تلخيص الخطابة/المقالة الثالثة
قال: إِن الأَشياءَ التي ينبغي لصاحب صناعة المنطق أَن يتكلم فيها في هذه الصناعة، إِذا كان مزمعا أَن يكون كلامه فيها على المجرى الصناعي، ثلاثة أُمور: أَحدها الإِخبار عن جميع المعاني والأَشياء التي يقع بها الإِقناع.
والثاني الإِخبار عن الأَلفاظ التي يعبر بها عن تلك المعاني وما يستعمل معها مما يجري مجراها.
والثالث كم أَجزاءُ القول الخطبي وكيف ينبغي أَن يكون ترتيبها ومماذا يأتلف كل جزء منها من الأَلفاظ والمعاني.
فأَما المعاني الفاعلة للتصديق فقد قيل فيها في المقالتين المتقدمتين وبين فيها على كم وجه تكون، ومن أَجل أَي شيء تكون. فإِنه قيل هنالك أَنها ثلاثة أَنواع: النوع الأَول: الأَقاويل الانفعالية والخلقية التي يقصد بها توطئة الحكام وإِعدادهم لقبول ما يراد منهم من التصديق بالشيء الذي فيه الإِقناع.
والنوع الثاني: الأَقوال التي يقصد بها إِثبات الفضيلة للمتكلم ليكون قوله أَقنع عند الحاكم والمناظر.
والنوع الثالث: الأَقاويل المستعملة أَولا في وقوع الإِقناع بالشيءِ المقصود إِيجاد الإِقناع فيه، وهي صنفا الأَقاويل القياسية المستعملة في هذه الصناعة أَعني الضمائر والمثل.
ولم يقتصر فيما سلف على تعريف أَصناف هذه الأَقاويل فقط، بل وعرف مع هذا الوضع التي منها تستنبط هذه الأَقاويل، وإِن هذه المواضع منها كلية تعم الضمائر المستعملة في الأَغراض الثلاثة من أَغراض الخطابة، ومنها جزئية تخص غرضا غرضا منها. وقيل هنالك إِن الأُمور الجزئيات التي من أَجلها تؤلف هذه الأَقاويل هي ثلاثة: إِما المشورية، وإِما المنافرية، وإِما المشاجرية.
والذي بقي هاهنا هو القول في الجزءين الباقيين. وذلك أَنه لما كان ليس بأَي معان اتفقت يقع الإِقناع، ولا بأَي أَحوال اتفقت أَن تستعمل تلك المعاني، بل بمعان مخصوصة، كانت الأَلفاظ أَيضا التي يعبر بها عن تلك المعاني شأنها هذا الشأن، أَعني أَن الإِجادة في العبارة عنها تكون بأَلفاظ مخصوصة مأخوذة بأَحوال مخصوصة في غرض غرض من أَغراض الأَقاويل الخطبية، وهو الذي يعبر عنه الجمهور باسم الفصاحة. فإِن هذا الاسم يطلق عندهم على أَحوال ثلاثة في الأَلفاظ: أَحدها وهو الأَملك بهذا المعنى أَن تكون الأَلفاظ جيدة الإِفهام والإِبانة للمعاني.
والثاني أَن تكون لذيذة المسموع.
والثالث أَن يعطى في المعنى رفعة أَو خسة. فلهذا كان النظر في الأَلفاظ الخطبية ضروريا لصاحب المنطق، لكن ليس ينظر منها في الأَحوال الخاصة بأُمة أُمة، بل إِنما ينظر من ذلك في الأَحوال المشتركة بجميع الأُمم. ولهذا كان النظر فيها جزءاً من صناعة المنطق. وأَما النظر من ذلك فيما يخص أُمة أُمة فمن شأن الخطيب المنصوب في أُمة أُمة. وأَما ضرورة القول في الجزءِ الثالث، أَعني كم أَجزاء القول - المسمى خطبة - العظمى والصغرى، وترتيبها، ومماذا تؤلف، وكيف تؤلف، فأَمر بيَّن بنفسه.
وقبل أَن نقول في الأَلفاظ، فينبغي أَن نقول في الأُمور المستعملة مع الأَلفاظ على جهة المعونة في جودة الإِفهام، وإِيقاع التصديق، وبلوغ الغرض المقصود، وهي التي جرت عادة القدماء أَن يسموها: الأَخذ بالوجوه. وذلك أَن هذه الأَشياء لما كان من شأنها أَن تميل السامعين إِلى الإِصغاءِ والاستماع والإِقبال على المتكلم بالوجه وتفريغ النفس لما يورده، أَستعير لها هذا الاسم. وهذه الأَشياءُ صنفان: إِما أَشكال، وإِما أَصوات ونغم. والأَشكال، منها ما هي أَشكال البدن بأَسره، ومنها ما هي أَشكال لأَجزاء البدن كاليدين والوجه والرأس. وهذه هي أَكثر استعمالا عند المخاطبة. والأَشكال بالجملة يقصد بها أَحد أَمرين: إِما تفهيم المعنى وتخييله الموقع للتصديق، كما روي عن النبي ﷺ أَنه قال في أَحد خطبه: " بعثت أَنا والساعة كهاتين " وأَشار بإِصبعيه يقرنهما، وإِما تخييل لانفعال ما أَو خلق ما. وذلك إِما في المتكلم، أَعني أَن يتخيل فيه أَنه بذلك الانفعال أَو الخلق، مثل أَن يتكلم مصفر الوجه منفعلا بانفعال الخوف، إِذا أَراد أَن يخبر أَنه خائف، أَ، بتوءَدة توهم أَنه عاقل. وإِما في المخبر عنه، إِذا أَراد أَن يصوره بصورة الخائف أَو العاقل. وإِما أَن يوقع ذلك الانفعال في نفس السامع أَو ذلك الخلق حتى يستعد بذلك إِما نحو التصديق الواقع عن ذلك الانفعال أَو الخلق، وإِما نحو الفعل الصادر عنه.
وأَما النغم فإِنها تستعمل في القول الخطبي لوجوه: منها لتخييل الانفعالات أَو الخلق، وذلك أَيضا لثلاثة وجوه: أَحدها عندما يريد المتكلم أَن يخيل أًَنه بذلك الانفعال أَو الخلق عند السامعين، مثل أَنه إِذا أَراد أَن يخيل فيه الرحمة رقق صوته، وإِذا أَراد أَم يخيل فيه الغضب عظم صوته وكذلك في الأَخلاق. وإِنما كان ذلك كذلك، لأَن هذه الأَصوات توجد بالطبع صادرة عن الذين ينفعلون أَمثال هذه الانفعالات. والوجه الثاني: أَن يكون قصده تحريك السامعين نحو انفعال ما أَو خلق ما، إِما لأَن يصدر عنهم التصديق الحاصل عن ذلك الانفعال أَو الخلق أَو الفعل الصادر عنه.
والوجه الثالث عندما يقتص عن مخبرين عنهم بأَن يصفهم بذلك الانفعال أَو الخلق.
ومنها أَيضا أَنها تستعمل لضرب من الوزن في الكلام الخطبي على ما سيقال بعد. وهذا الضرب من النغم ضروري في أَوزان أَشعار من سلف من الأُمم ما عدا العرب. فإِن من سلف من الأُمم كانوا يزنون أَبياتهم بالنغم والوقفات، والعرب إِنما يزنونها بالوقفات فقط.
ومنها أَنها تستعمل أَشعارا في افتتاح القول وختمه ومواضع الوقف. وينبغي أَن تعلم أَن الأَخذ بالوجوه ليس له غناء في الخطب المكتوبة، وإِنما غناؤه في المتلوة، وإِن عادة العرب في استعماله قليلة، وأَما من سلف من الأُمم فربما أَقاموها في الأَشعار مقام الأَلفاظ، أَعني التشكيلات، ويحذفون اللفظ الدال على ذلك المعنى، إِما إِرادة للاختصار وإِما طلبا للوزن، والإِلذاذ. وهذا لم تجر به عادة العرب. لهذا صار ما يقوله أَرسطو في كثير من هذه الأَشياءِ، كما يقول أَبو نصر، غير مفهوم عندما ولا نافع. والأَخذ بالوجوه إِنما هو نافع أَكثر ذلك في الخطب التي تتلى على جهة المنازعة، لأَنه إِنما يحتاج إِلى الاستعانة بجميع الأَشياء المقنعة في موضع المنازعة لتحصل الغلبة. وأَمثال هذه الخطب هي الخطب التي كانت بين علي ومعوية. وأَمثال ذلك في الأَشعار: الأَشعار التي كانت بين جرير والفرزدق. وإِنما صارت هذه الأَفعال معينة في الإِقناع، لأَن فيها ضربا من تغيير الأَلفاظ وإِبدالها، على ما سيقال في سبب ذلك فيما بعد. وهذا الفعل هو ضرب من التمويه والمغالطة، إِلا أَنه نافع في هاتين الصناعتين، أَعني الشعرية والخطبية، إِذ كانت الخطبية إِنما يقصد بها وقوع غلبة الظن، والشعرية حصول التخييل نفسه، ولذلك تستعمل من الأَشكال والنغم في طل المحاكاة ما إِن استعمل في الخطابة، كان خروجا عن الواجب.
وإِذ قد قلنا في توابع الأَلفاظ، فلنقل في الأَلفاظ.
القول في الأَلفاظ المفردة
[عدل]فنقول: إِن القول في أَحوال الأَلفاظ التي تكون بها أَتم إِبانة عن المعاني وأَجود تفهيما لها هو ضروري في المخاطبة البرهانية، فضلال عن الأَقاويل البلاغية والشعرية. ولذلك أَن جهة استعمالها في المخاطبة البرهانية إِنما هو لأَن يكون بذلك حصول البرهان أَيسر وأَسهل وأَوضح، مثل ما يقال: إِنه ينبغي أَن تكون الأَلفاظ المستعملة فيه متواطئة، غير مشتركة، مشهورة عند الجمهور أَو عند أَهل تلك الصناعة التي يستعمل فيها ذلك البرهان. وإِن كانت مشتركة، أَن تقسم جميع المعاني التي يقال عليها ذلك الاسم المشترك، ويبرهن على كل معنى من تلك المعاني على حدته، لأَن للأَلفاظ في ذلك معونة في زيادة التصديق الحاصل عن البرهان وقوته كالحال في الصنائع الأُخر، فإِنه يلفى لها معونة في إِيقاع التصديق المستعمل فيها. وإِن كانت في ذلك تختلف، فأَقلها حاجة في ذلك صناعة الجدل، ثم من بعدها السفسطة، ثم من بعدها صناعة الشعر. فهاتان الصناعتان أَكثر حاجة إِلى ذلك. فلذلك ما ينبغي في هاتين الصناعتين أَن تحصى الأَحوال التي إِذا استعملت في الأَلفاظ كانت بها الأَقاويل البلاغية أَتم إِقناعا، والشعرية أَتم تخييلا. فإِنه كما أَن الأَخذ بالوجوه. إِنما منفعته في هاتين الصناعتين هذه المنفعة، كذلك الحال في الأَلفاظ. إِلا أَن القول في أَحوال الأَلفاظ التي بها تكون الأَقاويل في هاتين الصناعتين أَتمَّ فعلا أَعظمُ نفعا وأَحرى أَن يكون القول في ذلك صناعيا. فإِن الأَخذ بالوجود أَكثر ذلك طبيعي. وإِنما صارت الأَلفاظ والأَصوات تفعل في هاتين الصناعتين هذا الفعل من جهة أَنها تخيل في المعنى رفعة أَو خسة، وبالجملة: أَمراً زائداً على مفهوم اللفظ، مثل غرابة اللفظ فإِنها تخيل غرابة المعنى، وكذلك فخامته تخيل فخامة المعنى، والنغم كذلك يفيد فيه هذا المعنى أَيضا. وبيَن أَن هذا مقصود بالطبع للمتكلم على طريق هاتين الصناعتين. وليس يقصد ذلك أَحد عندما يتكلم على طريق الهندسة، ولا على طريق العدد. والذين وقعوا أَولا على تأثير هذه الأَحوال من الأَلفاظ والأَصوات في الأَقاويل هم الشعراءُ. وذلك أَن هذا المعنى أَظهر ما يكون في الأَقاويل الشعرية، مع أَن الوقوف على الأَقاويل الشعرية هو متقدم بالزمان على الوقوف على الأَقاويل البلاغية. وإِذا قد تقرر هذا من ضرورة القول في الأَلفاظ في هاتين الصناعتين، فينبغي أَن نذكر من ذلك ما يخص البلاغة وما هو مشترك بين تلك الصناعتين معا، فنقول: إِن الأَلفاظ المفردة، كانت اسما أَو كلمة أَو حرفا، تنقسم من جهة أَنحاءِ دلالاتها ثمانية أَقسام: منها المستولية؛ ومنها المغيرة، ومنها الغريبة، ومنها اللغات، ومنها المزينة، ومنها المركبة، ومنها المغلطة، ومنها الموضوعة. أَما المغيرة: فهي أَشهرها وأَكثرها نفعا في الصناعتين. وأَما التغيير أَن يكون المقصود يدل عليه لفظٌ ما فيستعمل بدل ذلك اللفظ لفظٌ آخر. وهذا التغيير يكون على ضربين: أَحدهما: أَن يستعمل لفظ شبيه الشيء مع لفظ الشيء نفسه ويضاف إِليه الحرف الدال في ذلك اللسان على التشبيه؛ وهذا الضرب من التغيير يسمى التمثيل والتشبيه، وهو خاص جدا بالشعر.
والنوع الثاني من التغيير: أَن يؤتى بدل ذلك اللفظ بلفظ التشبيه به أَو بلفظ المتصل به من غير أَن يؤتى معه بلفظ الشيء نفسه. وهذا النوع يسمى في هذه الصناعة الإِبدال، وهو الذي يسميه أَهل زماننا بالاستعارة والبديع، مثل قول ابن المعتز:
يا دار أَين ظباؤك اللُّعْس ... قد كان لي في إِنسها أُنس
فإِن العرب جرت عادتهم أَن يشبهوا النساء بالظباءِ، فربما أَتوا به على جهة الإِبدال، مثل ما تقدم من قول ابن المعتز، وربما أَتوا بذلك مع حرف التشبيه. وكل واحد من صنفي التغيير: إِما بسيط وإِما مركب. وكل واحد من هذين: إِما أَن يكون وجه الاتصال فيه بينا مشهورا من أَول الأَمر، وإِما أَن يكون غير بين. وإِنما يكون غير بين لأَحد شيئين: إِما لأَنه غير بين في نفسه عند الجميع، أَو عند كثير من الأُمم، مثل كثير من التمثيلات التي جرت عادة العرب أَن يستعملوها، فإِنه يشبه أَن يكون كثير منها غير بين عند سائر الأُمم، مثل قول امرئ القيس يصف حمار الوحش:
يهيل ويُذرى تُربها ويُثيره ... إِثارة نبَّات الهواجر مُخمسِ
فإِن نبات الهواجر إِنما تعرفه العرب ومَنْ هو مثلهم ممن يسكن البراري والصحاري.
وأَما المركبة فهي خاصة بالشعر، كما أَن البسيطة خاصة بالخطابة. وأَنشد أَبو نصر في مثال المركبة البعيدة التركيب، الخفية الاتصال، بيتا نسبه لامرئ القيس:
بدلتُ من وائل وكندة عد ... وان وفهماً صَمّى ابنةَ الجبل.
قال: فإِن هذا التعبير فيه تركيب كثير. وذلك أَنه جعل " ابنة الجبل " بدلا من قوله " الحصاة "، وجعل قوله " صمى " بدلا من عدم صوت الحصاة. فإِن عدم الصوت وعدم السمع يتقاربان، فإِنه قسيمه، إِذ كان عدم السمع إِما أَن يكون عن عدم الصوت، وإِما لفساد في الحاسة. وجعل عدم صوت الحصاة بدلا من ابتلال الأَرض، فإِن الأَرض إِذا ابتلت وطرحت فيها الحصاة لم تصوت. وجعل ابتلال الأَرض بدلا من انصباب الدماء على الأَرض، فإِن ابتلال الأَرض لاحق من لواحق انصباب الدماء. وجعل انصباب الدماء عليها بدلا من القتال الشديد، لأَن انصباب الدماء يكون عن القتال الشديد. وجعل القتال الشديد بدلا من الأَمر العظيم. فكأَنه أَراد: وفيها أَمر عظيم، فأَبدل مكان ذلك: وفهما صمّى ابنة الجبل، واستعمل في ذلك هذا الإِبدال الكثير. وهذا كما قلنا إِنما يليق بالشعر.
والمستولية هي الأَلفاظ التي هي خاصة بأَهل لسان ما، ومشهورة عندهم، مبتذلة، دالة على المعاني التي وضعت لها من أَول الأَمر من غير توسط.
وأَما الغريبة فهي الأَلفاظ التي هي غير مبتذلة عند جمهورهم، وغير مستعملة عندهم بل إِنما يستعملها الخواص منهم.
وأَما اللغات فهي صنفان: أَحدهما أَن يستعمل الإِنسان مخاطبة صنف صنف من أَصناف أْمة لفظا ليس يستعمله ذلك الصنف من الأُمة، بل إِنما يستعمله صنف آخر منه، مثل أَن يستعمل الحجازي لغة حميرية. والصنف الثاني أَن يستعمل في مخاطبة أُمة ما لفظا ليس من أَلفاظ أَهل لسانهم، وإِنما هو من لسان أُمة أُخرى، مثل ما يوجد في لسان العرب أَلفاظ كثيرة من أَلفاظ الفرس والأُمم المجاورة لهم. وهذا يستعمل على وجهين: أَحدهما أَن يأتي بذلك اللفظ بعينه من غير أَن نغير بنيته وتركيبه. والوجه الثاني أَن يغيره تغييرا يقرب به من الأَبنية المستعملة في لسانهم ليسهل بذلك عليهم النطق به، مثل السّجيل وغير ذلك مما هو موجود في كتب اللغة.
وأَما المزينة والمركبة فليستا موجودتين في لسان العرب؛ وذلك أَن المزينة هي أَلفاظ جعل بعض أَجزائها نغما حتى صارت بتلك النغم مزينة. وهذا غير موجود في لسان العرب.
وأَما المركبة فإِنها أَيضا غير موجودة في لسان العرب إِلا قليلا شاذا مثل قولهم عبقسي في المنسوب إِلى عبد القيس، وعبشمي، في المنسوب إِلى عبد شمس. وأَما المغلطة فهي الأَلفاظ التي يعسر النطق بها. وذلك يعرض لأَسباب: منها أَن تكون تلك الحروف حروفا يعسر النطق بها، وإِن كانت قليلة. ومنها أَن يكون سبب العسر فيها كثرة الحروف التي ركبت منها والتي يعسر النطق بها: إِما أَن يكون من أَجل مخرج الحرف نفسه، وإِن نطق به وحده، مثل كثير من حروف الحلق؛ وإِما أَن يكون العسر يحدث له عند تركيبه مع غيره، وذلك إِما لتقارب مخارجها، وهذا هو سبب الادغام في لسان العرب، وإِما لتكرارها مثل قولهم قصصت أَظفاري. ولذلك بعض العرب يبدل إِحدى الصادين ياء في مثل هذا. وربما كان السبب في ذلك تضاد المخارج، ولذلك قل في لسان العرب اسم يوجد على وزن فُعُل مثل الرسل. وأَكثر الانقلابات والتغييرات التي يصفها النحاة هذا هو سببها. وأَما الموضوعة فهي الأَلفاظ المخترعة في لسان جنس ما، يخترعها بعضُ أَهل ذلك اللسان على نحو التركيب الذي لحروفهم.
فهذه أَصناف الأَسماء النافعة في هاتين الصناعتين، وهي كالمادة للصناعتين، أَعني الشعرية والخطبية، وإِن كانت بالشعرية أَخص، ولذلك أَحصاها أَرسطو في كتاب الشعر.
وإِذ قد تقرر هذا، فالذي ينبغي أَن يبين هاهنا من أَمرها هو أَي صنف من هذه الأَصناف تستعمل هذه الصناعة وأَيها لا تستعمل. وإِذا استعملت منها صنفا، فكيف تستعمله، وإِلى أَي مقدار تنتهي في استعماله، وفي أَي موضع تستعمل منه ما تستعمل. وبالجملة: فنتحرى تلخيص ما يقوله أَرسطو في ذلك بأَوجز ما يمكننا وأَتمه، فنقول: إِنه يقول: إِن فضيلة القول الخطبي أَو الشعري وجودته إِنما تكون بالتغيير. وأَعني هاهنا بالتغيير استعمال أَصناف الأَسماء والكلم السبعة ما عدى المستولية. فإِن في كل واحد منها، ما عدى هذا الصنف، تغييرا ما. وإِنما كان القول الذي في هاتين الصناعتين فضيلته في التغيير، لأَن القول إِنما هو علامةُ معرفة لأَمرٍ ما لم يعرف أَصلا، أَو لم يعرف معرفة تامة. وإِنما يكون القول بهذه الصفة متى أَفاد في المعنى المدلول عليه أَمراً لم يكن بعدُ عند السامع، أَو إِن كان، لم يكن على التمام. وهذه هي حال القول الذي من الأَلفاظ المغيرة. فإِن القول المؤلف من الأَلفاظ المستولية ليس يفيد معنى زائدا على ما كان عند السامع، وإِنما يفيد ذلك إِذا كان مغييرا بالتخييل الذي تعطيه الأَلفاظ المغيرة. وهذا المعنى إِنما يوجد في القول بشرطين: أَحدهما أَلا تكون الأَلفاظ حقيرة وهي بالجملة الأَلفاظ المبتذَلة التي لا تخيل في المعنى أَمراً زائداً على ما كان عند السامع، أَو التي يكون تخييلها يسيرا، أَو التي تخيل في الشيءِ خسةً ما، أَو يكون تركيبها تركيبا فاسدا.
