تفسير المراغي/الجزء التاسع والعشرون
سورة الملك
[عدل]هي مكية، وآيها ثلاثون، نزلت بعد سورة الطور.
ومناسبتها لما قبلها - أنه لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين اللتين قدر لهما الشقاء وإن كانتا تحت عبدين صالحين، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وقد كتب لهما السعادة وإن كان أكثر قومهما كفارا - افتتح هذه السورة بما يدل على إحاطة علمه عز وجل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه.
[سورة الملك (67): الآيات 1 الى 5]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)
شرح المفردات
البركة: الزيادة حسية كانت أو عقلية، خلق: أي قدّر، ليبلوكم: أي ليختبركم والمراد ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم، أحسن عملا: أي أخلصه لله، العزيز: أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء، الغفور: أي كثير المغفرة والستر لذنوب عباده، طباقا: أي طبقة بعد طبقة، تفاوت: أي اختلاف وعدم تناسب، والفطور: الشقوق، واحدها فطر، يقال فطره فانفطر، كرتين: أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل، والمراد بذلك التكرير والتكثير: أي رجعة بعد رجعة، ينقلب: أي يرجع، خاسئا: أي صاغرا ذليلا مبعدا لم ير ما يهوى من الخلل، حسير: أي كليل منقطع لم يدرك ما طلب، والحاسر: المعيا لنفاد قواه، والمصابيح: واحدها مصباح وهو السراج والمراد بها الكواكب، والرجوم: واحدها رجم (بِالْفَتْحِ) وهو ما يرجم ويرمى به، والشياطين: هم شياطين الإنس والجن، وأعتدنا: أي هيأنا، عذاب السعير: أي عذاب النار المسعّرة الموقدة.
المعنى الجملي
مجّد الله نفسه وأخبر أن بيده الملك والتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، لقهره وحكمته وعدله، وهو القدير على كل شيء ثم أخبر بأنه قدّر الموت والحياة ليبلوكم فينظر من منكم أخلص له عملا، وهو ذو العزة الغالب على أمره، الغفور لمن أذنب ثم تاب وأقلع عنه، ثم أردف ذلك بأنه خلق سبع سموات بعضها فوق بعض لا خلل فيها ولا عيب، فانظر أيها الرائي أترى فيها شقا أو عيبا؟ ثم أعد النظر وحدّق بالبصر، لتستيقن تمام تناسبها واستواء خلقها، وقد زيّنا أقرب السموات إليكم بكواكب يهتدى بها الساري، ويعلم بها عدد السنين والحساب، وعليها تتوقف حياة الحيوان والنبات، وهي أيضا سبب الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن، وهؤلاء قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة بوساطة الحرارة والضوء من الكواكب، وبذا أعد لهم عذاب السعير جزاء ما اقترفوا في حياتهم الدنيا.
الإيضاح
(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي تعالى ربنا الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع أقواما ويخفض آخرين، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه مانع، ولا يحول بينه وبين ما يريد عجز، فله التصرف التام في الموجودات على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ولا مدافع.
والخلاصة - تعاظم عن صفات المخلوقين من بيده الملك والتصرف في كل شيء، وهو قدير يتصرف في ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام، ورفع ووضع، وإعطاء ومنع.
ثم شرع يفصل بعض أحكام الملك وآثار القدرة، ويبين ابتناءهما على الحكم والمصالح، وأنهما يستتبعان غايات جليلة فقال:
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أي الذي قدر الموت وقدر الحياة وجعل لكل منهما مواقيت لا يعلمها إلا هو.
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي ليعاملكم معاملة من يختبر حاله، وينظر أيكم أخلص في عمله، فيجازيكم بذلك بحسب تفاوت مراتبكم وأعمالكم، سواء أكانت أعمال القلب أم كانت أعمال الجوارح.
وقد روى في تفسير الآية عن رسول الله ﷺ أنه قال: « أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعته عز وجل » يعني أيكم أتم فهما لما يصدر عن حضرة القدس، وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه، وأيكم أبعد عن ملابسة الكبائر، وأسرع في إجابة داعي الله.
وفيه ترغيب في الطاعات وزجر عن المعاصي كما لا يخفى على ذوي الألباب.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) أي وهو القوى الشديد الانتقام ممن عصاه وخالف أمره، الغفور لذنوب من أناب إليه وأقلع عنها.
وقد قرن سبحانه الترهيب بالترغيب في مواضع كثيرة من كتابه كقوله تعالى: « نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ».
وإثبات العزة والغفران له يتضمن كونه قادرا على كل المقدورات، عالما بكل المعلومات، ليجازى المحسن والمسيء بالثواب والعقاب، ويعلم المطيع من العاصي، فلا يقع خطأ في إيصال الحق إلى من يستحقه، ثوابا كان أو عقابا.
ثم ذكر دلائل قدرته فقال:
(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا) أي هو الذي أوجد سبع سموات بعضها فوق بعض في جوّ الهواء بلا عماد، ولا رابط يربطها مع اختصاص كل منها بحيز معين ونظم ثابتة لا تتغير بل بنظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات، كما جاء في قوله: « اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ».
ثم ذكر دلائل العلم فقال:
(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي لا ترى أيها الرائي تفاوتا وعدم تناسب، فلا يتجاوز شيء منه الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا على نحو ما قيل:
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى بهنّ اختلافا بل أتين على قدر
فإن كنت في ريب من هذا فارجع البصر حتى تتضح لك الحال، ولا يبقى لك شبهة في تحقق ذلك التناسب والسلامة من الاختلاف والشقوق بينها.
وإنما قال: (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) دون أن يقول: (فيها) تعظيما لخلقهنّ، وتنبيها إلى سبب سلامتهنّ من التفاوت بأنهنّ من خلق الرحمن، وأنه خلقهنّ بباهر قدرته وواسع رحمته تفضلا منه وإحسانا، وأن هذه الرحمة عامة في هذه العوالم جميعا.
ثم أمره بتكرير البصر في خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع، هل يجد فيه عيبا وخللا فقال:
(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) أي إنك إذا كررت النظر لم يرجع إليك البصر بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل يرجع إليك صاغرا ذليلا لم ير ما يهوى منهما، حتى كأنه طرد وهو كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة.
والمراد بقوله « كرتين » التكثير كقوله:
لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم بيتا وأبعدهم من منزل الذّام
وبعد أن بين خلوّ السموات من العيب ذكر أنها الغاية في الحسن والبهاء فقال:
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي ولقد زينا السماء القربى من الأرض وهي التي يراها الناس بكواكب مضيئة بالليل كما يزيّن الناس منازلهم ومساجدهم بالسّرج، ولكن أنّى لسرج الدنيا أن تكون كسرج الله؟
والخلاصة - أن نظام السموات لا خلل فيه، بل هو أعظم من ذلك، فقد زينت سماؤه القريبة منا بمصابيح، هي بهجة للناظرين، وعبرة للمعتبرين.
(وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ) أي وهذه الكواكب لا تقف عند حد الزينة بل بضوئها يكون ما في الأرض: من رزق وحياة وموت، بحسب الناموس الذي سنناه، والقدر الذي أمضيناه، ويكون في العالم الإنساني وعالم الجن نفوس تتقاذفها الأهواء، وتتجاذبها اللذات والشهوات التي تنجم من العناصر المتفاعلة بسبب الأضواء المشعّة النازلة من عالم الكواكب المشرقة في السماء.
وقصارى القول - إن هذه الكواكب كما هي زينة الدنيا، وأسباب لرزق ذوي الصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء، هي أيضا سبب لتكوّن الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن فهذا العالم قد اختلط فيه الضر بالنفع، وأعطى لكلّ ما استعدّ له فالنفوس الفاضلة، والنفوس الشريرة، استمدت من هذه المادة المسخّرة المقهورة، فصارت سببا لثواب النفوس الطيبة، وعذاب النفوس الخبيثة، وصار لهم فيها رجوم وظنون، إذ هم قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة الناشئة من الحرارة والضوء.
ويرى بعض المفسرين أن المراد أن المصابيح التي زيّن الله بها السماء الدنيا لا تزول عن مكانها ولا يرجم بها، بل ينفصل من الكواكب شهاب يقتل الجني أو يخبله.
قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم، وتعدى وظلم.
(وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي وهيأنا لهؤلاء الشياطين في الآخرة عذاب النار الموقدة كفاء ما اكتسبوا من اللذات، وانجذبوا إليه من الشهوات، وغفلوا عن جمال هذه العوالم التي لم يعرفوا منها إلا شهواتهم، أما عقولهم فقد احتجبت عنها.
والخلاصة - إن السماء قد أضاءت على البر والفاجر، فالفجار حصروا أنفسهم في شهواتهم، فلم ينظروا إليها نظر فكر وعقل، بل نظروا إليها باعتبار أن بها تقوم حياتهم، وهؤلاء أعتدنا لهم عذاب السعير في الآخرة، لأن هذا يشاكل حالهم في الدنيا، إذ هم فيها قد حبسوا أنفسهم في نيران البخل والحقد والطمع، فتحولت إلى نار مبصرة يرون عذابها في الآخرة.
[سورة الملك (67): الآيات 6 الى 11]
[عدل]وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
شرح المفردات
ألقوا فيها: أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار، والشهيق: تنفس كتنفس المتغيظ قاله المبرّد، تفور: أي تغلى بهم كغلى المرجل قاله ابن عباس، وقال الليث: كل شيء جاش فقد فار كفور القدر والماء من العين، تميز: أي ينفصل بعضها من بعض، والغيظ: شدة الغضب قاله الراغب، فوج: أي جماعة، خزنتها: واحدها خازن، وهم مالك وأعوانه، نذير: أي رسول ينذركم بأس الله وشديد عقابه، إن أنتم: أي ما أنتم، ضلال كبير: أي ضلال بعيد عن الحق والصواب، فسحقا لهم: أي فبعدا لهم من رحمة ربهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن شياطين الإنس والجن قد أعدّ لهم عذاب السعير، أردف ذلك ببيان أن هذه النار قد أعدها لكل جاحد بوحدانيته، مكذب برسله، منكر للبعث واليوم الآخر، ثم وصف هذه النار بأوصاف تشيب من هولها الولدان، وتصطك لسماعها الأسنان، منها:
(1) أنه يسمع لها شهيق حين يلقى الكافرون فيها.
(2) أنها تفوز بهم كما يفور ما في المرجل حين يغلى.
(3) أنها تكون شديدة الغيظ والحنق على من فيها.
(4) أن خزنتها يسألون داخليها: ألم تأتكم الرسل فتبعدكم عن هذا العذاب؟
(5) أن أهلها يعترفون بأن الله ما عذبهم ظلما، بل قد جاءهم الرسل فكذبوهم وقالوا لهم: أنتم في ضلال بعيد.
(6) دعاء الملائكة عليهم بالبعد من رحمة الله وألطافه، وكرمه وإحسانه.
الإيضاح
(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي قد سبق قضاؤنا، وجرت سنتنا أن من أشرك بنا، وكذب رسلنا، فقد استحق عذاب جهنم، وبئس المآل والمنقلب.
ثم ذكر فظائع أحوال هذه النار فقال:
(إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) أي إذا طرح المجرمون فيها سمعوا لها صياحا وصوتا كصوت المتغيظ من شدة الغضب، وهي تغلى بهم كغلى المرجل بما فيه:
(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يقال فلان يتميز غيظا، ويتعصف غيظا وغضبا فطارت منه شعلة في الأرض وشعلة في السماء، إذا وصفوه بالإفراط في الغضب، من قبل أن الغضب إنما يحدث حين غليان دم القلب، والدم حين الغليان يأخذ حجما أكبر من حجمه، فتتمدد الأوعية الدموية في البدن، وكلما كان الغضب أشد كان تمددها أكثر حتى تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض.
ثم بين سبحانه عدله في خلقه وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة وإرسال الرسول إليه فقال:
(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟) أي كلما طرح في جهنم جماعة من الكفار سألهم مالك وأعوانه من الزبانية سؤال تقريع وتوبيخ: هل أتتكم رسل من ربكم تنذركم شديد بأسه، وعظيم عقابه لمن عصاه وخالف أمره.
ونحو الآية قوله تعالى: « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ».
حينئذ يجيبهم هؤلاء مع التحسر على ما فات والندم على ما كان.
(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي بلى جاءنا الرسول وأنذرنا فكذبناه وقلنا له: إن الله لم يوح إليك بشىء ولم يبعثك رسولا، وما أنت إلا بشر مثلنا، فما أنت فيما تدّعى إلا مجانف للحق، بعيد عن جادّة الصدق.
ونحو الآية قوله تعالى: « حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ».
ثم عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا ينفع الندم فقالوا:
(وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي وقالوا: لو كانت لنا عقول ننتفع بها، أو آذان تسمع ما أنزل الله من الحق، ما كنا على ما نحن عليه من الكفر بالله، والاغترار باللذات التي كنا منهمكين بها في دنيانا، فبؤنا بسخط ربنا وغضبه، وحلّ بنا عقابه الأليم.
وقد نفوا عن أنفسهم السماع والعقل، تنزيلا لما عندهم منهما منزلة العدم، حين لم ينتفعوا بهما.
وقصارى ما سلف - إنهم قالوا: لو كنا سمعنا كلام النذير وقبلناه، اعتمادا على ما لاح من صدقه، وفكرنا فيه تفكير المستبصر، وعملنا به ما كنا في زمرة المعذّبين.
ولكن هيهات هيهات، فلا يجدى الاعتراف بالذنب، ولا يفيد الندم، فقد فات أوانه، وسبق ما حمّ به القضاء.
صاح هل ريت أو سمعت براع ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب
ومن ثم أحل بهم سبحانه نقمته فقال:
(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي فاعترفوا بما كان منهم من تكذيب الرسل، وأنّى يفيدهم ذلك؟ فبعدا لهم من رحمتى، جحدوا أو اعترفوا، فهو ليس بمغن عنهم شيئا، فقد وقعت الواقعة، وحل بهم من بأسى ما ليس له من دافع.
روى أحمد عن أبي البحتري الطائي قال: أخبرني من سمعه من رسول الله ﷺ أنه قال: « لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم ».
وجاء في حديث آخر: « لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة ».
[سورة الملك (67): الآيات 12 الى 15]
[عدل]إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
شرح المفردات
بالغيب: أي غائبين عن أعين الناس، بذات الصدور: أي بما في النفوس، واللطيف: هو العالم بالأشياء التي يخفى علمها على العالمين، ومن ثم يقال: إن لطف الله بعباده عجيب، ويراد به دقائق تدبيره لهم، الخبير: أي بظواهر الأشياء وبواطنها، ذلولا: أي سهلة منقادة يسهل عليكم السير فيها والانتفاع بها وفيما فيها، والمناكب: واحدها منكب، وهو مجتمع ما بين العضد والكتف، والمراد طرقها وفجاجها، النشور: أي المرجع بعد البعث.
المعنى الجملي
بعد أن أوعد الكفار بما أوعد، وبالغ في ترهيبهم بما بالغ - وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكريم، ثم عاد إلى تهديد الكافرين بأنه عليم بما يصدر منهم في السر والعلن، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق، فلا يخفى عليه شيء من أمرهم، بل يصل علمه إلى ظواهر أمورهم وبواطنها، ثم عدد نعماءه عليهم، فذكر أنه عبّد لهم الأرض وذللها لهم، وهيأ لهم فيها منافع من زروع وثمار ومعادن، فليتمتعوا بما أوتوا ثم إلى ربهم مرجعهم، وإليه بعثهم ونشورهم.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إن الذين يخافون مقام ربهم فيما بينهم وبينه إذا كانوا غائبين عن أعين الناس، فيكفون أنفسهم عن المعاصي، ويقومون بطاعته حيث لا يراهم إلا هو، مراقبين له في السر والعلن، واضعين نصب أعينهم ما جاء في الحديث: « اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » يكفر عنهم ما ألمّوا به من الذنوب والآثام، ويحزيهم جزيل الثواب، ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كفاء ما أسلفوا في الأيام الخالية.
وقد ورد في الحديث: « سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله - وذكر منهم: ورجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجلا تصديق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ».
ثم نبه إلى أنه مطلع على السرائر فقال:
(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إن عملكم وقولكم على أي سبيل وجد فالله عليم به، فدوموا أيها الخاشعون على خشيتكم، وأنيبوا أيها المفترون إلى ربكم، وكونوا على حذر من أمركم.
روي عن ابن عباس أنه قال: « كان المشركون ينالون من النبي ﷺ فيوحى إليه بما قالوا فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع ربّ محمد فنزلت الآية ».
وقدم السر على الجهر للايذان بافتضاح أمرهم ووقوع ما يحذرون على كل حال أسروا أو جهروا، ولأن مرتبة السر مقدمة على مرتبة الجهر فما من شيء يجهر به إلا وهو أو مبادئه مضمر في النفس.
وقوله « إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » كالعلة والسبب لما قبله.
والخلاصة - إنه تعالى محيط بمضمرات النفوس وأسرارها الخفية المستكنة في الصدور، فكيف لا يعلم ما تسرون وما تجهرون به؟.
ثم نصب الأدلة على إحاطة علمه بجميع الأشياء فقال:
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي كيف لا يعلم السر والجهر من أوجد بحكمته، وواسع علمه، وعظيم قدرته، جميع الأشياء وهو النافذ علمه إلى ما ظهر منها وما بطن.
وكأنه سبحانه يقول: ألا يعلم سركم وجهركم، من يعلم الدقائق والخفايا، جملها وتفاصيلها؟.
ثم نبه إلى نعمه على عباده فقال:
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي إن ربكم هو الذي سخر لكم الأرض وذللها لكم، فجعلها قارّة ساكنة، لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأوجد فيها من العيون، لسقيكم وسقى أنعامكم وزروعكم وثماركم، وسلك فيها السبل، فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أرجائها، لأنواع المكاسب والتجارات، وكلوا مما أوجده لكم فيها بفضله من واسع الأرزاق - والسعي في الأرزاق لا ينافى التوكل على الله.
روى أحمد عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: « لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير. تغدو خماصا، وتروح بطانا »
فأثبت لها غدوّا ورواحا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخّر الميسر المسبّب.
وأخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: « مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على الله عز وجل ».
وجاء في الأثر: « إن الله يحب العبد المؤمن المحترف ».
وفي الآية إيماء إلى ندب التجارة والتكسب بجميع ضروبه، وفيها تهديد للكافرين كأنه قال لهم: إني عالم بسركم وجهركم، فاحترسوا من عقابي، فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها، أنا الذي ذللتها لكم، وجعلتها سببا لنفعكم، وإن شئت خسفتها بكم، وأنزلت عليها ألوانا من المحن والبلاء.
(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي وإليه المرجع يوم القيامة، فينبغي أن تعلموا أن مكثكم في الأرض، وأكلكم مما رزقكم الله فيها، مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله، ويستيقن أن مصيره إليه، فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن.
[سورة الملك (67): الآيات 16 الى 19]
[عدل]أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
شرح المفردات
الأمن: ضد الخوف، من في السماء: هو ربكم الأعلى، وخسف الله به الأرض غيّبه فيها، ومنه قوله: « فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ » وتمور: أي تهتز وتضطرب حاصبا: أي ريحا شديدة فيها حصباء تهلككم، نذير: أي إنذاري وتخويفي، نكير: أي إنكارى عليهم بإنزال العذاب بهم، صافّات: أي باسطات أجنحتهن في الجوّ حين طيرانها تارة، ويقبضن: أي ويضممنها تارة أخرى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما أعده للكافرين من نار تلظى، ووصف هذه النار بما تشيب من هوله الولدان - أردف ذلك بترهيبهم وتخويفهم بأنهم لا يأمنون أن يحل بهم في الدنيا مثل ما حل بالمكذبين بالرسل من قبلهم: من خسف عاجل تمور به الأرض مورا، أو ريح حاصب تهلك الحرث والنسل، ولا تبقى منهم ديّارا ولا نافخ نار ثم ضرب لهم المثل بما حل بالأمم قبلهم من ضروب المحن والبلاء، فقد أهلكت ثمود بصاعقة لم تبق ولم تذر، وأهلكت عاد بالريح الصرصر العاتية التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما - متتابعة - وأهلك فرعون وقومه بالغرق في بحر القلزم (البحر الأحمر) ثم لفت أنظارهم إلى باهر قدرته، وعظيم منّته على عباده، فطلب منهم
أن يروا الطير وهي تبسط أجنحتها في الجو تارة، وتضمها أخرى بتسخير الله وتعليمه ما هي في حاجة إليه.
الإيضاح
(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أيء أمنتم أن يخسف ربكم بكم الأرض كما خسفها بقارون، فإذا هي تتحرك بكم حين الخسف، وتبتلعكم وتمور فوقكم جيئة وذهابا.
ثم انتقل من الوعيد بهذا إلى الوعيد بوجه آخر فقال:
(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي بل أمنتم أن يرسل عليكم ريحا فيها حصباء (حجارة صغار) كما فعل بقوم لوط، وحينئذ تعلمون كيف يكون عقابي إذا شاهدتموه، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ.
والخلاصة - كيف تأمنون من في السماء أن يصب عليكم العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، وقد ذلل لكم الأرض، وزين لكم السماء بمصابيح، فإذا لم تشكروا النعم، فأنتم حريّون بأن يرسل عليكم النقم.
ونحو الآية قوله تعالى: « قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ » وقوله: « أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ».
ثم لفت أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم، لعله يكون فيه مزدجر لهم فقال:
(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كذب من قبلهم من الأمم السالفة والقرون الغابرة من أرسلناهم من رسلنا فحاق بهم من سوء العذاب ما لا مردّ له، وحل بهم من البأس ما لم يجدوا له دافعا على شدة هو له وعظيم فظاعته.
والخلاصة - إن الكفار قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، ثم ذكر الدلائل على قدرته على إيصال أنواع العذاب بهم فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) أي أغفلوا عن قدرتنا ولم ينظروا إلى الطير فوقهم وهي باسطات أجنحتهن في الجو حين طيرانها تارة، وقابضات لها أخرى، وما يمسكهن في الجو حين الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إلا واسع رحمة من برأهن على أشكال وخصائص هو العليم بها، وألهمهن حركات تساعد على الجري في الهواء المسافات البعيدة لتحصيل أقواتهن، والبحث عن أرزاقهن؟.
ثم بين علة هذا فقال:
(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي إنه سبحانه عليم بدقيق الأشياء وجليلها، فيعلم كيف يبدع خلقها على السنن التي هو عليم بفائدتها لعباده.
والخلاصة - إنكم رأيتم بعض العجائب التي أبرزناها، والحكم التي أظهرناها فهل أنتم آمنون أن ندبر بحكمتنا عذابا نصبّه عليكم صبّا، ولا معقّب لحكمنا، ولا دافع لقضائنا.
[سورة الملك (67): الآيات 20 الى 27]
[عدل]أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) ويَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
شرح المفردات
جند: أي عون، ينصركم: أي يساعدكم فيدفع العذاب عنكم، من دون الرحمن: أي من غيره، في غرور: أي في خداع من الشيطان الذي يغركم بأن لا عذاب ولا حساب، أمسك رزقه: أي بإمساك المطر وغيره من الأسباب التي ينشأ منها الرزق، لجّوا: أي تمادوا، في عتوّ: أي تكبر وعناد عن قبول الحق، ونفور: أي إعراض وتباعد منه، مكبّا على وجهه: أي واقعا عليه، سويا: أي معتدلا منتصبا، والأفئدة: العقول واحدها فؤاد، ذرأكم: أي خلقكم، الوعد: أي الحشر الموعود، إنما العلم: أي العلم بوقته، زلفة: أي مزدلفا قريبا، سيئت وجوه الذين كفروا: أي تبين فيها السوء والقبح إذ علتها الكآبة والقترة، ويقال: ساء الشيء يسوء إذا قبح، تدّعون: أي تطلبونه وتستعجلونه استهزاء وإنكارا.
المعنى الجملي
بعد أن أبان للمشركين عجائب قدرته فيما يشاهدونه من أحوال الطير، ووبخهم على ترك التأمل فيها - أردفه بتوبيخهم على عبادتهم غيره تعالى يبتغون منه نصرا ورزقا، منكرا عليهم ما اعتقدوه، مبينا لهم أنهم لا يصلون إلى ما أمّلوه، وإلا فليبينوا هذا الناصر والمعين والرازق إذا هو أمسك رزقه.
أما وقد وضح الحق لذي عينين فهم في لجاج وعناد بعد وضوح الحجة وتبين المحجة، ثم ضرب مثلا يبين حالى المشرك والموحّد، فمثّل حال الأول بحال من يمشى منحنيا إلى الأمام على وجهه، فلا يدرى أين يسلك، ولا كيف يذهب، فيكون حائرا ضالا، ومثّل حال الثاني بحال من يمشى منتصب القامة على الطريق الواضح، فيرى ما أمامه ويهتدى إلى ما يريد.
ثم أعقب هذا بذكر الدلائل على تفرده بالألوهية بذكر خلق الإنسان في الأرض وإعطائه نعمة السمع والبصر، وأرشد إلى أن القليل من الناس شكور لهذه النعم.
ثم أردف هذا بذكر سؤال المشركين للرسول عن ميقات البعث استهزاء به، وإجابته إياهم بأن علمه عند الله وليس له من علمه شيء، وإنما هو نذير مبين، وذكر أنه حين تقوم القيامة ويعرف المشركون قرب وقوع ما كانوا ينكرون تعلو وجوههم غبرة، ترهقها قترة، ويقال لهم: إن ما كنتم تستعجلون قد وقع ولا مردّ له، فماذا أنتم فاعلون؟.
الإيضاح
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ؟ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي بل من هذا الذي يعينكم في دفع العذاب عنكم إذا أراد بكم سوءا؟ فما أنتم في زعمكم أنكم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتكم لا بحفظ الله لكم إلا في ضلال مبين، وقد أغواكم الشيطان، وغركم بهذه الأماني الباطلة.
وفي قوله: (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) إشارة إلى أنه برحمته أبقى الناس في الأرض مع ظلمهم وجهالتهم، إذ رحمته وسعت كل شيء، فوسعت البرّ والفاجر، والطير في السماء، والأنعام في الأرض.
ثم انتقل من توبيخهم على دعوى ناصر سواه إلى توبيخهم على دعوى رازق غيره فقال:
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟) أي بل من ذا الذي يرزقكم إن منع ربكم عنكم أسباب رزقه من الأمطار وغيرها، أو وقف الهواء فلم تجر الرياح، أو جعل ماء البحر غورا؟
والخلاصة - إنه لا جند لكم ينصركم إن هو عذبكم، ولا رازق يرزقكم إن هو حرمكم أرزاقكم.
وبعد أن حصحص الحق قال مبينا عتوهم وطغيانهم:
(بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي إنهم يعلمون ذلك حق العلم ويعبدون غيره، فما هذا منهم إلا عناد واستكبار ونفور عن قبول الحق، وما جرأهم على هذا إلا الشيطان الذي غرهم بوسوسته، فظنوا أن آلهتهم تنفعهم وتدفع الضر عنهم وتقرّبهم إلى ربهم زلفى.
ثم ضرب مثلا يبين به الفارق بين حالى المشرك والموحد، جعل فيه المعقول بصورة المحسوس، ليكون أبين للحجة، وأوضح لطريق المحجة فقال:
(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أي أفمن يمشى وهو يتعثر في كل ساعة، ويخر على وجهه في كل خطوة، لتوعر طريقه، واختلاف أجزائها انخفاضا وارتفاعا - أهدى سبيلا وأرشد إلى المقصد الذي فؤمه، أم من يمشى سالما من التخبط والعثار على الطريق السوي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ - فهذا المكب على وجهه هو المشرك الذي يمشى على وجهه في النار يوم القيامة، والذي يمشى سويا هو الموحد الذي يحشر على قدميه إلى الجنة.
وبعد أن امتنّ على عباده بما آتاهم من زينة السماء، وتذليل الأرض، وإمساك الطير في الهواء - أخذ يذكر ما هو أقرب إلينا وهو خلق أنفسنا فقال آمرا رسوله أن يبين لهم ذلك:
(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي قل لهم: إن ربكم هو الذي برأكم وجعل لكم السمع لتسمعوا به المواعظ، والأبصار لتنظروا بها بدائع صنع الخالق، والأفئدة لتتفكروا في كل هذا، وتستفيدوا منه الفوائد العقلية والمادية.
ثم أبان أن الإنسان لنعمة ربه لكنود فقال:
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم بها ربكم عليكم في طاعته، وامتثال أوامره، وترك زواجره، وذلك هو شكرانها.
ثم لخص هذا كله بقوله آمرا رسوله:
(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي قل لهم منبها إلى خطئهم: إن ربكم هو الذي برأكم في الأرض وبعثكم في أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم، وأشكالكم وصوركم، ثم يجمعكم كما فرقكم، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء، فيجزى كل نفس بما كسبت، إنه سريع الحساب.
وبعد أن ذكر أن إليه المرجع والمآب - أردفه بذكر مقالة الكافرين المنكرين لذلك فقال:
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويسألون الرسول استهزاء وتهكما: متى يقع ما تعدنا به من الخسف والحاصب في الدنيا، والحشر والعذاب في الآخرة إن كنت صادقا فيما تدعى وتقول؟
فأمر رسوله أن يجيبهم بأن علم ذلك عند بارئ النسم فقال:
(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي إنما علم ذلك على وجه التعيين عند ربي لا يعلمه إلا هو، وقد أمرني أن أخبركم بأن ذلك كائن لا محالة فاحذروه.
ونحو الآية قوله: « إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ».
ثم بين وظيفة الرسول فقال:
(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وإنما أنا منذر من عند ربي أبين لكم شرائعه، ما حلل منها وما حرم، لتكونوا على بينة من أمركم، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم.
ثم بين حالهم حين نزول ذلك الوعد الموعود فقال:
(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي فلما رأوا العذاب الموعود قريبا « وكل آت قريب وإن طال زمنه » ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والخسران، وغشيتها القترة والسواد، إذ جاءهم من أمر الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: هذا الذي كنتم تستعجلون وقوعه وتقولون لرسوله: « فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ».
ونحو الآية قوله: « وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ».
[سورة الملك (67): الآيات 28 الى 30]
[عدل]قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
شرح المفردات
أرأيتم: أي أخبروني، غورا: أي غائرا في الأرض لا تناله الدلاء، معين: أي جار سهل المأخذ تصل إليه الأيدي.
المعنى الجملي
روي أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله ﷺ وعلى المؤمنين بالهلاك كما حكى الله عنهم في آية أخرى بقوله: « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » وقوله: « بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا » فنزلت الآية، ثم أمره أن يقول لهم: إن هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب الله، ثم أمره أن يقول لهم: إنا آمنا بربنا وتوكلنا عليه، وستعلمون غدا من الهالك؟ ثم أمره أن يقول لهم: إن غار ماؤكم في الأرض ولم تصل إليه الدلاء، فمن يأتيكم بماء عذب زلال تشربونه؟
الإيضاح
أجاب سبحانه عن تمنى المشركين موته ﷺ ومن معه بوجهين:
(ا) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي قل لهم موبخا: أخبروني عن فائدة موتى لكم: سواء أماتنى الله ومن معى، أو أخر أجلنا فأى راحة لكم في ذلك، وأي منفعة لكم فيه، ومن ذا الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم، أتظنون أن الأصنام أو غيرها تجيركم وهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب، فتقروا بالتوحيد والنبوة والبعث؟.
وخلاصة هذا - إنه لا مجير لكم من عذاب الله بسبب كفركم الموجب لهذا العذاب - سواء هلكنا كما تتمنون ففزنا برحمة الله، أو انتصرنا عليكم ورفعنا شأن الإسلام كما نرجو، فكلا الأمرين فيه ظفر بما ينبغي، ونيل لما نحب ونهوى.
وفي هذا إيماء إلى أمرين:
(1) حثهم على طلب الخلاص بالإيمان الخالص لله والإخبات إليه.
(2) إنه كان ينبغي أن يكون ما هم فيه شاغلا لهم عن تمنى هلاك النبي ﷺ ومن معه من المؤمنين.
(ب) (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي قل لهم: آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكلنا في جميع أمورنا كما قال: « فاعبده وتوكّل عليه » وهو سيجيرنا من عذاب الآخرة.
وفي هذا تعريض بهم حيث اتكلوا على أولادهم وأموالهم « وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » وإشارة إلى أنهم لا يرحمون في الدارين، لأنهم كفروا بالله وتوكلوا على غيره.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما قبله فقال:
(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي فسيستبين لكم من الضالّ منا ومن المهتدى. ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة؟.
ولما ذكر أنه يجب التوكل عليه لا على غيره أقام الدليل على ذلك فقال آمرا رسوله أن يقول لهم:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي قل لهم: أخبروني إن ذهب ماؤكم في الأرض ولم تصل إليه الدلاء، فمن يأتيكم بماء جار تشربونه عذبا زلالا. ولا جواب لكم إلا أن تقولوا هو الله، وإذا فلم تجعلون ما لا يقدر على شيء شريكا في العبادة لمن هو قادر على كل شيء.
