انتقل إلى المحتوى

تلخيص الخطابة/المقالة الأولى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تلخيص الخطابة المؤلف ابن رشد
المقالة الأولى


بسم الله الرحمن الرحيم

قال: إِن صناعة الخطابة تناسب صناعة الجدل، وذلك إِن كليهما يؤمان غاية واحدة: وهي المخاطبة؛ إذ كانت هاتان الصناعتان ليس يستعملها الإنسان بينه وبين نفسه كالحال في صناعة البرهان، بل إنما يستعملها مع الغير؛ وتشتركان بنحو من الأَنحاءِ في موضوع واحد، إذ كان كلاهما يتعاطى النظر في جميع الأشياءِ، ويوجد استعمالها مشتركا للجميع: أعني إِن كل واحد من الناس يستعمل بالطبع الأَقاويل الجدلية والأَقاويل الخطبية. وإِنما كان ذلك كذلك، لأَنه ليست واحدة منهما علما من العلوم منفردا بذاته. وذلك إِن العلوم لها موضوعات خاصة، ويستعملها أَصناف من الناس خاصة. ولكن من جهة إِن هذين ينظران في جميع الموجودات وجميع العلوم تنظر في جميع الموجودات، فقد توجد جميع العلوم مشاركة لهما بنحو ما.

وإذا كانت هاتان الصناعتان مشتركتين، فقد يجب إِن يكون النظر فيهما لصناعة واحدة: وهي صناعة المنطق.

وكل واحد من الناس يوجد مستعملا لنحو ما من أنحاءِ البلاغة ومنتهيا منها إِلى مقدار ما وذلك في صنفي الأَقاويل اللذين أحدهما المناظرة، والثاني التعليم والإِرشاد. وأكثر ذلك في الموضوعات الخاصة بهذه الصناعة، وهي مثل الشكاية والاعتذار وسائر الأَقاويل التي في الأُمور الجزئية.

ويوجد كثير منهم يبلغون مقصودهم بهذا الفعل. فمن الناس من يفعل ذلك بالاتفاق؛ ومنهم من يفعله بالاعتياد وبملكة ثابتة. ومعلوم إِن الذي يفعل هذه الصناعة بملكة ثابتة أفضل من الذي يفعلها بالاتفاق. وإِذا كان ذلك كذلك، فالذي يفعلها بملكة ثابتة وعلم بالسبب الذي به يفعل فعله أتم وأفضل. وهذا أمر يعرفه الجمهور فضلا عن الخواص. ولذلك كان واجبا إِن تُثبت أجزاءُ هذه الصناعة في كتاب، ولا يقتصر على ما يوجد من ذلك بالطبع فقط، ولا بالاعتياد، كالحال في كثير من الصنائع القياسية.

قال: وكل من تكلم في هذه الصناعة ممن تقدمنا، فلم يتكلم في شيء يجرى من هذه الصناعة مجرى الجزء الضروري، والأَمر الذي هو أحرى إِن يكون صناعيا: وتلك هي الأُمور التي توقع التصديق الخطبي، وبخاصة المقاييس التي تسمى في هذه الصناعة الضمائر، وهي عمود التصديق الكائن في هذه الصناعة، أعني الذي يكون عنها أولاً وبالذات. وهؤلاءِ فلم يتكلموا في الأَشياءِ التي توقع التصديق الخطبي بالجملة، ولا في الضمائر التي هي أحرى بذلك؛ وإِنما تكلموا فأكثروا في أشياء خارجة عن التصديق، وإِنما تجرى مجرى الأَشياءِ المعينة في وقوع التصديق، مثل التكلم في الخوف والرحمة والغضب وما أشبه ذلك من الانفعالات النفسانية التي ليست معدة نحو الأَمر المقصود تبيينه أولاً وبالذات، وإنما هي معدة نحو استمالة الحكام والمناظرين ولذلك كانت كأنها موطئة للتصديق، لا فاعلة له.

قال: فلو كان إِنما يوجد من أجزاءِ الخطابة الشيء الذي هو موجود الآن منها في بعض المدن، لما كان لما تكلم هؤلاءِ فيه من الخطابة جدوى ولا منفعة، وإن كان قد تكلموا فيها تكلما جيدا، وهي المدن التي لا تبيح السنة فيها التكلم بين يدي الحكام بالأَشياءِ التي تمُيل الحكام وتستعطفهم إِلى أحد المتكلمين، بل إِنما تباح فيها الأُمور التي توقع التصديق فقط. وذلك إِن أهل المدن يلفون في هذا الوقت فريقين: فمنهم من يرى أنه ينبغي إِن تُثبَّت السنن التي يؤدب بها أهل المدينة في نفوس المدنيين بجميع الأُمور التي لها تأْثير في التصديق، كانت أشياء توقع التصديق أو أُمور خارجة، ومنهم من يمنع إِن يذكر شيء من الأُمور التي من خارج، وبخاصة عند الحكام على ما كان عليه الأَمر في موضع الحكومة في أثينيا وفي بلاد اليونانيين.

قال: ورأْيُ من رَأى إِن استعمال جميع الأَشياءِ التي لها تأْثير في التصديق في تثبيت الأَشياءِ التي يراد تثبيتها بطريق الخطابة هو الصواب.

وخليق إِن استعمل أحد هذا القانون إِن يكون باستعماله يصير في هذه الصناعة لبيبا أديبا. وقد يدل على إِن الأُمور التي من خارج ليس لها كبير جدوى في هذه الصناعة إِن الذي يروم إِن يثبت شيئا بين يدي الحكام فهو إِما إِن يثبت إِن الشيء موجود أو غير موجود فقط، أعني أنه كان أو لم يكن، وذلك إِذا كان قد حدد صاحب الشريعة إِن ذلك الشيءَ الذي فيه الشكوى عظيم أو يسير، وأنه عدل أو جور، وإِما إِن يثبت الأَمرين، وذلك إِذا لم تحدد الشريعة ذلك الشيء الذي فيه الكلام فأما استعمال الانفعالات في تثبيت إِن الأَمر عدل أو جور فغير ممكن، وذلك إِن الانفعال بالرحمة أو البغضة إِنما يكون لشيءٍ جزئي، والعدل والجور أُمور كلية. وأما استعمالها في إِن الأَمر كان أو لم يكن فله في ذلك تأْثير لكنه ليس يوجب إِن الأَمر كان أو لم يكن بالذات، بل إِنما يُميل الحكام إِلى إِن يقولوا إِنه صدَق فيما ادعى أو لم يصدق، من غير إِن يحدث للحاكم أو المناظر بذلك تصديق زائدا بالشيء الذي فيه الكلام.

قال: وقد يجب إِن تكون السنن هي التي تحدد إِن الأَمر جور أو عدل، وتفوض إِن الأَمر وجد من هذا الشخص أو لم يوجد إِلى الحكام. وبالجملة: فتفوض إِليهم الأُمور اليسيرة. وذلك لسببين: أما أولا فإِنه قل ما يوجد حاكم يقدر إِن يميز الأُمور على كنهها، فيضع إِن هذا الأَمر جور وهذا عدل في الأَقل من الزمان. وأكثر الحكام الموجودين في المدن في أكثر الزمان ليس لهم هذه القدرة.

وأما ثانيا فلأَن الوقوف على إِن الشيء عدل أو جور يحتاج واضع السنن فيه إِلى زمان طويل، وذلك لا يمكن في الزمان اليسير الذي يقع فيه التناظر في الشيء بين يدي الحكام.

فلمكان هذين الأَمرين يصعب إِن يُفَوض إِلى الحكام إِن هذا الأَمر عدل أو جور أو نافع أو ضار، بل إِنما يُفَوض إِليهم إِن الأَمر وقع من هذا الشخص أو لم يقع، وذلك لبيانه، ولأَنه أمر لا يمكن إِن يضعه صاحب السنة.

قال: وإِذا كان الأَمر هكذا، فمعلوم إِن هؤلاءِ الذين تكلموا في الأَشياءِ التي من خارج، أني في صدور الخطب وفي الاقتصاص وفي الانفعالات وما يجري هذا المجرى، لم يتكلموا في شيءٍ يجري من الخطابة مجرى الجزء، وإِنما تكلموا في أشياء تجري مجرى اللواحق. فأما الأَشياءُ التي تكون بها التصدبقات الصناعية - وهي أول ذلك الضمائر - فلم يتكلموا فيها بشيءٍ.

ومن أجل أنا نحن نرى إِن الضمائر عمدة هذه الصناعة، نعتقد إِن المخاطبة التي تكون على جهة التشاجر والتنازع بين يدي الحكام والمخاطبة التي تكون على جهة الإِرشاد والتعليم هي لصناعة واحدة، وهي هذه الصناعة، وأما هؤُلاءِ الذين تكلموا في هذا الجزء من الخطابة فقد يلزمهم ألا ينسبوا من الكلام في هذه الصناعة إِلى هذه الصناعة إِلا ما كان منه على جهة التنازع والتشاجر وليس في كل الأَصناف التي يتشاجر فيها، بل في الصنف الخسيس منها، وهي الأًمور السوقية التي يتشاجر فيها بين يدي الحكام. وأما التشاجر الذي يكون في وضع السنن فليس ينتفع فيه بالجزءِ الذي تكلم هؤلاءِ فيه من الخطابة. إِذ كان هؤلاءِ لم يتكلموا في الضمائر بشيءٍ. لكن لما تكلموا في الأَشياءِ التي بها يخسس الشيء أو يفخم، ظنوا أنهم قد تكلموا في جميع الأَشياءِ التي تستعمل فيها الأَقاويل الخطبية. واستعمال الأَشياء التي من خارج في الخطابة، دون استعمال الأَشياء التي هي من نفس الأَقاويل الخطبية، فعل خسيس. وليس لقائل إِن يقول: إِن الأَقاويل التي تكون في التشاجر قد يستغنى فيها بالأُمور التي من خارج عن الشيءِ الذي هو من نفس الأَمر، إِذ كانت السنن في أكثر المدن هي التي ترسم ما هو جور وما هو عدل وعظيم أو صغير، فليس يحتاج في هذا النوع من الخطابة إِلا لما يُميل الحكام فقط، وذلك بخلاف الأَمر في الأَقاويل التي تستعمل في الأُمور المشاورية. فإِن الأَقاويل المشيرة بما يفعل بذوي الجنايات مما هو نافع أو ضار أيسر على الخطيب من الأَقاويل المشاجرية فيهم، أعني التي تثبت فيهم أنهم جاروا أو عدلوا. وليس هذا في ذوي الجنايات فقط. وهذه حال التكلم في الأَشياءِ المشاورية مع التكلم في الأَشياءِ المشاجرية. وذلك إِن الحكام إِنما يحكمون في الأَشياءِ التي يشار بها بأُمور معروفة عند الجمهور، وهو إِن هذا الشيء الذي يشار به نافع أو ضار، فلا يخاف من الحكام إِن يحيفوا فيه. وإِذا كان الأَمر على هذا، فليس يحتاج المتكلم بين أيديهم إِن يثبت أكثر من إِن الأَمر نافع أو ضار، فيوافقه الحكام على ذلك، ولا يمكن إِن يخالفوه لاستواءِ معرفة الجمهور مع الحاكم في النافع والضار. وأما المتكلم بين يدي الحاكم في الأُمور المشاجرية فقد ينبغي له إِن يتحفظ من الحكام في قضائهم إِن هذا عدل أو هذا جور، لأَن معرفة العدل والجور هو شيء غريب عند الجمهور، وإِنما يعرفه القوام بالشريعة. فلذلك يمكن إِن يسلم الحاكم للمتكلم الشيء الذي رام تثبيته، ولا يفضى له بما فيه من الجور أو العدل، فيحتاج المتكلم بين أيديهم إِن يعرف الأَشياء التي هي جور والتي هي عدل، والأَشياء التي يثبت بها أنها عدل أو جور.

ولمكان هذا تمنع السنة في مدن كثيرة إِن يتكلم بين يدي الحاكم في الأشياء التي تمُيلهم وتستعطفهم عن أحد المتنازعين. وإِنما يباح لهم التكلم بين أيديهم بأشياء محدودة مما رسمها واضع السنة.

وأما المتكلم في الأُمور المشورية فليس يحتاج إِلى مثل هذا التحرز. فإِن الحكام يبالغون في التحفظ من إِن يقولوا في الشيء النافع إِنه ليس بنافع أو في الضار إِنه ليس بضار، إِذ كان ذلك مما يحط منزلتهم عند الجمهور لاستواءِ علمهم به وعلم الحكام. وإِذا كان الأَمر هكذا، فإِذن ما يحتاج إِليه الخطيب في الأُمور المشاجرية من معرفة الأَشياءِ التي توقع التصديق أكثر مما يحتاج إِليه الخطيب في الأُمور المشاورية.

قال: ومن أجل أنه معلوم إِن الأَشياء المنسوبة إِلى هذه الصناعة إِنما يقصد بها التصديق والاعتراف من المخاطب بالشيء الذي فيه الدعوى، وذلك لا يكون إِلا بتثبيت الشيء عنده المعترف به، وذلك أنا إِنما نعترف بالشيءِ إِذا رأينا أنه قد ثبت عندنا. والشيء الذي نثبت به الأَشياء على طريق الخطابة هو الضمير، لأن هذا هو أصل التصديق وعموده في الأُمور التي توقع هذا النحو من التصديق، أعني التصديق البلاغي. والضمير هو نوع من القياس. ومعرفة القياس هو جزء من صناعة المنطق. فقد يجب إِن يكون صاحب المنطق هو الذي ينظر في هذه الصناعة: إِما في كلها، وإِما في أجزاءٍ منها. وبينّ إِن الذي يعرف القياس من كم شيء يلتئمُ ويكون، ومتى يكون، فهو أقدر على عمل الضمير ممن يعرف الضمير فقط دون إِن يعرف القياس الذي هو جنسه. والذي يزيد على هذا فيعلم لماذا تعمل الضمائر والفصول التي بين الضمير وبين سائر المقاييس التي تستعمل في الصنائع الأُخر فهو أقدر من ذينك. والمعرفة بهذا كله إِنما هو لصناعة المنطق. فإِن للقوة الواحدة بعينها، أعني للصناعة الواحدة بعينها، إِن تعرف الشيء الذي هو حق والذي هو شبيه بالحق. والتصديقات الخطبية، وإِن لم تكن حقا، فهي شبيهة بالحق. وأيضا فإِن الناس متهيئون بطبيعتهم كل التهيئة نحو الوقوف على الحق نفسه، وهم أكثر ذلك يؤمونه ويفعلون عنه. والمحمودات وهي التي تكون منها الضمائر شبيهة بالحق من قبل أنها نائبة عند الجمهور مناب الحق، والشبيه بالحق قد يدخل في علم الحق الذي هو علم المنطق. وإِذا كان الأَمر هكذا، فقد استبان إِن قصور هؤلاءِ فيما تكلموا فيه من أمر الخطابة إِنما كان من أجل أنه لم يكن عندهم علم بالمنطق، وأن سائر من تكلم في الخطابة ومن يستعمل الأَقاويل الخطبية فقط من غير إِن يتقدموا فيعرفوا هذه الأَشياء التي هي عمود البلاغة، إِنهم إِنما يتكلمون في أشياء تجري من البلاغة مجرى التزيين والتنميق الذي يكون في ظاهر الشيء وصفحته لا في الأَشياءِ التي تتنزل منها منزلة ما به قوام الشيء ووجوده، وإِن كان قد يظن بما فعلوا من ذلك أنهم قد بلغوا الغاية من الأَقاويل الإِقناعية وجروا في ذلك على طريق الصواب والعدل.

قال: وللخطابة منفعتان: إِحداهما إِن بها يحث المدنيين على الأَعمال الفاضلة، وذلك إِن الناس بالطبع يميلون إِلى ضد الفضائل العادلة. فإِذا لم يضبطوا بالأَقاويل الخطبية، غلبت عليهم أضداد الأَفعال العادلة، وذلك شيء مذموم يستحق فاعله التأنيب والتوبيخ، أعني الذي يميل إِلى ضد الأَفعال العادلة أو المدبر الذي لا يضبط المدنيين بالأقَاويل الخطبية على الفضائل العادلة. وأعني بالفضائل العادلة التي هي فضائل بين الإِنسان وبين غيره، أعني بينه وبين المشارك له في أي شيء كانت الشركة، لا بينه وبين نفسه.

والمنفعة الثانية أنه ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي إِن يستعمل معه البرهان في الأَشياءِ النظرية التي يراد منهم اعتقادها، وذلك إِما لأَن الإِنسان قد نشأ على مشهورات تخالف الحق، فإِذا سلك به نحو الأَشياء التي نشأ عليها سهل إِقناعه، وإِما لأَن فطرته ليست معدة لقبول البرهان أصلا، وإِما لأَنه لا يمكن بيانه له في ذلك الزمان اليسير الذي يراد منه وقوع التصديق فيه. فلهذا قد نضطر إِلى إِن نجعل التصديق بالمقدمات المشتركة بيننا وبين المخاطب، أعني بالمحمودات. وهذه المنفعة تشارك هذه الصناعة فيها صناعةَ الجدل، كما ذكرنا ذلك في كتاب الجدل عند قولنا في الأَشياء التي يمكننا بها إِن نبين مطلوبات مختلفة. وهذه الصناعة يمكنها الإِقناع في المتضادين جميعا، كما يمكن ذلك في القياس الجدلي. وذلك أنا قد نقنع في ذي الجاني أنه أساءَ وأنه لم يسيء، ولست أعني أنا نفعل الأَمرين جميعا في وقت واحد، بل نفعل هذا في وقت، وهذا في وقت بحسب الأَنفع، وذلك أنه كثيرا ما يكون الشيءُ نافعا في وقت، وضده نافعا في وقت آخر. وأيضا فإِنه إِذا كانت الأَشياءُ التي تثبت الشيءَ وضده عندنا عتيدة، وسمعنا متكلما قد أقنع في الضد الذي ليس بعدل، أمكننا بهذه القوة إِن ننقض عليه قوله. فهاتان المنفعتان موجودتان في القدرة التي في هذه الصناعة على الإِقناع في الشيءِ وضده. وليس توجد هذه القوة في شيء من الصنائع القياسية إِلا في هاتين الصناعتين، أعني صناعة الخطابة وصناعة الجدل. وكلا هاتين الصناعتين هما مهيئتان بالطبع وعلى السواءِ للإِقناع في كلا المتقابلين، أعني أ، هـ ليس واحدة منهما توجد أشد استعدادا للإِقناع في أحد المتقابلين منها في الآخر، بل الاستعداد الموجود فيها على الإِقناع في المتقابلين هو على السواء. فأمما الأَشياءُ الموضوعة لهاتين الصناعتين، أعني الأَشياء التي فيها تقنع وبها تقنع، فليس استعدادها لقبول الإِقناع على السواءِ، ولا جدوى الإِقناع فيها على السواء. لكن إِذا كانت الأُمور التي تقنع فيها صادقة، كانت الأَقاويل الخطبية والجدلية التي تستعمل فيها أفضل وأبلغ.

قال: وليس واجبا إِن نرى أنه قبيح بالإِنسان إِن يعجز عن إِن يضر بيديه، ولا نرى أنه قبيح إِن يعجز عن إِن يضر بلسانه الذي المضرة به مضرة خاصة بالإِنسان، أعني إِن يعجز عن إِن يضر بلسانه الضرر العظيم، لا الضرر الذي هو عدل فقط، بل والضرر الذي هو جور. فإِنه يظن إِن هذا شيء يوجد عامَّا في جميع الفضائل التي هذه الصناعة واحدة منها، ما عدى الفضيلة النظرية والخلقية، ولا سيما في الأُمور العظام النافعة مثل الجلَد والصحة واليسار والسلطان وما أشبه هذه الأَشياء من الأُمور النافعة، أعني إِن كل واحد من هذه الخيرات هي معدة لأن ينفع بها المقتنى لها غيره منفعة عظيمة إِذا استعمل العدل، ويضر بها ضررا عظيما وذلك إِذا استعمل الجور. فإِن الصحة والجلَد والسلطان قد يستعملها المرءُ في الضرر والنفع، وكذلك الحال في الخطابة. فقد استبان من هذا إِن هذه الصناعة ليس تنظر في أحد المتقابلين، ولكنها تنظر فيهما على السواءِ، كالحال في الجدل، وأنها نافعة لهذا جدا.

وليس عمل هذه الصناعة إِن تقنع ولا بد، أعني أنه ليس يتبع فعلها الإِقناع ضرورة، كما يتبع فعل النجار وجود الكرسي ضرورة، إِذا لم يكن هنالك عائق من خارج، بل عملها هو إِن تعرف جميع المقنعات في الشيءِ وتأًتى بها في ذلك الشيء، وإِن لم يقع إِقناع. والحال فيها في هذا المعنى كالحال في صناعات كثيرة مثل صناعة الطب، فإِنه ليس فعلها الإِبراء ولا بد، بل إِنما فعلها إِن تبلغ من ذلك غاية الشيء الممكن فعله في ذلك الشيء المقصود بالإِبراء. ولذلك قد يشارك في أفعال هذه الصنائع مَنْ ليس مِنْ أهلها، مثل إِن يبرئ مَن ليس بطبيب، ويقنع مَنْ ليس بخطيب. لكن الفعل الحقيقي إِنما هو لصاحب الصناعة، وذلك إِن الغاية تتبع فعل هذا على الأَكثر، وذلك على الأَقل. وكما إِن في الجدل ما هو قياس وما يظن به أنه قياس، وليس بقياس، وهو القياس السوفسطائي، كذلك في الأَقاويل المقنعة المستعملة في هذه الصناعة ما هو مقنع بالحقيقة، وما يظن به أنه مقنع من غير إِن يكون كذلك. لكن لما كان السوفسطائي ليس إِنما يكون سوفسطائيا من قبل القوة والملكة التي بها يفعل الأَقاويل السوفسطائية، بل إِنما هو سوفسطائي من قبل ما يقصد بتلك الأَقاويل من الكرامة والخيرات الخارجة، وذلك لإِيهامه أنه حكيم، وكان الجدلي إِنما هو جدلي بالملكة الحاصلة له عن الصناعة، فبالواجب لم تكن الأَقاويل السوفسطائية جزءًا من صناعة الجدل، أعني التي يظن بها أنها مقاييس جدلية من غير إِن تكون جدلية، إِذا استعملت نحو هذه الغاية، وأما إِذا استعملت على طريق الامتحان فهي جزء منها. وأما الخطيب فلما كان قد يكون خطيبا من أجل الأُمور التي من خارج مثل الكرامة وغير ذلك من سائر الخيرات، وقد يكون خطيبا من قبل ملكة هذه الصناعة، كانت الأَقاويل التي يظن بها أنها مقنعة وليست بمقنعة جزءًا من هذه الصناعة، لأَن المقصود بهذه الأَقاويل في هذه الصناعة قد يكون بعينه مقصود السوفسطائي. وِإنما كان ذلك كذلك لأَن المقصود بهذه الصناعة من الذي يراد إِقناعه إِنما هو الفعل أو الانفعال. فإِذا حصل ذلك منه، فلا فرق بين إِن يكون حصوله عن أقاويل هي مقنعة في الحقيقة أو عن أقاويل يظن بها أنها مقنعة، وليست بمقنعة. فإِن كان ذلك الفعل المقصود من المخاطب أو الانفعال خيراً ما له، لا للخطيب، كانت الأَقاويل التي يظن بها أنها مقنعة وليست بمقنعة داخله في هذه الصناعة بالجهة التي دخلت في صناعة الجدل الأَقاويل التي يظن بها أنها جدلية وليست بجدلية، إِذا لم يقصد بها مقصد السفسطة. وإِن كان مقصود الخطيب خيراً يناله من الخيرات التي يقصدها السوفسطائي، كان يقول الذي يظن به أنه مقنع وليس بمقنع من جهة ما هو سوفسطائي جزءًا من هذه الصناعة، إِذ قد يشارك الخطيب السوفسطائي في غايته، فلذلك قد تدخل الأَقاويل السوفسطائية في هذه الصناعة ولا تدخل في صناعة الجدل.

قال: فهذه الصناعة التي ذكرنا منافعها وأن كل مَنْ تكلم فيها لم يتكلم فيها بما هو كافٍ في أمرها التي قصدنا للكلام فيها من أول الأَمر، وذلك بأن نخبر من أي شيء تأْتلف هذه الصناعة، وكيف تأْتلف وما تكلمنا فيه قبل هذا فكأنه لم يكن لنا مقصودًا أولاً، ولذلك قد ينبغي إِن نستأْنف هاهنا القول فيها ونعود إِلى مقصودنا كأنا مبتدئون من هذا الموضع، فنبتدئئ أَولا ونحد هذه هذه الصناعة فنخبر ما هي ونحو ماذا، وذلك بأن نعرف جنسها القريب وفصلها الخاص بها، ثم نتطرق من ذلك إِلى إِحصاءِ أجزائها على جهة تحليل الحد.

قال: والخطابة هي قوة تتكلف الإِقناع الممكن في كل واحد من الأَشياءِ المفردة. ويعني بالقوة: الاصناعة التي تفعل في المتقابلين وليس يتبع غايتها فعلها ضرورة. ويَعني بتتكلف: إِن تبذل مجهودها في اسقصاءِ فعل الإِقناع الممكن. ويعني بالممكن: الإِقناع الممكن في ذلك الشيء الذي فيه القول، وذلك يكون بغاية ما يمكن فيه. ويعني بقوله في كل واحد من الأَشياءِ المفردة، أي في كل واحد من الأَشخاص الموجودة في مقولة مقولة من المقولات العشر.

وهذا هو الفصل الذي به تنفصل هذه الصناعة عن سائر الصنائع التي يظن بها أنها قد تقنع في الأُمور التي قد تنظر فيها. وذلك إِن كل صناعة إِنما هي معلمة، أي مبرهنة، ومقنعة، في الجنس الذي تنظر فيه، لا في جميع الأَجناس. مثال ذلك: إِن الطب إِنما يعلم على طريق البرهان ويقنع في الصحة والمرض وفي أنواعهما، وكذلك الهندسة إِنما تعلم على طريق البرهان وعلى طريق الإقناع في الأَعظام، والأَشكال التي توجد في الأَجسام.

وأما الخطابة فهي تتكلف الإِقناع في جميع الأَشياءِ: في أيّ مقولة كانت وأيّ جنس كان. ولذلك ليس تنسب إِلى جنس خاص.

فأما الأَشياءُ التي تفعل التصديقات في هذه الصناعة: فمنها ما هي صناعية وتلك هي التي وجودها إِلى اختيارنا ورويتنا ونحن الفاعلون لها، ومنها ما هي غير صناعية وهي التي ليس وجودها لاختيارنا ورويتنا، مثل الشهود والتعذيب والعقود وما أشبه ذلك مما سيذكر بعد. والأَشياءُ الصناعية التي نحن الفاعلون لها: منها أشياء قد تقدم غيرنا فصنعها، مثل الاحتجاج بالأَمثال السائرة التي قد وضعت واشتهرت، ومنها ما نخترعها نحن عند القول في الشيء الذي فيه الإِقناع ونستنبطها.

فأما التصديقات التي نفعلها نحن ونخترعها فهي ثلاثة أنواع: أحدها إِثبات المتكلم فضيلة نفسه التي يكون بها أهلا إِن يُصدق، كما قال تعالى حاكيا عن هود: " وأنا لكم ناصحا أمين "، وأن يكون عند التكلم بهيئة في وجهه وأعضائه شأْنها إِن توقع التصديق بالشيء المتكلم فيه، مثل التؤدة والوقار وغير ذلك. والفضيلة التي شأْنها هذا هي التي يعني أرسطو بالكيفية والهيئة التي شأْنها هذا هو الذي يعني بالسمت. وقد يدل على إِن الفضيلة لها تأْثير في التصديق إِن الصالحين الفاضلين يُصدقون سريعا دون قول يتكلفونه في الشيءِ. وإنما يكون ذلك في الأُمور الظاهرة للحس التي يزعمون أنهم أحسوها، مثل أنه شرب أو قتل. فأما إِخبارهم عن الأُمور الخفية عند الحس وهي التي يظن أنه خفى عنهم ما أحسوا من ذلك أو وهموا فيه، إِذا كان ذلك الشيء ممكنا إِن يهم فيه الحس، فليس يُصدّقون في الأَشياءِ التي يدعونها في أمثال هذه الأَشياء دون إِن يستعملوا، في تثبيت ذلك الشيء، القولَ.

قال: وليس كما ظن الذين ذكرنا أنهم تكلموا في الخطابة إِن الفضيلة والأَناة أنما هي نافعة في باب الإِنفعال فقط.

وأما الصنف الثاني من التصديقات فهو الصنف الذي يكون بأن يكسب السامع بالقول إِنفعالا ما يوجب له التصديق بالشيءِ الذي فيه القول، فإِنه ليس تصديقنا بالشيءِ وإِقرارنا به ونحن في حال الفرح أو الحزن تصديقا واحدا، وكذلك إِذا كنا في حالة السخط على الشيء أو في حال الرضا عنه. وهذه هي الأَشياءُ التي تكلم فيها أُؤلئك الذين ذكرنا أنهم تكلموا في هذه الصناعة.

وأما الصنف الثالث من هذه التصديقات فهو تثبيت الشيء بالكلام المقنع، أو ما يظن به أنه مقنع، وذلك في الأُمور الجزئية التي تقنع فيها هذه الصناعة. وإِذا كانت التصديقات إِنما تكون في هذه الصناعة بهذه الوجوه، فهو بيّن إِن الذي يقدر إِن يقنع الإِقناع الممكن في كل واحد من الأَشياءِ إِنما هو الذي يكون عالما بثلاثة أشياء، أولها: معرفة الأَقاويل المقنعة، وثانيها: معرفة الأَخلاق والفضائل، وثالثها: معرفة الانفعالات، وذلك بأن يعرف كل واحد من الانفعالات: ما هو، ومن أي شيء يكون، ومتى يكون، وكيف يكون. وإِذا كان ذلك كذلك، فهذه الصناعة كأنها مركبة من صناعة الكلام والصناعة الخلقية، أعني المدنية. وإِنما لم يوجد لمن تقدم قول مستوفي في أجزائها إِما من قبل جهلهم، وإِما من قبل أنهم ضنوا على غيرهم وبخلوا عليهم بما وقفوا عليه من ذلك لمكان الخيرات التي من خارج.

فهذه الصناعة هي جزء من صناعة المنطق، وهي شبيهة بالجدل في أ، ها تنظر في كلا المتقابلين، وفي أنهما ليسا ينظران في شيءِ محدود نظرًا يبلغان به اليقين، لكن إِنما يبلغان من النظر ما دون اليقين. وقد تكلم في ذلك فيما كافيا. وينبغي إِن نبتدئ بتعريف الأَقاويل المقنعة وما يرى أنه مقنع، فنقول: إِن الأَقاويل التي يكون بها الإِثبات والإِبطال كما أنها في صناعة الجدل صنفان: أحدهما الاستقراءُ، وما يظن به أنه استقراء، والصنف الثاني القياس، وما يظن به أنه قياس، كذلك الأَقاويل المثبتة في هذه الصناعة والمبطلة صنفان: أحدهما شبيه بالاستقراءِ وهو المثال، والآخر شبيه بالقياس وهو الضمير. والضمير الذي يظن به أنه ضمير وليس بضمير يشبه القياس الذي يظن به هنالك أنه قياس وليس بقياس. وكذلك المثال الذي يظن به أنه مثال وليس بمثال يشبه الاستقراء الذي يظن به أنه استقراءٌ وليس باستقراء. فالضمير هو القياس الخطبي، والمثال هو الاستقراء الخطبي. والخطباءُ إِذا تُؤمل أمرهم ظهر أنهم إِنما يفعلون جميع التصديقات التي تكون بالقول بهذين الصنفين، أعني إِما بالمثال، وإِما بالضمير، وذلك أنهم يؤمون بفعلهم هذا إِن يتشبهوا بالاستقراءِ والقياس. والذي يفعلون من ذلك إِنما يفعلونه بما هو مثال في الحقيقة وضمير في الحقيقة أو بما يظن به أنه كذلك، وليس كذلك. وقد تبين في كتاب القياس إِن كل تصديق فإِنه يكون بالقياس، وإِن الاستقراءَ والمثال إِنما يفيدان التصديق بما فيهما من قوة القياس. فأما ما هو القياس، وما الفصل بينه وبين البرهان، فإِنه قد قيل في كتاب الجدل. وقد تبين هنالك أيضا الفرق بين القياس والاستقراء.

والاستقراءُ والمثال يشتركان في إِن كليهما يثبتان إِن هذا الشيء موجود كذا، أو غير موجود كذا من أجل وجود ذلك الشيء أو لا وجوده في شبيهه.

والضمير والقياس يشتركان في إِن كليهما قول يوضع فيه شيء فيلزم عنه شيء آخر.