والشرط الثاني أَلا تكون مجاوزة للقدر الذي يجب بحسب المعنى الذي يطلب الإِقناع فيه. وذلك يكون إِما بأَن لا تخيل فيه معنى أَعظم مما يحتمل المعنى المقصود تبيينه، أَو يكون التغيير فيها غير بين الاتصال.
فإِذا جمع القول الخطبي أَو الشعري مع التغيير هاتين الشريطتين كان تام الفعل، وذلك هو فضيلته، وهو القول الجميل. ويشهد لوجود هذا الفعل للقول المغير الأَقاويل الشعرية، فإِنها إِنما صارت لذيذة لما فيها من التخييل والوزن، وكلاهما تغيير. وأَما الأَلفاظ المستولية فإِنها تجعل القول محققا، وليس تخيل فيه معنى زائداً. ولذلك هي أَليق بالبرهان منها بغيرها من الصنائع، إِلا أَنها متى استعملت في هذه الصنائع، فينبغي أَن يكون تركيبها تركيبا مطابقا لتركيب المعاني في النفس، أَعني التركيب الذي يكون لها على المجرى الطبيعي. وبالجملة فينبغي أَن يكون فيها من شروط التركيب الشروط التي تقال فيما بعد. وإِذا كانت بهذه الصفة كانت، كما يقول أَرسطو، بهيئة نبيلة غير حقيرة.
فهذا بالجملة هو الفرق بين فعل الأَسماء المستولية والمغيرة في القول الخطبي والشعري. وإِنما كانت الأَلفاظ المغيرة تعطي في المعنى أَمراً زائدا لموضع الغرابة فيها. فإِنه كما يعرض لأَهل المدينة أَن يتعجبوا من الغرباء الواردين عليهم، وتخشع لهم أَنفسهم، كذلك الأَمر في الأَلفاظ الغريبة عند ورودها على الأَسماع. فينبغي لمن أَراد أَن يجيد القول في هاتين الصناعتين أَن يجعله غريبا. والأَلفاظ الغريبة تتفاضل بالأَقل والأَكثر فيما تخيل في المعنى الواحد بعينه من الرفعة والخسة، لتفاضلها في الغرابة. والصناعة الشعرية فتستعمل من ذلك ما هو أَكثر تخييلا. وأَما صناعة الخطابة، فإِنها تستعمل من ذلك ما هو أَقل وبمقدار ما يليق بها، وذلك هو القدر الذي يفيد وقوع الإِقناع في الشيءِ المتكلم فيه. فإِن ذلك أَيضا يتافضل في صناعة الخطابة بحسب اختلاف ما فيه القول. مثال ذلك ما يحكى أَن المنصور لما دخل الكعبة رأَى رجلا قد سبقه بالدخول، وقد كان أَمر أَلا يدخل إِليها أَحد قبله من العامة، فقال له: أَما سمعت النداءَ؟ فقال: بلى! فقال: أَو ما تعرفني؟ فقال بلى. فقال له: فكيف تجاسرت؟ فقال له الرجل: وكيف لا أَتجاسر عليك؟ ! وهل أَنت في أَول أَمرك إِلا نطفة مذرة؟ وفي آخر أَمرك إِلا جيفة قذرة، وأَنت فيما بين هذين تحمل العذرة؟! فخلى عنه، إِذ صغرت بهذا القول عنده نفسه، أَعني نفس المنصور. زقد كان له أَن يستعمل معه تغييرات هي أَقل في التحقير من هذه، مثل أَن يقول له: وهل أَنت إِلا ملك من الملوك، أَو هل أَنت إِلا رجل من الناس، أَو هل أَنت إِلا عبد من عبيد الله. فإِن هذه كلها متفاضلة في التصغير. إِلا أَنه يشبه أَنه ما كان ينجو من سطوته إِلا بمثل هذا التصغير الذي استعمل معه. فإِنه قول مخسس جدا.
قال أَرسطو: والخطباءُ ربما استعملوا أَثناءَ خطبهم التغييرات الشعرية، أَعني البعيدة، فيتوهم من ليس له بصر بالفرق بين التغيير الشعري والخطبي أَن ذلك الفعل الصادر عن ذلك التغيير هو من فعل الأَقاويل الخطبية، وليس الأَمر كذلك. وإِنما مثال ذلك مثل من يخلط سَقَمونيا بشراب الورد. فإِذا أَسهل ذلك الشراب، أَوهم أَن ذلك الإِسهال إِنما كان عن فعل شراب الورد عند من لا معرفة له بقوة الورد. وكذلك الشاعر أَيضا ربما أَلَّف من الأَلفاظ المستولية المعهودة قولا موزونا فأَوهم أَنه شعري وليس بشعري وإِذ قد تبين أَن الفضيلة في القول الخطبي أَن يستعمل التغيير، وتبين بالجملة أَي مقدار ينبغي أَن يستعمل منه فينبغي أَن نقول في مقدار ما تستعمله في واحد واحد من أَصناف الأَلفاظ المفردة السبعة، أَعني ما عدى المستولية. فإِن التغيير يقال عليها بعموم وخصوص. فنقول: أَما اللغات والمركبات فينبغي أَن يقلل من استعمالها الخطيبُ. وإِذا استعملها، فلا يستعمل منها ما يخيل في الشيءِ معنى مفرطا، مثل الأَسماء الغريبة عن لسان أُمة ما أَو الأَسماء المركبة الدالة على معان تخيل في الشيءِ المدلول بها عليه أَمراً زائدا ومفرطا عما تقتضيه صناعة الخطابة، وبخاصة في الخطب التي يقصد بها إِقناع الجميع. فإِن أَمثال هذه الخطب إِنما ينبغي أَن تؤلف من المستولية والغير المشتركة الأَلفاظ وهي التي تعرف بالأَهلية.
ومن المغيرات الغريبة: التغييرُ بخلاف الأَمر في الشعر وبخلاف الأَمر أَيضا في الخطب التي يقصد بها إِقناع خواص من الناس. فإِن هذه، الغرابةُ ينبغي أَن تكون فيها أَكثر. والاسم المشترك أَخص بها من الأَهلي؛ وبخاصة القول الشعري، فإِنه ينبغي أَن يجمع الغرابة من جميع الجهات، وفي الغاية. مثل أَن يكون بأَلفاظ مغيرة في الغاية، وأَلفاظ غريبة في الغاية، ومشتركة. والمشتركة أَخص بالسفسطة من غيرها من الصنائع. والخطيب يستعملها بقدر ما يستعمل من المغالطة في هذه الصناعة، على ما سلف. وأَما الأَسماءُ المترادفة فصالحة جدا لصناعة الشعر، وقد تصلح أَيضا لصناعة الخطابة. والشاعر يستعمل هذا الصنف لأَسباب أَخصها به استعمالها لتصحيح الوزن وللقافية، مثل قوله:
ومنذ أَتى من دونها النأي والبعدُ والخطيب يستعملها للاستظهار، وربما استعملها على جهة المغالطة وإِيهام تكثير المعنى بتكثيرها عند التقسيم. وإِذا استعملها الشاعر، فينبغي أَن يستعمل منها ما يخيل في المعنى أَمراً زائدا على ما يخيله الاسم الآخر، مثل قولنا: الصهباء، وخندريس، وقَرْقَف، وحميا. فإِن هذه الأَسماء كلها، وإِن كانت مترادفة، فإِنها تخيل في الخمر معاني مختلفة. وربما استعمل الخطيب المترادفة عند إِرادته تكرير المعنى الواحد بعينه لحفظه وتأكيده، فإِنه أَحسن من أَن يكرر ذلك المعنى بلفظ واحد. وأَما أَيما هي التغييرات الحسنة المناسبة الجميلة في هذه الصناعة التي ينبغي أَن يستعملها وأَيما هي التغييرات الباردة التي لا ينبغي أَن يستعملها، فينبغي أَن نقدم، لمعرفة ما يجب من ذلك، معرفة أَصناف التغيير وضروبه، وإِن كان ذلك أَخص بكتاب الشعر. فإِن التغيير ينبغي أَن يكون نفعه في الصناعتين على نسبة نفع الوزن فيهما، ولذلك كان أَخص بالشعر لكون الوزن أَخص به. وإِنما تَستعمل هذه الصناعة من التغيير بقدر ما تستعمل من الوزن، وذلك شيء يسير.
والتغيير بالجملة يعطي في المعنى جودة إِفهام وغرابة، ولذة. والتغييرات صنفان: إِبدال وتمثيل. والتمثيل صنفان: إِما مضاف، وإِما من سائر المقولات، على ما قيل في غير ما موضع. والإِبدال: إِما إِبدال من الشبيه، وإِما إِبدال من اللازم. واللازم ثلاثة: إِما متقدم على الشيءِ، وإِما مقارن له، وإِما متأَخر عنه. والمتقدم صنفان: إِما سبب الشيء وإِما كلي الشيءِ. والمقارن: إِما زمان الشيءِ، وإِما مكانه، وإِما أَنواعه القسيمة، وإِما مقابلاته الأَربعة، أَعني الأَضداد والموجبة والسالبة والعدم والملكة والمضافين والأَشياء الموجودة مع الشيءِ بالعرض. والمتأَخر هي لواحق الشيءِ، وجزئي الشيءِ. وكل واحد من هذه: إِما بسيط، وإِما مركب. والمركب هو أَن يبدل الأَمر بشيء ما، ويبدل مكان ذلك الشيء شبيهه ويؤخذ بعد ذلك لازم ذلك الشبيه مكان ذلك الشبيه، ثم يؤخذ عرض ذلك اللازم بدل ذلك اللازم، فيغمض الوقوف على مثل هذا النوع من التغييرات، مثل ما عرض في بيت امرئ القيس في قوله: صمَّى ابنة الجبل، إِذ استعمل ذلك بدلا من الأَمر العظيم. وقد قلنا كيف وجه التركيب في هذا الإِبدال فيما سلف.
وإِذ تقرر هذا فلنشرع في الوصايا التي يرى أَرسطو أَنه ينبغي للخطيب أَن يستعملها في التغيير والإِبدال فنقول: إِن أَرسطو يقول: إِنه ينبغي للخطيب أَن يستعمل من التغييرات والإِبدالات ما كان مناسبا مشاكلا لما فيه القول. ويعني بالمشاكل أَن الأَمر الواحد بعينه يمكن فيه أَن يغير تغييرات متضادة، فالمناسب منها هو الذي يلائم الأَمر الذي فيه الإِقناع. مثال ذلك أَن الذي يريد أَن يعظم أَمر الذي سرق، فالمشاكل هو أَن يقول: إِنه حارب. والذي يريد أَن يحقر ذلك يقول: إِنه أَخذ. ثم لا يخلو الخطيب، إِذا أَتى بالمشاكل المناسب، أَن تكون مشاكلته لما فيه القول ظاهرة بنفسها مشهورة، أَو تكون غير ظاهرة. فإِن كانت ظاهرة، اكتفى بالإِتيان بالمناسب وحده. وإِن لم تكن المشاكلة بينة، قرن بها الضد، وذلك أَن يأتى بضد ذلك المناسب وضد الشيء الذي أَخذ المناسب بدلا منه. فإِن مشاكلات الأَضداد أَضداد. ومثال ذلك في المحسوسات أَن الذي يشاكل الشيخ من اللباس غير الذي يشاكل الشاب. وكذلك ينبغي أَن يكون الأَمر في الأَلفاظ. فهاتان وصيتان اثنتان: إِحداهما أَن يستعمل المشاكل البين، والأُخرى أَن يستعمل الغير البين، بأَن يقرن به ضده، فإِنه يفيده وضوحا وظهورا. والتغييرات المناسبة ينبغي أَن تكون إِلى ما في الجنس، لا إِلى أَشياء خارجة عن الجنس الذي فيه القول. فإِذا أَراد الخطيب أَن يحسّن، فيجعل التغيير إِلى الذي هو أَفضل في ذلك الجنس. وإِذا أَراد أَن يقبح، جعل التغيير إِلى الأَخس في ذلك الجنس. مثال ذلك أَن الشفاعة والتضرع داخلان تحت جنس واحد، وهو المسئلة. والتضرع أَخس من الشفاعة. وذلك أَن التضرع يكون ممن هو دون، والشفاعة من المساوي. فمتى أَردنا أَن نحسن التضرع سميناه شفاعة، ومتى أَردنا أَن نخسس الشفاعة سميناها تضرعا. وكذلك إِذا أَردنا أَن نعظم الشيءَ الواحد بعينه سميناه بالأَعظم من ذلك الجنس. وإِذا أَردنا أَن نصغره سميناه بالأَصغر. مثال ذلك أَن من سرق، إِذا أَردنا أَن نعظم أَمره، قلنا: إِنه حارب؛ وإِذا أَردنا تصغيره، قلنا: إِنه خان. وذلك أَن هذه الأَفعال كلها داخلة تحت أَخذ المال دون عوض ولا رضى من ذي المال.
وإِذا أُريد أَن يكون التغيير مفهما للشيءِ، فينبغي أَن يؤتى به من الأَشياءِ التي هي واحدة بالنوع. وذلك في الأَشياءِ التي لا أَسماء لها، لأَن التي لها أَسماء، في أَسمائها كفاية في تفهيمها. والتغيير الذي بهذه الصفة يجعل القول محققا، فيقل تخييله. فربما كان الأَنفع في مواضع أَن يكون التغيير فيه رمزاً ما وأَشكالا.
وحسن الاسم يكون بأَن يؤتى فيه بلفظ غير مستبشع ولا ثقيل. وذلك يكون بأَلا يصرح باسم الشيءَ الخاص به. وهذا هو الذي يسمى كناية. فإِن التصريح بأَسماءِ الأَشياءِ في أَكثر الأَمر مستبشع. وذلك يكون بأَوجه، أَحدها: أَن يؤتى بلفظ إِما أَعم من الشيءِ، وإِما أَخص منه. والثاني: إِذا كان المعنى المغير عنه قبيحا فتجعل العبارة عنه بلفظ مشترك بين ذلك المعنى القبيح ومعنى آخر مما ليس بقبيح، وهو الذي يسميه أَرسطو الكلام المفوض.
والثالث: أَن تجعل العبارة عنه بالعلامة الخاصة به المنعكسة عليه في الحمل. وهذا التغيير يجعل الأَمر بينا حتى كأَنه بحذاءِ العين. ويقل استعمال مثل هذا التغيير، وذلك بعكس ما عليه الأَمر في الوجه الأَول. وذلك أَنه ليس يكاد أَن يوجد شيء له اسم خاص إِلا وقد يمكن أَن يعبر عنه بلفظ عام. وأَما العلامات فيقل وجودها، ولكن إِذا وجدت فاستعمالها مشهور، وهي قريبة الدلالة على الشيءِ. والوجه الرابع أَن يكنى عن الشيءِ بالضد أَو بالأَكثر والأَقل. أَما الضد، فمثل قوله تعالى: " كانا يأكلان الطعام ". وأَما استعمال الأَكثر والأَقل فمثل أَن ينبه بالأَكثر على الأَقل أَو بالأَقل على الأَكثر. مثال ذلك أَن يمدح الإِنسان بحضرة من هو أَزيد فضيلة منه، ينبه بذلك على نقصان فضيلته؛ أَو يذم الأَنقص فضيلة منه، لينبه بذلك على نقصان فضيلته. وربما كان مدح إِنسانٍ ما تعريضاً بالمذمة لإِنسان آخر. وبالعكس. وذلك إِذا كان بيناً من أَمر ذينك الإِنسانين أَنهما متباينان في الخلق والسيرة والنسب وسائر الأَشياء التي تعد فضيلة. ولذلك قال ذلك في التعريض: ما أُمي بزانية ولا أَبي بزان. وقد يكون التعريض بالتشبيه في مثل هذا الموضع، إِلا أَنه إِذا كان التصريح بالشيءِ قبيحا، كان التشبيه البعيد في ذلك أَحسن من القريب. فإِن الشيءَ الواحد بعينه قد يغير تغييرات مختلفة، فيتفاوت ذلك الشيءُ في الحسن والقبح، بحسب تفاوت الأَشياء التي وقع التغيير إِليها، أَعني الأَشباه. مثال ذلك أَن يصف واصف امرأَة مخضوبة اليد بالحناءِ، فيقول فيها: حمراء الأَطراف، أَو قرمزية الأَطراف، أَو وردية الأَطراف، أَو كما قال:
من كف جارية كأَن بنانها ... من فضة قد طوقت عنابا فإِن قولنا: وردية الأَطراف إِبدال حسن، وكذلك قولنا: عنابية الأَطراف. وقولنا: حمراء الأَطراف أَخس منه. وأَقبح من هذا قولنا: قرمزية الأَصابع. ولو قال فيها: " دَمّية الأَصابع " لكان أَن يكون هجوا أَقرب منه إِلى أَن يكون مدحا. ولذلك يتفاوت التخييل لتفاوت الأَمور التي وقع الإِبدال بها في الحسن والشرف. والأَشياءُ تكون شبيهة بأَحد ثلاثة أَشياءِ: إِما باشتباه المنظر في الخلق واللون، وإِما أَن تكون أَنواعها أَو أَجناسها واحدة، وإِما أَن تكون أَفعالها واحد. ولما كانت الأَقاويل الخطبية والشعرية قد تكون حكاية عن أُمور موجودة وعن أُمور غير موجودة، بل مخترعة يخترعها الشاعر أَو الخطيب، مثل الذي في كتاب دمنة وكليلة، وإِن كان الاختراع أَخص بالشعر منه بالخطابة، ولذلك فصلت أَنحاء الاختراع في كتاب الشعر، فينبغي أَن تعلم أَيضا أَن التغيير في الصنف المخترع يلحقه أَيضا من الحسن والقبح ما يلحق التغيير الذي يكون في الأُمور الموجودة. وقد يلحق ذلك أَيضا في الشيءِ الواحد بعينه، مثل ما حكى أَرسطو عن بعض القدماءِ أَنه قال في حكاية حكاها عن البغال إِنها كانت مسرورة بانضمامها إِلى بنات الخيل، على أَنها قد كانت أَيضا بنات الحمير. قال: فإِن قوله في البغال: بنات الخيل، تشريف لها، وقوله فيها: بنات الحمير تخسيس لها.
ومن التغييرات تغيير يعطى في الشيءِ الإِفراط في التصغير والتعظيم، وهي خاصة بالشعر. وينبغي أَن يستعمل من التعظيم ومن التصغير في الخطابة بقصد، مثل من يقول في ذهب ذهيب، وفي ثوب ثويب، وفي إِنسان، أُنيسيان.
والوقف في غير مكان الوقف أَو وضع العلامات التي تدل على الوقف في غير مكانها هو أَيضا ضرب من التغيير الرديء.
والأَسماءُ الباردة التي ينبغي للخطيب أَن يتجنبها أَربعة أَصناف، وهي بالجملة الأَسماءُ التي يعسر تفهم المعنى منها، أَو التي تخيل في المعنى أَحوالا زائدة على التي يحتاج إِليها.
فأَحد أَصناف الأَسماء الباردة هو أَن يستعمل من ضروب الأَسماء المركبة ما يخيل في الأَمر معنى غير مشهور ويعسر الوقوف عليه، أَو يخيل فيه عرضا بعيدا. وأَمثال هذه الأَسماء ليست توجد في لسان العرب.