وفي هذا طلب إقرار منهم ببعض نعمه، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر.
وقصارى ذلك - إنه تعالى فضلا منه وكرما أنبع لكم المياه وأجراها في سائر الأقطار بحسب حاجتكم إليها قلة وكثرة، فله الحمد والمنة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
ما حوته السورة من موضوعات
[عدل](1) وصف السموات
(2) بيان أن نظام العالم لا عوج فيه ولا اختلاف.
(3) وصف عذاب الكافرين في الدنيا والآخرة.
(4) التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك.
سورة القلم
[عدل]هي مكية إلا من آية 17 إلى 33، ومن آية 48 إلى آية 50 فمدنية.
وعدد آيها ثنتان وخمسون، نزلت بعد العلق.
وهي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة، فقد نزلت: « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ » ثم هذه، ثم المزمل، ثم المدثر كما روى عن ابن عباس.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) إنه ذكر في آخر (الملك) تهديد المشركين بتغوير الأرض، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك وهو ثمر البستان الذي طاف عليه طائف فأهلكه وأهلك أهله وهم نائمون.
(2) إنه ذكر فيما قبل أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه لو شاء لخسف بهم الأرض أو أرسل عليهم حاصبا، وكان ما أخبربه هو ما أوحى به إلى رسوله، وكان المشركون ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر وأخرى إلى السحر وثالثة إلى الجنون - فبرأه الله في هذه السورة مما نسبوه إليه، وأعظم أجره على صبره على أذاهم وأثنى على خلقه.
[سورة القلم (68): الآيات 1 الى 7]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
شرح المفردات
يسطرون: أي يكتبون، ممنون: أي مقطوع يقال منّه السير إذا أضعفه، والمنين: الضعيف، المفتون: المجنون لأنه فتن، أي ابتلى بالجنون.
المعنى الجملي
أقسم ربنا بالقلم وما يسطّر به من الكتب: إن محمدا الذي أنعم عليه بنعمة النبوة ليس بالمجنون كما تدّعون، وكيف يكون مجنونا والكتب والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي.
وقد أقسم سبحانه بالقلم والكتب فتحا لباب التعليم بهما، ولا يقسم ربنا إلا بالأمور العظام فإذا أقسم بالشمس والقمر، والليل والفجر فإنما ذلك لعظمة الخلق وجمال الصنع، وإذا أقسم بالقلم والكتب فإنما ذاك ليعمّ العلم والعرفان، وبه تتهذب النفوس، وترقى شئوننا الاجتماعية والعمرانية، ونكون كما وصف الله « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » ثم وعد رسوله بما سيكون له من جزيل الأجر على صبره على احتمال أذى المشركين، وأردف هذا بوصفه بحسن الخلق ورفقه بالناس امتثالا لأمره « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن.
ثم هدد المشركين وتوعدهم بما سيتبين لهم من عاقبة أمره وأمرهم، وأنه سيكون العزيز المهيب في القلوب وسيكونون الأذلاء، وأنه سيستولى عليهم ويأسر فريقا ويقتل آخر، وسيعلمون حينئذ من المجنون؟ والله هو العليم بالمجانين الذين ضلوا عن سبيله، والعقلاء الذين اهتدوا بهديه.
الإيضاح
(ن) تقدم أن قلنا غير مرة إن أرجح الآراء في معنى الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور أنها حروف تنبيه نحو ألا، وأما.
(وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) أي أقسم بالقلم وما يكتب به من الكتب.
ثم ذكر المقسم عليه فقال:
(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي إنك لست بالمجنون كما يزعمون، فقد أنعم الله عليك بالنبوة وحصافة العقل وحسن الخلق.
ثم بين بعض نعمه عليه فقال:
(1) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي وإن لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على الأذى ومقاساة الشدائد.
(2) (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فقد برأك الله على الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق كريم.
روى الشيخان عن أنس خادم رسول الله ﷺ قال: « خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي أفّ قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله ألّا فعلته؟ ».
وروى أحمد عن عائشة قالت: « ما ضرب رسول الله ﷺ بيده خادما له قط، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا خيّر بين شيئين قط إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله ».
وفي الآية رمز إلى أن الأخلاق الحسنة لا تكون مع الجنون، وكلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد من الجنون.
ثم توعدهم بما يحل بهم من النكال والوبال في الدنيا والآخرة فقال:
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ؟) أي فستعلم أيها الرسول وسيعلم مكذبوك من المفتون الضال منكم ومنهم؟
ونحو الآية قوله تعالى: « سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ » وقوله: « وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ».
والخلاصة - ستبصر ويبصرون غلبة الإسلام واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر وهيبتك في أعين الناس أجمعين، وصيرورتهم أذلّاء صاغرين.
وهذا يشمل ما كان في بدر وغيرها من الوقائع التي كان فيها النصر المبين للمؤمنين، والخزي والهوان وذهاب صولة المشركين مما كان عبرة ومثلا للآخرين.
ثم أكد ما تضمنه الكلام السابق من الوعد والوعيد فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك سبحانه هو أعلم بمن حاد عن الطريق السوي المؤدى إلى سعادة الدارين، وهام في تيه الضلالة، فلا يفرق بين ما ينفع وما يضر، بل يحسب الضر نفعا والنفع ضرا، وأعلم بالمهتدين إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل محذور، ويجازى كلّا من الفريقين بحسب ما يستحقون من العقاب والثواب.
[سورة القلم (68): الآيات 8 الى 16]
[عدل]فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
شرح المفردات
قال الليث: الإدهان: اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام، وقال المبرد: يقال داهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا أظهر خلاف ما يضمر، والحلّاف: كثير الحلف في الحق والباطل، والمهين: المحتقر الرأي والتمييز، والهماز: العياب الطعّان، والمشاء بالنميم: أي الذي يمشى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، والمنّاع للخير: البخيل، والمعتدى: الذي يتجاوز الحق ويسير في الباطل، والأثيم: الكثير الآثام والذنوب، والعتلّ: الشديد الخصومة الفظّ الغليظ، والزنيم: الذي يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها (الجزء المسترخى من أذنها حين تشق ويبقى كالشيء المعلق) سنسمه: أي نجعل له سمة وعلامة، والخرطوم: الأنف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالة المشركين في الرسول بنسبته إلى الجنون، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال في الدين والخلق - أردفه مما يقوى قلبه ويدعوه إلى التشدد مع قومه، مع قلة العدد وكثرة الكفار (إذ هذه السورة من أوائل ما نزل) فنهاه عن طاعتهم عامة، ثم أعاد النهي عن طاعة المكذبين الذين اتصفوا بالأخلاق الذميمة التي ذكرت في هذه الآيات خاصة، دلالة على قبح سيرتهم، وضعة نفوسهم، وتدسيتهم لها بعظيم الذنوب والآثام.
الإيضاح
(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة المكذبين عامة وتشدد في ذلك.
وفي هذا إيماء إلى النهي عن مداراتهم ومداهنتهم، استجلابا لقلوبهم، وجذبا لهم إلى اتباعه.
(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي ودّ المشركون لو تلين لهم في دينك بالركون إلى آلهتهم، فيدينون لك في عبادة إلهك.
روي أن رؤساء مكة دعوة إلى دين آبائه فنهاه عن طاعتهم.
وخلاصة ذلك - ودوا لو تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم، فيفعلون مثل ذلك، ويتركون بعض ما لا ترضى، فتلين لهم ويلينون لك، وترك بعض الدين كله كفر بواح.
والمراد من هذا النهى التهييج والتشدد في المخالفة والتصميم على معاداتهم.
ونحو الآية قوله: « وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا. إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا ».
ثم خص من هؤلاء المكذبين أصنافا هانت عليهم نفوسهم فأفسدوا فطرتها، تشهيرا بهم فقال:
(1) (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي ولا تطع المكثار من الحلف بالحق وبالباطل. والكاذب يتقى بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على الله - ضعفه ومهانته أمام الحق، وفيه دليل على عدم استشعاره الخوف من الله. والكذب أسّ كل شر، ومصدر كل معصية، وكفى مزجرة لمن اعتاد الحلف، أن جعله الولي فاتحة المثالب، وأسّ المعايب.
(2) (مَهِينٍ) أي محتقر الرأي والتفكير.
(3) (هَمَّازٍ) أي عيّاب طعّان يذكر الناس بالمكروه، وينال من أعراضهم بذكر مثالبهم.
(4) (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.
وأصل النميمة الحركة الخفيفة ومنه أسكت الله نأمنه أي ما ينمّ عليه من حركته.
(5) (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بماله ممسك له، لا يجود به لدى البأساء والضراء فهو لا يدفع عوز المعوزين، ولا يساعد المحتاجين البائسين، ولا ينجد الأمة إذا حزبها الأمر، وضاقت بها السبل، كدفع عدوّ يهاجم البلاد، أو دفع كارثة نزلت بها، تحتاج إلى بذل المال.
(6) (مُعْتَدٍ) أي متجاوز لما حدّه الله من أوامر ونواه، فهو يخوض في الباطل خوضه في الحق، ولا يتحرّج عن ارتكاب المآثم والمظالم.
(7) (أَثِيمٍ) أي كثير الآثام ديدنه ذلك، فهو لا يبالى بما ارتكب، ولا بما اجترح.
(8) (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) أي وفوق ذلك هو فظ غليظ جاف، يعامل الناس بالغلظة والفظاظة.
(9) (زَنِيمٍ) أي معروف بالشرور والآثام، كما تعرف الشاة بالزنمة روى عن ابن عباس أنه قال: هو الرجل يمرّ على القوم فيقولون رجل سوء.
ثم ذكر بعض مار بما دعاه إلى طاعتهم فقال:
(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطع من هذه مثالبه من جراء ماله، وكثرة أولاده وتقوّيه بهم، فإن ذلك لا يجديه نفعا عند ربه كما قال سبحانه: « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ».
ثم ذكر سبب النهي عن طاعته فقال:
(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا تلى عليه القرآن قال ما هو إلا من كلام البشر، ومن قصص الأولين التي دوّنت في الكتب، وليس هو من عند الله.
ونجو الآية قوله تعالى: « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا. سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ».
وبعد أن ذكر قبائح أفعاله توعّده فقال:
(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنجعل له سمة وعلامة على أنفه والمراد أنا سنبين أمره بيانا واضحا حتى لا يخفى على أحد كما لا يخفى ذو السمة على الخرطوم.
وفي هذا إذلال ومهانة له، لأن السمة على الوجه شين، فما بالك بها في أكرم موضع، وهو الأنف الذي هو مكان العزّة والحميّة والأنفة، ومن ثم قالوا: الأنف في الأنف، وقالوا حمى أنفه، وقالوا: هو شامخ العرنين، وعلى عكسه قالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه، قال جرير:
لمّا وضعت على الفرزدق ميسمي وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وفي التعبير بلفظ (الخرطوم) استخفاف به، لأنه لا يستعمل إلا في الفيل والخنزير، وفى استعمال أعضاء الحيوان للانسان كالمشفر للشفة، والظّلف للقدم دلالة على التحقير كما لا يخفى.
والخلاصة - سنذله في الدنيا غاية الإذلال، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشر، ونسمه يوم القيامة على أنفه، ليعرف بذلك كفره وانحطاط قدره.
[سورة القلم (68): الآيات 17 الى 33]
[عدل]إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْرًا مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
شرح المفردات
بلوناهم: أي امتحناهم بألوان من البلاء والآفات، والجنة: البستان، ليصر منّها: أي ليقطعنّ ثمار نخيلها، مصبحين: أي وقت الصباح، ولا يستثنون: أي ولا ينثنون عما همّوا به من منع المساكين، فطاف عليها طائف من ربك: أي طرقها طارق من عذاب ربك، إذ أرسل عليها صاعقة من السماء أحرقتها، كالصريم: أي كالليل البهيم في السواد بعد أن احترقت، فتنادوا: أي نادى بعضهم بعضا، أن اغدوا: أي اخرجوا غدوة مبكّرين، حرثكم: أي بستانكم، صارمين: أي قاصدين الصّرم وقطع الثمار، يتخافتون: أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والمناجاة حتى لا يسمعهم أحد، على حرد: أي على منع، لضالون: أي قد ضللنا طريق جنتنا وما هذه هي، محرومون: أي حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا، أوسطهم: أي أرجحهم رأيا، تسبحون: أي تذكرون الله وتشكرونه على ما أنعم به عليكم، يتلاومون: أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين، طاغين: أي متجاوزين حدود الله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن ذا المال والبنين كفر وعصى وتمرد لما آتاه الله من النعم - أردف هذا ببيان أن ما أوتيه إنما كان ابتلاء وامتحانا ليرى أيصرف ذلك في طاعة الله وشكره، فيزيد له في النعمة، أم يكفر بها فيقطعها عنه، ويصب عليه ألوان البلاء والعذاب؟ كما أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعاصي دمّر الله جنتهم، فما بالك بمن حادّ الله ورسوله وأصر على الكفر والمعصية.
روي أن هذه الجنة كانت على فرسخين من صنعاء بأرض اليمن لرجل صالح وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل، وما في أسفل الأكداس، وما أخطأه القطاف من العنب، وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم من ذلك شيء كثير، فلما مات الرجل قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، ونحن أولو عيال، فحلفوا ليصرمنّها وقت الصباح خفية عن المساكين فجازاهم الله بما يستحقون وأحرق جنتهم، ولم يبق منها شيئا.
الإيضاح
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي إنا امتحنا كفار مكة بما تظاهر عليهم من النعم والآلاء، وما رحمناهم به من واسع العطاء، لنرى حالهم، أيشكرون هذه النعم ويؤدون حقها، وينيبون إلى ربهم، ويتبعون الداعي لهم إلى سبيل الرشاد وهو الرسول ﷺ الذي بعثناه لهم هاديا وبشيرا ونذيرا، أم يكفرون به ويكذبونه، فيجحدون حق الله عليهم، فيبتليهم بعذاب من عنده ويبيد تلك النعم جزاء كفرانهم وجحودهم، كما اختبرنا أصحاب ذلك البستان الذين منعوا حق الله فيه، وعزموا على ألا يؤدوا زكاته لبائس ولا فقير، فحق عليهم من الجزاء ما هم له أهل، ودمره شر التدمير.
(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي حين حلفوا ليجذّنّ ثمرها غدوة حتى لا يعلم بهم سائل ولا فقير، فيتوافر لهم ما كان يأخذه هؤلاء الفقراء، ولم ينثنوا عما همّوا به.
ثم أخبر عما جازاهم به لكفرانهم بهذه النعم ومنعهم حق الفقراء فقال:
(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلا وهم نيام، إذ أرسل عليها صاعقة فاحترقت وصارت تشبه الليل البهيم في السواد.
أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: « إياكم والمعصية فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيىء له، ثم تلا: فطاف عليها طائف الآية، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم ».
وقد غفلوا عما قدر لهم فلم يدروا مما كان شيئا، ومن ثم أرادوا تنفيذ ما عزموا عليه.
(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي فنادى بعضهم بعضا هلمّوا واذهبوا غدوة لقطع ثمار بستانكم إن كنتم فاعلين.
وقد أحكموا التدبير وأخفوا الأمر جدّ الخفية حتى لا يتسمع لهم أحد كما قال:
(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي فمضوا إلى حرثهم يتسارّون ويقول بعضهم لبعض: لا تمكّنوا اليوم مسكينا من الدخول فيها.
(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وغدوا مصممين على منع المساكين وحرمانهم وهم قادرون على نفعهم، فهم قد تعجلوا الحرمان وكان أولى بهم أن تكون هممهم متوجهة إلى النفع الذي هم قادرون عليه.
ولكن وا خيبة أملاه، ووا ضياع مسعاهم، ويا هول ما رأوه مما لا تصدقه العين ولا يخطر لهم ببال، بستان كان بالأمس عامرا زاخرا بالخير والبركة أصبح قاعا صفصفا قد تغيرت معالمه، ودرست رسومه، حتى تشككوا فيه حين رأوه كما قال سبحانه:
(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي فلما صاروا إلى بستانهم ورأوه محترقا أنكروه وشكّوا فيه وقالوا: أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه؟
ولكن بعد أن تبينت لهم معالمه واستيقنوها عادوا على أنفسهم بالملامة وقالوا:
(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي لسنا بضالين، بل نحن قد حرمنا خيره بجنايتنا على أنفسنا، بشؤم عزمنا على البخل ومنع مساعدة البائسين والمعوزين، وندموا على ما فرط منهم حيث لا ينفع الندم، كما يرشد إلى ذلك قوله سبحانه حاكيا عنهم.
(قالَ أَوْسَطُهُمْ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي قال أرجحهم رأيا، وأحسنهم تدبيرا: ألم أقل لكم: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أولاكم من النعم، فتؤدوا حق البائس الفقير، ليبارك لكم فيما أنعم وتفضل، لكنكم أعرضتم عما أدليت لكم به من الرأي وضربتم به عرض الحائط.
وبعد اللّتيا والتي، وبعد ضياع الفرصة تبين لهم خطأ ما كانوا عزموا عليه، واعترفوا بذنوبهم كما حكى عنهم سبحانه بقوله:
(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) أي تنزيها لربنا أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا.
ثم أكدوا ندمهم واعترافهم بالذنب تحقيقا لتوبتهم وهضما لأنفسهم فقالوا:
(إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا بحرماننا البائس الفقير، ولكن هيهات فقد ضاعت الفرصة، وحل مكانها الغصّة، وهكذا شأن الإنسان.
وبعد أن حدث ما حدث ألقى كل منهم تبعة ما وقع على غيره وتشاحنوا، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله:
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) فيقول هذا لهذا: أنت الذي أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذاك لهذا: أنت الذي خوفتنا الفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت الذي رغبتنى في جمع المال.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل والثبور كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنهم:
(قالُوا يا وَيْلَنا) أي قالوا: أقبل أيها الهلاك فلا نستحق غيرك، ثم بينوا علة هذا الدعاء بقولهم.
(إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي إنا اعتدينا على ما حده الله لنا من الإحسان على الفقراء والمعوزين، وتركنا الشكر على نعمه علينا.
ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم خيرا من جنتهم فقالوا:
(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْرًا مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي لعل الله يعطينا بدلا هو خير منها، بتوبتنا من زلاتنا، ويكفر عنا سيئاتنا، إنا راجون عفوه، طالبون الخير منه.
روي عن مجاهد أنهم تابوا فأبدلهم الله خيرا منها.
(كَذلِكَ الْعَذابُ) أي وهكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه وأنعم به عليه ومنع حق البائس الفقير.
وإذا كانت هذه حال من فعل الذنب اليسير كأصحاب الجنة، فما بالكم بذنب من يعاند الرسول ويصرّ على الكفر والمعصية؟.
وبعد أن أبان لهم أن عذاب الدنيا كما سمعتم ورأيتم أشار إلى عذاب الآخرة فقال:
(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن عذاب الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا، فما عذاب هذه إلا هلاك الأموال والثمرات، وعذاب تلك نار وقودها الناس والحجارة، فلو كانوا من ذوي العلم والمعرفة لارتدعوا عن غيّهم وثابوا إلى رشدهم.
وفي هذا نعى عليهم بالغفلة، وأنهم ليسوا من أرباب النّهى والمعرفة.
[سورة القلم (68): الآيات 34 الى 43]
[عدل]إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
شرح المفردات
تدرسون: أي تقرءون، تخيرون: أي تختارون، أيمان: أي عهود، بالغة: أي متناهية في التوكيد موثّقة، إلى يوم القيامة: أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم، أيهم بذلك زعيم: أي أيهم كفيل بذلك الحكم وأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها، كشف الساق: يراد به الشدة، وقد كانوا إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق.
قد شمّرت عن ساقها فشدوا وجدّت الحرب بكم فجدّوا
روي عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب. أما سمعتم قول الراجز:
صبرا عناق إنه شرّ باق
قد سن لي قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق
خاشعة أبصارهم: أي ذليلة، سالمون: أي أصحاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوه وخالفوا أمره - أعقب هذا ببيان أن لمن اتقاه وأطاعه جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفنى في الدار الآخرة، ثم ردّ على من قال من الكفار: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد وصحبه، لم يفضلونا بل نكون أحسن منهم حالا، لأن من أحسن إلينا في الدنيا يحسن إلينا في الآخرة - بأنكم كيف تسوّون بين المطيع والعاصي فضلا عن أن تفضلوا العاصي عليه، ثم أخذ يقطع عليهم الحجة فقال: أتلقيتم كتابا من السماء فقرأتم فيه أنكم تختارون ما تشاءون، وتكونون وأنتم مجرمون كالمسلمين الصالحين، أم أعطينا كم عهودا أكدناها بالأيمان فاستوثقتم بها فهي ثابتة لكم إلى يوم القيامة؟
أم لكم أناس يذهبون مذهبكم في هذا القول، وإن صح أن لكم ذلك فلتأتوا بهم يوم يشتد الأمر، ويصعب الخطب. وتدعونهم حينئذ إلى السجود فلا يستطيعون، وتكون أبصارهم خاشعة ذليلة، وقد كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود وهم سالمون أصحاء، فيأبون كل الإباء.
الإيضاح
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي طن لمن اتقوا ربهم فأدّوا فرائضه، واجتنبوا نواهيه، جنات ينعمون فيها النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله فضلنا عليكم في الدنيا فلا بدّ أن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة، فرد الله عليهم ما قالوا وأكد فوز المتقين بقوله:
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟) أي أفنحيف في الحكم ونسوى بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء، كلا ورب الأرض والسماء.
ثم عجّب من حكمهم واستبعده، وبين أنه لا يصدر من عاقل فقال:
(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي ماذا حصل لكم من فساد الرأي وخبل العقل حتى قلتم ما قلتم؟
ثم سدّ عليهم طريق القول، وقطع عليهم كل حجة يستندون إليها فيما يدّعون فقال:
(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي أفبأيديكم كتاب نزل من السماء تدرسونه وتتداولونه، ينقله الخلف عن السلف، يتضمن حكما مؤكدا كما تدّعون، أن لكم ما تختارون وتشتهون، وأن الأمر مفوض إليكم لا إلى غيركم؟
وخلاصة هذا - أفسدت عقولكم حتى حكمتم بهذا، أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم؟.
(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أم معكم عهود منا مؤكدة لا نخرج من عهدتها إلى يوم القيامة أنه سيحصل لكم كل ما تهوون وتشتهون؟.
وخلاصة ذلك - أم أقسمنا لكم قسما إن لكم كل ما تحبون؟.
ثم طلب إلى رسوله ﷺ أن يسألهم على طريق التوبيخ والتقريع فقال:
(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) الزعيم عند العرب الضامن والمتكلم عن القوم، أي قل لهم من الكفيل بتنفيذ هذا؟
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي أم لهم ناس يشاركونهم في هذا الرأي، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين؟ وإن كان كذلك فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم.
وقصارى هذا الحجاج - نفى جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم، فنبه أوّلا إلى نفى الدليل العقلي بقوله: « ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » ثم إلى نفى الدليل النقلى بقوله: « أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ » ثم إلى نفى الوعد بذلك - ووعد الكريم دين عليه - بقوله: « أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا » ثم إلى نفى التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله: « أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ».
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي فليأتوا بهؤلاء الشركاء ليعاونوهم إذا اشتد الهول وعظم الأمر يوم القيامة.
وحينئذ يدعى هؤلاء الشركاء إلى السجود توبيخا لهم على تركهم إياه في الدنيا فلا يستطيعون، فتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمون أصحاء فلم يفعلوا.
(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يدعون إلى السجود وتكون أبصارهم خاشعة وتغشاهم ذلة في ذلك اليوم، وقد كانوا في الدنيا متكبرين متجبرين، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه.
(وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أي إنهم لما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامة أبدانهم، عوقبوا في الآخرة بعدم قدرتهم عليه، فإذا تجلى الرب سجد له المؤمنون، ولم يستطع أحد من الكافرين والمنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقا واحد، فكلما همّ بالسجود خرّ لقفاه بعكس السجود في الدنيا.
وقال النخعي والشعبي: المراد بالسجود الصلوات المفروضة، وقال آخرون: إن المراد جميع العبادات.
[سورة القلم (68): الآيات 44 الى 52]
[عدل]فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
شرح المفردات
تقول: ذرنى وإياه: أي كله إلي فإني أكفيكه ويقال استدرجه إلى كذا: إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورّطه فيه، وأملى لهم: أي أمهلهم وأطيل لهم المدة يقال أملى الله له: أي أطال له الملاوة وهي المدة من الزمن، والكيد هنا: الإحسان، والمغرم: الغرامة المالية، مثقلون: أي مكلفون أحمالا ثقالا فهم بسببها يعرضون عنك، الغيب: هو ما كتب في اللوح واستأثر الله بعلمه، يكتبون: أي يحكمون على الله بما شاءوا وأرادوا، حكم ربك: هو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم، صاحب الحوت: هو يونس عليه السلام، مكظوم: أي مملوء غيظا، من قولهم: كظم السقاء إذا ملأه، والعراء: الأرض الخالية، فاجتباه: أي اصطفاه، يزلقونك: أي يزلون قدمك، يقولون: نظر إلي نظرة كاد يصرعنى، أو كاد يأكلنى: أي لو أمكنه بنظره أن يصرعنى أو يأكلنى لفعل، قال شاعرهم:
يتقارضون إذا التقوا في موطن نظرا يزل مواطن الأقدام
والذكر: القرآن، ذكر: أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه.
المعنى الجملي
بعد أن خوف الكفار من هول يوم القيامة - خوّفهم مما في قدرته من القهر فقال لرسوله مؤنّبا لهم وموبخا: خلّ بيني وبين من يكذب بهذا القرآن، فإني عالم بما ينبغي أن أفعل بهم، فلا تشغل قلبك بهم، وتوكل علي في الانتقام منهم، إنا سندنيهم من العذاب درجة فدرجة، ونورطهم فيه بما نوليهم من النعم، ونرزقهم من الصحة والعافية، فتزداد معاصيهم من حيث لا يشعرون، فكلما جدّدوا معصية جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم شكرها.
ثم قال لرسوله: ماذا ينقمون منك؟ء أنت تسألهم أجرا على تبليغ الرسالة ثقل عليهم فامتنعوا عن إجابة دعوتك؟ أم عندهم علم الغيب المكتوب في اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يحكمون به؟ كلا، لا هذا ولا ذاك، إذا فالقوم معاندون، فلم يبق إلا أن تصبر لحكم ربك، وقد حكم بإمهالهم وتأخير نصرتك، وهم إن أمهلوا فلن يهملوا.
ثم نهى رسوله أن يكون كيونس عليه السلام حين غضب على قومه ففارقهم ونزل إلى السفينة فابتلعه الحوت ودعا ربه وقال: « لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ » وهو مملوء غيظا وحنقا.
ثم أخبر رسوله بأن الكافرين ينظرون إليه شذرا حين يسمعون منه القرآن، ويقولون حسدا على ما آتاه من النبوة: « إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ » تنفيرا منه ومن دعوته، وما القرآن إلا عظة للجن والإنس جميعا، لا يفهمها إلا من كان أهلا لها.
الإيضاح
(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي كل أيها الرسول أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن إلي، ولا تشغل قلبك بشأنهم فأنا أكفيك أمرهم، وهذا كما يقول القائل لمن يتوعد رجلا: دعنى وإياه، وخلّنى وإياه، فأنا أعلم بمساءته والانتقام منه.
وفي هذا تسلية لرسوله وتهديد للمشركين كما لا يخفى.
وخلاصة ذلك - حسبك انتقاما منهم أن تكل أمرهم إلي وتخلّى بيني وبينهم.
ثم بيّن كيف يكون ذلك التعذيب المستفاد إجمالا من الكلام السابق فقال:
(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة من حيث لا يعلمون أنه استدراج، بل يزعمون أنه إيثار وتفضيل لهم على المؤمنين، مع أنه سبب في هلاكهم في العاقبة.
ونحو الآية قوله: « أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ » وقوله: « فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ ».
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأؤخرهم وأنسئ في آجالهم ملاوة من الزمان على كفرهم وتمردهم علي لتتكامل حججى عليهم، وإن كيدى لأهل الكفر لقوي شديد.
وسمى سبحانه إحسانه إليهم كيدا « والكيد ضرب من الاحتيال » لكونه في صورته، من قبل أنه تعالى يفعل بهم ما هو نفع لهم ظاهرا وهو يريد بهم الضرر، لما علم من خبث طويّتهم، وسوء استعدادهم وتماديهم في الكفر وتدسيتهم أنفسهم بالآثام والمعاصي.
وفي الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: « إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد ».
ثم ذكر من الشبه ما ربما يكون هو المانع لهم عن قبول الحق فقال:
(1) (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسأل أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله على ما آتيتهم من النصيحة والدعوة إلى الحق أجرا دنيويا؟ فهم من غرم ذلك الأجر مثقلون بأدائه، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك، وتجنبوا لعظم ما أصابهم من الغرم الدخول في الدين الذي دعوتهم إليه.
وخلاصة ذلك - إن أمرهم لعجيب، فإنك لتدعوهم إلى الله بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك من ربك، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وعنادا.
(2) (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي أم عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه نبأ ما هو كائن، فهم يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على قولهم، ويخاصمونك بما يكتبون من ذلك، ويستغنون بذلك عن الإجابة لك، والامتثال لما تقول.
ولما بالغ في تزييف طريق الكافرين، وزجرهم عما هم عليه، أمر رسوله بالصبر على أذاهم فقال:
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر على قضاء ربك وحكمه فيك وفى هؤلاء المشركين، وامض لما أمرك به، ولا يثنك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه - تكذيبهم وأذاهم لك.
روي أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض نفسه على القبائل بمكة فنزل قوله تعالى
(وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي ولا تكن كيونس ابن متّى حين ذهب مغاضبا لقومه، فكان من أمره ما كان من ركوب البحر والتقام الحوت له، وشروده به في البحار، فنادى ربه في الظلمات من بطن الحوت وهو مملوء غيظا من قومه إذ لم يؤمنوا حين دعاهم إلى الإيمان.
وجاء في الآية الأخرى: « فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ».
(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لو لا أن تداركته نعمة الله بتوفيقه للتوبة وقبولها منه، لطرح بالفضاء من بطن الحوت وهو مليم مطرود من الرحمة والكرامة.
(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولكن تداركته نعمة من ربه فاصطفاه وأوحى إليه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، وجعله من المرسلين العاملين بما أمرهم به ربهم، المنتهين عما نهاهم عنه.
ثم بيّن بالغ عداوتهم له، فذكر أنها سرت من القلب إلى النظر فقال:
(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا، حتى ليكادون يزلون قدمك فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله، حسدا لك وبغضا.
ويرى بعضهم أن المراد إنهم يكادون يصيبونك بالعين، وروى أنه كان في بنى أسد عيّانون، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله ﷺ فعصمه الله وأنزل عليه هذه الآية.
وقد صح هذا الحديث من عدة طرق: « إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر ».
وروى أحمد عن أبي ذرّ مرفوعا: « إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا ثم يتردّى منه ».
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وعن الحسن: رقية العين هذه الآية.
وسر هذا أن من خصائص بعض النفوس أن تؤثر في غيرها بوساطة العين، لما فيها من كهربية خاصة يكون بها تأثير فيما تنظر إليه، والله يخص ما شاء بما شاء.
وشبيه بهذا تأثير بعض النفوس في بعض بوساطة التنويم المغناطيسى الذي أصبح الآن فناله أساليب علمية لا يمكن إنكارها.
(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي ويقولون لحيرتهم في أمره، وجهلهم بما في تضاعيف القرآن من عجائب الحكم، وبدائع العلوم: إنه لمجنون.
(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي يقولون ما قالوا، وما هو إلا تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، أفيكون من أنزل عليه مثل هذا وهو مطلع على أسراره، محيط بجميع حقائقه خبرا، ممن ينطبق عليه مثل هذا الوصف الذي قالوه، أم يكون مثل هذا من أدل الدلائل على كمال الفضل والعقل؟
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ما تضمنته هذه السورة من موضوعات
[عدل](1) محاسن الأخلاق النبوية إلى قوله: « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ».
(2) سوء أخلاق بعض الكفار وجزاؤهم من قوله: « فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ » إلى قوله: « سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ».
(3) ضرب المثل لهم بأصحاب الجنة من قوله: « إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله « لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » (4) تقريع المجرمين وتوبيخهم وإقامة الحجج عليهم.
(5) تهديد المشركين المكذبين بالقرآن بقوله: « فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ » إلخ.
(6) أمره ﷺ بالصبر على أذى المشركين حتى لا يكون كصاحب الحوت.
سورة الحاقة
[عدل]هي مكية، وآيها ثنتان وخمسون، نزلت بعد سورة الملك.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) إنه وقع في ن ذكر يوم القيامة مجملا، وهنا فصّل نبأه وذكر شأنه العظيم.