وإِذا كان الأَمر هكذا، فهو بيّن إِن في كل واحد من هذين الجنسين من القول نوعا خطبيا ونوعا جدليا ونوعا برهانيا ونوعا سوفسطائيا. فإِنه كما يوجد الاستقراءُ والقياس في هذه الصنائع، كذلك يوجد في الخطابة المثال والضمير. وإِنما تختلف في هذه الصنائع بجهة الاستعمال، أعني في صناعة البرهان وصناعة الجدل. والقياس في الجدل أوثق من الاستقراء. والمثال في الخطابة أقنع من الضمير؛ لأَن الضمير يتطرق إِليه العناد أكثر من تطرقه إِلى المثال. وسبب هذا سنخبر به فيما بعد، وكذلك كيف نستعمل هذه الأَشياء.

فأما الآن فينبغي إِن نحدد هذين الطريقين من الإِقناع: أعني الضمير والمثال، فنقول: المثال إِن القول المقنع إِما إِن يكون مقنعا لواحد من الناس، أو لجماعة من الناس أو لأَكثر الناس. وأيضا منه ما يكون إِقناعه في أمْرٍ كُلي، ومنه ما يكون في أمْرٍ جزئي. وكلا هذين منه ما يكون إِقناعه بيناً بنفسه، ومنه ما يكون إِقناعه بغيره في الجزئيات ضربان أحدهما إِن يقول القائل: إِن كذا إِنما هو كذا لموضع كذا، مثل قول القائل: إِن شراب السكنجبين ينفع فلانا لأَنه محموم. وهذا هو الذي يسمى الضمير. والضرب الثاني إِن يقول إِن كذا إِنما كان كذا لأَنه مثل كذا، مثل إِن يقول: إِن فلانا ينتفع بشراب السكنجبين، لأَن فلانا انتفع به. وهذا هو الذي يسمى المثال.

والمقنعات التي هي مقنعة عند واحد من الناس فليس تستعملها هذه الصناعة، لأَن ذلك غير متناه وغير معلوم عند المستعمل لها. ولذلك ليست تستعمل هذه الصناعة من المقدمات المحمودة، أعني المقبولة، ما كان مقبولا عند واحد من الناس، وتلك هي الآراء الحادثة للناس عند الشروق والهوى، بل إِنما تستعمل المحمود عند الأَكثر أو الجميع على مثل ما تستعمله صناعة الجدل. وإِذا كان الأَمر هكذا، فالذي يفترق به القياس المستعمل في صناعة الجدل وفي صناعة البرهان من الضمير المستعمل في هذه الصناعة إِن القياس يرتب الترتيب الذي يكون به القول منتجا بالضرورة. وأما الضمير فإِنه ترتب مقدماته الترتيب الذي هو معتاد عند الجمهور إِن يقبل، وذلك هو بخلاف الترتيب الصناعي. فإِن الناس يستريبون باللازم عن القول الصناعي، ويرون إِن ذلك إِنما لزم من جهة الصناعة لا من جهة الأَمر في نفسه. وأيضا فإِن الترتيب الصناعي يقتضي إِن يصرح فيه بجميع المقدمات الضرورية في بيان ذلك المطلوب، والجمهور لا يستطيعون إِن يفهموا لزوم النتيجة التي تلزم عن مقدمات كثيرة. وأيضا فإِنهم لا يباعدون بين النتيجة والشيءِ الذي تلزم عنه النتيجة، أعني أنهم لا يصرحون في المقاييس بالمقدمتين جميعا مع النتيجة، بل إِنما يأتون بمقدمة واحدة ثم يردفونها بالنتيجة، مثل أنهم يقولون: هذا يدور بالليل فهو لص، ولا يقولون: وكل من يدور بالليل فهو لص، وهي المقدمة الكبرى. وأيضا فإِن الضمائر لما كانت تصنع في الأَكثر في الأُمور الممكنة، وذلك بيّن في الأُمور المشاورية، فإِنه ليس يشير أحد على أحد بأمر ضروري الوجود ولا ممتنع الوجود، وكانت المقدمة الكبرى في أمثال هذه المواد كاذبة بالجزءِ، لم يصرحوا بها في المقاييس التي يستعملونها في هذه الصناعة لئلا يفطن لكذبها. وأيضا فلما كانت المقاييس الجيدة الصنعة في هذه الصناعة إِنما هي أحد صنفين: إِما المقاييس التي تؤلف من المقدمات البينة إِقناعها بنفسه، وإِما من مقدمات تتبين مقدماتها بمقدمات أُخر تخلط بها، وإِلا لم يتبين حمدها، فقد يلحق ضرورة في هذا الصنف الثاني إِن يَعْسر تأْليف المقدمات وترتيبها الترتيب الصناعي لمكان كثرة المقدمات وطول الزمان الذي يصرح فيه بجميعها وترتب ترتيبا صناعيا. وذلك شيء لا يساعد عليه الحكام بل يحملون المتكلم بين أيديهم إِن يكون كلامه بسيطا غير متكلف فيه صنعة على عادة الجمهور. فإِنه متى كان الكلام ليس على هذه الصفة، كان غير مقنع، وذلك في الأَمرين اللذين يكون فيهما الإِقناع، أعني في إِن الشيء موجود أو غير موجود وفي أنه، إِذا وجد، محمود أو غير محمود. وكذلك إِذا استعمل التصديق بطريق أخذ الأَشباه، فاستقصى فجعلها على طريق الاستقراءِ، عرض العير الذي وصفناه من الطول والكثرة. وإِذا كان هذا هكذا، فإِذن القياس الخطبي وهو الضمير والمثال إِنما يكونان في الأَشياءِ التي يكون فيها القياس والاستقراءُ بإِطلاق. وتلك الأَشياءُ مأْخوذة بحال غير الحال التي أخذت بها في القياس والإستقراءِ. فإِذا استعمل تلك الأَشياءُ بالحال التي بيّن في كتاب القياس، عاد المثال استقراء، والضمير قياسا. وإِذا أخذت بهذه الحال التي ذكرنا، عاد الاستقراءُ مثالا والقياس ضميرا. وتلك الحال هي أخذ القياس والاعتبار بمقدمات قليلة وجيزة. فإِن الإِقناع إِنما يكون أكثر من ذلك بالمقدمات القليلة الوجيزة، أو بالمقدمات التي هي في غاية الظهور وحذف ما خفي منها. وأيضا فإِن المحمود في هذه الصناعة إِن يحذف اللازم عنه، ويؤتى بالشيءِ الذي الذي يلزم، لأنه إِذا أخبر باللازم والملزوم فكأنه قد ذكر الشيءَ مرتين، فيكون هزراً في بادئ الرأي. وعلى هذا فلا يصرح بالحد الأوسط في القياس إِلا مرة واحدة، ولا في الاعتبار إِلا بشبيه واحد، فيكون القياس ضرورة ضميرا أي محذوفا إِحدى مقدمتيه، وبهذا سمي ضميرا، إِذ كانت إِحداهما مضمرة، ويكون اٌلإِستقراءُ ضرورة تمثيلا.

قال: ومقدمات القياسات الخطبية قد تكون ضرورية وذلك في الأَقل، وتكون ممكنة وذلك في الأَكثر. لأَن أكثر الفحص الجمهوري إِنما هو فيما يمكن إِن يكون بحال، ويمكن ألا يكون بتلك الحال. وذلك بيّن في الأَشياءِ التي يشار بها، وذلك أنها كلها أمور مفعولة للإِنسان. وليس يمكن إِن تكون الأَشياءُ المفعولة للإِنسان لا ضرورية الوجود ولا ممتنعة الوجود. والنتائج الضرورية فإِنها تكون بالذات عن مقدمات ضرورية، والممكنة عن مقدمات ممكنة. والضمائر منها ما يكون عن مقدمات محمودة، ومنها ما يكون من الدلائل. وأعني بالمقدمات المحمودة التي ليست دلائل، مثل أنه ينبغي إِن يشكر المنعم وأن يُساءَ إِلى المسيء. وأعني بالدلائل الأَشياءَ التي تدل على وجود شيء لشيءٍ. وهذان الصنفان من المقدمات توجدفي المواد الضرورية والممكنة، أعني المحمودات والدلائل، وليس توجد في الممكنة على الأَكثر فقط، بل وفي الممكنة على التساوي وهي التي نسبتها إِلى المقدمات الممكنة على الأَكثر نسبة التي على الأَكثر إِلى الضروري، وهي نسبة الكل من البعض. وذلك إِن الصدق في الضرورية أعم من الصدق في الممكنة على الأَكثر، إِذ كانت الضرورية توجد لكل الموضوع، والممكنة على الأَكثر لا توجد لكله. وكذلك نسبة الممكنة على التساوي إِلى الممكنة على الأَكثر هي هذه النسبة، أعني إِن الممكنة على الأَكثر تصدق في موضوعاتها على اكثر مما تصدق الممكنة على التساوي.

والدلائل المأخوذة حداً أوسط: منها ما هو أعم من الطرف الأَصغر وأخص من الأَكبر، ومنها ما هو أعم من الطرفين، ومنها ما هو أخص منهما.

أما الذي هو أعم من الطرف الأَصغر وأخص من الأَكبر فإِنه يأْتلف ضرورة في الشكل الأَول. وإِذا كان في المادة الممكنة على الأَكثر فهو الذي يعرفه القدماء بالأَشبه. ومثاله في المادة الضرورية: هذه المرأة لها لبن فهي قد ولدت. وفي الممكنة على الأَكثر: فلان يعد السلاح ويجمع الرجال وليس قربه عدو، فهو يريد إِن يعصى الملك. ومثال الممكنة على التساوي: فلان قد تعب، والمتعوب محموم، ففلان محموم. وهذا هو الذي يعرف بالمشبه.

وأما ما هو أعم من الطرفين فإِنه يأْتلف في الشكل الثاني إِلا أنه غير منتج إِلا في بادئ الرأي. مثال ذلك في المادة الممكنة على الأَكثر قول القائل: سقراط يتنفس متواترا، والمحموم يتنفس متواترا، فسقراط محموم. فهاتان المقدمتان صادقتان، والنتيجة قد تكون كاذبة، إِذ قد يمكن إِن يتنفس سقراط متواترا لموضع إِحضاره. ولما كان ذلك خافيا على كثير من الناس، إِذا رأوا في أمثال هذه المقدمات الصادقة أنها تنتج كذبا، ظنوا لذلك أنه قد انطوى فيها كذب، فيرومون إِن يعاندوا المقدمات، فيعسر ذلك عليهم لمكان صدقها، فيتحيرون لذلك.

وأما التي هي أخص من الطرفين فتنتج في الشكل الثالث جزئيا لا كليا، لكن تؤخذ نتيجته في هذه الصناعة كلية. مثال ذلك في المادة الضرورية قول القائل: الأَشياء كلها في كرة العالم، والأَشياءُ كلها في الزمان، فالزمان كرة العالم. وفي الممكنة قول القائل: الحكماءُ عدول، لأن سقراط حكيم وعدل.

والدلائل التي تكون في الشكل الثالث والثاني تخص باسم العلامة، وما كان منها في الشكل الأَول يخص باسم الدليل. والذي في الشكل الثاني هو أخص باسم العلامة من الثالث. كما أنه ما كان من ذلك في الممكنة الأَكثرية يخص الأَشبه، وإِن كان في الممكنة على التساوي خص باسم الضمير المشتبه.

فقد تبين من هذا القول ما هي المحمودات والدلائل والعلامات، وما الفرق بينهما. لكن الذي تبين من الأَقاويل القياسية على الحقيقة إِنما هو في كتاب القياس، وتبين في جنس جنس منها ما هو قياس وما ليس بقياس. وأما المثال فقد بينا في ما تقدم أنه استقراء ما، لكن يباين الاستقراء بأنه ليس يصار فيه لا من الجزئي إِلى بيان الأَمر الكلي كما يصار في بعض أنواع الاستقراء، ولا من الكلي إِلى الجزئي كما قد يصار في بعض أنواع الاستقراءِ، وذلك إِذا بينا بالكلي الذي أثبتناه بالاستقراءِ جزئيا آخر غير الجزئيات التي أثبتنا الكلي باستقرائها؛ ويوافقه في أنه يصير من جزئي إلى جزئي لاجتماعها في أمر كلي، وذلك إِذا جمعنا في الاستقراءِ الأَمرين جميعا، أعني إِن نصير فيه من الجزئي إِلى الكلي، ثم من الكلي إِلى جزئي آخر، فإِنا في هذا الفعل قد صرنا من جزئي إِلى جزئي بتوسط الكلي، كالحال في المثال. فإِن المثال إِنما نصير فيه من جزئي إِلى جزئي لاشتراكهما في أمر كلي، إِذا كان الحكم المنقول من أحدهما إِلى الآخر موجودا للجزئي الأَعرف من أجل ذلك الكلي أوْ يظن به أنه يوجد له من جهته، وإِلا لم تصح النُّقلة من جزئي إِلى جزئي، أعني إِن لم يكن هنالك كلي، وكان وجود ذلك الحكم من أجله للجزئي الأَعرف. ومثال ما يعرض من هذا في الاستقراءِ، أعني إِذا كانت النقلة من جزئي إِلى جزئي بتوسط النقلة إِلى الكلي، قول من قال: أيها الملك، إِن فلانا طلب إِن يكون في جملة العسس، وقد كان في جملة عدوك، فلا تبح له ذلك، فإِنه يريد إِن يفتك بالملك، لأن فلانا طلب ذلك من فلان الملك، وفلانا من فلان الملك، لأَقوام يعددهم، ففتكوا بملوكهم. فإِنَّ قائلَ هذا القول قد جعل النقلة فيه من جزئي إِلى جزئي بتوسط الكلي الذي هو إِن كل من طلب إِن يدخل في الحرس ممن كان في جملة عدو الملك فهو يريد إِن يفتك به. إِلا إِن هذا الكلي الذي ارتسم في النفس بالقوة، وإِن لم يصرح به، يستعمل النقلة من جزئي إِلى جزئي، إِذا كانت النقلة إِليه في الذهن من أكثر الجزئيات، كان استقراء، وإِن كان من واحد منها، أو من الأَقل، كان تمثيلا.

قال: فأما القول في هذه الأَشياء التي يقال لها مثالات، فقد يكتفي هاهنا بهذا المقدار المعطى منها.

وأما القول في فصول الضمائر من جهة الأَشياءِ التي منها تعمل، فإِن القول فيها غامض وخفي وهو عظيم الغناءِ فيما نقصده هاهنا. وسبب غموضه إِن الضمائر تكون في جميع المقولات العشر كما تكون القياسات الجدلية. لكن من الضمائر ما يكون في المواد التي في الصنائع مثل الضمائر التي تستعمل في الأُمور الكلية والجزئية في صناعة الطب وغيرها من الصنائع. وهذه فينبغي إِن تستعمل في هذه الصنائع على نحو استعمال البراهين في تلك الصناعة، لا على نحو ما يستعملها الخطيب في المادة التي تخص الخطابة، مثل إِن يأْتي بها جزءَا من خطبة وسائر الأَشياءِ التي تكون بها الأَقاويل الخطبية أتم فعلا وأنفذ مما يذكر بعد. ومن الضمائر ما يكون في الأُمور التي تخص هذه الصناعة بحسب ما تبين من منفعتها وهي الأُمور الإِرادية، وهذه هي التي ينبغي إِن تستعمل على جهة ما يستعمل الخطباءُ الأَقاويل الخطبية. ومن هذه الأَشياءِ ينبغي إِن تعدد في هذه الصناعة الأَشياء التي هي فصول الضمائر لا من تلك المواد التي تحتوي عليها صناعة صناعة.

قال: وكلما كان القول أكثر عموما، كان أكثر مؤاتاه وتأتيا لأَن يستعمل في أشياء كثيرة. وكلما كان أقل عموما، كان أحرى إِن يكون جزءاًمن صناعة مخصوصة. ولذلك كانت المواضع أعم من القياسات الخطبية والقياسات الجدلية. وذلك إِن المواضع توجد تعم الأُمور المنطقية والطبيعية والسياسية، أعني الإِرادية، وذلك مثل مواضع الأَقل والأَكثر التي عددت في الثانية من كتاب الجدل. وذلك إِن هذه المواضع ليس تعمل منها المقاييس في صناعة واحدة من هذه الثلاث التي ذكرنا، بل في جميعها، إِذ كانت لا تستعمل نفسها وإِنما تستعمل قوتها.

وأما الأَنواع فهي المقدمات الخاصة بصناعة صناعة من الصنائع الجزئية، مثل المقدمات التي تعمل منها المقاييس في الأُمور الطبيعية، فإِنها لا تعمل منها المقاييس في الأُمور الخلقية، ولا التي في الخلقية تعمل منها المقاييس في الأُمور الطبيعية. وإِذا كان الأَمر هكذا، فإِذن المواضع لا يؤلف منها قياس في صناعة مخصوصة، إِذ ما يتصور منها هو عام لأَكثر من صناعة واحدة. وأما الأَنواع فهي التي تؤلف منها المقاييس التي تلتئم منها الصناعة التي تلك الأَنواع مخصوصة بها. لكن الأَنواع التي نحن عازمون في هذا الكتاب على ذكرها ليست هي مقدمات يقينية، لأَنه لو كان ذلك كذلك لكانت المقاييس الخطبية مقاييس يقينية ولم تكن مقاييس جدلية فضلا عن خطبية. والضمائر المعمولة في هذه الصناعة أكثر ذلك إِنما تؤلف من هذه الأَنواع ماكان منها خاصا بجنس جنس من أجناس الخطابة الثلاثة وماكان منها عاما للأَجناس الثلاثة التي تحدد بعد.

قال: وقد يجب إِن يفعل هاهنا في هذه الأَشياءِ مثل ما فعل في كتاب الجدل. فكما إِن ما ذكر هنالك من مواد الأُمور الجدلية قسمت إِلى مواضع وأنواع، كذلك يجب إِن تقسم هاهنا الأُمور التي تعمل منها الضمائر إِلى مواضع وأنواع. والأَنواع: هي المقدمات الكلية التي تستعمل في صناعة صناعة.

والمواضع: هي المقدمات الكلية التي تستعمل جزئياتها في صناعة صناعة. فيجب إِن يقال أولاً في الأَنواع، ثم من بعد ذلك في المواضع. وذلك بأن نبدأ أولاً فنحد أجناس الأَشياء الخاصة بهذه الصناعة، أعني أجناس موضوعات هذه الصناعةالخاصة بها. فإِذا حددناها، أخذنا حينئذ في تعديد اسطقساتها ومقدماتها على حدة.

وقد توجد أجناس الأَشياءِ التي تنظر فيها الخطابة من الأُمور الإِرادية ثلاثة، كما يوجد عدد أصناف السامعين للقول الخطبي ثلاثة. وذلك إِن الكلام مركب من ثلاثة: من قائل وهو الخطيب؛ ومن مقول فيه وهو الذي يعمل فيه القول؛ ومن الذين يوجه إِليهم القول وهم السامعون. والغاية بالقول إِنما هي متوجهة نحو هؤلاءِ السامعين. والسامعون لا محالة: إِما مناظر، وإِما حاكم، وإِما المقصود إِقناعه. والحاكم: أما إِن يكون حاكما في الأُمور المستقبلة، وهي النافعة والضارة، وإِما في الأُمور التي قد كانت. والأُمور التي قد كانت: منها ما توجد في الإِنسان باختياره، وتلك هي الفضائل والرذائل، ومنها ما توجد في الإِنسان بغير اختياره، بل من إِنسان آخر، وهو الجور والعدل. والحاكم في الأُمور المستقبلة هو الرئيس، والحاكم في الأُمور الكائنة هو الذي ينصبه الرئيس، مثل القاضي في مدننا هذه، وهي مدن الإِسلام. وأما المناظر فإِنما يناظر بقوة الملكة الخطبية. فإِذن أجناس القول للخطبي ثلاثة: مشوري ومشاجري وتثبيتي. فأما الضمير المشوري: فمنه إِذْن، ومنه منع؛ وذلك إِن كل من يشير إما على واحد من أهل المدينة بما يخصه، أو على جميع أهل المدينة بما يعمهم، فإِنما يشير أبدا بقول هو إذن أو منع. وأما القول المشاجري فهو أيضا صنفان: شكاية وتنصل من الشكاية. وأما القول التثبيتي فهو أيضا صنفان: إما مدح، وإما ذم. والزمان الخاص بالأَشياءِ التي يشار بها هو الزمان المستقبل، لأَنه إِنما يشير إِنسان على إِنسان بأشياءِ معدومة. والزمان الخاص بالأَشياءِ المشاجرية هو الزمان الماضي، لأَنه إنما يتشكى من الأَشياءِ التي قد وقعت. وإِن تشكى من أُمور تتوقع من المشتكى به، فإِنما تلك شكاية على طريق الإِشارة بالنافع في ذلك. وكذلك قد يعرض إِن تكون المشورة في الأَشياِء التي قد كانت، لكن من جهة ما يتوقع منها. فمتى كانت الشكوى في شىء واحد، لا من أجل غيره، فإِنما تكون أبدا في الشيءِ الذي قد وقع. وأما الأَشياءُ التثبيتية: فإِن أوْلَى الأَزمنة بها هو الزمان الحاضر، أعني القريب من الآن. فإِن الناس إِنما يمدحون ويذمون بالأَشياءِ الموجودة في حين المدح وحين الذم في الممدوح والمذموم. وربما مدح بعضهم على طريق الحيلة في استكثار فضائل الممدوح أو مذامّه بالأَشياءِ التي يتوقع حدوثها منه، أو يرجى حدوثها منه، فيخلطون مع المدح الإِشارة على الممدوح بفعل تلك الأَشياءِ. وأما الغايات من هذه الأَقاويل فهي ثلاث غايات لهذه الثلاثة الأَقاويل. أما القول المشير فغايته النافع والضار. فإِن الذي يشير، فإِنما يأْذن في النافع أو في الذي هو أنفع، ويمنع من الضار أو من الذي هو أضر. وأما القول المشاجري فغايته العدل والجور. وأما القول المثبت فغايته الفضيلة والرذيلة. وإن استعمل واحد من هذه غاية صاحبه، فليس على القصْد الأَول، بل من أجل الغاية الخاصة به. مثال ذلك إِن المشير قد يقنع إِن هذا عدل أو جور، ليشير بالإِذن فيما يكون عن العدل من المنفعة، وبالمنع عما يكون على طريق الجور لما في الجور من المضرة التي تتوقع. وكذلك قد تستعمل الفضيلة والرذيلة، أعني من جهة ما يلحقها من النافع والضار.

وإِذا كانت هذه الغايات الثلاث تخص كل منها واحداً من هذه الأَقاويل، أعني من جهة ما هي غايات على القصْد الأَول، فالحدود المميزة لكل واحد من هذه الأَقاويل الثلاثة إنما تكون الفصول المعطاة فيها من قبل هذه الغايات. وقد يدل على إِن هذه الغايات هي خاصة بواحد واحد من هذه الأَجناس الثلاثة من الأَقاويل أنه إذا أقنع كل واحد منها في غاية الجنس الآخر، ربما لم يكن للمناظر في ذلك معاسرة ومشاكسة، بل كثيراًء ما يسلم له ذلك، ولكن لا يسلم له غاية ذلك القول التي تخصه. مثال ذلك إِن المدعي إذا ادعى إِن فلانا أخذ المال من فلان، وذلك لا شك ضرر به، فربما يسلم له الخصم إِن ذلك كان، ولكن لا يسلم له إِن أخذه المال منه كان على جهة الجور. وكذلك المشير قد يسلم إِن الفعل الممكن جور، ولا يسلم أنه ضارٌ. ولمكان تداخل هذه الغايات يعرض للمشيرين كثيراً إِن يشيروا بأشياء ضارة على جهة المغالطة من قِبَل أنها عدل أو أنها ليست بجور، ولكن لا يقرون بأنها ضارة، بل ربما أحتالوا في دعوى وجود النفع فيها. مثال ذلك أنهم قد يشيرون بالصبر على الموت في الحرب، وألا يفروا، لكوْن الفرار جوراً في الشريعة. وكذلك متى قهر قوماً واستولوا عليهم، ربما أشار المشير عليهم ألا يمتعضوا لذلك القهر لأَنه لم يكن جوراً، وربما أوهم فيه أنه غير ضار لهم. وكذلك المادح قد يسلم إِن الشيءَ ضار، ولكن يدعى أنه فضيلة، مثل من يخلص إِنسانا من الموت ويعلم أنه يموت بتخليصه ذلك الإِنسان. فالموت يسلم الخصم أنه ضار، ولكن يرى أنه فضيلة. كذلك ربما مدح بالرذيلة على جهة المغالطة من جهة أنها نافعة، لكن لا يقر أنها رذيلة. بل يدعي فيها أنها فضيلة ما لمكان النفع الذي فيها. فإِذن كل واحدة من هذه المخاطبات قد تستعمل غاية صاحبتها بالعرض ولذلك لا يشاكس فيها، ويشاكس ولا بد في غايتها. وإِذا استعملت الواحدة غاية صاحبتها فعلى جهة المغالطة.

قال: ولما كانت هذه الصناعة قياسية، فمعلوم أنه يجب إِن تكون فيها مقدمات، ومقدماتها هي الثلاث التي وصفنا: المحمودات والدلائل والعلامات. وذلك إِن القياس المطلق يكون من المقدمات المطلقة. والقياس الخاص بصناعة صناعة يكون من مقدمات خاصة. ولذلك كان الضمير قياساً يأْتلف من هذه المقدمات التي ذكرنا. ولأَن الأَمر الذي يشير به يحتاج إِن يعرف من أمره أولاً أنه ممكن، لأَن الأُمور الغير ممكنة لا يستطاع إِن تفعل لا في الحاضر ولا في المستقبل. وكذلك يحتاج في الجنسين الباقيين من أجناس هذه الصناعة، أعني إِن نبين أولا إِن الأَمر قد كان وقع، أعني الجنس التثبيتي والجنس المشاجري. فإِذن لا بد لصاحب هذه الصناعة إِن تكون عنده مقدمات يقنع بها في إِن الأَمر ممكن أو غير ممكن، وفي أنه قد كان أو لم يكن، سوى المقدمات التي يبين بها تلك الغايات الثلاث. ثم أيْضا لما كان الخطباءُ ليس يقتصرون على المدح والذم والإِذن والمنع والشكاية والإِعتذار، بل يتكلفون مع هذا إِن يثبتوا إِن الأَمر - الذي هو خير أو شر - عظيم أو صغير، شريف أو خسيس، ولائق أو غير لائق، وذلك إِما على الإِطلاق وإِما بالمقايسة، أعني أنه أعظم وأشرف، أو بالضد، فمعللوم أنه ينبغي إِن تكون عند الخطباءِ مقدمات يثبتون بها إِن الخير أو الشر عظيم أوْ صغير، وخسيس أوْ شريف، ولائق بالمنسوب إِليه أو غير لائق. فهذه هي جميع أنواع المقدمات التي تستعملها هذه الصناعة. وإِذ قد تبين ذلك فينبغي إِن نبتدئ بتعديد المقدمات التي تخص غرضا غرضا من الأَغراض الثلاثة ونجعل الكلام أولا في تعديد المقدمات المشورية، ثم ثانيا في التثبيتية، ثم ثالثا في المشاجرية.

فأول ما يجب إِن ننظر فيه من أمر الأَشياءِ التي يشار بها ما هو الخير الذي يشار به. فإِنه ليس تكون المشورة في كل خير، لكن في الخيرات التني تستطيع إِن تكون أو إِن لا تكون. فأما الخيرات التي كونها أو لا كونها من الاضطرار، فليس تكون فيها مشورة. ولا أيضا المشورة تكون في جميع الخيرات الممكنة، فإِن هاهنا خيرات ممكنة وجودها عن الطبيعة، بل في الخيرات الممكنة التي إِلينا إِن تكون أو إِن لا تكون، وهي الأَشياءُ التي التي بدءُ كونها من قبل الاختيار والإِرادة. ومن هذه فيما كان وجوده أو لا وجوده تابعا لرويتنا وأفعالنا على الأَكثر. وأما ما كان منها يعرض عن الروية بالاتفاق وأقل ذلك، فليست هي في الأَكثر مما يشار بها، إِلا حيث لا يمكن إِن يوجد الجنس الآخر. وقد يدل على إِن االإِشارة إِنما تكون بهذه الأَشياءِ إِن الإِنسان إِنما ينظر أولاً هل الأَمْرُ الذي يريد إِن يفعله ممكن أو غير ممكن، ثم إِن كان ممكناً، بأي شيءٍ يمكن وكيف يمكن. فإِذا تبين له ذلك، شرع في السعي فيه. وإِن تبين له أنه غير ممكن، خلا عنه. والأَشياءُ التي بها نشير هي التي فيها نروى. فقد تبين من هذا القول ما هو الخير الذي نشبر به وفي أي الأَشياءِ يكون، وهي الأُمور الإِرادية التي مبدأ وجودها منا، لا الأُمر الاضطراراية التي ليس إِلينا وجودها. وإِعطاء الفرق التام بين الأَشياءِ الإِرادية وغير الإِرادية وتصحيح عدد أنواعها ومعرفة ماهية كل واحد منها على أقصى ما في طباعها إِن تعلم فليس من شأن هذه الصناعة إِن تبلغه من معرفة الأَشياءِ الإِرادية، ولكن ذلك من شأْن صناعة الفلسفة التي لها الفضل على هذه في التصور والتصديق، والمقدمات المستعملة فيها أصدق وأصح من هذه. وذلك إِن هنا لسنا نتكلف من معرفة هذه الأَشياء الأَحوال الذاتية المناسبة لها، بل الأُمور المشهورة. وإِذا كان الأَمر في هذه الأَشياء كما وصفنا، فقد تبين أيضا من هذا القول إِن جميع ما قلناه في أجزاءِ هذه الصناعة هو حق، أعني أنها مركبة من علم المنطق ومن علم السياسة الخلقية وأن فيها أشياء جدلية أو شبيهة بالأَشياء الجدلية وأيضا سوفسطائية أو شبيهة بالسوفسطائية. والأَشياءُ التي في صنائع كثيرة إِنما تكون أجزاء أجزاء لصناعة واحدة متى أخذ جميعها بالجهة والحال التي تكون بها تلك الأَشياءُ الكثيرة متعاونة ونافعة في غرض تلك الصناعة الواحدة، وطرح منها الأَحوال التي بها تختلف، أعني الأَشياء التي ليست تكون بها مغنية في غرض تلك الصناعة الواحدة. وإِذا كان ذلك كذلك، فالأَشياءُ الخلقية إِنما صارت جزءًا من هذه الصناعة من حيث هي معدة نحو الكلام والمخاطبة، وهي من صناعة السياسة من حيث هي أحد الموجودات التي نقصد معرفتها وعلمها. والأَشياءُ الجدلية والسوفسطائية إِنما صارت جزءًا من هذه الصناعة من حيث إِن الذي تستعمل منها هذه الصناعة هو سابق المعرفة الأُولى للإِنسان، لا ما هو بعيد عن معرفة الجمهور، مثلأنها إِنما تستعمل من القياس القياس المعروف عند الجمهور وهو التمثيل والضمير. وكذلك الحال في الأُمور السوفسطائية إِنما تستعمل منها ما جرت العادة باستعماله عند الجمهور، مثل مواضع الإِطلاق والتقييد وغير ذلك مما يستعمله بطباعهم الجمهور. فهي إِنما تخالف هذه بمقدار النظر. وقد تخالف أيضا بمقدار النظر هذه الصناعة في الأُمور الإِرادية النظر الذي للعلم السياسي فيها، أعني أنها إِنما تنظر في الأُمور الإِرادية النظر الذي هو في سابق المعرفة للإِنسان وتدع تقصي النظر في ذلك للعلم السياسي.

والأُمور التي يشير بها الخطيب منها ما يشير به على أهل مدينة بأسرهم، ومنها ما يشير به على واحد من أهل تلك المدينة أو جماعة. فأما الأَشياءُ التي تكون فيها المشورة في الأُمور العظام من أمور المدن فهي قريبة من إِن تكون خمسة: أحدها الإِشارة بالعدة المدخرة من الأَموال بللمدينة. والثاني: الإِشارة بالحرب أو السلم. والثالث الإِشارة بحفظ الثغر مما يرد عليه من خارج. والرابع الإِشارة بما يدخل في البلد ويخرج عنه. والخامس الإِشارة بالتزام السنن. فالذي يشير بالعدة يحتاج إِن يعرف ثلاثة أمور: احدها إِن يعرف غلات المدينة ما هي، أعني هل هي نبات أو حيوان أو معدن أو جميع هذا أو اثنان، كيما إِن نقص من الفاضل منها للعدة شيء أشار بالزيادة. والثاني إِن يعرف مع ذلك نفقات أهل المدينة كلها. والثالث إِن يعرف أصناف الناس الذين في المدينة. فإن كان فيها إنسان بطال وهو الذي لا فضيلة عنده، أو عاطل وهو الذي لا صناعة له، أشار بتنحيته من البلد. وإِن كان هنالك عظيم النفقات في غير الجميل أو غير الضروري أشار بأخذ ذلك الفضل من المال منه. فإِنه ليس يكون الغنى بالزيادة في المال، بل وبالنقصان من النفقة. ولذلك قيل: قلة العيال أحد اليسارين.