والصنف الثاني استعمال اللغات وذلك على وجهين: أَحدهما أَن يستعمل منها في مخاطبة أُمة ما هو من غير لسانها، بل من لسان أُمة أُخرى غريبة منها. والثاني أَن يستعمل في مخاطبة تلك الأُمة الأَسماء الغريبة المفرطة الغرابة الموجودة في لسانها. والصنف الثالث أَن يستعمل من الأَسماءِ الموضوعة، وهي المنقولة، ما لا يخيل منها المعنى الذي نقلت إِليه، للاشتراك الذي فيه والعموم وكثرة ما يدخل تحته، أَو ما يخيل منه عرض بعيد، أَو ما يخيل منه زمان غير الزمان الذي وجد فيه المعنى. فإِن هذه كلها أَسماء باردة. فمثال الاسم المشترك المنقول أَن يسمى اللبن: الأَبيض، فإِن " الأَبيض " يقال على أَشياء كثيرة بيض، فيعسر فهم ما يراد بذلك. وكذلك الشيءُ الذي ينقل إِليه اسم جنسه. وأَرسطو يحكي عن بعض القدماء أَنه كان يستعمل أَمثال هذه الأَسماء الباردة، فكان يسمى العرق " رطوبة " باسم جنسه، وكان يسمى الشهوة " الاقتداء المنكوس من النفس "، ويسمى عناية النفس " الاكتئاب ". وأَما الذي يخيل زمانا غير زمان، فمثل أَن يدل على الفعل المستقبل بالكلمة الماضية، أَو على ما وجوده في غير زمان بالكلمة الدالة على الزمان. فهذه الأَصناف لا ينبغي أَن تستعمل في الخطابة. وهي تستعمل في الشعر، أَعني التي تخيل في الشيءِ عرضا بعيدا. والأَسماءُ المنقولة أَول أَمرها تكون غريبة. وهي حينئذ أَخص بالشعر. فإِذا تمادى الزمان بها وصارت مشهورة، وصلحت للخطابة. فإِن اشتدت شهرتها، عدت في أَصناف المستولية. وهي بالجملة إِنما ينبغي أَن تستعمل في هذه الصناعة في أَحد موضعين: إِما عندما ليس يلفى للشيءِ الذي فيه القول اسم، فينقل إِليه اسم آخر، وإِن لم يقصد به أَن يستمر على طول الزمان؛ وإِما عندما يراد أَن يسمى به ذلك الشيء في الزمان المستقبل على جهة الشريعة للناس. والذي ينبغي أَن يستعمل هاهنا منها ما كان تفهيمه المعنى بسهولة، ويخيل فيه حالا بمقدار ما يحتاج إِليه في هذه الصناعة، لا ما كان منها غامضا. فإِن الغموض لا ينبغي أَن يستعمل مع من يقصد به تبصيره؛ وإِنما يستعمل مع من يقصد به أَن يغمض عليه المعنى. ولا ما كان منها أَيضا يخيل في المعنى أَمراً أَعظم مما قصد إِليه والأَسماءُ المركبة خاصة بأَصناف الأَشعار الطويلة الممدودة لكثرة الحروف التي منها تركبت. والغريبة خاصة بالأَشعار التي تقال في الأُمور العظام التي يقدم عليها مع توق وحذر، مثل الحروب. فإِن الأَسماءَ الغريبة تعطي في الشيءِ تفخيما وتعظيما. وأَما الأَسماءُ المغيرة فتليق من أَصناف الأَشعار بالأَشعار التي يقصد بها الالتذاذ وجودة التفهيم. وهذا يقال في صناعة الشعر.
وأَما الصنف الرابع من الأَلفاظ الباردة فيكون في التغييرات التي ليست بجميلة. وذلك يعرض فيها من وجوه: إِما أَن تكون من أَشياء بعيدة، وإِما أَن تكون من أَشياء قريبة، وإِما من أُمور ظاهرة، وإِما من أُمور خفية، وإِما من أُمور تخيل في الشيءِ زيادة مفرطة، أَو نقصا مفرطا، وإِما من أَشياء خسيسة، وإِما أَن يتركب أَكثر من واحد من هذه الأَنواع. ولن تعسر على من تفقد الخطب والأَشعار مثالاتُ هذه الأَنواع. والمثال هو نوع ما من أَنواع التغيير. وذلك أَن من التغيير ما يكون إِلى المثال وإِلى الشبيه. وإِنما الفرق بينهما أَن في التغيير يقام المثال مقام الممثل به، وفي التمثيل يؤتى بحروف التشبيه. والمثال بالجملة، أَعني المخترع أَو الموجود، والتغيير المثالي ينبغي أَن يكون أَمرا مناسبا للمعنى الذي استعمل بدله، وبخاصة متى استعمل التغيير في أَشياء متباينة. مثل ما حكى أَرسطو أَن الشعراءَ كانوا في زمانه يسمون المشتري، ذا الكؤوس، وكانوا يسمون المريخ، ذا المجَن. وذلك أضنه لما كانوا يعتقدون أَن المشتري كوكب الأُلفة والمحبة والصداقة والصفح، والناس إِنما تكون بأَيديهم الكؤوس وهم بهذه الحال، استعاروا لبه هذا الاسم المناسب، لاعتقادهم فيه هذا الاعتقاد. ولما كان المريخ عندهم كوكب الحروب والتباغض والتقاطع، وكان الناس إِنما تكون بأَيديهم المجان والترسة عند الحروب، استعاروا له هذا الاسم. فهذان التغييران إِذن مناسبان، إِلا أَنهما من أُمور بعيدة، وأَرسطو يرى أَن تكون التغييرات الجميلة المثالية من الأُمور التي هي واحدة بالنوع، وذلك بأَن يشبه الإِنسان بالإِنسان المناسب له مثل أَن يشبه الجميل بيوسف. فإِن لم تكن واحدة بالنوع، فتكون واحدة بالجنس القريب. مثل تشبيه العرب المرأَة الحسناء بالظبية. فإِن لم يكن، فبالجنس البعيد مثل تشبيههم المرأَة الحسناء بالشمس. وأَما إِذا كان التغيير من أُمور لا ترتقي إِلى جنس واحد - وإِن كان بعيدا - فهو رديء.
فهذا هو جملة ما قيل في الأَلفاظ المفردة التي ينبغي للخطيب أَن يستعملها. ثم هو بعد هذا يذكر من أَحوال الأَلفاظ المفردة والمركبة أَشياء غير التي سلفت وذلك أَن الأَحوال التي سلف ذكرها للأَلفاظ هي أَحوال لها من حيث هي مخيلة. وأَما الأَحوال التي يذكرها بعد فهي الأَحوال التي إِذا اقترنت بالأَلفاظ كانت أَتم دلالة وأَبين إِفادة وإِفهاما، أَو الأَحوال التي هي ضد هذه، فيشير باستعمال تلك، وتجنب هذه.
قال: إِن أَول ما يحتاج إِليه الخطيب أَن يتأَدب بلسان القوم الذين هو خطيب بلسانهم ويتعلمه، حتى تكون مخاطبته في جميع أَقاويله على أَفضل ما جرت به عادة أَهل ذلك اللسان. فأَول الأَشياء التي يجب أَن يتحفظ بها ليكون القول أَتم دلالة وإِفادة للمعاني وضع حروف الرباطات في المواضع التي يجب أَن تكون فيها من القول. والروابط هي بالجملة الحروف التي يرتبط بها القول وتتصل أَجزاؤه بعضها ببعض. وقد عدد أَبو نصر أَصنافها في غير ما موضع. فإِن منها ما شأنه أَن يوضع في أِول القول مثل الروابط التي تتضمن إِيجاب معنى لمعنى مثل حروف الشرط والمجازاة، ومثل حروف الاستفهام والشك. ومنها ما شأنه أَن يوضع في وسط القول مثل الواو والفاء وثم. ومنها ما شأنه أَن وضع في آخر القول وهي حروف العلة والسبب، مثل قولك: أَكرمت زيدا لجوده. فإِنه أَفصح في كلام العرب من أَن تقول: لجوده أَكرمت زيدا، أَو أَكرمت لجوده زيدا. وذلك بين في لسانهم. فينبغي للخطيب أَن يرتب هذه الروابط في المواضع التي بها يكون الكلام أَفصح في ذلك اللسان. وأَيضا فإِن من الروابط ما يقتضي أَن يتصل باللفظ الذي يتصل به الرباط لفظ آخر غير الذي قرن به الرباط، وهذا يسمى جزاء وقضاء. ومن شأَن هذا المتصل في بعض المواضع أَن يكون قبل الرباط، ومن شأَنه في بعضها أَن يكون بعد الرباط. فينبغي أَن يوضع حرف الجزاء في أَمثال هذه الأَقاويل في المواضع التي شأنها أَن توضع، وذلك إِما متقدما للفظ المتصل باللفظ الذي يقترن به الرباط، وإِما متأخرا. مثال ما يكون الجزاءُ فيه متأَخرا عن اللفظ المقترن بالرباط قولك: أَما زيد فمنطلق، وأَما عمرو فقاعد. وأَما استعمال القول الذي يقتضي الجزاء والقضاء محلولا دون روابط، فينبغي أَن يجتنب. وإِذا استعمل ذلك فينبغي أَلا يباعد بين الجزاءِ وبين المجازى به بكلام كثير يدخله أَثناء ذلك. وأَيضا فإِن من الرباطات ما يقتضي أَن يكون بعده رباط آخر، وذلك إِما من نوعه بأَن يتكرر الرباط نفسه مثل إِما المكسورة، وإِما من غير نوعه مثل أم التي تأتي بعدها هل في الاستفهام. فينبغي في أَمثال هذه المواضع أَلا يدخل بين الرباط الأَول والثاني رباط آخر ليس شأنه أَن يقع بينهما. فإِن هذا يجعل القول متعلقا غير مفهوم. وقد يحسن أَن يدخل بين الرباط الأَول والثاني في مواضع يسيرة رباط آخر غريب، مثل قول القائل: أَما أَنا فلأجل كذا فعلت كذا وكذا، وأَما فلان فلأجل كذا فعل كذا وكذا. فيحسن دخول الرباط الدال على العلة، وهو قولك لأَجل كذا بين أَما الأُولى وأَما الثانية التي تقتضي إِحداهما الأُخرى. وقد يؤتى بالرباط الغريب في مثل هذا الموضع في أَجزاءِ القول، كقول القائل: أَما فلان ففعل كذا، وأَما فلان ففعل كذا وكذا، ولأَجل كذا وكذا. ويعسر إِعطاء قانون يعرف أَين ينبغي أَن ترتيب أَمثال هذه الرباطات الغريبة في موع موضع من أَجزاءِ أَمثال هذه الأَقاويل. وانما ينبغي أَن يتحرى في ذلك ما يكون القول به أَتم إِبانة في الكلام. وكذلك قد يصلح في مواضع يسيرة أَن يباعد بين الرباط وبين جزائه. فهذه هي أُول الوصايا التي أَوصى ها من أَراد أَن يتأَدببلسان أُمة ما حتى يقومه.
والوصية الثانية: أَن يتوخى الخطيب أَن يكون كلامه بالأَسماءِ الأَهلية الخاصة بالأَمر المقول، أَعني المتواطئة، لا بالأَسماءِ العامة المحيطة.
والوصية الثالثة: أَلا يكون الكلام بالأَسماءِ المشككة التي توهم الشيءَ وضده وتضلل السامع. وهذه الأَسماءُ هي خاصة بالسوفسطائية، وهي بصناعة الشعر أَخص منها بهذه الصناعة.
قال: والكهان إِنما كانوا ينطقون بأَمثال هذه الأَسماء، لأَن الوقوف على خطائهم، إِذا نطقوا بمثل هذه الأَسماء، يقل، لاحتمالها معنى أَكثر من واحد، كما عرض لرجل من الكهان مع بعض الملوك، فإِنه قال: إِذا عبرت النهر الفلاني، أَتلفت رياسة عظيمة، فظن ذلك أَنها رياسة بعض أَعدائه. فلما عبر النهر ظفر به عدوه وهلك، فكان الذي أَتلف رياسة نفسه. فإِذا نطقوا بالأَسماءِ الأَهلية - أَعني الكهان - وحددوا الوقت والكمية فإِن الخطأ يعرض لهم كثيرا. والوصية الرابعة: أَن يتحفظ بأَشكال الأَلفاظ الدالة على المذكر والمؤنث فلا يستعمل شكلا دالا على التذكير في المعنى المؤنث، ولا شكلا دالا على التأنيث في المعنى المذكر. والتذكير والتأنيث في المعاني إِنما يوجد في الحيوان، ثم قد يتجوز في ذلك في بعض الأَلسنة، فيعبر عن بعض الموجودات بالأَلفاظ التي أَشكالها أَشكال مؤنثة وعن بعضا بالتي أَشكالها أَشكال مذكرة. وفي بعض الأَلسنة ليس يلفي فيه للمذكر والمؤنث شكل خاص، كمثل ما حكي أَنه يوجد في لسان الفرس. وهذا يوجد في الأَسماءِ والحروف. وقد يوجد في بعض الأَلسنة أَسماء هي وسط بين المذكر والمؤنث، على ما حكى أَنه يوجد كذلك في اليونانية. ويحتاج مع هذا في هذه الأَسماءِ أَن تكون نهاياتها مشكلة بالأَشكال التي بها جرت عادة أُولئك القوم، أَعني أَن تكون معربة بالإِعراب الذي جرت به عادة أَهل ذلك اللسان أَن يعربوا نهايات هذا الصنف من الأَسماءِ في موضع موضع من القول أَو مبنية بالبناءِ الذي يخصها.
والوصية الخامسة: أَن يتحفظ باستعمال أَشكال الأَسماء الدالة على الواحد والإِثنينية والكثير. ويتحفظ بأَصناف الأَسماء الدالة على الكثير، وذلك أَن منها ما يدل على العشرة فما دونها مثل صيغة أَفعل في الجمع، كقولك بحر وأَبحر وجبل وأَجبل، ومنها ما يدل على الكثير، كقولك جبال وبحار. فإِن أَبنية هذه الأَسماء مختلفة. فينبغي للخطيب أَن يتحفظ بها وأَن يستعمل كل شكل منها في موضعه، وأَن يجعل نهاياتها في القول مختلفة، كما قلنا، بالاختلاف الذي جرت به عادة أَهل ذلك اللسان عند اختلاف أَحوال القول، وهو الذي يسمى الإِعراب عند نحويي العرب، والاستقامة عند نحويي اليونانيين.
ووصية سادسة: وهو أَنه ينبغي أَن يكون الكلام المكتوب مما يسهل تفهم معناه عند قراءته؛ ويكون المتلو مما يسهل تفسيره. والكلام المقروء إِنما يسهل تفهم معناه في وقت قراءته بأَن تكون فيه علامات للاتصال والانفصال. وذلك شيء لم يوضع بعد في خط لسان العرب. وهو موجود في كثير من خطوط سائر الأَلسنة. والكلام المتلو الذي يعسر تفهم معناه هو الكلام الكثير الرباطات، وهو الذي يعرف بالكلام المعقد. فإِن استعمال الرباطات في الكلام ينبغي أَن يكون مقدراً. فإِن عدمها في الكلام جملة يوجب عدم فهم اتصاله، كما أَن كثرتها توجب عدم فهم الانفصال. ومن ذلك أَن يتجنب في الأَقاويل المركبة الأَلفاظ التي إِذا نطق بها لم يدر هل تتصل بالجزءِ الأَول من القول أَم بالجزءِ الأَخير، مثل قول القائل: إِن هذه الكلمة إِذا كانت بالديمومة تكون للرجل الحكيم. فإِن قولنا بالديمومة يحتمل أَن تكون من صفة الكلمة حتى يكون تقدير ذلك أَن هذه الكلمة إِذا كانت بالديمومة فإِنها تكون للرجل الحكيم؛ ويحتمل أَن يكون قولنا بالديمومة من صفة الرجل الحكيم، فلا يكون القول تاما ويحتاج إِلى جواب، ويكون التقدير: أَن هذه الكلمة إِذا كانت للرجل الحكيم بالديمومة، فيحتاج إِلى خبر. وسبب هذا الإِشكال عدم علامة الاتصال والانفصال.
ومن ذلك: إِذا اتفق أَن كان شيئان داخلين تحت جنسين، فأَردنا العبارة عن كل واحد منهما بما يخصه، فينبغي أَن نجعل العبارة عن كل واحد منهما باللفظ الذي يخصه. وإِن أَردنا أَن نجمع بينهما جعلنا العبارة عنهما بما يعمهما. مثال ذلك: إِذا أَردنا أَن نعبر عن فعل البصر بما يخصه قلنا أَبصرنا. وإِذا قلنا عن فعل السمع قلنا سمعنا. فإِن أَردنا أَن نجمع بينهما قلنا أَحسسنا. فإِن عبرنا عن فعل البصر فقط أَو السمع فقط بالإِحساس، كانت تلك عبارة رديئة.
ومما يعسر فهم الأَخبار عن شيء يُقصد الإِخبار عنه أَن يُدخل المخبر بين الخبر والمخبر عنه كلاماً كثيرا، مثل قولك: إِني كنت مزمعا حين تكلمت فكان هاهنا كذا وكذا بحال كذا وكذا على أَن أَفعل كذا وكذا. يريد أَني كنت مزمعا حين تكلمت على أَن أَفعل كذا وكذا فإِدخال مثل هذا في الوسط مما يعسر به تفهم المعنى. إِلا أَنه قد ينتفع به في الخطابة، عندما يريد الخطيب تكثير القول وغزارة الأَلفاظ. وذلك أَنه لو أَتى بمثل هذا الحشو أَخيراً، لتبين على المكان أَنه فضل. فإِذا أَتى به في الوسط أَوهم السامعين أَنه مما يحتاج إِليه. وأَما إِذا كان الخطيب قصده الإِيجاز فليس ينبغي أَن يأتي بمثل هذا الحشو. ومما ينفع في جودة تفهيم المعنى وتكثير القول - إِذا كان مقصوداً للخطيب - أَن يستعمل الأَقاويل الشارحة مكان الأَسماء المفردة. وأَما إِذا كان قصده الإِيجاز، فينبغي أَن يستعمل ضد ذلك. وقد ينتفع الخطيب بهذا الإِبدال، أَعني إِبدال القول مكان الاسم، والاسم مكان القول. فإِنه إِذا كان الشيء له صفة قبيحة، فالواجب على الخطيب أَن يبدل مكان ذلك القول الدال على الصفة الاسم. وكذلك إِن كان الاسم يخيل في المعنى قبحا، فينبغي أَن يبدل بالقول المساوي له. واستعمال الأَقاويل بدل الأَسماء مما ينفع في تكثير القول. والأَقاويل المبدلة بدل الأَسماء هي التي تؤلف من أَغراض الشيءِ والأَفعال الصادرة على جهة الخزاية. والقول المبدل قد يمكن أَن يجعل قصيرا، ويمكن أَن يكون طويلا. والأَقاويل المبدلة شعرية أَكثر ذلك، وقد يتجنبها الشعراءُ، وذلك بحسب ما يقصد من إِطالة القول واختصاره. فقد يقصد الشاعر وصف شيء واحد فيجعل بدله أَقاويل كثيرة؛ وقد يقصد وصف أَشياء كثيرة فيجعل بدلها قولا واحدا، إِذا أَراد الاختصار. وربما جعل بدل كل واحد منها قولا إِذا أَراد الإِطناب.
ومما يصير به القول مختصراً أَن يجعل غير مربوط بعضه ببعض. والقول الغير المربوط هو الذي إِذا ابتدئ به أَردف بما ليس من شأنه أَن يتصل به بل يحتاج أَن يدخل بينه وبين الذي أَردف به متوسط. فإِذا حذف ذلك المتوسط، كان القول غير مربوط حتى يخيل أَن القول الأَول من غير جنس الثاني. وهذا هو من نمط الكلام الذي يعرف بالفصول. وهذا النوع من الكلام الغير المربوط ليس يعدم فيه حروف الروابط. وإِن كان قد يكون نوع آخر من الكلام غير مربوط من جهة عدم حروف الروابط فيه أَصلا على ما تقدم. فيكون القول الغير المربوط صنفين: صنف عدم حروف الرباط، وصنف عدم المتوسطات التي بين أَجزاءِ القول.
قال أَبو نصر: ويكاد أَن يكون خطباءُ العرب يرون أَن البلاغة إِنما هي استعمال القول الغير المربوط.
وأَما الأَلفاظ المعدولة والأَسماءُ الغير المحصلة والكلم الغير المحصلة، وبالجملة السلوب كلها والأَلفاظ التي تدل على العدم لا على ذوات الأَشياءِ، فإِنما ينبغي أَن تستعمل أَكثر ذلك عند التعريض، وعند إِرادة إِخفاءِ الشيءِ وستره، وهي شعرية أَكثر منها خطبية، وبخاصة ما كان منها مفرط الدلالة، فإِنها لا تدل على شيء محصل. فلذلك إِن استعملها الخطيب في المدح أَو الذم، لم يذم بشيء محصل ولا مدح بشيء محصل. فلذلك لا ينتفع به الممدوح ولا يستضر به المذموم ذلك الضرر. وكذلك أَيضا قل ما ينتفع به في المشوريات ولا في المشاجريات. اللهم إِلا في الاعتذار فإِنه قد ينتفع به.
