين الجارحة وإمكان الانتقال والاستقرار على الله سبحانه فوجب التأويل بأدلة العقول وما وعد من الأمور الآخرة ليس محالاً في قدرة الله تعالى، فيجب الجري على ظاهر الكلام بل على فحواه الذي هو صريح فيه.
قولهم هناك أمور محالة فإن قيل: وقد دل الدليل العقلي على استحالة بعث الأجساد كما دل على استحالة تلك الصفات على الله تعالى. فنطالبهم بإظهاره. ولهم فيه مسالك
مسلكهم الأول إما أن يعاد البدن والحياة المسلك الأول قولهم: تقدير العود إلى الأبدان لا يعدوا ثلثة أقسام. إما أن يقال: الإنسان عبارة عن البدن والحيوة التي هي عرض قائم به، كما ذهب إليه بعض المتكلمين، وأن النفس التي هي قائم بنفسه ومدبر للجسم فلا وجود له، ومعنى الموت انقطاع الحيوة أي امتناع الخالق عن خلقها فتنعدم والبدن أيضاً ينعدم، ومعنى المعاد إعادة الله للبدن الذي انعدم ورده إلى الوجود وإعادة الحيوة التي انعدمت أو يقال: مادة البدن تبقى تراباً ومعنى المعاد أن يجمع ويركب على شكل آدمي ويخلق فيه الحيوة ابتداء، فهذا قسم. إما أن ترد النفس إلى البدن وإما أن يقال: النفس موجود ويبقى بعد الموت ولكن يرد البدن الأول بجمع تلك الأجزاء بعينها،
وهذا قسم. إما أن ترد النفس إلى بدن أياً كان وإما أن يقال: يرد النفس إلى بدن سواء كان من تلك الأجزاء أو من غيرها ويكون العائد ذلك الإنسان من حيث أن النفس تلك النفس، فأما المادة فلا التفات إليها إذ الإنسان ليس إنساناً بها بل بالنفس. وهذه الأقسام الثلثة باطلة. وهذه الثلاثة باطلة ففي الأول إيجاد لمثل ما كان لا إعادة عين ما كان أما الأول فظاهر البطلان لأنه مهما انعدمت الحيوة والبدن فاستئناف خلقها إيجاد لمثل ما كان لا لعين ما كان، بل العود المفهوم هو الذي يفرض فيه بقاء شيء وتجد شيء، كما يقال: فلان عاد إلى الإنعام أي أن المنعم باق، وترك الإنعام ثم عاد إليه أي عاد إلى ما هو الأول بالجنس ولكنه غيره بالعدد فيكون عوداً بالحقيقة إلى مثله لا إليه. ويقال: فلان عاد إلى البلد أي بقي موجوداً خارجاً وقد كان له كون في البلد فعاد إلى مثل ذلك فإن لم يكن شيء باق وشيئان متعددان متماثلان يتخللهما زمان لم يتم اسم العود، إلا أن يسلك مذهب المعتزلة فيقال: المعدوم شيء ثابت والوجود حال يعرض له مرة وينقطع تارة ويعود أخرى فيتحقق معنى العود باعتبار بقاء الذات ولكنه رفع للعدم المطلق الذي هو النفي المحض وهو إثبات للذات مستمرة الثبات إلى أن يعود إليه الوجود وهو محال. فلا يعود الإنسان بعينه وإن احتال ناصر هذا القسم بأن قال: تراب البدن لا يفنى فيكون باقياً فتعود إليه الحيوة. فنقول عند ذلك يستقيم أن يقال: عاد التراب حياً بعد أن انقطعت الحيوة عنه مرة، ولا يكون ذلك عوداً للإنسان ولا رجوع ذلك الإنسان بعينه لأن الإنسان إنسان لا بمادته والتراب الذي فيه إذ يتبدل عليه سائر الأجزاء أو أكثرها بالغذاء وهو ذاك الأول بعينه، فهو باعتبار روحه أو نفسه