(2) إنه ذكر فيما قبلها من كذب بالقرآن وما توعده به، وهنا ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل وما جرى عليهم، ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام.
[سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 12]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
شرح المفردات
الحاقة: من حق الشيء، إذا ثبت ووجب، أي الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء وهي يوم القيامة، ما الحاقة: أي أي شيء هي؟ تفخيما لشأنها، وتعظيما لهولها، وما أدراك ما الحاقة: أي أي شيء أعلمك ما هي؟ فلا علم لك بحقيقتها، إذ بلغت من الشدة والهول أن لا يبلغها علم المخلوقين، والقارعة: هي الحاقة التي تقرع قلوب الناس بالمخافة والأهوال، وتقرع الأجرام بالانفطار والانتشار، وسميتقارعة لشدة هولها، إذ القرع ضرب شيء بشىء، والطاغية: هي الواقعة التي جاوزت الحد في الشدة والقوة كما قال « إنّا لمّا طغى الماء » أي جاوز الحد، والمراد بها الصاعقة، والصرصر: الشديدة الصوت التي لها صرصرة، عانية: أي بالغة منتهى القوة والشدة، سخرها عليهم: أي سلطها عليهم، حسوما: أي متتابعة واحدها حاسم، والحسم: القطع والاستئصال وسمى السيف حساما لأنه يحسم العدو عما يريد من عداوته، وصرعى: واحدهم صريع أي ميت، وأعجاز: واحدها عجز، وهو الأصل، وخاوية: أي خالية الأجواف لا شيء فيها، والباقية: البقاء، والمؤتفكات: أي المنقلبات وهي قرى قوم لوط، جعل الله عاليها سافلها بالزلزلة، والخاطئة: الخطأ، رابية: من ربا الشيء إذا زاد أي الزائدة في الشدة، وطغى الماء: تجاوز حده وارتفع، حملناكم: أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم، والجارية: السفينة التي تجرى في الماء، وتعيها: أي تحفظها، وتقول لكل ما حفظته في نفسك: وعيته، وتقول لكل ما حفظته في غير نفسك: أوعيته فيقال أوعيت المتاع في الوعاء قال: « والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد ».
المعنى الجملي
ذكر سبحانه أن يوم القيامة حق لا شك فيه، وأن الأمم التي عصت رسلها وكذبتهم، أصابها الهلاك والاستئصال بألوان من العذاب، فثمود أهلكت بالصاعقة وعاد أهلكت بريح صرصر عانية سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، فصاروا صرعى كأنهم أصول نخل جوفاء، لم يبق منهم ديّار، ولا نافخ نار وكذلك أهلك فرعون وقومه بالغرق، وقوم لوط بالزلزال الشديد الذي قلب قراهم وجعل عاليها سافلها، وأهلك قوم نوح بالطوفان.
الإيضاح
(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ؟) هذا أسلوب من الكلام يفيد التفخيم والمبالغة في الغرض الذي يساق له، فكأنه قيل: أي شيء هي في حالها وصفتها؟ فهي لا تحيط بها العبارة، ولا يبلغ حقيقتها الوصف.
ثم زاد سبحانه في تفظيع شأنها، وتفخيم أمرها، وتهويل حالها فقال:
(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟) أي أي شيء أعلمك ما هي؟ فهي خارجة عن دائرة علوم المخلوقات، لعظم شأنها، ومدى هولها وشدتها، فلا تبلغها دراية أحد ولا وهمه، فكيفما قدرت حالها، فهي فوق ذلك وأعظم.
قال سفيان بن عيينة: كل ما في القرآن قال فيه: وما أدراك، فإنه ﷺ أخبر به، وكل شيء قال فيه: وما يدريك، فإنه لم يخبر به.
ثم ذكر بعض الأمم التي كذبت بها، وما حاق بها من العذاب فقال:
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي كذبت ثمود وعاد بالقيامة التي تقرع الناس بالفزع والهول، والسماء بالانفجار، والأرض والجبال بالنسف، والنجوم بالطمس والانكدار.
ثم فصل ما نزل بكل أمة من العذاب فقال:
(1) (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي فأما ثمود فأهلكهم الله بصيحة جاوزت الحد في الشدة كما جاء في هود « وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ » وهي الصاعقة التي جاءت في حم السجدة، والرجفة والزلزلة التي جاءت في سورة الأعراف، فلا تعارض بين الآيات، لأن الهلاك في بعضها نسب إلى السبب القريب، وفى بعضها نسب إلى السبب البعيد.
(2) (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) أي وأما عاد فأهلكوا بريح مهلكة عتت عليهم بلا شفقة ولا رحمة، فما قدروا على الخلاص منها بحيلة: من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء في حفرة، فقد كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم، وقد دامت سبع ليال وثمانية أيام بلا انقطاع ولا فتور.
ثم ذكر نتائجها فقال:
(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟) أي فترى قوم عاد في تلك السبع الليالي والثمانية الأيام المتتابعة صرعى هالكين، كأنهم أصول نخل متأكلة الأجواف لم يبق منهم ولا من نسلهم أحد، وجاء في آية أخرى: « فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ ».
(3) (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) أي وجاء فرعون ومن تقدمه من الأمم التي كفرت بآيات الله كقوم نوح وعاد وثمود والقرى التي ائتفكت بأهلها، وصار عاليها سافلها، بسبب خطيئتها ومعصيتها.
ثم بيّن هذه الخطيئة بقوله:
(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي فعصى هؤلاء الذين تقدم ذكرهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأذاقهم وبال أمرهم بعقوبة زائدة على عقوبة سائر الكفار، كما زادت قبائحهم على قبائح غيرهم ونحو الآية قوله: « كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ».
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي إنا لما ارتفع الماء، وجاوز الحد، وجاء الطوفان حملنا آباءكم من مؤمنى قوم نوح في السفينة، لننجيهم من الغرق الذي عمّ هؤلاء الكافرين جميعا.
والمشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته.
ثم ذكر ما في هذه النجاة من العبرة فقال:
(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) أيلنجعل نجاة المؤمنين، وإغراق الكافرين عظة وعبرة، لدلالتها على كمال قدرة الصانع وحكمته، وسعة رحمته.
(وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أيوتفهمها أذن حافظة سامعة عن الله، فتنتفع بما سمعت من كتابه ولا تضيع العمل بما فيه.
روي أن النبي ﷺ قال لعلي: « إني دعوت الله أن يجعلها أذنك يا علي » قال علي كرم الله وجهه: فما سمعت شيئا فنسيته، وما كان لي أن أنسى.
[سورة الحاقة (69): الآيات 13 الى 18]
[عدل]فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
شرح المفردات
نفخة واحدة: هي النفخة الأولى، حملت الأرض والجبال: أي رفعت من أه كنها، فد كتادكة واحدة: أي ضرب بعضها ببعض حتى اندقت وصارت كثيبا مهيلا، الواقعة: النازلة وهي يوم القيامة، انشقت السماء: أي فتحت أبوابا، واهية: أي مسترخية ضعيفة القوة، من قولهم: وهي السقاء إذا انخرق، ومن أمثالهم قول الراجز:
خلّ سبيل من وهي سقاؤه ومن هريق بالفلاة ماؤه
أرجائها: أي جوانبها، واحدها رجا، ثمانية: أي ثمانية أشخاص، خافية: أي سريرة.
المعنى الجملي
بعد أن قص هذه القصص الثلاثة، ونبّه بها على ثبوت القدرة والحكمة، وبها ثبت إمكان وقوع يوم القيامة - شرع يذكر تفاصيل أحوال هذا اليوم وما يكون فيه من أهوال.
الإيضاح
(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) أي فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التي عندها خراب العالم.
(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي رفعت من أماكنها، ولا ندري كيف رفعت فذلك من أنباء الغيب، فقد يكون ذلك بريح يبلغ من قوة عصفها أن تحملهما، أو أن ملكا يحملهما، أو بقدرة الله من غير سبب ظاهر، أو بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب، فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة، وترتفع الأرض من حيّزها.
(فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي فضرب بعضهما ببعض ضربة واحدة حتى تقطعت أوصالهما، وصارتا كثيبا مهيلا، وهباء منبثا لا يتميز شيء من أجزائهما عن الآخر.
(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي فحينئذ تقوم القيامة.
(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي وتصدعت السماء لأنها يومئذ ضعيفة المنّة كالعهن المنفوش، بعد أن كانت شديدة الأسر عظيمة القوة.
(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي والملائكة على جوانب السماء ينظرون إلى أهل الأرض، ولا ندري كيف ذلك، ولا الحكمة فيه، فندع تفصيل ذلك ونؤمن به كما جاء في الكتاب ولا نزيد عليه.
(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ويحمل عرش ربك حينئذ فوق رءوسهم ثمانية من الملائكة.
(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي فيومئذ تحاسبون وتسألون، لا يخفى على الله شيء من أموركم، فإنه تعالى عليم بكل شيء، لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، كما جاء في آية أخرى: « لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ».
وفي هذا تهديد شديد، وزجر عظيم، ومبالغة لا تخفى، وفضيحة للكافرين، وسرور للمؤمنين بظهور ما كان خفيا عليهم من أعمالهم، وبذلك يتكامل حبورهم وسرورهم.
والتعبير بالعرض تشبيه بعرض السلطان لعسكره، ليعرف أحوالهم، وفى هذا العرض إقامة للحجة، ومبالغة في إظهار العدل.
أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ « يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ».
[سورة الحاقة (69): الآيات 19 الى 24]
[عدل]فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)
شرح المفردات
هاؤم: أي خذوا، ظننت: أي علمت، ملاق: أي معاين، راضية: أي يرضى بها صاحبها، عالية: أي مرتفعة المكان، والقطوف: ما يجتنى من الثمر، واحدها قطف (بكسر القاف وسكون الطاء) دانية: أي قريبة، هنيئا: أي بلا تنغيص ولا كدر، أسلفتم: أي قدمتم، الخالية: أي الماضية.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم يعرضون على الله ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم - فصل أحكام هذا العرض، فأخبر بأن من يؤتى كتابه بيمينه يشتد فرحه حتى يقول لكل من لقيه: خذ كتابى واقرأه، لأنه يعلم ما فيه من خير وفضل من الله، ويقول: إني كنت أعلم أن هذا اليوم آت لا ريب فيه، وإني سأحاسب على ما أعمل، وحينئذ يكون جزاؤه عند ربه جنة عالية ذات ثمار دانية، ويقال له ولأمثاله: كلوا واشربوا هنيئا بما قدمتم لأنفسكم في الدنيا.
الإيضاح
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أي فأما من أعطى كتابه بيمينه فيقول: تعالوا اقرءوا كتابى فرحا به، لأنه لما أوتيه باليمين علم أنه من الناجين الفائزين بالنعيم، فأحب أن يظهره لغيره حتى يفرحوا بما نال.
ثم ذكر العلة في حسن حاله فقال:
(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي إني فرح مسرور، لأني علمت أن ربى سيحاسبني حسابا يسيرا، وقد حاسبني كذلك، فالله عند ظن عبده به.
قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شكّ وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك.
وقال الحسن في الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل للآخرة، وإن الكافر أساء الظن بربه فأساء العمل لها.
ثم بيّن عاقبة أمره فقال:
(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي فهو يعيش عيشة مرضية خالية مما يكدر مع دوامها وما فيها من إجلال وتعظيم.
ثم فصل ذلك فقال:
(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي فهو يعيش في بستان عال رفيع ذي ثمار دانية القطوف، يأخذها المرء كما يريد، إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له، وهو قائم وجالس أو مضطجع، وإن أحب أن تدنو إلى فيه دنت له.
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي ويقول لهم ربهم جل ثناؤه: كلوا يا معشر من رضيت عنه فأدخلته جنتى - من ثمارها وطيب ما فيها من الأطعمة، واشربوا من أشربتها، أكلا وشربا هنيئا لا تتأذون بما تأكلون وما تشربون جزاء من الله، وثوابا على ما قدمتم في دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعتي.
[سورة الحاقة (69): الآيات 25 الى 37]
[عدل]وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
شرح المفردات
القاضية: أي القاطعة للحياة فلم أبعث بعدها، ما أغنى عنى ماليه: أي لم يغن عنى مالى الذي تركته في الدنيا، هلك: أي بطل، والسلطان: الحجة، غلّوه: أي شدّوه بالأغلال، والغلّ: القيد الذي يجمع بين اليدين والعنق، والجحيم: النار المتأججة المشتعلة، وصليته النار وأصليته: أي أوردته إياها، ذرعها: أي طولها، فاسلكوه: أي فاجعلوه فيها بحيث يكون كأنه السلك: أي الحبل الذي يدخل في ثقب الخرزات بعسر لضيق ذلك الثقب، إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلفّ عليه، ويقال سلكته الطريق: إذا أدخلته فيه، حميم: أي قريب مشفق، والغسلين: الدم والماء والصديد الذي يسيل من لحوم أهل النار قاله ابن عباس، وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا: « لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا » أخرجه الحاكم وصححه، والخاطئون: أي الآثمون يقال خطئ الرجل: إذا تعمد الإثم والخطأ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سرور السعداء بصحائف أعمالهم، ثم بيّن حسن أحوالهم في معايشهم ومساكنهم - أردف ذلك بذكر غمّ الأشقياء الكافرين وحزنهم بوضع الأغلال والقيود في أعناقهم وأيديهم، وإعطائهم الغسلين طعاما، ثم أعقبه بذكر سبب هذا، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحثون على مساعدة ذوي الحاجة والبائسين.
الإيضاح
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) فإنه لما نظر في صحيفة أعماله، وتذكر قبيح أفعاله، خجل منها وتمنى أن لو كان عذب في النار ولم يخجل هذا الخجل. وفي هذا إيماء إلى أن العذاب الروحاني أشد ألما من العذاب الجسماني.
(وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ؟) أي ولم أعلم أي شيء حسابى الذي أحاسب به، إذ كله وبال ونكال.
(يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت نهاية الحياة، لم أبعث بعدها ولم ألق ما أنا فيه من نكال وسوء منقلب.
قال قتادة: تمنّى الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت ا هـ، وشر من الموت ما يطيب له الموت، قال شاعرهم:
وشرّ من الموت الذي إن لقيته تمنيت منه الموت والموت أعظم
(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي لم يدفع عنى مالى الذي كنت أملكه في الدنيا من عذاب الله ولا من بأسه شيئا.
(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ذهب ملكي وتسلطى على الناس، وبقيت فقيرا ذليلا، ومراده التحسر والندم، إذ كان ينازع المحقين بسبب الملك والسلطان، فالآن ذهب ذلك وبقي الوبال.
ثم ذكر سبحانه سوء منقلبه فقال:
(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي فيقال لزبانية جهنم: خذوه فضعوا الغلّ في عنقه، ثم أدخلوه في النار الموقدة لقاء كفره بالله واجتراحه عظيم الآثام.
(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعًا فَاسْلُكُوهُ) أي ثم أدخلوه في سلسلة طولها سبعون ذراعا تلفّ على جميع جسمه حتى لا يستطيع تحركا ولا انفلاتا.
والعرب إذا أرادت الكثرة عبرت بالسبعة والسبعين والسبعمائة، والمقصد إثبات أنها طويلة المدى.
ثم بيّن سبب استحقاق هذا العذاب فقال:
(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) أي افعلوا ذلك به جزاء له على كفره بالله في الدنيا وإشراكه به سواه، وعدم القيام بحق عبادته وأداء فرائضه.
(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث الناس على إطعام أهل المسكنة والحاجة، فضلا عن بذل المال لهم.
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي فليس له يوم القيامة من ينقذه من عذاب الله تعالى، لأنه يوم يفرّ فيه القريب من قريبه ويهرب الحبيب من حبيبه.
وجاء في آية أخرى: « وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا » وقال: « ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ».
(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي وليس له طعام إلا ما يسيل من لحوم أهل النار من الدم والصديد الذي لا يأكله إلا من مرن على اجتراح السيئات، ودسّى نفسه وأحاطت به الخطايا.
[سورة الحاقة (69): الآيات 38 الى 43]
[عدل]فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)
شرح المفردات
ما تبصرون: هي المشاهدات، وما لا تبصرون: هي المغيبات.
المعنى الجملي
بعد أن أقام الدليل على إمكان القيامة، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال المؤمنين السعداء، والكافرين الأشقياء - أردف ذلك بتعظيم القرآن والرسول المنزل عليه هذا القرآن.
قال مقاتل: سبب نزول الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) أي أقسم بما تشاهدون من المخلوقات وبما غاب عنكم، قال قتادة: أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر، وقال عطاء: ما تبصرون من آثار القدرة، وما لا تبصرون من أسرار القدرة.
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي إن هذا القرآن كلام الله ووحيه أنزله على عبده ورسوله محمد ﷺ.
(وما هو بقول شاعر) لأن محمدا لا يحسن قول الشعر.
(قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ) أي تؤمنون بذلك القرآن إيمانا قليلا، والمراد أنهم لا يؤمنون أصلا، فالعرب تقول: قلما يأتينا، يريدون أنه لا يأتينا.
وقد يكون المراد بالقلة أنهم قد يؤمنون في قلوبهم ثم يرجعون عنه سريعا.
(وَلا بِقَوْلِ كاهِن ٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) أيوليس بقول كاهن كما تزعمون، لأنه سبّ الشياطين وشتمهم، فلا يمكن أن يكون بإلهامهم، ولكنكم لما لم تستطيعوا فهم أسرار نظمه - قلتم: إنه من كلام الكهان.
ثم أكد ما تقدم بقوله:
(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي بل هو تنزيل من رب العالمين نزل به الروح الأمين على رسوله ﷺ.
[سورة الحاقة (69): الآيات 44 الى 52]
[عدل]وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
شرح المفردات
التقوّل: الافتراء، وسمى بذلك لأنه قول متكلّف، والأقاويل: الأقوال المفتراة، واحدها قول على غير قياس، لأخذنا منه: أي لأمسكناه، باليمين: أي بيمينه، والوتين: عرق يخرج من القلب ويتصل بالرأس، حاجزين: أي ما نعين، حق اليقين: أي عين اليقين.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت أن القرآن تنزيل من رب العالمين، وليس بشعر ولا كهانة - أكد هذا بأن محمدا لا يستطيع أن يفتعله، إذ لو فعل ذلك لأبطلنا حجته، وأمتنا دعوته، أو سلبناه قوة البيان فلا يتكلم بهذا الكذب، أو قتلناه فلم يستطع نشر الأكاذيب، وقد جرت سنتنا بأن كل متكلف للقول لا يقبل قوله، ولا يصغي السامعون إلى كلامه كما قال: « وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ » ولا يستطيع أحد بعدئذ أن يدافع عنه.
ثم ذكر أن القرآن عظة لمن يتقى الله ويخشى عقابه، وإنه حسرة على الكافرين حينما يرون ثواب المؤمنين، وإنه لحق لا ريب فيه.
ثم أمر رسوله بأن يقدس ربه العظيم ويشكره على ما آتاه من النعم، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم.
الإيضاح
(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي ولو افترى محمد علينا بعض الأقوال الباطلة ونسبها إلينا لعاجلناه بالعقوبة، وانتقمنا منه أشد الانتقام.
والأخذ باليمين يكون عند ضرب الرقبة وإزهاق الروح، وقد جرى ذكر هذا على التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم فإنهم لا يمهلونه، بل يضربون رقبته على الفور.
(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الوتين: عرق غليظ تصادفه شفرة الناخر.
قال الشماخ ابن ضرار:
إذا بلّغتني وحملت رحلي عرابة فأشرقي بدم الوتين
والمراد - أنه لو كذب علينا لأزهقنا روحه، فكان كمن قطع وتينه، وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، إذ يأخذه القتّال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه.
(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي فما أحد منكم يمنعنا عن عقوبته، والتنكيل به.
وجمع « حاجِزِينَ » باعتبار أحد، إذ هو في معنى الجماعة، ويقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كما جاء في قوله: « لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » وقوله: « لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ».
(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي وإن هذا القرآن لعظة وذكرى لمن يخشى عقاب الله فيطيع أوامره، وينتهى عما نهى عنه، وخص (المتقين) بالتذكرة والعظة، لأنهم هم الذين ينتفعون بها.
(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) له بسبب حبكم للدنيا وحسدكم للداعى، وإنا لنجازيكم على ذلك بما تستحقون إظهارا للعدل.
والخلاصة - إن منكم من اتقى الله فتذكر بهذا القرآن وانتفع به، ومنكم من مال إلى الدنيا فكذب به وأعرض عنه.
وفي هذا وعيد شديد لا يخفى.
(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وإن هذا القرآن لحسرة عظيمة على الكافرين في دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين، وفى الآخرة إذا رأوا ثواب المصدقين.
(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي وإنه للحق الذي لا شك في أنه من عند الله لم يتقوّله محمد ﷺ.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه، تنزيها له عن لرضا بالتقوّل عليه، وشكرا له على ما أوحى به إليك من هذا القرآن الجليل الشأن.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
ما تضمنته هذه السورة الكريمة
[عدل]تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد:
(1) هلاك الأمم المكذبة لرسلها في الدنيا من أول السورة إلى قوله: « أُذُنٌ واعِيَةٌ »
(2) عذاب الآخرة جزاء على التكذيب في الدنيا.
(3) إثبات أن القرآن العظيم وحي من عند الله وليس بقول شاعر ولا كاهن.
سورة المعارج
[عدل]هي مكية، وآياتها أربع وأربعون، نزلت بعد الحاقة، وهي كالتتمة لها في وصف القيامة وعذاب النار.
[سورة المعارج (70): الآيات 1 الى 18]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَراهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) ولا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
شرح المفردات
سأل سائل: أي دعا داع، من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، كما جاء في قوله: « يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ » ليس له دافع: أي إنه واقع لا محالة، والمعارج: واحدها معرج، وهو المصعد (أسّنسير) كما قال: « وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ » والمراد بها النعم التي تكون درجات متفاضلة، تصل إلى الخلق على مراتب مختلفة، والروح: هو جبريل عليه السلام، والمهل: دردىء الزيت، وهو ما يكون في قعر الإناء منه، والعهن: الصوف المصبوغ ألوانا، والحميم: القريب، يبصرونهم: أي يبصر الأحماء الأحماء ويرونهم، يود: أي يتمنى، والمجرم: المذنب، وصاحبته: زوجته، وفصيلته: هي عشيرته، تؤويه: أي تضمه ويأوى إليها، كلّا: هي كلمة تفيد الزجر عما يطلب، لظى: هي النار، والشوى: واحدها شواة، وهي جلدة الرأس تنتزعها النار انتزاعا فتفرقها ثم تعود إلى ما كانت عليه، تدعو: أي تجذب وتحضر، تولى: أي أعرض عن الطاعة، جمع فأوعى: أي جمع المال فجعله في وعاء.
المعنى الجملي
كان أهل مكة يقول بعضهم لبعض: إن محمدا يخوّفنا بالعذاب، فما هذا العذاب؟ ولمن هو؟ وكان النضر بن الحرث ومن لفّ لفّه يقولون إنكارا واستهزاء: « اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم » فنزلت هذه الآيات.
الإيضاح
(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي طلب طالب عذابا واقعا لا محالة، سواء طلب أم لم يطلب، لأنه نازل بالكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد، فلما ذا هم يطلبونه استهزاء؟.
(مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ) أي ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته إذا جاء وقته، فإذا اقتضت الحكمة وقوعه امتنع ألا يفعله، وهو ذو النعم التي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، ودرجات متفاوتة.
والخلاصة - إن العذاب الذي طلبه السائلون واستبطئوه واقع لا محالة، وهو سبحانه لم يفعل ذلك إلا لحكمة، وهي وضعهم في الدركات التي هم أهل لها بحسب استعدادهم، وما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال والخطايا التي أحاطت بهم من كل صوب.
وقد نظم سبحانه العوالم فجعل منها مصاعد، ومنها دركات، فليكن هؤلاء في الدركات، وليكن المؤمنون والملائكة في الدرجات طبقا عن طبق على نظم ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة.
ثم بيّن مقدار ارتفاع تلك الدرجات فقال:
(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي تصعد في تلك المعارج الملائكة وجبريل عليه السلام إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقى في ذلك الصعود خمسين ألف سنة، لكنهم يصعدون إليها في الزمن القليل، وليس المراد من ذكر الخمسين تحديد العدد، بل المقصد أن مقام القدس الإلهي بعيد المدى عن مقام العباد، فهم في المادة مغموسون، وهناك عوالم ألطف وألطف، درجات بعضها فوق بعض، وكل عالم ألطف مما قبله، وكلما لطف العالم العلوي كان أشد قوة وهكذا: « وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ».
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) أي إذا سألوا استعجال العذاب على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالوحي، وكان هذا يورث ضجرك أيها الرسول - فاصبر صبرا جميلا بلا جزع ولا شكوى، لأنه أمر محقق، وكل آت قريب.
ثم بيّن أن هذا اليوم آت لا شك فيه فقال:
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَراهُ قَرِيبًا) أي إنهم يرون هذا اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة - بعيدا غير ممكن، ونحن نراه قريبا هيّنا غير بعيد علينا ولا متعذر.
ثم ذكر وقت حدوثه فقال:
(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي إن العذاب واقع بالكافرين يوم تكون السماء كأنها عكر الزيت، والمراد أنها تكون واهية ضعيفة غير متماسكة.
(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي وتكون الجبال هشّة غير متلاحمة كأنها الصوف المنفوش إذا طيرته الريح، روى عن الحسن: أنها تسير مع الرياح ثم تنهدّ، ثم تصير كالعهن، ثم تنهدّ فتصير هباء منثورا.
(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) أي ولا يسأل قريب مشفق قريبا عن حاله، ولا يكلمه لابتلاء كل منهما بما يشغله كما جاء في قوله: « وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى » وقوله: « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » (يُبَصَّرُونَهُمْ) من قولك بصّرته بالشيء إذا أو ضحته له حتى يبصره، أي يتعارفون ثم يفرّ بعضهم من بعض بعد ذلك ثم أرشد إلى هول ذلك اليوم فقال:
(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يتمنى الكافر لو ينفع أعز الناس إليه فدية، لينجيه من ذلك العذاب، فيؤدّ لو كان أبناؤه أو زوجته أو أخوه أو عشيرته التي تضمه إليها، أو أهل الأرض جميعا فداء له ليخلص من ذلك العذاب.
والخلاصة - يتمنى الكافر لو كان هؤلاء جميعا في قبضة يده ليبذلهم فدية عن نفسه، ثم ينجيه ذلك - هيهات.
(كَلَّا) أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض، أو بأعزّ ما يجده من مال ولو بملء الأرض ذهبا، أو بولده الذي كان حشاشة كبده في الدنيا، أو بزوجته وعشيرته.
(إِنَّها لَظى. نَزَّاعَةً لِلشَّوى. تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي إنها النار الشديدة الحرارة التي تنزع جلدة الرأس وتفرقها، ثم تعود إلى ما كانت عليه وأنشدوا قول الأعشى:
قالت قتيلة ماله قد جلّلت شيبا شواته
وهذه النار تجذب إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدّر أنهم في الدنيا يعلمون عملها، من بين أهل المحشر، فدسّوا أنفسهم إذ كذبوا بقلوبهم، وتركوا العمل بجوارحهم، وجمعوا المال بعضه على بعض وكنزوه ولم يؤدوا حق الله فيه، وتشاغلوا به عن فرائضه من أوامر ونواه.
[سورة المعارج (70): الآيات 19 الى 35]
[عدل]إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) والَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) والَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
شرح المفردات
الهلع: سرعة الحزن عند مسّ المكروه، وسرعة المنع عند مسّ الخير، من قولهم: ناقة هلوع: إذا كانت سريعة السير. وسأل محمد بن طاهر ثعلبا عن الهلع فقال: قد فسره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه - يعني قوله: « إِذا مَسَّهُ » الآية. والجزع: حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه، والخير: المال والغنى، حق معلوم: أي نصيب معين يوجبونه على أنفسهم تقرّبا إلى الله وإشفاقا على المحتاجين، المحروم: الفقير الذي لا يسأل الناس فيظن أنه غني، يصدقون بيوم الدين: أي يصدقون به تصديقا يكون له الأثر في نفوسهم، فيسخرونها ويسخرون أموالهم في طاعة الله ومنفعة الناس، مشفقون: أي خائفون، حافظون: أي كافّون لها عن الحرام، راعون: أي لا يخلّون بشىء من حقوقها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه هو ذو المعارج والدرجات العالية، والنعم الوفيرة التي يسبغها على عباده الأخيار - أردف هذا بذكر المؤهّلات التي توصل إلى تلك المراتب وتبعد عن ظلمة المادة التي تدخل النفوس في النار الموقدة التي تنزع الشوى، وبيّن أنها عشر خصال تفكّه من السلاسل التي تقيده بها غرائزه التي فطر عليها، وعاداته التي ألفها وركن إليها، وهي ترجع إلى شيئين: الحرص، والجزع. وهذه الخصال هي:
(1) الصلاة.
(2) المداومة عليها في أوقاتها المعلومة.
(3) إقامتها على الوجه الأكمل بحضور القلب، والخشوع للربّ، ومراعاة سننها وآدابها.
(4) التصديق بيوم الجزاء بظهور أثر ذلك في نفسه اعتقادا وعملا (5) إعطاء صدقات من أموالهم للفقراء والمحرومين.
(6) مراعاة العهود والمواثيق.
(7) أداء الأمانات إلى أهلها.
(8) حفظ فروجهم عن الحرام.
(9) أداء الشهادة على وجهها.
(10) الخوف من عذاب الله.
الإيضاح
(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) أي إن الإنسان جبل على الهلع، فهو قليل الصبر، شديد الحرص، فإذا افتقر أو مرض أخذ في الشكاة والجزع، وإذا صار غنيّا أو سليما معافى منع معروفه وشح بماله، وما ذاك إلا لاشتغاله بأحواله الجسمانية العاجلة، وقد كان من الواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال الآخرة، فإذا مرض أو افتقر رضى بما قسم له، علما بأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وإذا وجد المال والصحة صرفهما في طلب السعادة الأخروية، وقد استثنى من هذه الحال من اتصفوا بالصفات الآتية:
(1) (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي إن الإنسان بطبعه متصف بصفات الذم، خليق بالمقت إلا من عصمهم الله ووفقهم، فهداهم إلى الخير ويسر لهم أسبابه، وهم المصلون الذين يحافظون على الصلوات في أوقاتها، لا يشغلهم عنها شيء من الشواغل.
وفي هذا إيماء إلى فضيلة المداومة على العبادة، أخرج بن حبّان عن أبي سلمة قال: حدثتنى عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ « خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملّوا، قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله ﷺ ما داوم عليه وإن قلّ، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها، وقرأ أبو سلمة: الذين هم على صلاتهم دائمون.
(2) (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي والذين في أموالهم نصيب معين لذوي الحاجات والبائسين، تقربا إلى الله وإشفاقا على خلقه، سواء سألوا واستجدوا، أو لم يسألوا تعففا منهم.
والمراد بهذا الحق المعلوم: ما يوظفه الرجل على نفسه، فيؤديه كل جمعة أو كل شهر أو كلما جدت حاجة تدعو إلى بذل المال، كإغاثة فرد أو إغاثة أمة طرأ عليها ما يستدعي البذل لمصلحة هامة لها، كالدفاع عن عدو أو دفع مجاعة أو ضرورة بلحّة مفاجئة.
(3) (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي والذين يوقنون بالمعاد والحساب، فيعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب وتظهر آثار ذلك في أفعالهم وأقوالهم ومعتقداتهم، فينيبون إلى الله ويخبتون إليه.
(4) (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي والذين هم خائفون وجلون من تركهم للواجبات، وإقدامهم على المحظورات، ومن يدم به الخوف والإشفاق فيما كلف به يكن حذرا من التقصير، حريصا على القيام بما كلف به من علم وعمل.
ونحو الآية قوله: « وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ » وقوله: « الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ».
ثم ذكر الداعي لهم إلى هذا الخوف فقال:
(إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ في الطاعة، ومن ثم أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا كثيرى الخوف والوجل كما يشعر بذلك قول بعضهم: ليت أمي لم تلدني. وقول آخر: ليتني شجرة تعضد، إلى أشباه ذلك مما يعبر عن شديد الوجل والخشية.
(5) (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) راجع تفسير هذا بتوسّع في سورة المؤمنين (6) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا.
(7) (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي والذين يقومون بأداء الشهادة عند الحكام، ولا يكتمونها ولا يغيرونها، والشهادة من جملة الأمانات، وخصها بالذكر لعظم شأنها، إذ بها تحيا الحقوق، وبتركها تموت.
(8) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أيوالذين يحافظون على صلاتهم، ويراعون شرائطها، ويكملون فرائضها فيجتهدون قبل الدخول فيها في تفريغ القلب من الوساوس والالتفات إلى ما سوى الله، مع حضور القلب حين القراءة، وفهم ما يتلى فيها من آي الذكر الحكيم.