قال: ومن الضرورة الداعية إلى هذه الأَشياء ومقدار الحاجة إليها يقف الخطيب على ما يحتاج إِن يشير به في واحد واحد من هذه الأَشياء. وليس يحتاج عند الإِشارة بالزيادة في النبات إِن يكون فلاحا، ولا في الحيوان إِن يكون راعيا، لكن يكفيه في ذلك معرفته بمقدار الحاجة إليها. لكن يحتاج مع هذا إِن يكون عالما بالسير المتقدمة في هذه الأَشياءِ وما عند الناس فيها.

وأما المشير بالحرب أو السلم فإِنه يحتاج إِن يعرف قوة من يحارب ومقدار الأَمر الذي ينال بالمحاربة هل هو يسير أو عظيم، وحال المدينة في وثاقتها وحصانتها، وضعف أهلها وقوتهم، وفي صغر المدينة وعظمها، أعني هل مقدارهم مقدار من يستطيع المحاربة أم ليس مقدارهم ذلك المقدار، وهل هم بصفة من تمكنهم المحاربة أم ليس هم، وأن يعرف مع ذلك شيئا من الحروب المتقدمة ليصف لهم كيف يحاربون إِن أشار عليهم بالحرب ويهون عليهم أمر الحرب، أو يعرفهم بما في الحرب من مكروه إِن أشار عليهم بترك الحرب. وقد يحتاج إِن يعرف ليس حال أهل مدينته فقط، بل وحال من في تخومه وثغره، أعني كيف حالهم في هذه الأَشياءِ وحالهم مع عدوهم في الظفر به أو العجز عنه. فإِنه يأخذ من هاهنا مقدمات نافعة في الإِشارة عليهم بالحرب أو السلم. ويحتاج مع هذا إِن يعلم الحروب الجميلة من الحروب الجائرة وأن يعلم حال الأَجناد هل هم متشابهون في القوة والشجاعة والرأْى وإِجادة ما فوض إِلى صنف صنف منهم من القيام بجزء جزء من أَجزاءِ الحرب، أعني إِن يكونوا في ذلك متشابهين، فإِنه ربما كثروا وتناسلوا حتى يكون فيهم من لا يصلح للحرب أو للجزءِ من الحرب الذي فوض إِليه القيام به. وقد ينبغي مع هذا إِن يكون ناظرا ليس فيما أفضت إِليه محاربتهم بل وفيما أفضت إِليه حروب سائر الناس من المتقدمين المشابهين لهم، فإِن الشبيه يحكم منه على الشبيه، أعني أنه إِن كان أفضت الحروب الشبيهة بحربهم إلى مكروه إِن يشير بالسلم، وإِن كانت أفضت إِلى الظفر إِن يشير بالحرب.

وأما حفظ البلاد فإِنه يحتاج المشير بالحفظ، إِن يعرف، كيف تحفظ البلاد، ومامقدار الحفظ المحتاج إِليه في طارئ، وكم أنواع الحفظ ويعرف مع هذا المواضعَ التي يكون حفظها بالرجال وهي التي تسمى المسالح. فإِن كان الحفظة لتلك المواضع قليلا، زاد فيهم. وإِن كان فيهم من لا يصلح للحفظ، نحاه، ممن ليس يقصد قصد المحاماة عن المدينة، بل يقصد قصد نفسه. وينبغي له إِن يحفظ أكثر ذلك المواضع الخفية، أعني التي المنفعة بحفظها أكثر. فمن عرف هذا فقد يمكنه إِن يشير بالحفظ وأن يكون خبيرا بالبلاد التي يشير بحفظها.

وأما الإِشارة بالقوت وسائر الأَشياءِ الضرورية التي تحتاجها المدينة فإِنه يحتاج المشير فيه إِن يعرف مقدارها، وكم يكفي المدينة منها، وكم الحاضر الموجود في المدينة من ذلك وهل أدخل الكافي من ذلك في المدينة وأحرز أم لم يدخل، وما الأَشياءُ التي ينبغي إِن تخرج من المدينة وهو الفاضل عن أهل المدينة. وما الأَشياءِ التي ينبغي إِن تدخل وهو ما قصر عن الضروري، لتكون مشورته وما يعهد به على حسب ذلك. فإِنه قد يحتاج المرءُ إِن يحفظ أهل مدينته لأَمرين: أحدهما لمكان ذوي الفضائل، والثاني لمكان ذوي المال اللذين هم من أجل ذوي الفضائل. والحافظ للمدن يحتاج بالجملة إِلى إِن يكون عارفا بجميع هذه الأَنواع الخمسة عند حفظه لها. قال: وأما النظر في وضع السنن والإِشارة بها فليس بيسير في أمر المدن. فإِن المدن إِنما تسلم ويلتئم وجودها بالسنن. ولذلك قد ينبغي لواضع السنن إِن يعرف كم أصناف السياسات وأي سُنة تنفع في سياسة وأي سُنة لا تنفع وأي ناس تصلح بهم سُنة سُنة وسياسة سياسة وأي ناس لا تصلح بهم، وأن يكون يعرف الأَشياءَ التي يخاف إِن يدخل منها الفساد على المدينة وذلك إِما من الأَضداد من خارج، وإِما من أهل المدينة. فإِن سائر المدن، ما عدا المدينة الفاضلة، قد تفسد من قبل السنن الموضوعة فيها، وذلك إِذا كانت السنة مفرطة الضغف واللين أو مفرطة الشدة وسواء كانت في رأْي أو في خلق أو في فعل. وذلك إِن السياسة التي تسمى الحرية قد يظهر من أمرها أنها تنتقل كثيرا من قبل هذا المعنى إِى رياسة الخسة، أعني رياسة الشهوات أو رياسة المال. والذي قاله ظاهر عندنا من أمر السياسات التي وصلتنا أخبارهم.

قال: وليس يؤول الأَمر في هذه السياسة، أعني سياسة الحرية، إِلى سياسة الأَخساء من قبل استرخاءِ السنن ولينها، وإِن كان ذلك هو الأَكثر، بل ومن قبل الإِفراط. فإِن كثيرا من الأَشياءِ إِذا أفرطت بطل وجودها، كما يبطل وجودها من قبل الضعف والتقصير. ومثال ذلك: إِن الفطس إِذا أفرط وتفاقم، كان قريبا من إِن يظن أنه ليس هنالك أنف. وإِذا كان غير مفرط، قرب من الاعتدال.

قال: ويحتاج مع ذلك إِن يعرف السنن التي وضعها كثير من الناس فانتفعوا بها في سياسة سياسة من السياسات المشهورة وفي أمة أمة ليستعمل منها النافع الذي يخصه والأُمة التي تخصه. ولذلك يتبين إِن معرفة واضع السنن بأمزجة الناس وأخلاقهم وعاداتهم مما ينتفع به في وضع السنن. فإِن من هاهنا يمكن إِن يضع السنن النافعة لجميع الأُمم المختلفة الطبائع. وأما الفساد الداخل على المدن من خارج، أعني من الأَعداءِ، فأمر ظاهر بنفسه، وقد كتب الناس في الأَوجه التي يتوقع منها غلبة الأَعداءِ، والأَوجه التي يتحرز بها منهم. ومن هذه الأَشياءِ يأخذ المقدمات التي يشير بها على أهل مدينته بالتحفظ من الأَعداءِ. وما قلنا في وضع السنن وما يحتاج إِليه واضعها هو من علم السياسة، لا من علم الخطابة. وإِنما يذكر منها هاهنا ما يكفي في هذه الصناعة.

قال: فهذه هي الأُمور العظمى التي بها يشير المشيرون على أهل المدن، وفيها دلالة على الأَشياءِ التي منها يشار على واحد واحد من الناس. ونحن قائلون الآن في الأَشياءِ التي منها يكون الإِذن والمنع لواحد واحد من الناس، ومبتدؤن أولا بالإِخبار عن الأَشياء التي من أجلها يشير المشيرون فيأذنون فيها أو يمنعون من أضدادها. ويشبه إِن يكون لكل واحد من الناس انفعال ما وتشوق بالطبع للخير الذي يتشوقه الكل لنفسه ويشير به على غيره من غير إِن يعرف واحد منهم ما هو ذلك الخير فيختارونه ويأثرونه على غيره، أو إِذا سئل عنه أجاب فيه بجواب منبئ عن طبيعته، بل إِنما عند كل واحد منهم وجوده فقط. وإِذا سئل واحد واحد منهم عما يدل عليه اسمه، أجاب فيه بجواب غير الجواب الذي يجيب فيه الآخر. وإِنما يؤثره الجميع لمكان هذا الانفعال الموجود له بالطبع عند الجميع. وهذا الخير في الجملة هو صلاح الحال وأجزاءُ صلاح الحال. ولذلك فقد ينبغي إِن نفضل أولاً ما هو صلاح الحال بقول عام، ثم نفصل أجزاءه ونخبر عن أضدادها وعن الأَشياءِ التي يكون فيها الإِذن والمنع وهي النافعة في صلاح الحال أو الأَنفع فيه، أو الضارة فيه أو الأَضر فيه. فإِن بهذا يتم لنا القول في الأَشياءِ التي منها تلتئم الأَقاويل المشورية المستعملة مع جميع الناس.

قال: والذين تكلموا في هذه الصناعة فلم يتكلموا من هذه الأَشياءِ إِلا فيما يجري مجرى الأُمور الكلية، مثل أنهم قالوا ينبغي للخطيب إِن يعظم الشيءَ الصغير إِذا أراد تفخيمه، ويصغر الشيءَ الكبير إِذا أراد تهوينه، وينبغي له إِن لا يأْذن في الأَشياءِ التي تفسد صلاح الحال ولا في الأَشياءِ التي تعوق عن صلاح الحال أو تتجاوز صلاح الحال إِلى ضده، ولم يقولوا ما هي الأَشياءُ التي بها يعظم الشيءُ أو يصغر، ولا ما هي الأَشياءُ التي توجب اختلال صلاح الحال أو تعوقه أو تتجاوزه إِلى ضده. قال: فأما صلاح الحال هو حسن الفعل مع فضيلة وطولٍ من العمر وحياة لذيذة مع السلامة والسعة في المال وحسن الحال عند الناس مع تحصيل الأَشياء الحافظة لهذه الأَشياء والفاعلة لها. وقد يشهد إِن هذا هو رسم صلاح الحال المشهور إِن جميع الناس يرون إِن صلاح الحال هو هذا أو شيء قريب من هذا. وإِذا كان صلاح الحال هو هذا، فأجزاؤه هي كرم الحسب وكثرة الإِخوان والأَولاد واليسار وحسن الفعل والشيخوخة الصالحة، وفضائل الجسد، مثل الصحة والجمال والجلد والجزالة والبطش والمجد والجلالة والسعادة والفضيلة، وأجزاؤها مثل العقل والشجاعة والعفاف والعدالة والبر. فإِنه هكذا أحرى إِن يكون الإِنسان موفورا مكفيا، أعني إِذا كانت له الخيرات الموجودة من خارج والخيرات الموجودة فيه النفسانية والجسدانية. والتي من خارج هي الحسب والإِخوان والمال والكرامة. وقد يظن أنه يُعَد مع هذه نفوذ الأَمر والنهي والاتفاقات الجميلة وهي المسماة عند الناس سعادة. فإِن بهذه الأَشياءِ تكون حياة المرء في سيرته حياة من لا ينقصه شيء من خارج ولا يشوب خيره شيء مضاد. وإِذا كان هذا هكذا، فيجب إِن ننظر في كل واحد من هذه ما هو بحسب النظر المقصود هنا وهو النظر المشهور. فأما الحسب فهو إِن يكون القوم اللذين هو منهم هم أول من نزل المدينة أو يكونوا قدماء النزول فيها، ويكونوا مع هذا حكاما أو رؤساء ذوي ذكر جميل وكثرة عدد، وأن يكونوا مع هذا أحرارا لم يجز عليهم سِباء، أو يكونوا ممن نال الأُمور الجميلة المغبوطة عند الناس، وإِن لم يكونوا حكاما ولا رؤساء. فأما النظر في الحسب هل هو من الرجال فقط أو من النساءِ، فالظاهر من ذلك والمتفق عليه عند الجميع أنه يكون أتم إِذا كان من كليهما. وينبغي إِن يستعمل الخطيب من ذلك المشهور في أمة أمة. ومن شروط الحسب إِن يكون الرؤساءُ والأَحرار من أولئك القوم اللذين شهروا بالفضيلة واليسار وغير ذلك من المكرمات لم ينقطع وجودهم في القوم الذين هو منهم إِلى وجوده هو، بل يوجد في ذلك الجنس أبداً أشياخ بهذه الصفة يخلفهم غلمان في تلك الخصال. فإِنه إِن انقطع الشرف في ذلك الجنس الذي هو منهم لم يكن حسيبا. وإِن لم ينقطع منهم فهو حسيب، وإِن انقطع فيمن ولد منهم.

وأما حسن الحال بالأَولاد وكثرتهم فهو مما لا خفاء به. وحسنالحال بالأَولاد المشترك للجميع هو كثرة الغلمان وصلاحهم في فضائل الجسد وفضائل النفس. أما في فضائل الجسد فبأربع: إِحداها الجزالة وهي إِن تكون خلقهم خلقا طبيعية يفوقون فيها كثيرا من الناس. والثانية الجمال، والثالثة الشدة، والرابعة البطش. فبهذه الأَربع يكون الغلمان صالحين في فضائل أجسامهم. وأما فضائل النفس فيكونون صالحين باثنتين: بالعفاف والشجاعة. وأما ما قد يكون به صلاح حال بعض الناس فكثرة الأَولاد من الذكور والإِناث. وصلاح الحال بالإِناث أيضا يكون بفضيلتين في الجسد والنفس. أما في الجسد فاثنتان: العبالة وهو عظم الأَعضاء العظم الطبيعي وكثرة اللحم الطبيعي لا اللون، والجمال. وأما في النفس فثلاث: العفاف وحب الأُلفة وحب الكد. فإِن بهذه الفضائل يكمل المنزل. وهذه الفضائل التي قلنا سبيلها إِن توجد في النساء كلهن اللاتي من نسب ذلك الرجل على العموم، وفي الرجال كلهم على العموم، وفي أولاده الذكور خاصة إِذ كان الولد به ألصق.

وقد ينبغي للخطيب إِن ينظر هل الفضائل في الأُمة التي هو منها هي هذه الفضائل عندهم، أعني في أولادهم، أم ليس هي هذه. فإِن كثيرا من الأمم يربون أولادهم الذكور والإِناث بالزينة والسمن. وهؤلاءِ يقول فيهم أرسطو إِنه قد فاتهم النصف من صلاح الحال بالأَبناءِ.

فأما أجزاءُ اليسار بكثرة الدنانير والأرضين والعقار والأَثاث والأَمتعة والمواشي وجميع الأَشياءِ المختلفة في النوع والجنس، وكل ذلك إِذا كانت هذه الأَشياءُ في حفظ ومع حرية، وأن يكون فيها متمتعا، أي ملتذا، لا حافظا لها فقط أو منميا.

قال: ومن الأُمور النافعة في اليسار والفاعلة له الأَشجار المثمرة والغلات من كل شيءٍ، واللذيذ من هذه هو ما يجنى بغير تعب ولا نفقة. وحد الحفظ والإِحراز للمال هو إِن يكون في الموضع الذي لا يتعذر منه عليه، وأن يكون بالحال التي يمكن إِن ينتفع بها، مثل إِن كانت أرضا ألا تكون سبخة، وإِن كان فرساً ألا يكون جموحاً. وحد الحرية في المال إِن يكون إِليه التصرف في المال بالإِعطاء والبيع والشراءِ. وأما التنعم بالمال فهو استعماله على طريق التلذذ به، وإِنما اشترط في الغناء هذا الشرط لأنه إِن يكون الغنى في استعمال المال أحرى منه إِن يكون في اقتنائه. لأَن الاقتناء هو فاعل الغنى. وأما الاستعمال فهو الغنى بعينه.

وأما حسن الفعل على الرأي والصواب فهو الذي يظنه الكل فاضلا، وهو الذي يغتني الشيء الذي يتشوقه الأًكثر لا محالة أو الأَخبار من الناس وذوو الكَيْس والفطنة.

قال: وأما الكرامة فإِنها في زماننا هذا للمعتني بحسن الفعل. وإِكرام الناس اللذين لهم العناية الحسنة بهم هي مكافأة على طريق العدل والحق، إِذ كانت هذه الأَفعال ليس تكافئها الدنانير والدراهم. وليس يكرم اللذين لهم العناية الحسنة بالناس فقط، بل واللذين يستطيعون إِن تكون لهم العناية الحسنة، أعني اللذين لهم قوة على ذلك وإِن لم يفعلوا ذلك في حال الإِكرام. والعناية بالناس التي تستوجب الكرامة هي العناية بتخليصهم من الشرور التي ليس التخلص منها بهين، أو إِفادتهم الخيرات التي ليس إِفادتها بالسهل. وهذه الأفعال الجميلة هي التي تكون عن الغنى أو السلطان أو ما أشبه ذلك مما يكون للإِنسان به القدرة على أمثال هذه الأفعال. وقد يكرم كثير من الناس على خيرات يسيرة لكنها تكون كثيرة بالإِضافة إِلى ذلك الزمان وإِلى تلك الحال. فكأن الكرامة على الأشياءِ اليسيرة هي بالعرض، أي من جهة ما عرض لتلك الأشياءِ إِن تكون كثيرة بالإضافة إلى ذلك الوقت أو الحال.

وأما الأشياءُ التي تكون بها الكرامة فمنها مشتركة لجميع الأُمم ومنها خاصة. فالجاصة مثل الذبائح والقرابين التي كانت قد جرت عادة اليونانيين إِن يكرموا الأموات، ومنها عامة وهي المراتب في المجالس والمسارعة إلى أقواله وترك مخالفته والهداية التي توجب المحبة والقرب. فإِن الهدية جمعت أمرين: بذل المال والكرامة، ولذلك كانت مستحبة لجميع الناس، وكل إِنسان يجد فيها ما يتشوقه. وذلك إِن الناس ثلاثة أصناف: إِما صنف يحب الكرامة، وإِما صنف يحب المال، وإِما صنف جمع الأمرين. والهدية قد جمعت متشوق هذه الأصناف الثلاثة.

قال: وأما فضيلة الجسد فالصحة وذلك إِن يكونوا عريين من الأَسقام ألبتة وأن يستعملوا أبدانهم، لأَن من لا يستعمل صحته فليس تغبط نفسه بالصحة، أي ليس هو حسن الحال بها وهو بعيد من جميع الأَفعال الإِنسانية أو من أكثرها.

قال: وأما الحسن فإِنه مختلف باختلاف أصناف الأَسنان. فحسن الغلمان وجمالهم هو إِن تكون أبدانهم وخلقهم بهيئة يعسر بها قبولهم الآلام والانفعال أي لا يكونون غير محتملين للأَذى وأن يكونوا بحيث يستلذ إِن ينظر إِليهم عند الجري أو الغلبة.

قال: ولذلك ما يرى الناس الغلمان الذين هم مهيئون نحو الخمس المزاولات واللعبات حسانا جدا. ونعني بالخمس المزاولات واللعبات الأَشياء التي كان اليونانيون يروضون بها صبيانهم، وهي العدو والركوب والمثاقفة والصراع والملاكزة.

قال: وإِنما كان الناس يرون فيمن كان مهيئا نحو هذه الأَفعال الخمسة أنه جميل لأَنه مهيأ بها نحو الخفة والغلبة. وإِذا شب هؤلاءِ الغلمان كانوا لذيذي المنظر عند العمل في الحرب، وذلك بحسب الهيئة التي كانوا معدين بها نحو الحرب. وأما الشيوخ فجمالهم هو أستلذاذ أفعالهم في الأَعمال التي هي جد، وهي التي من أجلها يراض الصبيان على هذه اللعبات الخمس، وهي الحروب، وأن يكونوا مع ذلك يرون غير ذوي أحزان ولا غم، وذلك إِن الحزن والغم إِذا ظهر بالشيخ ظن به إِن ذلك الطارئ الذي طرأ عليه مما يضر في شيخوخته، مثل الفقر أو الهوان أو غير ذلك.

قال: وأما البطش فإِنه قوة يحرك المرءُ بها غيره كيف شاءَ. فإِنه إِذا جذب غيره أو دفعه أو أشاله أو أخرجه أو ضغطه، وكان هذا الفعل منه بكل من يتصدى له أو بأكثرهم، فهو ذو بطش.

قال: وأما فضيلة الضخامة فهو إِن يفوت كثيراً من الناس ويجاوزهم في الطول والعرض والعمق، وتكون مع ضخامته حركاتُه غير متكلفة لجودة هذه الفضيلة. وتكون ضخامته ليس سببها سمنا ولا أمراً مكتسبا. قال: وأما الهيئة التي تسمى الجهادية فإِنها مركبة من الضخامة والجلد والخفة. وذلك أنه إِذا اقترنت الخفة مع القوة أمكن إِن يبلغ بالسرعة أمداً بعيدا؛ لأَنه إِن كان خفيفا دون جلد لم يبلغ بالسرعة أمدا بعيدا. وذلك إِن الذي جمع الضخامة والقوة هو مصارع. والذي جمع الضخامة والقوة والخفة هو مجاهد. وأما الذي جمع الصراع والخفة معا فيسمى عندهم باسم مشتق من الحذق باستعمال القوة والخفة. وأما الذي جمع هذه الخصال كلها فهو الذي يسمى عندهم ذا الخمس اللعب.

قال: وأما الشيخوخة الصالحة فإِنها دوام الكبر مع البراءة من الحزن، لأَنه إِن عجلت وفاة الإِنسان قبل إِن يبلغ منتهى الشيخوخة لم يكن ذا شيخوخة صالحة، وإِن كان بريئا من الأَحزان؛ ولا إِن أمهل إِلى منتهى الشيخوخة وكان في كرب وحزن كان ذا شيخوخة صالحة. وإِنما يكون بريئا من الأَحزان إِذا كان ذا حظ من الجد وفضائل البدن، أعني إِن يكون صحيحا ولم تعتره مصائب تكدر شيخوخته. وذلك أنه إِذا كان ممارضا، أو كان الجد غير مساعد له بأن يكون قد اعترته مصائب، فإِنه ليس بصالح الشيخوخة، وإِن كان معمرا، وكذلك إِن كان ممارضا. وقد يشك كيف يكون طول العمر مع الأَمراض، لكن يشبه إِن تكون قوة طول العمر غير قوة الصحة. فإِنا نرى قوما كثيرين تطول أعمارهم مع أنهم مسقامون. وتصحيح هذا هو للعلم الطبيعي، وليس في تصحيحه في هذا العلم منفعة. والخطيب إِنما يكتفي من ذلك بالشيءِ الظاهر.

قال: وأما كثرة الخلة وصلاح حال الإِنسان بالإِخوان فذلك أيضا غير خفي، إِذا حُد ماهو الخليل والصاحب وهو إِن يكون كل واحد منهما يفعل الخير الذي يظن أنه ينفع به الآخر، لا الخير الذي ينتفع به في نفسه فقط. وإِذا كانت الخلة والصحبة هي هذه، فبيّن إِن المرءَ يكون صالح الحال بالإِخوان الكثيرة.

قال: وأما صلاح الجد فهو إِن يكون الاتفاق لإِنسانٍ ما علة لوجود الخير له وذلك إِما من الخيرات الموجودة في ذاته، وإِما من الخيرات الموجودة له من خارج. وعلة الاتفاق قد تكون الصناعة، وقد تكون الطبيعة وهو الأَكثر. فمثال ما يكون عن الاتفاقالطبيعي إِن يولد الإِنسان ذا قوة وهيئة يعسر بها قبوله الأُمور الواردة عليه من خارج. فأما إِن يكون الإِنسان صحيحا، فقد يكون سببه الاتفاق الطبيعي مثل إِن يولد صحيحا، وقد يكون الاتفاق الصناعي مثل إِن يسقى سما فيبرأ به من مرض كان به. وأما الجمال والضخامة فعلتهما الاتفاق الصناعي والطبيعي. وجملة الأَمر إِن الخيرات التي سببها الجد الذي هو حسن الاتفاق هي الخيرات التي يكون المرءُ مغبوطا بها محسودا عليها. ويكون الجد علة لخيرات ليست هي خيرات بالحقيقة وإِنما ترى خيرات بالإِضافة والمقايسة إِلى الغير، كما قد يكون القبح في حق إِنسانٍ خيراً ما إِذا رئى غيره أقبح منه. ومثل إِن يكون إِنسانان وقفا من الحرب في موضع واحد فأصاب أحدهما السهم ولم يصب الثاني. فإِن الذي لم يصبه السهم يرى أنه قد ناله بالإِضافة إِلى صاحبه خير كثير، وبخاصة إِن كان ذلك الذي لم يصبه السهم من عادته إِن يشهد الحروب كثيرا، والآخر لم يشهد قط إِلا تلك الحرب.

وكذلك إِذا وجد الكنز واحد ممن طلبه، قد يرى أنه خير بالإِضافة إِلى من لم يصبه، وإِن كان الكنز يسيرا. فمن هذا ونحوه وينظر الخطيب في سعادة الجد.

وأما تعريف الفضيلة فأولى المواضع بذكرها هو عند القول في الأَشياءِ التي يمدح بها، لأَن الفضيلة خاصة بالمادح. ولذلك وجب إِن يكون المادح هو الذي يعرف باستقصاء الفضيلة. والفضائل وإِن كان منها مستقبل وحاضر، فالمادح إِنما ينظر فيها من جهة ما هي حاضرة، والمشير من جهة أنها مستقبلة، أي نافعة.

فهذه هي الغايات التي من أجلها يشير المشير. وبيّن من هذه أضدادها التي من أجْلها يمنع المشير وهي التي تؤلف منها أقاويل المنع، إِذ كان عددها هو ذلك العدد بعينه، ووضعها من الأَقاويل المشورية هو ذلك الوضع بعينه. ومن أجل إِن المشير إِنما غرضه المقدم في فكره هو إِن يشير بالشيءِ النافع الذي تلزم عنه واحدة واحدة من هذه الغايات، وذلك إِن هذه الغايات هي أول الفكرة وآخر العمل، والأَشياءُ النافعة هي آخر الفكرة وأول العمل، وأعني بأول الفكر النتيجة، وبآخر الفكر المقدمات. فقد يجب إِن يكون للخطيب أصول وقوانين يعرف بها الأَشياءَ النافعة في الغايات، وهي العواقب إِذ كانت هي أول العمل. والنافعات وإِن لم تكن خيراً مطلقا فهي خير لأَنها طريق إِلى الخير بإِطلاق. فالخير المطلق هو الذي يختار من أجل نفسه، ويختار غيره من أجله، وهو الذي يتشوق إِليه الكل، وأعني هاهنا بالكل ذوي الفهم الحسن من الناس والذكاءِ. وذلك قد يكون خيرا في الحقيقة، وقد يكون خيرا في الظن، وذلك بحسب اعتقاد إِنسان إِنسان في هذا الخير. ولذلك إِذا كان الشيءُ الذي يعتقد فيه الإِنسان هذا الاعتقاد موجودا له فقد اكتفى به ونال حاجته ولم يبق له تشوق إِلى شيء أصلا. والأَشياءُ النافعة في هذا الخير هي بالجملة أربعة أجناس: الأَشياءُ الفاعلة، والأَشياءُ الحافظة له، وما يلزم الحافظة، وما يلزم الفاعلة. وذلك إِن لازم الشيء يعد مع الشيء. وكذلك أيضا يعد لازم المفسد مع المفسد، ولازم ضد الفاعل مع ضد الفاعل في الأَشياء التي ينهى عنها. ولزوم الغاية للفاعل ربما كان معا مثل ما يلزم المدح اقتناء الأَشياء الممدوحة، وربما كان متأخرا مثل العلم الذي يتبع التعلم بأخرة.

والأَشياءُ الفاعلة ثلاثة أصناف: إِما بالذات، وإِما بالعرض. والذي بالذات اثنان، إِما قريب مثل فعل الغذاء الصحة، وأما بعيد مثل الطبيب. والذي بالعرض مثل فعل التعب في الرياضة للصحة. وإِذا كان واجبا إِن تكون أصناف الأَشياء الفاعلة للخير هي هذه الأَصناف الثلاثة، فباضطرار إِن تكون الأُمور النافعة في الخير بعضها خير في ذاته مثل نفع الغذاء في الصحة وبعضها شر في ذاته وخير ما بحسب نفعه في الخير مثل شرب الدواء للصحة. والشرور التي تنفع في الخير هي نافعة على وجهين: أحدهما إِن يستفاد بها خير هو أعظم من الشر اللاحق من استعمالها مثل استفادة الصحة عن شرب الدواءِ، ومثل المشقة اليسيرة في استفادة المال الكثير. ومنها ما تنال به السلامة من شر هو أعظم من الشر الذي ينال منها، مثل ما ينال رُكَّابُ البحر من السلامة إِذا طرحوا أمتعتهم. فإِن طرح أمتعتهم شر، لكن تستفاد منه السلامة من شر هو أعظم وهو العطب. والخيرات التي تستفاد من الخيرات يسميها أرسطو فوائد بإِطلاق، وأما تلك فيسميها انتقالا. ويعني بذلك أنها انتقال من شر إِلى ما هو أخف شرا منه أو انتقال من شر إِلى ما هو خير.

قال: والفضائل وإِن كانت غايات فهي أيضا خيرات في أنفسها ونافعة في الخير. فإِن المقتنين لها هم بها حسنو الأَحوال. وهي مع هذا فاعلة للخير ومستعملة فيه.

قال: وقد ينبغي إِن نخبر عن كل واحد من هذه وكيف هي خير في نفسها وكيف هي فاعلة للخير ونفصل الأَمر في ذلك. واللذات أيضا هي خير بنفسها لأَن جميع الحيوان يشتاق إِليها. والأُمور اللذيذة إِنما تكون خيراً إِذا كان بها الملتذ حسن الحال. وقد يستبين من التصفح أنها خير وأنها أيضا قد تكون نافعة في الخير. وأجزاءُ صلاح الحال بالجملة منها ما هي غايات فقط، ومنها ما قد تعد غايات وهي نافعة أيضا في الغايات؛ وذلك إِن لبعضها ترتيبا عند بعض، أعني إِن بعضها علة لوجود بعض ومتقدم عليه. ومثال ذلك إِن الشجاعة والحكمة والعفاف وكبر النفس والنبل وما أشبهها من فضائل النفس قد تختار أشياء كثيرة من أجزاءِ صلاح الحال من أجلها. وكذلك الصحة والجمال من فضائل الجسد قد تختار أشياء من أجلها هي من صلاح الحال وهي فاعلاتها. وكذلك تختار فاعلات أشياء أخر من صلاح الحال مثل فاعلات اللذة وفاعلات السيرة الحسنة. ولذلك ما يظن باليسار أنه خير، إِذ كان سببا لهذين الأمرين الشريفين: أحدهما اللذة، والآخر حسن السيرة. وصلاح الحال بكثرة الإِخوان قد يوجد فاعلا لأَشياء كثيرة من الخيرات. وذلك إِذا كانت الصداقة التي بينهما من أجل المحبة نفسها، لا إِن تكون المحبة بينهما من أجل شيءٍ آخر. فإِن الإِخوان اللذين بهذه الصفة هم يفعلون الكرامة والتمجيد بغير ذلك مما يجري مجراهما من الخيرات. وذلك يكون منهم بالقول والفعل. فإِن الأَقوال والأَفعال التي تفعل بها الكرامة والتمجيد وغير ذلك مما يجري مجراهما هي خير ونافع. قال: ومن النافعات بذاتها الملكات الطبيعية التي يكون الإِنسان بها مستعدا لأَشياء حسنة مثل الذكاء والحفظ والتعلم وخفة الحركات، وكذلك الكمالات مثل العلوم والصنائع، وكذلك السير المحمودة. وهذه كلها مع أنه نافعة في غيرها هي خير في نفسها وإِن لم يتصل بها خير آخر، فهي خيرات منفردة بأنفسها مختارة لذاتها. والبر أيضا خير نافع.