قال: والمقالة إِنما تكون جميلة إِذا كانت بأَلفاظ مخيلة، خلقية، موجهة نحو الأَمر المقصود، معتدلة. وأَعني بقولي خلقية أَي بأَلفاظ تحث على الخلق الذي شأنه أَن يصدر عنه ذلك الفعل الذي يقصد المتكلم الحث عليه. فإِن هاهنا أَلفاظا يحث بها على الأَخلاق والانفعالات النفسانية، مثل قولهم: أَلا رجل يفعل كذا وكذا، وهلا كان كذا وكذا. وأَعني بقولي موجهة نحو الأَمر المقصود أَن يكون الخلق أَو الانفعال الذي يحث عليه مما شأنه أَن يصدر عنه ذلك الفعل المقصود. وأَعني بقولي معتدلة أَلا تخيل في المخاطب أَخلاقا هي أَرفع جدا منه، فيقل تخلقه أَو انفعاله عن ذلك القول، ولا أَخلاقا هي أَخس منه جدا، بل تخيل فيه أَخلاقا تليق به. ومما يصير القول خسيسا أَن يعبر عنه بالأَلفاظ الأَهلية المستولية، ولا يعبر عنه بالكلية، بل بأُمور مفصلة. وبالجملة ينبغي أَلا يقتصر من الأَلفاظ على أَن تكون مزينة بالنغم فقط أَو بسائر الأُمور التي من خارج، وهي التي تعرف بالأَخذ بالوجوه، بل ينبغي أَن تكون مع هذا في نفسها مخيلة. والأَقاويل الخلقية إِذا كانت مذكّرة بالعار والمنقصة كانت محركة للغضب. وإِذا كانت مذكرة بالآلام وتعظيم الشيءِ كانت باعثة على التوقي والحذر والتعسر في الشيءِ وأَلا يعطى المرءُ من نفسه ما يطلب منه. وإِذا كانت بالمديح كانت مستدرجة نحو الشيء المقصود فعله ومسهلة له، وإِذا كانت بما يضاد المديح كانت محركة للهم والجزع. والأَقاويل الخلقية إِنما تكون مقنعة إِذا دل عليها بأَلفاظ دالة بصيغها على الحث على الأَخلاق، لا بأَلفاظ لا تدل بصيغتها على ذلك الخلق، ولا على ذلك الانفعال. وإِنما تكون الأَقاويل الخلقية أَشد إِقناعا بالأَلفاظ الخاصة بها، لأَنه بهذه الأَلفاظ تتمكن من النفس، ويحسن موقعها منها، فيظن بها أَنها الحق. إِذ من خاصة الحق أَن يتمكن من النفس، ويحسن موقعه منها، فتغلط النفس في هذا، ويضللها موضع اللاحق. وأَيضا فإِذا كان السامع قد ينفعل عن المخاطب له بالانفعالات التي من خارج مثل انفعالات الوجه وغير ذلك من الأُمور التي قد عددت، فكم بالحري أَن ينفعل أَو يتخلق من قبل الأَلفاظ التي تدل بصيغتها على ذلك الخلق أَو الانفعال.
وقد تبين مما قيل أَن الأَخلاق والانفعالات تشاكل كل جنس وهمة وأَعني بالجنس مثل الغلام والشيخ والمرأَة والرجل والعربي والرومي، وأَعني بالهمة الشيءَ الذي هو مقصود لأُمة أُمة من الأُمم في حياتهم الدنيا مثل الحكمة عند قوم، والمال عند قوم آخرين، واللهو عند آخرين، وغير ذلك من الأَشياءِ التي يمكن أَن تفرض غاية قصوى. والصنائع أَيضا والمهن لها تأْثير في الاستعداد لقبول خلق خلق، وانفعال انفعال، فينبغي للخطيب أَن يتحرى اللاحق لكل إِنسان من الأَخلاق والانفعالات فيحثه عليه. فإِنه إِذا تعمد ذلك، كان فعله أَبلغ. ومما ينبغي له أَن يقصده: وهو أَن يخاطب أَهل كل صناعة بالأَلفاظ الخلقية التي هي مشهورة عند أَهل تلك الصناعة، مثل أَن يخاطب الحكماءَ بالأَلفاظ الخلقية التي هي مشهورة عند الحكماءِ، وكذلك في صناعة صناعة. فإِن هذا الفعل له موقع عظيم في الإِقناع. والأَقاويل الخلقية ليست هي الأَقاويل الانفعالية، ولا المواد التي تعمل منها هي واحدة بعينها. وإِن كان قد يوجد عن الخلقية شيء من الانفعال، مثل قول القائل: ومَن لا يعرف هذا؟ كل الناس يعرفون هذا. فإِن هذا قد يقر به السائل استحياءَ من أَن يسئل كيف وجب ذلك. والاستحياء انفعال ما. فيستعمل الأَقاويل الخلقية في الموضع اللائق بها، والانفعالية في الموضع اللائق بها أَيضا.
وينبغي للخطيب قبل ذلك فيما بينه وبين نفسه أَن يتقدم فيروّى في الطرق والوجوه التي بها يقنع السامعين، فإِن بذلك يكون إِقناعه أَبين وليس يذهب عنه ما يريد أَن يتكلم فيه.
وقد أَوصى الجدلي بمثل هذه الوصية في المقالة الثامنة من طوبيقى. وليس ينبغي للخطيب أَن يجعل أَقاويله كلها بأَلفاظ من جنس واحد، حتى تكون كلها بأَلفاظ مستعارة أَو غريبة أَو مشهورة، بل ينبغي أَن يخلط ذلك، فإِن بذلك يكون القول أَشد تخييلا، لأَنه إِذا أَتى بها من جنس واحد، ولم يكن منها شيء غريب، لم يفد ذلك غرابة ولا تعجبا يحرك النفس، وإِنما يظهر فضل القول المخيل على القول المشهور، إِذا قرن به. وكذلك القول الغريب. فإِذا أَتى بها كلها من جنس واحد أَشبهت المألوف. ولم تكن هنالك غرابة تحرك النفس. والأَقاويل الانفعالية إِنما ينبغي أَن يستعمل فيها من الأَسماء الغريبة والموضوعة والمضاعفة، فهي لذلك أَوفق. وذلك أَن هذه الثلاثة الأَنواع من الأَلفاظ تخيل أَمراً زائدا على المقصود بها. فإِذا عبر عنها بالأَقاويل الانفعالية أَفادت فيها معنى زائداً على الأَمر في التحريك نحو الشيء الذي يبعث على الانفعال بما أَعطت في ذلك الشيء من التخييل. وينبغي للخطيب عندما يستعمل الأَقاويل الخلقية والانفعالية مع السامعين في فعل شيء ما أَو باجتنابه أَن يحكم عليهم أَنهم سيفعلون ذلك الشيء الذي يطلبون به مع تحريكهم لذلك الخلق أَو الانفعال الذي من شأنه أَن يحرك نحو ذلك الشيء، وذلك إِذا استدرجهم إِما إِلى فعل ذلك الشيء وحثهم عليه بالمدح بالأَقاويل الخلقية، أَو التحريك إِلى المحبة بالأَقاويل الانفعالية، وإِما لكفهم عنه وحثهم على اجتنابه بالذم بالخلقيات، أَو بالتحريك إِلى البغضة بالانفعاليات. مثال ذلك أَن الإِنسان إِذا أَراد أَن يحرك إِنسانا ما نحو فعل ما بالأَقاويل الخلقية. فإِن ذلك يمكن فيه بالمدح لمن شأنه أَن يصدر منه ذلك الفعل، مثل أَن يقول له: هذا إِنما يفعله ذوو الهمم الرفيعة والأَحساب الشريفة. فإِذا استعمل معه مثل هذا القول، فينبغي له أَن يزيد في ذلك: وأَنت ستفعله، فإِن همتك وشرفك يقتضي ذلك. ومثل هذا يفعل إِذا حركه بالأَقاويل الانفعالية، مثل أَن يقول له: إِنما يفعل هذا من يكتسب الذكر الجميل ومودة الناس وأَنه سيكتسب ذلك. ومثل هذا يكون في اجتناب الفعل بالذميات أَو المبغضيات. وهذا الفعل يسميه أَرسطو الإِنباء، ويقول إِنه ينبغي للخطيب أَن يستعمل الإِنباء، ويقول إِن السبب في وقوع الإِقناع به هو أَن الذي يخبر عنه أَنه سيكون إِنما يخبر عنه ومن شأنه أَنه سيكون. ويقول إِن هذا الفعل يشاكل الشعر جدا، لأَن الشاعر بمنزلة النباء، أَعني الذي يخبر بما يكون في المستقبل. وإِذا كان الإِنباء مع مزاح أَو هزل كان أَحرى أَن يفعل في السامع. ولما كان قد تكلم من أَحوال الأَلفاظ المركبة في كيفية تركيبها وترتيبها وطولها وقصرها، وأَعطى في كل واحد من هذه الوجوه الوصايا النافعة، شرع يتكلم في الأَزمنة التي بين أَجزاءِ القول الخطبي، فقال: إِن الكلام الخطبي ينبغي أَن يكون غير ذي وزن ولا عدد، يعني بقوله غير ذي وزن، أَلا تكون الأَزمنة التي بين أَجزاءِ المقاطع أَو الأَرجل أَزمنة يحدث عنها إِيقاع وزني، ويعني بقوله ولا عدد، أَلا تكون حروف الأَرجل والمقاطع متساوية. وإِنما يكون القول موزونا إِذا جمع هاتين الصفتين. والأَزمنة بين المقاطع والأَرجل ربما كانت سكنات ووقوفات على ما عليه الأَمر في أَوزان العرب، وربما كانت مركبة من سكنات ونبرات على ما عليه الأَمر في أَوزان سائر الأُمم. وإِنما لم يكن الوزن مقنعا في الأَقاويل الخطبية لثلاثة أَشياء: أَحدها: أَنه يقع في نفس السامعين أَن القول قد دخلته صناعة ما وحيلة حتى يظن أَن الإِقناع إِنما أَتى من قبل الصناعة لا من قبل الأَمر نفسه.
والثاني: أَن يظن به أَنه قصد به التعجيب والإِلذاذ واستفزاز السامعين بذلك، فيقع القول عندهم موقع ما قد غولطوا في الإِقناع به. والثالث: أَن القول الموزون إِذا ابتدأَ القائل بصدره، فهم منه السامع عجزه للمناسبة التي بينهما والمشاكلة قبل أَن ينطق به القائل. وإِذا نطق به بعد، فكأَنه لم يأت بشيءٍ لم يكن عند السامع قبل، فيقل لذلك إِقناعه. ولما كانت الأَقاويل المركبة على ثلاثة أَصناف: إِما أَقاويل موزونة وهي التي يجتمع فيها الإِيقاع والعدد، وإِما أَقاويل لا يكون بين أَلفاظها المفردة أَزمنة، فينتهي بها كل لفظة منها عند السامع، أَو علامات تدل على ماهيتها. وهذا هو الذي يعرفه أَرسطو باللفظ السخيف. وإِما أَقاويل تكون بين أَلفاظها المفردة أَحوال تنهيها عند السامع وتفصلها، وذلك إِما بسكنات أَو نبرات. إِلا أَنها ليست نبرات تجعل القول موزونا فإِن الوزن إِنما يتم بالنبرات والوقفات التي تكون بين المقاطع والأَرجل وبالعدد، أَعني أَن تكون حروف المصرع الأَول في البيت مساوية لحروف المصرع الثاني. وكأَن قد ظهر أَن الأَقاويل الموزونة ليست بمقنعة، فكذلك يظهر أَيضا في الأَقاويل التي ليس بينها نبرات - بل هي متناسقة - أَنها قليلة الإِقناع. وذلك لسببين: أَما أَحدهما فلأَن الأَلفاظ إِذا لم يكن بينها فصول زمانية عسر فهم تلك المعاني، لأَنها إِذا وردت مشافعة في الذهن، لم يتمكن الذهن من فهم واحد منها حتى يرد عليه آخر، شبيه ما يعرض لمن يحب أَن يتناول شيئا من أَشياء سريعة الحركة، فإِنه لا يتمكن منها. وأَما الثاني فإِن القول يكون بها غير لذيذ المسموع، لأَنه إِنما يلتذ السمع بالنبرات والوقفات التي بين أَجزاءِ القول. وأَيضا فلكون الفصول التي في أَمثال هذه الأَقاويل متساوية لتقاربها فهي مملولة، لأَن اللذة إِنما هي في الانتقال من جنس إِلى جنس. وإِذا كان هذا هكذا، فلم يبق أَن تكون أَجزاء القول الخطبي إِلا القسم الثالث من الأَقسام وهو الذي يكون بين أَجزائه نبرات ووقفات لا تخرج القول إِلى أَن يكون بها موزونا. وبالجملة إِنما ينبغي أَن تكون النبرات والفصول في القول الخطبي بقدر ما تتمكن النفس من فهمه، وذلك لا شك مختلف باختلاف الأَقاويل. فإِن من الأَقاويل ما ينبغي أَن يباعد بين أَجزائها، ومنها ما لا ينبغي أَن يفعل ذلك فيها أَكثر. والنبرات تستعمل إِما في إِبعاد ما بين الأَقاويل وإِما في إِبعاد ما بين الأَلفاظ المفردة، وإِما في إِبعاد ما بين الأَرجل والمقاطع، وإِما في إِبعاد ما بين الحروف. والتي تستعمل منها في إِبعاد ما بين الأَرجل والمقاطع تخص الوزن الشعري. والتي تستعمل منها في إِبعاد ما بين الحروف تخص الأَغاني. فإِن الذي يخص الأَقاويل الخطبية من ذلك ما كان مستعملا في إِبعاد ما بين الأَلفاظ المفردة والأَقاويل. والأَقاويل صنفان: منها قصار، ومنها طوال؛ ومنها التام، ومنها غير التام. والتام منها أَدل، وهو القول الحازم، والأَمر والنهي، وسائر ما يدخل تحتها، ومنها ثوان، وهو الخطب. فالنبرات يستعملها الخطيب في أَحد ثلاثة مواضع: إِما في نهاية الأَلفاظ المفردة والأَقاويل القصار التي تقرب من الأَلفاظ المفردة، وإِما في نهاية الأَقاويل القصار التي هي أَجزاءُ الأَقاويل الطوال، وإِما في أَطراف الأَقاويل التامة بالوجه الثاني أَو في أَنصافها، أَعني في أَجزاءِ الخطبة الكبرى. فالتي يستعمل منها في نهاية الأَقاويل القصار جدا والأَلفاظ المفردة تضارع الكلام الموزون لقرب مساواة الأَلفاظ المفردة والأَقاويل القصار للمقاطع والأَرجل. ولذلك ينبغي للخطيب أَن يتوقى عند استعمال هذه النبرات أَن يصير الكلام موزونا. وذلك أَنها متى وقعت بين المقاطع والأَرجل كان القول موزونا؛ ومتى وقعت بين الأَلفاظ المفردة والأَقاويل القصار كان القول موزونا وزنا خطبيا. وكثيرا ما يعرض في الخطب أَن تقع هذه النبرات أَو السكنات عند الأُمة التي تستعمل السكنات أَكثر ذلك موضع النبرات بين المقاطع والأَرجل من غير أَن يقصدوا ذلك، فيكون القول موزونا وهم لا يشعرون. وإِنما يصح للخطيب هذا النوع من الوزن إِذا اختار من الأَلفاظ المفردة أَو الأَقاويل القصار ما يقرب أَن يكون مساويا للمقاطع والأَرجل. والذي يستعمل منها في أَجزاء الأَقاويل القصار التي هي أَجزاءُ الأَقاويل الطوال إِنما يستعمل ليدل على انفصال قول من قول. وهذا إِنما يستعمل في الأَقاويل التامة بالتمام الأَول فيما أَحسب وهي ضرورية في جودة التفهيم. وهذا الصنف من النبرات هو قليل، إِذ كان إِنما يقع في نهايات الأَقاويل القائمة بأَنفسها. وهذه فيما أَحسب هي التي تسمى عند العرب مواضع الوقف. فإِن العرب إِنما تستعمل أَكثر ذلك عوض النبرات وقفات. والصنف الثالث يستعمل في ابتداء الأقاويل وفي ختمها وفي توسطها لموضع الراحة. وهذه النبرات التي تستعمل في هذه المواضع الثلاثة عند الأُمة التي تستعملها منها ما يبتدئ فيها بمقاطع ممدودة وتنتهي بمقاطع مقصورة، ومنها ما يبتدئ بمقصورة وتنتهي بممدودة، ومنها ما تكون كلها ممدودة. والتي تكون من مقاطع ممدودة تشاكل الوسط لموضع الراحة. وينبغي أَن تعلم أَن الوقفات إِذا أُقيمت مقام النغمات صار القول باردا، وأَن عادة العرب في النغم قليلة. والنغم إِنما تحدث إِما مع المقاطع الممدودة أَو مع الحروف التي تمتد مع النغم وتتبعها كالميم والنون. وأَما المقاطع المقصورة فقد تمد عند الحاجة إِلى استعمال النبرات فيها، إِلا أَن العرب يستعملون النبرات بالنغم عند المقاطع الممدودة، كانت في أَوساط الأَقاويل أَو في أَواخرها. وأَما المقاطع المقصورة فلا يستعملون فيها النبرات والنغم إِذا كانت في أَوساط الأَقاويل. وأَما إِذا كانت في أَواخر الأَقاويل فإِنهم يجعلون المقطع المقصور ممدودا. وإِن كان فتحة أَردفوها بأَلف، وإِن كان ضمة أَردفوها بواو، وإِن كان كسرة أَردفوها بياء. وذلك موجود في نهايات الأَبيات التي تسمى عندهم القوافي. وقد يمدون المقاطع المقصورة في أَوساط الأَقاويل إِذا كان بعض الفصول الكبار ينتهي إِلى مقاطع مقصورة في أَقاويل جعلت فصولها الكبار تنتهي إِلى مقاطع ممدودة، مثل قوله تعالى " ويظنون بالله الظنونا ". وبالجملة إِنما يمدون المقطع المقصور عند الوقف قال: وينبغي أَن يكون بين النبرات والنغم التي يستفتح بها القول وبين التي يختم بها تضاد، مثل ما حكاه أَرسطو أَن الأَقاويل التي كان يستفتح بها عندهم كان يبتدأُ فيها بحرف طويل أَو مقطع ممدود، وينتهي بثلاثة مقاطع قصار، والتي يختم بها ضد ذلك، أَعني أَنها يبتدأُ فيها بثلاثة مقصورة وينتهي بمقطع ممدود أَو حرف ممدود: لأَنه إِذا انتهى بمقطع مقصور جعل الكلام مبتورا.
وليس ينبغي أَن يعتمد في نهاية الكلام المكتوب - إِذا تلي - على الفصول التي في الخط، بل إِنما ينبغي أَن يعتمد على النبرات الفاضلة، وينطق بها حتى يتبين نهايات القول.
فهذا هو القول في النبرات وبأَي حال يستعمل في نوع نوع من أَنواع الكلام نوعٌ نوعٌ منها. قال: وينبغي أَن تكون الأَقاويل الخطبية مفصلة إِما بأَن تكون أَواخرها على صيغ واحدة بأَعيانها، وإِما بأَن تكون - مع كونها على صيغ واحدة بأَعيانها - أَواخرها حروف واحدة بأَعيانها، وهو الذي يعرف عندنا بالكلام المفقر، وإِما بلفظ مكرر بعينه، وتكون مع هذا موصلة بحروف الرباطات. فمثال المفصل بالصيغ المتفقة قول تعالى: " فاصبروا صبرا جميلا. إِنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ". وذلك أَن جميلا وبعيدا وقريبا هي كلها على صيغ واحدة وشكل واحد. وهذا كثير في الكتاب العزيز. وأَكثر الكلام البليغ لا يخلو من هذين النوعين من التفصيل، أَعني المفقر وغير المفقر.
قال: والكلام المفصل هو الذي لا تنقضي فصوله قبل انقضاء المعنى الذي يتكلم فيه. فإِنه إِذا انقضت الفصول قبل انقضاء المعنى كان غير لذيذ في السمع، من أَجل أَنه لم يتناه بعد بتناهي الفصول. والسامع إِنما يتشوق النهاية. ويعرض للمتكلم بهذا الكلام أَنه يقف عند انقضائها قبل انقضاء المعنى، فيقف في غير موضع وقف. أَعني إِذا كان المعنى أَطول من الفصول. وإِذا جعل المتكلم نهاية فصول القول بحسب نهايات المعنى لم يعرض له هذا.
قال: والكُرُور والمعاطف في الأَقاويل الخطبية هو أَن يكون أَول القول وآخره بلفظ واحد أَو قريب من الواحد، وهذا مثل قولهم: القتل أَنفى للقتل. ومثل قوله تعالى " الحاقة ما الحاقة وما أَدراك ما الحاقة ". والتكرير في الكلام الخطبي إِنما يكون في هذه المعاطف. والكلام الذي بهذه الصفة إِذا كان ذا قدر معتدل كان لذيذا سهل الفهم. أَما لذيذ، فلأَنه على خلاف الذي لا يتناهى؛ وأَما سهل التعلم، فلأَنه يسهل حفظه لتكرر الأَلفاظ فيه، ولأَن له عددا ووزنا.
قال: والكلام الموزون يحفظه كل أَحد، ولذلك صار الكلام المعطف أَسهل للحفظ من جميع الكلام.
قال: وينبغي أَن تكون العطوف متناهية بانتهاءِ المعاني كالحال في الفواصل.