فإذا عدمت الحيوة أو الروح فما عدم لا يعقل عوده وإنما يستأنف مثله، ومهما خلق الله حيوة إنسانية في تراب يحصل من بدن شجر أو فرس أو نبات كان ذلك ابتداء خلق الإنسان، فالمعدوم قط لا يعقل عوده والعائد هو الموجود أي عاد إلى حالة كانت له من قبل أي إلى مثل تلك الحالة، فالعائد هو التراب إلى صفة الحيوة. وليس الإنسان قائماً ببدنه وليس الإنسان ببدنه إذ قد يصير بدن الفرس غذاء الإنسان فيتخلق منه نطفة يحصل منها إنسان فلا يقال: الفرس انقلب إنساناً بل الفرس فرس بصورته لا بمادته وقد انعدمت الصورة وما بقي إلا المادة. وأما الثاني فلا يمكن أن يرد البدن الفاسد وأما القسم الثاني وهو تقدير بقاء النفس ورده إلى ذلك البدن بعينه فهو لو تصور لكان معاداً أي عوداً إلى تدبير البدن بعد مفارقته ولكن محال إذ بدن الميت ينحل تراباً أو تأكله الديدان والطيور ويستحيل دماً وبخاراً وهواء ويمتزج بهواء العالم وبخاره ومائه امتزاجاً يبعد انتزاعه واستخلاصه. يستقبح جمع أجزاء الميت وحدها ولكن إن فرض ذلك اتكالاً على قدرة الله فلا يخلوا إما أن يجمع الأجزاء التي مات عليها فقط فينبغي أن يكون معاد الأقطع ومجذوع الأنف والأذن وناقص الأعضاء كما كان، وهذا مستقبح لا سيما في أهل الجنة وهم الذين خلقوا ناقصين في ابتداء الفترة فإعادتهم إلى ما كانوا عليه من الهزال عند الموت في غاية النكال. هذا إن اقتصر على جمع الأجزاء الموجودة عند الموت. ولا يمكن جمع جميع الأجزاء التي كانت في طول عمره وإن جمع جميع أجزائه التي كانت موجودة في جميع عمره فيه فهو محال من وجهين: أحدهما أن الإنسان إذا تغذى بلحم إنسان، وقد جرت العادة به في بعض البلاد ويكثر وقوعه في أوقات القحط، فيتعذر حشرهما جميعاً لأن
مادة واحدة كانت بدناً للمأكول وصارت بالغذاء بدناً للآكل ولا يمكن رد نفسين إلى بدن واحد. والثاني أنه يجب أن يعاد جزء واحد كبداً وقلباً ويداً ورجلاً فإنه ثبت بالصناعة الطبية أن الأجزاء العضوية يغتذي بعضها بفضلة غذاء البعض فيتغذى الكبد بأجزاء القلب وكذلك سائر الأعضاء. فنفرض أجزاء معينة قد كانت مادة لجملة من الأعضاء فإلى أي عضو تعاد؟ بل لا يحتاج في تقرير الاستحالة الأولى إلى أكل الناس الناس فإنك إذا تأملت ظاهر التربة المعمورة علمت بعد طول الزمان أن ترابها جثث الموتى قد تتربت وزرع فيها وغرس وصار حباً وفاكهة وتناولها الدواب فصارت لحماً وتناولناها فعادت بدناً لنا، فما من مادة يشار إليها إلا وقد كانت بدناً لأناس كثيرة فاستحالت وصارت تراباً ثم نباتاً ثم لحماً ثم حيواناً. بل يلزم منه محال ثالث وهو أن النفوس المفارقة للأبدان غير متناهية والأبدان أجسام متناهية فلا تفي المواد التي كانت مواد الإنسان بأنفس الناس كلهم بل تضيق عنهم. وأما الثالث فهو محال، فالأنفس هي متناهية وأما القسم الثالث وهو رد النفس إلى بدن إنساني من أي مادة كانت وأي تراب اتفق فهذا محال من وجهين: أحدهما أن المواد القابلة للكون والفساد محصورة في مقعر فلك القمر لا يمكن عليها مزيد وهي متناهية والأنفس المفارقة للأبدان غير متناهية فلا تفي بها. فليس هناك طرق مقبولة والثاني أن التراب لا يقبل تدبير النفس ما بقي تراباً بل لا بد وأن تمتزج العناصر امتزاجاً يضاهي امتزاج النطفة، بل الخشب والحديد لا يقبل