ثم وعد هؤلاء بحسن المآل فقال:
(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال في بساتين يكرمون فيها بأنواع اللذات والمسرات، وإلى ذلك أشار الحديث « فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ».
[سورة المعارج (70): الآيات 36 الى 44]
[عدل]فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعًا كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
شرح المفردات
قبلك: أي في الجهة التي تليك، مهطعين: أي مسرعين نحوك، مادّى أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك، ليظفروا بما يجعلونه هزوا، وأنشدوا:
بمكة أهلها ولقد أراهم إليه مهطعين إلى السماع
عزين: أي فرقا شتى حلقا حلقا، قال عبيد بن الأبرص.
فجاءوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا
واحدهم عزة، وأصلها عزوة، لأن كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه الأخرى، بمسبوقين: أي بمغلوبين، والأجداث: القبور، واحدها جدث، والسّراع: واحدهم سريع، والنصب (بضمتين) كل شيء منصوب كالعلم والراية وكذا ما ينصب للعبادة، وهو المراد هنا، ويوفضون: أي يسرعون، خاشعة أبصارهم: أي ذليلة، ترهقهم: أي تغشاهم.
المعنى الجملي
بعد أن وعد المؤمنين بجنات النعيم مع الكرامة والإجلال - أردف ذلك بذكر أحوال الكافرين مع الرسول ﷺ، وأبان لهم خطأهم فيما يرجون من جنات النعيم على ما هم عليه من كفر وجحود، ثم توعدهم بالهلاك، ولن يستطيع أحد دفعه عنهم، ثم أمر رسوله أن يدعهم وشأنهم حتى يوم البعث، يوم يخرجون من قبورهم مسرعين كأنهم ذاهبون إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان، (وقد كان من دأبهم أن يسرعوا حين الذهاب إليها) وهم في هذا اليوم تكون أبصارهم ذليلة، وترهق وجوههم قترة، لما تحققوا من عذاب لا منجاة لهم منه، وقد أوعدوه في الدنيا فكذبوا به.
روي: أنه عليه السلام كان يصلى عند الكعبة ويقرأ القرآن، وكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون ويستهزئون ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنّ قبلهم، فنزلت هذه الآيات.
الإيضاح
(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي فما بالهم يسرعون إليك، ويجلسون حواليك، عن يمينك وعن شمالك، جماعات متفرقة، نافرين منك، لا يلتفتون إلى ما تلقيه عليهم من رحمة الله وهديه، ونصحه وإرشاده، وما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم.
ونحو الآية قوله: « فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ».
أخرج مسلم وغيره عن جابر قال: دخل علينا رسول الله ﷺ المسجد ونحن حلق متفرقون، فقال: « مالى أراكم عزين، ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصّون في الصف »
وقد كانت عادتهم في الجاهلية أن يجلسوا حلقا مجتمعين.
قال شاعرهم:
ترانا عنده والليل داج على أبوابه حلقا عزينا
ثم أيأسهم من نيلهم للسعادة التي يفوز بها من يستمعون القول فيتبعون أحسنه فقال:
(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟ كَلَّا) أي أيطمع هؤلاء وهم نافرون من الرسول ﷺ، معرضون عن سماع الحق - أن يدخلوا جنتى كما يدخلها المؤمنون المخبتون الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا؟ كلا لا مطمع لهم في ذلك مع ما هم عليه.
ثم ذكر السبب في تيئيسهم منها فقال:
(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يكملها بذلك فهو بمعزل عن أن يتبوأ متبوأ الذين أخلصوا لله وحده، وبعدت نفوسهم عن دنس الشرك والمعاصي.
ثم توعدهم بأنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم أهلكهم واستبدل بهم قوما غيرهم خيرا منهم فقال:
(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي أقسم برب الكواكب ومشارقها ومغاربها، إنا لقادرون على أن نخلق أمثل منهم يستمعون دعوة الداعي ونصح الناصح، ونهلك هؤلاء، ولن يعجزنا ذلك، لكن مشيئتنا اقتضت تأخير عقوبتهم.
والخلاصة - إن هؤلاء المشركين في تناقض واضطراب في الرأي، فكيف ينكرون البعث ثم يطمعون في دخول الجنة، وكيف ينكرون الخالق وقد خلقهم أوّلا مما يعلمون، وهو قادر على خلق مثلهم ثانيا.
وفي هذا تهكم بهم وتنبيه إلى تناقضهم في كلامهم، فإن الاستهزاء بالساعة ودخول الجنة مما لا يقبله إلا من عنده دخل في العقل، ومجانفة لصواب الرأي.
ثم سلّى رسوله عما يقولون ويفعلون فقال:
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي دعهم في تكذيبهم وعنادهم إلى يوم البعث، وحينئذ يعلمون عاقبة وبالهم، ويذوقون شديد نكالهم، حين يعرضون للحساب والجزاء، يوم تجزى كل نفس بما عملت، لا شفيع ولا نصير، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ثم فصل أحوالهم في هذا اليوم فقال:
(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعًا كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يوم يخرجون من قبورهم إذا دعاهم الداعي لموقف الحساب - سراعا يسابق بعضهم بعضا، كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النّصب إذا عاينوه يبتدرون أيهم يستلمه قبل - مع خشوع الأبصار وذلتها لهول ما تحققوا من العذاب، تعلو وجوههم القترة، لما أصابهم من الكآبة والحزن.
ثم ذكر أن ذلك العذاب الذي وقعوا فيه، كانوا قد أنذروا به، ولم يأتهم بغتة فقال:
(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي ذلك اليوم وما فيه من أهوال عظام كانوا قد أنذروا في الدنيا أنهم ملاقوه وكانوا به يكذبون، فلا عذر لهم فيما سيموا به من سوء العذاب.
خلاصة ما جوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد:
[عدل](1) وصف يوم القيامة وأهواله.
(2) وصف النار وعذابها.
(3) صفات الإنسان التي أوجبت له الجحيم، وكيف يجتهد لإزالة ما به من النقص حتى يرتقى إلى المعارج، ويخرج من عالم المادة.
(4) وعيد الكافرين على ما يلاقونه في ذلك اليوم.
سورة نوح عليه السلام
[عدل]هي مكية، وعدد آيها ثمان وعشرون، نزلت بعد سورة النحل.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) أنه قال في السورة السابقة: « إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ » وذكر هنا قصة نوح المشتملة على إغراقهم إلا من قد آمن، وإبدالهم بمن هم خير منهم، فكأنها وقعت موقع الاستدلال على تلك الدعوى.
(2) تواخى مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعود به الكفار.
[سورة نوح (71): الآيات 1 الى 4]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
المعنى الجملي
أخبر سبحانه أنه أرسل نوحا إلى قومه وأمره أن ينذرهم بأسه قبل حلوله بهم، فقال نوح: يا قوم إني نذير لكم، فعليكم أن تعبدوا الله وحده وتطيعوه، فإن فعلتم ذلك غفر لكم ذنوبكم ومدّ في أعماركم، ودرأ عنكم العذاب، وأمر الله إذا جاء لا يردّ ولا يدفع، فهو العظيم الذي قهر كل شيء، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.
الإيضاح
(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إنا أرسلنا نوحا رسولا إلى قومه وقلنا له: أنذرهم بأس الله وعذابه، قبل أن يغرقهم الطوفان.
ثم أخبر بأنه لما أمره بذلك امتثل الأمر.
(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قال نوح لقومه: إني أنذركم عذاب الله فاحذروا أن ينزل بكم على كفركم به.
ثم فصل ما أنذرهم به، فذكر ثلاثة أشياء:
(1) (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أي آمركم بعبادة الله وحده، والأمر بذلك يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح.
(2) (وَاتَّقُوهُ) أي وآمركم بتقواه وخوف عذابه، بأن تتركوا محارمه، وتحتنبوا مآثمه.
(3) (وَأَطِيعُونِ) أي وانتهوا إلى ما آمركم به واقبلوا نصيحتى لكم.
ولما كلفهم بهذه الثلاثة الأشياء وعدهم عليها بشيئين:
(1) (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي إذا فعلتم ما أمركم به، وصدقتم ما أرسلت به إليكم - غفر لكم ذنوبكم وسامحكم فيما فرط منكم من الزلات.
وفي هذا وعد لهم بإزالة مضار الآخرة عنهم، وأمنهم من مخاوفها.
(2) (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويمدّ في أعماركم إلى الأمد الأقصى الذي قدره الله إذا آمنوا وأطاعوا وراء ما قدره لهم، على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان.
واستدل العلماء بهذه الآية على أن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة كما جاء في الحديث: « صلة الرحم تزيد في العمر »
ولا ريب أن التقوى والطاعة تؤثر هذا الأثر، إذ طهارة الأرواح، ونقاء الأشباح تطيل العمر، فبها يحفظ الأمن، وتكتسب الفضائل، وتجتلب المنافع المادية.
والخلاصة - إن الأجل أجلان على ما قاله الزمخشري وعبارته: فقد قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا: يؤخركم إلى أجل مسمى، أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه، وهو الوقت الأطول، وهو تمام الألف اهـ.
ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول فلا بد من الموت فقال:
(إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن أجل الله الذي كتبه على خلقه في أم الكتاب إذا جاء لا يؤخر عن ميقاته لو كنتم من أهل العلم، لكنكم لستم من أهله، ولذا لم تسارعوا إلى العمل بما أمركم به.
وفي قوله لو كنتم تعلمون: زجر لهم عن حب الدنيا والتهالك عليها، والإعراض عن أوامر الدين ونواهيه، وكأنهم قد بلغ بهم الأمر إلى أنهم شاكون في الموت.
[سورة نوح (71): الآيات 5 الى 20]
[عدل]قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِرارًا (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجًا (20)
شرح المفردات
ليلا ونهارا: أي دائما، جعلوا أصابعهم في آذانهم: أي سدوا مسامعهم، استغشوا ثيابهم: أي تغطوا بها لئلا يرونى كراهة النظر إلي، السماء: أي المطر كما جاء في قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم فحلّوا حيثما نزل السماء
مدرارا: أي متتابعا، جنات: أي بساتين، ترجون: أي تخافون، وقارا: أي عظمة وإجلالا، أطوارا: واحدها طور وهو الحال والهيئة، فطورا نطفة، وطورا علقة، وطورا عظاما، ثم تكسى العظام لحما، ثم تنشأ خلقا آخر، طباقا: أي بعضها فوق بعض، بساطا: أي منبسطة تتقلبون فيها، فجاجا: أي واسعة، واحدها فج، وهو الطريق الواسع قاله الفراء وغيره.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن نوحا أمر أن ينذر قومه قبل أن يحل بهم بأس ربهم، وعظيم بطشه، وأنه لبّى نداءه، فأنذرهم وأمرهم بتقواه وطاعته، ليغفر ذنوبهم، ويمدّ في أعمارهم - أردف ذلك بمناجاته لربه وشكواه إليه، أنه أنذرهم بما امره به، فعصوه وردّوا عليه ما أتاهم به من عنده، ولم يزدهم دعاؤه إلا إدبارا عنه، وهربا منه، وأنه كان يدعوهم تارة جهرة، وتارة سرّا، وأمرهم أن يطلبوا من ربهم مغفرة ذنوبهم، ليرسل المطر عليهم، ويمدهم بالأموال والبنين، ويجعل لهم الجنات والأنهار، ثم نبههم إلى عظمته تعالى، وواسع قدرته، ولفت أنظارهم إلى خلقه تعالى لهم أطوارا، وخلقه للسموات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا، وجعل الشمس سراجا، وجعل الأرض كالبساط يتنقلون فيها من واد إلى واد، ومن قطر إلى قطر.
الإيضاح
(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِرارًا) أي قال رب إني أنذرت قومي ولم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار امتثالا لأمرك، وكلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فرّوا منه، وحادوا عنه.
ثم أخبر عن أحوال أخرى لهم تدل على الفظاظة وجفاء الطبع فقال:
(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا) أي وإني كلما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك، والعمل لطاعتك، والبراءة من عبادة كل ما سواك، لتغفر لهم ذنوبهم - سدّوا مسامعهم حتى لا يسمعوا دعائى، وتغطّوا بثيابهم كراهة النظر إلي، وأكبّوا على الكفر والمعاصي، وتعاظموا عن الإذعان للحق، وقبول ما دعوتهم إليه من النصح.
ثم بين أنه ما ترك وسيلة في الدعوة إلا فعلها فقال:
(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهارًا. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرارًا) أي ثم إني كنت أسرّ لهم بالدعوة تارة، وأجهر لهم بها تارة أخرى، وطورا كنت أجمع بين الإعلان والإسرار.
والخلاصة - إنه عليه الصلاة والسلام لم يترك سبيلا للدعوة إلا فعلها، فاستعمل طرقا ثلاثة:
(1) بدأهم بالمناصحة في السر، فعاملوه بما ذكر في الآية من سدّ الآذان والاستغشاء بالثياب، والإصرار على الكفر، والاستعظام عن سماع الدعوة.
(2) جاهرهم بالدعوة، وأعلنهم على وجه ظاهر لا خفاء فيه.
(3) جمع بين الإعلان والإسرار.
ثم بين ما كان يقول لهم فقال:
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي فقلت لهم: سلوا ربكم غفران ذنوبكم، وتوبوا إليه من كفركم وعبادة ما سواه من الآلهة، ووحدوه وأخلصوا له العبادة.
(إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا) لذنوب من أناب إليه وتاب منها، متى صدقت العزيمة، وخلصت النية، وصحت التوبة، فضلا منه وجودا، وإن كانت كزيد البحر.
ولما كان الإنسان مجبولا على محبة الخيرات العاجلة كما قال: « وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ » لا جرم أعلمهم أن إيمانهم بالله يجمع لهم إلى الحظ الأوفر في الآخرة، الخصب والغنى وكثرة الأولاد في الدنيا، ومن ثم وعدهم بخمسة أشياء:
(1) (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا) أي يرسل المطر عليكم متتابعا، فتزرعون ما تحبون، ويكثر الخصب والغلات النافعة لكم في معاشكم، من حبوب وثمار، وتحدث لكم طمأنينة وأمن وراحة لتوافر ما تشتهون، مما هو سبب السعادة والهدى.
(2) (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ) أي ويكثر لكم الأموال والخيرات على سائر ضروبها واختلاف ألوانها.
(3) (وَبَنِينَ) أي ويكثر لكم الأولاد فقد ثبت لدى علماء الاجتماع أن النسل لا يكثر في أمة إلا إذا استتب فيها الأمن، وارتفع منها الظلم، وساد العدل بين الأفراد، وتوافرت لهم وسائل الرزق.
وأصدق شاهد على هذا الأمة المصرية، فقد كانت في عصر المماليك في القرن السابع عشر الميلادي، أيام الظلم والعسف والجبروت، في فقر وضنك، وسلب ونهب، فتدهور عدد سكانها حتى بلغ الثلاثة الملايين.
ولما اعتلى عرش مصر « محمد علي » رأس الأسرة المالكة في مصر في أوائل القرن الثامن عشر، وساس البلاد بحكمته، وسعى جهد طاقته في تنظيم مرافقها من زراعة وصناعة ومعارف وعلوم، تكاثر النسل وما زال يزيد، ونهج أبناؤه وحفدته نهجه حتى بلغ عدده في عصرنا الحاضر نحو عشرين مليونا.
(4) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي ويوجد لكم بساتين عامرة تأخذون من ثمارها ما به تنتفعون، ولن يطمع الناس في الفاكهة إلا إذا وجدت لديهم الأقوات، وكثرت الغلات.
(5) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا) جارية بها يكثر الخصب والزرع بمختلف ألوانه وأشكاله.
لا جرم أن الأمة الكثيرة البساتين والمزارع، يعمها الرخاء، وتسعد في حياتها الدنيوية.
وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر وقلّة النسل فقال له: استغفر الله، وشكا إليه ثالث جفاف بساتينه. فقال له: استغفر الله، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من نفسي شيئا، إنما اعتبرت قول الله عز وجل حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ » الآية.
وبعد أن أدّبهم الأدب الخلقي بطلبه منهم تهذيب نفوسهم واتباعهم مكارم الأخلاق، شرع يؤدبهم الأدب العلمي بدراسة علم التشريح، وعلم النفس، ودراسة أحوال العوالم العلوية والسفلية فقال:
(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقارًا. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا) أي مالكم لا تخافون عظمة الله وقد خلقكم على أطوار مختلفة، فكنتم نطفة في الأرحام، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسا عظامكم لحما، ثم أنشأكم خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد ذكرت هذه الأطوار في سور كثيرة كسورة آل عمران وسورة المؤمنين وغيرهما.
وبعد أن ذكر النظر في الأنفس أتبعه بالنظر في العالم العلوي والسفلي فقال:
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجًا) أي ألم تروا كيف خلق السموات متطابقة بعضها فوق بعض، وجعل للقمر بروجا ومنازل وفاوت نوره، فجعله يزداد حينا حتى يتناهى، ثم يبتدئ ينقص حتى يستسر ليدل ذلك على مضي الشهور والأعوام، وجعل الشمس كالسراج يزيل ظلمة الليل.
ونحو الآية قوله: « هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ».
(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًا) أي والله أنبت أباكم آدم من الأرض كما قال: « إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ».
وقد يكون المعنى - إنه أنبت كل البشر من الأرض، لأنه خلقهم من النطف وهي متوالدة من الأغذية المتوالدة من النبات المتوالد من الأرض.
وجعلهم نباتا لأنهم ينمون كما ينمو النبات ويلدون ويموتون، وأيديهم وأرجلهم كأفرع النبات: وعروقهم المتشعبة في الجسم والتي يجرى فيها الدم وينتشر في الأطراف، تشبه ما في الشجر، وأحوالهم مختلفة كأحوال النبات، فمنه الحلو والمرّ والطيب والخبيث، واستعدادهم مختلف كاستعداد النبات، فلكل امرئ خاصة كما لكل نوع من النبات خاصة.
(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجًا) أي ثم يعيدكم في الأرض كما كنتم ترابا، ويخرجكم منها متى شاء أحياء كما كنتم بشرا.
ثم أخذ يعدد النعم التي أعدها للإنسان في الأرض، وذكر أن الأرض مهيأة مسخرة لأمره كتسخير البساط للرجل يتقلب عليه كما يشاء، ويظهر مواهبه لاستخراج ما في بطنها من المعادن المختلفة، وخيراتها المنوعة فقال:
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطًا) أي والله بسط لكم الأرض ومهّدها، وثبتها بالجبال الراسيات.
ثم بين حكمة هذا فقال:
(لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجًا) أي لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها، أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها المختلفة.
وقصارى ما سلف - إن نوحا عليه السلام أمر قومه بالنظر في علوم الأنفس والآفاق من معدن ونبات وحيوان وإنسان وسماء وأرض وشموس وأقمار.
[سورة نوح (71): الآيات 21 الى 24]
[عدل]قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالًا (24)
شرح المفردات
الخسار: الخسران، كبارا: أي كبيرا عظيما، لا تذرنّ: أي لا تتركنّ، ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر: أسماء أصنام كانوا يعبدونها.
المعنى الجملي
أخبر عن نوح أنه أعلم ربه وهو العليم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة أنه مع ما استعمله من الوسائل والأساليب المختلفة المشتملة على الترغيب طورا والترهيب طورا آخر - كذبوه وعصوه واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر ربه، ومتّع بمال وولد وقالوا: لا نترك آلهتنا التي عبدناها نحن وآباؤنا من قبل، ولا عجب فقد أضلت الأصنام خلقا كثيرا، فدعا عليهم: رب اخذل هؤلاء القوم الظالمين ولا تزدهم إلا ضلالا.
الإيضاح
(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسارًا) أي قال نوح: رب إنهم عصونى فيما أمرتهم به، وأنكروا ما دعوتهم إليه، واتبعوا رؤساءهم الذين بطروا بأموالهم، واغتروا بأولادهم، فكان ذلك زيادة في خسرانهم وخروجا عن محجة الصواب، وبعدا من رحمة الله.
(وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) أي مكرا كبيرا، فاحتالوا في الدين، وصدّوا الناس عنه بأساليب شتى، وأغروهم بأذى نوح عليه السلام.
(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) أي وقال بعضهم لبعض: لا تتركوا عبادة آلهتكم وتعبدوا رب نوح، ولا سيما هذه الأصنام التي هي أكبر المعبودات وأعظمها.
وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب فيما بعد. أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت هذه الأوثان في العرب بعد فكان:
ودّ: لكلب.
سواع: لهذيل.
يغوث: لغطيف بالجرف عند سبأ يعوق: لهمدان.
نسر: لحمير آل ذي الكلاع.
وهناك أصنام أخرى لأقوام آخرين:
اللات: لثقيف بالطائف.
العزّى: لسليم وغطفان وجشم.
مناة: لخزاعة بقديد.
أساف: لأهل مكة.
نائلة: « «
هبل: « « وهو أكبر الأصنام وأعظمها عندهم ومن ثم كان يوضع فوق الكعبة.
وليس المراد أن أعيان هذه الأصنام صارت إليهم، بل المراد أنهم أخذوا هذه الأسماء وسموا بها أصنامهم.
(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا) أي وقد ضل بعبادة هذه الأصنام التي استحدثت على صور هؤلاء النفر، كثير من الناس، فقد استمرت عبادتها قرونا كثيرة كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام في دعائه: « واجنبنى وبني أن نعبد الأصنام. ربّ إنّهنّ أضللن كثيرا من النّاس ».
ثم دعا على قومه لتمردهم وعنادهم فقال:
(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا) أي ولا تزد الظالمين لكفرهم بآياتك إلا ضلالا وطبعا على قلوبهم حتى لا يهتدوا إلى حق، ولا يصلوا إلى رشد.
وقصارى ما قاله عليه الصلاة والسلام - أن دعا عليهم بالخذلان، وأن دعا لنفسه بالنصر وظهور دينه كما جاء في قوله: « رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ».
[سورة نوح (71): الآيات 25 الى 28]
[عدل]مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصارًا (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبارًا (28)
شرح المفردات
مما خطيئاتهم: أي من أجل ذنوبهم وآثامهم، أغرقوا: أي بالطوفان، نارا: أي عذابا في القبر، ديّارا: أي أحدا، تبارا. أي هلاكا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالة نوح وشكواه إليه - أردفه بما جازاهم به من الغرق والعذاب، وأنهم لم يجدوا من يدفعهما عنهم، ثم أخبر بدعاء نوح على قومه، وعلل هذا بأنهم يضلون الناس وأنهم لو نسلوا لم يلدوا إلا الكفرة الفجرة، ثم دعا لنفسه ولوالديه ولمن دخل سفينته من المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة، ودعا على قومه بالتبار والهلاك.
الإيضاح
(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصارًا) أي من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقهم الله بالطوفان، وسيعذبهم في قبورهم، ولا يجدون من آلهتهم أنصارا ولا أعوانا يدفعون عنهم ما كتب عليهم، وبذا ضلّ سعيهم، وخاب فألهم.
(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا) أي وقال نوح رب لا تدع على وجه الأرض منهم أحدا.
ثم بيّن علة هذا الدعاء بشيئين:
(1) (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك الذين آمنوا بك.
(2) (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِرًا كَفَّارًا) أي وإنهم لا يلدون إلا الكفرة الفجرة.
وقد كان دعاؤه عليهم بعد حبرته لهم، وتمرّسه بأحوالهم، ومكثه بين ظهرانيهم ألف سنة إلا خمسين عاما.
روي أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إليه ويقول له: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبى أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك.
وبعد أن دعا على الكفار، دعا لنفسه ولأبويه وللمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة فقال.
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي رب استر على ذنوبى وعلى والدي وعلى من دخل مسجدى ومصلاى مصدقا بنبوّتى وبما فرضته علي، وعلى المصدّقين بوحدانيتك، والمصدقات بذلك من كل أمة إلى يوم القيامة.
ثم أعاد الدعاء على الكافرين مرة أخرى لغيظه منهم فقال:
(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبارًا) أي ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بك إلا خسرانا وبعدا من رحمتك.
وصلّ ربنا على محمد وآله، واغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات.
مقاصد هذه السورة
[عدل]اشتملت هذه السورة على مقصدين:
(1) دعوة نوح قومه إلى الإيمان وقد حوت:
(ا) طلب تركهم للذنوب، وأنهم إذا فعلوا ذلك أكثر الله لهم المال والبنين.
(ب) النظر في خلق السموات والأرض والأنهار والبحار.
(ح) النظر في خلق الإنسان وأنه بخلق في الأرض كما يخلق النبات، وأن الأرض مسخرة له يتصرف فيها كما يشاء.
(2) كفر قومه وعقابهم في الدنيا والآخرة.
سورة الجن
[عدل]هي مكية، وآيها ثمان وعشرون، نزلت بعد سورة الأعراف.
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه:
(1) أنه جاء في السورة السابقة: « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ » وجاء في هذه السورة: « وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا ».
(2) أنه ذكر في هذه السورة شيء يتعلق بالسماء كالسورة التي قبلها.
(3) أنه ذكر عذاب من يعصى الله في قوله: « وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا » وذكر هناك مثله في قوله: « أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا ».
[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 7]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
شرح المفردات
النفر: ما بين الثلاثة والعشرة، والجن: واحدهم جني كروم ورومى، عجبا: أي عجيبا بديعا مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى، والجد: العظمة يقال جدّ فلان في عيني: أي عظم، قال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا: أي جلّ قدره وعظم، والسفيه: الجاهل، شططا: أي غلوّا في الكذب بنسبة الصاحبة والولد إليه، يعوذون: أي يلتجئون، وكان الرجل إذا أمسى يقفر قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، رهقا: أي تكبّرا، وأصل الرهق: الإثم وغشيان المحارم.
المعنى الجملي
اعلم أن الله سبحانه سمى سور كتابه بأسماء تبعث على النظر والاعتبار وتوجب التفكير، فسمى بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت وبما هو ألطف من ذلك كالنور، كما سمى ببعض الأنبياء، كيوسف ويونس وهود، وببعض الأخلاق كالتوبة، وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى، وببعض المعادن كالحديد، وببعض الأماكن كالبلد، وببعض النبات كالتين وكل ذلك مما نراه.
وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن، وهو عالم لم يعرف في الإسلام إلا من طريق الوحي، وليس للعقل دليل عليه ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين، فصار علماء أوربا يدرسون عالم الملائكة وعالم الجن وعالم الأرواح، ويطلعون على غوامض هذه العوالم، فتحدث الناس مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا، واتصل العالم الإنسي بالعالم الجنى، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة وقد خطب السير أوليفر لودج من أشهر علماء الطبيعة في هذا العصر في بلاد الإنكليز في مجمع من كبار العلماء قال: إنه حادث الأموات، وإن هناك عقولا أسمى من عقولنا في عالم الأرواح، وإنهم يهتمون بنا، وإن إخواني من رجال الجماعة الروحية الذين ماتوا - كلمتهم بعد موتهم، وبرهنوا بأدلة قاطعة أنهم هم الذين يكلمونني، وقال: إن كل ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن الله فهو حق بلا تأويل.
وجاء في كتاب « إخوان الصفا » إن أرواح الأحياء بعد الموت هم الموسوسون إن كانوا أشرارا، وهم الملهمون الناس الخير إن كانوا أخيارا.
وقال شير محمد الهندي في كتابه في المجلس السابع: لقد جمعت بين ما جاء به الدين الإسلامي والكشف الحديث كقولهم: إن كل علم وكل خير وشر حاصل في الأفئدة منشؤه الأرواح الفاضلة والأرواح الناقصة، وهو بعينه ما جاء في الحديث: « في القلب لمّتان لمة من الملك ولمة من الشيطان » وهذا مصداق لقوله تعالى: « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ». والعجب أن الفرنجة يكشفون هذا ولا يعلمون أنه مصداق دين الإسلام اهـ.
واعلم أن ما جاء في هذه السورة من السمعيات التي لا دليل عليها من العقل قد بقي في الإسلام حوالى أربعة عشر قرنا تتلقاه الأمة بالقبول جيلا بعد جيل دون بحث عن حقائقه حتى عنى علماء أوربا في العصر الحديث بالبحث عنه، فظهر لهم أن الأرواح الناقصة تسمع كلام الناس وتهتدى به، وأنها لا تعرف ما فوق طاقتها، فلا تهتدى بهدى الأرواح العالية فالنبي ﷺ مثلا قد ارتقى في العلم إلى حد لا يمكن الأرواح الناقصة أن تتعلم منه فما أشبه حالهم بحال الجهال الذين يسمعون من أبنائهم المتعلمين العلم ولا يفهمونه، وما مثل حال الأرواح الناقصة بعد الموت إلا مثل حالها المشاهدة في الدنيا، فإنا نرى الجهال لا يجلسون في مجالس العلم إلا قليلا حين يتنزل العلماء لإصلاح حالهم، ولا يظهر لهم إلا القليل من ثمرات العلم، فهم في الحياة الدنيا ممنوعون من السمع، وقد يشتد المنع إذا كان في السماع مفسدة كمعرفة الأسرار الحربية، والخطط السياسية التي ينبغي أن تبقى سرا مكتوما بين الدول، وهذا المنع الذي نشاهده أشبه بالمنع من استراق السمع، لأنه إنما كان لحفظ الدرجات، وهي المعارج لأربابها.
الإيضاح
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) أمر الله رسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى به إليه من قصص الجن، لما في علمه من فوائد ومنافع للناس، منها:
(1) أن يعلموا أنه كما بعث عليه الصلاة والسلام إلى الإنس فقد بعث إلى الجن.
(2) أن يعلموا أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.
(3) أن يعلموا أن الجن مكلفون كالإنس.
(4) أن يعلموا أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان.
(5) أن تعلم قريش أن الجن على تمردها لما استمعت القرآن عرفت إعجازه وآمنت به.
وظاهر الآية يدل على أنه عليه الصلاة والسلام علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة وفى الصحيحين من حديث ابن عباس، ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن ولا رآهم، وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ، وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب، فقالوا: ما ذاك إلا لشيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمرّ من ذهب منهم إلى تهامة بالنبي ﷺ وهو يصلى الفجر بأصحابه بنخلة، فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء، ورجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا إلخ، فأنزل الله عليه: « قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ » الآيات، وقد كان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين.
وقد حكى الله عن الجن أشياء:
(1) (فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا) أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كما جاء في قولهم: « فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ » إنا سمعنا كتابا بديعا يهدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، فصدقنا به، ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك بالله.
(2) (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَدًا) أي وإنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله نزهوا ربهم عن الزوجة والولد، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها، ولأنها من جنس الزوج كما قال: « خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها »، والولد للتكثر والاستئناس به، والحاجة إليه حين الكبر وبقاء الذكر والشهرة كما قال:
وكم أب علا بابن ذر اشرف كما علت برسول الله عدنان
والله سبحانه منزه عن ذلك، تعالى ربّنا علوا كبيرا.
والخلاصة - علا ملك ربنا وسلطانه أن يكون ضعيفا ضعف خلقه الذين يضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة أو ملامسة يكون منها الولد.
(3) (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) أي وإن الجهال من الجن كانوا يقولون قولا بعيدا عن الصواب، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى.
(4) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي وأنا كنا نظن أن لن يكذب أحد على الله تعالى، فينسب إليه الصاحبة والولد، ومن ثم اعتقدنا صحة قول السفيه، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم كانوا كاذبين، وهذا منهم بإقرار بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا منها الاستدلال والبحث.
(5) (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقًا) أي وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون في الفقر برجال من الجن، فزادوا الجن بذلك طغيانا وغيّا، بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم.
وخلاصة ذلك - أنهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم ولم يستعيذوا بالله، استذلوهم واجترءوا عليهم وزادوهم ظلما.
(6) (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا) أي وأن الجن ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه، يدعوهم إلى توحيده، والإيمان برسله واليوم الآخر.
[سورة الجن (72): الآيات 8 الى 17]
[عدل]وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا (17)
شرح المفردات
لمسنا السماء: أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا، والحرس والحرس، واحدهم حارس، وهو الرقيب، شديدا: أي قويا، والسمع: الاستماع، والشهب: واحدها شهاب، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب، رصدا: أي أرصد له ليرمى به رشدا: أي خيرا وصلاحا، قددا: أي جماعات متفرقة وفرقا شتى، ويقال صار القوم قددا: إذا تفرقت أحوالهم، واحدها قدّة وهي القطعة من الشيء، هربا: أي هاربين إلى السماء، والمراد بالهدى القرآن، والبخس: النقص، والرهق الظلم والمكروه الذي يغشى المظلوم، القاسطون: أي الجائرون العادلون عن الحق، تحرّوا رشدا: أي قصدوا طريق الحق، حطبا: أي وقودا للنار، والطريقة: هي طريق الإسلام، غدقا: أي كثيرا، يسلكه: أي يدخله، صعدا: أي شاقا يعلو المعذب ويغلبه، يقال فلان في صعد من أمره: أي في مشقة، ومنه قول عمر: ما تصعّدنى شيء كما تصعّدنى في خطبة النكاح، أي ما شقّ علي، وكأنه إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما يكون في الخاطب من أوصاف موروثة ومكتسبة، فكان يشق عليه أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته.