قال: وينبغي أَن تكون الوُصل في الكلام المفصل غير متراخية جدا ولا متلاحقة، بل تكون بحيث يسهل التنفس في فصوله وأَقسامه، كالحال في الكلام المعطف، أَعني أَنه لا يجب أَن يكون الجزءُ الأَخير منه منفرجا ولا متراخيا عن الجزءِ الأَول. ولذلك كان الكلام الموصل هو قول تام منفصل يحسن التنفس، أَي الوقف، في فصوله وأَقسامه.
قال: وينبغي أَن تكون فصول الكلام وأَعطافه لا قصارا ولا طوالا. أَما القصار فإِن قصرها يكون سببا للسهو عنها والغفلة؛ وأَما الطوال، فلأَن الطول يكون سببا لترك الإِصغاء إِليهم ومفارقة السامعين لهم بترك الإِقبال عليهم كالذين يتعدون الغاية ويمشون في طريق طويل، فإِنه يعرض للذين يصحبونهم أَن يفارقوهم. وكذلك يعرض أَيضا في المعاطف، إِذا كانت طوالا، أَن تكون مملة. وكذلك إِذا كان أَيضا ما بين المعاطف طويلا، مثل قول القائل: ما فعل فلان شرا، ولكنْ فلان الذي فعل كيت وكيت وكيت هو الذي فعل الشر، فيباعد ما بين المعطفين. وأَما القول الذي فصوله قصار جدا فلا يفعل فعل الكلام المعطف ولا فعل الكلام المفصل لأَن السامعين لها يسنخفون بها ويستهزئون بها، فتنبو عنها أسماعهم.
قال: والكلام الموصل بحروف الرباطات منه ما هو مقسم من غير أَن يكون بين أَقسامه تضاد، مثل قول القائل: أَما فلان فقال كذا وكذا، وأَما فلان فعمل كذا وكذا. ومنه ما هو مقسوم إِلى أَشياء متضادة أَو موجودة لأُمور متضادة. مثال ذلك في الأُمور المتضادة أَنفسها، قول القائل: أَما العقلاء فأَنجحوا، وأَما الحمقى فأَخفقوا. ومثال ذلك في لواحق الأُمور المتضادة قول القائل: أَما فلان فمشتاق إِلى الكسب، وأَما فلان فمشتاق إِلى اللهو، لأَن الاشتياق إِلى الكسب هو لازم للفقر، والاشتياق إِلى اللهو لازم للثروة.
قال: والكلام الذي بهذه الصفة لذيذ، وذلك أَن الأَشياءَ المتضادة تكون أَعرف إِذا وضع بعضها حيال بعض، وذلك أَنها تعلم بوجهين بذاتها وبزيادة، أَعني بمقايستها إِلى الضد. وفي ذلك أَيضا بجهة ما استدلال على الشيء. فهي بهذه الجهة تشبه الاستدلال على الدعوى. قال: ومن الكلام الموصل: المتدافع وهو الذي لا تكون أَجزاؤه ذوات الفصائل أَو العطوف متساوية، بل يكون بعضها أَطول من بعض، ولكن يكون الطوال منها والقصار منتظمة، وذلك مثل ما يحمده الكتاب عندنا من أَن تكون الفقرة الثانية أَطول من الأُولى.
قال: ومنه أَيضا الكلام المضارع، وهو أَن تكون أَجزاؤه الموصولة متشابهة، وذلك إِما في أَول الفصول أَو في أَواخرها. والتشابه في أَوائل الفصول يكون أَبدا بالأَسماء، مثل قول القائل: السعادة حركته، والسعادة أَنجدته، ومثل قولهم، طويل العماد، طويل النجاد. وأَما التضارع بالنهاية فيكون بالمقاطع، أَعني بالحروف التي تسمى الفِقر، ويكون بتصاريف الاسم، ويكون باللفظ الواحد بعينه. أَما المتشابهة النهاية والتصريف يحتمل أَن يريد بها المتفقة أَشكال أَلفاظها، ويحتمل أَن يريد التي أَلفاظها مشتقة بعضها من بعض، مثل قول القائل: إِنه يمكر وأَمكر، ويكيد وأَكيد. وكلاهما يحدث في الكلام إِلذاذا. وأَما الذي يكون باللفظ الواحد بعينه فكثير أَيضا، مثل قول القائل: إِن رأيه مصيب، وإِن فعله مصيب.
قال: وإِذ قد حددت هذه الأَشياء، يعني الأَحوال التي توجد للأَلفاظ من جهة ما هي مركبة، فقد ينبغي أَن نقول من أَين تؤخذ الأَقاويل الحسان المنجحة الفعل. فإِن شأن هذه الصناعة إِنما هو أَن يفعل الإِقناع حسنا جيدا، فنقول: إِن مبدأَ الأَمر في ذلك هو أَن تكون الأَلفاظ المستعملة فيها جيدة الإِفهام لذيذة عند كل أَحد. والأَلفاظ، فهي دالة على شيء. فما كان منها يفعل مع الدلالة جودة الإِفهام والإِلذاذ، فهي التي تفعل جودة الإِقناع. وليس يصلح لهذا الفعل الأَسماء التي من اللغات الغريبة، لأَنها مجهولة غير جيدة الإِفهام. ولا يصلح أَيضا لذلك الأَسماء المبتذلة المشهورة، لأَنها وإِن كانت جيدة الإِفهام، فإِنها غير لذيذة. فإِذن ليس كل إِبدال وتغيير يصلح لهذه الصناعة، وإِنما الذي يصلح لها من التغييرات ما وجدت فيه هذه الزيادة، أَعني جودة الإِفهام مع الإِلذاذ. وهذا التغيير هو مثل قول القائل: إِن الشيخوخة هي فاعلة الخيرات، بدلا من قوله: إِن الشيخ هو فاعل الخيرات. فهذا تغيير، ولكنه مفهم، لأَنه من الجنس. والشيخ إِنما هو فاعل للخيرات من قبل الشيخوخة.
قال: وفعل اللفظ في هذا شبيه بفعل المثال والضمير، أَعني أَنه قد يوجد فيهما ما يفعل جودة التفهيم والالتذاذ، وقد يوجد فيهما ما يفعل التفهيم دون الالتذاذ. ولذلك أَيضا كانت التغييرات المركبة الاستعارة والبعيدتها أَقل إِلذاذ من غيرها، لأَنها تكون طويلة كاذبة، أَعني قليلة الإِفهام. وذلك أَن ما يعرض من ذلك شبيه بما يعرف في المثال المركب البعيد، فكما أَن النفس لا تتشوق إِلى التمثيل بمثل هذا ولا تلتذ، كذلك يعرض لها أَلا تلتذ بالاستعارات البعيدة المركبة. وإِذا كان هذا هكذا، فمن الواجب أَن تكون الأَلفاظ الحسان المستعملة في هذه الصناعة والاحتجاجات الحسان ما اجتمع فيه الأَمران جميعا، أَعني الالتذاذ وجودة الفهم.
قال: ولهذا لا ينجح في هذه الصناعة فعل الذين يفعلون الضمائر فيها والمثالات من الأَشياءِ البينة جدا المكشوفة لكل أَحد التي لا يحتاج أَحد أَن يفحص عنها. وكانت أَمثال هذه معدودة في الاستدلالات السخيفة. وكذلك ليس ينبغي أَن يكون المعنى أَيضا مما إِذا قيل لم يفهم، أَو عسر تفهمه، كما أَنه ليس ينبغي أَن يكون إِذا قيل معروفا من ساعته، ولا أَن يكون مما هو واجب أَن يكون، لكن يكون مما يضلل الفكر قليلا، أَعني أَنه يحصل فهمه بعد تأَمل يسير. وذلك أَن الأَمر البين من ساعته قد يكون منه قياس، لكن يكون غير لذيذ؛ كما يكون من الأَلفاظ الحقيقية التي ليست مستعارة إِفهام، لكن غير لذيذ. فقد تبين من هذا أَن الضمائر والمثالات المنجحة في هذه الصناعة إِنما هي التي تؤلف من أَمثال هذه المعاني، وأَن الأَلفاظ المنجحة هي المغيرة، أَعني المستعارة، تغييرا يفعل الالتذاذ. والتخييل مثل التغيير الذي يكون من الضد، أَعني أَن نسمي الشيءَ باسم ضده على جهة التحسين له، مثل تسمية الحرب سلما. وكما يجب أَن يتجنب التغيير الذي يكون من الأَسماء الغريبة، كذلك ينبغي أَن يجتنب التغيير الذي يكون من الأَسماءِ المشتركة. فإِن الاسم المشترك يعسر فهمه، مع أَنه ليس فيه شيء من التخييل. قال: وبالجملة: فينبغي للمتكلم في الشيءِ على طريق البلاغة أَن يجعل الشيءَ الذي يتكلم فيه كأَنه مشاهدٌ بالبصر. وذلك بوصفه أَفعاله الواقعة أَو المتوقعة. والإِعتماد في جعل الشيء كأَنه نصب العين يكون بثلاث أَشياءِ: أَحدها التغيير الحسن، والثاني وضع مقابله حذاءه، والثالث وصف الأَفعال الواقعة والمترقبة الوقوع. ومثال وصف الأَفعال والإِتيان بالمقابل، قوله تعالى: " وبشروه بغلام عليم. فأَقبلت عليه امرأَته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم ".
ووصف الأَفعال كثير في كلام البلغاءِ وأَشعار المغلقين، مثل قول النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إِسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
ومثل قول أَبي تمام:
أَعيدي النوح معولة أَعيدي ... وزيدي من عويلك ثم زيدي
وقومي حاسرا في حاسرات ... خوامش للنحور وللخدود
ومثل ما جمع الأُمور الثلاثة قول القائل:
إِذا ما هبطن الأَرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم
قال: فأَما التغييرات المنجحة التي تفضل غيرها في ذلك فهو التغيير الذي يكون من الأَشياءِ المتناسبة، يعني إِذا كان هاهنا شيء نسبته إِلى شيء نسبة ثالثٍ إِلى رابع، فأُخذ الأَول بدل الثالث وسمي باسمه، وذلك مثل ما قال بعض القدماءِ يذكر الشبان الذين أُصيبوا في الحرب إِنهم فقدوا من المدينة كما لو أَنَّ أَحداً أَخرج الربيع من دور السنة.
ومثل قول أَبي الطيب:
مغاني الشعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
وذكر في هذا أَمثلة كثيرة من أَقاويل مشهورة كانت عندهم يعسر تفهم القول بها بحسب لساننا وعادتنا.
والاستعارة التي تكون من هذا النوع كثيرة موجودة في أَشعار العرب وخطبها. والأَقاويل التي يخصها أَهل لساننا من الناظرين في الشعر والبلاغة بالاستعارة هي داخلة في هذا الجنس، ولذلك يقولون: إِن المجاز استعارة وتشبيه.
قال: وينبغي للخطيب أَن يحتال بكل جهة لتكثير صفات الشيء الصغير إِذا تكلم فيه، فإِن كثرة الأَوصاف هي من التكثير والتعظيم، وذلك مثل قول القائل يُحسن السلم: إِن السلم من أَعلام الغلبة والنجح، وهو أَفضل من الحرب، لأَن الغلبة والنجح فيه أَوحى وأَسرع ودون تكلف ومشقة. وأَما الحرب فإِنما تكون الغلبة فيها والنجح بعد استكمالها وتكلف المشقة وذهاب النفوس والأَموال في ذلك. فكلاهما من أَعلام الغلبة والنجح، لكن أَحدهما أَيسر وأَوحى.
قال: وينبغي إِذا أَردنا أَن نجعل الشيءَ بالقول نصب العين أَن نبين ماذا يفعل وما الذي يلزم تلك الأَفعال، أَعني أَن نذكر الأَشياءَ التي هي أَفعال ودلائل.
قال: والتغيير نفسه قد يفعل الأَمرين جميعا، أَعني أَنه يجعل الشيءَ نصب العين وينبئ عن ماذا يكون منه، لكن لا يتضمن ذكر الأَفعال. ولذلك ينبغي أَن يستعمل التغيير في الأَفعال أَنفسها بأَن تخيل أَفعال ذوات الهمة والكرم، وبالجملة: أَفعالا منسوبة إِلى الحرية وكرم النفس، كما يقال زهري الأَفعال، وحاتمي الكرم، وذلك بحسب ما يحتاج إِليه في موضع موضع.
قال: ومن الجيد في التغيير الذي يكون في الأَفعال، أَعني إِذا وصفت مغيرة، أَن تجعل الأَشياء التي توصف أَفعالها، إِذا كانت أَفعالها غير متنفسة، متنفسة حتى يخيل في أَفعالها أَنها أَفعال المتنفسة. وذلك مثل ما كان يفعله أُوميروش. وذكر في ذلك مثالات من قوله. وهذا مِثل قول المعري:
تَوَهَّمَ كلَّ سابِغَة غديراً ... فَرَنَّقَ يشرب الحِلَقَ الدُّخالا
ومثل قول أَبي الطيب:
إِذا ما ضربتَ به هامة ... براها وغنَّاك في الكاهل
وهذا كثير في أَشعار العرب، أَعني جعلها الاختيار والإِرادة لغير ذوات النفوس. قال: والتغيير المستعمل في الأَفعال التي للمتنفسة قد يستعمل على جهة المناسبة والمعادلة في غير المتنفسة، مثل ما يقال في ترك الاستحياء والوقاحةِ، إِذ كانت هذه أَيضا أَفعال يذم بها، إِن الذي لا يستحي وعنده الذي يجب أَن يستحي منه بمنزلة الحجر عند الإِنسان. وهو عكس الأَول. فإِنه قد يكون مثل هذا التغيير، أَعني الذي بالمعادلة والمناسبة، في الأَمثال المنجحات في هذه الصناعة، وإِن كان في غير المتنفسة، أَعني أَنه يتمثل في المتنفسة بغير المتنفسة على جهة المعادلة، مثل ما يقال: إِن الفلاحين من المدينة بمنزلة الأَساس من الحائط، وإِن المقاتلة فيها بمنزلة الشوك من القنفذ، وإِن فلانا لقي من فلان مرارة الصبر وحلاوة الشهد، وذلك أَن معنى هذا أَنه لقي منه خلقا نسبته إِلى الخلق المكروه نسبة مرارة الصبر إِلى الأَشياءِ المرة.
قال: وبالجملة فينبغي أَن يكون التغيير المستعمل في الأَفعال مثل التغيير الذي وصفنا أَنه يجب أَن يستعمل في الأَشياء أَنفسها، أَعني في ذوات الأَفعال، وذلك بأَن يؤتى بالأَلفاظ المعتادة التي ليست معروفة كل المعرفة ولا أَيضا مجهولة كل الجهل، بل متوسطة فيما بين ذلك. فإِنه كما أَن استعمال الشبيه إِنما يكون نافعا جداً في الفلسفة، وفي هذه إِذا توخى مستعمله فيه أَن يكون بهذه الحال الوسطى من الجهل والمعرفة، كذلك الأَمر في الأَلفاظ أَنفسها.
قال: وقد يقع الإِقناع اللذيذ بالتغيير الذي يستعمل في الشيءِ على جهة الغلو والإِفراط، وذلك إِذا كان الأَمر الذي كان منه التغيير عجيبا بديعا إِلا إِنه كذب بين، مثل قولهم: هي ضرة الشمس وأُخت الزهرة أَو أَجمل من الزهرة وأَعلى موضعا من الشمس.
قال: وهذا النحو من التغيير هو مذموم في الخطب المكتوبة، يعني الرسائل.
قال: وقد يكون التغليط من قبل التغيير الذي يكون بالأَلفاظ المغلطة لذيذا، أَعني إِذا قصد المتكلم لتغليط السامع بها. وذلك يكون بوجهين: أَحدهما أَن يريد أَن يقول قولا عليه فيه إِنكار، فيستعير له اسما مشتركا يقال عليه وعلى معنى ليس فيه إِنكار عليه ويكون أَظهر في المعنى الذي ليس فيه عليه إِنكار منه في المعنى المنكر، فيعرض للسامع عند ذلك أَن يغلط فيغلب ظاهر اللفظ، ويأتي المتكلم بذلك في صورة من لا يتكلم في شيء وهو يتكلم فيه. وهذا مثل ما قيل في اليهود إِنها كانت تقول للنبي عليه السلام: راعنا، توهم بذلك أَرعنا السمع، وهي تريد غير ذلك، حتى نهى المسلمون عن هذه اللفظة. والوجه الثاني أَن يأتي بلفظة مشتركة تقال على معان بعضها كاذبة ومنكرة وبعضها صادقة، إِلا أَن دلالة اللفظ فيها هو على السواءِ أَو هو في الكاذبة أَظهر منه في الصادقة، وهو يقصد به المعنى الكاذب دون الصادق. فيمكن أَن يعتذر عنه بما تحت ذلك اللفظ من المعنى الصادق الذي لم يقصده، مثل أَن يقول قائل في ثلب رياسة الحكمة: إِن رياسة العلماءِ ليست برياسة. فإِن غلط في ذلك كان التغليط لذيذا، وإِن شعر بكونه كذبا، كان إِنكاره لذيذا ومقنعا. وإِن أَتى بالكاذب بلفظ غير محتمل، فلما عيب عليه أَنكر، لم يكن إِنكاره لذيذا ولا مقنعا. وهذا أَكثر ما يكون من قبل الأَلفاظ المشتركة، وقد يكون من قبل قرائن الأَحوال، مثل قول القائل لمن ينافره: ما أَبي بزان ولا أُمي بزانية. فإِن ظاهر القول أَنه نفى هذه الفواحش عن نفسه، وقرينة الحال تدل على أَنه أَثبتها لخصمه، إِذ كان قد وضع خصمه ضده. وثلب الضد يكون إِما بذاته، وإِما بمدح ضده. ولذلك اختلف الفقهاءُ في إِيجاب الحد في أَمثال هذه الأَقاويل وهي التي يعرفونها بالكنايات.
قال: ومما يجانس هذا، أَعني التغيير اللذيذ أَن يؤتى بالواجب بلفظ المستحيل، مثل قول القائل: إِنه يجب على المرءِ أَن يموت قبل أَن يستوجب الموت. فإِن صورة لفظ هذا القول هو أَن الإِنسان يجب عليه أَن يموت وليس مستوجبا للموت. وذلك كلام متقابل ومتناقض. لكن لما عبر بهذا القول الذي صورته صورة القول المتقابل عن معنى حق، وهو أَنه يجب على المرءِ أَن يموت قبل أَن يحدث جرما، كان بتلك العبارة أَلذ منه بهذه الأَلفاظ أَنفسها لكوْن هذه أَهلية وتلك غريبة. قال: وإِنما يحسن وقوع هذه المقالة متى قيلت بإِيجاز وبالمقابلة بالتناقض، لأَن التفهيم يكون من طريق المقابلة التي فيه أَحْسَن، ويكون من جهة الإِيجاز أَسرع.
قال: ويجب في هذا الموضع إِما أَن يقرب القول من المعنى حتى لا يخفى، وإِما أَن يؤتى بالمعنى مستقيما، أَعني من غير أَن يؤتى فيه باللفظ المقابل، وأَن يكون، مع هذا القول الذي يغير بهذا النحو من التقابل، صادقا جدا، وليس فيه كذب أَصلا، وإِنما كان قول القائل: بأَن الواجب أَن يموت قبل أَن يستوجب الموت أَحسن في السمع وأَلذ من قول القائل: إِن الواجب علينا أَن نموت قبل أَن نحدث جُرْماً، من قبل أَمرين اثنين: أَحدهما تكرير اسم الواجب في القول، والثاني الإِتيان بالمقابلة. وإِنما ينفق هذا الموضع الذي ذكر، إِذا كان اشتراك في المتقابل الموضوع فيه، وكان المعنى المشترك الذي قصد فيه، أَعني الذي ليس هو بمقابل، ظاهراً جدا. وهذا هو معنى قوله: وينبغي أَن يقرب اللفظ من المعنى. وأَما إِذا كان خفيا في اللفظ فهو قبيح. ومن هذا الموضع عيب على أَبي العباس التطيلي الأَندلسي قوله:
أَما والهوى وهو إِحدى الملل ... لقد مال قدك حتى اعتدل
حَكَى لنا بعض أَصحابنا أَن الأَديب ابن سراج عابه عليه وكلمه في ذلك، فتمادى هو على استحسانه، علما منه بأَن الاعتدال يقال على استواءِ القامة ويقال على الحسن وأَنه هاهنا مفهوم لمكان مقابله. وابن سراج إِنما عابه لخفاءِ المعنى الذي قصده، وقلة استعمال هذا اللفظ عليه.
قال: وكما يكون التغيير في الأَفعال، كذلك يكون في الأَسماءِ وتكون فيها أَنواع التغييرات التي وصفنا، أَعني التغيير من المقابل، والتغيير من المناسب، والتغيير من الشبيه، والتغيير أَيضا بضرب الأَمثال. وهذه كلها إِذا ما استعملت على ما قلناه أَنجحت في هذه الصناعة نجحا كثيرا. فمثال التغيير الحسن على طريق المناسبة في الأَشياءِ أَنفسها التي ليست بمتنفسة قولهم في الترس " صحفة المريخ "، وفي القوس بلا وتر " رباب بلا شعر ". هذا إِذا استعمل هذا التغيير على جهة التركيب، أَعني على جهة المناسبة. وأَما إِذا استعمل على الإِطلاق، وهي جهة الشبه فقط لا جهة المناسبة، قيل في الترس إِنه صحفة وفي القوس إِنه رباب.