قال: فهذه هي الخيرات التي يعترف بها ويجتمع على أنها خيرات ونافعات. ومتى بيَّن في شيء منها أنه خير فذلك بيان لا على طريق المراء والمغالطة المستعملة في هذه الصناعة. وأما إِذا بيّن في شيء من أضداد هذه أنها خير، وفيها أنها شر فذلك يكون في هذه الصناعة على طريق المراء، أعني بيانا سوفسطائيا. وذلك إِن الشر إِنما ينفع بالعرض، مثل إِن يبين خطيب لأَهل مدينةٍ ما إِن الجبن لهم خير لأَنهم إِن شجعوا، خرجوا عن المدينة، فنال منهم العدو. ولكن الجبن ليس لهم خيرا على الإِطلاق وإِنما كان خيرا بالإِضافة إِلى أهل المدينة الذين عرض لهم ذلك. وأما النافع في الأَكثر وبالذات للإِنسان فهو الخير، كما إِن الشر المضاد للخير هو نافع للأَعداءِ. وذلك إِن الجبن، لما كان شرا لأَهل المدينة بالذات، كان نافعا للأَعداءِ. والشجاعة لما كانت بالذات خيرا لهم كانت ضارة بالأَعداءِ. إِلا أنه قد يلحق ما هو شر ما للإِنسان إِن يكون ضارا لعدوه، وما هو خير ما له إِن يكون نافعا لعدوه، مثل الجبن لأَهل المدينة اللذين إِذا خرجوا عن المدينة لم يكن لهم قوة يقاومون بها عدوهم. فينبغي للخطيب إِن يتحرى في كل وقت النافع من هذه الأَشياء. وهذه القضية أيضا ليست كلية، أعني القائلة إِن كل ما يضر العدو ويكرهه نافع، وكل ما ينفع العدو ويسره ضار.

فإِن كثيرا ما يكون الأَمر الواحد ضارا للإِنسان وعدوه ونافعا للإِنسان وعدوه. فمثال ما هو نافع لكليهما ويسر به كل واحد منهما مفارقة العدو عدوه إِذا كانت بعد مقاتلة شديدة بينهما ومقاومة أشفى كل واحد منهما على العطب منها من غير إِن يظفر أحدهما بصاحبه. فإِنهما إِذا افترقا في أثر هذه الحال سُرَّ كل وَاحد منهما بالافتراق. ولذلك قد يكون النافع نافعا للأعداء أيضا. وأما ماهو ضار لكليهما فكثيرا ما يوجب صداقة العدو، وذلك إِذا كانا متساويين في نزول الشر الوارد بهما من غير إِن يفضل أحدهما في ذلك صاحبه. وكثير من الأُمم المختلفة كان اتفاقهم بهذا السبب. ولذلك قيل إِن الشر قد يجمع الناس. فهذا أيضا أحد ما يكون به الشر نافعا، أعني إِن يكون الضر النازل بالإِنسان نازلا بعدوه، فإِن ذلك يوجب صداقة العدو. وحينئذ يهوى العدو الوارد ضد ما يهواه كل واحد من المتعاديين الذين ورد عليهما العدو من خارج. وذلك إِن كل واحد من المتعاديين يهوى صداقة صاحبه لمكان تعاونهما على العدو الوارد عليهما من خارج. والعدو الوارد يهوى بقاء عداوتهما على حالها أو تأكدها. وأرسطو يقول: ولذلك كثيرا ما تنفق النفقات العظيمة وتفعل الأَفعال الكثيرة في مثل هذا الخير الذي يدفع به الشر العظيم. وإِنما تطيب النفس بالنفقات في مثل هذه الأَشياءِ لظهور ما يلزم عنها من الغاية المطلوبة وقربها حتى كأنها إِذا وجدت هذه الأَشياءُ وجدت الغاية. وقد يكون الشر المفرط النازل بالعدو أيضا سببا للاعتراف بالخير اليسير الذي ناله من عدوه، ولولاه لم يعترف به العدو. مثل ما حكي أرسطو أنه عرض لبعض الملوك الذين كانوا أعداء لليونانيين أنه اشتدت محاربتهم له وحصرهم إِياه سنين كثيرة وقتلوا في ذلك الحصار ابنه فسألهم إِن يعطوه جثته ليحرقها على عادتهم في موتاهم ففعلوا ذلك فشكرهم على ذلك وأظهر شكرهم عند جميع قومه وأهل مدينته. فلولا ما نزل به من الشر العظيم، لما شكرهم على هذا الشيءِ اليسيرالذي سمحوا له به، كما قال ذلك أُوميروش الشاعر. قال: ومن الاصطناعات النافعة والأَفعال التي يعظم قدرها عند المصطَنَع إِليهم فيصير به المصطنع إِلى خير عظيم من المصطنع إِليهم إِن يختار الإِنسان إِنسانا عظيم القدر من جنس ما من الناس له أيضا عدو عظيم القدر في جنس آخر من الناس فيفعل بعدو ذلك الإِنسان الشر وبأصدقائه الخير، مثل ما عرض لأُوميروش مع اليونانيين وأعدائهم، فإِنه قصد إِلى عظيم من عظماء اليونانيين في القديم فخصه بالمدح وأصدقاءه من اليونانيين، وخص عدوا له عظيما بالهجو هو وقومه المعادين لليونانيين في حروب وقعت بينهما، فكان رب النعمة العظيمة بذلك عند اليونانيين وعظموه كل التعظيم حتى اعتقدوا فيه أنه كان رجلا إِلاهيا وأنه كان المعلم الأَول لجميع اليونانيين. وبالجملة: ففعْل الشر بالأَعداءِ والخير بالأَصدقاءِ من الأُمور النافعة، ومن شرط هذا الفعل الذي يعظم موقعه إِن موقعه إِن يكون ما فعل منه يرى أنه لم يمكن الفاعل ولا تيسر له غيره، وسواء كان الفعل كثيرا في نفسه أو يسيرا، وأن يظن إِن فعله له لم يكن لمكان خوف ولا شيء يرجوه، بل لأَن شوقه وهواه قاده إِلى ذلك. فإِن بهذا يكون الفعل مداوما عليه من الفاعل وهو السهل عليه. لأَن الأَفعال التي تكون من أجل خوف إِنما تكون غير شاقة زمانا يسيرا. وإِذا طال بها الزمان كانت شاقة فانقطعت. وإِذا انقطعت كان من ذلك عداوة من المصطنع إِليه للمصطنع. فلذلك يشترط في هذا الفعل إِن يكون سهلا على الفاعل. فهذه هي شروط الابتداءِ بالصنائع التي يعظم موقعها ويوجد نفعها.

وأما المكافأة التي لا يعظم موقعها فهي المكافأة التي لا تكون بحسب ما ما يهوى المكافئ بالطبع من أكثر الناس، وهو إِن تكون ناقصة عن الصنيعة التي أسديت إِليه: إِما في الكمية، وإِما في المنفعة، وإِما لأَنها قد فضلت عند المكافئ وليس يحتاج إِليها. وهي المكافأة التي يغالط فيها. وإِنما كان المكافئ بالطبع الذي يشتهي إِن تكون مكافأته بأحد هذه الثلاثة الأَحوال، لأَن المكافئ كأنه مقصور على الإِعطاءِ، فهو إِنما يشتهي: إِما ألا يلحقه نقص من الخير الذي وصل إِليه، وإِما إِن يكون النقص أقل من الخير الذي وصل إِليه. فإِذا لم تكن المكافأة بهذه الصفة، بل كانت مقارنة للصنيعة: إِما في الجنس مثل أَن تكون المكافأة على الدنانير بدراهم، وإِما في القوة مثل أن تكون المكافأة على المال بكرامة يقتنى بها مثل ذلك المال، فهي المكافأة العادلة لكنها سوقية. فإِذا لم تكن المكافأة لا سوقية ولا فيها غبن، بل كان المكافئ يعتقد فيه أنه ليس اختياره في المكافأة لما هو أنقص أكثر من اختياره لما هو أزيد، وسواء وقعت مكافئته بما هو أنقص أو بما هو مساوٍ أو بما هو شبيه، فهي المكافأة الجميلة. لأَن مكافأته بالأَنقص لم تكن منه باختيار لذلك، بل لأَنه لم يتسير له غير ذلك. فإِذا اتفق أن يكون مع هذا ذلك الفضل مما يسر به الأَصدقاء، أعني أصدقاء المكافئ بالفعل، ويسوء أعداءه، ويكون مع هذا متعجبا منه عند الجمهور، وذلك بالإِضافة إِلى من صدر عنه، كان عظيما موقعه من المصطنع إِليه، وبخاصة إِذا كانت الصنيعة مما توافق شهوة المصطنع إِليه، مثل أن يكافئ أو يبدأ محب الكرامة بالكرامة ومحب المال بالمال، ومحب الغلبة بالغلبة.

فإِن هذه الصنيعة ليست هي لذيذة فقط عند الذي تصطنع إِليه أو يكافئ بها، بل هي عنده فاضلة. وكذلك الأَمر في سائر أصناف الخيرات. وإِنما تكون أفعال الصنائع والمكافأة على المبتدئ والمكافئ أفعالا سهلة يمكن أن يداوموا عليها متى كانوا باستعدادهم الطبيعي مهيئين لتلك الأَفعال، وكانت قد حصلت لهم الملكة التي بها تصدر عنهم تلك الأَفعال. ومن الصنائع اليسيرة التي يظن بها أنها ليس تنقص المصطنع شيئا بالتأديب والموعظة.

قال: فمن هذه الوجوه يأخذ الخطيب المقدمات التي منها يقنع أن الشيءَ نافع أو غير نافع. ومن أجل أن الخطيب قد يعترف أحيانا بأن الأَمر نافع، ولكن يدعى أن هاهنا شيئا هو أنفع، فقد يحتاج أن يكون عنده مواضع يقدر أن يبين بها أن الأَمر أنفع وأفضل. فمنها أن ما كان نافعا في كل الأَشياءِ، فهو أنفع مما هو نافع في بعض الأَشياءِ. والذي هو أدوم نفعا، هو أنفع من الذي أقصر نفعا. والذي هو أكبر، هو أنفع من الأَصغر. والذي هو أكثر، هو أنفع من الأَقل. والذي جمع من صفات الخير أكثر، أو جمع صفاته كلها، فهو أنفع. وصفات الخير التام هو أن يكون الشيء مختارا من أجل نفسه، لا من أجل غيره، وأن يكون متشوقا عند الكل، وأن يكون ذوو الفضل واللب يختارونه. والذي جمع هذه الصفات كلها أو أكثرها فهو الخير والنافع الذي في الغاية وهو الغاية لسائر الأَشياء التي توصف بالخير. والأَشياءُ المتصفة بالخير المتعلقة بهذا الخير الذي جمع هذه الصفات إِنما يقال فيها إِنها أنفع إِذا وجد في واحد منها صفة واحدة من هذه الصفات أو أكثر من صفة واحدة. وكل ما كان من هذه الأَشياء توجد فيه صفات أكثر من صفات الخير فهو أنفع، ما لم تكن الصفة الواحدة أنفع من اثنتين أو من ثلاث. وأيضا فما كان العظيم فيه أفضل من العظيم في جنس آخر، فالجنس الذي فيه العظيم الأَفضل هو أفضل من الجنس الآخر. وما كان الجنس منه أفضل من الجنس الأَفضل، فالعظيم من الجنس الأَفضل أفضل من العظيم من الجنس الآخر. وهذا عكس الأَول. ومثال ذلك أنه إِن كان الذكران أفضل من الإِناث، فالرجل أفضل من المرأة، وإِن كان الرجل أفضل من المرأة، فالذكران أفضل من الإِناث. وإِنما كان ذلك كذلك لأَن نسبة العظيم إِلى جنسه هي كنسبة العظيم الآخر إِلى جنسه. فتكون نسبة الجنس إِلى الجنس هي نسبة العظيم إِلى العظيم.

ثم إِذا كان الشيءُ لازما لشيء ما، والآخر غير لازم له، فإِن الذي يلزم عنه الشيء آثر من الذي لا يلزم عنه الشيء. مثال ذلك السلطان والثروة. فإِن الثروة تلزم السلطان، وليس يلزم السلطان الثروة؛ فلذلك السلطان أفضل من الثروة. وكذلك الحال في المضار. فإِن الفقر يلزم عنه البخل، وليس يلزم عن البخل الفقر؛ فالفقر أكثر شرا من البخل.

واللازم يوجد على ثلاثة أقسام: إِما أن يوجد معا، أعني اللازم والملزوم، مثل وجود الأبيض والبياض معا، ومثل لزوم الإِنسان والحيوان. وإِما أن يوجد اللازم تابعا بأخرة مثل لزوم العلم عن التعلم. وإِما أن يكون تلازمهما في القوة، أي يكون أحدهما يفعل فعل الآخر ولا ينعكس، أعني ألا يفعل الآخر فعل الأَول، مثال ذلك الفقر والبخل. فإِن الفقر يلزم عنه أن يفعل الإِنسان فعل البخل، وليس يلزم عن البخل فعل الفقر. فإِن الفقر يعوق عن أشياءِ أكثر من عدم استعمال المال الذي هو البخل.

وأيضا الذي يفعل الخير الأَنفع هو أنفع من النافع. مثال ذلك الجِلْد والجمال. فإِن كليهما نافع وخير. والجلد يفعل به خير أعظم مما يفعل بالجمال، فهو أعظم نفعا. كذلك الصحة أيضا أعظم نفعا من اللذة، لأَن الصحة يفعل بها خيرات أكثر مما يفعل باللذات. وأيضا فإِن الذي يختار مفردا أفضل نفعا من الذي لا يختار إِلا مع ذلك المختار مفردا. ومثال ذلك أن الجمال لا يختار إِلا مع الصحة، والصحة تختار دون الجمال؛ فالصحة أفضل نفعا من الجمال. وأيضا إِذا كان شيئان أحدهما كمال، والآخر طريق إِلى الكمال فالذي هو كمال أفضل، مثل الصحة واللذة. فإِن الصحة كمال، واللذة كون، والكون طريق إِلى الكمال. وإِذا كان شيئان أحدهما يختار لذاته، والآخر يختار من أجل غيره، فالذي يختار من من أجل نفسه أفضل من الذي يختار من أجل غيره، مثال ذلك الحكمة واليسار. فإِن الحكمة تختار لذاتها، واليسار يختار لغيره. وأيضا فإِن الذي يجعل المرء إِذا اقتناه أقل حاجة إِلى أصدقائه أو إِلى الإِنسان فهو أفضل من الذي يجعله أكثر حاجة. فإِن من هو أكثر كفاية واستغناء عن الناس هو الذي يحتاج إِلى أشياء قليلة العدد سهل وجودها. وأيضا إِذا كان شيئان أحدهما يحوج اقتناؤه إِلى الثاني، والثاني لا يحوج اقتناؤه إِلى الآخر، فإِن الذي لا يحوج اقتناؤه إِلى الآخر هو آثر، مثال ذلك اليسار والبنون. فإِن البنين يحوجون إِلى اقتناءِ المال، واليسار ليس يحوج إِلى اقتناءِ البنين؛ فاليسار أفضل نفعا. قال: ويستبين أن الشيءَ الذي هو مبدأ ليس يلزم أن يكون أعظم من الشيءِ الذي هو له مبدأ، وذلك أن الإِرادة مبدأ الخير، ووفعل الخير أعظم من إِرادة الخير. وكذلك التعلم والعلم. وإِن كان ليس يمكن أن يكون الشيءُ النافع دون مبدأ. وإِذا كان شيئان مبدأين لشيئين، وأحد المبدأين أعظم من الثاني، فإِن الذي يكون عن المبدأ الأَعظم أعظم. وعكس هذا أيضا: وهو إِذا كان شيئان مبدأين لشيئين على أنهما فاعل، وأحدهما أعظم من الثاني، فإِن الذي هو مبدأ للأَعظم أعظم. وكذلك إِذا كان مبدأين على أنهما غاية، وإِذا قيس المبدأ الفاعل إِلى الغاية، أمكن أن يتوهم أن الفاعل أعظم من الغاية وذلك أن الفاعل هو الذي يفعل الغاية، ولولا هو لم توجد الغاية. وأمكن أن يتوهم أيضا أن الغاية أعظم من المبدأ، وذلك أنه لولا الغاية لكان الفاعل فضلا. فمثال ما تجعل الغاية فيه أعظم من الفاعل قول من يقول في الذم: إِن فلانا أولى بأن ينسب إِلى الجور في فعله كذا من فلان الذي أشار عليه بذلك، لأَنه لو لم يرد، لم يكن منه ذلك الفعل. إِذ لو لم يفعل هو ذلك الفعل، لم يقع ذلك الضرر. ومثال ما يجعل الفاعل فيه أعظم من الغاية قول القائل: فلان أحق بالشكر على هذا الفعل من فلان، لأَن فلانا هو الذي أشار عليه بذلك الفعل، ولولا إِشارته لم يكن ليفعل ذلك الفعل المحمود. وفي كلا الموضعين ما قبل الغاية إِنما يفعل لمكان الغاية.

وأيضا فإِن الذي وجوده أقل فهو أفضل، مثل الذهب والحديد. غير أنه إِن كان الذهب أقل وجودا من الحديد فليس هو أنفع. وأيضا مقابل هذا: وهو أن ما كثر وجوده فهو أفضل مما قل وجوده لكثرة منافعه. ومن هنا يقال: إِن الماءَ خير، لكثرة وجوده وعموم منافعه. وأيضا فإِن ما هو أعسر وجودا فهو أفضل، لأَن ما عسر وجوده قل وجوده، وما قل وجوده، فهو غريب ومتنافس فيه. ومقابل هذا: وهو أن ما سهل وجوده فهو أفضل، لأضنه يوجد في كل حين يتشوق إِليه. وأيضا الشيء الذي ضده أعظم، فهو أفضل. وأيضا الذي عدمه أشد ضررا فهو أنفع. وليس ينبغي أن يفهم هاهنا من الأَعظم والأَقل عظم المقايسة في الخير فقط، بل وفي الشر، وفيما هو لا خير ولا شر. وأيضا فإِن الغايات والأَشياءَ التي من أجلها تفعل الأَفعال، إِذا كانت الغايات بعضها أزيد خيراً من بعض، أو أزيد شرا من بعض، فإِن الأُمور المتقدمة لتلك الغايات الأَزيد هي أزيد. وأيضا فإِن ما كان من الملكات والفضائل، وبالجملة: الأَشياءُ الفاعلة أعظم، فإِن أفعالها الصادرة عنها تكون أعظم، لأَن نسبة الأَفعال إِلى مبادئها هي نسبة المبادئ بعضها إِلى بعض. فإِنه إِذا كان البضر آثر من الشم، فإِن الإِبصار آثر من الشم. وهكذا يوجد الأَمر في جميع الأَفعال مع أسبابها الفاعلة ليس فس الذاتية فقط، بل وفيما يعرض عن الشيء بالاتفاق. فإِن العظيم يكون الاتفاق الذي يعرض له عظيما. وفي الأَعراض الموجودة في الشيءِ، أعني أن الشيءَ الأَعظم، العرض الموجود فيه أعظم. وأيضا أن يحب الإِنسان صاحب المال أفضل من أن يحب المال، لأَن حب الإِنسان أفضل من حب المال. وأيضا فإِن الفضائل أفضل من ذوي الفضائل. والأَشياءُ التي شهوتها فاضلة أفضل من التي شهوتها غير فاضلة. مثال ذلك أن شهوة العلوم فاضلة وشهوة الأَكل والشرب غير فاضلة، فالعلوم أفضل من الأَكل والشرب. وأيضا عكس هذا: وهو أن ما هو أفضل، فشهوته أفضل، مثل أن الحكمة أفضل من النكاح، فشهوتها أفضل من شهوة النكاح. وأيضا فإِن العلوم التي هي أحسن وأفضل، فأفعالها خير وأفضل. مثال ذلك أنه لما كانت العلوم العلمية أفضل من العملية، كان فعلها الذي هو الصدق أفضل من التي فعلها العمل. وعكس هذا: وهو أن التي فعلها أفضل من العلوم، فهي أفضل؛ وذلك أن الوقوف على الحق لما كان أفضل من العمل، كانت الصنائع العلمية أفضل من العملية. وإِنما كان هذان الموضوعان متلازمين، لأَن نسبة الصناعة إِلى الصناعة هي نسبة فعلها إِلى فعلها. قال: والذي يحكم به الكل من الجمهور أو الأَكثر أو ذوو الأَلباب والأَخيار الصالحون أنه خير وأفضل، فهو أفضل بإِطلاق وفي نفسه، إِذا كان حكمهم في الأَشياءِ بحسب فطرهم وكانوا ذوي لب، لا بحسب ما استفادوه من الآراءِ من خارج. فإِن ذوي الأَلباب من الناس قد يقولون بفطرهم في الفضائل والخيرات ما هي، وكم هي، وعند أي شيء هي، وإِن كان ما يقفون عليه بفطرهم دون ما يوقف عليه من ذلك في العلوم. وما قيل في حد الخير من أنه الذي يتشوقه الكل، إِنما يراد بذلك الخير الذي يتشوقه الكل بحسب فطرهم الطبيعة، أعني اللبيبة. فإِن ما تتشوقه الفطر اللبيبة، بما هي فطر لبيبة، هو خير مطلق، أو خير أفضل من خير، مثل علمهم أن الشجاعة والأَدب والجلَد خيرات وتشوقهم إِياها. وأما الذي هو خير بالإِضافة إِلى إِنسان ما، مثل من يرى من الناس الفاضلين أنه أن يجار عليه أفضل من أن يجور هو، فإِن هذا الخير لا يدركه الناس بحسب طباعهم، وإِنما يرى هذا الرأي الذي هو من الناس في غاية العدل والفضل.

وأيضا ما كان من الخيرات معه لذة، فهو آثر مما ليس معه لذة. وما كان من الخيرات أكثر لذة، فهو آثر. وإِنما كان ذلك كذلك لأَن الكل من الجمهور يبتدرون إِلى اللذة ويطلبونها. وطلبهم اللذة هو من أجل اللذة نفسها، لا من أجل شيءٍ آخر غيرها. وما كان بهذه الصفة، أعني متشوقا للكل، فقد قيل أنه الخير والغاية. فاللذة إِذَنْ خير. والأَزيد لذة هي الملذات التي هي أبرأ من الأَذى والحزن وأدوم بقاء. واللذة الجميلة ألذ من اللذة القبيحة، لأَن الجميل مما قد يختار بذاته وإِن لم يكن لذيذا، وهو من الأَشياءِ التي يختار المرءُ أن يكون علة لكونه إِما لنفسه وإِما لصديقه. وبالجملة فكل ما كان من الأَشياءِ الملذة أفضل فهو ألذ مما هو أخس. وكل ما هو منها أطول مدة، فهو ألذ من التي هي منها أقصر مدة. وكل ما كان من الخيرات أثبت فينا، فهو ألذ مما هو أقل ثباتا. وذلك أن الصحة لما كانت أرسخ فينا من الجمال، كان وجود الصحة لنا ألذ من وجود الجمال. والأَشياءُ اللذيذة أو الأَكثر لذة إِنما السبب في وجودها لنا بهذه الصفة أحد أمرين: إِما طول اعتياد الشيء حتى يصير لنا الإِلتذاذ به من قبل العادة كالحال في اللذة الحاصلة عن العلم، وإِما من قبل أنها لذيذة جداً عندنا بالطبع والهوى. فالأَشياءُ إِذن إِنما تصير أكثر لذة إِما من قبل طول الزمان، وإِما من قبل الهوى والموافقة التي بالطبع. وجميع الأَشياء التي تلائم هوانا ملاءمة أكثر، فإِن منفعتها لنا إِنما تكون في رسوخها وثبوتها. وقد تؤخذ مقدمات الأنَفع والأَفضل من مواضع النظائر والتصاريف، وذلك أنه إِن كانت الشجاعة آثر من العفاف، فالرجل الشجاع آثر من الرجل العفيف. قال: وما اختاره أيضا كثير من الناس آثر مما يختاره القليل من الناس. فإِن الخير كما قيل هو الذي يشتاق إِليه الكل. وما اختاره أيضا الحكام الأَول، أعني اللذين لا يأْخذون الأَحكام من غيرهم، وهم الشرَّاع، أفضل مما لم يختاروه. وما اختاره أيضا الذين يتلقون الأَحكام من هؤلاءِ أفضل مما ليس يختاروه هؤلاءِ. واللذين يتلقون الأَحكام من الحكام الأَول، وهم الذين تؤخذ عنهم أصول الأَحكام، صنفان: إِما سامع فقط مبلغ، وإِما سامع عالم، أي قادر على أن يستنبط من تلك الأُصول أحكام ما لم يصرح به الحكام الأُول. وهؤلاءِ صنفان: إِما مسلطون من قبل الحكام الأُول وهم القضاة وما أشبههم، وإِما غير مسلطين وهم الفقهاءُ. ومن هذه الأَشياءِ ما لجميع أصناف المتلقين من الحكام الأُول أن يقولوا فيها وهو ما سمعوه أو ما شاهدوه من الحاكم الأَول، ومنها ما يختص بذوي العلم منهم وهو القول في الأَشياءِ التي تستنبط عن الأَحكام الأُول التي صرح بها الحاكم الأَول. وليس للسامعين دون علم أن يقولوا في هذه الأَشياءِ. وأما الذي يخص الحكام الأُول القول فيه فهي الأُصول التي تتنزل منزلة المبادئ لسائر ما يحكم به السامعون ذوو العلم، أعني المسلطين والفقهاء وهي التي يسميها أرسطو الأُمور العظمى. والفضلاءُ الأَبرار الذين جرت العادة أن يأخذ عنهم الجميع أو الأَكثر فحكمهم أفضل. فإِن عدم الأَخذ قد يخيل هوانا ونقصا في المرءِالفاضل البر وقلة قبول لقوله. وقد يخيل الأَمر بعكس هذا، وذلك أنه ربما كان هؤلاءِ الأَبرار الفاضلون مقبولي القول مع أنه لم يأخذ أحد من الجمهور عنهم أصلا شيئا، أو إِنما أخذ عنهم قليل، وذلك أن أقاويل هؤلاءِ قد يظن بها أنها مقبولة بجهة أخرى، وذلك أنه قد يكون المرضىّ عند الجمهور من ليس مرضيا في نفسه. والأَقل من الجمهور هم ذوو التمييز. وأيضا فإِن الفاضلين الذين كتموا فضائلهم عن الجمهور هم ممدوحون أكثر وهم أقل وجودا وأعز، لأَنهم إِنما كتموا فضائلهم عن الجمهور لما خافوا أن يلحقهم من الكرامات والرياسات التي يخاف إِذا لحقت المرء أن تكون سببا لأَن تكون هذه الأَشياءُ اللاحقة للفضائل هي المقصودة عنده بالفضائل. فمن هاهنا صارت أقوال هذا الصنف مقبولة، كما صارت أقوال الصنف الأَول المضاد لهذا مقبولة، وهم الذين أخذ عنهم الجمهور.

قال: ومن الصنف المقبول القول من الناس جدا جدا الصنف الذين كراماتهم أعظم، لأَن الكرامة لما كانت مكافأة الفضيلة كان المرءُ كلما عظمت كرامته ظن به أنه قد عظمت فضيلته.

والصنف من الناس الذين نالتهم المضرة العظيمة والشقاءُ الكثير لمكان الفضائل هم أيضا مقبولو الأَقوال جدا جدا بمنزلة سقراط وغيره. والصنف من الناس الذين يَرى فيه هذان الصنفان من الناس - أعني الذين كرامتهم أعظم والذين نالهم الضرر الكبير من قبل الفضائل - أنهم فاضلون ويعترفون لهم بالفضل، هم أيضا أفضل وأعظم. فهؤلاءِ هم أصناف الناس الذين إِذا اختاروا شيئا، واختار غيرهم سواه، كان ما يختاره هؤلاءِ أفضل وآثر.

قال: وقسمة الشيءِ إِلى جزئياته تخيل في الشيءِ أنه أعظم. ولذلك لما أراد أوميروش الشاعر أن يعظم الشر الذي لحق المدينة أخذ بدله جزئياته، فذكر قتل الأَولاد والنوح عليهم وحرق المدينة بالنار وغير ذلك من أصناف الشرور اللاحقة لها.

قال: وكذلك التركيب قد يخيل في الشيءِ أنه أعظم، وهو عكس هذا، أعني أن يؤخذ بدل الجزئيات الكلي الذي يعمها. والسبب في الإِقناع في هذين الصنفين هو التغيير والإِبدال. قال: ولما كانت الأَشياءُ الأَعسر وجودا في نفسها والأَقل وجودا يظن بها أنها أفضل، كانت الأَشياءُ الكثيرة الوجود في نفسها والسهلة الوجود قد ترى عظيمة، إِذا وجدت في المواضع التي يقل فيها وجودها، أو في الأَزمنة التي يقل وجودها فيها أيضا، أو في الأَسنان من الناس التي يقل وجودها فيها، مثل وجود الإِنسان خطيبا في سن الصبا، أو في المدد التي ليس من شأنها أن يوجد فيها، مثل مَنْ يفعل ما شأنه أن يفعل في زمان طويل في زمان قصير، أو تكون صادرة عن القوى التي يقل صدورها عنها، مثل أن يفعل الضعيف فعل القوى والمريض فعل الصحيح. وكل هذه وأشباهها مما يصيّر الأَمر الذي ليس بعظيم عظيما ومستغربا. وأيضا فإِن الجزء العظيم من الشيءِ هو من الأَشياءِ التي هي أعظم مثل القلب من الحيوان والدماغ، أو الربيع من السنة والشباب من المدينة. وأيضا فإِن النافع فيما الحاجة إِليه أشد هو أعظم نفعا والضار فيه أكثر ضررا، مثل الصحة في الشيخوخة والمرض فيها، فإِن الصحة فيها آثر من الصحة في الصبا والمرض فيها أضر. وأيضا ما كان من الأَمرين أقرب إِلى الغاية فهو أفضل. وأيضا ما كان في آخر العمر فهو أفضل. فإِن الأَشياءَ التي سبيلها أن تكون للناس في آخر أعمارهم هي أفضل، مثل الحكمة والحلم وغير ذلك من الفضائل التي تكمل مع طول العمر.

وأَيضا الأَشياءُ التي إِذا فعلت أَو قبلت كان فعلُها حقيقتها أَعظم من التي إِذا فعلت لم يكن فعلُها حقيقةَ تمامها. وأَرسطو يسمى التي إِذا فعلت، كان فعلها حقيقتَها: " التي يتعمّد بها الحقيقة "، ويسمى الأُخر: " التي يتعمد بها المدح "، أَعني التي ليس فعلُها حقيقتَها.

قال: وحد الأَشياء التي يعتمد بها المدح: أَنها التي إِذا فعلت بجهل أَو بغلط لم تمدح أَصلا؛ والتي يتعمد بها الحقيقة: هي الأَشياءُ التي كيف ما فعلت فقد حصلت على التمام.

قال: ولذلك كان حسن قبول الشيء الجميل آثر من فعل الشيء الجميل؛ لأَن فعل الجميل، إِذا فعل عن غلط أَو جهل لم يقبل ولا مدح فاعله. وأَما حسن الانفعال والقبول فكيف ما حصل فقد استفاد الخير منه القابل له.

وأَيضا ما أُوثر فعله لنفسه، وإِن لم يعلم به أَحد، آثر مما لا يختار إِلا من جهة ما يعلم، كالحال في الصحة والجمال. فإِن الصحة مؤثرة بذاتها، والجمال مؤثر للغير وأَيضا فإِن النافعة في أَشياء كثيرة فهي أَنفع، كالنافعة في طول العمر وفي حسن العيش، أَعني العيش الرغد، وفي اللذات، وفي اصطناع الخيرات. ولذلك ما يظن بالصحة واليسار أَنهما عظيمان، لأَنهما يجمعان الخلو من الحزن والفعل بلذة، أَعني أَن الصحة هي سبب الفعل بلذة، واليسار سبب الخلو من الأَحزان. وكل واحد من هذين على الانفراد فاضل ومختار بنفسه، أَعني الخلو من الأَحزان والأَفعال اللذيذة. فإِذا اجتمعا لامرئ جعلاه أَعظم من كل شيء، سواء علم ذلك منْ عِلمه أَو جهله مَنْ جهله. لأَن هذه خيرات مستفادة بالحقيقة، لا من الخيرات التي يتعمد بها المدح. ولكون اليسار سببا لدفع الأَحزان ظَن به أَنه السعادة قومٌ، وآخرون رأَوا أَن السعادة هي أَن يقترن به شيء آخر. وذلك واجب من قِبَل أَنه أَحرى أَن تكون السعادة ثابتة ومأْمونة الزوال. فإِنه ليس الضرر اللاحق لمن له عينان ففقد إِحداهما كمن له عين واحدة ففقدها، لأَن الذي له عين واحدة سلب أَحب مما سلب مَنْ له عينان. وكذلك إِن كانت السعادة في المال وفي شيء آخر، لم يكن الضرر اللاحق عن سلب المال كالضرر اللاحق عن سلبه إِن كان هو السعادة وحده.