هذا التدبير ولا يمكن إعادة الإنسان وبدنه من خشب أو حديد بل لا يكون إنساناً إلا إذا انقسم أعضاء بدنه إلى اللحم والعظم والأخلاط، ومهما استعد البدن والمزاج لقبول نفس استحق من المبادئ الواهبة للنفوس حدوث نفس فيتوارد على البدن الواحد نفسان. ولا يسلم بالتناسخ وبهذا بطل مذهب التناسخ وهذا المذهب هو عين التناسخ فإنه رجع إلى اشتغال النفس بعد خلاصها من البدن بتدبير بدن آخر غير البدن الأول. فالمسلك الذي يدل على بطلان التناسخ يدل على بطلان هذا المسلك. اعتراضنا أن نختار القسم الثالث وهو لا يخالف الشرع والاعتراض هو أن يقال: بم تنكرون على من يختار القسم الأخير ويرى أن النفس باقية بعد الموت؟ وهو جوهر قائم بنفسه وأن ذلك لا يخالف الشرع بل دل عليه الشرع في قوله: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم" وبقوله عليه السلام: أرواح الصالحين في حواصل طير خضر معلقة تحت العرش، وبما ورد من الأخبار بشعور الأرواح بالصدقات والخيرات وسؤال منكر ونكير وعذاب القبر وغيره وكل ذلك يدل على البقاء. وفيه عود محقق نعم قد دل مع ذلك على البعث والنشور بعده هو بعث البدن. وذلك ممكن بردها إلى بدن أي بدن كان سواء كان من مادة البدن الأول أو من غيره أو من مادة استؤنف خلقها، فإنه هو بنفسه لا ببدنه إذ يتبدل عليه أجزاء البدن من الصغر إلى الكبر بالهزال والسمن وتبدل الغذاء ويختلف مزاجه مع ذلك وهو ذلك الإنسان بعينه فهذا مقدور لله ويكون ذلك عوداً لذلك النفس فإنه كان قد تعذر عليه أن يحظى بالآلام واللذات الجسمانية بفقد الآلة وقد أعيدت إليه آلة مثل الأولى فكان ذلك عوداً محققاً.
النفوس ليست غير متناهية وما ذكرتموه من استحالة هذا بكون النفوس غير متناهية وكون المواد متناهية محال لا أصل له فإنه بناء على قدم العالم وتعاقب الأدوار على الدوام ومن لا يعتقد قدم العالم فالنفوس المفارقة للأبدان عنده متناهية وليست أكثر من المواد الموجودة، وإن سلم أنها أكثر فالله تعالى قادر على الخلق واستئناف الاختراع وإنكاره إنكار لقدرة الله على الأحداث. وقد سبق إبطاله في مسألة حدث العالم. أما التناسخ فلا مشاحة في الأسماء وأما إحالتكم الثانية بأن هذا تناسخ فلا مشاحة في الأسماء فما ورد الشرع به يجب تصديقه فليكن تناسخاً وإنما نحن ننكر التناسخ في هذا العالم. فأما البعث فلا ننكره سمي تناسخاً أو لم يسم. والله قادر على تدبير الأمر وقولكم إن كل مزاج استعد لقبول نفس استحق حدوث نفس من المبادئ رجوع إلى أن حدوث النفس بالطبع لا بالإرادة وقد أبطل ذلك في مسألة حدث العالم. كيف ولا يبعد على مساق مذهبكم أيضاً أن يقال: إنما يستحق حدوث نفس إذا لم يكن ثم نفس موجودة فتستأنف نفس؟ فيبقى أن يقال: فلم لم تتعلق بالأمزجة المستعدة في الأرحام قبل البعث والنشور بل في عالمنا هذا؟ فيقال: لعل الأنفس المفارقة تستدعي نوعاً آخر من الاستعداد ولا يتم سببها إلا في ذلك الوقت. ولا بعد في أن يفارق الاستعداد المشروط للنفس الكاملة المفارقة الاستعداد المشروط للنفس الحادثة ابتداء التي لم تستفد كمالاً بتدبير البدن مدة، والله تعالى أعرف بتلك الشروط وبأسبابها وأوقات حضورها وقد ورد الشرع به وهو ممكن فيجب التصديق به. مسلكهم الثاني كما أن قلب الحديد ثوباً يقتضي تعدد الاستحالات المسلك الثاني أن قالوا: ليس في المقدور أن يقلب الحديد ثوباً منسوجاً بحيث يتعمم به إلا بأن تحلل أجزاء الحديد إلى العناصر