قال: وقد يجمع في التشبيه والتغيير صورة الشيء وفعله، كما قيل: إِنه يشبه قردا يزمر بأنبوب. والتشبيه إِنما يحسن جدا إِذا حسن أَن يوضع تغييرا واستعارة. وأَما إِذا لم يحسن فيه ذلك كان بعيدا ومتكلفا.
قال: ولذلك قد يخطئ الشعراءُ كثيرا في أَن يأتوا بالتشبيه الذي لا يحسن أَن يوضع للشيء على طريق التغيير، مثل قول القائل: إِن ساقيه جعدتان كالكرفس.
قال: وضروب هذه التغييرات هي كلها أَمثال. والأَمثال المقولة بخصوص هي تغييرات من الشيءِ إِلى الشبيه، فيستعملها المرءُ فيما يصيبه من خير أَو شر، يريد مثل الأَمثال المضروبة في كتاب دمنة وكليلة ومثل الجزئيات الواقعة التي ينقل القول الواقع فيها إِلى أُمور كثيرة لموضع الشبه، مثل قولهم: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا، وقد ساوى الماء الزبى؛ وبلغ الحزام الطُّبيين.
قال: فأَما من أَين تؤخذ التغييرات الحسا ولأَيى علة تكون حسانا فقد تبين من هذا القول. وهذا الذي ذكره هي مواضع الفصاحة وشروط الكلام الفصيح.
قال: والإِغرابات التي تنجح في هذه الصناعة من قبل التركيب الغير المعتاد في الأَقاويل هي أَيضا تغييرات، يريد بحسب التركيب لا بحسب الأَلفاظ المفردة، وذلك فيما أَحسب، مثل التقديم والتأخير والحذف والزيادة والإِغرابات الغريبة.
قال: ومن التغييرات أَيضا الإِفراطات في الأَقاويل والغلو فيها، وهي تدل من حال المتكلم على الفظاظة وصعوبة الأَخلاق والغضب المفرط، مثل قول القائل: ولا لو أَعطيت مثل هذا الرمل ذهبا أَفعل كذا وكذا، وكما قال بعضهم: ولا الزهرة الشبيهة بالذهب تعدل حسن هذه الفتاة. وهذا النوع من الكلام كثير في كلام العرب وأَشعارهم.
قال: والأَقاويل الغير المكتوبة هي أَخص بهذا الجنس من التغيير. وأَما استعمالها في الأَقاويل المكتوبة، وهي الرسائل، فيقبح. فإِنه ليس ما يوافق الخطب الغير المكتوبة من هذه الأَشياء يوافق المكتوبة، ولا ما يوافق من ذلك الخطب المشورية يوافق الخطب المشاجرية. ولذلك ما يجب أَن يعرف ذلك، فنقول: إِن وكد المتكلم بالكلام البلاغي الغير المكتوب أَما إِن كان متكلما فأَن يحسن الاستدلال والإِثبات، وإِن كان مجيبا فأَلا يضطر إِلى السكوت والانقطاع. وأَما الأَقاويل المكتوبة، فينبغي أَن تكون أَشد تصحيحا وتحقيقا من الأَقاويل الغير المكتوبة، لكون المكتوبة تبقى مخلدة وتلك تنقضي بانقضاءِ القول فيها. والمنازعة والمشاجرة أَحوج إِلى الأَخذ بالوجوه وهي بها أَخص، أَعني الانفعالي والخلقي. لأَن الأَخذ بالوجوه نوعان: أَحدهما يوجب انفعالا ما من السامع، والآخر خلقا ما.
قال: والذين اعتادوا هذا النوع من الإِقناع يطلبون الكتب المثبتة فيها أَنواع الأَخذ بالوجوه أَكثر من طلبهم الكتب المثبتة فيها أَنواع المعاني والأَلفاظ. وهذا موجود في الصنفين جميعا، أَعني الشعراء والخطباء.
قال: والأَقاويل المسموعة تنسى ولا تثبت فلا يتوجه إِليها من النقد ما يتوجه إِلى الأَقاويل المكتوبة، ولذلك ليس يلزم من تصحيحها ما يلزم من تصحيح الأَقاويل المكتوبة. ولاختلاف هذه الأَنواع كان كثير من الكتاب المجيدين إِذا حاولوا الإِقناع بالقول لا يجيدون الكلام، ومن الخطباءِ أَيضا من يجيد الإِقناع من غير أَن يكون لهم حذق بالأَخذ بالوجوه بأَيديهم وغير ذلك من جوارحهم. والعلة في ذلك أَنهم لم يزاولوا الأَقاويل الخصومية. فإِن الأَقاويل التي تستعمل في الخصومات شديدة المشاكلة للأَخذ بالوجوه. ولذلك إِذا طرحت منه، ظهر تكلم المتكلمين بها غير مستقيم. وذلك أَنه قد يكون الكلام كثيرا فيها محذوف الرباطات ومكررا. وهذا غير جائز في المكتوب، وهو جائز في الخصومات، وعند الأَخذ بالوجوه.
قال: والأَخذ بالوجوه إِذا خالطه التغيير اللفظي كان شديد التضليل للفكر والإِقناع، وذلك أَن الأَخذ بالوجوه يتنزل من القول المغير منزلة الموطئ والمستدرج. والمستعمل للأَخذ بالوجوه هو الذي يقدر أَن يبلغ بالتغيير من الإِقناع أَقصى ما في طباعه أَن يبلغ به، لأَن الأَخذ بالوجوه يحدث استجابة واستعطافا وأَما الذي لا يستعمل الأَخذ بالوجوه فكأَنه إِنما يسوق إِلى الإِقناع قسراً.
قال: وكذلك الكلام المحذوف الرباطات لا بد فيه من الأَخذ بالوجوه، وأَلا تقال تلك الأَلفاظ المحلولة بنغمة واحدة وهيئة واحدة، مثل قول القائل: لقيته، أَردته.
قال: وخاصة الكلام الغير المربوط أَنه إِذا كانت أَلفاظه متساوية النطق بها، أَعني في زمان سواء، فقد يظن بالقول الواحد أَنه كثير، لأَن الرباطات تجعل الكثرة واحدة. وإِذا حذفت صار الواحد كثيرا. وذلك نافع حيث يراد التعظيم والتكثير، مثل قول القائل: وردت. تكلمت. تضرعت؛ بدلا من قوله: وردت فتكلمت وتضرعت. فإِنه إِذا حذف الرباط في هذا أَوهم أَنه عمل كثيرا. وهذا قد يكون بالأَلفاظ المتقاربة المعاني وبتكرير الاسم الواحد بعينه مراراً. وذلك أَنه إِذا كرر اللفظ الواحد بعينه أَوهم الكثرة في المعنى. ومن هذا النحو هو استعمال الأَسماء المترادفة مثل قوله: أَقوى وأَقفر. وذكر أَن أُوميروش كان يستعمل مثل هذا القول محذوف الرباطات.
قال: والخطب المشورية، فقد يجب أَن تكون صدورها شبيهة بالرسم الذي يرسمه الزواقون للصورة قبل الصورة، يريد أَن يكون متضمنا للغرض المتكلم فيه بالمعنى الكلي. وهذا كثيراً ما يتوخاه الكتاب والخطباء.
قال: والعلة في ذاك أَن الإِفهام يجب أَن تكون العناية به في خطب المحافل والمجامع أَكثر منه في خطب الآحاد، لأَنه ينبغي أَن يكون الإِفهام فيها بحسب أَنقصهم فهما، حتى يستوي الكل في الفهم. وأَما إِقناع الجمهور فيكون بالمقنعات التي هي دون، بخلاف الأَمر في إِقناع الخواص قال: وأَما الأَقاويل الخصومية فيجب أَن يكون الإِقناع فيها أَشد تحقيقا وتصحيحا، ولا سيما إِن كان القول عند حاكم واحد، فإِن عمل الإِقناع يكون أَيسر، لأَنه ليس يحتاج أَن يتكلف فيه من الاستعارات والتغييرات ما يتكلف في الكلام الذي يكون عند الجماعة. وإِذا كان الإِقناع خليا من الأَشياءِ خارجة كان أَقرب أَن يتميز فيه الحق من غيره، وأَن يكون الأَمر الذي يتكلم فيه هاهنا أَهليا غير غريب، أَي معروفا غير منكر. وأَيضا فإِنه إِذا استعملت في الأَقاويل الخصومية الأَشياء الخارجة، بَعُدَ الشاكي عن غرضه. فلذلك ما ينبغي أَن تكون أَقاويل الخصوم أَقرب إِلى الحقيقة منها إِلى التضليل. وإِنما ينجح فعل الخطيب بالتغيير اللفظي حيث يكون الأَخذ بالوجوه والنفاق أَنفع من غيره، وذلك عند الخطب على الملإِ والجمع الكثير، لأَنه ليس يطلب في مثل هذه الأَقاويل الصحة، كما يطلب عند الحكم الخاص.
قال: فأَما الخطب المرئية،. يعني المكتوبة، فمنها الرسائل، ومنها التي تكتب عند الخصومات التي تكون بين أَيدي القضاة وهي التي تسمى عندنا العقود والسجلات. فأَما الرسائل فالذي تختص به هو إِجادة القراءة، أَعني أَن تكون قراءتها سهلة جيدة. وأَما التي تكون عند الخصومات فينبغي أَن تكون خلية من التغيير والاستعارة البعيدة التي تجعل الكلام معتاص الفهم أَو مختلا، إِلا أَن يكون يشتمل على ذكر أَمر مُهمٍ من خلق أَو عهدٍ أَو إِلزام سنة، فينبغي حينئذ أَن يفخم الكلام ويعظم ويزين مثل السجلات التي تسمى عندنا البيعات. وأَما المكتوبة في الخصومات فينبغي أَن تكون محققة بعيدة مما يحقرها أَو يخسسها. فإِن السجلات أَشرف من الرسائل. لكن تكون جميلة بهية. وإِن كان فيها إِضمارات كثيرة فليست محققة. وكذلك يجب أَلا تكون موجزة كل الإِيجاز، فإِنها تكون غبر معلومة بل يجب أَن تكون متوسطة، لأَن المتوسط أَبدا مشاكل مناسب.
قال: وقد يجب أَيضا أَلا تكون عَريا لا من التفصيل ولا من التغيير، لكن يستعمل من ذلك ما هو أَقرب إِلى الشهرة والتحقيق منه إِلى الغرابة والجهل، وتكون المقنعات التي فيها مؤلفة من الأُمور الجميلة المحمودة التي ذكرت فيما سلف.
قال: أَما في الأَلفاظ الخطبية وفي المعاني فقد قلنا في ذلك ما فيه كفاية، وهو أَمر عام لجميع أَجزاء الخطبة. والذي يعني القول فيه هو أَجزاءُ الخطب ونظامها.
القول في أَجزاء الخطب
[عدل]قال: وأَجزاءُ القول الخطبي الضرورية إِثنان: أَحدهما الغرض وهو الأَمر الذي يقصد إِليه بالتكلم، فإِنه من الاضطرار أَن يذكر الشيء الذي فيه القول ليعلم الشيء الذي يتوجه إِليه الإِثبات أَو النفي؛ والآخر التصديق، وهو القول المثبت أَو النافي.
قال: وأَما الجزءُ الذي يسمى الاقتصاص الواقع في الخطب فهو خاص بالكلام الخصومي. أَما الكلام المنافري والمشاوري فليس يستعمل فيه الاقتصاص، لأَن الاقتصاص إِنما يستعمل فيما يلقي به الخصم، لا بالكلام البراني، أَعني الموجه نحو السامعين.
قال: وأَما الجزءُ الذي يسمى الصدر، والجزءُ الذي يسمى الخاتمة فأَكثر الحاجة إِليهما في الجزء المشاوري، لأَنه يقوم مقام تمثيل الشيء الذي فيه يتكلم وتحديده أَولاً والتذكرة به آخراً، فيتحصل به الغرض الذي يتكلم فيه تحصيلا جيدا. وذلك شيءٌ يحتاج إِليه في الكلام في هذا الجنس ليقايس بين الحجج المثبتة له والمبطلة ولئلا يذهب المعنى أَيضا لكثرة تكرر القول وتشعبه. وقد يحتاج إِلى الصدر في الكلام الخصومي، إِذا كان متشعبا يخاف أَلا ينضبط فيه الغرض. وأَما إِذا كان الكلام قصيرا، فليس يحتاج إِليه. وكذلك لا يحتاج إِليه في الأَقل في المشوريات، أَو يكفي منه اليسير.
قال: وإِذا كان الأَمر في هذه الأَجزاء كما وصفنا فالأَجزاء الاضطرارية هما إِثنان: الغرض المقصود له، والتصديق. وجميع ما يلقى به الخصم فهو من التصديقات.
قال: والخاتمة أَيضا تكثر في الخطب، لأَنها جزءٌ من أَجزاءِ التصديق، إِذ كانوا يخبرون فيها بالشيء الذي فيه القول بإِجمال وبالشيء المقول فيه ليس لأَن يثبتوا ذلك وليقولوا فيه قولا، بل على جهة التذكير بما قد تقدم فيه فقيل. قال: فإِذا عددت بالجملة أَجزاء القول الخطبي كانت خمسة: اقتصاص بعد اقتصاص، وهي الخاتمة التي تُذكّر بالتصديق وبالغرض؛ واقتصاص قبل اقتصاص، وهي رسم الغرض قبل الغرض؛ ورسم التصديق قبل التصديق، وهو القول المثبت أَو النافي.
قال: ولكن ينبغي أَن توضع لهذه المعاني الخمسة - إِذ كانت مختلفة - أَسماء، كما يفعله أَهل الصنائع، يريد أَن يسمي الجزء الأَول صدراً، والثاني الغرض، والثالث الاقتصاص، والرابع التصديق، والخامس الخاتمة.
قال: والصدر هو مبدأُ الكلام، وهو الذي يستفتح به الكلام، ونسبته إِلى الكلام نسبة فواتح الأَشياء إِلى الأَشياءِ، وذلك مثل فاتحة الزمر إِلى الزمر، وما أَشبه ذلك. فإِن الفواتح مبادئ للأَشياءِ التي تأتي بعد، وتدريجات لما يجيء منها واحدا بعد واحد.
قال: وفاتحة الزمر شبيهة بفاتحة الكلام المنافري. فإِنه كما أَن الذين يزمرون بالأَنابيب، إِذا أَرادوا أَن يجيدوا الزمر، إِنما يترنمون به أَولاً، ثم أَنه بأَخرة يضمون ويجمعون الزمر، كما ينبغي أَن يكون الذي يتكلم بالكلام التثبيتي، أَعني المنافري، أَعني أَنه ينبغي للذي يريد أَن يجيد قوله أَن يبين فيماذا يتكلم ثم يتدرج حينئذ إِلى سائر الكلام ويضم ويؤلف. وهكذا نجد الخطباء يفعلون أَجمعين.
قال: والبرهان على وجود هذا المعنى للصدر، أَعني أَنه يضبط الغرض الذي فيه القول ويحدده، صدر الكلام الذي لفلان حيث ابتدأَ فقال حين أَراد أَن يشرع في ذكر امرأَة مشهورة عندهم ورجل مشهور: إِنه ليس هاهنا شيء يختص بذكر فلانة دون فلان، بل هما فيه معا. وذلك أَنه إِذا فعل الخطيب هذا، لم يمكنه أَن يروغ أَو يحيد عن الغرض الذي ذكره، فيأتي كلامه كله مستويا.
قال: وقد تُعمل صدور الكلام المشوري من المدح أَو الذم، كقول فلان في أَول مقالته التي تدعى كذا حيث يريد أَن يمدح الذي يؤلفون من العيد: إِنه قد يجب أَن يكثر التعجب من اليونانيين الحكماءِ.
قال: وكذلك الصدور التي في المشوريات هي أَيضا جزءٌ من المشوريات، مثل أَنه إِذا أَراد أَن يشير بإِكرام قوم يبدأُ فيقول: إِنه ينبغي أَن يكرم الخيار. وإِذا أَراد أَن يشير بذم قوم، افتتح الكلام: إِنه ليس يجب أَن يمدح الذين لم ينجحوا قط ولم يصنعوا شيئا يظهر لهم به خير أَو فضيلة. وكذلك الخصوميات تكون الصدور فيها من نوع الكلام الذي يقصد به السامع، لا الخصم.
قال: وإِنما يضطر إِلى الصدور إِذا كان الكلام كثيرا، إِما من أَجل أَن الأَمر المتكلم فيه عجيب، أَو من أَجل أَنه صعب، أَو من أَجل أَنه شغب يكون فيه كالكلام الذي يكون في الامتنان بالعفو، وذلك مثل قول القائل في ابتداء خطبة العفو: الآن رمى ما كان فكل شيء هدر.
قال: وبالجملة: فصدور الكلام: أَما التثبيتي فتكون من المدح والذم، وأَما المشوري فمن الدعاء ولا دعاء، وأَما الخصومي فمن الشكاية التي يقصد بها السامع.
قال: وينبغي أَن تكون حواشي الكلام إِما غرائب وإِما أَهليات، يريد - فيما أَحسب - أَن يكون الذي يستفتح به الكلام إِما مثل غريب منبئ عن الشيء المتكلم فيه، وإِما مثل مشهور، مثل أَن يستفتح الخطب التي يشار فيها بالأَخذ بالحزم وحسن النظر أَو في التي يقصد بها الشكاية: قد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين.
قال: والصدور ينبغي أَيضا أَن تستعمل في الكلام الخصومي، فإِنه يوجد لها فيه الفعل الذي تفعله صدور الكتب والأَشعار. فإِن الصدر بالجملة إِنباء عن الكلام المقصود، يراد به أَن يتقدم السامعون فيعلموا فيماذا يتكلم المتكلم، وأَلا يكون للفكر تعلق في حين الكلام في معرفة الشيء الذي يتكلم، مثل ما يعرض له في الكلام المهمل الغير المحدود، فيضلله ويغلطه. ولذلك ليس الكلام الذي بهذه الصفة، أَعني الذي ليس له مبدأ يدل عليه، مثل الكلام الذي يكون متبعا لمبدئه ومنبئا ومنبها عليه، مثل قول فلان لما أَراد أَن يذكر فلان بأَفعاله ابتدأَ فقال: انبئيني عن الرجل الكثير المكائد الذي حسم أُمور كثيرة من بعد ما خربت المدينة العامرة. وليس يفعل هذا الخطباء فقط، بل والشعراء الذين يعملون المديح وغيرهم من أَصناف الشعراءِ. قال: والعمل الخاص بالصدور الذي يوجد لها اضطراراً وهو غايتها وتمامها إِنما هو أَن ينبئ عن الشيء الذي يتكلم فيه ما هو حتى يكون ذلك الشيء معلوما منه وفيه. وإِذا كان الأَمر المتكلم فيه يسيرا، فليس يحتاج إِلى التصدير.
قال: وقد يتقدم الكلامَ في الشيء وجوهٌ من الحيل التي وصفناها فيما تقدم وهي خاصة ببعض الكلام، لا عامة. وتلك الوجوه من الحيل منها ما هي مأخوذة من قبل المتكلم نفسه، ومن السامع، ومن الأَمر الذي فيه يتكلم، ومن الخصم. أَما الذي يكون من قبل المتكلم ومن قبل خصمه، أَما في الشكاية فمدح نفسه وتعظيمها وتنقص خصمه. وليس المتكلم والمجيب في تقديم الكلام في ذلك بحال واحدة، لأَن المجيب ينبغي له أَن يبدأ بالجواب في إِنكار الشكاية، وأَما الشاكي فينبغي أَن يبدأ بتقديم الكلام على الشكاية. وأَما المجيب فقد كفاه الشاكي أَن ينبئ أَول كلامه عن الغرض، فلذلك ليس يحتاج إِلى تقديم الكلام. وبالجملة فالذي يجيب على المجيب هو أَن يبادر إِلى دفع الشكاية عن نفسه ويقطع عن ذلك جميع العوائق ولا يتوانى في ذلك ويؤخر تلك الأَشياء التي هي حيل واستدراجات للحكام إِلى آخر كلامه. وأَما الشاكي فينبغي أَن تكون شكايته بتقديم الكلام، أَعني التصدير، ليكون السامعون أَذكر للأَمر. وأَما الحيل التي يبدأ بها مما هي نحو السامع فهي إِيجاب الشفقة عليه والمحبة له والغضب على خصمه، وذلك بأَن يثبت عنده أَنه ذو قرابة منه أَو بينه وبينه علاقة نسب، أَو بضد ذلك. فإِنه ليس في كل موضع ينفع تثبيت القراة والمشاركة في النسب، بل ربما أَدى ذلك إِلى الضحك والسخرية ممن يدعي ذلك، إِذا كان ما يدعيه غير معروف. ومما يستدرج به السامعون أَيضا بسطهم وإِيناسهم، وذلك أَن البسط والإِيناس مما ينتفع به عند كل شريف من الناس ونفيس. ويجب للذي يريد أَن يثبت أَنه خير وفاضل أَن يعتمد ذلك عند الذي بينه وبينهم قرابة أَو صلة، وكذلك عند القوم الذين يكون مألوفا عندهم أَو عجيب المنظر. فإِن لم يكن عندهم واحداً من هؤلاءِ، فقد ينبغي أَلا يشتغل بالأمور التي من خارج، ويثبت - إِن كان مجيبا - أَن الأَمر الذي ادعى به عليه يسير أَو غير مؤذٍ؛ وإِن كان شاكيا أَن يبين أَنه مؤذِ ومكروه عظيم. وكل هذه الأَشياء هي خارجة عن الأَمر الذي يتكلم فيه، وهي كلها موجهة نحو السامعين، أَعني الحيل الخارجة والصدور. فلذلك إِذا كان واجبا على المتكلم أَن يصدر الكلام، فينبغي أَن يكون الصدر بقدر الكلام، فإِن الصدر إِنما هو ليكون للكلام رأس كما للجسد.