قال: والكلام في هذه الأَشياء كلها هاهنا ليس هو على جهة التصحيح، وإِنما الكلام فيها بالقدر الذي يحتاج إِليه الخطيب من ذلك. ويجب للخطيب أَبداً متى أَتى بالنتائج من أَمثال هذه المقدمات أَن يرفدها بالمثالات المأْخوذة من الناس الذين فعلوا تلك الأَفاعيل، فلحقهم النفع أَو الضرر. فلذلك ما يجب للخطيب أَن يكون حافظا للقصص والأَخبار.

قال: فهذه هي الأَشياءُ التي يثبت بها أَن الشيءَ أَنفع أَو أَضر. وأَما الأَشياءُ التي يكون بها الإِذن والمنع، فقد قيل فيها قبل هذا بما فيه كفاية. لكن أَهم وأَعظم ما فيها هو القول في الأَشياءِ التي بها يقدر على جودة الإِقناع في السنن والإِشارة بالسنن التي لا يوجد أَنفع منها. ولذلك قد يجب أَن نستقصي القول فيها هاهنا، فنقول: إِن الإِشارة بالسنن النافعة والإِقناع التام فيها يتأَتى بمعرفة أَصناف السياسات والأَخلاق والسنن التي تخص سياسة سياسة. وذلك أَن في كل واحدة من السياسات سننا نافعة فيها، وهي السنن التي بها يكون خلاص تلك المدينة وقوامها. والسنن النفيسة الخطيرة هي السنن العادلة، أَعني الموضوعة في العدل التي رسمها الرئيس الأَول في تلك المدينة أَو المسلط عليها من قبل الرئيس الأَول. وهذه السنن النفيسة، أَعني السنن العادلة، تختلف في السياسات بحسب اختلاف غايتها، وعددها على عدد السياسات.

مثال ذلك أَن العدل في سياسة تغلب أَنه لا شيء على الرئيس إِذا لطم المرؤوس. وفي سياسة الحرية، العدل في ذلك أَن يلطم الرئيس مثل اللطمة التي لطمها.

والسياسات بالجملة أَربع: السياسات الجماعية، وسياسة الخسة، وسياسة جودة التسلط، وسياسة الوحدانية وهي الكرامية.

وهذه السياسات كلها المقصود بالسنن الموضوعة فيها إِنما هو المدينة والكل لا الشخص. د فأَما المدينة الجماعية فهي التي تكون الرياسة فيها بالاتفاق والبخت لا عن استئهال، إِذ كان ليس في هذه المدينة لأَحد على أَحد فضل.

وأَما خسة الرياسة فهي التي يتسلط بها المتسلطون على المدنيين بأَداءِ الإِتاوة والتغريم، لا على جهة أَن تكون نفقة للحماة والحفظة ولا عدة للمدينة، على ما عليه الأَمر في السياسات الأُخر، بل على جهة أَن تحصل الثروة للرئيس الأَول. فإِن جعل لهم حظا من الثروة كانت رياسة الثروة. وإِن لم يجعل لهم حظا من الثروة كانت رياسة التغلب، وكانوا بمنزلة العبيد للرئيس الأَول، وكانت محاماته عنهم بمنزلة محاماة الإِنسان عن عبيده.

وأَما جودة التسلط فهو التسلط الذي يكون على طريق الأَدب والاقتداء بما توجبه السنة، فإِن الذين يشيرون بما توجبه السنة لهم هم متسلطون بجودة التسلط.

وهذا هو التسلط الذي يحصل به صلاح حال أَهل المدينة والسعادة الإِنسانية. ولذلك كان هؤلاءِ أَهل فضائل واقتدار على الأَفعال التي تصلح المدينة، وأَهل حزم وتحرز مما شأْنه أَن يفسد المدينة من خارج أَو من داخل. ولذلك سميت هذه المدينة بهذا الاسم. وهذا التسلط الذي ذكره صنفان: رياسة الملك وهي المدينة التي تكون آراؤها وأَفعالها بحسب ما توجبه العلوم النظرية. والثانية: رياسة الأَخيار وهي التي تكون أَفعالها فاضلة فقط. وهذه تعرف بالإِمامية، ويقال إِنها كانت موجودة في الفرس الأَول فيما حكاه أَبو نصر.

قال: وأَما وحدانية التسلط فهي الرياسة التي يحب الملك أَن يتوحد فيها بالكرامة الرياسية وأَلا ينقصه منها شيء بأَن يشاركه فيها غيره، وذلك بضد مدينة الأَخيار.

وهذه المدن ربما كانت السنن الموضوعة فيها محدودة غير متبدلة واحدة في الدهور، على ما عليه الأَمر في سنتنا الإِسلامية، وربما كانت غير ذات سنن محدودة، بل يفوض الأَمر فيها إِلى المتسلطين عليها بحسب الأَنفع في وقت وقت، على ما عليه الأَمر في كثير من سنن الروم اليوم.

قال: وليس ينبغي أَن يخفى علينا من هذا الذي رسمنا به هذه السياسات غاية كل واحدة منها، لأَنا إِذا عرفنا الغاية علمنا الأَشياء المختارة من أَجل الغاية. فغاية السياسة الجماعية الحرية، وغاية خسة الرياسة الثروة، وغاية جودة التسلط الفضيلة والتمسك بالسنة، وغاية الوحدانية الكرامة.

والسياسات التي ليس يوضع فيها سنن غير متبدلة فغاية واضعها هو التحفظ والاحتراس من الخلل الواقع في السنن بتبدل الأَزمنة والأَمكنة.

وينبغي أَن تعلم أَن هذه السياسات التي ذكرها أَرسطو ليس تلفى بسيطة، وإِنما نلفى أَكثر ذلك مركبة، كالحال في السياسة الموجودة الآن، فإِنها إِذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب. قال: وإِذا كانت أَصناف السياسات معلومة عندنا، فهو بيّن أَنا نستطيع أَن نعرف الأَخلاق والسنن التي تؤدي إِلى غاية كل واحدة من هذه السياسات، أَعني النافعة فيها، وأَن نعتمد في أَنفسنا التخلق بتلك الأَخلاق والتمسك بالصنف من السنن التي نروم الإِقناع فيها. فإِنه إِنما تكون الأَقاويل التي يحث بها على السنن مقنعة، إِذا كان المشيرون بها ذوي صلاح وحسن فعل، حتى تكون هذه الأَشياءُ المذكورة هاهنا معلومة لنا وموجودة فينا. فإِنه إِذا وجد فينا الخلق الذي نحث عليه، كان قولنا في الحث عليه أَشد إِقناعا. ولذلك ينبغي أَلا نشير إِلا بما هو موجود لنا أَو نحن عازمون على أَن يوجد لنا. ومعلوم أَن الوقوف على السنن النافعة في الغاية أَنه إِنما تستنبط على جهة التحليل من النظر إِلى الغاية. فقد تبين من هذا القول من أَين تؤخذ المقنعات في النافع من السنن في سياسة سياسة، وكم أَنحاءُ السياسات والسنن التي تحتذي فيها وذلك بحسب الكافي في هذه الصناعة. وأَما القول في هذه الأَشياءِ على التحقيق ففي الأَقاويل المدنية.

القول في المدح والذم

قال: وأَما بعد هذا فنحن قائلون في الفضيلة والنقيصة والجميل والقبيح، لأَن هذه هي التي يمدح بها ويذم. ويلحق من تعريفنا هذه الأَشياء أَن نعرف الأُمور التي بها يثبت المرءُ فضيلة نفسه، إِذ كان ذلك هو الطريق الثاني من الطرق الثلاثة التي يقع بها الإِقناع كما تقدم من قولنا، وذلك أَنه نوع من المدح، أَعني أَن يكون بالأَشياءِ التي نقدر بها على مدح غيرنا نقدر بها أَنفسها على مدح أَنفسنا. وإِن لم يكن ذلك يتفق لجميع الأَشياء التي يمدح بها الغير، بل إِنما يكون ذلك بالفضيلة فقط وهي الأُمور الراجعة إِلى الاختيار.

قال: ومن أَجل أَنه يعرض كثيرا أَن يمدح الناس الروحانيون بالفضيلة وبأَشياء غير الفضيلة، وليس يعرض هذا في مدح هؤلاءِ فقط، بل وفي مدح الأَشياءِ المتنفسة وغير المتنفسة، أَعني أَنها تمدح بأَشياءِ خارجة عن الفضيلة، فقد ينبغي أَن نقول هاهنا في الأَشياءِ التي تؤخذ منها المقدمات في المدح وبغير الفضائل ليكون القول في ذلك عاما.

فنقول: إِن الجميل هو الذي يختار من أَجل نفسه، وهو ممدوح وخير ولذيذ من جهة أَنه خير. وإِذا كان الجميل هو هذا فبين أَن الفضيلة جميلة لا محالة لأَنها خير وهي ممدوحة.

والفضيلة: هي ملكة مقدرة بكل فعل هو خير من جهة ذلك التقدير، أَو يظن به أَنه خير، أَعني الحافظة لهذا التقدير والفاعلة له، ولذلك كانت موجودة لكل فعل يقصد به نحو غاية ما، جليل القدر، عظيم الشأْن في حصول تلك الغاية عنه.

فأَما أَجزاءُ الفضيلة: فالبر أَي العدل العام والشجاعة والمروءَة والعفة وكبر الهمة والحلم والسخاء واللب والحكمة. وهذه الفضائل منها ما هي فضائل في ذات فقط، ومنها ما هي فضائل من جهة أَنها تفعل في أُناس آخرين. وهذه التي تفعل في أُناس آخرين تكون أَعظم عند قوم منها عند آخرين، وفي حال دون حال. مثال ذلك أَن فضيلة الشجاعة آثر في وقت الحرب منها في وقت السلم. وأَما فضيلة العدل فمؤثرة في السلم والحرب جميعا. وفضيلة السخاءِ والمروءَة عند المحاويج آثر منها عند غير المحاويج. وإِنما تنفصل فضيلة المروءَة من السخاءِ بالأَقل والأَكثر، لأَن فعل كلتيهما هو في المال، لكن المروءة هي فعل أَكثر من فعل السخاءِ.

فأَما البر فهو فضيلة عادلة يعطى الفاضل بها لكل امرئ من الناس ما يستحق وذلك بقدر ما تأْمر به السنة. والجور هو الخلق الذي يأْخذ به المرء الأَشياء الغريبة التي ليس له أَن يأخذها في السنة.

وأَما الشجاعة ففضيلة يكون المرءُ بها فعالا للأَفعال الصالحة النافعة في الجهاد على حسب ما تأمر به السنة حتى يكون بفعله ذلك خادما للسنة، وأَما الجبن فضد هذا.

وأَما العفة ففضيلة يكون بها المرءُ في شهوات البدن على مقدار ما تأمر به السنة، والفجور ضد هذا.

وأَما السخاءُ ففضيلة تفعل الجميل المشهور في المال، والدناءة ضد هذا.

وأَما كبر الهمة ففضيلة يكون بها حسن الأَفعال العظيمة. وصغر النفس والنذالة ضدها.

وأَما اللب ففضيلة العقل الذي يكون به حسن المشورة والروية مع وجود الفضائل الخلقية له التي هي من صلاح الحال. فهذا هو القول في الفضيلة وأَجزائها بقدر ما يحتاج إِليه في هذه الصناعة. وأَما سائر الأَشياءِ التي يمدح بها مما عدا الفضيلة فليس يعسر الوقوف عليها. وذلك أَنه معلوم أَن فاعلات الفضائل مثل التأَدب والارتياض بالأَشياءِ التي بها تحصل الفضائل هي أَمور حسان وممدوح بها. وأَما الأَشياء التي توجد في الفضائل أَنفسها، أَعني الأَعراض التي توجد فيها والأَشياءَ التي توجد تابعة للفضائل فهي التي يقال فيها الآن وهي علامات الفضائل. وأَعراضها اللاحقة لها وأَفعالها إِنما يمدح بها إِذا كانت حسنة محمودة، فإِن كثيرا من أَفعال الفضائل قد لا يمدح بها، وكذلك كثير من الأَعراض. فمثال الأَفعال والأَعراض التي هي محمودة أَفعال الشجعان في الحرب أَو مَنْ فعل في الحرب فعلهم، وإِن لم تكن لهم ملكة الشجاعة. وكذلك الأَعراض التي تلحق الشجعان مما يمدح بها. ومثال الأَفعال التي لا يمدح بها في وقت ما بذلُ المال، فإِنه فعل من أَفعال السخاءِ. لكن ربما كان ذلك الفعل على جهة التبذير. ومثال الأَعراض التي لا يمدح بها انفعال المرءِ عن العدل وقبوله إِياه، وذلك أَن فعل العل ممدوح، وأَما الانفعال عنه فليس بممدوح، لأَنه يظن به أَنه مهانة وضيم. وبالجملة فأَفعال الفضائل إِنما تكون ممدوحة إِذا كانت مقدرة تقدير العدل. ومما يمدح بها الأَفعال العظيمة الشاقة التي جزاؤها الكرامة فقط. فإِن الأَفعال التي يكون جزاؤها الكرامة خير من الأَفعال التي جزاؤها المال. ولذلك إِذا كان فعل يجازي عليه بالأَمرين جميعا، ففَعَلهُ فاعلٌ من أَجل الكرامة فقط، مدح به وكل مايفعله المرءُ من الفضائل لا من أَجل نفسه مدح به. وفعل الأَشياءِ التي هي خيرات بإِطلاق كذلك مما يمدح به. ولأَشياء التي في طبيعتها خيرات، وإِن كانت ضارة للفاعل، يمدح بها أَيضا، مثل فعل العدل. فإِن العادل كثيراً ما يستضر به. والأَفعال التي تختص بإِكرام الأَموات ممدوحة لأَن الأَفعال التي تكون للأَحياءِ إِنما يقصد منها المرءُ أَكثر ذلك منفعة نفسه. وبالجملة فكل فعل كان المقصود به الغير ولم يكن ينتفع به الفاعل له أَو كان يلحقه منه ضررٌ فهو ممدوح به. والفعل الذي يكون إِلى المحسنين إِلى الناس ممدوح به أَيضا، لأَن هذا هو عدل، إِذ كان ليس ينتفع به الفاعل له. ومما يدل على أَن الإِنسان ذو فضيلة أَن لا يفعل الأَفعال التي يفتضح بها أَهل الفواحش وأَن يؤدّبهم بالقول والفعل. وكذلك نصرة ذوي الفضائل ومحمدتهم مما يمدح به. والخجل عند ذكر القبائح مما قد يدل على الفضيلة، لأَنه يظن به أَن الحياءَ يمنعه عن إِتيان تلك الرذيلة. وقد يكون أَيضا عدم الحياء عند ذكر الفواحش علامة يمدح بها، وذلك أنه قد يظن أَن الإِنسان إِنما يستحي عند ذكر القبائح إِذا كان قد فعلها أَو نالها أَو هو مزمع أَن يفعلها. مثل ما حكى أَرسطو أَنه عرض لامرأَة مشهورة بالحكمة عندهم، وذلك أَن إِنسانا مشهورا عرّض لها بالقبيح، بأَن قال لها: إِني أُريد أَن أَقول قولا يمنعني عنه الحياء، فحلمت عنه ولم تجبه بقول قبيح ولم يدركها من ذلك تأَلم ولا انفعال، لأَنها كانت ترى لمكان فضيلتها أَن أَحدا لا يعرّض لها لا بمثال ولا بقول كلي، وهما صنفا التعريض، لكنها في تلك الحال جعلت تنص الفضائل وتمدح أَهلها وتتعصب لهم وتحامي عنهم. وكان أَيضا مَنْ معها لم يأْنفوا أَيضا لقول ذلك ولا لتعريضه لعلمهم أَن مثلها لا يتهم بمثل هذا.

قال: ولذلك كان التعصب للأَشياءِ التي تكسب المجد والمحاماة عنها قد تجعل المتعصب لها والمحامي عنها من أَهل الفضائل التي لا تحصل للإِنسان إِلا بمجاهدة كبيرة للطبيعة مثل العفاف والشجاعة وغيرها وذلك إِذا صارت له ملكة بترداد فعلها والتعصب لها والمحاماة عنها كما عرض لهذه المرأة التي اقتصصنا ذكرها مع ذلك الرجل. وذلك أَن أمثال هذه الأَفعال قد يصير بها الإنسان من أَهل الفضائل التي لا تحصل للإِنسان إِلا بمجاهدة كبيرة. قال: والإِنعام على الغير إِذا لم يستفد المنعم منه شيئا هو مما يمدح به. ولذلك ما كان العدل والبر قد يمدح بهما الإِنسان من جهة أَنهما نافعان كما يمدح بهما من جهة ما هما جميلان. والانتقام أَيضا من الأَعداءِ ولا يرضى عنهم في حال مما يمدح به. فإِن الانتقام منهم هو جزاء، والجزاءُ عدل، والعدل جميل. ومحبة الغلبة أَيضا ومحبة الكرامة مما يمدح بهما لأَنهما علامتان تدلان على إِثار الفضائل لا لمكان اكتساب مال بهما. أَما محبة الغلبة فتدل على إِيثار الشجاعة. وأَما محبة الكرامة فعلى إِيثار جميع الفضائل. ولذلك كانت الفضائل الأَثيرة المختارة هي التي ليس يقصد بها مقتنيها إِلى اكتساب مال لأَن ذلك يدل على شرف الفضيلة. ومن الأَفعال التي يمدح بها التي شأنها أَن يبقى ذكرها محفوظا أَبدا عند الناس. ومن الأَشياء التي يمدح بها الهيئات المحمودة عند قوم التي يجعلونها علامة لذوي الشرف مثل توفير الشعور عند اليونانيين، فإِنه يدل على الشرف، إِذ كان ليس كل أَحد يسهل عليه توفير شعره، لأَن الموفورى الشعور لا يعملون عمل من ليس بموفور الشعر ولا يمتهنون بأَي مهنة اتفقت. والأَزياءُ التي كانت تتخذ عندنا هي من هذا النوع الذي ذكره أَرسطو.

قال: ومن الشرف أَلا يحتاج الإِنسان إِلى آخرين، بل يكون مكتفيا بنفسه.

قال: وقد ينبغي أَن نأخذ في المدح والذم الأُمور القريبة من الفضائل والنقائص، وهي النقائص التي قد توجد عنها أَفعال الفضيلة، أَو الفضائل التي قد توجد عنها أَفعال النقائص: فيمدح بالنقائص التي توجد عنها أَفعال الفضيلة بأَن يوهم أَنها فضائل من أَجل أَن تلك الأَفعال هي من أَفعال الفضائل. وكذلك يوهم في الفضائل أَنها نقائص من أَجل أَنه عرض أَن وجد عنها أَفعال النقائص. فمثال النقائص التي توجد عنها أَفعال الفضائل فتوهم أَنها فضائل: العىّ الذي قد يكون عنه أَفعال الحليم، فيوهم به أَنه حليم، والبله الذي قد توجد عنه أَفعال ذوي السمت فيوهم بذلك أَنه ذو سمت. وكذلك العديم الحس قد يوهم فيه أَنه عفيف إِذ كان قد يوجد له فعل العفيف بالعرض. وكذلك المتهور قد يوهم فيه أَنه شجاع، والسفيه أَنه كريم.

ومثال ما يوهم به أَنه نقيصة، وليس بنقيصة، ما يعرض للكبير الهمة من أَن يتجافى عن الأُمور اليسيرة فيظن به أَنه يغلط وينخدع. والكبير الهمة إِنما يصنع ذلك في الأُمور اليسيرة التي ليس يلحقه منها خوف كبير ولا ضرر شديد. وذلك أَيضا في الموضع الذي يحسن فيه أَن يتغافل عنها. وقد يوهم أَيضا هذا الموضوع عكس هذا، وهو أَن يقال في المنخدع إِنه كبير الهمة. ومما يمدح به أَن يكون المرءُ يُعطي أَصدقاءه وغير أَصدقائه ومن يعرف ومن لا يعرف، لأَنه يظن أَن شرف فضيلة السخاءِ هو بذل المال للكل.

قال: وقد ينبغي أَن يكون المدح بحضرة الذين يحبون الممدوح، كما قال سقراط: إِنه يسهل مدح أَهل أَثينية بأَثينية. وينبغي أَن يمدح كل إِنسان بالذي هو ممدوح عند قومه وأَهل مدينته، إِذ كان ذلك يختلف.

قال: ومن المدح بالأَشياءِ التي من خارج مدحُ الآباءِ وذكرُ مآثرهم المتقدمة، ومدح المرء بما تسمو إِليه همته من المراتب وإِنه ليس يقتصر على ما حصل له منها. والرجل الكبير الهمة الذي لا يقتصرب بهمته على ما نال من المراتب يمدح بهذين الأَمرين من خارج، أَعني بفضائل آباؤه وبما يؤمل أَن يسمو نحوه، كما يقال: من أَي مآثر ابتدأَ من قبل آبائه، وإِلى أَي مآثر ينتهي من قبل همته. وأَما الذي لا يسمو بهمته إِلى نيل أَكثر مما حصل له من المرتبة، فإِنما يمدح من الأَمرين الذين من خارج بأَبآئه فقط. وكأَنه يرى هاهنا أَن المدح بمناقب الآباءِ ليس ينبغي أَن يقتصر عليه دون أَن يمدح بفضيلة ذاته، كما قال الشاعر:

لسنا وإِن كرمت أَوائلنا ... يوما على الأَحساب نتكل

نبني كما كانت أَوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا

وإِنه قد يقتصر بالمدح على الفضيلة دون ذكر الآباءِ كما قال:

نفس عصام سوّدت عصاما قال: وإِنما يكون المدح على الحقيقة بالأَفعال التي تكون عن المشيئة والاختيار، فإِن الفعل الذي يكون بالمشيئة والاختيار هو الفعل الفاضل. والذي يمدح بالأَشياءِ التي تكون بالاتفاق أَو بالعرض من أَجل أَن لها إِذا اقترنت بالفضائل تزيينا لها وتفخيما بمنزلة الحسب المقترن إِلى الفضيلة وجودة البخت المقترن بأَفعال الفضائل. وإِنما يدخل في المدح الأَفعال التي تكون باتفاق والأَعراض التي تقترن بالعرض مع الأَفعال التي تكون بالمشيئة متى تكررت مرارا كثيرة على صفة واحدة حتى أَوهمت أَنها بالذات، وذلك أَنه إِذا عرض لها ذلك ظن بها أَنها علامة للفضيلة، مثل أَن يخجل الإِنسان مرارا كثيرة بالاتفاق في مواضع يمدح الخجل فيها.

وإِنما دخلت هذه الأَشياءُ في المديح لأن المديح هو قول يصف عظم الفضيلة، وهذه الأَشياءُ هي مما تعظم بها الفضيلة. وإِذا استعملت هذه الأَشياءُ في المديح، فينبغي أَن تستعمل على أَنها حدثت عن الروية. والأَشياءُ التي بالاتفاق: منها أَشياء ليس الإِنسان سببها لا بالذات ولا بالعرض، مثل الحسب والمنشأ الفاضل، ومنها أَشياء تعرض عن الأَفعال التي تكون عن الروية. فأَما الاتفاقات المتقدمة على الإِنسان فتؤخذ في تقرير الفضيلة وتثبيتها، مثل ما يقال في المدح: إِن الخيار يولد في الخيار، وفي الذم: إِن الحية تلد الحية. والأَفعال بالجملة هي التي عليها يحمد الفاعل. وأَما آثار الأَفعال فهي دلائل على الفعل. وإِنما يمدح بها إِذا أَثبتنا منها الفعل.

قال: وجودة البخت التي قيل فيما تقدم إِنها السعادة على ما يراه الجمهور هي وسائر الأَشياء الاتفاقية التي يمدح بها واحدة في الجنس، وليست هي والفضائل واحدة بالجنس. بل كما أَن صلاح الحال جنس للفضيلة، أَعني محيطا بها، كذلك ما يحدث بالاتفاق جنس يحيط بالسعادة. وهذان الجنسان، أَعني الفضائل وما بالاتفاق، يدخلان جميعا في باب المدح وفي باب المشورة، لكن من جهتين مختلفتين. وإِنما كان الأَمر كذلك، لأَنا إِذا عرفنا الأَشياءَ التي يجب أَن تفعل، فقد عرفنا الأَشياءَ التي إِذا فعلت مدح بها الإِنسان. ولذلك إِذا ذكرت هذه الأَشياء ذكرا مطلقا، أَمكن أَن تدخل في المشورة وفي المدح، وذلك بزيادة الجهة التي بها تدخل في المشورة أَو الجهة التي بها تدخل في المدح. وذلك مثل ما يقول القائل: إِنه ليس ينبغي أَن يوجب العظم والفضل للأَشياءِ التي تكون للإِنسان بالعرض، بل للأَشياءِ التي تكون عن رويته واختياره. فإِذا زيد إِلى هذا: فلذلك ليس ينبغي أَن يمدح الذين سعادتهم بالبخت، وإِنما ينبغي أَن يمدح الذين سعادتهم عن روية واختيار كفلان، كان داخلا في باب المدح. وإِذا زيد إِلى هذا: فلذلك لا ينبغي أَن تطلب الأَشياء التي تكون عن الاتفاق بل الأَشياء التي تكون عن الروية، دخل في المشورة. والأَشياءُ الاتفاقية قد يمكن أَن تستعمل في المديح تارة وفي الذم أُخرى، فإِن ظنون الناس فيها مختلفة. فإِن قوما يرون أَن الخيرات التي تكون بالاتفاق ليس ينبغي أَن يمدح بها، إِذ كانت شيئا غير محصل ولا مكتسب للإِنسان؛ وقوم يرون أَنه يجب أَن يمدح بها وأَنها تدل على عناية إِلاهية بالذي تعرض له. وأَما الأَشياءُ التي عن الاختيار، فالممدوح منها يمدح به أَبداً، والمذموم منها يذم به أَبداً. قال: وينبغي أَن يستعمل في المدح الأَشياء التي يكون بها تعظيم الشيء وتنميته، وهو أَن يخيل في الشيءِ أَنه بالقوة أَشياء كثيرة، وذلك إِذا قيل إِنه أَول من فعل هذا، كما قيل في قصة هابيل وقابيل، أَو إِنه وحده فعل هذا، أَو إِنه فعل في زمان يسير ما شأْنه أَن يفعل في زمان كثير، أَو إِنه فعل فعلا كبيرا. فإِن هذه كلها إِنما تفيد عظم الفعل. وكذلك إِذا قيل إِنه فعل في زمان يعسر فعله، وذلك إِذا كان بحسب ما يشاكل إِنسانا إِنسانا. ثم إِنه إِن كان الفاعل ممن يقتدى به في أَفعاله وأَقواله مرارا كثيرة فإِن فعله عظيم، كما قيل: إِنكم أَيها الرهط أَئمة يقتدى بكم. والأَفعال التي يقتدى بها ليست هي الأَفعال التي تكون بالاتفاق، بل الأَفعال التي تكون عن المشيئة والروية. وهذه الأَشياءُ قد يمكن أَن تدخل في المشورة، أَعني الأَشياءَ التي تعظم الشيء، مثل أَن يشار على المرءِ أَن يتشبه بالممدوح الأَول في ذلك الجنس، أَو يتشبه به في المدح؛ أَو يشار عليه أَن يكون من جملة الممدوحين الذين لا ينازع أَحد في حمدهم، مثل الذين يمدحون في الأَسواق، أَو يتشبه بهم في المدح. ومما يعظم الممدوحين أَن يقاسوا بالذين يفعلون أَضداد أَفعالهم، وذلك عند ذكر أَفعالهم الفاضلة.

قال: والذين شأْنهم أَن يتشبهوا بالممدوحين الذين في الغاية، ويقاسوا أَنفسهم معهم دائما، فقد ينبغي أُن يشبهوا بأُولئك، وأَن يجروا مجراهم في المدح، وإِن لم يكونوا وصلوا مراتبهم، فإِن فضائلهم في نمو دائم. ومقايسة الإِنسان نفسه مع غيره لا تصح إِلا من الرجل الفاضل، لموضع حب الإِنسان لنفسه، فهو يرى نقائصه أَقل من نقائص غيره وإِن كانت أَعظم، ويرى فضائله أَكثر وإِن كانت أَصغر. ولذلك ليس كل أَحد يستطيع المقايسة، وإِنما يستطيعها الفضلاءُ من الناس، مثل ما حكى أَرسطو عن سقراط أَنه كان يقايس بينه وبين غيره، ويجرى الأَحكام على أَخلاق نفسه، بمعنى أَنه كان ينظر بينه وبين غيره، فإِن وجد فيه فضيلة أَثاب نفسه عليها، وإِن وجد فيه رذيلة عاقب نفسه عليها. والمقايسة النافعة لمن يريد أَن يتزيد في الفضائل إِنما ينبغي أَن تكون بالممدوحين جدا. وقد يدل على أَن أَمثال هؤلاءِ ممدوحون، أَعني الذين فضائلهم في نمو دائم، أَن الذين أَجهدوا أَنفسهم في أَن يبلغوا مبلغ الفاضلين، فعجزوا عن ذلك، فهم ممدوحون عند الجمهور. وهو بيّن أَن تعظيم الشيء داخل في المدح. فإِن التعظيم للشيءِ تشريف له، والتشريف من الأُمور التي يمدح بها. وينبغي إِذا أُريد التعظيم بالتشبيه أَن يشبه بكثير من المحمودين، فإِن في هذا الفعل تشريفا للممدوح ودلالة للجمهور على فضيلته. وجملة القول في الأَنواع المشتركة لأَجناس الأَقاويل الثلاثة أَن التعظيم، وإِن كان مشتركا لأَجناس الأَقاويل الخطبية الثلاثة، فهو أَخص بالمدح والذم، لأَنه إِنما يمدح الإِنسان أَو يذم بالأَشياءِ الموجودة المعترف بوجودها. وتعظيم الشيء أَخص بالموجود منه بالمعدوم. ولذلك قيل قد ينبغي للمادح أَن يصف جلالة الشيء وبهاءه وزينته. وأَما استعمال العلامات والمثالات فهو أَخص بالمشورة، لأَن من الأُمور المتصرمة التي قد سلفت نحدس على التي ستكون. وإِعطاء السبب والعلة من الأَشياء التي قد سلفت نحن له أَكثر قبولا وتعظيما لانقضائه وتصرمه. وأَما معرفة العدل والجور فهو خاص بالمشاجرية.

وبالجملة: فجميع المدح والذم إِنما يكون بالمقايسة بمن سلف من المحمودين والمذمومين. وقد ينبغي للمادح والذام أَن يعلم بحضرة مَنْ يكون المدح أَو الذم، أَعني أَن يمدح بحضرة الأَصدقاءِ، ويذم بحضرة الأَعْداءِ. كما ينبغي له أَن يعلم المواضع التي يأْخذ منها المدح والذم وهي التي سلف ذكرها، وهي الفضائل وفاعلاتها وعلاماتها وأَعراضها. وهو بيّن أَن مما ذكرناه من حدود هذه الأَشياءِ تعرف حدود أَضدادها، إِذ كان الضد يعرف من ضده. وإِذا كانت هذه معروفة لنا من أَضدادها، وكان الذم إِنما يكون بأَضداد تلك، فهو بيّن أَنا قد عرفنا من هذا القول ليس الأَشياء التي يكون بها المدح فقط، بل والأَشياء التي يكون بها الذم.

القول في الشكاية والاعتذار

قال: وإِذ قد تكلمنا في الأُمور المشورية، وفي المدح والذم، فقد ينبغي أَن نتكلم في الجنس الثالث من موضوعات هذه الصناعة وهو الشكاية والاعتذار، وذلك يكون بأَن نخبر من كم صنف من أَصناف المقدمات تأْتلف القياسات التي تعمل على طريق الشكاية وطريق الاعتذار، ونعرف ماهية واحد واحد من تلك الأَصناف. وأَصناف المقدمات التي تعمل منها أَقاويل الشكاية هي بالجملة ثلاثة أَصناف: أَحدها المقدمات المأْخوذة من الفاعل، أَعني الجائر. والصنف الثاني المقدمات المأْخوذة من المفعول، أَعني المجور عليه. والثالث المقدمات المأْخوذة من الفعل نفسه. أَما المأْخوذة من الفاعل فمعرفتها تكون بأَن تحصى الأَشياء التي إِذا كانت في الإِنسان ظن به أَنه قد جار، وأَن نخبر ما تلك الأَشياء. وأَما المأْخوذة من المفعول به فأَن نحصى أَيضا الأَشياء التي إِذا كانت في الإِنسان كان معدا لأَن يجار عليه. وأَما المأْخوذة من الفعل فأَن نخبر أَيضا بماذا من الأَفعال يكونون جائرين، وبأَي أَحوال من أَحوال الأَفعال يتأَتى الجور، وكيف يتأَتى ذلك لهم.