الإيضاح
(7) (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) يخبر سبحانه عن مقال الجن حين بعث محمد ﷺ وأنزل عليه القرآن وحفظ منهم، إن السماء ملئت حراسا شدادا وشهبا تحرسها من سائر أرجائها وتمنعنا من استرق السمع كما كنا نفعل.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان للشياطين مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث رسول الله ﷺ منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله ﷺ قائما يصلى بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا هو الحدث الذي حدث في الأرض.
(8) (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي وأنا كنا نقعد قبل ذلك فيها مقاعد خالية من الحرس والشهب، لنسترق السمع، فطردنا منها حتى لا نسترق شيئا من القرآن ونلقيه على ألسنة الكهان، فيلتبس الأمر ولا يدرى الصادق، فكان ذلك من لطف الله بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز.
(فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا) أي فمن يرم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يهلكه ويمحقه.
وإنا لنؤمن بما جاء في الكتاب الكريم من أن الجن كانوا يسترقون السمع، ومنعوا من ذلك بعد بعثة النبي ﷺ، ولكن لا نعرف كيف كانوا يسترقون السمع، ولا نعرف كنه الحرس الذين منعوهم، ولا المراد بالشهب التي كانت رصدا لهم والجن أجسام نارية فكيف تحترق من الشهب.
ويرى قوم أن مقاعد السمع هي مواضع الشبه التي يوسوس بها الجن في صدور الناس، ليصدوهم عن اتباع الحق، والحرس: هي الأدلة العقلية التي نصبها سبحانه لهداية عباده، والشهب الأدلة الكونية التي وضعها في الأنفس والآفاق.
وعلى هذا يكون المعنى: إن القرآن الكريم بما نصب من الأدلة العقلية والأدلة الكونية حرس للدين من تطرق الشبه التي كان الشياطين يوسوسون بها في صدور الزائفين، ويحوكونها في قلوب الضالين، ليمنعوهم من تقبل الدين والاهتداء بهديه، فمن يكفر في إلقاء الشكوك والأوهام في نفوس الناس بعدئذ يجد البراهين التي تقتلعها من جذورها.
(9) (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) أي وإن السماء لم تحرس إلا لأحد أمرين:
(ا) إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة.
(ب) وإما لنبي مرشد مصلح.
وكأنهم يقولون: أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا بالشهب، أم أراد بهم ربهم الهدى، بأن يبعث منهم رسولا مرشدا يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم؟.
(10) (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَدًا) أي وأنا منا المسلمون العاملون بطاعة الله، ومنا قوم دون ذلك، وأنا كنا أهواء مختلفة وفرقا شتى، فمنا المؤمن والفاسق والكافر كما هي الحال في الإنس.
(11) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا) أي وأنا علمنا أن لن نعجز الله في الأرض أينما كنا في أقطارها، ولن نعجزه هربا إن طلبنا، فلا نفوته بحال.
والخلاصة - إن الله قادر علينا حيث كنا، فلا نفوته هربا.
(12) (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) أي وأنا لما سمعنا القرآن الذي يهدى إلى الطريق المستقيم صدقنا به وأقررنا بأنه من عند الله، ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله فلا يخاف نقصا من حسناته، ولا ذنبا يحمل عليه من سيئات غيره قاله قتادة.
وقصارى ذلك - أنه ينال جزاءه وافرا كاملا.
(13) (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) أي وأنا منا المؤمنون الذين أطاعوا الله وأخبتوا إليه وعملوا صالح الأعمال، ومنا الجائرون عن النهج القويم وهو الإيمان بالله وطاعته، ومن آمن بالله وأطاعه فقد سلك الطريق الموصل إلى السعادة، وقصد ما ينجيه من العذاب.
ثم ذم الجنّ الكافرين منهم فقالوا:
(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) أيوأما الجائرون عن سنن الإسلام فكانوا حطبا لجهنم توقد بهم، كما توقد بكفرة الإنس، وقد ذكر ثواب المؤمنين منهم بقوله: « فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ».
وإلى هنا انتهى كلام الجن ثم عاد إلى ذكر الموحى به إلى رسوله فقال:
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا) أي وأوحى إليه أنه لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام، لوسّعنا عليهم أرزاقهم، ولبسطنا لهم في الدنيا.
وإنما خص الماء الغدق بالذكر، لأنه أصل المعاش، وكثرته أصل السعة ومن ثم قيل حيثما كان الماء كان المال، وحيثما كان المال كانت الفتنة، ولندرة وجوده بين العرب، ومن ثمّ امتنّ الله على نبيّه بقوله: « إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ » على تفسير الكوثر بالنهر الجاري، ونحو الآية قوله: « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ».
وسرّ هذا ما عرفت غير مرة من أن الخصب والسعة لا يوجدان إلا حيث نوجد الطمأنينة والعدل ويزول الظلم، وتكون الناس سواسية في نيل الحقوق، فلا ظلم ولا إرهاق، ولا محاباة ولا رشا في الأحكام.
ثم ذكر سبب البسط حينئذ فقال:
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر لنرى هل يشكروننا على هذه النعم، فإن وفّوها حقها كان لهم مني الجزاء الأوفى، وإن نكصوا على أعقابهم استدرجناهم وأمهلناهم، ثم أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، كما قال: « وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ».
(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا) أي ومن يعرض عن القرآن وعظاته، فلا يتبع أوامره ولا ينتهى عن نواهيه - يدخله في العذاب الشاق الذي يعلوه ويغلبه، ولا يطيق له حملا.
[سورة الجن (72): الآيات 18 الى 24]
[عدل]وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلاَّ بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
شرح المفردات
المساجد: واحدها مسجد، موضع السجود للصلاة والعبادة، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين، فلا تدعوا: أي فلا تعبدوا، يدعوه: أي يعبده، لبدا: (بكسر اللام وفتح الباء) أي جماعات، واحدها لبدة، والمراد متراكمين متزاحمين، ولا رشدا: أي ولا نفعا، ملتحدا: أي ملجأ يركن إليه، قال:
يا لهف نفسي ونفسى غير مجدية عنّى وما من قضاء الله ملتحد
بلاغا من الله: أي تبليغا لرسالاته.
الإيضاح
(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) أي قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن، وأن المساجد لله فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا ولا تشركوا به فيها شيئا.
وعن قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله معبودات أخرى لهم، فأمرنا بهذه الآية أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد.
وقال الحسن: المراد بالمساجد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعدّ لذلك أم لا، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة.
وكأنه أخذ ذلك مما في الحديث الصحيح « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ».
(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) أي ولما قام محمد ﷺ يعبد الله، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض تعجبا مما شاهدوا من عبادته، وسمعوا من قراءته، واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا، إذ رأوا عالم يروا مثله، ولا سمعوا مثل ما سمعوا.
وقال الحسن وقتادة: إنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الأوثان - كاد الكفار لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون متراكمين جماعات جماعات.
قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي ﷺ: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا، فأنزل الله:
(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا) أي قل لأولئك الذين كادوا يكونون عليك لبدا: إنما أعبد الله ربى ولا أشرك به في العبادة أحدا، وذلك ليس ببدع ولا مستنكر يوجب العجب والإطباق على عداوتي.
ثم بيّن أنه لا يملك من الأمر شيئا، فهو لا يستطيع هدايتهم ولا جلب الخير لهم فقال:
(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا) أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين ردوا عليك ما جئتهم به من النصيحة: إني لا أملك لكم ضرا في دينكم ولا دنياكم، ولا نفعا أجلبه لكم، وإنما الذي يملك ذلك كله هو الله الذي له ملك كل شيء، وهو القادر على ذلك وحده وكأنه عليه السلام أمر أن يقول: ما أردت إلا نفعكم فقابلتمونى بالإساءة، وليس في استطاعتي النفع الذي أردت، ولا الضر الذي أكافئكم به، إنما ذان لله.
وفي هذا تهديد عظيم لهم وتوكل على الله عز وجل وأنه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه ويجزيهم بسوء صنيعهم، وفيه إيماء إلى أنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم عليه.
ثم بيّن عجزه عن شئون نفسه بعد عجزه عن شئون غيره فقال:
(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا، إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ) أي قل: إني لن يجيرنى من الله أحد من خلقه إن أراد بي سوءا، ولن ينصرنى منه ناصر، ولا أجد من دونه ملجأ ولا معينا، لكن إن بلغت رسالته وأطعته أجارنى.
والخلاصة - إني لن يجيرنى من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته.
وبعدئذ بيّن جزاء العاصين لله ورسوله فقال:
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا) أي ومن يعص الله فيما أمر به، ونهى عنه، ويكذب برسوله فإن له نارا يصلاها ما كثا فيها أبدا إلى غير نهاية، ولا محيد عنها ولا خروج منها.
ثم سلى رسوله وسرّى عنه وعيّرهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطنة، وقلّة إنصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء، بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء فقال.
(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا) أي ولا يزالون يستضعفون المؤمنين ويستهزئون بهم، حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب فيستبين لهم من المستضعفون؟ المؤمنون الموحدون لله تعالى، أم المشركون الذين لا ناصر لهم ولا معين؟.
وقصارى ذلك - إن المشركين لا ناصر لهم، وهم أقلّ عددا من جنود الله عز وجل.
ونظير الآية قوله: « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ».
[سورة الجن (72): الآيات 25 الى 28]
[عدل]قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
المعنى الجملي
أمر سبحانه رسوله أن يقول للناس: إنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدرى أقريب وقتها أم بعيد، وأنه لا يعلم شيئا من الغيب إلا إذا أعلمه الله به، وهو سبحانه يعلم أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، ويعلم جميع الأشياء إجمالا وتفصيلا.
قال مقاتل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا » قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى: « قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ » إلى آخر الآيات.
الإيضاح
(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا)؟ أمر الله رسوله أن يقول للناس: إن الساعة آتية لا ريب فيها، ولكن وقتها غير معلوم، ولا يدرى أقريب أم يجعل له ربي أمدا بعيدا؟ وقد كان ﷺ يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها، « ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد أخبرني عن الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل » ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهوري فقال « يا محمد متى الساعة؟ قال ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟ قال أما إني لم أعدّ لها كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله، قال ﷺ فأنت مع من أحببت » قال أنس: فما فرح المسلمون بشىء فرحهم بهذا الحديث.
(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي عالم ما غاب عن أبصار خلقه فلم يروه، وهذا لا يعلم به أحد إلا من ارتضى من الرسل صلوات الله عليهم، فإنه يطلعهم على ما شاء منه.
ونحو الآية قوله: « وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ».
وفي الآية إيماء إلى إبطال الكهانة والتنجيم والسحر، لأن أصحابها أبعد الناس عن الارتضاء وأدخلهم في السخط وإلى أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بالقرآن، وفيها أيضا إبطال للكرامات، لأن من تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا رسلا، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب.
وقال الرازي: المراد أنه لا يطلع على غيبه المخصوص وهو قيام الساعة، والذي يدل على ذلك أمور:
(1) أن أرباب الأديان والملل مطبقون على صحة علم التعبير وتفسير الرؤيا، وأن المعبّر قد يخبر عن الوقائع الآتية في المستقبل ويكون صادقا فيها.
(2) أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن أحوال آتية، ذكرت أشياء ثم وقعت وفق كلامها.
(3) أنا نشاهد في أصحاب الإلهامات الصادقة (وليس ذلك مختصا بالأولياء بل قد يكون في السحرة) من يكون صادقا في كثير من أخباره، وكذلك الأحكام النجومية قد تكون مطابقة موافقة لما سيكون في كثير من الأحيان، وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر إلى الطعن في القرآن الكريم، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا اه بتصرف.
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) الرصد القوم يرصدون كالحرس، والراصد للشىء الراقب له، والترصد الترقب، والمراد بهم هنا الملائكة الحفظة أي فإنه يسلك من بين يدي من ارتضى من رسله، ومن خلفهم حفظة من الملائكة يحفظونهم من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلغوا ما أوحى به إليهم، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونهم ولا يضرونهم.
وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين الذين يتشبهون بصورة الملك، فإذا جاء شيطان في صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره، وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك.
والخلاصة - أنه يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم.
ثم علل هذا الحفظ بقوله:
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أي إنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظوا ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا هذه الرسالات والمراد ليعلم الله ذلك منهم علم وقوع في الخارج كما جاء نحو هذا في قوله: « وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ».
(وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) أي وهو سبحانه قد أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة، وأحصى ما كان وما سيكون فردا فردا، فهو عالم بجميع الأشياء منفرد بذلك على أتم وجه، فلا يشاركه في ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم.
والخلاصة - أن الرسول المرتضى يعلمه الله بوساطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق برسالته، وهو سبحانه محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط، وعالم بجميع الأشياء على وجه تفصيلى، فأين علم الوسائط من علمه؟
ما تضمنته هذه السورة
[عدل]اشتملت هذه السورة على مقصدين:
(1) حكاية أقوال صدرت من الجن حين سمعوا القرآن كوصفهم له بأنه كتاب يهدى إلى الرشد، وأن الرب سبحانه تنزه عن الصاحبة والولد، وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا، وأن الجن لا يدرون ما ذا يحل بالأرض من هذا المنع، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق.
(2) ما أمر النبي ﷺ بتبليغه إلى الخلق، ككونه لا يشرك بربه أحدا، وأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، وأنه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه، وأنه ﷺ لا يدرى متى يكون وقت تعذيبهم، فالعلم لله وحده.
سورة المزمل عليه الصلاة والسلام
[عدل]هي مكية إلا قوله تعالى: « وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ». وقوله: « إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ » إلى آخر السورة فمدنية.
وعدد آيها عشرون نزلت بعد سورة القلم.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) أنه سبحانه ختم سورة الجن بذكر الرسل عليهم السلام، وافتتح هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه السلام.
(2) أنه قال في السورة السالفة: « وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ » وقال في هذه: « قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ».
[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 9]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
شرح المفردات
المزمل: أصله المتزمل من قولهم تزمل بثيابه إذا تلفف بها، ورتل القرآن: أي اقرأه على تؤدة وتمهل مع تبيين حروفه، يقال ثغر رتل (بسكون التاء وكسرها): إذا كان مفلجا لا تتصل أسنانه بعضها ببعض، سنلقى عليك: أي سنوحى إليك، قولا ثقيلا: المراد به القرآن لما فيه من التكاليف الشاقة على المكلفين عامة وعلى الرسول خاصة، لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته، ناشئة الليل: هي النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة: أي تنهض وترتفع من قولهم نشأت السحابة إذا ارتفعت وطأ: أي مواطأة وموافقة من قولهم واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه ومنه قوله تعالى: « لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ » أي ليوافقوا، أقوم قليلا: أي أثبت قراءة، لحضور القلب وهدوء الأصوات، سبحا طويلا: أي تقلبا وتصرفا في مهامّ أمورك، واشتغالا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة، فعليكها في الليل، وأصل السبح: السير السريع في الماء، واذكر اسم ربك: أي ودم على ذكره ليلا ونهارا، وتبتل إليه تبتيلا: أي انقطع عن كل شيء إلى أمر الله وطاعته، واتخذه وكيلا: أي وفوض كل أمر إليه.
المعنى الجملي
قال ابن عباس: أول ما جاء جبريل النبي ﷺ خافه وظن أن به مسّا من الجن، فرجع من الجبل مرتعدا وقال: زمّلونى زمّلونى، فبينا هو كذلك إذ جاءه جبريل وناداه. « يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ »
ثم أمره بترتيل القرآن وقراءته بتؤدة وتأنّ، ثم أخبره بأنه سيلقى عليه قرآنا فيه التكاليف الشاقة على المكلفين، وأن النهوض للعبادة بالليل شديد الوطأة ولكنه أقوم لقراءة القرآن لحضور القلب، أما قراءته في النهار فتكون مع اشتغال
النفوس بأحوال الدنيا، ثم أمره بذكر ربه والانقطاع إليه بالعبادة، وتفويض أموره كلها إليه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) أي يا أيها النبي المتزمل بثيابه، المتهيئ للصلاة، دم عليها الليل كله إلا قليلا.
ثم فسر هذا القليل بقوله:
(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي إلا قليلا وهو النصف أو انقص من النصف أو زد على النصف إلى الثلثين، فهو قد خير بين الثلث والنصف والثلثين.
وقصارى ذلك - أنه أمر أن يقوم نصف الليل أو يزيد عليه قليلا أو ينقص منه قليلا، ولا حرج عليه في واحد من الثلاثة.
وبعد أن أمره بقيام الليل للصلاة أمره بترتيل القرآن فقال:
(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) أي اقرأه على تمهل، فإنه أعون على فهمه وتدبره، وكذلك كان صلوات الله عليه، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها.
وجاء في الحديث: « زيّنوا القرآن بأصواتكم، ولقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود، يعني أبا موسى الأشعري، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتى لحبّرته لك تحبيرا ».
وأخرج العسكري في كتابه المواعظ عن علي كرم الله وجهه « أن رسول الله ﷺ سئل عن هذه الآية فقال: بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدّقل: (أردأ التمر) ولا تهذّه: (لا تسرع به) هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة ».
وعن عبد الله بن مغفل قال: « رأيت رسول الله ﷺ يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجّع في قراءته » أخرجه الشيخان.
وعن جابر قال: « خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال: اقرءوا وكلّ حسن، وسيجيئ أقوام يقيمونه كما يقام القدح: (السهم) يتعجلونه ولا يتأجلونه، لا يجاوز تراقيهم » رواه أبو داود.
قال في فتح البيان: والمقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة لا مجرد إخراج الحروف من الحلقوم بتعويج الوجه والفم وألحان الغناء كما يعتاده قرّاء هذا الزمان من أهل مصر وغيرها في مكة المكرمة وغيرها، بل هو بدعة أحدثها البطالون الأكالون والحمقى الجاهلون بالشرائع وأدلتها الصادقة، وليس هذا بأول قارورة كسرت في الإسلام اهـ.
والحكمة في الترتيل: التمكن من التأمل في حقائق الآيات ودقائقها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلاله، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف ويستنير القلب بنور الله - وبعكس هذا فإن الإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، والنفس تبتهج بذكر الأمور الروحية، ومن سرّ بشىء أحب ذكره كما أن من أحب شيئا لا يحب أن يمر عليه مسرعا.
ثم أتى بحملة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي ليبين سهولة ما كلّفه من القيام فقال:
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) أي إنا سننزل عليك القرآن وفيه الأمور الشاقة عليك وعلى أتباعك من أوامر ونواه، فلا تبال بهذه المشقة وامرن عليها لما بعدها.
وقال الحسن بن الفضل: ثقيلا أي لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد، وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة.
وقد يكون المراد - إنه ثقيل في الوحي، فقد جاء في حديث البخاري ومسلم: « إن الوحي كان يأتيه ﷺ أحيانا في مثل صلصلة الجرس، وهذا أشده عليه، فيفصم عنه (يفارقه) وقد وعى ما قال. وأحيانا يتمثل له الملك رجلا فيكلمه فيعى ما يقول، وكان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا » يجري عرقه كما يجرى الدم من الفاصد.
ثم علل الأمر بقيام الليل فقال:
(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) أي لأن قيام الليل أشد مواطأة وموافقة بين القلب واللسان، وأجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها، وهو أفرغ للقلب من النهار، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات والبحث عن أمور المعاش، ومن ثم قال:
(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحًا طَوِيلًا) أي إن لك في النهار تقلّبا وتصرفا في مهامّ أمورك واشتغالا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرغ فيه للعبادة، فعليك بالتهجد، فإن مناجاة الرب يعوزها الفراغ والتخلي عن العمل.
ثم أمر رسوله بمداومة الذكر والإخلاص له فقال:
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) أي ودم على ذكره ليلا ونهارا بالتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة وقراءة القرآن، وانقطع إليه بالعبادة، وجرد إليه نفسك وأعرض عما سواه.
ونحو الآية قوله: « فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ » أي فإذا فرغت من شئونك، فانصب في طاعته وعبادته، لتكون فارغ القلب، خاليا من الهواجس والوساوس الدنيوية.
ثم بين السبب في الأمر بالذكر والتبتل فقال:
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) أي هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب، لا إله إلا هو، فعليك أن تتوكل عليه في جميع أمورك.
ونحو الآية قوله: « فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ». وقوله: « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ».
وجاء في كلامهم: من رضي بالله وكيلا، وجد إلى كل خير سبيلا.
وقد ذكروا أن مقام التوكل فوق مقام التبتل، لما فيه من الدلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا:
هواي له فرض تعطّف أوجفا ومنهله عذب تكدر أو صفا
وكلت إلى المعشوق أمري كلّه فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا
[سورة المزمل (73): الآيات 10 الى 18]
[عدل]واصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعامًا ذا غُصَّةٍ وَعَذابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِدًا عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيبًا (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
شرح المفردات
الهجر الجميل: ما لا عتاب معه، والنعمة (بفتح النون) التنعم (وبكسر النون) الإنعام، مهّلهم: أي اتركهم برفق وتأنّ ولا تهتم بشأنهم، والأنكال: واحدها نكل (بكسر النون وفتحها) وهو القيد الثقيل، قالت الخنساء:
دعاك فقطّعت أنكاله وقد كن قبلك لا تقطع
والجحيم: النار الشديدة الإبقاد، ذا غصة: أي لا يستساغ في الحلق فلا يدخل ولا يخرج، ترجف: أي تضطرب وتتزلزل، كثيبا: أي رملا مجتمعا، من قولهم: كثب الشيء إذا جمعه، مهيلا: أي رخوا ليّنا إذا وطئته القدم زل من تحتها، والوبيل: الثقيل الرديء العقبى، من قولهم: كلأ وبيل: أي وخيم لا يستمرأ لثقله، والشيب: واحدهم أشيب، منفطر: أي منشق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر معاملة العباد لبارئهم وخالقهم من العدم - أردف ذلك معاملة بعضهم بعضا، فبيّن أن ذلك يكون بأحد أمرين:
(1) مخالطة فصبر جميل على الإيذاء والإيحاش.
(2) هجر جميل بالمجانبة بالقلب والهوى، والمخالفة في الأفعال مع المداراة والإغضاء وترك المكافأة.
ثم أمر رسوله أن يترك أمر المشركين إليه، فهو الكفيل بمجازاتهم، ثم ذكر أنه سيعذبهم بالأنكال والنار المستعرة، والطعام ذي الغصة في يوم القيامة حين تكون الجبال كثيبا مهيلا.
وبعد أن خوّفهم عذاب يوم القيامة خوفهم أهوال الدنيا، وأنه سيكون لهم فيها مثل ما كان للأمم المكذبة قبلهم كقوم فرعون حين عصوا موسى فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ثم عاد إلى تخويفهم بالآخرة مرة أخرى، وأبان لهم أن أهوالها بلغت حدا تشيب من هوله الولدان، وأن السماء تتشقق منه.
الإيضاح
(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) أي واصبر على ما يقول فيك وفى ربك سفهاء قومك المكذبون لك، واهجرهم هجرا جميلا بأن تداريهم وتجانبهم وتغضى عن زلاتهم ولا تعاتهم.
ونحو الآية قوله: « وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ » وقوله: « فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا »، وقوله: « فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ».
ثم تهدّدهم وتوعّدهم، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء فقال:
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) أي ودعنى والمكذبين المترفين أصحاب الأموال، فإني أكفيك أمرهم وأجازيهم بما هم له أهل، وتمهل عليهم قليلا حتى يبلغ الكتاب أجله، وسيذوقون العذاب الذي أعددته لهم.
ونحو الآية قوله: « نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ » والخلاصة - خلّ بيني وبينهم، فسأجازيهم بما يستحقون.
روي أنها نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين وقالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسير حتى كانت وقعة بدر.
ثم ذكر من ألوان العذاب التي أعدها لهم أمورا أربعة:
(1) (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا) أي إن لدينا لهؤلاء المكذبين بآياتنا قيودا ثقيلة توضع في أرجلهم كما يفعل بالمجرمين في الدنيا إذلالا لهم قال الشعبي: أترون أن الله جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله، ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم.
(2) (وَجَحِيمًا) أي نارا مستعرة تشوى الوجوه.
(3) (وَطَعامًا ذا غُصَّةٍ) أي طعاما لا يستساغ، فلا هو نازل في الحلق، ولا هو خارج منه، كالزقوم والضريع كما قال تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ »
وقال: « إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ».
(4) (وَعَذابًا أَلِيمًا) أي وألوانا أخرى من العذاب المؤلم الموجع الذي لا يعلم كنهه إلا علام الغيوب.
والخلاصة - إن لدينا في الآخرة ما يضاد تنعمهم في الدنيا، وهو النكال والجحيم والطعام الذي يغصّون به والعذاب الأليم.
وعن الحسن أنه أمسى صائما فأتى بطعام فعرضت له هذه الآية فقال: ارفعه، ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البنّإني ويزيد الضبي ويحيى البكّاء، فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.
وبعد أن وصف العذاب ذكر زمانه فقال:
(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيبًا مَهِيلًا) أي ذلك العذاب في يوم تضطرب فيه الأرض، وتزلزل الجبال وتتفرق أجزاؤها، وتصير كالعهن المنفوش، وكالكثيب المهيل بعد أن كانت حجاره صماء، ثم ينسفها ربى نسفا، فلا يبقى منها شيء.
وبعد أن خوف المكذبين أولى النعمة بأهوال القيامة خوّفهم بأهوال الدنيا وما لاقته الأمم المكذبة من قبلهم فقال:
(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِدًا عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذًا وَبِيلًا) أي إنا أرسلنا إليكم رسولا يشهد عليكم بإجابة من أجاب منكم دعوتى، وامتناع من امتنع من الإجابة يوم تلقوننى في القيامة، كما أرسلنا إلى فرعون رسولا يدعوه إلى الحق، فعصى فرعون الرسول الذي أرسلناه إليه فأخذناه أخذا شديدا فأهلكناه ومن معه بالغرق، فاحذروا أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم مثل ما أصابه.
وقصارى ذلك - كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه فأخذناه أخذا وبيلا، أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم، فاحذروا أن تعصوه فيصيبكم مثل ما أصابه.
وبعد أن هددهم بعذاب الدنيا أعاد الكرّة بتخويفهم بعذاب الآخرة فقال:
(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيبًا، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) أيكيف يحصل لكم أمان من يوم يحصل فيه هذا الفزع العظيم الذي تشيب من هوله الولدان، وتتشقق السماء وتنفطر بسبب شدائده وأهواله إن كفرتم، والعرب تضرب المثل في الشدة فتقول: هذا يوم تشيب من هوله الولدان، وهذا يوم يشيب نواصى الأطفال، ذاك أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب كما قال المتنبي:
والهمّ يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم فجعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة، فاحذروا هذا اليوم فإنه كائن لا محالة كما وعد الله.
والخلاصة - كأنه قيل: هبوا أنكم لا تؤاخذون في الدنيا إخذة فرعون وأضرابه، فكيف تقون أنفسكم أهوال القيامة وما أعدّ لكم من الأنكال إن دمتم على ما أنتم عليه من الكفر.
[سورة المزمل (73): الآيات 19 الى 20]
[عدل]إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
شرح المفردات
تذكرة: أي موعظة، سبيلا: أي طريقا توصله إلى الجنة، أدنى. أي أقلّ، والله يقدّر الليل والنهار. أي يعلم مقادير ساعاتهما، أن لن تحصوه. أي لا يمكنكم الإحصاء وضبط الساعات، فتاب عليكم. أي بالترخيص في ذلك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم، فاقرءوا ما تيسر من القرءان. أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، يضربون في الأرض. أي يسافرون للتجارة، وأقرضوا الله. أي أنفقوا في سبل الخيرات.
المعنى الجملي
بعد أن بدأ السورة بشرح أحوال السعداء وبيّن معاملتهم للمولى ثم معاملتهم للخلق، ثم هدد الأشقياء بأنواع من العذاب في الآخرة، ثم توعدهم بعذاب الدنيا، وبعدئذ وصف شدة يوم القيامة - ختم السورة بتذكيرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد فمن شاء أن يسلك سبيل ربه بالطاعة والبعد عن المعصية فليفعل، ثم أخبره بما يقوم به هو والمؤمنون للعبادة من ساعات الليل: ثلثيه أو نصفه أو ثلثه، ثم خفف ذلك عنهم للأعذار التي تحيط بهم من مرض أو سفر للتجارة ونحوها أو جهاد للعدوّ، فليصلوا قدر ما يستطيعون، وليؤتوا زكاة أموالهم، وليستغفروا الله في جميع أحوالهم، فهو الغفور الرحيم.
الإيضاح
(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي إن ما تقدم من الآيات التي ذكر فيها يوم القيامة وأهوالها، وما هو فاعل فيها بأهل الكفر - عبرة لمن اعتبر وادّكر.
(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي فمن شاء اتعظ بها، واتخذ سبيلا إلى ربه فآمن به وعمل بطاعته وأخبت إليه، وذلك هو النهج القويم، والطريق الموصل إلى مرضاته.
ثم رخص لأمته في ترك قيام الليل كله للمشقة التي تلحقهم إذا هم فعلوا ذلك فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي إن ربك لعليم بأنك تقوم أقلّ من ثلثى الليل وأكثر من النصف، وتقوم النصف، وتقوم الثلث أنت وطائفة من صحبك المؤمنين حين فرض عليكم قيام الليل.
(وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي ولا يعلم مقادير الليل والنهار إلا الله، وأما أنتم فلن تستطيعوا ضبط الأوقات ولا إحصاء الساعات، فتاب عليكم بالترخيص في ترك القيام المقدر، وعفا عنكم ورفع هذه المشقة.
قال مقاتل وغيره: لما نزلت « قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا » شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدرى متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم فقال تعالى « عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ ».
والخلاصة - الله يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تامّا فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض، وإن نقصتم شق هذا عليكم، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر، وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسر بالليل كما أشار إلى ذلك بقوله:
(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل. قال الحسن. هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء. وقال السدي. ما تيسر منه هو مائة آية.
وفي بعض الآثار. من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن، وعن قيس بن حازم قال: « صليت خلف ابن عباس فقرأ في أول ركعة بالحمد لله رب العالمين وأول آية من البقرة ثم ركع، فلما انصرفنا أقبل علينا فقال: إن الله يقول: « فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ » أخرجه الدار قطنى والبيهقي في سننه.
ثم ذكر أعذارا أخرى تسوّغ هذا التخفيف فقال:
(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي علم سبحانه أنه سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار لا يستطيعون معها القيام بالليل كمرض وضرب في الأرض ابتغاء الرزق من فضل الله، وغزو في سبيل الله فهؤلاء إذا لم يناموا في الليل تتوالى عليهم أسباب المشقة ويظهر عليهم آثار الجهد، وفى هذا إيماء إلى أنه لا فرق بين الجهاد في قتال العدوّ والجهاد في التجارة لنفع المسلمين.
قال ابن مسعود: أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن الإسلام صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه، كان عند الله من الشهداء، ثم قرأ قوله تعالى: « وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عمر رضي الله عنه قال: ما من حال يأتينى عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني، وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله، وتلا: « وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ».
ولما ذكر سبحانه ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص ورفع وجوب القيام عن هذه الأمة - ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال:
(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن، والمراد صلّوا كما تقدم.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) أي وصلّوا الصلاة المفروضة وقوّموها فلا تكون قلوبكم غافلة، ولا أفعالكم خارجة عما رسمه الدين، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم، وأقرضوا الله قرضا حسنا بالإنفاق في سبل الخير للأفراد والجماعات مما هو نافع لها في رقيّها المدني والاجتماعى، وسيبقى لكم جزاء ذلك عند ربكم.
ونحو الآية قوله: « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً ».
ثم حبّب في الصدقة وفعل الخيرات فقال:
(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) أي وما تقدموا لأنفسكم في دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها في سبيل الله، أو فعل طاعة من صلاة أو صيام أو حج أو غير ذلك، تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة خيرا مما أبقيتم في دار الدنيا، وأعظم منه عائدة لكم.
(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) أي وسلوا الله غفران ذنوبكم يصفح لكم عنها ويسترها يوم الحساب والجزاء.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن الله ستّار على أهل الذنوب والتقصير، ذو رحمة فلا يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ما فرط منا من الزلات، بحرمة سيد خليقته، وسند أهل صفوته. وصلّ ربنا على محمد وشيعته.
ما جاء في هذه السورة من أوامر وأحكام
[عدل]أمر الله رسوله ﷺ بأشياء:
(1) أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه.
(2) أن يقرأ القرآن بتؤدة وتمهّل.
(3) أن يذكر ربه ليلا ونهارا بالتحميد والتسبيح والصلاة، وأن يجرد نفسه عما سواه.