قال: وأَما تثبيت الخطباء القرابة فإِنه عام لجميع أَجزاءِ الكلام الخطبي. وذلك يكون في كل حال إِذا كان السامعون عالمين بالقرابة غير شاكين فيها.
قال: ومما يستحق فاعله الهوان أَن يكون التصدير بالأُمور الصعبة على النفوس الكريهة المسموع، ولا سيما إِذا تأَمل السامعون أَو تفقدوا ما يكون من ذلك، مثل قول القائل: إِنه لا يكون هذا حتى أُقتل، أَو أَنه ليس هاهنا شيء هو لي أَكثر مما لكم، أَو أخبركم خبرا لم تسمعوا بمثله قط في الغرابة أَو الشدة. ومن هذا النوع الذي ذكر تستقبح بداءآت كثير من الأَشعار مثل استقباح عبد الملك بن مروان لاستفتاح جرير:
أَتصحو بل فؤادك غير صاح.
ومثل ما استقبح استفتاح أَبي الطيب:
أَوه بديل من قولتي واها.
وقوله:
كفى بك داء أَن ترى الموت شافيا.
وهذا كثير في أَشعار العرب وخطبها.
قال: أَما ما كان من هذه الأَشياء نحو السامع فبيّن، وأَما ما كان منها نحو الأَمر نفسه فبين واضح من هذه الأَشياءِ. والذين يكثرون الصدور والحيل التي نحو السامع إِنما يفعلون ذلك حيث يتشعب عليهم الكلام إِما لجهلهم، وإِما لعدمهم الفضيلة، أَو للأَمرين جميعا. ولذلك الشرار أَو الذين يظن بهم الشر قد يفعلون ذلك لأَن تطريقهم وتدريجهم للأُمور التي يتكلمون فيها في كل حال هو أَمثل. ولذلك ما صار العبيد ليس يتكلمون في الشيء الذي يُسئلون عنه، وإِنما يتكلمون في الأَشياء الخارجة عن الشيء الذي يُسئلون عنه.
قال: فأَما من أَين ينبغي أَن يؤنس السامعون أَو يحتال لأُنسهم فقد قيل في ذلك وفي غيرها من الانفعالات النافعة عند السامعين وكيف تكون إِجادة هذا الفعل في المقالة الثانية من هذا الكتاب. قال: والأَقوال المديحية يحتاج فيها أَن يجتهد في إِيهام السامع ذلك الأَمر الذي يقصد تثبيته ويوقع عليه ظنه. وينبغي مع هذا أَن يمدح المرء إِما بحضرته أَي بمدينته، وإِما بحضرة جنسه، أَو بحضرة من يتصل به، فإِنه أَسرع لقبول مدحه. فإِنه كما قال سقراط: ليس يعسر أَن يُمدح أَهل أَثينا عند أَهل أَثينا، وإِنما يعسر أَن يمدح عند أَهل لوقيا، يعني أَعداءهم.
قال: وما كان من الكلام المشوري فهو يشبه الكلام الخصومي، فإِنه ليس يحتاج فيه كثيرا إِلى تقديم كلام وتصدير، من أَجل أَن السامعين يعرفون الشيء المتكلم فيه، إِلا أَن يكون محتاجا إِلى تقديم الكلام من أَجل نفسه، أَو من أَجل الذين ينظرون في الكلام، إِذا لم يعلموا الأَمر الذي يتكلم فيه، إِلا أَن يريد أَن يوهمهم أَن الشيءَ النازل به ليس خاصا به ولا صغيرا بل هو عام وعظيم، أَو أَنه بضد هذا، أَعني خسيسا وصغيرا. والذي يحتاج إِليه ضرورة في الخصومة هو القول في تثبيت الشكاية والاحتجاج لها والتكبير والتصغير لها.
قال: وينبغي أَن ينظر في الأَشياء التي تتنزل من الأَقاويل الخطبية منزلة التزويق والتزيين، وذلك كالذي يكون في الأَشياء المموهة التي يظن بها أَنها بحالة ما، وليس هي كذلك بالحقيقة. وهذا قد يكون في المدح، ويكون أَيضا في الاعتذار عن الشكاية. والشكاية بالجملة إِنما يقع الإِقناع بها بأَن يثبت المرءُ الشاكي على أُولئك الذين يشكو بهم سوء الهمة أَو سوء السيرة. والمشتكى منه إِنما يجيب بأَن يثبت أَنه لا فرق بين أَن يدعي هذه الشكاية أَو لا يدعيها. وهذا هو أَحد المواضع التي يجيب منها المشتكي منه، وذلك إِذا لم يعترف أَن الأَمر كان. فإِن الخصومات أَجمع إِنما تكون المنازعة فيها من المدعى عليه إِما بأَن الأَمر لم يكن، وإِما بأَنه كان وليس ضرراً ولا جوراً، وإِما أَنه ليس على هذه الصفة التي ذكر الشاكي كان الفعل، وإِما أَنه لم يكن بهذا القدر الذي ذكره أَو أَنه ليس عظيما أَو أَنه ليس قبيحا أَو ليس له خطر. ففي هذه ونحوها تكون المشاكسة والمنازعة بين المتشاكسين والمتنازعين.
ومن هذه المواضع يقع الاعتذار أَما أَولاً فأَن يعترف أَنه أَضر ولكنه لم يقصد ذلك ولا تعمده وإِنما قصد الجميل أَو النافع لا غير ذلك.
وموضع آخر: أَن يعترف أَنه أَضر ولكن بالإِكراه، لا بالطوع ولا بالاختيار والإِرادة. وموضع آخر: وهو أَن يوجد الشاكي قد افترى الشكاية قَبْلُ على إِنسان ليس متهما، أَو كان معروفا بالشكاية والافتراءِ. وهذا الموضع هو بالجملة أَن يبين المجيب أَن الشاكي به غير موثوق وأَن كلامه غير مصدق عليه. وموضع آخر وهو مأخوذ من دعوى مخالفة الباطن للظاهر لمصلحة يدعيها في الفعل الظاهر: وهو أَن يدعي أَن ذلك الفعل منه لم يطابق ظاهره فيه باطنه، وأَنه كان فيه كالمنافق لمصلحة يدعى في ذلك، مثل أَن يحنث في يمين ويدعي أَن ظاهره كان في ذلك غير موافق لباطنه، وإِنه كان في ذلك كالمنافق لمصلحة ما قصدها.
وموضع خامس: وهو أَن يدعى لذلك الفعل مقصدا أَو حكما غير الذي زعمه الشاكي. وهذا الموضع والذي قبله يعمهما أَن يدعي أَن الفعل الواقع قصد به غير الذي زعم الشاكي، وذلك بأَن يصف كيف كان وقوع ذلك الفعل. وموضع آخر للذي يخجل من شيء يذكره: أَن يمدح قليلا ويذم كثيرا. فإِن الشكاية ليس في وقوعها معرة من المذمومين، أَو يذكر منه فضائل كثيرة ثم يذمه من الجهة التي افترى بها.
وهكذا يفعل أَهل الحذق والنفاذ والدَّهىْ، فإِنهم يقصدون أَن يضروا بالخيار من الناس بأَن يصفوهم بالأَمرين جميعا، أَعني بالخير والشر، من قبل أَن الشر ممكن وقوعه من أَهل الخير. ولو وصفوهم بالشر فقط، لم يكن ذلك مما يظن بهم.
قال: والموضع المأخوذ من توجيه جهة الفعل هو عام للذي يخجل وللذي يتنصل معا، لأَن الشيءَ الواحد يمكن أَن يفعل من أَجل علل شتى. فالذي يخجل يوجهه إِلى الشر، والذي يتنصل منه ويعتذر يوجهه إِلى الخير.
قال: وأَما الاقتصاص فقد يكون في الجزءِ المنافري. وينبغي - إِذا كان الاقتصاص إِنما هو تصديق ما موجز يتعجل وقوعه قبل التصديق التام - أَلا يؤتى به على النسق والتركيب الذي يستعمل في الأَقاويل التصديقية، بل قد يؤتى به مفردا وعلى غير نسق. قال: وينبغي أَن يبين وجود الأَفعال التي منها تعمل الدلائل على الأَشياءِ المقصودة التثبيت. وهذه الأَفعال منها ما يكون تثبيتها بالأُمور الخارجة ومنها ما يكون بطريق صناعي، وهي المثبتة بالقول. ولأَن التثبيتات تختلف: فمنها مشتبك متشعب، كتثبيتك في الفضائل الكثيرة أَنها موجودة للمدوح، أَو للشيءِ الذي هو موجود له منها، أَو اَنه موجود له عدد ما منها، أَو أَنه موجود له كل شيء منها. فقد ينبغي أَلا يكون الاقتصاص الواقع في هذه الأَشياءِ على نسق، لأَن التثبيت الذي يكون على نسق مما يعسر حفظه؛ بل ينبغي أَن يكون الاقتصاص في هذه على غير نسق ومجملا.
قال: وأَما إِذا كان الموصوف فإِنما ينفرد بفضيلة واحدة مثل أَن يكون شجاعا أَو حكيما أَو ناسكا، فإِن التثبيت في مثل هذا يكون بسيطا. فأَما الأَول فمشتبك وغير بسيط. وكأَنه يريد أَن الاقتصاص في المدح البسيط ليس يخالف التثبيت في عدم التركيب والنظام، وإِنما يخالفه في ذلك في التثبيت المركب، إِذ كان الاقتصاص من شأنه أَن يؤتى به بسيطا لا مركبا، أَعني أَنه استدلال بسيط موجز لا مركب ولا منتظم، سواء كان التثبيت مما يحتاج فيه إِلى التركيب والنظام أَو لا يحتاج.
قال: وليس ينبغي أَن يستدل على الأُمور المعروفة. ولذلك كثير من الناس ليس يحتاج في مدحهم إِلى اقتصاص، وهم الناس الذين فضلهم بالجملة معروف، وإِنما المجهول منها عند السامع تفصيلها. لأَن الاقتصاص إِنما يثبت فيها شيئا هو معلوم. فأَمثال هؤلاءِ لا ينبغي أَن يشتغل فيهم بعمل الاقتصاص المجمل، قبل التثبيت المفصل، مثل أَنه إِذا أَراد إِنسان أَن يمدح أَبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فليس يحتاج في مدحهم أَن يبين أَنهم أَفاضل قبل أَن يشرع في تثبيت فضائلهم على التفصيل. اللهم إِلا أَن يكون الحاكم والسامع جاهلا بالممدوح، مثل الغرباء؛ فإِنه قد يحتاج مع أَمثال هؤلاءِ إِلى استعمال الاقتصاص.
قال: ولأَن المدح إِنما هو كلام ينبئ عن عظم الفضيلة، فقد ينبغي أَن يستعمل المدح بالأُمور الخارجة التي ليست اختيارية على جهة التأكيد للتصديق الواقع من قبل الأَفعال. فإِن المدح إِنما يكون بالأَفعال. واستعمال الأَشياء التي من خارج على جهة التأكيد للمدح المتقدم بالأَفعال هو مثل قول القائل، بعد تثبيت الأَفعال الفاضلة: وبالواجب كان هذا، فإِنه يحق أَن يكون من الخيار خيارٌ، وإِن من نشأَ هذا المنشأ فحقيق أَن يكون بهذه الحال. والمدح، كما قلنا، إِنما يكون بالأَفعال. والمفعولات هي دلائل الأَفعال. وقد يمدح المرءُ وإِن لم يذكر له فعل وذلك إِذا تهيأَ وقوع التصديق بأَنه سعيدٌ أَو مغبوط أَو أَنه فاضل. وذلك أَن المدح بالأَفعال إِنما هو ليستدل به على الفضيلة. والمدح بالفضيلة ليستدل بها على السعادة والغبطة. فإِن نسبة الأَفعال إِلى الفضيلة كنسبة الفضيلة إِلى السعادة.
قال: وقد تكون مواضع ما عامة للمديح وللمشورة جميعا، وإِنما تنقلب لأَحد النوعين بتغيير يسير يستعمل فيها، وذلك أَن التي ينبغي أَن تفعل هي التي يمدح بها إِذا فعلت. فمن عرف التي ينبغي أَن تفعل فقد عرف التي ينبغي أَن يمدح بها. وإِذا كان ذلك كذلك، كانت له قدرة على الفعلين جميعا، أَعني المدح والإِشارة. وذلك أَن الشيءَ الذي يأتي به على طريق الإِشارة والحث إِذا غيره تغييرا يسيرا وبدله صار مدحا. مثال ذلك أَن يقول قائل: إِنه لا ينبغي أَن يُتوهم أَن الأُمور العظام الشريفة هي الأُمور التي ينالها المرءُ بسعادة الجَد وجودة الاتفاق، بل الأُمور العظيمة هي التي تنال بالسعي وحسن الرأي. فإِنه إِذا قيل هكذا، كان كلاما مشوريا، فإِذا غير هذا وقيل: إِن فلانا إِنما نال الأُمور العظام بسعيه وجِده لا بجَده، كان مدحا. فالشيء الذي به يشار في هذه الأَشياء، به يكون المدح. وقد يكون الكلام مركبا من مدح ومشورة، وذلك إِذا انتقل الخطيب من أَحدهما إِلى الآخر، مثل أَن يقول: أَنت إِنما نلت العظائم بسعيك وجِدك، فلا تركن إِلى ما نلت منها باتفاق وجودة بخت. قال: وينبغي أَن يكون الاقتصاص خفيفا غير مطول، بل يكون بحيث يؤذن دفعة بالأَمر الذي قصد أَن يؤذن به ويدل عليه، وذلك إِما بإِغلاط من القول وإِما بلين وإِما بوسط بين ذلك، بحسب ما يليق بمقام مقام. وكذلك ينبغي أَلا يجعل صدر الكلام طويلا، ولا يذكر فيه التصديقات فإِنه إِن فعل ذلك لم يكن الكلام حسنا وكذلك يجب أَلا يكون أَيضا وجيزا قصيرا، ولكن يكون قصدا معتدلا. وذلك بأَن يذكر فيه الأَمر الذي جعل إِنباء عنه من ضرر أَو ظلم أَو غير ذلك مما يكون فيه القول، ثم يتوخى بعد ذلك أَن يكون الكلام على مثل تلك الأُمور التي فيها الكلام وبمقدارها لا مخالفا لها ولا أَعظم منها أَو أَصغر.
قال: ومن النافع أَن يخلط المتكلم بالاقتصاص بعض الأَقاويل التي تدل على فضيلته ليكون كلامهُ أَقنع وأَن يستعمل من ذلك ما كان لذيذا وقوعه عند الحكام.
قال: فأَما المجيب فينبغي أَن يقلل الاقتصاص إِن كانت الخصومة في أَنه لم يكن الأَمر الذي أَدعى المتكلم وقوعه، أَو في أَنه لم يكن ضارا، أَو في أَنه لم يكن ظلما، أَو في أَنه لم يكن على الصفة التي ذكر. وذلك أَن المجيب لا ينبغي أَن ينازع خصمه فيما أَقر به، إِن لم تكن له فيه منفعة. وذلك مثل أَن يقر أَنه فعل، ولكن لم يكن ذلك الفعل ظلما. وإِنما ينبغي للمجيب أَن لا ينكر الأَفعال التي إِذا لم يفعل، لم يجب العقاب أَو الغرم، أَو وجب الصفح.
قال: وينبغي أَن يكون الاقتصاص أَهليا أَي مألوفا معروفا غير منكر، وذلك يكون بأَن يخلط به المتكلم الأَقاويل التي تحرك المرء إِلى الخلق الفاضل وتحرض على فعل الخير، وهي الأَقاويل الخلقية. وإِنما تستعمل الأَقاويل الخلقية في الأَشياءِ الإِرادية العملية، لا في الأَشياءِ النظرية. فإِن الأَخلاق هي مبادئ الأعمال التي هي نحو غاية ما، لا مبادئ الاعتقادات.
قال: ولذلك لم تستعمل الأَقاويل الخلقية في الأَشياءِ التعاليمية إِلا ما كان يَستعملُ من ذلك أَصحابُ سقراط. والأَقاويل الخلقية هي التي تؤلَّف من لازمات الخلق، أَعني التي إِذا وجدت وجد ذلك الخلق. ولذلك قد يستعمل الخصم أَمثال هذه دلالة على خلق خصمه، كمثل ما يقول: إِنه عجول وغير متثبت، والدليل على ذلك أَنه يتكلم وهو يمشي، فإِن هذا يدل على الطيش وقلة الرزانة، وهو بخلاف قول القائل: أَما فلان فإِنه يتكلم عن رويَّة واختيار لأَنه إِنما يختار أَبداً الذي هو أَفضل إِما عند الرجل العاقل، وإِما عند الرجل الصالح؛ وذلك أَن العاقل يختار النافع، والصالح يختار الجميل.
قال: وإِذا لم يقع التصديق بالشيء فينبغي أَن يؤتى بالسبب النوجب لذلك الشيء، مثل ما قال فلان في فلانة، فإِنه قال أَنها كانت تحب أَخاها أَكثر من حبها زوجَها وبنيها، لأَن هؤلاء يستعادون إِن فقدوا، والأَخ لا يستعاد إِن فقد.
قال: ويجب إِن كان المتكلم استعمل الأَخذ بالوجوه وأَتى بالتصديق من التي من خارج أَن يُوبَّخ ويقال له: هذا من فعل من لا يفقه الكلام، ومن فعل من هو أَبهم بهيمة بالطبع.
قال: وينبغي أَن يخلط المقتص باقتصاصه بعض الأَقاويل الانفعالية التي هي لازمة ومشاكلة، وهي التي تؤلف من الأُمور الموجودة فيهم أَو فيمن يتصل بهم. وذلك أَن هذه الأُمور هي عندهم معروفة مألوفة، يعني أَن هذه الأُمور هي التي توجب المحبة والرحمة لمن وجدت فيه، كما قيل: إِن هذا هو العقل نفسه، ومعنى زائد على العقل وكما قال فلان في فلانة: إِنها إِلى حيث ما رفعت يديها بلغت، يريد، فيما أَحسب، من إِمكان الأَشياءِ لها وتيسرها عليها.
قال: وهذا يوجد كثيرا في شعر أُوميروش، كقوله في فلانة: إِن تلك العجوز حبست عندها الوجوه الحسان، يريد أَمثال هذه الأَقاويل الانفعالية التي توجب استغراباً للشيء وعجبا به. وهو موجود كثيرا في أَشعار العرب وخطبها، ومن أَحسن ما في هذا المعنى قول أَبي تمام:
فلو صَوّرت نفسك لم تَزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
فإِن هذا القول انفعالي جدا. وقريب من هذا قول أَبي نواس:
وليس على الله بمستنكر ... أَن يجمع العالم في واحد قال: وقد يكون من الأَفعال ما يوجب الانفعال، وهي الأَفعال التي تصدر من أُناس هم بأَحوال توجب العطف عليهم مثل الذين يتكففون الدمع بأَيديهم من أَعينهم. فإِنهم إِذا أُبصروا بهذه الحال، أَشفق لهم وتعطف عليهم. ولذلك صار الخصم إِذا كان بهذه الحال يضلل الحاكم. وقد يدل على انتفاع الخصم بهذا الانفعال أَن هذه الحال قد تنفعه مع الجرم الذي هو به مقر فضلا مع ما هو له منكر.
قال: وكثيرا ما يحتاج المتكلم أَن يتكلف عمل الاقتصاص في بدء كلامه، وربما لم يحتج إِلى ذلك.