قال: وقد ينبغي قبل ذلك أَن نخبر ما الجور، ثم نصير إِلى القول في واحد واحد من هذه الأَشياءِ الثلاثة، فنقول: إِن الجور: هو إِضرار يكون طوعا على طريق التعدي للسنة. والسنة على ضربين: منها خاصة، ومنها عامة.

والسنن الخاصة هي السنن المكتوبة التي لا يؤمن أَن تنسى إِن لم تكتب، وهي التي تخص قوما قوما وأُمة أُمة.

وأَما العامة فهي السنن الغير المكتوبة التي يعترف بها الجميع، مثل بر الوالدين وشكر المنعم.

والفعل يكون طوعا إِذا فعله الفاعل عن علم به غير مكره عليه إِكراها محضا، أَو غير ذلك مما يذكر بعد، ويكون مع هذا ذلك الفعل مما يهواه ويتشوقه. والأَفعال التي تكون طوعا: منها ما يكون عن روية واختيار متقدم لها، ومنها ما يكون لا عن روية متقدمة، لكن عن ضعف روية، لمكان خلق رديء أَو عادة. وهو بيّن أَن الذي يفعل الشيء عن روية متقدمة أَنه يفعله عن علم. وإِذا كان الأَمر هكذا، فهو بيّن أَن الذين يفعلون عن الروية أَو عن ضعف الرأي أَفعالا ضارة أَو غاشة، أَعني مختلطة من ضرر ومنفعة، يتعدون فيها السنة، أَنهم جائرون، وأَن ذلك شر منهم أَو ضعف رأي. وأَن من كانت فيه واحدة من الأَشياءِ التي هي سبب ضعف الرأي، وكان هو سبب وجود ذلك الشيء فيه أَنه جاهل شرير جائر، مثل الجور في المال الذي يكون سببه الرغبة فيه، والجور في اللذات الذي سببه شدة الشبق والشره، والكسل الذي هو سبب الجور في أَشياء كثيرة، وكذلك الجبن. ولذلك قد يفارق الجبان أَصحابه ويسلمهم عند أَدنى شدة تنزل به. وكذلك محب الكرامة قد يفارق أَصحابه من أَجل حب الكرامة. وكذلك المحبون للغلبة يفارقون أَصحابهم من أَجل حب الغلبة. والسريع الغضب وذو الحمية أَيضا والأَنفة قد يضر بأَصدقائه من أَجل عار يلحقه. وأَما الجاهل الأَحمق فإِنما يفعل الجور من أَجل أَنه يلتبس له العدل بالجور. وأَما الوقاح فيفعل الجور لقلة رغبته في الحمد.

وكذلك ما أَشبه هذا من الأَحوال التي تكون سببا للجور لا عن روية. وهذه الأَحوال تعرف من قبل ما تقدم من ذكر الفضائل، ومما يأتي بعد من ذكر الانفعالات، وأَنها بالجملة: إِما خلق رديء وإِما انفعال رديء. والأَخلاق الرديئة تعرف مما تقدم، أَعني من معرفة أَضدادها، وهي الفضائل. والانفعالات تعرف مما يقال بعد في المقالة الثانية. قال: وإِذا تقرر هذا، فقد انتهى القول بنا إِلى أَن نخبر من أَجل ماذا يجور الجائرون، وكيف يكون للجائرين أَن يجوروا، وفي أَي الأَشياءِ يجورون. غير أَنه يجب أَن نبتدئ فنبيّن أَيّ الأَشياء التي من أَجلها يجورون، أَعني الأَشياء التي إِذا اشتاقوها جاروا، أَو إِذا كرهوها جاروا أَيضا. وهو بيَّن أَن القول في الشكاية ينبغي أَن يقدم على القول في الاعتذار، لأَن الذي يريد أَن يشكو يجب أَن يكون معروفا عنده الأَشياء التي يُشكى منها، وكم هي، وأَي هي. وأَما مواضع الاعتذار فليست محدودة كمواضع الشكاية. وإِنما تتحدد مواضع الاعتذار بحسب مواضع الشكاية. والشكاية أَمر وكيد في الاجتماع الإِنساني. ولذلك ترى كثيرا من الناس، إِذا لم يشكوا، أَضروا بأَقربائهم وإِخوانهم. وكل فاعل شيئا على طريق الجور، فإِما أَن يفعله من أَجل نفسه ومن ارادته واختياره فقط، وإِما أَلا يفعله بحسب نفسه واختياره. وهذا إِما أَن يفعله باتفاق وهو الذي يسمى هفوة وفلتة، وإِما أَن يفعله باضطرار: منه ما يفعله من أَجل طبيعته مثل أَن يكون سيء الخلق بالطبع، ومنه ما يفعله من أَجل قاسر من خارج، أَعني أَن لا يكون الفعل الذي يفعله طوعا، بل عن وعيد من خارج أَو تهديد وما أَشبه ذلك. والذي يفعله من تلقاءِ نفسه هو الذي تكون نفسه ومفردا علة كونه، لا شيء آخر يقترن به من خارج. والذي يفعله من تلقاءِ نفسه: منه ما يكون من قبل عادة رديئة أَو خلق رديء، ومنه ما يكون بحسب شهوة وشوق. والذي يكون بحسب الشوق: منه ما يكون بحسب شوق مظنون نطقي، ومنه ما يكون بحسب شوق خيالي. والذي يكون بحسب شوق خيالي: منه ما يكون بحسب شوق غضبي، ومنه ما يكون بحسب شهوة. وإِذا كان هذا هكذا، فالجائرون يجورون لا محالة لمكان سبعة أَسباب: أَحدها لمكان الاتفاق، والثاني لمكان الطبيعة، والثالث لأَجل الاستكراه، والرابع لأَجل العادة والخلق، والخامس من أَجل النطق، والسادس من أَجل الغضب، والسابع من أَجل الشهوة؛ وكلها ما عدى الذييكون عن النطق هي أَقسام ضعف الرأي الذي تقدم.

قال: وليست قسمة الأَفعال الجائرة من طريق الأَسنان والهمم والجدود قسمة ذاتية. لأَن الغلمان وإِن كان جورهم أَكثر فليس ذلك أَولاً وبالذات من جهة ما هم غلمان، بل من جهة أَن الغلمان يكونون غضوبين أَو شهوانيين. وكذلك يعرض للفقراءِ أَن يشتاقوا إِلى المال أَكثر من الأَغنياءِ بسبب فاقتهم، كما يعرض للأَغنياءِ أَن يشتاقوا إِلى المال لمكان اللذات الغير الضرورية أَكثر من الفقراءِ. فمتى نسب الأَغنياء أَو الفقراء إِلى الجور في جنس ما من الأَجناس فليس سبب ذلك القريب الغنى والفقر، بل الشهوة والخلق الذي تكتسب النفس عن الفقر والغنى. وكذلك الحال في الهمم، أَعني أَنه إِن نسب شيء منها إِلى الجور فليس ذلك بذاته وأَولا، بل من قبل أَن الهمم تكون سببا لواحد أَو لأَكثر من واحد من تلك الأَسباب السبعة التي هي أَولا وبالذات أَسباب الجور. ولذلك كان الأَبرار والفجار وسائر الذين يقال فيهم إِنهم يفعلون بحسب هممهم إِنما يفعلون: إِما عن واحد من تلك الأَسباب السبعة المتقدمة أَو عن أَكثر من واحد، وإِما عن أَضدادها، وهم ذوو الهمم الجميلة؛ أَعني أَن الفجار يفعلون عن تلك الأَسباب، والأَبرار عن أَضدادها. مثال ذلك أَن العفيف تلزمه شهوات فاضلة لذيذة، والفاجر تلزمه شهوات رديئة. ولذلك قد يجب أَن يترك هذا النحو من التقسيم هاهنا وتذكر هذه الأَشياء بأَخرة على أَنها أَسباب لهذه الأَسباب السبعة، لا على أَنها أَسباب أُولى لأَفعال الجور. وأَما التي هي أَسباب بالعرض فينبغي أَن نتجنب ذكرها هاهنا أَصلا، مثل أَن يكون المرءُ أَسود أَو أَبيض أَو ضخما أَو نحيفا. فإِن هذه قد يلحقها بالعرض اختلاف الأَخلاق والشهوات. وإِنما ينبغي أَن نذكر هاهنا من أَسباب هذه الأَشياء، أَعني الأَسباب السبعة التي عددنا قبل، الأَعراض التي تغير الخلق بالذات سواء كان نفيسا أَو جسمانيا أَو من خارج مثل الشيخوخة والصّبا والفقر والغنى. فإِن المرءَ إِذا افتقر ظن بنفسه صغر القدر واستحيا من كل شيء يصنعه، وإِذا أَثرى ظن بنفسه العظم ولم يستح من شيءٍ. لكن هذه سيقال فيها فيما بعد. وأَما هاهنا فنرجع إِلى ما كنا بسبيله، فنقول: إِنه إِذا تبينت الأَسباب الفاعلة للجوْر، تبينت الأَسباب الغائية لواحد واحد منها. أَما الذين يجورون بالاتفاق فليس لهم غاية محدودة، ولذلك لا يكون جوْرهم دائما ولا أَكثريا ولا يكون عن ملكة وهيئة ثابتة. وهذا معلوم من قبل طبيعة ما بالاتفاق. وذلك أَن الاتفاق إِنما يكون سببا للأَشياءِ على الأَقل، على ما قيل في كتاب البرهان. وأَما الجور الذي يكون عن طبيعة الجائر وغريزته فهو عن هيئة ثابتة راسخة.

والأَفعال التي تصدر عن هذه الطبيعة هي أَبداً بصفة واحدة، وذلك إِما دائما وإِما أَكثريا. وغايتها هي غاية الانفعالات الرديئة التي سيقال فيها فيما بعد. وأَما ما كان منه عن حالة خارجة عن الطبع مثل الجنون وغير ذلك من الآفات التي ليست تجرى مجرى الطبع فقد يظن أَنه منسوب إِلى الاتفاق، وليس ينسب إِلى شيءٍ بالذات. وأَما الأَفعال التي تكون عن الإِكراه، أَعني التي هي باختيار ولكن مبدؤها الإِكراه، فغايتها هي غاية الأَفعال الجائرة التي تكون باختيار؛ إِذ كان الإِكراه يعرض لجميع الأَفعال التي تفعل باختيار. وأَما الجور الذي يكون عن الروية والفكر فغايته: إِما الأَشياء التي يظن بها أَنها نافعة وهي الأَشياءُ التي ذكرت في باب المشورة، وذلك هو الشيء الذي يظن به أَنه خير إِما من جهة أَنه يظن به أَنه غاية نافعة أَو أَنه نافع في الغاية النافعة، وإِما الأَشياءُ اللذيذة.

ولذلك قد يفعل الفجار النافعة كثيراً من أَجل اللذة.

وأَما الجور الذي يكون عن الغضب فغايته الأَخذ بالثأر. والأَخذ بالثأر هو شيء غير العقوبة، لأَن العقوبة إِنما تكون لمكان المعاقب وذلك إِما للأَصلح له أَو للأَصلح للمدينة، أَو لمكان الالتذاذ بنفس معاقبته. وهذه هي المعاقبة السبعية. وأَما الثأر فإِنما هو قصد مساواة الجناية التي جنى، أَعني أَن يجني عليه بمثل ما جنى. وهذه هي الغاية من الثأر التي يعرضها في نفسه الآخذ به. فأَما معرفة حد الغضب ما هو ومعرفة لواحقه فسيقال فيه بعد، وذلك عند ذكر الانفعالات. وأَما التي تكون بالخلق أَو بالعادة فإِنما تكون لمكان اللذة، وكذلك التي تكون عن الشهوة. ولذلك جميع الأَشياء التي يظن بها أَنها لذيذة فإِنما تفعل من قبل سبب واحد من هذه الأَسباب الأَربعة التي يفعل بها المرءُ من تلقاءِ نفسه، أَعني الروية والغضب والخلق والعادة والشهوة.

واللذات التي تكون عن الخلق والعادة قد تكون على وجوه شتى، أَعني أَن منها ما هو طبيعي، ومنها ما ليس هو طبيعيا، وإِنما يلتذ بها من قبل العادة. وبالجملة فجميع الذين يفعلون الجور من تلقاءِ أَنفسهم، فإِنما يفعلون ذلك إِما من قبل أَشياء هي في الحقيقة خيرات أَو يظن بها أَنها خيرات، وإِما من قبل أَشياء هي في الحقيقة لذيذات، أَو من قبل أَشياء يظن بها أَنها لذيذات. لأَن الذين يفعلون من تلقاءِ أَنفسهم إِنما يفعلون لمكان خير عاجل أَو آجل. ولذلك قد يفعلون لمكان شر ينالهم، إِذا اعتقدوا أَنهم ينالون به خيراً أَعظم من الخير الذي يفقدون بحدوث الشر، أَو اعتقدوا أَنه يندفع عنهم بذلك شر عظيم أُو يكون اللاحق منه يسيراً. ولذلك قد نختار أَيضا تعجيل المحزنات والمؤذيات، إِذا اعتقدنا أَننا ننال بها في الآجل خيراً أَعظم أَو شراً أَقل من الشر العظيم الذي يتوقع حدوثه إِن لم نفعل ذلك الشيءَ. ويستعمل هذا النحو من القصد في وجوه شتى. وإِذ قد تبين أَن الذي يشتاقه الجائر فهو إِما نافع وإِما لذيذ، فقد ينبغي أَن ننظر هاهنا في النافعات واللذيذات كم هي وأَي هي. لكن الأَشياء النافعة قد تقدم القول فيها في باب المشورة. والذي بقي أَن نفرد القول فيه هاهنا هو القول في اللذيذات. والقول فيها هاهنا وتوفية حدودها إِنما يكون بحسب الكافي في هذه الصناعة وهي الحدود المشهورة وإِن لم تكن حقيقية، فنقول الآن: إِن اللذة هو تغير إِلى هيئة تحدث بغتة عن إِحساس طبيعي للشيء الذي أَحس، أَعني إِذا كان المحسوس طبيعيا للحاس. والحزن والأَذى ضد هذا، أَعني أَنه تغير إِلى هيئة تحدث بغتة عن إِحساس غير طبيعي. وإِذا كانت اللذة هذه صفتها، فهو بيّن أَن الذيذ هو المحسوسات التي تَفعلُ هذه الهيئة في النفس. والمؤذيات ضد هذه، أَعني المفسدات لهذه التي تفعل ضد هذه الهيئة في النفس الحسية. وإِذا كانت اللذيذات هي هذه، فمن الواجب أَن ما كان منها بالطبع بهذه الصفة أَن يكون أَكثر لذة ولا سيما إِذا كانت هذه الهيئة انفعالا لا فعلا. وإِنما صار الذي بالخلق والعادة لذيذا، لأَن الشيء الذي يتخلق به أَو يعتاد يصير كالشيءِ الذي هو بالطبع لذيذ دائما من قبل أَن العادة تشبه الطبيعة. وذلك أَن الذي يكون مراراً كثيرة قريب من الشيء الطبيعي وهو الذي يكون دائما. والعادة تكون مراراً كثيرة، فهي قريبة من الأَمر الطبيعي. والأَمر الطبيعي يكون بلا استكراه. ولذلك كان الإِكراه مؤذيا محزنا، كما قال شاعر اليونانيين: إِن كل أَمر يكون باضطرار فهو مؤذٍ محزن.

قال: والعناية بالشيءِ والجد والتعب مؤذيات، لأَنها تكون قسراً وبالكره إِن لم يعتدها. فأَما أَضداد هذه فلذيذات، مثل الكسل والتواني ومخالفة تقديرات الشرع للأَفعال والتودع والنوم من الأُمور اللذيذة، لأَنه ليس شيءٌ من هذه باضطرار. وحيث كانت الشهوة، فهناك اللذة، لأَن الشهوة هي تشوق إِلى اللذات. والشهوات منها نطقية، ومنها غير نطقية، وأَعني بغير النطقية كل ما اشتهى لا من قبل الرويّة والفكر. وهذه هي التي يقال فيها إِنها مشتهاة بالطبيعة كالشهوات المنسوبة إِلى الجسد مثل شهوة الغذاءِ المسماة جوعا، وشهوة الماءِ المسماة عطشا، وأَنواع الشهوات المختصة بنوع نوع من أَنواع الطعوم، وبالجملة: كل ما ينسب إِلى حس اللمس وحس الشم، مثل النكاح والطعام والشراب والروائح الطيبة. فأَما شهوات السمع والبصر فإِنهما يشتهيان مع نطق ما، أَعني أَنه ليس تنشأ شهواتهما معراة من النطق ابتداء، كالحال في شهوة المطعوم والمنكوح. والسبب في ذلك أَن هاتين الحاستين أَكثر مشاركة للنطق من غيرهما. وذلك أَن السمع يشارك النطق من جهة الأَلفاظ؛ ويشارك البصر النطق من جهة الخطوط والإِشارة المستعملة عند التخاطب. والسمع أَشد مشاركة للنطق من البصر؛ وذلك ما يشتهى المرءُ كثيرا أَن يرى ما سمع، وليس يشتهي أَن يسمع ما رأَى. لأَن الالتذاذ الحسي هو نوع من الانفعال الجسماني أَكثر. قال: فأَما التخيل فهو حس ضعيف، يفعل أَبداً إِما ذكراً، وإِما تأَميلا. وإِذا هو عَدِمَ الذكر، عَدِمَ التأميل. وذلك أَن التأميل هو ترتيب ممكن في المستقبل لأَشياء قد أَحست في الماضي وهو الذكر فمتى ارتفع الذكر ارتفع التأميل ضرورة. وإِذا كان التخيل حسا ما، فبيّن أَن اللذة إِنما توجد في الذكر والتأميل لأَنهما شيءٌ من الحس، حتى تكون اللذات كلها إِنما توجد اضطرارا في الحس. وذلك أَنه إِذا كانت المحسوسات حاضرة وبالفعل، كانت اللذة في مباشرتها وإِحساسها، وإِذا كانت فيما سلف، كانت اللذة في ذكرها؛ وإِذا كانت فيما يستقبل، كانت اللذة في التأميل. وذلك أَن الحس يختص بالأُمور الحاضرة، والذكر بالسالفة، والتأميل بالمستأنفة. والمدركات اللذيذة ليست هي القريبة من الزمان الحاضر فقط، بل قد يكون بعض الأَشياء كلما قرب عهده يوجد غير لذيذ، وإِذا بعد عهده وجد لذيذا. لأَن القريب كالمملول، والبعيد العهد يصير عند الذاكر أَحسن وأفضل لبعد عهده به فيشبه التأميل. وذكر المرء الكد والنصب الذي قد انقضى وتخلص منه لذيذ. وذلك أَن الرجل الكدود الحريص يلتذ بذكر الكد والتعب، إِذا كان قد أَنجح سعيه فيه أَو نجا به من الشر. فإِن النجاة من الشر أَيضا علة للذة. وأَما الأَشياءُ الملذة التي تؤمل فهي التي إِذا كانت قريبة سرت أَو نفعت، وذلك بأَن تظن جليلة أَو نافعة مع جلالتها إِذا كانت منفعتها ليس يلحق فيها أَذى. وبالجملة فالمؤملات الذيذة هي القريبة من الزمان الحاضر السهلة الوجود. ولذلك كان الغضب لذيذا، وذلك أَن الغضب إِنما يكون إِذا أَمل الإِنسان إِيقاع الشر بالمغضوب عليه، وكان مع ذلك ممكن الوقوع. ولذلك قال أُوميروش فيه: إِنه أَحلى من قطرات العسل. ولكون الغضب إِنما يكون إِذا كان الانتقام ممكنا، لا حاضرا، ولا ممتنعا، ليس يغضب أَحد على الضعيف الذي وقع الشر به، ولا على العظيم القدر الذي يُؤْيَس من وقوع الشر به وهو الذي ليس لرتبته نسبة إِلى رتبة الغاضب عليه، مثل السُّوَق والملوك. وكذلك لا يغضب على الصغير القدر جدا الذي ليس له إِليه نسبة. وكثير من الشهوات تلزمها اللذة وهي حاضرة بالفعل، أَي محسوسة، بل وتلزمها اللذة وهي متخيلة، ولذلك كان الذاكرون للشيءِ، المشتهى كيف ما يذكرونه، قد يجدون له لذة ما. وكذلك الآملون أَن يظفروا بشيء قد يجدون بعض لذة ذلك الظفر. ولهذا كان المحمومون الذين يمنعهم الأَطباءُ من شرب الماء يلتذون بتذكر شربه، وبالرجاءِ أَن يبرأوا فيشربونه. والذين يَسئلون من الناس ما هو خير لهم أَو يكتبون فيه أَو يسعون فيه فقد يلتذون بالطلب والسعي لأَنهم يرجون أَن ينالوا تلك التي سأَلوا حتى تكون موجودة لهم فيلتذوا بإِحساسها بالفعل. والأَشياءُ التي يحبها الكل محبة صادقة هي ثلاثة أَشياء: أَحدها أَن يكون الشيءُ اللذيذ حاضرا، والثاني أَن يتخيلوه إِذا لم يكن حاضرا وذلك إِما بتذكره وإِما بتأميله، والثالث سرعة السلو عن الغموم والأَحزان. ولذلك يكرهون أَن يشاهدوا المغتمين ولا يحضرون المآتم والمناحات لأَنها تزيد في الأَحزان. وبعض الشهوات يوجد فيها غم ولذة معا،. مثل تذكر المحبوب الغائب أَو المائت إِذا فكر وذكر أَيّ امرئ كان وأَيّ أَفعال كانت أَفعاله. ولذلك الذين يعملون المراثي تصيبهم لذة وغم معا.

قال: وقد أَجاد أُوميروش في هذا المعنى إِذ قال: إِنه لما تكلم الناعي بالمرثية صرخ السامعون لها صرخة فاجعة لذيذة.

والأَخذ بالثأر يشبه أَن يكون يُعَد من هذا الباب، فإِن الأَخذ بالثأر يلذ ويحزن معا، ويشبه أَن يعد من الأَشياءِ اللذيذة فقط. ومن الملذات أَلا ينجح العدو. والذي يغضب إِذا لم يبلغ ما يؤمل من العقوبة يلتذ ويغتم معا. أَما اغتمامه فمن قبل أَنه لم يبلغ ما يريده من العقوبة، وأَما التذاذه فمن جهة تأميله البلوغ. قال: والغلبة لذيذة ليس لمحبي الغلبة فقط بل المكل، لأَن الغلبة هي شوق ما إِلى الشرف، أَعني أ، يكون له فضل ما معروف عند الناس، والشرف يشتهيه الكل، وإِن كانوا يختلفون في ذلك بالأَقل والأَكثر. وإِذا كانت الغلبة لذيذة، فإِن الآداب والرياضيات التي تكون لمكان الغلبة لذيذة أَيضا، إِذ كانت نافعة في أَن يَنال بها اللذة، لأَن الغلبة بها تكون أَكثر ذلك، وذلك كاللعب بالكرة والمثاقفة والشطرنج والنرد والحذق بجميع الآداب المخرجة، أَعني الرياضيات التي يقصد بها تحصيل ملكة ما. وهذه الآداب المخرجة على صنفين: منها ما ليس يكون لذيذا من ساعته حتى يعتاده المرءُ فيكون لذيذا من قبل العادة، وهي الآداب التي ليس تلزمها اللذة التي تلزم الملكة الحاصلة بأَخرة عن تلك عن تلك الآداب، بل إِنما يلزمها من أَول الأَمر التعب فقط كالتأَدب بالحكمة؛ ومنها ما يكون لذيذا من ساعته مثل التصيد واللعب بالشطرنج، فإِن المبتدئ فيها يشارك الحاذق فيها، أَعني في الغاية التي يقصدها وهي الغلبة، فيلتذ بديا من أَول الأَمر، كما يلتذ الكامل فيها. والغلبة بالعدل لذيذة. والغلبة التي تكون بالمشاغبة والتمويه لذيذة عند السوفسطائيين الذين اعتادوا أَن ينالوا بذلك مقاصدهم وهممهم، أَعني من الخيرات الخارجة، مثل اليسار والكرامة. ومن الأُمور اللذيذة والجلالة، من قبل أَن الإِكرام يخيل للمكرم في نفسه أَنه فاضل أَو ممن يجتهد في الفضيلة إِذا صدر الإِكرام ممن شأْنه أَن يوقع بإِكرامه للمكرم مثل هذا الظن بنفسه والتخيل، أَعني أَن يتخيل أَنه فاضل. والحضور من المكرمين أَحرى بهذا الفعل من الغيوب. إِذ كان الحضور يشاهدون من أَمره مالا يشاهده الغيوب. فلذلك إِذا أَكرموا أَحداً، خيل للإِنسان المكرم أَنهم أَكرموه من قبل فضيلة عرفوها فيه. وإِكرام العارف أَحرى بهذا من إِكرام من ليس يعرف المكرم، لهذا المعنى بعينه. وأَهل مدينته أَحرى بذلك من الأَباعد. والموجودون أَحرى بذلك من الذين يأتون من بعد، أَعني الذين يكرمونه في حياته أَحرى بهذا المعنى من الذين يكرمونه بعد موته. وإِكرام الأَكثر من الناس أَحرى بهذا المعنى من الأَقل. فإِن هولاءِ الأَصناف من الناس أَحرى أَن يصدق قولهم في ذي العقل واللب من الناس وشهادتهم فيه أنفع من الأَصناف الذين يتنزلون من الناس منزلة الأَطفال والبهائم وهم الجهال والعوام. ولذلك ليس أَحد يعتد بتكرمة هؤلاءِ لأَحد ولا يحمد أَحد بذلك إِلا يظن أَن ذلك منهم لمكان حسن الطاعة أَو الخوف منه.

والأَحباءُ أَيضا من اللذيذات، لأَن المحبة لذيذة. وكل من يحب شيئا فهو يستلذه. ولذلك لا يستلذ الخمر أَحد لا يحبها. والسبب في ذلك أ، المحبوب هو عند الحب من جملة الخير الذي يتشوقه الكل، وأَعني بالكل الذين يحسون ويتخيلون. وأَن يكون الإِنسان محبوباً مقرباً من أَجل نفسه، لا من أَجل آخر، لذيذ عند الإِنسان المحبوب، أَعني أَن يحب من أَجل نفسه. وكذلك أَن يكون الإِنسان عجيبا عند غيره، أَي يتعجب منه الغير، لذيذ أَيضا من أَجل هذه العلة، أَني من أَجل الخير الذي يتشوقه الكل. لأَنه إِنما يتعجب منهإِذا انفرد بخيرٍ سبيلُه أَلا يكون في الأَكثر. وذلك أن الشيْ الذي يفضل به على الأَكثر هو لذيذ. والذين يقصدون أَن يتعجب منهم هم أَمثال القوم الذين يجمعون الناس ليروا ما يعملونه من تكلف الأَشياءِ العجيبة والأُمور الفاضلة.

قال: والتملق أَيضا لذيذ، لأَن المتملق يخيل للإِنسان أَنه يتعجب منه، وأَنه ممن يحبه. فالمتملق هو محب مُراء أَو مُعظم مُراء. وتكرير الشيء الواحد بعينه يستلذ، لأَنه بتكرره يستولي على النفس. والمعتاد مستلذ. والتبدل والتنقل من حال إِلى حال لذيذ بالطبع، لأَنه يستفيد به إِحساس شيء جديد. ولذلك ما توجد الأَشياءُ التي تحدث في العالم بالطبع وقتا بعد وقت لذيذة، مثل انتقال الفصول وتغير الدول. وبالجملة: التغييرات التي تحدث بالناس وتغير الناس. والسبب في هذا أَن الشيء الحاضر هو في حد ما قد استوفت النفوس منه حاجتها، ولم يبق لها فيه شيء تستفيده ولا سيما إِذا طال وجوده، فتطلب النفس أَن تستريح إِلى شيء جديد تستفيد منه ما ليس عندها. وكل ما كان الحادث كونه أَقل في الزمن، فهو أَلذ. قال: والتعلم أَيضا لذيذ أَكثر ذلك. وشهوة التعلم في الجمهور إِنما تكون من قبل شهوة الإِنسان لأَن يكون في نفسه عجيبا متعجبا منه، إِذ كان هذان الأَمران لذيذين في أَنفسهما. وأَيضا فإِن التعلم لما كان من جنس الإِدراك، الذي يصير بالطبع من القوة إِلى الفعل والكمال، كان أَيضا لذيذا.

وبالجملة فحسن الفعل وحسن الانفعال من الأُمور اللذيذة. وحسن الانفعال إِنما يلتذ به، لا لنفسه، بل لمكان التشوق إِلى الكمال الحاصل، أَو الذي يظن أَنه يحصل عنه. وأَما حسن الفعل فيلتذ به المرءُ لنفسه ولغيره وهو الذي يقع به حسن الفعل.

وتأَديب القرابات لذيذ. والكفاية وسد الخلة لذيذ.

قال: وإِذا كان التعلم لذيذا، وكذلك يكون المرءُ عجيبا أَو متعجبا منه، فإِن التخييل والمحاكاة أَيضا لشبههما بالتعلم لذيذة، وذلك مثل المحاكاة بالتصوير والنقش وسائر الأَفعال التي يقصد بها محاكاة المثالات الأُول، أَعني الأَشياءَ الموجودة لا الأَفعال التي تحاكي أَشياء غير موجودة. فإِن التي تحاكي بها أُمورا موجودة ليس تكون اللذة بها بأَن تكون تلك الصور المشبهة حسنة أَو قبيحة، بل ولأَن فيها ضربا من المقايسة. وتعريف الأَخفى وهو الغائب الذي هو المشبه بالأَظهر وهو المثال الذي أُقيم مقامه ففيه يضرب ما نوعٌ من أَنواع التعلم الذي يكون بالقياس. وذلك أَن خيال الشيء يتنزل منه منزلة المقدمة، والشءُ الذي قصد تخييله وتفهيمه يتنزل منزلة النتيجة. ولهذا الشبه الذي بين التخييل والتعلم كان التخييل لذيذا.

قال: والحيل والتخلص من المكاره لذيذ أَيضا؛ وإِنما صارت المحاكاة والتعلم لذيذين، لأَن ذلك إِنما يكون بأَخذ الوصل التي بين الأَشياءِ. ومعرفة الاتصالات التي بين الموجودات متشوقة للإِنسان بالطبع ولذلك كانت الأَشباه والأَمثال لذيذة فإِن الإِنسان يلتذ بالإِنسان الشبيه به، والفرس بالفرس، والغلام بالغلام. ومن هاهنا تنتزع الأَمثال، كما يقال: إِن الصبي يفرح بالصبي، واللص يألف اللص، والطائر يقتنص بالطائر، والسبع لا يعدو على السبع، وما أَشبه هذا. وبالجملة المتصلات والشبيهات كلها لذيذة في أَنفسها. وما يجد كل واحد من اللذة في شبيه هو أَمر مشهور. وليس يلحق المتشابهين تباغض إِلا بالعرض. واللذة إِنما هي في إِدراك الاتصال الذي يكون بين شيئين من الأَشياءِ الموجودة في العالم. وكل واحد يحب نفسه، لكن يفضل بعضهم في ذلك بعضا. فكل من وُجد له حب نفسه أَكثر، كان التذاذه ومحبته للشبيه أَكثر. ومن أَجل أَن الإِنسان يحب نفسه، تكون حالاته لا محالة لذيذة عنده، أَعني أَفعاله وأَقواله. ولذلك يوجد أَكثر الناس، وهم الجمهور، إِنما يحبون الأَفعال الجميلة والكرامة والبنين لمحبة أَنفسهم. وذلك أَن البنين أَثر من آثارهم. وسد الخلة لذيذ من هذه الجهة، لأَنه فعل من أَفعاله وكذلك السلطان. وأَن يظن بالإِنسان أَنه حكيم هو لذيذ من أَجل حب الإِنسان نفسه. وكذلك محبة الكرامة هي لذيذة من هذا المعنى. ونفع الأَقارب من هذا المعنى هو لذيذ، والتسلط عليهم. وأَن يرتاض الإِنسان بالأُمور التي ينال بها الفضيلة لذيذ وشريف، لأَنه يخيل له فيه أَنه قد حاز تلك الفضائل التي ارتاض بها. ولذلك مدح أوميروش إِنسانا قسم نهاره أَقساما يفعل في كل قسم منها فعلا يكتسب به نوعا من أَنواع الفضيلة. فإِنه قد حاز تلك الفضائل لما قسم نهاره بتلك الأَقسام، وأَنه رجل فاضل على التمام بها.

قال: والمضحكات لذيذة، والفكاهات المستطرفات لذيذة عند الناس لا محالة في الأَفعال والأَقوال. وقد حددنا الأَشياءَ التي تعمل منها الطرائف والنوادر في كتاب الشعر وكيف تعمل.

وإِذ قد تبين من هذا القول ما هي الأُمور اللذيذة، فقد تبين من ذلك ما هي الأُمور المؤذية والمحزنة، فإِنها أَضداد تلك؛ وإِذا عرف أَحد الضدين عرف الآخر.