(4) أن يتخذه وكيلا يكل إليه أموره متى فعل ما يجب عليه نحوها.
(5) أن يصبر على ما يقولون فيه: من أنه ساحر أو شاعر، وفى ربه من أن له صاحبة وولدا، وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم، وأن يكل أمرهم إلى ربهم فهو الذي يكافئهم، وسيرى عاقبة أمرهم وأمره.
(6) أن يخفف القيام للصلاة بالليل بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة والاكتفاء بما تيسر من صلاة الليل، ففي الصلاة المفروضة غنية للأمة مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار.
سورة المدثر عليه الصلاة والسلام
[عدل]هي مكية، نزلت بعد سورة المزمل، وعدد آياتها ستّ وخمسون.
وصلتها بما قبلها:
(1) أنها متواخية مع السورة قبلها في الافتتاح بنداء النبي ﷺ.
(2) أن صدر كلتيهما نازل في قصة واحدة.
(3) أن السابقة بدئت بالأمر بقيام الليل، وهو تكميل لنفسه ﷺ بعبادة خاصة، وهذه بدئت بالإنذار لغيره، وهو تكميل لسواه.
[سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 10]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) والرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
شرح المفردات
المدثر: أصله المتدثر، وهو الذي يتدثر بثيابه، أي يتغطى بها لينام أو ليستدفئ، والدثار: اسم لما يتدثر به، أنذر: أي حذّر قومك عذاب الله إن لم يؤمنوا، كبّر: أي عظم، فطهر: أي طهر نفسك مما تذم به من الأفعال، وهذّبها عما يستهجن من الأحوال، والرجز: العذاب كما قال: « لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ » أي اهجر المآثم المؤدية إلى العذاب، ولا تمنن تستكثر: أي ولا تمنن بعملك على ربك تطلب كثرته، نقر: أي نفخ، الناقور: أي الصور، عسير. أي شديد، غير يسير: أي غير سهل.
المعنى الجملي
روى جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال: « كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله، فنظرت عن يمينى وعن يسارى، فلم أر شيئا فنظرت فوقى فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض، فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثّروني دثّروني، وصبوا علي ماء باردا، فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ - إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) »
وقد أمر الله رسوله بالإنذار وتطهير نفسه من دنىء الأخلاق والمآثم والصبر على أذى المشركين، فإنهم سيلقون جزاءهم يوم ينفخ في الصور، وهو يوم شديد الأهوال على الكافرين ليس بالهيّن عليهم.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ) أي أيها الذي تدثر بثيابه رعبا وفرقا من رؤية الملك عند نزول الوحي أول مرة: شمّر عن ساعد الجد وأنذر أهل مكة عذاب يوم عظيم، وادعهم إلى معرفة الحق لينجوا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت.
والداعي إلى ربه الكبير المتعالي لا يتمّ له ذلك إلا إذا كان متخلقا بجميل الخلال وحميد الصفات، ومن ثم قال:
(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّم ربك ومالك أمورك بعبادته والرغبة إليه دون غيره من الآلهة والأنداد.
ونحو الآية قوله: « أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ».
(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) سئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا تلبسها على معصية ولا عن غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن مسلمة الثقفي:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنّع
والعرب تقول عن الرجل إذا نكث العهد ولم يف به: إنه لدنس الثياب، وإذا وفى ولم يغدر، إنه لطاهر الثوب، قال السموأل بن عاديا اليهودي:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل
ولا تزال هذه المعاني مستعملة في ديار مصر وغيرها فيقولون: فلان طاهر الذيل، يريدون أنه لا يلامس أجنبية.
ويرى جمع من الأئمة أن المراد بطهارة الثياب: غسلها بالماء إن كانت نجسة، وروى هذا عن كثير من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب الشافعي فأوجب غسل النجاسة من ثياب المصلي.
وقد استبان للمشتغلين بأصول التشريع وعلماء الاجتماع من الأوربيين أن أكثر الناس قذرا في أجسامهم وثيابهم أكثرهم ذنوبا، وأطهرهم أبدانا وثيابا أبعدهم من الذنوب، ومن ثم أمروا المسجونين بكثرة الاستحمام ونظافة الثياب، فحسنت أخلاقهم وخرجوا من السجون، وهم أقرب إلى الأخلاق الفاضلة منهم إلى الرذائل.
وقال الأستاذ (بتنام) في كتابه أصول الشرائع: إن كثرة الطهارة في دين الإسلام مما تدعو معتنقيه إلى رقي الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتباع أوامره خير قيام.
ومن هذا تعلم السر في قوله: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ).
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اهجر المعاصي والآثام الموصلة إلى العذاب في الدنيا والآخرة فإن النفس متى طهرت منها كانت مستعدة للإفاضة على غيرها، وأقبلت بإصغاء وشوق إلى سماع ما يقول الداعي.
وقد جرت العادة أن الداعي تصادفه عقبتان:
(1) الغرور والفخر والعظمة، فيقول أنا مسد للنعم إليكم، ومفيض للخير عليكم.
(2) الأعداء، وهؤلاء يؤذونه ويتربصون به الدوائر، ويتتبعونه في كل مكان ويتألّبون عليه ليل نهار، وذلك من أكبر العوامل المثبطة للدّعاة التي تجعلهم يكرّون راجعين ويقولون: ما لنا ولقوم لا يسمعون قولنا، ولنبتعد عن الناس، فإنهم لا يعرفون قدر النعم، ولا يشكرون المنعمين، ومن ثم قال تعالى:
(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي ولا تمنن على أصحابك بما علّمتهم وبلغتهم من الوحي مستكثرا ذلك عليهم. وقد يكون المعنى: لا تضعف، من قولهم: حبل منين أي ضعيف، ومنّه السير: أي أضعفه، فالمراد لا تضعف أن تستكثر من الطاعات التي أمرت بها قبل هذه الآية.
وقد يكون المراد كما قال ابن كيسان: لا تستكثر عملا فتراه من نفسك، إنما عملك منّه من الله عليك، إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته.
(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) على طاعته وعبادته، وقال مقاتل ومجاهد: اصبر على الأذى والتكذيب.
والخلاصة - لا تجزع من أذى من خالفك.
ولما أتمّ إرشاد رسوله أردفه بوعيد الأشقياء فقال:
(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي اصبر على أذاهم فإن بين أيديهم يوما عسيرا يذوقون فيه عاقبة كفرهم وأذاهم حين ينفخ في الصور، ويومئذ تنال الجزاء الحسن والنعيم المقيم.
ثم أكد هذا بقوله:
(عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) أي يومهم عسير لا يسر فيه ولا فيما بعده، على خلاف ما جرت به العادة من أن كل عسر بعده يسر، وعسره عليهم أنهم يناقشون الحساب، ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسوّد وجوههم، وتتكلم جوارحهم، فيفتضحون على رءوس الأشهاد.
وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لا يناقشون فيه حسابا، ويمشون بيض الوجوه.
أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: لما نزلت « فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ » قال رسول الله ﷺ: « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ قال أصحاب رسول الله ﷺ فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا ».
[سورة المدثر (74): الآيات 11 الى 30]
[عدل]ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
شرح المفردات
ذرني ومن خلقت وحيدا: أي دعنى وإياه، فإني أكفيكه، ممدودا: أي كثيرا، شهودا: أي حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم، ومهدت له تمهيدا: أي بسطت له الرياسة والجاه العريض، سأرهقه: أي سأكلفه، صعودا: أي عقبة شاقة لا تطاق، فقتل كيف قدر: أي لعنه الله كيف وصل بقوة خياله وسرعة خاطره إلى رميه الغرض الذي كانت تنتحيه قريش، عبس: أي قطب ما بين عينيه، بسر: أي كلح وجهه كما قال توبة بن الحميّر.
وقد رابني منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبسورها
لوّاحة، من لوّحته الشمس: إذا سودت ظاهره وأطرافه، قال:
تقول ما لاحك يا مسافر يا بنة عمي لا حنى الهواجر
والبشر: واحدها بشرة، وهي ظاهر الجلد.
المعنى الجملي
روى « أن النبي ﷺ قام في المسجد يصلى والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، وهو يقرأ: « حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ » فلما فطن النبي ﷺ إلى استماعه أعاد القراءة، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بنى مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبونّ قريش كلهم، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا، فقال الوليد: ما لي أراك حزينا يا ابن أخي؟ فقال: وما يمنعنى أن أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وأنك تدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم؟ فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش إني من أكثرهم مالا وولدا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام؟ ثم أتى مجلس قومه مع أبى جهل فقال لهم: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط تكهّن؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا: اللهم لا (وكان رسول الله يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه) ثم قالوا: (فما هو؟ قال:) ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فهو ساحر وما يقوله سحر يأثره عن مسيلمة وأهل بابل، فارتج النادي فرحا، وتفرقوا معجبين بقوله، متعجبين منه فنزلت هذه الآيات ».
وقد كان الوليد يسمى الوحيد، لأنه وحيد في قومه، فماله كثير فيه الزرع والصّرع والتجارة، وكان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم، وعبيد وجوار، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة، وقد بسط الله له الرزق وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة في قومه، وكان يسمى ريحانة قريش.
الإيضاح
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) أي خلّ بيني وبين من أخرجته من بطن أمه وحيدا لا مال له ولا ولد، ثم بسطت له الرزق والجاه العريض، فكفر بأنعم الله عليه.
وقال مقاتل. خلّ بيني وبينه فأنا أنفرد بهلكته.
وفي هذا وعيد شديد على تمرّده وعظيم عناده واستكباره لما أوتيه من بسطة المال والجاه، وكان يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبى نظير، وقد تهكم الله به وبلقبه، وصرفه عن الغرض الذي كانوا يقصدونه من مدحه والثناء عليه إلى ذمه وعيبه، فجعله وحيدا في الشر والخبث.
(وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا) أي أعطيته مالا كثيرا، فكان له زرع وضرع وتجارة كثيرة، قال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع ثمره شتاء ولا صيفا.
وقال ابن عباس: كان له مال ممدود بين مكة والطائف من الإبل والخيل والغنم والبساتين الكثيرة التي لا تنقطع ثمارها صيفا ولا شتاء.
(وَبَنِينَ شُهُودًا) أي وبنين حضورا معه بمكة لا يفارقونها لكسب عيش، ولا ابتغاء رزق، إذ كانوا في غني عن الضرب في الأرض، بما لهم من واسع الثراء، فكان مستأنسا بهم، طيّب القلب بشهودهم.
(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) التمهيد عند العرب: التوطئة، ومنه مهد الصبى، والمراد وسعت له الأرزاق، وبسطت له الجاه، فكان من الحق عليه أن يشكر الله على ما أنعم عليه، ولكنه كان لربه كنودا، فأعرض عن الداعي واستكبر، وقابل النعمة بالكفران، والجود بالجحود والعصيان.
ثم عجّب من حاله وطلبه الزيادة على ما هو فيه فقال:
(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي ثم هو بعد ذلك يرجو أن يزيد ماله وولده.
وفي هذا استنكار لشديد حرصه وتكالبه على جمع حطام الدنيا كما هو شأن الإنسان، فقد جاء في الحديث « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا »
وجاء في الخبر « منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال ».
وروي عن الحسن أنه كان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي.
ثم أيأسه تعالى وقطع رجاءه فقال.
(كَلَّا) أي لا أفعل ولا أزيد. قال مقاتل. ما زال الوليد بعد نزول الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا) أي إنه كان معاندا لآيات المنعم، وهي آيات القرآن
التي نزل بها الوحي على لسان رسوله محمد ﷺ، ومن ثم قال فيها ما قال، ومعاندة الحق جديرة بزوال النعم.
وفي الآية إيماء إلى أن كفره كفر عناد، فهو يعرف الحق بقلبه، وينكره بلسانه، وهذا أقبح أنواع الكفر.
ثم بيّن ما يفعله به يوم القيامة فقال:
(سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) أي سأكلفه عقبة شاقة الصعود، والمراد أنه سيلقى العذاب الشديد الذي لا يطاق، وقد جعل الله ما يسوق إليه من المصايب وأنواع المشاق شبيها بمن يكلّف صعود الجبال الوعرة الشاقة.
قال قتادة: سيكلف عذابا لا راحة فيه.
ثم حكى كيفية عناده فقال:
(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي إنه فكر وزوّر في نفسه كلاما في الطعن في القرآن، وما يختلق فيه من المقال، وقدره تقديرا، أصاب به ما في نفوس قريش، وما به وافق غرضهم.
والخلاصة - إنه فكر وتروّي ماذا يقول فيه، وبماذا يصفه به، حين سئل عن ذلك؟
ثم عجّب من تقديره وإصابته المحز فقال:
(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) هذا أسلوب يراد به التعجيب والثناء على المحدّث عنه تقول العرب: فلان قاتله الله ما أشجعه! وأخزاه الله ما أشعره! يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى: « قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ».
وقصارى ذلك - إن هذا تعجيب من قوة خاطره، وإصابته الغرض الذي كانت ترمى إليه قريش من الطعن الشديد في القرآن، فقوله جاء وفق ما كانوا يريدون، وطبق ما كانوا يتمنون من القدح فيه، وفيمن جاء به.
ثم كرر هذا الدعاء للتأكيد والمبالغة فقال:
(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي لعن وعذّب على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع: أي على أي حال كانت منه.
(ثُمَّ نَظَرَ) أي ثم نظر في أمر القرآن مرة بعد أخرى، لعله يجول بخاطره ما يحبون، ويصل إلى ما يرجون.
(ثُمَّ عَبَسَ) أي ثم قطّب وجهه حين ضاقت به الحيل ولم يدر ما يقول.
ثم أكد ما قبله فقال:
(وَبَسَرَ) أي كلح واسودّ وجهه، قال سعد بن عبادة: لما أسلمت راغمتنى أمي، فكانت تلقاني مرة بالبشر، ومرة بالبسر.
وفي هذا إيماء إلى أنه كان مصدّقا بقلبه صدق محمد ﷺ، وكان ينكره عنادا، فإنه لو كان يعتقد صدق ما يقول لفرح باستنباط ما استنبط، وإدراك ما أدرك، وما ظهرت العبوسة على وجهه.
(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي ثم صرف وجهه عن الحق ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد له والإقرار به.
ثم ذكر ما استنبطه من التّرّهات والأباطيل.
(فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي فقال ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن غيره ممن كان قبله من السحرة كمسيلمة وأهل بابل ويحكيه عنهم.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي إنه ملتقط من كلام غيره، وليس من كلام الله كما يدّعى، ولو صح ما قال لأمكن غيره أن يقول مثله أو يعارضه بأحسن منه، ففي العرب ذوو فصاحة وذرائة لسان، وفيهم الخطباء والمقاويل الذين لا يجارون ولا يبارون، ولم يعلم أن أحدا من أهل الزكانة والمعرفة سوّلت له نفسه أن يعارضه، بل التجئوا إلى السيف والسّنان، دون المعارضة بالحجة والبرهان، وقد رووا في هذا
الباب مضحكات أغلبها لا يصح، لأنهم وهم المقاويل ذوو اللسن وقوة العارضة لا ينبغي أن ينسب إلى أحدهم مثل هذا الهذر كقول من نسب إليه أنه عارض سورة الفيل فقال: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب طويل، ومشفر وتيل إلخ.
ثم ذكر ما يلقاه من الجزاء على سوء صنيعه، وفظيع عمله فقال:
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله جهنم وأغمره فيها من جميع جهاته.
ثم بالغ في وصف النار وتعظيم شأنها فقال:
(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ؟) تقول العرب: ما أدراك ما كذا: إذا أرادوا المبالغة والتهويل في الأمر. أي وأي شيء أعلمك ما سقر؟ لأنها قد بلغت في الوصف حدا لا يمكن معرفته، ولا يتوصل إلى إدراك حقيقته.
ثم بيّن وصفها بقوله.
(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقى لهم لحما ولا تذر عظما، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا فلا تذرهم، بل تعيد إحراقهم كرة أخرى، وهكذا دواليك كما جاء في الآية الأخرى. « كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُودًا غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ».
(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي تلفح الجلد لفحة تدعه أشد سوادا من الليل، قال ابن عباس: تلوّح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه.
(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها.
عن البراء « أن رهطا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي ﷺ عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل فأخبر النبي ﷺ فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر » رواه البيهقي وابن أبي حاتم وابن مردويه.
[سورة المدثر (74): الآيات 31 الى 37]
[عدل]وما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمانًا وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
شرح المفردات
فتنة. أي سبب ضلال، أوتوا الكتاب. هم اليهود والنصارى، مرض. أي نفاق، مثلا: أي حديثا، ومنه قوله تعالى: « مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ » أي حديثها والخبر عنها، جنود ربك: أي هم خلقه من الملائكة وغيرهم، ذكرى: أي تذكرة وموعظة للناس، كلا: أي حقا، أدبر: أي ولّى، أسفر: أي أضاء، الكبر: أي البلايا والدواهي، واحدها كبرى، أن يتقدم: أي إلى الخير، يتأخر: أي يتخلف عنه.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس « أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: « عليها تسعة عشر » قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع أن ابن أبي كبشة، (يعنى محمدا ﷺ): يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدّهم « الشجعان » أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، فقال له أبو الأشد بن كلدة الجمحي - وكان شديد البطش - أيهولنّكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة - يقول ذلك مستهزئا »
وفي رواية أن الحرث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله: « وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً » أي لم يجعلهم رجالا فيتعاطون مغالبتهم.
الإيضاح
(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي وما جعلنا المدبّرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟
وهؤلاء: هم النقباء والمدبرون لأمرها.وإنما كانوا ملائكة لأنهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأقومهم بحق الله والغضب له سبحانه، وليكونوا من غير جنس المعذّبين حتى لا يرقّوا لهم ويرحموهم.
ثم ذكر الحكمة في اختيار هذا العدد القليل فقال:
(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي وما جعلنا عددهم هذا العدد إلا محنة وضلالة للكافرين، حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم، ويكثر غضب الله عليهم.
وفتنتهم به أنهم استقلوه واستهزءوا به واستبعدوه وقالوا: كيف يتولى هذا العدد القليل تعذيب الثقلين.
(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي إنه سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدة، ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوة محمد ﷺ لموافقة ما في القرآن لكتبهم، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم.
(وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمانًا) أي وليزداد إيمان المؤمنين حين يرون تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أن العدد كما قال.
ثم أكد الاستيقان وزيادة الإيمان فقال:
(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي ولا يشك أهل التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله من أمة محمد ﷺ في حقيقة ذلك العدد.
ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين، ولكنه تعريض بغيرهم ممن في قلبه شك من المنافقين.
(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) أي وليقول الذين في قلوبهم شك في صدق الرسول ﷺ، والقاطعون بكذبه: ما الذي أراد الله بهذا العدد القليل المستغرب استغراب المثل؟
ثم بين أن الاختلاف في الدين سنة من سنن الله تعالى فقال:
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين عن عدة خزنة جهنم: أي شيء أراد الله بهذا الخبر حتى يخوّفنا بعدتهم؟ - يضل الله من خلقه من يشاء، فيخذله عن إصابة الحق، ويهدى من يشاء منهم، فيوفقه لإصابة الصواب.
والخلاصة - إن مثل هذا الإضلال يضل من يشاء إضلاله لسوء استعداده، وتدسيته نفسه، وتوجيهها إلى سيىء الأعمال، واجتراح السيئات حين مشاهدة الآيات الناطقة بالهدى - ويهدى من يشاء لتوجيه اختياره إلى الحسن من الأعمال، وتزكيته نفسه كلما لاح له سبيل الهدى.
(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي وما يعلم عدد خلقه، ومقدار جموعه التي من جملتها الملائكة على ما هم عليه إلا الله عز وجل.
وهذا ردّ على استهزائهم بكون الخزنة تسعة عشر، جهلا منهم وجه الحكمة في ذلك.
قال مقاتل: هو جواب لقول أبى جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر.
وخلاصة ذلك - إن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر.
(كَلَّا) أي كلا لا سبيل لكم إلى إنكارها لتظاهر الأدلة عليها.
(وَالْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) أي أقسم بالقمر الوضاح، والليل إذا ولى وذهب، والصبح إذا أشرق - إن جهنم لإحدى البلايا الكبار والدواهي العظام لإنذار البشر.
ثم بين أصحاب النذارة فقال:
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي لمن شاء أن يقبل النذارة أو يتولى عنها ويردّها.
ونحو الآية قوله: « وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ».
وخلاصة ما سلف - هأنتم أولاء قد علمتم سقر وعذابها وملائكتها، فمن تقدم إلى الخير أطلقناه، ومن تأخر عنه سلكناه فيها.
قال ابن عباس: هذا تهديد وإعلام بأن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد ﷺ جوزى بثواب لا ينقطع أبدا، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا ﷺ عوقب عقابا لا ينقطع أبدا.
وقال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن أخرج مخرج الخبر كقوله: « فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ».
[سورة المدثر (74): الآيات 38 الى 56]
[عدل]كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
شرح المفردات
رهينة: أي مرتهنة بعملها مأخوذة به إما خلّصها وإما أوبقها، أصحاب اليمين: هم من أعطوا كتبهم بأيمانهم، ما سلككم: أي ما أدخلكم تقول سلكت الخيط في ثقب الإبرة: أي أدخلته فيه، نخوض مع الخائضين: أي نخالط أهل الباطل في باطلهم فكلما غوى غاو غوينا معه، اليقين: هو الموت كما في قوله: « وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ » قاله ابن عباس، مستنفرة: أي نافرة، وقسورة: الرماة للصيد واحدهم قسور قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد، منشّرة: أي منشورة مبسوطة: تُقرأ وتنشر.
الإيضاح
(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي كل نفس مرتهنة بكسبها عند الله غير مفكوكة عنه، كافرة كانت أو مؤمنة، عاصية أو طائعة.
(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم فكوا رقابهم بحسن أعمالهم، كما يخلّص الراهن رهنه بأداء الحق الذي وجب عليه.
ثم بين مآل أصحاب اليمين فقال:
(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟) أي هم في غرفات الجنات يسألون المجرمين وهم في الدركات قائلين لهم: ما الذي أدخلكم في سقر؟
فأجابوهم بأن هذا العذاب كان لأمور أربعة:
(1) (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نكن في الدنيا من المؤمنين الذين يصلون لله، لأنا لم نكن نعتقد بفرضيتها.
(2) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي ولم نكن من المحسنين إلى خلقه الفقراء بفضل أموالنا، المتصدقين عليهم بما تجود به نفوسنا.
(3) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي وكنا لا نبالى بالخوض في الباطل مع من يخوض فيه. قال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد ﷺ فنقول إنه كاذب ساحر مجنون، وفى أمر القرآن فنقول إنه سحر وشعر وكهانة إلى نحو أولئك من الأباطيل.
(4) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي وكنا نكذب بيوم الجزاء والحساب.
(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي حتى علمنا صحة ذلك عيانا بالرجوع إلى الله في الدار الآخرة.
(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي فهم بعد اتصافهم بهذه الصفات لا تنفعهم شفاعة شافع، لأن لهم النار خالدين فيها أبدا.
(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟) أي فأي شيء حصل لأهل مكة حتى أعرضوا عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى، والموعظة العظمى، قال مقاتل: إعراضهم عنه من وجهين:
(1) جحودهم وإنكارهم له.
(2) ترك العمل بما فيه.
(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي كأن هؤلاء المشركين في فرارهم من محمد ﷺ حمر وحشية هاربة من رماة يرمونها ويتعقبونها لصيدها وافتراسها.
وفي هذا إيماء إلى أنهم مع موجبات الإقبال إلى الداعي والاتعاظ بما جاء به يعرضون عنه بغير سبب ظاهر، فأى شيء حصل لهم حتى أعرضوا عنه؟
وفي تشبيههم في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ، وشرادهم عنه بحمر وحشية جدّت في نفارها مما أفزعها - تهجين لحالهم، وشهادة عليهم بالبله، فلا ترى مثل نفار حمر الوحش، واطرادها في العدو إذا هي خافت من شيء.
ثم بين أنهم بلغوا في العناد حدا لا يتقبله عقل، ولا يستسيغه ذو نفس حساسة فقال:
(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) أي هم قد بلغوا في العناد حدا لا تجدى معهم فيه التذكرة، فكل واحد منهم يريد أن ينزل عليه كتاب مفتوح من السماء كما أنزل على نبيه، وجاء نحو هذا في قوله تعالى حكاية عنهم: « لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ ».
روي أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتى كل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ونومر فيه بأتباعك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن المشركين كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار.
(كَلَّا) زجر لهم وتوبيخ على اقتراحهم لتلك الصحف المنشرة، أي فهم لا يؤتونها.
ثم بين سبحانه سبب هذا التعنت والاقتراح فقال:
(بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي إنما دسّاهم وطبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم أنهم كانوا لا يصدقون بالآخرة، ولا يخافون أهوالها ومن ثم أعرضوا عن التأمل في تلك المعجزات الكثيرة، وقد كانت كافية لهم جدّ الكفاية في الدلالة على صدق دعوى محمد ﷺ للنبوة، فطلب الزيادة يكون من التعنت الذي لا مسوّغ له.
ثم وبخهم على إعراضهم عن التذكرة فقال:
(كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي ليس الأمر كما يقول المشركون في هذا القرآن من أنه سحر يؤثر، بل هو تذكرة من الله لخلقه ذكّرهم به، فليس لأحد أن يعتذر بأنه لم يجد مذكّرا ولا معرّفا.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال:
(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي فمن شاء من عباده أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينيه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه، وبه سعادته في الدارين.
ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال:
(وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي وما يذكرون هذا القرآن ولا يتعظون بعظاته ويعملون بما فيه إلا أن يشاء الله أن يذكروه، فلا يستطيع أحد أن يفعل شيئا إلا أن يعطيه الله القدرة على فعله، إذ لا يقع في ملكه سبحانه إلا ما يشاء كما قال سبحانه: « وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ».
ثم ذكر ما هو كالعلة لما سلف فقال:
(هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي فالله هو الحقيق بأن يتقيه عباده، ويخافوا عقابه، فيؤمنوا به ويطيعوه، وهو القمين بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا به وأطاعوه.
عن أنس رضي الله عنه « أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية فقال: قال ربكم: أنا أهل أن أتّقى، فلا يجعل معي إله، فمن اتقاني فلم يجعل معى إلها فأنا أهل أن أغفر له » أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة في خلق كثير غيرهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله أجمعين.
سورة القيامة
[عدل]هي مكية، وعدد آيها أربعون، نزلت بعد سورة القارعة.
ووجه اتصالها بما قبلها، أنه ذكر في السورة السابقة قوله: « كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ » وكان عدم خوفهم منها لإنكارهم للبعث، وذكر هنا الدليل عليه بأتمّ وجه، فوصف يوم القيامة وأهواله وأحواله، ثم ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن، ثم ما قبل ذلك من مبدإ الخلق.
[سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 15]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) ولَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
شرح المفردات
(لا أُقْسِمُ) تزيد العرب كلمة (لا) في القسم كما قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري لا يدّعي القوم أني أفرّ
ويرى قوم أن (لا) نافية ردّ لكلام كان قد تقدم وجواب لهم، وذلك هو المعروف في كلام الناس في محاوراتهم فإذا قال أحدهم: لا والله لا فعلت كذا - قصد بقوله (لا) رد الكلام السابق، وبقوله والله ابتداء يمين، فهم لما أنكروا البعث قيل لهم: ليس الأمر على ما ذكرتم ثم أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: إن البعث حق لا شك فيه.
ويرى جمع من المفسرين أنها للنفى على معنى إني لا أعظمه بإقسامي به حق إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من هذا وهو يستأهل فوق ذلك.
قال مجاهد: النفس اللوامة هي التي تلوم نفسها على مافات، وتندم على الشر لم فعلته؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه؟ فهي لم تزل لأئمة وإن اجتهدت في الطاعات (بَلى) كلمة يجاب بها إذا كان الكلام منفيا، فالمراد بها هنا نعم نجمعها بعد تفرقها، والبنان واحده بنانة وهي الأصابع. قال النابغة:
بمخضّب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد
ليفجر أمامه: أي ليدوم على فجوره في الحاضر والمستقبل لا ينزع عنه، برق تحير فزعا من قولهم: برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، قال ذو الرمة:
ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت لعينيه ميٌّ سافرا كاد يبرق
وخسف القمر: ذهب ضوءه، والمفر: الفرار، والوزر: الملجأ وأصله الجبل المنيع، ومنه قوله:
لعمرك ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر
ينبأ: أي يخبر، بصيرة: أي حجة شاهدة على ما صدر منه، والمعاذير: ما يعتذر به.
المعنى الجملي
أقسم تعالى بعظمة القيامة، وبالنفس الطموحة إلى الرقي، الجانحة إلى العلوّ، التي لا تصل إلى مرتبة إلا طلبت ما فوقها، ولا إلى حال إلا أحبت ما تلاها - إن هناك حالا أخرى للنفس تنال فيها رغائبها، في عالم أكمل من هذا العالم، عالم السعادة الروحية للمطيعين، وعالم الشقاء للجاحدين المعاندين.
وهذا القسم وأمثاله لم يطرق آذان العرب من قبل، فهم كانوا يقسمون بالأب والعمر والكعبة ونحو ذلك.
روي أن عدي بن أبي ربيعة سأل رسول الله ﷺ عن يوم القيامة متى يكون وما حاله وأمره فأخبره به، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أومن بك، أو يجمع الله هذه العظام؟ فنزلت هذه الآيات، ولهذا كان النبي ﷺ يقول: « اللهم اكفنى شر جارى السوء ».
الإيضاح
(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أقسم سبحانه بيوم القيامة وعظيم أهواله، وبالنفس التواقة للمعالى التي تندم على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لم تستكثر منه، فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في الطاعة - لتبعثنّ ولتحاسبنّ على ما تفعلون.
وقال الفرّاء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت هلّا ازددت، وإن كانت عملت سوءا قالت ليتني لم أفعل، وعلى هذا فهو مدح للنفس، والقسم بها سائغ حسن اهـ.
وقسمه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيم شأنه، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه. قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله « لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ » قال: يقسم ربك بما شاء من خلقه.
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي أيظن ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها؟ بلى نحن قادرون على ذلك وأعظم منه، فنحن قادرون على أن نسوى بنانه وأطراف يديه ورجليه، ونجعلهما شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار، فلا يستطيع أن يعمل بها شيئا مما يعمله بأصابعه المفرّقة ذات المفاصل والأنامل، من فنون الأعمال التي تحتاج إلى القبض والبسط، والتاني في عمل ما يراد من الشئون كالغزل والنسج والضرب على الأوتار والعيدان، إلى نحو أولئك.
والخلاصة - إنا لقادرون على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى مثل التركيب الأول بعد تفرقها وصيرورتها عظاما ورفاتا في بطون البحار، وفسيح القفار، وحيثما كانت، وعلى أن نسوّى أطراف يديه ورجليه ونجعلهما شيئا واحدا فيكون كالجمل والحمار ونحوهما، فيأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب، وفى ذلك خسران كبير له، وتشويه لخلقه، وإفساد لوظيفته التي أعدّ لها في الحياة.
(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على أن يجمع عظامه، لكنه يريد أن يمضى قدما في المعاصي لا يثنيه عنها شيء، ولا يتوب منها، بل يسوّف بالتوبة فيقول: أعمل ثم أتوب بعد ذلك.
والخلاصة - إنه انتقل من إنكار الحسبان، إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب، ليكون ذلك أشد في لومه وتوبيخه كأنه قيل: دع تعنيفه على ذلك، فإنه قد بلغ من أمره أنه يريد أن يداوم على فجوره فيما يستأنف من الزمان ولا يتخلى عنه.
ثم علل إرادته دوام الفجور بقوله:
(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟) أي يسأل سؤال متعنت مستبعد، متى يكون هذا اليوم؟ ومن أنكر البعث أشد الإنكار، ارتكب أعظم الآثام، وخبّ فيها ووضع غير عابي بعاقبة ما يصنع، ولا مقدّر نتائج ما يكتسب.
ونحو الآية قوله: « وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ »، وقوله: « هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ».
وقصارى ما سلف أنهم أنكروا البعث لوجهين:
(1) شبهة تعترض الخاطر: كقولهم إن أجزاء الجسم إذا تفرقت واختلطت بالتراب، وسارت في مشارق الأرض ومغاربها، كيف يمكن تمييزها وإعادتها على النحو الذي كانت عليه أوّلا، ولهؤلاء جاء الردّ بقوله: « أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ».
(2) حبّ الاسترسال في اللذات، والاستكثار من الشهوات، فلا يود أن يقرّ بحشر ولا بعث حتى لا تتنغص عليه لذاته، ولمثل هؤلاء قال: « بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ».
وقد ذكر سبحانه من علامات يوم القيامة أمورا ثلاثة فقال:
(1) (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي إذا تحير البصر ودهش فلم يطرف من شدة الهول ومن عظم ما يشاهد، قال الفرّاء: تقول العرب للإنسان المتحير المبهوت: قد برق، وأنشد:
فنفسك فانع ولا تنعني ودار الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من كثرة الكلوم والجروح التي أصابتك.