فأَما الكلام المشاوري فليس فيه اقتصاص أَلبتة، لأَنه ليس يكون اقتصاص فيما سيكون، وإِنما الاقتصاص فيما كان أَو هو كائن الآن. وإِنما تذكر الأُمور المتقدمة في المشورة على جهة البرهان، أَعني أَن يبين بها وجود الأُمور المستقبلة. ولذلك كلما كان المشير أَعرف بالأُمور السالفة الواقعة، كان أَحرى بحسن المشورة فيما هو كائن بأخَرة. فأَما المدح والذم فالأَمر فيه بخلاف هذا، أَعني أَنه تذكر فيه الأَشياء السالفة والحاضرة على جهة الاقتصاص. وليس في المشورة اقتصاص إِلا أَن يكون الخطيب ينتقل من المدح إِلى المشورة. ولكن إِذا كان الأَمر الذي يَعِدُ به مما لا يصدق بوقوعه، فينبغي له أَن يأتي بالعلة في الشيءِ الذي يَعِدُ بوقوعه، ثم بعد ذلك يتكلم في موجبات ذلك الواقع قال: وأَما التصديقات فينبغي أَن تكون أَقاويل تثبيتية. فإِن التثبيت أَمر خاص بالتصديقات في جميع أَنواع القول الخطبي. والأَشياء التي تكون فيها المنازعة في الخصومة، وهي التي يجب أَن يوقع بها التصديق، هي أَنحاء: أَحدها أَن الشيءَ كائن، وذلك إِذا مارى الخصم في كونه، أَعني أَن يجحده. ولذلك ما يجب على الشاكي أَن يأتي على كون ذلك الشيء بالبرهان، أَعني بالمثال. والنحو الثاني: هو في أَن الشيءَ ضار أَو ليس بضار، وذلك إِذا اعترف الخصم بأَنه قد كان ونازع في أَنه ضار. والثالث: أَنه عدل أَو ليس بعدل، وذلك إِذا اعترف بأَنه واقع وضار ونازع في كونه جوراً. والرابع: أَن يعترف الخصم أَنه ضار وغير عدل ولكن يدعي أَن خصمه كان السبب فيه بما تقدم من جوره عليه، مثل مَنْ يقر أَنه أَغضب إِنسانا، لكنه يزعم أَنه إِنما فعل ذلك لغضب متقدم كان منه، ففعل ذلك لينتصف منه. وهذا كأَنه راجع إِلى دعوى العدل. وإِذا اعترف الخصم بأَنه ضرر، ولكن خصمه كان السبب فيه، فبين أَن الخصومة حينئذ إِنما تكون في أَن خصمه كان السبب أَو لم يكن. وقد تكون الخصومة في هل يطلق لمن جير عليه أَن يجر بقدر ما جير عليه دون أَن يرفع ذلك إِلى الحاكم، كما يوجد الاختلاف في ذلك عند الفقهاء في ملتنا.
قال: والخصومة في مثل هذا هي نافعة للشاكي، ضارة للمجيب، أَعني إِذا اعترف المجيب أَنه جار وادعى أَن السبب فيه خصمه. وأَما في تلك الأخر، وبخاصة في أَن الأَمر لم يكن، فهي للمجيب أَنفع منها للشاكي.
قال: وأَما المنافرية فقد ينتفع فيها كثيرا باستعمال الشبيه والقول المثالي، أَعني في تبيين وجود تلك الأَفعال. وأَما في تلك الأَفعال جميلة أَو نافعة، فإِن الاستدلال على ذلك يكون من الأُمور أَنفسها، وقد يستدل في الأَقل على ذلك بالتمثيل، وهو الذي يعرفه أَرسطو بالبرهان في هذه الصناعة، وإِنما يحتاج في الأَكثر إِلى استعمال المثال إِذا كانت الأُمور غير مصدق بوجودها أَو كان هنالك علة تمنع التصديق بوجودها.
قال: وأَما القول المشاجري فالذي يستعمل فيه التثبيت إِنما يبين إِما أَن الأَمر لا يكون، وإِما أَنه سيكون، وإِما أَنه إِن كان، فليس عدلا أَو ليس مما ينتفع به، أَو ليس على هذه الصفة ينبغي أَن يكون.
قال: وقد ينبغي أَن يتفقد كذب المتكلم في المشوريات واستعماله الأُمور التي هي خارجة عن الأَمر أَكثر منها في سائر الأَنواع. قال: والعلامات وإِن كانت كاذبة بالجزء، كما قيل، فقد يستعملها هذا الجزءُ من الخطابة كما تستعملها سائر الأَجزاءِ. والمثالات أَخص بالمشاورة وأَولى بها. وأَما الضمائر فهي أَخص بالخصومة، لأَن الإِشارة إِنما تكون بما هو آت. ولذلك يجب أَن يؤتى بالبرهان عليه مما قد كان، وهو المثال. وأَما الخصومة فإِنما تكون في أَن الشيءَ موجود أَو غير موجود، ولذلك يكون المثبت فيها من الأَشياءِ الضرورية التي تلزم ذلك الشيءَ، لأَن الذي قد كان، لازمه ضروري الوجود، أَي موجود بالفعل، لا ممكن الوجود. وأًَما الأُمور المستقبلة فلازمها مستقبل الوجود، فلذلك كانت المثالات أَخص بها من الضمائر.
قال: وليس ينبغي أَن يؤتى بمقدمات الضمائر على النسق الصناعي، بل ينبغي أَن يخلط بعضها ببعض، وإِلا أَضر بعضها بعضا. فأَما أَن يؤتى بها على الترتيب الصناعي وهو الترتيب الذي يظن أَنه قياسي، أَعني أَكثر من غيره، فليس ينبغي أَن يفعل ذلك في جميع الضمائر كما كان يفعله أُناس من المتفلسفين.
قال: وإِذا أَردت أَن تعمل قولا انفعاليا، فلا تعملن منه ضميراً تصديقياً.
فإِنك إِن فعلت ذلك، إِما أَن ترفع الانفعال الذي قصدت فعله، وإِما أَن يكون الضمير باطلا، لأَنك تصدم بعضها ببعض. وإِذا اجتمعا معا، فإِما أَن يفسد أَحدهما الآخر، وإِما أَن يوهنه.
وكذلك أَيضا إِذا أَثبت بالكلام الخلقي، فلا ينبغي أَن يأتي بالضمير والتثبيت معه، لأَنه ليس التثبيت مما يفعل في السامع اختيار الشيء كما تفعله الأَقاويل الخلقية.
ولكن ينبغي أَن يستعمل: أَما في الأَقاويل الخلقية فالأَقاويل الرأْيية، وأَما عند الاقتصاص فالأَقاويل التصديقية. فمثال الأَقاويل الخلقية قول القائل: إِنك عارف بهؤلاءِ فلا ينبغي أَن تصدقهم. ومثال الانفعالية قول القائل: إِن هؤلاء مظلومون فلا ينبغي أَن تضجر بهم. وأَما التصديقات فإِنما تكون في أَن هذا عدل أَو نافع.
قال: والإِشارة في الأَكثر أَصعبُ من الخصومة، من أَجل أَن المشورة تكون في المستقبل والخصومة في الماضي. وما كان في الماضي أَعرف مما يكون في المستقبل، ولذلك كان التكهن في الماضي أَسهل منه في المستقبل، كما قال فلان في فلان أَنه كان يتكهن في الماضي ولم يكن يتكهن في المستقبل، يريد فيما أَحسب الغض منه.
قال: والقول المثالي هو من الأُمور الظاهرة الحكم جدا ويسهل به وجدان البرهان على الشيءِ من قبله والتصديق به، وليس فيه محاورة كثيرة خارجة عن الشيءِ، كالذي يكون نحو الخصم من تخسيسه، أَو نحو نفسه من تفضيله، أَو في تصيير الحاكم إِلى الانفعال. اللهم إِلا أَن يروغ المتكلم به أَو يحيد عن الطريق، يريد لأَن هذه العلة كان أَخص بالمشورة.
قال: وينبغي للمتشكك في المقدمات المأخوذة من السنة أَن يفعل فيها ما كان يفعله سقراط مع الخطباء من أَهل أَثينية، فإِنه كان يذم لهم تلك المقدمات ذما يسيراً، يريد، فيما أَحسب، بالتأويل لها. فإِن التأويل ذم ما للقول.
قال: وأَما المنافريات فقد ينبغي أَن يستعمل فيها مدح الكلام التثبيتي، مثل ما كان يفعله سقراط في أَقاويله المدحية. فإِنه كان يدخل في أَثنائها مدح الكلام. وذلك مثل قول القائل: إِنه مَن مدَح فلانا فليس يعوزه مقال ولا تبقى له مقال. وإِذا كان هذا في مدح الإِنسان، فكيف في مدح الإِله.
والكلام التثبيتي إِذا استعمل فيه المدح كان تثبيتا وخلقيا معا، وإِن لم يكن هنالك قول خلقي، وذلك مثل قول القائل: بعد أَن يأتي بالتثبيت: إِن الكلام المحقق الصحيح لا يعقله إِلا ذوو الفضل والصلاح.
قال: والموبخات فهي أَنجح من المثبتات، يعني بالموبخات، التي تكون على طريق الخلف من المقدمات التي يعترف بها الخصم، وبالمثبتات الضمائر التي يأتي بها المتكلم في إِبطال قول الخصم من تلقائه.
قال: وإِنما كانت الموبخات أَنجح من الضمائر لأَنه معلوم أَن الموبخات تفضل غيرها من الأَقوال في الشيء الذي به الأَقوال قياسية، أَعني أَنها قياسية أَكثر من غيرها، إِلا أَنها إِنما تأتلف من المقدمات المتضادة. والمتضادة إِذا قرن بعضها ببعض كان أَحرى أَن يظهر الكذب الذي فيها. قال: والكلام الذي يوجهه نحو الخصوم ليس يكون من نوع آخر سوى نوع الأَقاويل التصديقية فمنها ما تكون المقاومة فيه بحسب قول الخصم، وهي المقاييس التي تأْتلف من المقدمات المتقابلة أَو التي قوتها قوة المتقابلة، وتسوق إِلى التوبيخ. ومنها ما تكون من الأَمر نفسه، وهي المقاييس المستقيمة.
قال: وقد ينبغي في المشورة والخصومة معا إِذا ابتدأَ المتكلم بالكلام أَن يذكر أَولاً التصديقات التي تثبت قوله ثم يقصد بعد ذلك لإِبطال المخالفات لقوله. هذا إِذا كانت المخالفات له يسيرة أَو قليلة الإِقناع، وأَما إِن كانت كثيرة أَو قوية الإِقناع، فإِن العمل كله هو في أَن يتقدم فينقض تلك الأَقاويل. فإِذا أَوهم بطلانها، أَتى بعد ذلك بالتثبيتات التي تخص قوله، وبالجملة: فينبغي للمتكلم الذي يريد أَن يتكلم بضد كلام قد تكلم به غيره أَن يوطئ لنفسه ويطرق لكلامه، ولا سيما إِذا كان الكلام الذي تكلم به الغير كلاما منجحا، أَي مقنعا. وذلك يكون بوجوه، مثل أَن يقول الخصم: إِنك معنى بالكلام ذو قدرة عليه. وإِنك تثبت كل ما تريد أَن تثبته، وتقنع في كل شيء أَنه واجب وأَنه عظيم وأَنه نافع ليعتقد في قولك أَنه صحيح ومحقق، وإِن لم يكن صحيحا عند الله ولا عند الحق نفسه. وربما استعمل في هذا ذم الكلام وذم المتكلم، مثل أَن يقول له: إِن كلامك محك وباطل وكلام رجل لا تورع عنده. وكأَن هذا الموضع الذي ذكره هو راجع إِلى ذم كلام الخصم إِما من جهة الباطن وإِما من جهة الظاهر. وذم الخصم نفسه أَو كلامه هو مقابل مدح المتكلم نفسه وكلامه. وإِنما تذكر هذه الأَشياء هاهنا من جهة الترتيب؛ وإِلا فقد تقدم الكلام فيها.
قال: وقد ينبغي أَن تغير الضمائر إِلى الأَقاويل الخلقية أَحيانا مثل أَن يقول الخطيب إِذا أَشار بالصلح والهدنة: لأَنه ينبغي للعقلاءِ أَن يصيروا إِلى الصلح والهدنة. وبالجملة فيجب على الخطيب أَن يتكلف من الضمائر أَقوى ما يمكن أَن يوجد في ذلك الشيء الذي يتكلم فيه. فإِنه مهما كانت الضمائر التي يأتي بها الخطيب أَنجح فهو أَحرى أَن يقبل قوله وأَن يظهر على خصومه، مثل أَن تكون الضمائر التي يأتي بها في قبول الصلح أَقوى من الضمائر التي يأتي بها خصمه في دفع الصلح والإِشارة بالحرب.
قال: فأَما السؤال فإِنما ينبغي أَن يستعمل في هذه الصناعة أَكثر من ذلك في مواضع: أَحدها: إِذا علم السائل أَن المجيب متى أَجاب بنعم أَو لا لزمه شيء واحد بعينه وهو الذي قصد المتكلم إِلزامه، مثل أَن يُسأَل أَلست قد أُخِذْتَ بقرب القتيل وبيدك سيف؟ فإِن قال: نعم، قيل: أَنت قتلته؛ وإِن قال: لا، قيل: فأَنت قتلته، فلذلك فررت.
والموضع الثاني: حيث يعلم إِنه إِن لم يجب بالشيء الذي سأَله فقد قال شنيعا، مثل قول القائل: أَلست تعلم أَن الإِتاوة جور. فإِنه إِن قال: لا، كان شنيعا؛ وإِن قال: نعم، قيل له: وأَنت تأخذ الإِتاوة، فأَنت جائر والموضع الثالث أَن تكون المقدمة التي يسأَله عنها ظاهرة الصدق، ولا يكون ما يلزم عنها ظاهرا عند المجيب. فإِنه في مثل هذا الموضع يجب على السائل أَن يقتصر على مقدمة واحدة فقط، ولا يسأَل عن المقدمة الثانية. مثل أَن يَسأَل سائل رجلا من النصارى: أَليس الآباء والأَبناء من جنسٍ واحد؟ فإِذا قال المجيب: نعم، قال: فعيسى إِذن ليس ابنا لله. فإِن هذه المقدمة يمكن أَن تخفي لظهورها، وبَعد لازمها، وهي خافية في الأَكثر أَعني في بادئ الرأي، على المجيب في هذا السؤال.
والموضع الرابع: حيث يعلم السائل أَنه إِن أَجاب بضد ما سأَله قدر على إِلزامه التشنيع. والفرق بين هذا وبين الثاني: أَن الشنيع هنالك كان ضد ما سأَله عنه، وهنا إِنما أَلزمه السائل الشنيع بقياس.
والموضع الخامس: إِذا كان الأَمر عند السؤال يضطره أَن يجيب بالمتناقضات معا فإِنه يلزمه التوبيخ الذي يفعله السوفسطائيون. مثل أَن يلزمه بالسؤال أَن يكون مجيبا في الشيء بنعم وبلا. فإِنه يشغب عليه حينئذ كما يفعل السوفسطائيون. والموضع السادس: أَن يسأَل سؤالا يتضمن معاني كثيرة ويتشغب الجواب فيه على المجيب. فإِنه إِن أَجاب في ذلك بالمعنى الذي قصده السائل لزمه الأَمر. وإِن جعل يفصل تلك المعاني واحدا واحدا ويجيب فيها بجواب جواب، رأَى السامعون من العمة لضعفهم أَنه مريد وأَنه لذلك قد اضطرب جوابه، إِذا كانوا يرون أَن الصادق إِنما يجيب إِذا سأَل بجواب واحد لا بأَجوبة كثيرة، لأَن ذلك اضطراب وتشويش في الجواب.
قال: وأَما المجيب فقد ينبغي له في هذه الصناعة أَن ينكر إِنتاج الضمائر، إِذا لم يقدر على إِنكار المقدمات التي سئل عنها. وإِذا أَمكنه الإِنكار، فلا ينكر باللفظ المحتمل الذي يكون أَعم من ذلك الشيء الذي فيه المراء ولا أَخص. وينبغي له أَن يتقدم فيعلم المقدمات التي تفعل القياس على الشيء الذي يروم خصمه أَن يثبته عليه. وذلك مما يسهل علمه من الأَشياءِ التي قيلت في الثانية من طوبيقى. فإِن تلك الأَشياء إِما كلها وإِما بعضها هي مما يصلح في هذا الموضع وينتفع بها وإِن تم القياس عليه فينبغي له أَن يذكر أَن علة النتيجة هي غير العلة التي ذكرها الخصم، مثل أَنه إِذا أَنتج عليه أَنه أَخذ المال فيقول: نعم أَخذته لمكان الحفظ له، لا لمكان الغصب.
قال: والسائل فقد ينبغي أَلا يَسأَل عن المقدمات البعيدة ولا عن القريبة من النتيجة نفسها إِلا أَن تكون ظاهرة جدا، بل ينبغي أَن يسأَل عن المقدمات التي هي من النتيجة بحال وسط في القرب والبعد.
قال: ولأَن الأَقاويل التي تستعمل الهزء والسخرية لها غناء في المنازعات، فقد ينبغي أَن تدخل في المخاطبات التي فيها النزاع. ولذلك قال فلان: إِنه ينبغي أَن يفسد الجِد بضده أَي الهزل، ويفسد الهزل بضده أَي بالجد. وذلك صواب من قوله. وقد قيل في كتاب الشعر كم أَنواع الهزل. ومن أَنواع الهزل ما يليق بالكريم، وهو الهزل الذي لا يكمن فيه صاحبه على أَمر باطن وتعريض قبيح بل يكون ما يتكلم فيه بالهزل هو نفس الشيء الذي قصده، لا أَنه عرّض بذلك عن أَمر قبيح. ولذلك قيل: إِن المزَّاح يواجهك بالمزاح ويبدي لك ما في نفسه، وإِما المعرّض فهو الذي يخادعك ويوهمك أَنه يتكلم في شيء وهو يذهب في الهزل إِلى شيء آخر قبيح. فالمزَّاح أَشبه بالكريم لأَنه يصدق عن ذات نفسه، والمعرّض أَشبه باللئيم لأَنه يستعمل الخب والحقد.
قال: وبالجملة فالأَشياء التي منها يتقوم الكلام الخطبي ويتركب عنها هي أَربعة أَشياء: أَحدها أَن يثبت عند السامعين من نفسه الصحة ومن خصمه التهمة. والثاني تعظيم الشيء المتكلم فيه وتصغيره. والثالث الأَقاويل الانفعالية والخلقية. والرابع: الأَقاويل الموجهة نحو الشيء المتكلم فيه. وهذه الأَشياء كلها مشتركة لجميع أَجزاء الخطابة، أَعني الأَجزاء الثلاثة.
قال: ونحن فقد قلنا في المواضع التي منها تعمل هذه الأَشياء كلها. وبالجملة فقد وفينا بجميع المعاني التي وعدنا بذكرها في أَول هذا الكتاب. وكان ذكرنا لهذه الأَشياء أَما في أَول الأَمر فلكي يكون ما يتكلم فيه معلوما غير مجهول، كالحال في فعل الذين يريدون أَن يحسنوا التعليم، أَعني أَن يحضروا أَولاً الأَغراض والمعاني التي يريدون أَن يتكلموا فيها، ثم يتكلمون فيها. وأَما ذكرنا إِياها هاهنا وبأخرة فلكي يعلم أَنا قد وفينا بما كنا وعدنا في ذلك. وهذا هو مبلغ الخاتمة التي تخص المتكلم أَعني أَنه يعلم بأَنه قد وفى بما ذكر. وأَما الذي يخص السامعين فهو التذكير.
قال: والمثالات فينبغي أَن تكون بالجملة بحيث يفهم منها الشيء الذي أخذ المثال بدلا منه، ويفهم من ضدها ضده. وذلك إِنما يكون متى كان هذان الأَمران في المثال أَعرف منهما في الشيء الذي استعمل المثال بدله، أَعني أَن يكون أَعرف من الممثَّل، وضده أَعرف من ضد الممثَّل. فإِنه متى لم يكن المثال هكذا، كان إِما ليس يثبت شيئا وإِما أَن يثبت به ما قد ثبت، وذلك إِما بمثال آخر، وإِما لأَنه معروف بالطبع. وكذلك الحال في معرفة ضد الشيء، أَعني أَن منها ما يكون معروفا بنفسه، ومنها ما يكون معروفا بمثال.
قال: وأَما خواتم الخطب فينبغي أَن تكون منفصلة عن الخطبة غير مرتبطة بها ولا متصلة، بمنزلة الصدر ولكن تكون موجهة نحو الكلام الذي سلف، مثل قول القائل في الخطب المشاورية: هذا قولي فاسمعوا، والحكم إِليكم فاحكموا. وهنا انقضت معاني هذه المقالة الثالثة. وقد لخصنا منها ما تأَدى إِلينا فهمه وغلب على ظننا أَنه مقصودة وعسى الله أَن يمن بالتفرغ التام للفحص عن فص أَقاويله في هذه الأَشياء وبخاصة فيما لم يصل إِلينا فيه شرح لمن يرتضى من المفسرين.
وكان الفراغ من تلخيص بقية هذه المقالة يوم الجمعة الخامس من محرم عام أَحد وسبعين وخمس مائة.