بأسباب تستولي على الحديد فتحلله إلى بسائط العناصر ثم تجمع العناصر وتدار في أطوار في الخلقة إلى أن تكتسب صورة القطن ثم يكتسب القطن صورة الغزل ثم الغزل يكتسب الانتظام المعلوم الذي هو النسج على هيئة معلومة. ولو قيل إن قلب الحديد عمامة قطنية ممكن من غير الاستحالة في هذه الأطوار على سبيل الترتيب كان محالاً. نعم يجوز أن يخطر للإنسان أن هذه الاستحالات يجوز أن تحصل كلها في زمان متقارب لا يحس الإنسان بطولها فيظن أنه وقع فجأة دفعة واحدة. هذا ما يقتضيه أيضاً تجدد بدن الإنسان لترد النفس إليه وإذا عقل هذا فالإنسان المبعوث المحشور لو كان بدنه من حجر أو ياقوت أو در أو تراب محض لم يكن إنساناً بل لا يتصور أن يكون إنساناً، إلا أن يكون متشكلاً بالشكل المخصوص مركباً من العظام والعروق واللحوم والغضاريف والأخلاط، والأجزاء المفردة تتقدم على المركبة فلا يكون البدن ما لم تكن الأعضاء ولا تكون الأعضاء المركبة ما لم تكن العظام واللحوم والعروق ولا تكون هذه المفردات ما لم تكن الأخلاط ولا تكون الأربعة ما لم تكن موادها من الغذاء ولا يكون الغذاء ما يكن حيوان أو نبات وهو اللحم والحبوب ولا يكون حيوان ونبات ما لم تكن العناصر الأربعة جميعاً ممتزجة بشرائط مخصوصة طويلة أكثر مما فصلنا جملتها. فإذن لا يمكن أن يتجدد بدن إنسان لترد النفس إليه إلا بهذه الأمور. وهذا محال من جميع الوجوه ولها أسباب كثيرة: أفينقلب التراب إنساناً بأن يقال له كن؟ أو بأن تمهد أسباب انقلابه في هذه الأدوار وأسبابه هي إلقاء النطفة المستخرجة من لباب بدن الإنسان في رحم حتى يسمد من دم الطمث ومن الغذاء مدة حتى يتخلق مضغة ثم علقة ثم جنيناً ثم طفلاً ثم شاباً ثم كهلاً.
فقول القائل: يقال له كن فيكون، غير معقول إذ التراب لا يخاطب وانقلابه إنساناً دون التردد في هذه الأطوار محال. وتردده في هذه الأطوار دون جريان هذه الأسباب محال فيكون البعث محالاً. اعتراضنا هذا لا بد منه ولو في زمان طويل والاعتراض أنا نسلم أن الترقي في هذه الأطوار لا بد منه حتى يصير بدن الإنسان كما لا بد منه حتى يصير الحديد عمامة فإنه لو بقي حديداً لما كان ثوباً بل لا بد وأن يصير قطناً مغزولاً ثم منسوجاً. ولكن ذلك في لحظة أو في مدة ممكن ولم يبن لنا أن البعث يكون في أوحى ما يقدر إذ يكون جمع العظام وإنشاز اللحم وإنباته في زمان طويل وليس المناقشة فيه. وهذا يحصل بقدرة الله إما من غير واسطة وإنما النظر في أن الترقي في هذه الأطوار يحصل بمجرد القدرة من غير واسطة أو بسبب من الأسباب، وكلاهما ممكنان عندنا كما ذكرناه في المسألة الأولى من الطبيعيات عند الكلام على إجراء العادات، وإن المقترنات في الوجود اقترانها ليس على طريق التلازم بل العادات يجوز خرقها فيحصل بقدرة الله تعالى هذه الأمور دون وجود أسبابها. أو بواسطات غريبة وأما الثاني فهو أن نقول: ذلك يكون بأسباب ولكن ليس من شرط أن يكون السبب هو المعهود بل في خزانة المقدورات عجائب وغرائب لم يطلع عليها ينكرها من يظن أن لا وجود إلا لما شاهده، كما ينكر طائفة السحر والنارنجات والطلسمات والمعجزات والكرامات وهي ثابتة بالاتفاق بأسباب غريبة لا يطلع عليها.