ونحو الآية قوله: « لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ».
(2) (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب ضوءه، كما نعقله من حاله في الدنيا، إلا أن الخسوف في الدنيا إلى انجلاء، وفى الآخرة لا يعود ضوءه.
(3) (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي أدرك كل واحد منهما صاحبه وطلعا من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين على ما روى عن ابن مسعود، وقد كان هذا مستحيلا في الدنيا كما جاء في قوله سبحانه: « لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ».
(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟) أي يقول الإنسان حينئذ لدهشته وحيرته: أين المفرّ من جهنم؟ وهل من ملجأ منها؟ فأجيبوا حينئذ:
(كَلَّا لا وَزَرَ) أي كلا لا شيء يعتصم به من أمر الله، فلا حصن ولا جبل ولا سلاح يقيكم شيئا من أمره، قال السدي: كانوا إذا فزعوا في الدنيا تحصنوا بالجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم مني.
ونحو الآية قوله: « ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ».
ثم كشف عن حقيقة الحال وبيّنها بقوله:
(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أيإلى ربك مرجعك في جنة أو نار، وأمر ذلك مفوّض إلى مشيئته، فمن شاء أدخله الجنة، ومن شاء أدخله النار.
ونحو الآية قوله: « وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ».
ثم ذكر أن مآله رهن بما عمل فقال:
(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أييخبر الإنسان حين العرض والحساب ووزن الأعمال - بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها كما قال: « وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ».
قال القشيري: وهذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « سبع يجرى أجرها للعبد بعد موته وهو في قبره، من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس ظلا، أو بنى مسجدا، أو ورّق مصحفا، أو ترك وليّا يستغفر له بعد موته ».
ثم بيّن أن أعظم شاهد على المرء نفسه، فهي نعم الشاهد عليه فقال:
(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)
بل الإنسان حجة بيّنة على نفسه، فلا يحتاج إلى أن ينبئه غيره، لأن نفسه شاهدة على ما فعل، فسمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه، وسيحاسب عليه مهما إني بالمعاذير وجادل عنها كما قال: « اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ».
وقال الفراء في الآية: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة، وأنشد:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمجلسه أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلّهم من الخوف لا يخفى عليهم سرائره
[سورة القيامة (75): الآيات 16 الى 25]
[عدل]لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
شرح المفردات
لتعجل به: أي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك، وقرءانه: أي قراءته أي إثباتها في لسانك، قرأناه: أي قرأه جبريل عليك، فاتّبع قرءانه: أي فاستمع قراءته، وكررها حتى يرسخ في نفسك، بيانه: أي تفسير ما فيه من الحلال والحرام وبيان ما أشكل من معانيه، والعاجلة: دار الدنيا، ناضرة: أي متهللة بشرا بما ترى من النعيم، ناظرة: أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب، باسرة: أي شديدة العبوس كالحة متغيرة مسودة، تظن: أي تستيقن، فاقرة: أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المنكر للقيامة والبعث معرض عن آيات الله، منكر لعظيم قدرته، وأنه سائر في غلوائه، غير مكترث بما يصدر منه - أردفه بذكر حال من يثابر على تعلّم آيات الله وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها، رجاء قبوله إياها، ليظهر بذلك تباين حال الفريقين: من يرغب في تحصيل آيات الله، ومن يرغب عنها « وبضدها تتبين الأشياء » ثم عاد إلى ذكر السبب في إنكار البعث وهو حبّ بنى آدم للعاجلة، وتركهم للآخرة، ثم ذكر ما يكون في ذلك اليوم من استبشار المؤمنين وبسور المشركين وملاقاتهم للشدائد والأهوال، وظنهم أن ستتراكم عليهم الدواهي التي تكسر فقار ظهورهم.
الإيضاح
علّم الله رسوله كيف يتلقى الوحي من الملك، إذ كان يسابقه في قراءته فأمره أن يستمع إليه إذا جاء وقد كفل له: (1) أن يحفظه له. (2) أن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه. (3) أن يبينه ويفسره له.
وقد أشار إلى الأول بقوله:
(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) أيلا تحرك أيها الرسول الكريم بالقرءان لسانك وشفتيك، لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلّت منك، فإن علينا أن نجمعه لك حتى تثبته في قلبك. وقد كان النبي ﷺ إذا نزل عليه الوحي يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه ويعرف ذلك في تحريكه شفتيه حتى نزلت الآية، فكان رسول الله ﷺ إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما أمره الله.
عن ابن جبير عن ابن عباس قال: « كان النبي ﷺ يعالج من التنزيل شدة بتحريك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله ﷺ يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: « لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ » رواه مسلم.
وأشار إلى الثاني بقوله:
(فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أيفإذا تلى عليك فاعمل بما فيه من شرائع وأحكام وقد يكون المراد - فإذا تلاه عليك الملك فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك.
وأشار إلى الثالث بقوله:
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي ثم إنا بعد حفظه وتلاوته، نبيّنه لك ونلهمك معناه على ما أردنا وشرحنا.
ثم أعاد القول في توبيخ المشركين على إنكارهم للبعث فقال:
(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي ليس الأمر كما تقولون أيها المشركون: من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم، ولا تجازون بأعمالكم، ولكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم للدنيا العاجلة، وإيثاركم شهواتها على آجل الآخرة ونعيمها، فأنتم تؤمنون بالعاجلة وتكذبون بالآجلة.
قال قتادة - اختار أكثر الناس العاجلة إلا من رحم الله وعصم.
والخلاصة - إنكم يا بني آدم خلقتم من عجل وطبعتم عليه، فتعجلون في كل شيء، ومن ثمّ تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة.
ثم بيّن ما يكون من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين فقال:
(1) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أي فوجوه المؤمنين المخلصين حين تقوم القيامة مضيئة مشرقة، تشاهد عليها نضرة النعيم.
(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب، قال جمهور أهل العلم: المراد بذلك ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.
قال ابن كثير: وهذا بحمد الله مجمع عليه من الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام اهـ.
روى البخاري في صحيحه « إنكم سترون ربكم عيانا »
وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة « أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا لا، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك ».
وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قال: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، قال الأزهري: قد أخطأ مجاهد لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى انتظر، فإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدا اهـ.
(2) (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي ووجوه الفجار تكون يوم القيامة: عابسة كالحة مستيقنة أنها ستصاب بداهية عظيمة تقصم فقار ظهرها وتهلكها.
ونحو الآية قوله: « يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ » وقوله: « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ».
[سورة القيامة (75): الآيات 26 الى 40]
[عدل]كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
شرح المفردات
التراقي: العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال، واحدها ترقوة، من راق: أي من يرقيه وينجيه مما هو فيه على نحو ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام الذي يعدّ لذلك والمراد هل من طبيب يشفى بالقول أو بالفعل، الفراق: أي من الدنيا حبيبته، التفّت الساق بالساق: أي التوت عليها حين هلع الموت وقلقه والمراد أنه اشتد عليه الخطب، المساق: المرجع والمآب، فلا صدّق ولا صلى: أي فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه، يتمطى: أي يتبختر افتخارا، أولى لك: أي ويل لك، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره، فأولى: أي فهو أولى بك من غيرك، فدلت الأولى على الدعاء عليه بقرب المكروه، ودلت الثانية على الدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره، سدى: أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب، نطفة: أي ماء قليلا وجمعها نطاف ونطف، يمنى: أي يراق ويصب في الرحم، علقة: أي قطعة دم جامد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحوال يوم القيامة وما يرى فيها من عظيم الأهوال، ووصف سعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء بيّن أن الدنيا لها نهاية ونفاد ثم تكون مرارة الموت وآلامه، وأن الكافر قد أضاع الفرصة في الدنيا، فلا هو صدّق بأوامر دينه ولا هو أدّى فرائضه ثم أقام الدليل على صحة البعث من وجهين:
(1) أنه لا بد من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها، وثواب كل عامل بما يستحق وإلا تساوى المطيع والعاصي، وذلك لا يليق بالحكيم العادل جل وعلا.
(2) أنه كما قدر على الخلق الأول وأوجد الإنسان من مني يمنى، فأهون عليه أن يعيده خلقا آخر!
الإيضاح
(كَلَّا) ردع وزجر: أي ازدجروا وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت، فأقلموا عن إيثار الدنيا على الآخرة، فستنقطع الصلة بينكم وبينها وتنتقلون إلى الدار الآخرة التي ستكونون فيها مخلّدين أبدا.
ثم وصف الحال التي تفارق فيها الروح الجسد فقال:
(إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) أي إذا بلغت الروح أعالى الصدر، وأشرفت النفس على الموت، قال دريد بن الصّمّة:
وربّ عظيمة دافعت عنها وقد بلغت نفوسهم التراقي
والعرب تحذف من الكلام ما يدل عليه يقولون أرسلت: يريدون أرسلت السماء المطر، ولا تكاد تسمعهم يقولون: أرسلت السماء، قال حاتم يخاطب زوجه:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ونحو الآية قوله: « فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ».
(وَقِيلَ مَنْ راقٍ؟) أي وقال أهله: من يرقيه ليشفيه مما نزل به؟ قال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا، وقال أبو قلابة: ومنه قول الشاعر:
هل للفتى من بنات الموت من واقي أم هل له من حمام الموت من راقي
(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي وأيقن المحتضر أن ما نزل به نذير الفراق من الدنيا والمال والأهل والولد، وسمى هذا اليقين ظنّا لأن المرء مادامت روحه معلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه العاجلة كما قال: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة.
(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي التوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما، قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى، وقال ابن عباس: المراد التفّت شدة فراق الدنيا بشدة خوف الآخرة واختلطتا، فالتفّ بلاء ببلاء، والعرب تقول لكل أمر اشتد، شمّر عن ساقه، وكشف عن ساقه، قال النابغة الجعدي:
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع والمآب، والمراد إنك صائر إلى جنة أو نار.
وجواب إذا وتمام الجملة يقدر بنحو قولنا - انكشفت للمرء حقيقة الأمر، أو وجد ما عمله من خير أو شر حاضرا بين يديه.
ثم ذكر ما كان قد فرط منه في الدنيا فقال:
(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي فما صدّق بالله ووحدانيته، بل اتخذ الشركاء والأنداء وجحد كتبه التي أنزلها على أنبيائه، وما صلى وأدّى فرائضه التي أوجبها عليه، بل أعرض وتولى عن الطاعة.
(ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي ليته اقتصر على الإعراض والتولّى عن الطاعة بل هو قد ذهب إلى أهله جذلان فرحا، يمشى الخيلاء متبخترا.
والخلاصة - إن هذا الكافر كان في الدنيا مكذبا للحق بقلمه، متوليا عن العمل بجوارحه، معجبا بما فعل، فلا خير فيه لا باطنا ولا ظاهرا ثم هدده وتوعده فقال:
(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي ويل لك مرة بعد أحرى، وأهلكك الله هلاكا أقرب لك من كل شر وهلاك. ويرى قوم أن معنى أولى أجمل وأمري، فيكون المراد - النار أولى بك وأجمل.
ثم كرر هذا الوعيد فقال:
(ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي يتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى، فأنت جدير بهذا.
روى قتادة « أن النبي ﷺ أخذ بيد أبى جهل فقال: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد، والله ما تستطيع لي أنت ولا ربك شيئا، والله لأنا أعز من مشى بين جبليها، فلما كان يوم بدر أشرف عليهم فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقتل إذ ذاك شرّ قتله ».
وعن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: « أَوْلى لَكَ فَأَوْلى » أشيء قاله رسول الله ﷺ من نفسه أم أمره الله تعالى به؟ قال بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله تعالى ».
ثم أقام الدليل على البعث من وجهين:
(1) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي لا يترك الإنسان في الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره مهملا لا يحاسب، بل هو مأمور منهى محشور إلى ربه، فخالق الخلق لا يساوى الصالح المزكّى نفسه بصالح الأعمال، والطالح المدسّى نفسه باجتراح السيئات والآثام كما قال: « إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى » وقال: « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ». وإذا فلا بد من دار للثواب والعقاب والبعث والقيامة.
(2) (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى؟) أي أما كان هذا المنكر قدرة الله على إحيائه بعد مماته وإيجاده بعد فنائه - نطفة في صلب أبيه، ثم كان علقة ثم سواه بشرا ناطقا سميعا بصيرا، ثم جعل منه أولادا ذكورا وإناثا بإذنه وتقديره؟
(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أليس الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة المذرة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ فذلك أهون من البدء في قياس العقل كما قال: « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ».
وقد جاء من طرق عدة « أن النبي ﷺ كان إذا قرأ هذه الآية قال: سبحانك اللهمّ وبلى.
وأخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « من قرأ منكم: « وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ » فليقل: بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ: « لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى » فليقل بلى، ومن قرأ المرسلات فبلغ « فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ » فليقل آمنا بالله »
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين.
سورة الإنسان
[عدل]هي مدنية، وآياتها إحدى وثلاثون، نزلت بعد سورة الرحمن.
وصلتها بما قبلها، أنه ذكر في السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار يوم القيامة، وذكر في هذه ما يلقاه الأبرار من النعيم المقيم في تلك الدار.
[سورة الإنسان (76): الآيات 1 الى 3]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
شرح المفردات
هل: أي قد، حين: أي طائفة محدودة من الزمان، والدهر: الزمان غير المحدود، أمشاج: أي أخلاط واحدها مشج (بفتحتين) ومشيج، نبتليه: أي نختبره، السبيل: الطريق، أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات.
المعنى الجملي
أخبر سبحانه أنه قد جاء على الإنسان حين من الزمان لم يكن شيئا يذكر ويعرف، ثم ذكر أن أبناء آدم كانوا نطفا في الأصلاب، ثم علقا، ثم مضغا في الأرحام، ثم أوضح لهم السبيل، وبيّن لهم طريقى الخير والشر، فمنهم الشاكر ومنهم الكفور.
الإيضاح
(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) أي قد أتى على هذا النوع نوع الإنسان زمن لم يكن موجودا حتى يعرف ويذكر.
قال الفراء وثعلب: المراد أنه كان جسدا مصوّرا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا.
وفي الآية ما يشير إلى ما قاله علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) من أن الإنسان لم بوجد على الأرض إلا بعد خلقها بأحقاب طوال، فقد كانت الأرض أوّلا ملتهبة بعد أن انفصلت من الشمس، ثم أخذت قشرتها تبرد بالتدريج، وأمكن أن ينبت فيها النبات، ثم بعض الطيور، ثم بعض الحيوان الداجن، ثم الإنسان وقد بينا ذلك عند تفسير قوله تعالى « هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » وذكرنا هناك أن الأيام هي الأطوار التي مر عليها خلق السموات والأرض إلى آخر ما قلنا هناك.
ثم أتبع ذلك بذكر العناصر الداخلة في تكوين الإنسان فقال:
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) أي إنا خلقنا الإنسان من نطفة اختلط فيها ماء الرجل بماء المرأة، مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد إذا شبّ وبلغ الحلم. قال الحسن: نختبر شكره في السراء، وصبره في الضراء.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الأمشاج الحمرة في البياض والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة، قال الهذلي يصف سهما:
كأن الريش والفوقين منه خلاف النّصل سيط به مشيج
وقال قتادة: هي أطوار الخلق، طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا مضغة، وطورا عظاما، ثم تكسى العظام لحما كما قال في سورة المؤمنين: « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » الآية.
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء والامتحان، وهو السمع والبصر فقال:
(فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) أي جعلناه كذلك ليتمكن من استماع الآيات ومشاهدة الدلائل والتعقل والتفكر.
وهذه من عالم أشرف من عالم المادة التي هي في أسفل درجات النقص، والكمال إنما نزل إليه من عالم أرقى منها وهو العالم الروحي الإلهي.
فهو إما أن يرجع إلى حب المادة والاستكانة لهذه المشاهدات، وإما أن يتفكر ويجدّ بالعلم والعمل، ليصل إلى عالم الكمال والجمال، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: « نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ».
والخلاصة - نحن نعامله معاملة المختبر له، أيميل إلى أصله الأرضى، فيكون حيوانا نباتيا معدنيا شهوانيا، أم يكون إلهيّا معتبرا بالسمع والبصر والفكر، وهي من عوالم أرقى من عالم المادة التي تكوّن منها.
ثم ذكر أنه بعد أن ركّبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال فقال:
(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي فأعطيناه السمع والبصر والفؤاد، ونصبنا له الدلائل في الأنفس والآفاق، لتكون مسرحا لفكره، ومغنما لعقله.
ثم بين أن الناس انقسموا في ذلك فريقين فقال:
(إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) أي فبعض اهتدى وعرف حق النعمة فشكر، وبعض أعرض فكفر.
وإجمال ذلك - إنا هديناه السبيل ليتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته.
ونحو الآية قوله: « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » وقوله: « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ».
وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: « كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها ».
[سورة الإنسان (76): الآيات 4 الى 12]
[عدل]إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
شرح المفردات
أعتدنا: أي هيأنا وأعددنا، والأغلال: واحدها غلّ (بالضم) وهو القيد، والسعير: النار الموقدة، والأبرار: واحدهم برّ. قال في الصحاح: جمع البر الأبرار، وجمع البارّ البررة، والأبرار هم أهل الطاعة والإخلاص والصدق وقال قتادة: هم الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر، وقيل هم الصادقون في إيمانهم، المطيعون لربهم، الذين سمت همتهم عن المحقرات، فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة، والكأس: هي الإناء الذي فيه الشراب، وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو للمراد كما قال أبو نواس:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وقال عمرو بن كلثوم:
صبنت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا
والمزاج: ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، أي يكون شوبها وخلطها بماء الكافور كما قال:
كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء
وجعلت كالكافور لما فيه من البياض وطيب الرائحة والبرودة، بها: أي منها، يفجرونها: أي يجرونها إلى منازلهم وقصورهم حيث شاءوا، يوفون بالنذر: أي يؤدون ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات، شره: أي شدائده، مستطيرا: أي فاشيا منتشرا في الأقطار من قولهم: استطار الحريق والفجر إذا انتشر، عبوسا: أي تعبس فيه الوجوه، قمطريرا: أي شديد العبوس، تقول العرب يوم قمطرير وقماطر، وأنشد الفراء:
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا كان يوما قماطر
وقاهم: أي دفع عنهم، لقّاهم: أي أعطاهم، نضرة: أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: نضرة في وجوههم، وسرورا في قلوبهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه هدى الإنسان لطريق الخير وطريق الشر في قوله: « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » ثم أردفه ببيان أن الناس انقسموا في ذلك فريقين: فريق وقفه الله واعتدى وشكر، وفريق أضله الله وكفر أعقب ذلك بما أعده لكل منهما يوم القيامة، فأعد للأولين جنات ونعيما، فهم يشربون الخمر (وهي ألذ شراب لديهم) ممزوجة بماء عذب زلال، طيب الرائحة، تأتيهم إلى غرفهم متى شاءوا وكيف أرادوا، ويلبسون الحرير ويجلسون على الأرائك لا يرون فيها حرّا ولا قرّا، ثم ذكر ما أعدوه في الدنيا لنيلهم هذا الثواب العظيم، فبين أنهم يطعمون الطعام للفقراء البائسين واليتامى والأسارى، ويؤدون ما وجب عليهم لربهم، ويخافون عذاب يوم القيامة وأعد للآخرين سلاسل وقيودا ونارا تشوى الوجوه والأجسام.
الإيضاح
(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا) أي إنا هيأنا لمن كفروا بنعمتنا وخالفوا أمرنا - سلاسل بها يقادون إلى الجحيم، وأغلالا بها تشد أيديهم إلى أعناقهم كما يفعل بالمجرمين في الدنيا، ونارا بها يحرقون.
ونحو الآية قوله: « إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ » وبعد أن ذكر ما أعده للكافرين بين ما أعده للشاكرين من شراب شهي ولباس بهيّ فقال:
(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُورًا. عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيرًا) أي إن الذين بروا بطاعتهم ربهم فأدّوا فرائضه واجتنبوا معاصيه - يشربون من خمر كان مزاج ما فيها من الشراب كالكافور طيب رائحة وبردا وبياضا.
وهذا المراج من عين يشرب منها عباد الله المتقون وهم في غرف الجنات، يسوقونها إليهم سوقا سهلا إلى حيث يريدون، وينتفعون بها كما يشاءون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يحبون وصوله إليه.
قال مجاهد: يقودونها حيث شاءوا، وتتبعهم حيث مالوا.
ثم ذكر ما لأجله استحقوا الكرامة فقال:
(1) (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، ومن أوفى بما أوجبه على نفسه فهو على الوفاء بما أوجبه الله عليه أولى.
وقضارى ذلك - إنهم يؤدونه ما أوجبه الله عليهم بأصل الشرع، وبما أوجبوه على أنفسهم بالنذر.
(2) (وَيَخافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) أي ويتركون المحرمات التي نهاهم ربهم عنها خيفة سوء الحساب يوم المعاد، حين يستطير العذاب ويفشو بين الناس إلا من رحم الله.
(3) (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) أي ويطعمون الطعام وهم في محبة له وشغف به - المسكين العاجز عن الاكتساب، واليتيم: الذي مات كاسبه، والأسير: المأخوذ من قومه، المملوكة رقبته، الذي لا يملك لنفسه قوة ولا حيلة.
والمراد من إطعام الطعام الإحسان إلى المحتاجين ومواساتهم بأى وجه كان، وإنما خص الطعام لكونه أشرف أنواع الإحسان، لا جرم أن عبر به عن جميع وجوه المنافع.
ونحو الآية قوله: « فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ ».
وقد وصّى رسول الله ﷺ بالإحسان إلى الأرقّاء حتى كان آخر ما أوصى به أن جعل يقول: « الصلاة وما ملكت أيمانكم ».
وبعد أن ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين - بيّن أن لهم في ذلك غرضين:
(1) رضا الله عنهم، وإلى ذلك أشار بقوله:
(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) فلا نمنّ عليكم ولا نتوقع منكم مكافأة ولا غيرها مما ينقص الأجر، وقد كانت عائشة رضي الله عنها تبعث الصدقة إلى أهل بيت من البيوت ثم تسأل المبعوث، فإن ذكر دعاء دعت بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله.
ثم أكد هذا ووضحه بقوله:
(لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُورًا) أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها، ولا أن تشكرونا لدى الناس: قال مجاهد وسعيد بن جبير: أما والله ما قالوه بألسنتهم ولكن علم الله به من قلوبهم فأثنى عليهم به، ليرغب في ذلك راغب (2) خوف يوم القيامة، وإلى ذلك أشار بقوله:
(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) أي إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا ويتلقانا بلطفه في ذلك اليوم العبوس القمطرير.
وبعد أن حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعة لغرضين: طلب رضا الله، والخوف من يوم القيامة - بيّن أنه أعطاهم الغرضين فأشار إلى الثاني بقوله:
(فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي فدفع الله عنهم ما كانوا في الدنيا يحذرون من شر ذلك اليوم العبوس بما كانوا يعملون مما يرضى ربهم عنهم.
وأشار إلى الأول بقوله:
(وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) أي وأعطاهم نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم ونحو الآية قوله: « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ».
وقد جرت العادة أن القلب إذا سرّ استنار الوجه، قال كعب بن مالك: وكان رسول الله ﷺ إذا سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر، وقالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله ﷺ مسرورا تبرق أسارير وجهه - الحديث.
(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدى إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكول هنى، وحريرا منه ملبس بهي، ونحو الآية قوله: « وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ »
[سورة الإنسان (76): الآيات 13 الى 22]
[عدل]مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْسًا كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَرابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
شرح المفردات
الأرائك: واحدتها أريكة، وهو السرير في الحجلة (الناموسية) والزمهرير: البرد الشديد، دانية: أي قريبة، ظلالها: أي ضلال أشجارها، وذلّلت: أي سخرت ثمارها وسهل أخذها وتناولها، والقطوف: الثمار، واحدها قطف (بكسر القاف) وآنية: واحدها إناء، وهو ما يوضع فيه الشراب، والأكواب: واحدها كوب، وهو كوز لا عروة له، والقوارير: واحدتها قارورة، وهي إناء رقيق من الزجاج، قدّروها تقديرا: أي قدرها السقاة على قدر ري شاربها، كأسا: أي خمرا، والزنجبيل: نبت في أرض عمّان وهو عروق تسرى في الأرض وليس بشجر، ومنه ما يأتي من بلاد الزنج والصين وهو الأجود، قاله أبو حنيفة الدينوري، وكانت العرب تحبه في الشراب، لأنه يحدث لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب، قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبيل باتا بفيها وأريا مشورا
والسلسبيل: الشراب اللذيذ، تقول العرب: هذا شراب سلسل وسلسال وسلسبيل: أي طيب الطعم لذيذه، وتسلسل الماء في الحلق: جرى، مخلدون: أي دائمون على البهاء والحسن لا يهرمون ولا يتغيرون، نمّ: أي هناك، والسندس: ما رقّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، والأساور: واحدها سوار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر طعام أهل الجنة ولباسهم - أردفه وصف مساكنهم، ثم وصف شرابهم وأوانيه وسقاته، ثم أعاد الكلام مرة أخرى بذكر ما تفضل به عليهم من فاخر اللباس والحلي، ثم ألمع إلى أن هذا كان جزاء لهم على ما عملوا، وما زكوا به أنفسهم من جميل الخصال، وبديع الخلال.
الإيضاح
(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا) أي متكئين في الجنة على السرر في الحجال، ليس لديهم حرّ مزعج ولا برد مؤلم، بل جوّ واحد معتدل دائم سرمدى، فهم لا يبغون عنها حولا.
والخلاصة - إنهم لا يرون في الجنة حر الشمس، ولا برد الزمهرير، ومنه قول الأعشى:
منعّمة طَفلة كالمها لم تر شمسا ولا زمهريرا
وفي الحديث: « هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ ».
(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي إن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار، مظلة عليهم زيادة في نعيمهم.
(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) أي سخرت للقائم والقاعد والمتكئ، قال مجاهد: إن قام ارتفعت منه بقدر، وإن قعد تدلّت له حتى ينالها، وكذلك إذا اضطجع، لا يردّ اليد عنها بعد ولا شوك.
وعن البراء بن عازب قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا.
وبعد أن وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم - وصف شرابهم وأوانيه فقال:
(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيرًا) أي يدير عليهم خدمهم كؤوس السراب والأكواب من الفضة.
وقد تكوّنت وهي جامعة لصفاء الزجاجة وشفيفها، وبياض الفضة ولينها، وقد قدّرها لهم السقاة الذين يطوفون عليهم للسقيا على قدر كفايتهم وريهم، وذلك ألذّ لهم وأخف عليهم، فهي ليست بالملأي التي تفيض، ولا بالناقصة التي تغيض.
والخلاصة - إن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء في صفاء الزجاج، فيرى ما في باطنها من ظاهرها.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: « ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة ». ولا منافاة بين كون الأوإني من الفضة، وبين كونها من الذهب كما ذكر في قوله: « يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ » لأنهم تارة يسقون بهذه، وتارة يسقون بتلك.
وبعد أن وصف أوإني مشروبهم وصف المشروب نفسه فقال:
(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْسًا كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا) أي ويسقى الأبرار في الجنة خمر ممزوجة بالزنجبيل، وقد كانوا يحبون ذلك ويستطيبونه، كما قال المسيّب بن علس يصف رضّاب امرأة:
وكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته بسلاقة الخمر
(عَيْنًا فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا) أي ويسقون من عين في الجنة غاية في السلاسة وسهولة الانحدار في الحلق، قال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن، وكأن العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها اهـ، ومنه قول حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريص عليهم كأسا يصفق بالرحيق السلسل
وقال مقاتل: هو عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاءوا اهـ.
وهذا كله ما هو إلا أسماء لما هو شبيه بما في الدنيا، وهناك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، فالمعاني غير ما نعهد، والألفاظ لمجرد تخيل شيء مما نراه كما قال ابن عباس.
ثم ذكر أوصاف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب فقال:
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة يأتون على ما هم عليه: من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون ولا يتغيرون ولا تضعف أجسامهم عن الخدمة.
(إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) أي إذا رأيت هؤلاء الولدان خلتهم لحسن ألوانهم، ونضارة وجوههم وانتشارهم في قضاء حوائج سادتهم - كأنهم اللؤلؤ المنثور « واللؤلؤ المنثور أجمل في النظر من اللؤلؤ المنظوم » ولأنهم إذا كانوا كذلك كانوا سراعا في الخدمة.
وعن المأمون أنه قال ليلة زفّت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو على بساط منسوج من الذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، ونظر إليه فاستحسن ذلك المنظر: لله درّ أبى نواس كأنه أبصر هذا حيث قال:
كأن صغرى وكبرى من قواقعها حصباء در على أرض من الذهب
ولما ذكر نعيم أهل الجنة بما تقدم ذكر أن هناك أمورا أعلى وأعظم من ذلك فقال:
(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) أي وإذا نظرت في الجنة رأيت نعيما عظيما وملكا كبيرا لا يحيط به الوصف.
وقد اختلفوا في المراد من هذا الملك الكبير، فقيل إن أدناهم منزلة من ينظر ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل هو استئذان الملائكة عليهم، فلا يدخلون إلا بإذنهم، وقيل هو الملك الدائم الذي لا زوال له.
ولم يجىء في الأخبار الصحيحة ما يفسر هذا الملك الكبير، فأولى بنا أن نؤمن به ونترك تفصيله إلى علام الغيوب.
وبعد أن وصف شرابهم وآنيته وما هم فيه من النعيم، وصف ملابسهم فقال:
(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) أي إن لباس أهل الجنة في الجنة الحرير، ومنه سندس، وهو رفيع الديباج للقمصان والغلائل ونحوها مما يلي أبدانهم، وإستبرق: وهو غليظ الديباج لا معه مما يلي الظاهر كما هو المعهود في لباس الدنيا.
وبعدئذ ذكر حليّهم فقال:
(وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي وقد حلوا أساور من فضة، وجاء هنا « مِنْ فِضَّةٍ » وفى سورة فاطر « يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ » لأنهم قد يجمعون بينهما، أو يلبسون الذهب تارة والفضة أخرى.
وقال سعيد بن المسيّب: لا أحد من أهل الجنة إلا وفى يده ثلاثة أسورة واحدة من ذهب، وأخرى من فضة، وثالثة من لؤلؤ.
والتحلّي مما يختلف باختلاف العادات والطبائع، ونشأة الآخرة غير هذه النشأة، ومن المشاهد في الدنيا أن بعض الملوك يتحلّون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي، ولا يرون في ذلك بأسا لمكان الإلف والعادة فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة في الجنة حبّ التحلي دائما.
ثم ذكر أنهم يسقون شرابا آخر يفوق النوعين السابقين، وهما ما يمزج بالكافور وما يمزج بالزنجبيل فقال:
(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَرابًا طَهُورًا) أي وسقاهم ربهم غير ما سلف شرابا يطهّر شاربه من الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله، والتلذذ بلقائه، وهذا منتهى درجات الصديقين.
قال أبو فلابة: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فتطهر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك.
ولم يذكر الكتاب ما يبين نوع ذلك الشراب، فلندع أمره إلى الله ونؤمن به كما أخبر به في كتابه.
وبعد أن شرح أحوال السعداء وما يلقونه من وافر النعيم الذي يتجلى في مشربهم وملبسهم ومسكنهم بيّن أن هذا جزاء لهم على ما قدموا من صالح الأعمال، وما زكّوا به أنفسهم من صفات الكمال فقال:
(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) أي ويقال لهؤلاء الأبرار حينئذ: إن هذا الذي أعطيناكم من الكرامة كان لكم ثوابا على ما كنتم تعملون من الصالحات، وكان عملكم فيها مشكورا، حمدكم عليه ربكم ورضيه لكم، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة.
والغرض من ذكر هذا القول لهم زيادة سرورهم، فإنه إذا قيل للمعاقب: هذا بعملك الرديء ازداد غمه وألم قلبه، وإذا قيل للمثاب: هذا بطاعتك وعملك الحسن، ازداد سروره وكان تهنئة له.
ونحو الآية قوله: « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ » وقوله: « وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ».