ولإِذ قد تبين من هذا القول الأَشياءُ التي من أَجلها يجور الجائر وبها يجور الجائر، فقد ينبغي أَن يصير إِلى القول في الكيفيات والأَحوال التي تسهل الجور عليهم وتحركهم إِليه وأَية حالة هي الحالة التي يكون عنها الجور، فنقول: إنه قد يكون منهم الجور حين يظنون أَن ذلك الفعل مما يستطاع وهو ممكن لهم، وأَن يكون مما يجهل ولا يعلم، أَو يكون مما ينسى في مدة يسيرة إِن لم يكن مما يجهل. وإِن كان مما لا يجهل ولا ينسى فيكون مما لا يلحق الجائر في فعله شر أَصلا لا له ولا لبعض من يعنى به لأَنه عنده مثل نفسه، أَو يكون الشر اللاحق منه أَقل من المنفعة أَو اللذة التي ينالها بالجور وذلك إِما للجائر أَو لمن يعنى به. فأَما ذكر الأَشياء التي بها يكون الفعل ممكنا، فسيقال فيها بأَخرة وذلك في المقالة الثانية، لأَن القول في ذلك عام في جميع المخاطبات الثلاثة. وأَما الأَحوال التي لا يللحق الجائر بها شر أَصلا، أَو يلحقه دون الخير الذي يؤمله، أَو يكون الفعل مما يجهل أَو ينسى في زمان يسير، فيقال ها هنا، إِذ كان ذلك خاصا بهذا الموضع.

قال: وقد يظن أَنهم قادرون على الجور أَكثر من غيرهم: الصنف من الناس الذين يرون أَن لهم فضل قوة على غيرهم، وأَنهم يأْمنون من الشر اللاحق لهم، إِذا جاروا، وذلك إِما في أَنفسهم، وإِما في من يعنون به، وهؤلاءِ هم أَحد صنفين يفعل الجور بفضل قوة، وإِما صنف يفعله بتجربة وروية حتى يقدر في نفسه النحو والجهة التي بها يسلم من الشر، وذلك بطول تجربته ومزاولته المتقدمة. والجائرون يسلمون من الجور في عاقبة أَمرهم إِذا كانوا كثيري الأَخوان، أَو كان أَخوانهم مياسير، ولا سيما إِن كان الإِخوان داخلين في الأَمر معه، أَعني أَن ينالهم من الجور نفع أَو لذة، فإِنه تكون قدرته على الجور أَكثر. وكذلك إِن كان الداخلون فيه المشاركون إِخوان الإِخوان أَو خدم الإِخوان أَو أٌجراء الإِخوان أَو شركاؤهم أَو المنقطعون إِليهم، فإِن الجائرين إِذا كانوا بهذه الصفة كانت لهم قدرة على الجور والامتناع من أَن يعطوا طائلة أَو غرما. وقد يعرض لهم أَن تجهل أَفعالهم وتنسى، أَما جهلها فمن قبل المشاركين لهم، وأَما نسيانها فمن قبل أَنه لا يبدأ بالتظلم من االجائر أَولاً.

قال: ومما يسهل الجور أَن يكون الجائرون أَصدقاء للذين يجورون عليهم، أَو يكونوا أَصدقاء للحكام. أَما كونهم أَصدقاء للذين يجورون عليهم فلأَمرين: أَحدهما أَن الصديق لا يتحفظ من صديقه فيسهل الجور عليه. والثاني أَنه إِذا جارعله أَرضاه بأَدنى شيء قبل الوصول إِلى الحكومة، لأَن اليق يتغابن لصديقه. وأَما كون الحكام أَصدقاء فلأَن الحكام يقضون لمن أَحبوا بالميل والهوى، وذلك إِما بأَن يعفوه من الغرم البتة، وإِما أَن يغرموه اليسير. وهنا أَحوال أَضداد هذه الأَحوال المنسوبة إِلى القوة إِذا كانت في الجائر كانت سببا إِلى وقوع الجور منه، وذلك كالمرض والضعف والفقر. فإِن الضعيف والمريض قد يظن به أَنه لا يجور لأَنهم لا يحتملون العقوبة في أَبدانهم. وأَما الفقير فلأَنه لي عنده ما يغرم. وفعل الجور إِذا كان في الغاية من العلانية يخفيه ويوهم أَنه ليس بجور، وذلك أَن فعل الجائر، إِذا أَشبه فعل المخاتل أَو الهازل، غالط، فظن به أَنه ليس بجور. وأَيضا فإِن أَحداً لا يتحفظ من الجور الذي يكون علانية لقلة وقوعه، وإِنما يتحفظ من الجور بالجهة التي أَعتيد أَن يكون منها وهو الإِخفاء. فإِن الجهة التي لم يعتد منها فليس أَحد يحذرها. ولذلك لا يتحفظ منا ممن لا قدر له ولا من الإِخوان والولد. ومن الناس من لا يتحفظ بأَفعاله فيوهم بذلك أَنه يجهل ما يفعل أَو ما ينسى. وربما تغافلوا عن أَشياء تقع بهم حتى لا يتوهم عليهم أَنهم يبتدئون بالجور أَصلا. ومما يعين الجائر القوة على الإِخفاء، وذلك إِما بأَمكنة خفية تكون عنده وأَما بحالات فيه من شأْنها أَن تخفى أَفعاله، مثل أَن يكون ظاهره ظاهر من لا يظن به الفعل القبيح. وقد يتمكن من الجور الذين لا يجهلون ولا يجهل جورهم إِذا كان الحكام يجورون بأَحد معنيين: إِما بأَن يحرفوا السنة، وإِما بأَن يسوفوا الحق حتى يمل صاحبه ويترك طلبه. ولذلك اذا كان الجائر له قدرة على التراوغ عن الغرم أَو المماطلة أَو كان عديما سهل عليه الجور. والذين تكون لهم المنافع التي يستفيدونها من الجور ظاهرة بينة أَو عظيمة أَو قريبة حاضرة، والمضار اللاحقة عنه إِما قليلة وإِما مجهولة وإِما بعيدة في الزمان بطيئة، يسهل عليهم الجور، وذلك أَنهم لا يتركون النافع المتيقن به للضار المجهول وقوعه، وكذلك لا يتركون النافع العاجل لمكروه آجل، ولا المنافع الكثيرة لمكروه يسير. ومما يسهل الجور أَن يكون فعلا يمدح به الجائر ويذكر، مثل ما يعرض للذي يأْخذ ثأْره في الجائر عليه أَو في أَبيه وأمه. والذي يكون له ثأْر عند واحد من أَهل مدينة فيقتل أَهل المدينة بأَسرها، وبخاصة إِذا كان الضرر اللاحق لهم في المال والاغتراب فإِن هذا كثيرا ما يمدح به، كما قال الشاعر:

عليكم بداري فاهدموها فإِنها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا

وهؤلاءِ يظلمون في الأَمر والمنع، أَعني أَخذ ما ليس لهم ومنع ما عليهم. فهذه هي الأَشياءُ التي تسهل على أَهل الهمم والروية والجور. فأَما أَضداد هؤلاءِ في الأَخلاق والرأي وهم الضعفاءُ الرأي والخلق فقد يحركهم إِلى الجور توقع نفع يسير مجهول، أَعني غير متيقن أَن ينال أَو لا ينال، وقد يحركهم إِلى الجور خوف خسران يسير يدخل عليهم لا أَن يستفيدوا بجورهم شيئا يدخل عليهم سوى أَلا يخسروا شيئا يسيرا من كثير ما معهم وقد يحرك هذا الصنف من الناس إِلى الجور أَن يجوروا فيخطئوا غرضهم ولا يظفروا بما راموا من الجور فيحركهم ذلك على أَن يجوروا مرة بعد مرة، كما يعتري كثيرا من المنهزمين أَن يعودوا إِلى القتال على جهة اللجاج بعد أَن يهزم مرة ثانية. والذين تحركهم إِلى الجور اللذة في أَول الأَمر مع الحزن الذي يكون بأَخرة أَو يستعجلون المنفعة أَولا مع وقوع المضرة بهم في العاقبة، وأُخر هم أَيضا من هذا الصنف. فإِن الضعفاء الرأي قد يوجدون بهذه الحال عند كل ما يشتاقون إِليه. وأَضداد هؤلاءِ هم الذين يحركهم إِلى الجور أَن يكون المؤذي الضار متقدما لهم، واللذيذ النافع متأَخرا أَو بعد زمان. وهؤلاءِ فهم ذوو الأَصالة واللب الذين في الغاية، وهم أَهل الشر العظيم لأَنه يظن إِن تلك المنافع واللذات المتأَخرة لم ينالوها بجورهم، وإِنما نالوه بوقوع الجور منهم والضرر الذي يتعجلونه أَو الأَذى، فلا يظن بهم الجور أَصلا. وقد يحرك ذوي الدهاءِ والمكر إِلى الجور أَن يخرجوه في صفة ما لا يظن به أَنه جور. وذلك يكون بوجوه: أَحدها أَن يظن أَن ذلك الفعل كان باتفاق، أَو يظن أَنه كان بإِكراه، أَو يظن أَنه كان من أَجل طبيعة، أَو أَنه كان عن خطأ وجهل لا عن تعمد، أَو أَنه كان عن عادة تقدمت له، أَو يكون الفعل بحيث لا يستفيد منه شيئا ينتفع به في الحاضر بل في المستقبل. فإِن الذي لا يستفاد منه شيءٌ في الحاضر يظن به أَنه غير مقصود لأَحد وأَنه غير محتاج إِليه وأَنه لا يجار إِلا من قبل ما يحتاج إِليه. والمحتاجون على ضربين: إِما بالضرورة كالفقراءِ، أَو بالشره كالأَغنياءِ. والجور على جهة الضرورة أَعذر على جهة الشره، ولذلك يهون هؤلاءِ جدا، وإِن كانوا كثيرا ما ينجحون. وذو اللب والحزم إِذا ظفر بالشيءِ الذي جار من قبله يُرى كأَنه لا يستحسن ذلك الشيءَ ولا يسر به. وأَما ذوو الرأْي الضعيف فهم يظهرون السرور بما ينالونه بالجور. والجائرون من قبل واحد من هذه الأَسباب المخفية للجور والمسهلة له، إِذا ظفروا بما أَملوه من ذلك، فقد صدقت ظنونهم.

فهذا جملة ما قاله في الأَشياءِ التي تسهل الجور على الجائرين وتبعثهم عليه. وأَما الذين يضر بهم الجائرون وهم المظلومون بالطبع، أَعني الذين يطمع فيهم أَهل الشر، فهم الذين يجهلون ما يفعل بهم فلا يرون أَنه جورٌ، أَو الذين ينسون ما يفعل بهم من الجور بسرعة، وإِن لم يجهلوه، وما أَشبه هؤلاءِ من الذين لا إِخوان لهم أَو لهم إِخوان فقراء. والجور الذي يكون في المال إِنما بمن يقع بمن عنده مال، إِذا كان في ذلك المال الشيءُ الذي يحتاج إِليه الجائر، وذلك إِما لموضع الضرورة إِن كان فقيرا أَو لموضع الشره إِن كان غنيا قصده جمع المال فقط أَو لموضع التنعيم إِن كان قصده إِنفاق المال والتمتع به. والمسوفون بطلب حقوقهم يقع بهم الجور كثيرا، وكذلك القرابة والإِخوان، وذلك أَن المرءَ لا يتحفظ من صديقه. وإِذا جار عليه فقد يجهل أَنه جار عليه. فجميع هؤلاءِ الأَصناف يمنعهم من الانتقام من الجائر إِما عدم الناصر كالفقر وعدم الإِخوان، وإِما تسويف الانتقام وتأْخيره. ولذلك كثيرا ما ينجح الذين يسلبون أَقرباءَهم حين يجهلون جورهم من أَول الأَمر حتى يدرس وينسى.

والصنف من الناس المتوَقَّين من الشر المتباعدين منه الذين يصونون أَنفسهم عن أَن يبتذلوها في الخصومات كثيرا ما يجار عليهم. وكذلك يعرض للناس الذين لا يتحفظ من شرهم الصحيحي المعاملة الموثوق بهم المنصفين، أَعني أَن يطمع في الجور عليهم. وهؤلاءِ قد يمكن أَن تجهل منهم هذه الأَحوال فلا يتصدى أَحد للجور عليهم. وذوو الكسل والتواني يطمع في الجور عليهم. وكذلك الجاهلون بما هو جور وعدل، وبالجملة: بما يحكم به الحاكم، لأَن استخراج الحقوق عند الحكام إِنما هو للرجل البصير النافذ، أَعني العارف بما يحكم به الحكام. ومن الذين يجار عليهم الصنف من الناس الذين يغلب عليهم الحياءُ، لأَنه ليس عندهم صخب ولا مغالطة في طلب منافعهم. والذين أَيضا قد ظلمهم ناس كثيرون يجار عليهم لأَنهم يلفون قد ذلت نفوسهم وأَمن شرهم. والذين ليس تخرج لهم الأَحكام إِذا حضروا مجالس الحكام والسلاطين، إِذ ليس لهم قدر، يجار عليهم. لأَن هؤلاءِ كما قيل منحون أَبداً. والذين أَيضا يرومون الأَخذ مرارا كثيرة فلا يأْخذون شيئا يجار عليهم. لأَن كلا الصنفين مزدرى به لا يتحفظ منه إِلا على الإِطلاق وإِما في وقت ما. لأَن هؤلاءِ القوم مذمومون، والمذمومون لا يتحفظ منهم، لأَنه لا ناصر لهم. وإِنما كان ذلك كذلك، لأَن هؤلاءِ لا ينفذون إِراداتهم ولا آراءهم، لأَنهم يخافون الكلام ولا يستطيعون أَن يأْذنوا أَو يمنعوا. وذلك أَنه لا يخلوا واحد من هؤلاءِ أَن يكون متقدما عليه في المجلس أَو مستهانا به أَو منفورا عنه. والذين عندهم لقوم ترة قديمة أَو سوءُ بلاء إِما من قبل أَجدادهم أَو من قبل آبائهم أَو من قبل أَنفسهم أَو من قبل إِخوانهم مهيئون أَن يجور عليهم أُولئك القوم جورا أَكثر من الجور المتقدم. وكذلك إِن كانوا تهاونوا بهم أَو بآبائهم أَو بمن يعنون به. ولذلك يقال في المثل: إِن الشر اليسير يستثير الكثير، وإِن الشر قد تبديه صغاره. والذين تقدمت منهم ترة قديمة: إِن كانوا أَصدقاء وتقدمت منهم ترة يسيرة، فإِن القول فيهم واستماعه يكون سهلا، لا يقع من المقول فيه موقع مكروه. وإِن كانت الترة كبيرة، كان القول فيهم أَو استماعه لذيذا عند الذين لهم الترة عندهم. وإِن كانوا أَعداء، كان القول فيهم واستماعه مع تهاون بهم وأَلا يرى لهم قدر. فالمستمعون إِما أَلا يقولوا فيه شيئا، وإِما أَن ينكروا على القائلين، وإِما أَن يمالئوا على القول ويزيدوا فيه. وهنا صنف من الناس يجار عليهم وينالون بالضر والانتقام، لا لمنفعة، لكن لمكان الاستلذاذ بذلك. وهؤلاءِ هم الغرباءُ: إِما في المدينة، وإِما في الجنس، وإِما في الشيم، وإِما في اللسان، وإِما في المللة. فإِن الإِنسان يستلذ الجور على الغرباءِ بأَحد هذه الخمسة الأَنحاء. والجور الواقع بهؤلاءِ هو التهاون. فإِن الجور يكون في المال والكرامة والسلامة. وأَهل الغفلة يجار عليهم أَيضا. وإِنما يستلذ الجور على الغرباءِ لأَنهم لا يعرفون ما هو إِهانة واستخفاف عند أَهل تلك المدينة، أَو عند ذلك الجنس وكذلك الحال في أَهل تلك الغفلة. ومن الذين يستلذ الجور عليهم الصنف من الناس الذين يقلقون بالأَشياءِ اليسيرة ويصيبهم منها كرب، وذلك بيّن في أَفعال أَهل اللعب في هذا الصنف من الناس. قال: والذين جاروا كثيرا على الناس قد يستلذ الجور عليهم لا لمنفعة، ويظن به أَنه قريب من أَلا يكون الجور عليهم جوراً، وذلك مثل أَن يضرب أَحدٌ من قد تعود شتيمة الناس ونقصهم، فيشجه أَو يجرحه. والذين أَيضا أَتوا أَمرا قبيحا فاحشا عند الناس إِما بعمد وإِما بغير عمد، فإِن الجور عليهم لذيذ حسن عند الناس، والفاعل لذلك يرى غير جائر. والذين يسرون أَيضا بأَفعال هؤلاءِ أَو هم أَصدقاؤهم ويتعجبون من أَفعالهم. وبالجملة من أَتى سوءاً يستلذ الناس الجور عليهم، وكذلك بالجملة الذين يتعلقون بمن فعل سوءاً أَو يمشون معه. والصابرون من الناس المغضون بالحقيقة يستلذ الناس الجور على من جار عليهم. والذين يبتدئون بالظلم، فإِن الظلم الواقع بهم قريب من أَلا يكون جوراً، ولذلك قيل: البادئ أَظلم، وذلك مثل أَن يقتل إِنسان من قصده بالقتل. والقوم الذين يصادفون على شرف من الهلاك قد يبادر الناس للجور عليهم، لأَنه يخفى أَنهم كانوا سبب ذلك الجور. وقد يستلذ الجور على الطائفة التي تجور على من أَشرف على الهلاك، وبخاصة إِذا كانوا أَقوياء على دفعهم فتظالموا لهم وتعافوهم وأَبوا أَن يؤذوهم. ويعلم مع هذا أَنهم لو لم يصيروا إِلى هذه الحال بتظالمهم وتعافيهم عن الطائفة التي أَصارتهم إِلى هذه الحالة من الإِشراف على الهلاك لما تجرأَت الطائفة الأَخيرة أَن تجور عليهم، كما عرض، فيما حكاه، في جزيرة معلومة عندهم، وذلك أَن قوما سبوهم غصبا وجورا لأَنهم صادفوهم على شرف من الهلاك من قوم آخرين، وقد كانوا يقدرون أَن يدفعوا عن أَنفسهم ظلم الذين صيروهم بهذه الحال فلم يفعلوا ولكن تظالموا لهم وعفوا عنهم حتى صاروا من أَجل ذلك إِلى حالة أَمكن فيها هؤلاءِ الآخرين أَن يسبوهم جورا وغصبا.

فهذه هي الأَشياءُ التي إِذا كانت في الإِنسان حركت الجائر إِلى الجور عليه، وهم المظلومون بالطبع. وأَما الأَشياءُ التي يسهل الجور فيها فيجور فيها الكل والأَكثر من الناس فهي الأَشياءُ التي يكون فيها الصفح هي الأُمور اليسيرة الحقيرة. والأَشياءُ التي تستتر فتخفى هي الأَشياءُ التي تفسد أَعيانها سريعا مثل الطعام، أَو الأَشياءُ التي يسهل تغير أَشكالها أَو أَلوانها أَو التي تغير بالمزاج والخلط.

والأَشياءُ بالجملة التي يمكن أَن تغير أَشكالها في أَمكنة كثيرة منها هي أَسهل إِخفاء ولا سيما إِذا كان التغيير منها في أَمكنة صغار. فإِنه كلما كان إِمكان التغيير في الشيءِ أَكثر وأَسهل كان إِخفاؤه أَسهل. وكذلك تخفى الأُمور التي يعلم أَنه قد كان عند الجائر أَشباهها أَو ما لا يشبهها فيدخلها في جملة ما يشبهها أَو يغيرها إِلى التي لا تشبهها من التي تعلم أَنها عنده. ولذلك يتقدم كثير ممن يريد أَن يظلم فيقتني نوع الشيءِ الذي فيه يريد أَن يظلم أَو نوع الشيء الذي يريد أَن يغيره إِليه. وكل ما يستحي المظلوم من ذكره فهو مما يخفى مثل الجور في النساءِ، فإِن إِظهاره فضيحة وعار على المجور عليهم في أَولادهم.

فهذه الأَشياءُ وما أَشبهها هي الأَشياءُ التي يسهل فيها الجور، إِذ يكون فيها الصفح أَو الاستتار. فقد تبين من هذا القول الأَشياءُ التي من أَجلها يجور الجائر، والأَحوال التي إِذا كانت في الإِنسان طمع أَهل الجور فيه.

وبقي الصنف الثالث من الأَشياءِ الثلاثة التي منها تؤخذ المقدمات التي يتبين بها أَن الجائر قد جار، وهي معرفة الأَفعال التي إِذا تبين أَنهم فعلوها، فقد تبين أَنهم قد جاروا، والأَحوال التي إِذا كانت في الفعل كان جورا. وينبغي أَن نقدم أَولا أَصناف الظلم وأَصناف الواجب، أَعني ما ليس بظلم. وقد قيل فيما سلف أَن أَصناف الظلم تكون نحو شيئين وهما إِما اللذيذ، وإِما النافع، وإِنها توجد في الذين توجد فيهم على جهتين: إِما لدفع مضرة، وإِما لاجتلاب منفعة. والسنن التي توقف على ما هو جور وعلى ما ليس بجور منها خاصة بطائفة من أَهل المدينة، ومنها ما يعم جميع أَهل المدينة. وهذان الصنفان من السنن مكتوبة، ومنها غير مكتوبة، وأَعني بغير المكتوبة تلك التي هي في طبيعة الجميع وهي التي يرى الكل فيها بطبعه أَنها عدل أَو جور، وإِن لم يكن بين واحدٍ واحدٍ منهم في ذلك اتفاق ولا تعاهد. وهذه أَيضا قد تسمى عامة بهذه الجهة. وهذه السنن ليس يعلم متى وضعت ولا من وضعها. وهي كثيراً ما تضاد المكتوبة. فيقنع بها، فيما اعتقد فيه أَنه جور بحسب المكتوبة، أَنه ليس بجور. كما حكى أَرسطو عن رجل مشهور عندهم لما أخبر عنه بأَنه دفن على غير سنة الدفن الخاصة ببلده، اعتذر عنه في ذلك بأَنه دفن على السنة العامة الموجودة في الطبيعة، وإِن دفنه كان عدلا لا جورا. وأَما السنن المكتوبة الخاصة بقوم قوم فهي مثل ما يرى بعض الناس أَنه لا ينبغي أَن تقتل ذوات النفوس كالحيوانات وأَنه جور. فإِن هذا ليس واجبا عند الجميع ولا بالطبع. وإِذا كانت السنن الموقفة على العدل وما ليس بعدل: منها ما هي نحو العامة والكل من أَجل المدينة، ومنها ما هي نحو واحد واحد، أَعني أَن منها سننا توقف على ما ينبغي أَن يفعل في أَمر العامة وأَلا يفعل، وسننا توقف على هذا المعنى في أَمر واحد واحد، فبيّن أَن أَصناف الظلم والواجب، أَعني ما ليس بظلم، تنحصر في هذين الصنفين، أَعني أَن الظلم وفعل الواجب: إِما أَن يكون نحو واحد واحد، وإِما أَن يكون نحو الجميع. مثال ذلك أَن الذي يزني أَو يضرب هو ظلم نحو واحد محدود، والذي يمتنع من الدخول في الشرطة، وهي عند أَرسطو حراسة أَهل المدينة بعضهم من بعض، فقد يظلم ظلما عاما. وكذلك الذي يمتنع من الحراسة، وهو الذي يحفظ المدينة مما يرد عليها من خارج ولا يتعدى في حفظه حدود المدينة، أَو الذي يمتنع من القيادة وهو الذي يسير بجند المدينة وحماتهم إِلى قوم غرباء للغلبة على نفوسهم أَو على أَموالهم أَو على مدينتهم. وكل واحد من هؤلاءِ متى لم يفعل فعله، لحق المدينة منه جور عام وضرر شامل. فهذه القسمة واقعة في جميع أَصناف الظلم، أَعني أَن منه ما هو عام، ومنه ما هو نحو واحد واحد.

وإِذ قد وصفنا أَصناف الظلم، فقد ينبغي أَن نصف ما هي الظلامة، أَعني المعنى الذي إِذا وقع بالإِنسان وانفعل له سمى مظلوما، فنقول: إِن الظلامة هي أَن يمس إِنسانا شيء من الجور من إِنسان آخر بمشيئته واختياره. وذلك أَن الجور، كما قد قيل، إِنما هو إِضرار يكون بالمشيئة. فالظلامة هي أَن يستضر آخر بمشيئة الجائر.

وأَصناف الأَشياء الضارة إِحصاؤها في هذا الموضع واجب، إِلا أَنه قد ذكرت فيما تقدم، وذلك في باب المشورة، لأَنه لما ذكرت النافعات هنالك تبينت أَضدادها؛ وكذلك هي أَيضا مذكورة في باب الذم. وكذلك قد تقدم القول في أَصناف الأَشياء التي تكون عن طوع. والشكايات - بالجملة - العامة والخاصة تنحصر في أَربعة أَصناف: أَحدها ما يكون بلا علم من الفاعل وهو الكائن عن الاتفاق؛ والثاني ما يكون مع علم بلا مشيئة وهو الإِكراه؛ والثالث ما يكون عن اختيار وروية؛ والرابع ما يكون عن انفعال من الانفعالات، وأَكثر ما يكون ذلك عن الغضب. فأَما الغضب وما يكون عنه فسيقال فيما بعد. وأَما التي تكون عن تقدم الاختيار والروية فقد قيل فيها فيما تقدم. وليس يحتاج الشاكي إِلى معرفة أَصناف الظلامات والأَفعال التي هي جور أَو إِلى معرفة الشرائط التي يكون بها الفعل ظلما وجوراً بل وقد يحتاج إِليه المتنصل والمعتذر، لأَنه كثيرا ما يعترف المشتكي به بوجود الذي ادعى عليه، إِلا أَنه يجحد الشرط الذي به يكون ذلك الفعل جوراً؛ وذلك مثل أَن يعترف بأَنه أَخذ، لا بأَنه سرق؛ وبأَنه سب، لا بأَنه افترى؛ وبأَنه نكح، لا بأَنه زنى. ولذلك ينبغي للشاكي والمتنصل أَن يعرف ما السرقة وما الافتراءُ وما الزنا وذلك بحسب الشريعة العامة والخاصة بالقوم الذي هو منهم؛ فإِنه بمعرفة هذه الأَشياء يمكن الشاكي أَن يثبت أَن الفعل جور وظلم، والمتنصل أَنه ليس بجور. فإِن التنازع إِنما هو في أَنه ظالم أَو غير ظالم. والظلم بالحقيقة الذي لا يقبل المعذرة إِنما هو الظلم الذي يكون عن تقدم الروّية والاختيار. وهاهنا ظلامات أَسماؤها الدالة عليها كافية في الدلالة على أَنها ظلم في الغاية وعلى تقدم الاختيار والروية لها دون أَن يحتاج في ذلك إِلى تحديدها، مثل السرقة والزنا. فإِن أَحداً ليس يتصور فيه أَنه يسرق أَو يزني غير مختار. ولذلك إِذا اعترف بهذه الأَسماءِ المدعى عليه، لم يبق له موضع اعتذار. فيجب على المتنصل أَبدا أَن يتحفظ من الاعتراف بهذه الأَسماءِ. وإِن اعترف فلا يعترف منها إِلا بالجنس فقط، مثل أَن يعترف بأَنه سب لا بأَنه افترى، ويقول: لأَن الافتراءَ إِنما هو قذف الرجل أَو قذف أَبويه بالزنا. وذلك أَن الذم بالنقائص يتفاضل. فإِن هاهنا نقائص لا يلحق الإِنسان منها بها عار وإِن كانت تضع منه، مثل البخل. وهاهنا نقائص تضع من الإِنسان ويلحقه منها عار عظيم، مثل الزنا. ولذلك غلظت الفرية في شرعنا. وكذلك يقول: إِنه أَخذ، لا أَنه سرق، إِذ كانت السرقة إِنما هي من حرز.

فصل

قال: وبعض الظلامات وما ليس بظلامات فيه سنن، وبعضها ليس فيها سنن. وما فيها سنن: فمنها ما هي سنن مكتوبة، ومنها ما هي غير مكتوبة. وكل واحدة من هذه ترسم العدل والجور، والخير والشر. فالخير بحسب السنن الغير المكتوبة هي الأَفعال التي كلما تزيّد الإِنسان منها إِلى غير نهاية تزيد حمده ومدحه أَو كرامته ورفعته، مثل معونة الأَصدقاءِ ومكافأَة المحسنين. والشر بحسب السنن الغير المكتوبة هو الفعل الذي كلما تزيد الإِنسان منه لحقته المذمة أَزيد، والهوان أَزيد، وذلك أَيضا إِلى غير نهاية، مثل كفر الإِحسان والإِساءة إِلى الأَصدقاءِ. وأَما الخير والشر في السنن المكتوبة فإِنه مقدر لا يزاد فيه ولا ينقص منه. ولما كان الأَمر على هذا وكانت السنة المقدرة لا تنطبق على كل شخص ولا في كل وقت ولا عند كل مكان، لم تكن كافية فيما تقدر من الخير والشر في معاملة شخص شخص من أَشخاص الناس، فاحتيج إِلى الزيادة والنقصان فيها بحسب ما تقتضيه السنة الغير المكتوبة. فوجب أَن يكون في هذه السنن الغير المكتوبة عدل مكتوب وتفضل: وهو إِما الزيادة على السنن المكتوبة، وإِما النقصان منها. فإِن كانت الزيادة على الخير المكتوب سمي إِحسانا، وإِن كانت الزيادة على الشر المكتوب سمي حِسبة. وإِن كانت نقصاناً من الشر المكتوب سمي صلحا وحلما واحتمالا، وما أَشبه ذلك من الأَسماءِ. وهذا قد يعرض في السنن المكتوبة للواضعين: إِما باضطرار، وإِما من قبل أَنفسهم. أَما من قبل أَنفسهم: فإِذا هم غلطوا فوضعوا تحديدا كليا، وليس بكلى. وأَما من قبل الأَمر نفسه: فمن قبل أَنه ليس يستطيع أَحد أَن يضع سننا كلية عامة بحسب جميع الناس في جميع الأَزمنة وجميع الأَمكنة، لأَن ذلك غير متناه، أَعني تبدل النافع والضار. وغاية الماهر في وضع السنن أَن يضع من ذلك ما هو أَكثري، أَعني لأَكثر الناس في أَكثر الأَزمنة وأَكثر المواضع. وكلما اجتهد الواضع في أَن تكون السنة التي يضعها منفعتها أَطول زمانا وللأَكثر من الناس، كانت السنة أَفضل. وإِذا كان الأَمر كذلك، فباضطرار أَلا تكون السنن المقدرة صادقة أَبدا ودائما، أَعني في كل شخص وفي كل وقت، ولذلك قد يحتاج إِلى الزيادة والنقصان فيها. وأَنت تتبين هذا من الملل المكتوبة في زماننا هذا.

والزيادة والنقصان فيها إِنما تكون تفضلا إِذا لحق ذلك مدح أَو كرامة. والحلم بالجملة هو التفضل في نقصان الشيء المكتوب أَو رفعه في الموضع الذي يلحق ذلك مدح أَو كرامة. مثال ذلك ما حكاه أَرسطو من أَن السنة كانت عندهم أَلا يشيل أَحد يده بالخاتم وأَن فعل ذلك يستوجب عقوبة وأَنه ظالم. والسنة الغير المكتوبة تقتضي أَن يصفح عن مثل هذا. فالصفح إِذن عن مثل هذا عدل. وكذلك يشبه أَن يكون الأَمر عندنا في قطع اليد في النصاب وبخاصة في المطعومات. وإِذا كان هذا هو الحلم فهو بيّن أَي الأَشياء هي من الحلم وأَيّ الأَشياء ليست هي من الحلم وأَيّ الناس هم الحلماءُ وأَيهم ليس كذلك. فإِن المرءَ إِنما يكون حليما في الأَشياءِ التي يجمل فيها الصفح.

قال: وضروب الإِساءة والظلم وإِن لم تكن صنفا واحداً بل أَصنافاً كثيرة، فليس يجب أَن يسوى بين ما يقع منها على جهة الخطاءِ وهو الذي يكون من السهو والغلط، وما ليس يقع على جهة الغلط وهو الذي يكون عن المكر والشر. قال: والإِساءة: هي ما لم تكن عن جهل ولا عن شرارة؛ وأَما الظلم فهو ما كان من شرارة، لا من جهل.

والمقدمات التي بها يخاطِب من يَسئل الصفح عن الذنب الذي أَوجبت العقوبةَ فيه الشريعةُ المكتوبة على فاعله، أَعني التي ذكرها أَرسطو في هذا الكتاب: إِحداها أَن يقول الجاني: إِنه، أَيها المعاقب، يجب أَلا تقتدي بهذه السنة نفسها في ما أَوجبته علىّ من العقوبة، لكن بخلق الواضع لها في الصفح والرحمة.

والمقدمة الثانية أَن يقول: إِنه ليس يجب أَن ننظر إِلى ظاهر لفظ الشارع في هذه العقوبة التي وضعها، لكن إِلى مقصوده، وذلك في الموضع الذي يكون المفهوم من اللفظ ضد ما يقتضي ظاهره من العقوبة. والثالثة أَن يقول إِنه ليس يجب أَن نتنزل العقوبة على حسب الفعل الظاهر مني، لكن على حسب النية والاختيار، وذلك حيث يظن أَن ذلك الفعل لم يكن عن اختيار منه. والرابعة أَن يقول: إِنه ليس ينبغي أَن يعاقب على ما كان في الفرط ونادرا، لكن على ما كان متكررا من الجاني، وذلك إِذا لم يتقدم منه ذلك الفعل. والخامسة أَن يقول: إِن الإِنسان ليس ينبغي أَن يعاقب على حسب حاله الحاضرة حتى ينظر إِلى أَحواله المتقدمة وأَحواله المستقبلة، وذلك عندما تكون هذه الأَحوال شافعة له. والسادسة أَن يذكره بالخيرات التي وصلت من الجاني إِلى المجني عليه. والسابعة أَن يذكره بالخيرات التي وصلت إِلى الجاني من المجني عليه، فإِن ذلك يحركه إِلى أَن يعدو العفو عنه من جملة تلك الخيرات. والثامنة أَن يحرضه على التأَني عند الظلم بأَن يقول له: إِنه ليس ينبغي أَن يعجل الإِنسان إِذا ناله جور من إِنسان، فيكافئه بالعجلة، لكن يتوقف، فعسى أَن يكون في عاقبة ذلك خير يناله. والتاسعة أَن يقول: إِنه ينبغي للإِنسان أَن يكون مع الناس مسامحا يقنع بالقول الجميل دون الفعل، وأَلا يكون شديد الاستقصاءِ. والعاشرة أَن يقول: إِنه ينبغي لللإِنسان أَن يكون متنزها عن الخصومات والعقوبات. والحادية عشرة أَن يقول: إِن الاحتمال والصفح من الخلق الفاضل؛ والمتهورون وذوو الخَرَق يقرون بهذا إِذ يتشبهون بالحلماءِ فضلا عن غيرهم.

فقد تبين من هذا القول: ماهو التفضل والحلم والصفح، وما الحالم والصافح، ومن أَي من المتقدمات يستدعى الحلم والصفح. ولأَن المجني عليه يعظم الظلم الواقع به والجاني يصغره، فقد ينبغي هاهنا أَن يقال في أَنواع الظلم العظيم والظلم اليسير.

ومن الظلم العظيم ما يكون من الإِنسان القوي للضعيف، وما يكون من الغني للفقير. ولذلك ما قد يكون الظلم في الأُمور اليسيرة عظيما: إِما من عظم الشر نفسه الموجود في ذلك الشر اليسير، وإِما من عظم الضرر. أَما عظم الضرر في الشيءِ فمثل من يسلب الإِنسان قوته إِذا كان يسيرا وليس ملك غيره. وأَما الشر الذي هو عظم في نفسه، وإِن كان الفعل يسيرا، فمثل ما حكي أرسطو أَن رجلا خان الصناع الذين كانوا يدعون عندهم بالمقربن، وهم المختصون عندهم بصناعة محاريب البيوت المختصة بعبادة الله في ثلاثة أَفلس من مقدسة من المال المختص ببيوت العبادة. قال: فإِن ثلاثة أَفلس هي شيء يسير من طريق الجور في المال، وأَخذها من طريق ما هي من المال المقدس للصناع المقربين شر عظيم، وذلك أَن لك يدل على قوة الشر الذي في أَخها إِذ كان قد هتك حرمة بيت الله وحرمة ماله، ولذلك فاعل هذا ليس يرى أَحدٌ أَنه اتقى من الظلم شيئا، بل بلغ فيه الغاية. وأَما إِذا اعتبر مقدار المضرة في أَخذ الأَفلس الثلاثة، فليس هنالك ظلم يعتد به. وأَمثال هذه المظالم، أَعني التي تقع ببيوت الله وأَوليائه، ليس فيها صفح ولا حلم ولا احتمال، لأَن الصفح فيها والحلم ليس تقتضيه مصلحة، بل يجب أَن يكون الحاكم في أَمثال هذه ينفذ العقوبة ولا بد، إِما لمكان الانتقام من الجاني فقط، وإِما لما في ذلك من المصلحة العامة ولمكان هذا، قال الفقهاءُ عندنا إِن من قال في صاحب الشريعة عليه السلام إِن زره وسخ قتل. ومن الظلم العظيم أَن يجمع على الإِنسان أَخذ ماله وتعذيبه. ومن الظلم العظيم أَيا أَن يكون العادلون والصالحون، وبالجملة ذوو الفضائل يعذبون على فضائلهم. ولذلك يكون الظلم الواقع بهؤلاءِ فخرا لهم وكرامة ليست يسيرة. ولذلك ترى كثيراً من ملوك الجور يقصدون إِهانة العلماءُ بالضرب وغير ذلك من الشر، فيكون ذلك فخرا لهم في الحياة وبعد الممات، كما عرض لمالك وغيره من الفقهاءِ. وكذلك المقتولون من هؤلاءِ يعرض لهم من ذلك بعد الموت كرامة عظيمة، مثل ما نال أَصحاب عيسى عليه السلام بعد موتهم من الكرامة من التابعين لهم. وبالجملة كل من أُوذي على شيءِ يكرم عليه الإِنسان فهو يستفيد بتلك الأَذية كرامة عظيمة. ومن الظلم العظيم أَن يكون نوعا من الظلم مبتدعا لم يفعله أَحد غيره لا قبله ولا بعده. ومما يعظم به الظلم أَن يكون هو أَول من فعله، فاقتدى به كل من أَتى بعده ففعل ذلك الفعل، كما قيل في هابيل وقابيل ومن الظلم العظيم إِلحاق الغرامة والخسران على الذين يتولون إِيصال الخيرات إِلى الناس مثل الظلم الذي يقع على واضعي السنن. ومن الظلم العظيم الذي يوجب العقوبات العظيمة في الشرائع المكتوبة مثل الإِلقاء إِلى السباع عند بعض الأُمم. ومن الظلم العظيم الظلمُ الذي يقع من المرءِ بقرابته وخاصته لأَن ذلك يكون لبغضهم والنفور عنهم. وأَذية القرابة وبغضهم إِنما يحمل عليه إِفراط الشرارة. ومن الظلم العظيم الغدر بالأَمانات والفجور في الأَيمان ونقض العهود وما أَشبه ذلك من الأٌمور التي تقتص في الأَخبار المكتوبة ولذلك كانت عقوبة هؤلاءِ ليست كعقوبة سائر الظالمين، بل يفضحون مع العقوبة على رءُوس الأَشهاد مثل عقاب شهداءِ الزور، فإِنه ليس يقتصر على عقابهم دون أَن يفضحوا في مجالس الحكام وتسخم وجوههم. ولذلك زيد في عقاب الفرية عندنا التفسيق ورد الشهادة. وأَقبح ما تكون الخيانة والغدر لمن تقدم منه إِحسان للغادر والخائن. والذي يرائي بأَفعال الخير، وقصده الشر، هو من هذا النوع. والظلم في السنن الغير المكتوبة، أَعني تعديها، أَعظم من الظلم في السنن المكتوبة؛ وذلك أَن السنن الغير المكتوبة كأَنها شيء يضطر إِليها الإِنسان، إِذ كانت كل الأَمر الطبيعي له، مثل بر الوالدين وشكر المنعم. وأَما السنن المكتوبة فليس هي باضطرار للإِنسان. وإِن تعدى السنة المكتوبة فظلم ظلما مستبشعا فهو ظلم عظيم مثل قتل الأَطفال والنساءِ. والغرامة في الأَشياءِ التي ليس فيها غرامة في السنة المكتوبة من الظلم العظيم. ولذلك كان أَقوى الأَسباب في فساد الرياسات.

قال: فقد تبين من هذا القول الظلم العظيم والصغير، إِذ الصغير ضد العظيم، والشيءُ يعرف بمعرفة ضده.

وقد ينبغي أَن نقول في التصديقات التي تسمى غير صناعية، أَعني التي ليس تكون عن قياس خطبي أَصلا، فإِن أَليق المواضع بذكرها هو هذا الموضع، إِذ كانت أَخص بالمشاجرية منها بالإِثنين الباقيين من أَجناس الأَشياءِ الخطبية، أَعني المشاورية والمنافرية.

وهذه التصديقات الغير الصناعية هي خمسة في العدد: أَحدها السنن، والثاني الشهود، والثالث العقود، والرابع العذاب، والخامس الأَيمان.

والكلام فيها هاهنا إِنما هو كيف يستعمل واحد واحد منها في الشكاية والاعتذار. فلنقل أَولا في السنن فنقول إِن السنن لما كانت منها عامة ومنها مكتوبة، فقد يجب إِن كانت السنن المكتوبة مضادة للشيءِ الذي يَقصد تثبيتَه الشاكي أَو المعتذر أَن يحتج بالسنة العامة الموافقة له، أَعني المضادة للسنة المكتوبة، ويقويها، ويزيف السنة المكتوبة. فأَحد المواضع التي ذكر مما تزيف به السنة المكتوبة هو أَن يقول: إِن الواجب هو الأَخذ بالسنن الغير المكتوبة، لأَن الإِنسان إِذا اقتصر على ما توجبه السنة المكتوبة لم يكن محسنا ولا حليما ولا صفوحا، إِذ كان الإِنسان إِنما يوصف بهذه الأَشياءِ إِذا اقتدى بالسنة العامة على ما تبين، وبالجملة فإِنما يتطرق المدح والإِكرام من قبل السنن الغير المكتوبة، فاعل الواجب لا يمدح. ولذلك لا يسمى من يعطي القدر الواجب من المال في السنة المكتوبة سخيا.

وموضع ثان وهو أَن يقول: إِن السنن المكتوبة إِنما يقتصر عليها العامة من الناس الذين لا روية عندهم، وذلك أَنها أُمور مفروغ منها، فأَما الاقتداءُ بالسنن الغير المكتوبة وتقديرها فهو لذوي الروية والخواص من الناس.

وموضع ثالث: وهو أَن السنن المكتوبة شاقة إِذ كانت تقصر الإِنسان على أَشياء محدودة، والسنن العامة ملائمة لطبائع الإِنسان وهو أَهم.

وموضع رابع: وهو أَن السنن المكتوبة كثيرا ما يكون تركها أَنفع وأَفضل وأَزيد في الخير، إِذ كان الشيءُ المحدود لا يلائم كل إِنسان ولا في كل حين. وأَما السنن الغير المكتوبة فقد تقدر تقديرا يلائم كل إِنسان وفي كل زمان.

وموضع خامس وهو: أَن السنة الغير المكتوبة أَبدية غير متغيرة لأَنها في طبيعة الناس، والسنن المكتوبة متبدلة ومتغيرة. وحكى عن امرأَة مشهورة عندهم أَنها اعتذرت عن رجل دفن عندهم على غير السنة المكتوبة بأَن قالت: لم أَكن لأَدفنه على سنة تكون اليوم ولا تكون غدا، بل على السنة التي لا تبيد أَبداً.

وموضع سادس وهو أَن السنة المكتوبة مظنونة، إِذ كانت مقبولة من الغير، وإِنما هي معروفة بالطبع. ومن القول النافع في ذلك أَن نقول: أَن نقول: إِن السنة العامة هي التي يفعل بها الحاكم أَفعالا مختلفة بحسب النافع لشخص شخص ووقت وقت، والحاكم هو بمنزلة المخلص للفضة من الخبث، ولذلك قد يجب على الحاكم الفاضل أَلا يقتصر على السنة المكتوبة فقط، بل يستعمل السنتين معا حتى يتخلص له الحق في ذلك، ويتقرر لديه القول الخاص بالقضية التي يحكم فيها. ولذلك متى حكم في شيء، وكانت السنة المكتوبة ضد الغير المكتوبة، أَو كانت فيه سنتان متضادتان، فقد يجب على الحاكم أَن يستعمل السنة القديمة أَحيانا، أَعني الغير المكتوبة، في موضع، ويطرحها في موضع آخر؛ وكذلك الحال في السنة المكتوبة. فإِن بهذا الوجه يسقط التعارض الذي بينهما في الظاهر ويصح الجمع. وهذا الذي قاله بيّن من فعل الفقهاءِ - وهذا عندنا - في السنن المكتوبة المتضادة.

قال: ومتى أَشكل عليه وجه الجمع، فقد يجب عليه أَن يتوقف ولا ينفذ إِحدى السنتين، بل يرجئ الحكم حتى يتبين له موضع الشك والشبهة بين السنتين، إِما العامة النافعة وإِما المكتوبة الواجبة.

فهذا جملة ما قيل هاهنا في دفع السنن المكتوبة إِذا كانت مضادة للشيءِ الذي يقصد تثبيته.

وأَما إِذا كانت السنة المكتوبة موافقة للأَمر المقصود تثبيته، والعامة مضادة، فأَحد ما تزيف به السنة الغير المكتوبة المضادة أَن يقال: إِن السنة العامة متبدلة الموضوع ومتبدلة الأَوقات، فهي بالجملة غير غير محدودة، بل تحتاج إِلى استنباط وتحديد، وأَما المكتوبة فهي مفروغ منها. فإِذا كان المضاد في السنة الغير المكتوبة متوهما وغير معلوم بعد، وكان الموافق لنا في السنة المكتوبة مصرحا به، فقد ينبغي أَن يعتقد أَنه ليس يجب أَن كون الحكم يتعدى به السنة المكتوبة.

وموضع آخر تزيف به السنة الغير المكتوبة: وهو أَن السنة الغير المكتوبة تقتضي حكما عاما مثل الإِحسان إِلى من أَحسن إِليك، والمكتوبة تقتضي حكما خاصا وهو مقدار ذلك الإِحسان ووقته. والعام الكلي ليس يفعله أَحد، وإِنما يفعل الجزئي. والذي يفعل، هو الذي يجب أَن يمتثل.

وموضع آخر يقوي السنة المكتوبة: وهو أَن الوضع للسنة المكتوبة إِن كان واجبا، فاستعمالها واجب؛ وإِلا فأَيّ فائدة في وضع شيء لا يستعمل. وموضع آخر قوي في تثبيت السنة المكتوبة: وهو أَن واضعها نسبته إِلى الجمهور في تقدمه بعلم المصالح نسبة الطبيب إِلى الذين يطبهم، وبالجملة نسبة أَهل الصنائع إِلى من لم يكن من أَهل تلك الصناعة. وكما أَن الطبيب ليس ينبغي للإِنسان العليل أَن يتوانى أَو يتردد في قبوله قوله أَو تأوله، كذلك الحال في قبول قول الواضع للسنة المكتوبة، بل المضرة في مخالفة واضع السنن أَشد من المضرة في مخالفة الطبيب. وذلك أَن مخالفة الطبيب إِنما تلحق منها مضرة لواحد من الناس، ومخالفة واضع السنن يلحق منه هلاك أَهل المدينة بأَسرها.

وموضع آخر: وهو أَن الذين ينصبون حكاما في المدن إِنما هم الذين علموا السنن المكتوبة، لا السنن الغير المكتوبة. فإِن كل الجمهور يستوون في إِدراكها. وإِذا كان ذلك كذلك، فواجب أَن تمتثل السنن المكتوبة، وإِلا كان استعمال الحكام عبثا وباطلا.

فهذا جملة ما قاله في السنن.

القول في الشهود

فأَما الشهود، فمنهم قوم قد سلفوا، ومنهم حدث وموجودون. ومن الحدث من يشارك المشهود له في الخير الذي يرجوه أَو الشر الذي يخافه. وأَعني بالشهود القدماء الأَسلاف المعروفين المقبولين عند جمهور الناس المشهور فضلهم. فهؤلاءِ تقبل شهادتهم على الأَشياءِ السالفة سواء أَخبروا أَنهم عاينوها أَو لم يخبروا بذلك، لأَنه يحمل أَمرهم على الجملة فيما أَخبروا به على التصديق. والشهادات: إِما شهادة على أَشياء سالفة وهي التي لم يدركها أَكثر الموجودين في ذلك الوقت، وإِما شهادة على أُمور موجودة، وإِما شهادة على أُمور مستقبلة. فأَما الأَشياءُ السالفة فإِن الشهود عليها هم الأَسلاف لا محالة. وأَما الأَشياءُ الموجودة في زماننا فإِن الشهود عليها مَنْ في زماننا. وأَما الأَشياءُ المستقبلة فقد يكون الشهود عليها قوما تقدموا وقوما موجودين في زماننا هذا. والشهود على الأَشياء المستقبلة صنفان: الكهان سواء كان تكهنهم بصناعة أَو بغير صناعة، وذوو الأَمثلة السائرة التي تمنع أَو تأذن في العمل، مثل ما يقال: صل رحمك، فإِن صاحب الشرع عليه السلام قد قال: صلة الرحم تزيد في العمر. وأَشباه هذا. فأَما الشهود الموجودون فالمقبولون والمعمول بشهادتهم هم الذين امتحنهم أَهل معارفهم، أَعني جيرانهم أَو قرابتهم أَو أَهل مدينتهم، فوجدوها مقيمين على الأَحوال التي تقبل بها شهادتهم غير منتقلين عنها. وأَما الشهود من الأَسلاف فقد استقر عمرهم على القبول، فلذلك ليس يحتاجون إِلى الامتحان، وأَعني بالقبول إِما عدالتهم إِن شهدوا على أَشياء ماضية، وإِما صحة وجود الملكات لهم التي يخبرون بها عن الأُمور المستقبلة إِن كانت شهادتهم في أُمور مستقبلة. ومما يشترط في قبول شهادة الشهود الحدث أَلا يشاركوا المشهود له في خير يرجوه ولا شر يتوقعه، مثل أَن يكونوا آباء للمشهود له أَو أَبناء أَو قرابة. وذلك أَنه إِن أَراد منهم أَن يكذبوا، كما يقول أَرسطو، ربما كذبوا. وأَما الأَسلاف فليس يتصور فيهم هذا إِذ قد عدموا. والشهود الحدث إِنما تقبل شهادتهم إِذا شهدوا أَن الأَمر كان أَو لم يكن، وليس تقبل شهادتهم على أَن الأَمر عدل أَو جور. وأَما الأَسلاف فإِنه تقبل في ذلك شهادتهم، إِما لأَنهم لا يتهمون، لأَنهم ليسوا مشاركين للشهود له؛ وإِما لأَن قولهم يحمل على أَن الحاكم كان كذلك في الزمان السالف. والتصديقات قد تقع من قبل الشهادات، وقد تقع من قبل قرائن الأَحوال المشاكلة، فتقوم مقام الشهادات والحكم بقرائن الأَحوال المشاكلة هو من فعل ذوي الفطانة والحذق من الحكام. ولذلك ينبغي للحاكم أَلا يغلط في المشاكلات المموهة كما لا يغلط الصيرفي في الفضة المغشوشة. وإِذا كانت هذه الأَحوال قد توقف الحاكم على الأَمر الصادق نفسه، مع كون الشهادة الكاذبة مضادة لها، فهي أَحرى أَن توقف عليه حيث لا تكون هنالك شهادة، أَو حيث تكون الشهادة موافقة لها ولذلك كانت هذه الأَحوال تقوم عند الحكام مقام الشهود. فإِنه لا خلاف بين أَن يحكم بالشهود أَو يحكم بهذه الأَحوال المشاكلة التي تقترن بالمتكلمين. وهذه الأَحوال هي غير الضمائر، ولذلك عدت مع الشهادات. والشهادات: منها ما هي في الأَمر المتنازع فيه، ومنها ما هي في الشهود، ومنها ما هي في المتخاصمين. والشهادة على الشهود: منها ما هي في تقويتهم، ومنها ما هي في توهينهم. وأَما الشهادة على المتخاصمين فهي بتعديل أَحدهما وتجريح الآخر. والشهادة على الشهود تكون إِما أَنه صديق أَو عدو، وإِما أَنه وسط بين المدعى والمدعى عليه، وهو أَلا يكون صديقا لأَحدهما ولا عدوا للآخر. وهنا فصول أُخر في الشهود سوى هذه الفصول سيقال فيها حيث يقال في المواضع العامة التي تعمل منها الضمائر وذلك في المقالة الثانية من هذا الكتاب.

فهذا جملة ما قاله في الشهادات.

القول في العقود

والعقود هي الشرائط التي يتفق عليها بعض الناس مع بعض. والشرائط التي يتفق عليها إِنما هي نافعة في أَمرين: أَحدهما في تخسيس المعترِف بها وذمه، إِذا لم يقف عندها وهو مصدق بها، وفي مدحه إِذا وفي بها. والمنفعة الثانية في تصديق المدعى وتكذيب المدعى عليه إِذا أَنكرها. وليس في هذا الموضع فرق بينها وبين الشهود، وذلك أَن الشروط إِذا كانت مكتوبة أَو شهد عليها الشهود قامت مقام الشهود في تبيين الأَمر الذي فيه الخصومة وتبيين حال الذين يتخاصمون، أَعني كيف أَحوالهم في الفضيلة والرذيلة. وذلك أَن التزام الشرط يدل على الفضيلة، ومخالفته تدل على الرذيلة. وإِذا اعترف الخصم بالشرط وادعى أَنه لا يلزمه، فقد يحتاج المتكلم أَن يقنع في وجوب لزوم الشرط بأَن يقول: الشرط سنة خاصية وجزئية فيجب الوقوف عنده على الجهة التي يجب الوقوف عند السنن. وإِذا كانت السنة مخالفة للشرط، قال: إِن السنة ليس تحكم على الشرط ولا ترأَسه، لأَن السنة تقتضي مصلحة عامة والشرط مصلحة خاصة، والخاص يحكم على العام؛ فإِذن الشرط هو الذي يرأَس السنة، لا السنة ترأَس الشرط. وإِن لم تكن مخالفة له، أَعني للشرط، قال: إِن الشرط نوع من السنة، إِن كانت السنة موضوعة عندهم بالاصطلاح، أَو أَن السنة توجب الوقوف عند الشرط، إِن كانت السنة عندهم بوحي من الله.

وموضع آخر: وهو أَن يقول إِن الشروط هي التي تقتضي المصالح الخاصة بحسب شخص شخص ووقت وقت. فإِن لم يوقف عند الشرائط، بطلت المصالح. وإِن الشرط هو الذي يلتزمه الإِنسان باختياره وعن رويته. وما هو بهذه الصفة فلا يعذر في أَلا يقف عنده. إِلى غير ذلك من المواضع التي تشبه هذه مما يطول الكلام بذكرها إِن ريم استقصاؤها في هذا الموضع.

فهذا ما قاله في الأَشياءِ التي تثبت بها الشروط. وأَما الأَشياءُ التي تزيف منها الشروط إِذا رأَى المتكلم أَن الأَصوب والأَصلح تزييف الشروط فهي: السنن المكتوبة والسنن العامة؛ مثل أَن يقول: إِن السنن المكتوبة أَشد مشاكلة ومناسبة للمصالح، لأَن السنة المكتوبة مشتركة، والمشتركة أَعم صلاحا من الخاصة التي هي الشرط. والصلاح العام أَهم من الصلاح الخاص.

وموضع آخر وهو أَن الشروط يمكن أَن يلتزمها الإِنسان لمكان مخالطة وخديعة تجرى عليه، وما توجبه السنن ليس يمكن فيه الخديعة، فالسنن أَولى من الشروط.

وموضع آخر: وهو أَن يقول إِن الحاكم هو الفاحص عن العدل والكاشف عنه، أَعني العدل الذي يكون بحسب المدينة، ولذلك يجب عليه أَن يفحص عن العدل الذي اشترطاه في أَنفسهما، أَعني المتعاقدين. فإِن كان عدلا في المدينة، تركهما على الشرط. وإِن كان غير عدل أَبطل الشرط.

وأَيضا فإشن السنن لا توضع عن قسر ولا عن غلط؛ والشروط قد يمكن ذلك فيها. وبالجملة فينبغي أَن نتبع أَضداد الشرط في السنن، فإِن لم نلفه في السنة المكتوبة، فربما أَلفناه في السنة العامة، فزيفناه بذلك. وإِن أَلفيناه في المكتوبة احتججنا في إِبطاله بها سواء كانت السنة سنة تلك المدينة أَو سنة لمدينة ترأَس تلك المدينة.

ومما يبطل العقود أَن تكون هنالك عقود مضادة إِما متقدمة عليها وإِما متأَخرة عنها. والأَواخر أَبداً في الأَكثر تقضي على الأَوائل. وقد تقضي المتقدمة على المتأَخرة، إِذا كانت المتقدمة صحيحة، والمتأَخرة مغلطة خادعة.

وأَيضا فينبغي للذي يزيف الشرط أَن يتأَمل أَلفاظه، فإِن كان فيها ما يمكن تحريفه، حرفه وأَخرجه عن المفهوم الذي يقتضي علة الحاكم. وهذا إِنما يمكن أَن يفعله من كان له بصر بالأَلفاظ المشتركة والمعاني المتشابهة.

فهذا آخر ما قاله في العقود.

القول في العذاب

قال: وأَما التقرير بالعذاب فإِنها شهادة ما لقول المعذب، وفيه له تصديق ما، لأَنه يخاف إِن كذب أَن تعاد عليه العقوبة، ولما تخيل أَيضا أَن في الصدق النجاة من الشر الواقع به، إِلا أَنه صدق مُكره عليه. ولذلك (لا) يعسر إِدراك الأَشياء التي بها يمكن أَن يثبت الإِقرار الذي يكون تحت العذاب إِذا كان موافقا للمتكلم، وأَن يزيف إِذا كان موافقا للخصم. إِلا أَن تزييفه ونقضه هو حق في نفسه. فإِن المعذبين لمكان الإِكراه ليس يكون اعترافهم بالكاذب أَقل من اعترافهم بالصادق، بل قد يعترفون بالذي يطلب منهم لمكان النجاة من العذاب وإِن كان كاذبا. وأَيضا فإِنهم إِذا صبروا على العذاب ولم يقولوا الحق فقد يبادرون إِلى الكاذب ليظن به أَنه هو الصادق، ليستريحوا من العذاب بذلك سريعا. ولذلك ما ينبغي للحكام أَن لا يستعملوا هذا النوع من الاستدلال بل يعودون فيستعملون الدلالات الأُخر. فإِن كثيراً من الناس لصحة أَبدانهم وعزة نفوسهم يصبرون على الأَذى صبراً شديداً فلا يعترفون بالصادق. وأَما الجبناءُ وأَهل الضعف فقد يقرون على أَنفسهم بالكاذب قبل أَن يروا الشدائد. ولذلك ليس في العذاب شيءٌ يوثق به. ولمكان هذا درأَ الشرع عندنا الحدود التي تتعلق بالإِقرارات التي تحت الإِكراه.

القول في الأَيمان

قال: وأَما الأَيمان فإِنها تستعمل لمكان أَربعة أَشياء، وذلك أَن الحالف إِما أَن يحلف ليعطى شيئا ويأْخذ شيئا، مثل ما يكون في البيوع. وأَما أَلا يعطى شيئا ولا يأْخذ شيئا. وإِما أَن يعطى ولا يأْخذ. وإِما أَن يأْخذ ولا يعطى. وحلف الإِنسان ليعطى إِنما يكون لأَشياء أُخر ضارة به، أَعني إِن أَمسك ولم يعط. واليمين إِما أَن تكون من المدعى أَو المدعى عليه. وليس في اليمين شيءٌ من التصديق، إِذا علم أَن الحالف رجل فاجر. وإِذا لزمت اليمين أَحد الخصمين فنكل، فقد لزمته الحجة. لأَن المطالبة باليمين تَحد على الصدق. وإِذا عجز المتحدّى، فقد لزمته الحجة.

قال: ولما كان المطالب باليمين متردداً بين مكروهين أَحدهما مما يناله من قبل اليمين - إِذا حلف كاذبا - وهو الاستهانة بالله وحرماته؛ والثاني المكروه الذي يناله من الأَخذ منه أَو الإِعطاء، فهو أَبداً إِنما يفعل أَقل المكروهين ضررا عنده. فلذلك قد يصدق بعض الناس إِذا حلف، ويكذب بعضهم. وهذا أَحد ما يزيف به الاحتجاج بالأَيمان.

قال: وقد يُصدق الرجل الفاضل ويُرى أَنه لمحق، وإِن لم يحلف. لكن تصديقه ليس هو لمكان أَنه لم يحلف، ولكن لمكان فضيلته، ومن أَجل أَنه ليس ممن يحنث ولا يفجر بغير يمين، فضلا مع اليمين.

قال: وأَما التحدي باليمين فإِنه كثيراً ما يكون من الرجل الفاسق نحو الثقة الأَمين، لأَن تحرج الثقة عن اليمين مما يوقع التصديق بقول الفاسق.

قال: وهذا هو مثل أَن يغلب المتهور المتوقي أَو يدعوه إِلى أَن يغلبه ويتحداه بذلك. فإِن المتوقي يتجنبه.

قال: ولكن ليس للثقة الأَمين، وإِن كان الأَمر هكذا، أَن يأْخذ بغير يمين، إِذا كان خصمه ليس يراه ثقة، بل ليس يأْخذ إِلا أَن يحلف.

قال: وبذلك كان يحكم فلان لرجل مشهور في الحكام عندهم. وكذلك هي السنة عندنا قال: والثقة الأَمين، إِذا اشتد عليه إِتيان اليمين عند الدعوى عليه، فإِن أَحب أَن يعطى ويكرم الله ولا يحلف، فقد يجب له أَلا ينكر الدعوى الكاذبة عندما يُعطِى ما طولب به. فإِنه إِن أَنكر وأَعطى، أَوهم أَن المدعى محق وأَنه إِنما أَعطى لمكان اليمين الفاجرة التي لزمته، ولذلك ليس ينبغي أَن يلجئ نفسه إِلى أَن يُطالب باليمين، لأَنه إِذا طولب باليمين فلم يحلف ظن به الكذب. قال: وهو معلوم عند الحكومة في المشاجرة الخاصة والعامة كيف يعتذر المرءُ إِذا خالف يمينه أَو يعتذر عنه، وكيف يؤنب مخالف اليمين ويعذل. وذلك أَن الأَشياءَ التي يخالف فيها اليمين هي تلك الأَشياءُ الأَربعة التي يحلف عليها، وهي التي يهواها إِنسان إِنسان من الناس، وذلك إِما أَن يأَخذ ويعطى، وإِما أَلا يأخذ ولا يعطى، وإِما أَن يعطى ولا يأْخذ، وإِما أَن يأْخذ ولا يعطى. فإِذا حلف المرءُ على واحد من هذه الأَربعة، فلا يخلو أَن يكون القول الذي يستعمله في تثبيت ذلك الشيء إِما موافقا لما حلف عليه وإِما مخالفا، وذلك يكون إِذا جحد اليمين.

فإِن كان مخالفا، فإِنَّ أَحَدَ ما يؤنب به المخالف لليمين أَن يقال: إِن اليمين هي شريعة من الشرائع، فمتى خالفها المرءُ طوعا وجحدها، فقد ظلم؛ لأَن الظلم هو مخالفة للشريعة طوعا.

وأَما المعتذر عن مخالفة اليمين فقد يعتذر أَن يمينه كانت بإِكراه أَو بغلط أَو بغفلة، وأَنه إِذ حلف لم ينو ذلك الشيءَ الذي خالفه، وإِنما نوى غيره، وأَن الذي حمله على اليمين هو اللجاج ومخالفة الخصم وضيق الصدر والحرج، وبالجملة التهيؤ الموجود فيه لسبوق اليمين وبدورها والمسارعة إِليها وإِلى الإِنكار والجحود.

ومما يستعمل في التثبيت على السنن والأَيمان والتمسك بها أَن يقال: إِنه قد يجب عليكم أَن تثبتوا على أَيمانكم ولا تخالفوها، فإِن اليمين هو حكم شرعي أَلزمه المرءُ نفسه طوعا وعن علم، فقد يجب عليه أَلا يخالفه. وأَما أُولئك الذين يحلفون لمكان الخديعة أَو الغفلة أَو التهيؤ للجحود والمسارعة إِلى اليمين فلا يثبتون على أَيمانهم إِلى غير ذلك من أَشياء تشبه هذا القول مما تعظم به اليمين وتفخم.

فهذا هو القول في التصديقات التي تكون بلا قياس، وجهات استعمالها في هذه الصناعة.

وهنا انقضت المعاني التي تضمنتها هذه المقالة التي هي الأُولى.