من استنكر قوة المغناطيس ثم شاهدها تعجب منها فهكذا يتعجبون بل لو لم ير إنسان المغناطيس وجذبه للحديد وحكي له ذلك لاستنكره وقال: لا يتصور جذب للحديد إلا بخيط يشد عليه ويجذب فإنه المشاهد في الجذب، حتى إذا شاهده تعجب منه وعلم أن علمه قاصر عن الإحاطة بعجائب القدرة. وكذلك الملحدة المنكرة للبعث والنشور إذا بعثوا ورأوا عجائب صنع الله فيه ندموا ندامة لا تنفعهم ويتحسرون على جحودهم تحسراً لا يغنيهم ويقال لهم: "هذا الذي كنتم به تكذبون" كالذي يكذب بالخواص والأشياء الغريبة. إن الإنسان لو خلق عاقلاً لأنكر خلق الإنسان من النطفة بل لو خلق إنسان عاقلاً ابتداء وقيل له إن هذه النطفة القذرة المتشابهة الأجزاء تنقسم أجزاؤها المتشابهة في رحم آدمية إلى أعضاء مختلفة لحمية وعصبية وعظمية وعرقية وغضروفية وشحمية فيكون منه العين على سبع طبقات مختلفة في المزاج واللسان والأسنان على تفاوتهما في الرخاوة والصلابة مع تجاورهما وهلم جرا إلى البدائع التي في الفطرة لكان إنكاره أشد من إنكار الملحدة حيث قالوا: أئذا كنا عظاماً نخرة الآية. فيجب عدم إنكار ما لم يشاهد فليس يتفكر المنكر للبعث أنه من أين عرف انحصار أسباب الوجود فيما شاهد ولم يبعد أن يكون في إحياء الأبدان منهاج غير ما شاهده. وقد ورد في بعض الأخبار أنه يعم الأرض في وقت البعث مطر قطراتها تشبه النطف وتختلط بالتراب فأي بعد في أن يكون في الأسباب الإلهية أمر يشبه ذلك ونحن لا نطلع عليه ويقتضي ذلك انبعاث الأجساد واستعدادها لقبول النفوس المحشورة، وهل لهذا الإنكار مستند إلا الاستبعاد المجرد؟
قد يقال إن الفعل الإلهي لا يتغير وهو دوري فإن قيل: الفعل الإلهي له مجرى واحد مضروب لا يتغير ولذلك قال تعالى: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" وقال: "ولن تجد لسنة الله تبديلا" وهذه الأسباب التي أوهمتهم إمكانها إن كانت فينبغي أن تطرد أيضاً وتتكرر إلى غير غاية وأن يبقى هذا النظام الموجود في العالم من التولد والتوالد إلى غير غاية. وبعد الاعتراف بالتكرر والدور فلا يبعد أن يختلف منهاج الأمور في كل ألف ألف سنة مثلاً ولكن يكون ذلك التبدل أيضاً دائماً أبدياً على سنن واحد فإن سنة الله لا تبديل فيها. ويصدر عن الإرادة وهي غير متعينة وهذا لمكان أن الفعل الإلهي يصدر عن المشيئة الإلهية والمشيئة الإلهية ليست متعينة الجهة حتى يختلف نظامها باختلاف جهاتها فيكون الصادر منها كيف ما كان منتظماً انتظاماً يجمع الأول والآخر على نسق واحد كما نراه في سائر الأسباب والمسببات. وستكون الآخرة والقيامة فإن جوزتم استمرار التوالد والتناسل بالطريق المشاهد الآن أو عود هذا المنهاج ولو بعد زمان طويل على سبيل التكرر والدور فقد رفعتم القيامة والآخرة وما دل عليه ظواهر الشرع إذ يلزم عليه أن يكون قد تقدم على وجودنا هذا البعث كرات وسيعود كرات وهكذى على الترتيب. ولا يمكن انقسام الحالات إلى ثلاثة وإن قلتم إن السنة الإلهية بالكلية تتبدل إلى جنس آخر ولا تعود قط هذه السنة وتنقسم مدة الإمكان إلى ثلاثة أقسام: قسم قبل خلق العالم إذ كان الله ولا عالم وقسم بعد خلقه على هذا الوجه وقسم به الاختتام وهو المنهاج البعثي، بطل الاتساق والانتظام وحصل التبديل لسنة الله وهو محال فإن
هذا إنما يمكن بمشيئة مختلفة باختلاف الأحوال أما المشيئة الأزلية فلها مجرى واحد مضروب لا تتبدل عنه لأن الفعل مضاه للمشيئة والمشيئة على سنن واحد لا تختلف بالإضافة إلى الأزمان؟ وهذا لا يناقض القول بأن الله "قادر على كل شيء" وزعموا أن هذا لا يناقض قولنا إن الله قادر على كل شيء فإنا نقول إن الله قادر على البعث والنشور وجميع الأمور الممكنة على معنى أنه لو شاء لفعل، وليس من شرط صدق قولنا هذا أن يشاء ولا أن يفعل. وهذا كما أنا نقول إن فلاناً قادر على أن يجز رقبة نفسه ويبعج بطن نفسه ويصدق ذلك على معنى أنه لو شاء لفعل ولكنا نعلم أنه لا يشاء ولا يفعل. ولا يناقضه أنه "لا يشاء ولا يفعل" وقولنا: لا يشاء ولا يفعل لا يناقض قولنا إنه قادر بمعنى أنه لو شاء لفعل فإن الحمليات لا تناقض الشرطيات كما ذكر في المنطق إذ قولنا: لو شاء لفعل، شرطي موجب وقولنا: ما شاء وما فعل، حملتان سالبتان والسالبة الحملية لا تناقض الموجبة الشرطية. فإذن الدليل الذي دلنا على أن مشيئة أزلية وليست متفننة يدلنا على أن مجرى الأمر الإلهي لا يكون إلا على انتظام وإن اختلفت في آحاد الأوقات فيكون اختلافها أيضاً على انتظام واتساق بالتكرر والعود وأما غير هذا فلا يمكن. جوابنا يمكن انقسام الحالات إلى ثلاثة والجواب أن هذا استمداد من مسألة قدم العالم وأن المشيئة قديمة فليكن العالم قديماً وقد أبطلنا ذلك وبينا أنه لا يبعد في العقل وضع ثلثة أقسام وهو
أن يكون الله موجوداً ولا عالم ثم يخلق العالم على النظم المشاهد ثم يستأنف نظماً ثانياً وهو الموعود في الجنة ثم يعدم الكل حتى لا يبقى إلا الله وهو ممكن لولا أن الشرع قد ورد بأن الثواب والعقاب والجنة والنار لا آخر لهما. المسألة تنبنى على المسألتين الأولى والسابعة عشرة وهذه المسألة كيف ما رددت تنبنى على مسئلتين إحديهما حدث العالم وجواز حصول حادث من قديم الثانية خرق العادات بخلق المسببات دون الأسباب أو إحداث أسباب على منهج آخر غير معتاد، وقد فرغنا عن المسئلتين جميعاً.
خاتمة الكتاب هل هم كافرون؟ فإن قال قائل: قد فصلتم مذاهب هؤلاء أفتقطعون القول بكفرهم ووجوب القتل لمن يعتقد اعتقادهم؟ تكفيرهم لا بد منه في المسائل الأولى والثالثة عشرة والسابعة عشرة قلنا: تكفيرهم لا بد منه في ثلث مسائل إحديها مسألة قدم العالم وقولهم إن الجواهر كلها قديمة
والثانية قولهم إن الله لا يحيط علماً بالجزئيات الحادثة من الأشخاص والثالثة في إنكارهم بعث الأجساد وحشرها، فهذه المسائل الثلث لا تلائم الإسلام بوجه ومعتقدها معتقد كذب
الأنبياء. وإنهم ذكروا ما ذكروه على سبيل المصلحة تمثيلاً لجماهير الخلق وتفهيماً وهذا هو الكفر الصراح الذي لم يعتقده أحد من فرق المسلمين. وفي غيرها من المسائل فمذهبهم قريب من مذاهب الفرق الإسلامية فأما ما عدا هذه المسائل الثلث من تصرفهم في الصفات الإلهية واعتقاد التوحيد فيها فمذهبهم قريب من مذاهب المعتزلة ومذهبهم في تلازم الأسباب الطبيعية هو الذي صرح المعتزلة به في التولد، وكذلك جميع ما نقلناه عنهم قد نطق به فريق من فرق الإسلام إلا هذه الأصول الثلث. فمن يرى تكفير أهل البدع من فرق الإسلام يكفرهم أيضاً به ومن يتوقف عن التكفير يقتصر على تكفيرهم بهذه المسائل. المسائل التي لا يحسن الخوض فيها وأما نحن فلسنا نؤثر الآن الخوض في تكفير أهل البدع وما يصح
منه وما لا يصح كيلا يخرج الكلام عن مقصود هذا الكتاب والله تعالى الموفق للصواب.