[سورة الإنسان (76): الآيات 23 الى 31]
[عدل]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (31)
شرح المفردات
نزّلنا عليك القرآن تنزيلا: أي أنزلناه عليك مفرقا منجما، حكم ربك: هو أخير نصرك على الكفار إلى حين، والآثم: هو الفاجر المجاهر بالمعاصي، والكفور: هو المشرك المجاهر بكفره، بكرة وأصيلا: أي أول النهار وآخره، والمراد بذلك جميع الأوقات، أسجد: أي صلّ، سبحه: أي تهجد، وراءهم: أي أمامهم، شددنا أسرهم: أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق، بدّلنا أمثالهم: أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال الآخرة وبيّن عذاب الكفار على سبيل الاختصار وثواب المطيعين على سبيل الاستقصاء، إرشادا لنا إلى أن جانب الرحمة مقدم على جانب العقاب - أردف ذلك ذكر أحوال الدنيا، وقدّم أحوال الطيعين، وهم الرسول ﷺ وأمته على أحوال المتمردين والمشركين:
وقبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من الأمر والنهي أمره بالصبر على ما يناله من أذى قومه إزالة لوحشته، وتقوية لقلبه، حتى يتم فراغ قلبه، ويشتغل بطاعة ربه وهو على أتمّ ما يكون سرورا ونشاطا.
الإيضاح
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) أي إنا أنزلنا عليك القرآن مفرقا منجما في مدى ثلاث وعشرين سنة ليكون أسهل لحفظه وتفهّمه ودراسته، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجدّ في الكون، فتكون تثبيتا لايمان المؤمنين، وزيادة في تقوى المتقين.
وقد يكون المعنى: نزلنا عليك ولم تأت به من عندك كما يدعيه المشركون، ويراد من ذلك تثبيت قلب رسوله ﷺ وشرح صدره، وأن الذي أنزل عليه وحي لا كهانة ولا سحر، وبذا تزول الوحشة من قول الكفار: إنه كهانة أو سحر.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر لما ابتلاك به ربك وامتحنك به من تأخير نصرك على المشركين، ومقاساة الشدائد في تبليغ رسالته ووحيه الذي أنزله عليك، فإن لذلك عاقبة حميدة، وغاية يثلج لها فؤادك.
(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) أي ولا تطع كلا من مرتكب الإثم والمتجاوز الحد في الكفر، فإذا قال لك الآثم كعتبة بن ربيعة: اترك الصلاة وأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بلا مهر، أو قال لك الكفور الوليد بن المغيرة: أنا أعطيك من المال حتى ترضى إذا رجعت عن هذا الأمر، فلا تطع واحدا منهما ولا من غيرهما، فقد أعددنا لك النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة.
وقصارى ذلك - لا تتبع أحدا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم، ولا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر، وهذا ما يفهم من قولك: لا تطع الظالم - من أن المعنى - لا تتبعه في الظلم إذا دعاك إليه.
ونهيه ﷺ عن طاعة الآثم والكفور وهو لا يطيع واحدا منهما، إشارة إلى أن الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد، لما ركب في طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيئات، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإرشاده لكان أحق الناس بذلك هو الرسول المعصوم، ومن ثم وجب على كل مسلم ان يرغب إلى الله ويتضرع إليه في أن يصونه عن اتباع الشهوات، ويعصمه عن ارتكاب المحرمات، لينجو من الآفات، ويسلم من الزلات، ليلقى ربه أبيض الصحائف من السيئات.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي ودم على ذكره في جميع الأوقات بقلبك ولسانك.
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي وصلّ بعض الليل كصلاة المغرب والعشاء.
(وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) أي وتهجد له طائفة من الليل، ونحو هذا ما جاء في قوله: « وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا » وقوله: « يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ».
ثم قال منكرا على الكفار وأشباههم حب الدنيا والإقبال عليها، وترك الآخرة وراءهم ظهريّا.
(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) أي إن هؤلاء المشركين بالله يحبون الدنيا وتعجبهم زينتها، وينهمكون في لذاتها الفانية، ويدعون خلف ظهورهم العمل لليوم الآخر وما لهم فيه النجاة من أهواله وشدائده.
والخلاصة - لا تطع الكافرين واشتغل بالعبادة، لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا، فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة.
ثم بغى عليهم تركهم للعبادة، وعفلتهم عن طاعة بارئهم وموجدهم من العدم فقال:
(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أي كيف يغفلون عنا ونحن الذين خلقناهم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالعروق والأعصاب، أفبعد هذا نتركهم سدى؟.
ثم توعّدهم وهدّدهم فقال:
(وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا) أي وإذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم.
ونحو الآية قوله: « إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيرًا » وقوله: « إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ » وقوله: « عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ».
وقد جرت سنة الله بأن يزيل ما لا يصلح للرقى من خلقه، فهو يهلك هؤلاء ويبدل أمثالهم فيجعلهم مكانهم، كما هي قاعدة بقاء الصلاح والأصلح، وإهلاك ما لا يصلح للبقاء.
وبعد أن ذكر أحوال السعداء والأشقياء أرشد إلى أن في هذا الذكر تذكرة وموعظة للخلق، وفوائد جمة لمن ألقى سمعه، وأحضر قلبه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه، فقال:
(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي إن هذه السورة بما فيها من ترتيب بديع، ونسق عجيب، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، تذكرة للمتأملين، وتبصرة للمستبصرين، فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة، فليتقرب إلى ربه بالطاعة، ويتبع ما أمره به، وينته عما نهاه عنه، ليحظى بثوابه، ويبتعد عن عقابه.
(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي وما تشاءون اتخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة ولا تقدرون على تحصيلها إلا إذا وفقكم الله لاكتسابها، وأعدّكم لنيلها، إذ لا دخل لمشيئة العبد إلا في الكسب، وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله عز وجل، فمشيئة العبد وحدها لا نأتى بخير، ولا تدفع شرا، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة، ويؤجر على قصد الحير كما في حديث: « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ».
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي إن الله عليم بمن يستحق الهداية فييسّرها له، ويقيّض له أسبابها، ومن هو أهل للغواية، فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) فيهديه ويوفقه للطاعة بحسب استعداده.
(وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا) أي والذين ظلموا أنفسهم فماتوا على شركهم، أعدّ لهم في الآخرة عذابا مؤلما موجعا، هو عذاب جهنم وبئس المصير.
نسأل الله أن يجعلنا من الأبرار، والمقربين الأخيار، ويجعل سعينا مشكورا لديه.
ما تضمنته السورة من المقاصد
[عدل]اشتملت هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد:
(1) خلق الإنسان.
(2) جزاء الشاكرين والجاحدين.
(3) وصف الجنة والنار.
(4) أمر النبي ﷺ بالصبر وذكر الله والتهجد بالليل.
سورة المرسلات
[عدل]هي مكية إلا آية: « وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ » فمدنية.
وعدد آيها خمسون، نزلت بعد سورة الهمزة.
ومناسبتها لما قبلها - أنه هنا أقسم على تحقيق ما تضمنته السورة قبلها من وعيد الفجار، ووعد المؤمنين الأبرار.
[سورة المرسلات (77): الآيات 1 الى 15]
[عدل]بسم الله الرحمن الرحيم
والْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْرًا (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
شرح المفردات
المرسلات: هم الملائكة الذين أرسلهم الله لإيصال النعمة إلى قوم، والنقمة إلى آخرين، عرفا: أي للمعروف والإحسان، والعاصفات: أي المبعدات للباطل كما تبعد العواصف التراب والتبن والهباء، والناشرات: أي الناشرات لأجنحتهنّ عند نزولهنّ إلى الأرض، فالفارقات فرقا: أي فالفارقات بين الحق والباطل، فالملقيات ذكرا: أي فالملقيات العلم والحكمة إلى الأنبياء، عذرا أو نذرا: أي للإعذار والإنذار، من قولهم: عذره إذا أزال الإساءة، وأنذر إذا خوّف، طمست: أي محقت وذهب نورها، فرجت: أي فتحت وشقت، نسفت: أي اقتلعت من أماكنها بسرعة من قولهم: انتسفت الشيء إذا اختطفته، أقّتت: أي عيّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على أممها، أجّلت: أي أخرت وأمهلت، الفصل: أي الفصل بين الخلائق بأعمالهم: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، ويل: أي عذاب وخزي.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة، منهم المرسلون إلى الأنبياء بالإحسان والمعروف ليبلغوه للناس، ومنهم الذين يعصفون ما سوى الحق ويبعدونه كما تبعد العواصف التراب وغيره، ومنهم الذين ينشرون آثار رحمته في النفوس الحية، ومنهم الذين يفرقون بين الحق والباطل، ومنهم الملقون العلم والحكمة للإعذار والإنذار من الله - إن يوم القيامة لا ريب فيه، وحين تمحق أنوار النجوم، وتشقق السماء، وتنسف الجبال، ويعين للرسل الوقت الذي يشهدون فيه على أممهم، ويفصل بين الخلائق إبّان العرض والحساب يكون الخزي والعذاب للكافرين المكذبين.
الإيضاح
(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) أي أقسم بملائكتى الذين أرسلتهم بالإحسان والمعروف، ليبلغوه أنبيائى ورسلي.
(فَالْعاصِفاتِ عَصْفًا) أي فالملائكة المبعدين للباطل بسرعة كما تعصف الريح التراب والهباء.
(وَالنَّاشِراتِ نَشْرًا) أي والملائكة الذين ينشرون آثارهم في الأمم والنفوس الحية.
(فَالْفارِقاتِ فَرْقًا) أي فالملائكة النازلين بأمر الله للفرق بين الحق والباطل، والهدى والغي.
(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْرًا. عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) أي فالملائكة الملقيات إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم بعقاب الله إن هم خالفوا أمره.
(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) أي أقسم بهذه الأقسام إن ما وعدتم به من قيام الساعة لكائن لا محالة.
(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي فإذا ذهب ضوء النجوم، ونحو الآية قوله: « وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ».
(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي وإذا السماء انفطرت وتشققت، وهذا كقوله: « وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْوابًا » وقوله: « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ » وقوله: « وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ » (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي وإذا الجبال فرقتها الرياح، فلم يبق لها عين ولا أثر، وهذا كقوله: « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا ».
(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي وإذا جعل للرسل وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، وهذا كقوله: « يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ».
(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ؟) أي ويقال حينئذ: لأي يوم أخّرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفار وإهانتهم، وتنعيم المؤمنين ورعايتهم، وظهور ما كانت الرسل تذكره من أمور الآخرة وأحوالها، وفظاعة أهوالها.
والمراد بهذا تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه كأنه قيل: أي يوم هذا الذي أجّل اجتماع الرسل إليه؟ إنه ليوم عظيم.
ثم بين ذلك اليوم فقال:
(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي ليوم يفصل الله فيه بين الخلائق، وهو اليوم الذي أجّل اجتماع الرسل له.
(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟) أي وما أعلمك بيوم الفصل وشدته وعظيم أهواله؟
ثم صرح بالمراد وأبان من سيقع عليهم النكال والوبال حينئذ فقال:
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب وخزى لمن كذب بالله ورسله وكتبه وبكل ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به.
[سورة المرسلات (77): الآيات 16 الى 28]
[عدل]أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتًا (25) أَحْياءً وَأَمْواتًا (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
شرح المفردات
من ماء مهين: أي من نطفة قذرة حقيرة، في قرار مكين: أي في الرحم، إلى قدر معلوم: أي إلى مقدار معيّن من الوقت عند الله، فقدرنا: أي على خلقه وتصويره كيف شئنا، والكفات: ما يكفت، أي يضم ويجمع، من كفت الشيء، إذا ضمه وجمعه، وأنشد سيبويه:
كرام حين تنكفت الأفاعى إلى أجحارهنّ من الصقيع
رواسي: أي جبالا ثوابت، شامخات: أي مرتفعات، فراتا: أي عذبا.
المعنى الجملي
بعد أن حذر الكافرين وخوّفهم بأن يوم الفصل كائن لا محالة، وأقسم لهم بملائكته المقربين ورسله الطاهرين بأنه يوم سيكون، وأن فيه من الأهوال ما لا يدرك كنهه إلا علّام الغيوب - أردف ذلك بتخويفهم بأنه أهلك الكفار قبلهم بكفرهم فإذا سلكتم سبيلهم فستكون عاقبتكم كعاقبتهم، وستعذبون في الدنيا والآخرة، ثم أعقبه بتخويفهم بنكران إحسانه إليهم، فإنه قد خلقهم من ماء مهين في قرار مكين إلى زمن معلوم، ثم أنشأهم خلقا آخر، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، ليشكروا نعم الله عليهم، فكفروا بها وأنكروا وحدانيته وعبدوا الأصنام والأوثان، ثم ذكرهم بنعمه في الآفاق إذ خلق لهم الأرض وجعلها تضمهم أحياء وأمواتا، وجعل فيها الجبال لئلا تميد بهم وجعل فيها الأنهار والعيون، ليشربوا منها ماء عذبا زلالا، فويل لمن كفر بهذه النعم العظام.
الإيضاح
(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ؟) أي ألم نهلك من كذب الرسل قبلكم، ونعذبهم في الدنيا بشتى أنواع العذاب، فتارة بالغرق كما حدث لقوم نوح، وأخرى بالزلزال كما كان لقوم لوط إلى أشباه ذلك من المثلاث التي حلت بالأمم قبلكم، جزاء لهم على قبيح أعمالهم وسيئ أفعالهم، وإن سنننا في المكذبين لا تبديل فيها ولا تغيير، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم، وتندموا، ولات ساعة مندم.
(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم فعلوا مثل أفعالهم.
وفي هذا من شديد الوعيد لأهل مكة ما لا يخفى.
ثم ذكر الحكمة في إلحاقهم بهم فقال:
(كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن سنتنا في جميع المجرمين واحدة، فكما أهلكنا المتقدمين لإجرامهم وتكذيبهم - نفعل بالمتأخرين الذين حذوا حذوهم، واستنوا سنتهم، فسنننا تجرى على وتيرة واحدة.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي هؤلاء وإن عذبوا في الدنيا بأنواع من العذاب، فالطامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة، والتكرير للتوكيد شائع في كلام العرب كما تقدم في سورة الرحمن.
وقال القرطبي: كرر الويل في هذه السورة عند كل آية لمن كذب بشىء لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فجعل لكل مكذب بشىء عذابا سوى عذابه بتكذيب شيء آخر اهـ.
ثم ذكّرهم بجزيل نعمه عليهم في خلقهم وإيجادهم مما يستدعى جزيل شكرانهم فقال:
(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ؟) أي ألا تعترفون بأنكم خلقتم من نطفة مذرة منتنة وضعت في الأرحام إلى حين الولادة، ونحن قد قدرنا ذلك فنعم المقدرون، إذ خلقناكم في أحسن الصور والهيئات - أفلا يستحق ذلك الخالق منكم الشكران لا الكفران والاعتراف بوحدانيته وإرساله للرسل والإقرار بالبعث؟ لكنكم كفرتم أنعمه، ونكلتم عن الاعتراف بوحدانيته، وعبدتم الأصنام والأوثان، وأنكرتم يوم الفصل والجزاء، فسترون في هذا اليوم عاقبة ما اجترحتم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي خزى وعذاب لمن كذب بهذه المنن العوالي.
وبعد أن ذكّرهم بالنعم التي أنعم بها عليهم في الأنفس - ذكرهم بما أنعم عليهم في الآفاق، وأرشد إلى أمور ثلاثة:
(1) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتًا. أَحْياءً وَأَمْواتًا؟) أي ألم نجعل الأرض مهادا لكم، فتكفتكم وتجمعكم فيها أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها، فالأحياء يسكنون في منازلهم، والأموات يدفنون في قبورهم.
خرج الشعبي في جنازة فنظر إلى الجبّان فقال: هذه كفات الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء.
وكانوا يسمون بقيع الغرقد (مقبرة المدينة) كفتة لأنه مقبرة تضم الموتى.
(2) (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي وجعلنا جبالا ثوابت عاليات على ظهرها، لئلا تميد بكم.
وهذه الجبال متصلة بالطبقة الصوّانية التي هي أبعد طبقات الأرض عن سطحها وتلك الطبقة تضم في جوفها كرة النار المشتعلة التي في باطنها، وظاهرها هذه القشرة التي نحن عليها.
(3) (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتًا) أي وأسقيناكم ماء عذبا فراتا تشربون منه، إما آتيا من السحاب الذي حفظته الجبال بارتفاعها، وإما من العيون النابعات منها ويمدها الثلج الذي يذوب شيئا فشيئا فوق ظهر الأرض متنزلا إلى بطنها، متجها إلى عيونها الجارية.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب عظيم في الآخرة لمن كفر بهذه النعم.
[سورة المرسلات (77): الآيات 29 الى 40]
[عدل]انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
شرح المفردات
لا ظليل: أي لا يقي من حر الشمس، والشرر: ما يتطاير من النار، كالقصر: أي كالدار الكبيرة المشيدة، جمالة: واحدها جمل، فكيدون: أي فاحتالوا علي؛ يقال: كتب فلانا إذا احتلت عليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن للمكذبين بالله وأنبيائه واليوم الآخر العذابَ في يوم الفصل والجزاء - بين هنا نوع ذلك العذاب بما يحار فيه أولو الألباب ويخر من هوله كل مخبت أواب، فأخبر بأنهم يؤمرون بالانطلاق إلى ما كانوا يكذبون به في الدنيا، إلى ظل دخان جهنم المتشعب لكثرته وتفرقه إلى ثلاث شعب عظيمه، وهو لا يظلهم ولا يمنع عنهم حر اللهب المتكون من نار ترمي بشرر كأنه القصر المَشِيد علوا وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر انبساطا وتفرقا من غير أعداد محصورة وحركة غير معينة.
ولا شك أن هذا تشبيه على ما تعهده العرب إذا وصفت الأشياء بالعظم، ألا تراهم يشبهون الناقة العظيمة بالقصر كما قال:
فوقفت فيها ناقتي وكأنها فدن لأقضي حاجة المتلوم
ثم أخبر بأن الويل للمكذبين بهذا اليوم، يوم لا ينطقون من شدة الدهشة والحيرة، ولا يؤذن لهم في الاعتذار فيعتذرون، يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتقريع: إن كنتم تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم شيئا من العذاب فهلموا.
الإيضاح
(انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي يقول لهم خزنة جهنم حينئذ: اذهبوا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب في الدنيا.
ثم بين هذا العذاب ووضفه بجملة صفات:
(1) (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) أي انطلقوا إلى ظل جهنم المتشعب إلى ثلاث شعب: شعبة عن يمينهم، وشعبة عن شمالهم، وشعبة من فوقهم؛ والمراد أنه محيط بهم من كل جانب كما جاء في الآية الأخرى: « أحاط بهم سرادقها ».
(2) (لا ظليل) أي ليس بمظل فلا يقي من حر ذلك اليوم.
وفي هذا تهكم بهم، ونفي لأن يكون فيه راحة لهم، وإيذان بأن ظلهم غير ظل المؤمنين.
(3) (ولا يغني من اللهب) أي ولا يدفع من حر النار شيئا، لأنه في جهنم فلا يظلهم من حرها، ولا يسترهم من لهيبها كما قال في سورة الواقعة: « فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ».
ثم وصف النار التي تحدث هذا الظل من الدخان فقال:
(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) أي إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرق في جهات كثيرة كأنه القصر عظما وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر لونا وكثرة وتتابعا وسرعة حركة.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا اليوم الذي لا يجدون فيه لدفع العذاب عنهم محيصا.
ثم وصف اليوم الذي فيه العذاب فقال:
(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي هذا يوم لا يتكلمون من الحيرة والدهشة، ولا يؤذن لهم في الاعتذار، لأنه ليس لديهم عذر صحيح، ولا جواب مستقيم.
وقد يكون المراد - إنهم لا ينطقون بما يفيد فكأنهم لا ينطقون، وتقول العرب لمن ذكر ما لا يفيد: ما قلت شيئا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بما دعتهم إليه الرسل، فأنذرتهم عاقبته.
(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي هذا يوم يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، فيؤتى كل عامل جزاء عمله من ثواب وعقاب، ويفصل بين العباد بعضهم مع بعض، فيقتص من الظالم للمظلوم، وترد له حقوقه ثم بين كيف يكون الفصل فقال:
(جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) أي جمعنا بينكم وبين من تقدمكم من الأمم في صعيد واحد ليمكن الفصل بينكم، فيقضى بهذا على هذا، ولو لا ذلك ما أمكن إذ لا يقضى على غائب.
(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي فإن كان لكم حيلة في دفع العذاب عنكم فاحتالوا، لتخلصوا أنفسكم من العذاب.
وفي هذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم وقصورهم حينئذ.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالبعث لأنه قد ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه في الدنيا.
[سورة المرسلات (77): الآيات 41 الى 50]
[عدل]إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
شرح المفردات
ظلال: واحدها ظل، وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة، ولكن موضع لم تصل إليه الشمس ظل، ولا يقال فئ إلا لما زالت عنه الشمس، ويعبر بالظل أيضا عن الرفاهية، وعن العزة، وعيون: أي أنهار، اركعوا: أي صلوا، حديث: أي كلام.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه ما يحلّ بالكفار من الخزي والنكال يوم القيامة - أعقبه بذكر ما يكون للمؤمنين من السعادة والكرامة حينئذ، فهم يكونون في ترف ونعيم ويأكلون فواكه مما يشتهون، ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئا بما قدمتم في الأيام الخالية، وهذا جزاء كل محسن لعمله.
ثم خاطب المكذبين مهدّدا لهم فقال: « كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا » ولا نصيب لكم في الآخرة، لأنكم كافرون.
ثم ذكر أن الكفار إذا أمروا بطاعة الله والخشوع له أبوا وأصروا على ما هم عليه من الاستكبار فويل لهم مما يعملون، وإذا لم يؤمنوا بالقرآن والنبي الذي جاء به مع تظاهر الأدلة على صدقه. فبأي كلام بعده يصدقون؟
الإيضاح
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) أي إن المتقين في ظلال ظليلة، وكنّ كنين، وعيون وأنهار، أي في ظلال الأشجار وظلال القصور، فلا يصيبهم أذى حرّ ولا قرّ، بخلاف الكافرين فإنهم في ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب كما تقدم.
ونحو الآية قوله في سورة يس: « هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ».
(وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ولديهم فواكه يأكلون منها كلما اشتهت نفوسهم لا يخافون ضرها ولا عاقبة مكروهها.
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ويقال لهم: كلوا أيها الأبرار من هذه الفواكه، واشربوا من هذه العيون كلما شئتم أكلا هنيئا خالص اللذة، لا يشوبه سقم ولا يكدره تنغيص، وهو دائم لكم لا يزول ولا يورثكم أذى في أبدانكم حزاء بما عملتم في الدنيا من طاعة الله، واجتهدتم فيما يقربكم من رضوانه.
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنا كما جزينا هؤلاء المتقين بما وصفنا من الجزاء على طاعتهم إيّانا في الدنيا - نجزى أهل الإحسان لطاعتهم وعبادتهم لنا، فلا نضيع لهم أجرا، كما قال: « إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ».
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل للذين يكذبون ما أخبر الله به من تكريم هؤلاء المتقين بما أكرمهم به يوم القيامة.
ثم خاطب المكذبين مهددا لهم فقال:
(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي كلوا بقية آجالكم، وتمتعوا بقية أعماركم وهي قليلة المدى، وسنستنّ بكم سنة من قبلكم من مجرمى الأمم الخالية التي متعت إلى حين، ثم انتقمنا منهم بكفرهم وتكذيبهم لرسلنا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل، وكذبوا بما أخبرهم الله أنه فاعل بهم.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين اعبدوا الله وأطيعوه واخشوا يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، استكبروا وأصروا على عنادهم.
روي أن النبي ﷺ أمر ثقيفا بالصلاة، فقالوا لا نحبوا (لا نركع) فإنها سبّة علينا، فقال عليه السلام « لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود ».
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: إنما يقال هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون، من جراء أنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأوامر الله ونواهيه.
وبعد أن بالغ في زجر الكفار بما تقدم ذكره، وحث على الانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجيب من هؤلاء المشركين الذين لم يسمعوا نصيحة الداعي، ولم يتبعوا عظاته، وما فيه رشدهم وصلاحهم في آخرتهم ودنياهم فقال:
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟) أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها، فبأي كلام بعد هذا يصدقون؟
فالقرآن الكريم جامع لأخبار الدارين، مبين لأحوال النشأتين على نمط بديع تؤيده الحجج القاطعة، وتدعمه البراهين الناطقة.
وقصارى ذلك - إن القرآن قد اشتمل على البيان الشافي والحق الواضح، فما بالهم لا يبادرون إلى الإيمان به قبل الفوت وحلول الموت، وعدم الانتفاع بعسى ولعلّ وليت.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله أجمعين.
ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد
[عدل]حوت هذه السورة المقاصد الآتية:
(1) الإخبار بأن يوم الفصل آت لا شك فيه، وقد أكد ذلك بالقسم بملائكته الكرام.
(2) وعيد الكافرين بأنه سيستن بهم سنة الأولين من المكذبين.
(3) توبيخ المكذبين على نكران نعم الله عليهم في الأنفس والآفاق.
(4) وصف عذاب الكافرين بما تشيب من هوله الولدان.
(5) وصف نعيم المتقين وما يلقونه من الكرامة في جنات النعيم، ويتخلل ذلك وصف خلق الإنسان والأرض والجبال، وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته.
وصل ربنا على عبدك ورسولك محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم.
وكان الفراغ من مسودّة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية في الثاني من ذي القعدة من السنة الخامسة والستين بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة النبوية المباركة، فلله الحمد والمنة.
فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
[عدل]الصفحة المبحث
4 تمجيد الله نفسه وبيان أنه خالق الخلق والمتصرف في الملك.
6 نظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات.
8 الكواكب زينة للسماء الدنيا وسبب لتكوّن الأرزاق.
10 وصف النار بما تشيب من هوله الولدان.
11 سؤال الزبانية للمشركين بقولهم: ألم يأتكم رسل ينذرونكم؟
13 تهديد المشركين بأنه عليم بما يصدر منهم في السرّ والعلن.
15 تنبيه العباد على نعمه المتظاهرة عليهم.
في الحديث « إن الله يحب العبد المؤمن المحترف ».
16 تخويف المشركين بحلول العذاب بهم كما حل بمن قبلهم.
19 ضرب المثل المبين لحالى المشرك والموحد.
22 الإنسان كنود لنعمة ربه.
24 أمره ﷺ أن يقول للكافرين: هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب الله.
25 خلاصة ما حوته هذه السورة.
27 الإقسام بالقلم وما يسطر به من الكتب.
28 ما ضرب رسول الله ﷺ خادما ولا امرأة.
30 تقوية قلب الرسول ﷺ ودعوته إلى التشدد مع قومه المشركين.
31 الكذب أسّ المعايب.
33 وعيد الكذاب النمام.
35 في أي أرض كانت الجنة التي ذكرت في الكتاب الكريم؟
37 جزاء أصحاب الجنة على حرمانهم للفقراء.
41 كيف يسوّى بين المطيع والعاصي؟.
42 سدّ طرق الحجاج على المشركين.
44 تخويف المشركين بما في قدرته تعالى من القهر.
46 ذكر الشبه التي ربما تكون مانعة لهم من قبول الحق.
48 ما جاء من الأحاديث في الإصابة بالعين.
48 ما تضمنته هذه السورة من موضوعات.
50 بيان أن يوم القيامة حق لا شك فيه.
51 تفصيل ما نزل بكل أمة من العذاب.
53 المشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته.
54 تفاصيل أحوال يوم القيامة.
56 ما أعده الله لمن أعطى كتابه بيمينه.
59 ما يتمناه من أوتى كتابه بشماله وجزاؤهم.
60 العرب تكنى بالسبعة والسبعين والسبعمائة عن الكثرة.
61 تعظيم القرآن والرسول المنزل عليه.
62 محمد ﷺ لا يستطيع أن يفتعل القرآن.
64 ما تضمنته هذه السورة الكريمة.
66 كان المشركون يقولون: ما هذا العذاب الذي يخوفنا به محمد؟
67 مقام القدس الإلهي بعيد المدى عن مقام العباد.
بيان أن يوم القيامة آت بأهواله لا شك فيه.
68 تمنى الكافر الفداء بالعزيز لديه من مال وولد.
70 المؤهلات التي توصل المرء إلى المراتب العلى.
72 أثر عن السلف أنهم كانوا كثيرى الوجل والخوف من يوم القيامة.
74 أمر الرسول ﷺ أن يدع المشركين وشأنهم حتى يأتي اليوم الموعود.
76 يخرج الكافرون من الأجداث سراعا يسابق بعضهم بعضا.
77 خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة.
78 إنذار نوح لقومه وتخويفهم بحلول العذاب بهم.
79 تفصيل ما أنذرهم به.
80 صلة الرحم تزيد في العمر.
81 شكوى نوح لربه أنه أنذر قومه فعصوه.
83 وعد نوح لقومه بسعادة الدنيا والدين إذا آمنوا
85 توجيه أنظارهم إلى بدء خلقهم.
86 تعداد النعم التي أنعم بها على الإنسان.
87 الأصنام التي كانت تعبدها العرب.
89 جزاء قوم نوح بالغرق على عصيانهم.
91 مقاصد هذه السورة.
93 تسمية السور بأسماء تدعو إلى النظر والاعتبار.
94 ما جاء عن الجن من السمعيات التي لا دليل عليها من العقل.
96 الصاحبة تتخذ للحاجة إليها.
98 مقال الجن حين بعث محمد ﷺ
101 الخصب والسعة في الرزق لا توجد إلا إذا وجدت الطمأنينة والعدل ويزول الظلم.
105 أمر الرسول ﷺ أن يقول للناس لا علم له بقيام الساعة.
106 الآية: فلا يظهر على غيبه أحدا، تدل على إبطال الكهانة والتنجيم والسحر.
107 الرسول المرتضى يعلم بعض الغيوب بالوحي.
108 ما تضمنته هذه السورة.
110 أول ما جاء جبريل إلى النبي ﷺ خافه وظن أن به مسا من الجن
111 أمر الرسول ﷺ بقيام الليل وبترتيل القرآن.
112 كيفية مجىء الوحي.
113 أمره ﷺ بمداومة الذكر والإخلاص في العبادة.
115 حسن معاملة الناس.
116 ألوان العذاب التي أعدت للمكذبين.
119 التخفيف من قيام الليل للأعذار التي تحيط بهم.
121 ما يفعل بعد الترخيص.
123 ما جاء في هذه السورة من أوامر وأحكام.
125 خوف النبي ﷺ من الملك عند بدء الوحي.
126 ما قاله علماء الاجتماع في حكمة النظافة في البدن والثوب
127 ما يصادف الداعي للخير من العقبات.
129 ما قاله الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من النبي ﷺ.
130 تهديد الوليد بن المغيرة.
132 ذكر ما سيفعل به يوم القيامة.
133 ما استنبطه الوليد من الترّهات والأباطيل.
135 ما قاله أبو جهل حين سمع قوله تعالى عليها تسعة عشر.
137 ما يعلم جنود ربك إلا هو.
138 قال أبو جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر؟
141 أسباب إعراض المشركين عن القرآن
143 ما كان يقوله النبي ﷺ عند قراءته لآية: هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
146 ما قاله عدي بن ربيعة لما أخبر بيوم القيامة.
قال الفرّاء: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا تلوم نفسها.
دليل القدرة على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى الوضع الأول.
148 علامات يوم القيامة.
149 يخبر المرء يوم القيامة بجميع ما عمل.
151 تعليم الله رسوله كيف يتلقى الوحي.
152 تواترت الأحاديث الصحيحة برؤية المولى يوم القيامة.
154 الدليل على صحة البعث.
155 العرب تحذف من الكلام ما يدل عليه.
157 ما قاله النبي ﷺ لأبى جهل.
158 كان الرسول ﷺ يقول إذا قرأ: أليس ذلك بقادر: سبحانك اللهم وبلى
161 ما قاله علماء طبقات الأرض في وجود الإنسان على ظهر البسيطة.
الناس فريقان شاكر وكفور.
161 الهداية لطريقى الخير والشر.
163 ما أعده الله للشاكرين من شراب شهي ولباس بهي.
165 وصى رسول الله ﷺ بالإحسان إلى الأرقاء.
166 القلب إذا سر استنار الوجه.
169 وصف شراب المتقين وأوانيهم.
170 ما قاله المأمون ليلة زفافه ببوران بنت الحسن بن سهل.
171 التحلي يختلف باختلاف العادات والطبائع.
172 ما يلقاه السعداء من الكرامة كان جزاء لهم على أعمالهم.
174 أمر الرسول ﷺ بالصبر على أذى قومه.
نهيه ﷺ عن اتباع الآثمين والكافرين.
176 جرت سنة الله ببقاء الأصلح وإهلاك ما عداه.
تخويف الكفار بما حصل لمن قبلهم من الكفار المكذبين للرسل.
177 ما تضمنته السورة من المقاصد.
179 أقسم الله سبحانه بطوائف من الملائكة إن ما وعدتم به حق.
183 تذكير الإنسان بالنعم التي تترى عليه.
186 وصف العذاب الذي يكون للمكذبين يوم القيامة.
189 وصف ما يكون للمؤمنين من السعادة والكرامة في هذا اليوم.
190 ما قاله النبي ﷺ لثقيف حين أمرهم بالصلاة.
القرآن الكريم اشتمل على البيان الشافي والحق الواضح.
191 ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد.
أجزاء تفسير المراغي | |
---|---|
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون |