انتقل إلى المحتوى

تفسير القرآن الحكيم/مقدمة التفسير

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


مقدمة التفسير (المقتبسة من درس الأستاذ الإمام بالمعنى ، مع البسط والإيضاح) التكلم في تفسير القرآن ليس بالأمر السهل ، وربما كان من أصعب الأمور وأهمها ، وما كل صعب يترك . ولذلك لا ينبغي أن يمتنع الناس عن طلبه . ووجوه الصعوبة كثيرة . أهمها : أن القرآن كلام سماوي تنزل من حضرة الربوبية التي لا يكتنه كنهها على قلب أكمل الأنبياء . وهو يشتمل على معارف عالية ، ومطالب سامية ، لا يشرف عليها إلا أصحاب النفوس الزاكية ، والعقول الصافية ، وإن الطالب له يجد أمامه من الهيبة والجلال الفائضين من حضرة الكمال ما يأخذ بتلبيبه ، ويكاد يحول دون مطلوبه ، ولكن الله تعالى خفف علينا الأمر بأن أمرنا بالفهم والتعقل لكلامه ؛ لأنه إنما أنزل الكتاب نورا وهدى ، مبينا للناس شرائعه وأحكامه ، ولا يكون كذلك إلا إذا كانوا يفهمونه . والتفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة ، فإن هذا هو المقصد الأعلى منه ، وما وراء هذا من المباحث تابع له وأداة أو وسيلة لتحصيله . التفسير له وجوه شتى : (أحدها) : النظر في أساليب الكتاب ومعانيه وما اشتمل عليه من أنواع البلاغة ليعرف به علو الكلام وامتيازه على غيره من القول ، سلك هذا المسلك الزمخشري ، وقد ألم بشيء من المقاصد الأخرى ونحا نحوه آخرون . (ثانيها) : الإعراب : وقد اعتنى بهذا أقوام توسعوا في بيان وجوهه وما تحتمله الألفاظ منها . (ثالثها) : تتبع القصص ، وقد سلك هذا المسلك أقوام زادوا في قصص القرآن ما شاءوا من كتب التاريخ والإسرائيليات ، ولم يعتمدوا على التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة عند أهل الكتاب وغيرهم ، بل أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غث وسمين ، ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل .

(رابعها) : غريب القرآن . (خامسها) : الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات والاستنباط منها . وقد جمع بعضهم آيات الأحكام وفسروها وحدها . ومن أشهرهم أبو بكر بن العربي وكل من يغلب عليهم الفقه من المفسرين ، يعنون بتفسير آيات أحكام العبادات والمعاملات أكثر من عنايتهم بسائر الآيات . (سادسها) : الكلام في أصول العقائد ومقارعة الزائغين ، ومحاجة المختلفين . وللإمام الرازي العناية الكبرى بهذا النوع . (سابعها) : المواعظ والرقائق ، وقد مزجها الذين ولعوا بها بحكايات المتصوفة والعباد ، وخرجوا ببعض ذلك عن حدود الفضائل والآداب التي وضعها القرآن . (ثامنها) : ما يسمونه بالإشارة ، وقد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية . ومن ذلك التفسير الذي ينسبونه للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي . وإنما هو للقاشاني الباطني الشهير ، وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز . وقد عرفت أن الإكثار في مقصد خاص من هذه المقاصد يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهي ، ويذهب بهم في مذاهب تنسيهم معناه الحقيقي ؛ لهذا كان الذي نعنى به من التفسير هو ما سبق ذكره ، أي من فهم الكتاب من حيث هو دين ، وهداية من الله للعالمين ، جامعة بين بيان ما يصلح به أمر الناس في هذه الحياة الدنيا ، وما يكونون به سعداء في الآخرة ويتبعه بلا ريب : بيان وجوه البلاغة بقدر ما يحتمله المعنى وتحقيق الإعراب على الوجه الذي يليق بفصاحة القرآن وبلاغته أي عند الحاجة إلى ذلك كالمسائل التي عدوها مشكلة ، وربما نشير أحيانا إلى الإعراب من غير تصريح بعبارات النحو الاصطلاحية ، كما نفعل ذلك في بعض نكت البلاغة أو قواعد الأصول ، حتى لا تكون الاصطلاحات شاغلا للقارئ عن المعاني ، صارفة له عن العبرة . ويمكن أن يقول بعض أهل هذا العصر : لا حاجة إلى التفسير والنظر في القرآن ؛ لأن الأئمة السابقين نظروا في الكتاب والسنة واستنبطوا الأحكام منهما ، فما علينا إلا أن ننظر في كتبهم ونستغني بهم - هكذا زعم بعضهم ، ولو صح هذا الزعم لكان طلب التفسير عبثا ، يضيع به الوقت سدى وهو - على ما فيه من تعظيم شأن الفقه - مخالف لإجماع الأمة من النبي - - إلى آخر واحد من المؤمنين ، ولا أدري كيف يخطر هذا على بال مسلم ؟ الأحكام العملية التي جرى الاصطلاح على تسميتها فقها هي أقل ما جاء في القرآن ، وإن فيه من التهذيب ودعوة الأرواح إلى ما فيه سعادتها ورفعها من حضيض الجهالة إلى أوج المعرفة ،

وإرشادها إلى طريقة الحياة الاجتماعية ما لا يستغني عنه من يؤمن بالله واليوم الآخر ، وما هو أجدر بالدخول في الفقه الحقيقي ، ولا يوجد هذا الإرشاد إلا في القرآن ، وفيما أخذ منه - كإحياء العلوم - حظ عظيم من علم التهذيب ، ولكن سلطان القرآن على نفوس الذين يفهمونه وتأثيره في قلوب الذين يتلونه حق تلاوته لا يساهمه فيه كلام ، كما أن الكثير من حكمه ومعارفه لم يكشف عنها اللثام . ولم يفصح عنها عالم ولا إمام . ثم إن أئمة الدين قالوا : إن القرآن سيبقى حجة على كل فرد من أفراد البشر إلى يوم القيامة ، ومن أدلة ذلك حديث : " والقرآن حجة لك أو عليك " ولا يعقل إلا بفهمه ، والإصابة من حكمته وحكمه . خاطب الله بالقرآن من كان في زمن التنزيل ، ولم يوجه الخطاب إليهم لخصوصية في أشخاصهم ، بل لأنهم من أفراد النوع الإنساني الذي أنزل القرآن لهدايته . يقول الله تعالى : (ياأيها الناس اتقوا ربكم) فهل يعقل أنه يرضى منا بأن لا نفهم قوله هذا ونكتفي بالنظر في قول ناظر نظر فيه ، لم يأتنا من الله وحي بوجوب اتباعه لا جملة ولا تفصيلا ؟ ! كلا إنه يجب على كل واحد من الناس أن يفهم آيات الكتاب بقدر طاقته لا فرق بين عالم وجاهل . يكفي العامي من فهم قوله تعالى : (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) إلخ : ما يعطيه الظاهر من الآيات ، وأن الذين جمعت أوصافهم في الآيات الكريمة لهم الفوز والفلاح عند الله تعالى ، ويكفي في معرفة الأوصاف أن يعرف معنى الخشوع والإعراض عن اللغو وما لا خير فيه ، والإقبال على ما فيه فائدة له ، دنيوية أو أخروية ، وبذل المال في الزكاة والوفاء بالعهد ، وصدق الوعد ، والعفة عن إتيان الفاحشة ، وأن من فارق هذه الأوصاف إلى أضدادها فهو المتعدي حدود الله ، المتعرض لغضبه ، وفهم هذه المعاني مما يسهل على المؤمن من أي طبقة كان ، ومن أهل أي لغة كان . ومن الممكن أن يتناول كل أحد من القرآن بقدر ما يجذب نفسه على الخير ، ويصرفها عن الشر ، فإن الله تعالى أنزله لهدايتنا وهو يعلم منا كل أنواع الضعف الذي نحن عليه . وهناك مرتبة تعلو على هذه وهي من فروض الكفاية . للتفسير مراتب أدناها : أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه ، ويصرف النفس عن الشر ويجذبها إلى الخير ، وهذه هي التي قلنا إنها متيسرة لكل أحد (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (54 : 17) . وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلا بأمور : (أحدها) : فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة ، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان ، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد ، من ذلك لفظ " التأويل " اشتهر بمعنى التفسير مطلقا أو على وجه

مخصوص ، ولكنه جاء في القرآن بمعان أخرى كقوله تعالى : (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق) فما هذا التأويل ؟ يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة ؛ ليفرق بينها وبين ما ورد في الكتاب . فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى . فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله . والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه ، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ " الهداية " - سيأتي تفسيره في الفاتحة - وغيره ، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه ، وقد قالوا : إن القرآن يفسر بعضه ببعض ، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق من القول ، واتفاقه مع جملة المعنى ، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته . (ثانيها) : الأساليب ، فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة . وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته ، مع التفطن لنكته ومحاسنه ، والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه . نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال والتمام ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة . ويحتاج هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب (المعاني والبيان) ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب . ترون في كتب العربية أن العرب كانوا مسددين في النطق يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع ، أتحسبون أن ذلك كان طبيعيا لهم ؟ كلا ، وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة ، ولذلك صار أبناء العرب أشد عجمة من العجم عندما اختلطوا بهم . ولو كان طبيعيا ذاتيا لهم لما فقدوه في مدة خمسين سنة من بعد الهجرة . (ثالثها) : علم أحوال البشر ، فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب ، وبين فيه ما لم يبينه في غيره . بين فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعهم والسنن الإلهية في البشر ، قص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها . فلا بد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم ، ومناشئ اختلاف أحوالهم ، من قوة

وضعف ، وعز وذل ، وعلم وجهل ، وإيمان وكفر ، ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه ، ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه . قال الأستاذ الإمام : أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر قوله تعالى : (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) (2 : 213) الآية - وهو لا يعرف أحوال البشر ، وكيف اتحدوا ، وكيف تفرقوا ؟ وما معنى تلك الواحدة التي كانوا عليها ؟ وهل كانت نافعة أم ضارة ؟ وماذا كان من آثار بعثه النبيين فيهم . أجمل القرآن الكلام عن الأمم ، وعن السنن الإلهية ، وعن آياته في السماوات والأرض ، وفي الآفاق والأنفس ، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علما ، وأمرنا بالنظر والتفكر ، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا ، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره ، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة . (رابعها) : العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن ، فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم ؛ لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال ، وأن النبي - - بعث به لهدايتهم وإسعادهم . وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة ، أو ما يقرب منها إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه ؟ هل يكتفي من علماء القرآن دعاة الدين والمناضلين عنه بالتقليد بأن يقولوا تقليدا لغيرهم : إن الناس كانوا على باطل ، وإن القرآن دحض أباطيلهم في الجملة ؟ كلا . وأقول الآن : يروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة ، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " والمراد أن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله يجهل تأثير هدايته وعناية الله بجعله مغيرا لأحوال البشر ومخرجا لهم من الظلمات إلى النور ، ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي . كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو ؛ لأنه من ضروريات الحياة عندهم ، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأمور وتأثير تلك الآداب من أين جاء ؟ (خامسها) : العلم بسيرة النبي - - وأصحابه ، وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشئون دنيويها وأخرويها .

فعلم مما ذكرنا أن التفسير قسمان : (أحدهما) : جاف مبعد عن الله وعن كتابه ، وهو ما يقصد به حل الألفاظ وإعراب الجمل وبيان ما ترمي إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية ، وهذا لا ينبغي أن يسمى تفسيرا ، وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون كالنحو والمعاني وغيرهما . (ثانيهما) : وهو التفسير الذي قلنا : إنه يجب على الناس - على أنه فرض كفاية - هو الذي يستجمع تلك الشروط لأجل أن تستعمل لغايتها ، وهو ذهاب المفسر إلى فهم المراد من القول ، وحكمة التشريع في العقائد والأحكام على الوجه الذي يجذب الأرواح ، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام ، ليتحقق فيه معنى قوله : (هدى ورحمة) ونحوهما من الأوصاف . فالمقصد الحقيقي وراء كل تلك الشروط والفنون هو الاهتداء بالقرآن . قال الأستاذ الإمام : وهذا هو الغرض الذي أرمي إليه في قراءة التفسير . وتكلم الأستاذ الإمام أيضا عن التفسير والتأويل في اصطلاح العلماء ، ثم بين عظيم شأن تفسير القرآن وفهمه بما مثاله : مثل الناطقين بالعربية الآن - من العراق إلى نهاية بلاد مراكش - بالنسبة إلى العرب في لغتهم كمثل قوم من الأعاجم المخالطين للعرب ، وجد في كلامهم - بسبب المخالطة - مفردات من العربية . فهؤلاء الأقوام أشد حاجة إلى التفسير ، وفهم القرآن من المسلمين الأولين ، ولاسيما من كانوا في القرن الثالث حيث بدئ بكتابة التفسير وأحس المسلمون بشدة حاجتهم إليه ، ولا شك أن من يأتي بعدنا يكون أحوج منا إلى ذلك إذا بقينا على تقهقرنا ، ولكن إذا يسر الله لنا نهضة لإحياء لغتنا وديننا فربما يكون من بعدنا أحسن حالا منا . التفسير عند قومنا اليوم ومن قبل اليوم بقرون : هو عبارة عن الاطلاع على ما قاله بعض العلماء في كتب التفسير على ما في كلامهم من اختلاف يتنزه عنه القرآن (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (4 : 82) وليت أهل العناية بالاطلاع على كتب التفسير يطلبون لأنفسهم معنى تستقر عليه أفهامهم في العلم بمعاني الكتاب ، ثم يبثونه في الناس ويحملونهم عليه . ولكنهم لم يطلبوا ذلك ، وإنما طلبوا صناعة يفاخرون بالتفنن فيها ، ويمارون فيها من يباريهم في طلبها ، ولا يخرجون لإظهار البراعة في تحصيلها عن حد الإكثار من القول ، واختراع الوجوه من التأويل ، والإغراب في الإبعاد عن مقاصد التنزيل ، إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس وما فهموه وإنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا وهدايتنا ، وعن سنة نبيه الذي بين لنا ما نزل إلينا (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (16 : 44)

يسألنا هل بلغتكم الرسالة ؟ هل تدبرتم ما بلغتم ؟ هل عقلتم ما عنه نهيتم وما به أمرتم ؟ وهل عملتم بإرشاد القرآن ، واهتديتم بهدي النبي واتبعتم سنته ؟ عجبا لنا ننتظر هذا السؤال ونحن في هذا الإعراض عن القرآن وهديه ، فيا للغفلة والغرور ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ . معرفتنا بالقرآن كمعرفتنا بالله تعالى : أول ما يلقن الوليد عندنا من معرفة الله تعالى ، هو اسم " الله " تبارك وتعالى ، يتعلمه بالأيمان الكاذبة كقوله : والله لقد فعلت كذا وكذا ، والله ما فعلت كذا ، وكذلك القرآن يسمع الصبي ممن يعيش معهم أنه كلام الله تعالى ، ولا يعقل معنى ذلك ، ثم لا يعرف من تعظيم القرآن إلا ما يعظمه به سائر المسلمين الذين يتربى بينهم . وذلك بأمرين . (أحدهما) : اعتقاد أن آية كذا إذا كتبت ومحيت بماء وشربه صاحب مرض كذا يشفى ، وأن من حمل القرآن ، لا يقربه جن ولا شيطان ، ويبارك له في كذا وكذا ، إلى غير ذلك مما هو مشهور ومعروف للعامة أكثر مما هو معروف للخاصة ، ومع صرف النظر عن صحة هذا وعدم صحته نقول : إن فيه مبالغة في التعظيم عظيمة جدا ولكنها - ويا للأسف - لا تزيد عن تعظيم التراب الذي يؤخذ من بعض الأضرحة ابتغاء هذه المنافع والفوائد نفسها . أقول : ونحو هذا ما يعلق على الأطفال من التعاويذ والتناجيس كالخرق والعظام والتمائم المشتملة على الطلسمات والكلمات الأعجمية ، المنقولة عن بعض الأمم الوثنية ، هذا الضرب من تعظيم القرآن نسميه - إذا جرينا على سنة القرآن - عبادة للقرآن لا عبادة لله به . (ثانيهما) : الهزة والحركة المخصوصة والكلمات المعلومة التي تصدر ممن يسمعون القرآن ، إذا كان القارئ رخيم الصوت حسن الأداء عارفا بالتطريب على أصول النغم . والسبب في هذه اللذة والنشوة هو حسن الصوت والنغم ، بل أقوى سبب لذلك هو بعد السامع عن فهم القرآن . وأعني بالفهم ما يكون عن ذوق سليم تصيبه أساليب القرآن بعجائبها ، وتملكه مواعظه فتشغله عما بين يديه مما سواه . لا أريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمى من الكتب أخذا جافا لم يصحبه ذلك الذوق وما يتبعه من رقة الشعور ولطف الوجدان ، اللذين هما مدار التعقل والتأثر والفهم والتدبر . لهذا كله يمكننا أن نقول : إن الجاهلية اليوم أشد من الجاهلية والضالين في زمن النبي - - ؛ لأن من أولئك من قال الله تعالى فيهم : (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) ومعرفة الحق أمر عظيم شريف ، نعم ربما كان إثم صاحبها مع الجحود أشد ، ولكنه يكون

دائما ملوما من نفسه على الإعراض عن الحق ، وهذا اللوم يزلزل ما في نفسه من الإصرار على الباطل . كان البدوي راعي الغنم يسمع القرآن فيخر له ساجدا لما عنده من رقة الإحساس ولطف الشعور ، فهل يقاس هذا بأي متعلم اليوم ؟ أرأيت أهل جزيرة العرب ، كيف انضووا إلى الإسلام بجاذبية القرآن لما كان لهم من دقة الفهم ، التي كانت سبب الانجذاب إلى الحق ؟ ! وأشار الأستاذ الإمام هنا إلى البنت الأعرابية التي فطنت لاشتمال الآية الآتية على أمرين ونهيين وبشارتين . ومجمل الخبر أن الأصمعي قال : سمعت بنتا من الأعراب خماسية أو سداسية تنشد : أستغفر الله لذنبي كله ... قتلت إنسانا بغير حله مثل غزال ناعم في دله ... وانتصف الليل ولم أصله فقلت لها : قاتلك الله ما أفصحك ، فقالت : ويحك أيعد هذا فصاحة مع قوله تعالى : (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) (28 : 7) فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وبشارتين . لما رأى علماء المسلمين في الصدر الأول تأثير القرآن في جذب قلوب الناس إلى الإسلام ، وأن الإسلام لا يحفظ إلا به ، ولما كان العرب قد اختلطوا بالعجم ، وفهم من دخل في الإسلام من الأعاجم ما فهمه علماء العرب أجمع كل على وجوب حفظ اللغة العربية ، ودونوا لها الدواوين ووضعوا لها الفنون ، نعم إن الاشتغال بلغة الأمة وآدابها فضيلة في نفسه ومادة من مواد حياتها ، ولا حياة لأمة ماتت لغتها . ولكن لم يكن هذا وحده هو الحامل لسلف الأمة على حفظ اللغة بمفرداتها وأساليبها وآدابها ، وإنما الحامل لهم على ذلك ما ذكرنا . ألف العلامة الإسفراييني كتابا في الفرق ختمه بذكر أهل السنة ومزاياهم ، وعد من فضائلهم التي امتازوا بها على سائر الفرق : التبريز في اللغة وآدابها ، وبين ذلك بأجلى بيان . فأين هذه المزايا اليوم ؟ وأين آثارها في فهم القرآن ؟ بل فهم ما دونه من الكلام البليغ ! وقد بينا وجه الحاجة في التفسير إلى تحصيل ملكة الذوق العربي ، وإلى غير ذلك من الأمور التي يتوقف عليها فهم القرآن ا هـ . أقول الآن : إن القرآن هو حجة الله البالغة على دينه الحق ، فلا بقاء للإسلام إلا بفهم القرآن فهما صحيحا ، ولا بقاء لفهمه إلا بحياة اللغة العربية ، فإن كان باقيا في بعض بلاد الأعاجم فإنما بقاؤه بوجود بعض العلماء العارفين من التفسير ما يكفي لرد الشبهات عن القرآن عندهم ، وببقاء ثقة العامة بهم وبما يقولونه تقليدا لهم فيه ، أو بعدم عروض الشبه لهم من دعاة

الأديان الأخرى ، مع تأثير الوراثة والتقليد من قبيل ما يسمى في العلم الطبيعي : بحركة الاستمرار ، ولهذا اتفق علماء الإسلام من العرب والعجم على حفظ اللغة العربية ونشرها كما تقدم ، وكان العلم والدين في أوج القوة بحياة اللغة العربية . كان جميع من دخل في الإسلام يشعر بأنه صار أخا لجميع المسلمين ، وأن أمته هي الأمة الإسلامية ، لا العربية ولا الفارسية ولا القبطية ولا التركية . . . . كما قال تعالى : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (21 : 92) ومن البديهي أن وحدة الأمة لا تتم إلا بوحدة اللغة ، ولا لغة تجمع المسلمين وتربطهم إلا لغة الدين الذي جعلهم بنعمة الله إخوانا ، وهي العربية التي لم تعد خاصة بالجنس العربي إذا نظرنا إلى الأجناس - المعبر عنهم في اصطلاح المنطق بالأصناف - من جهة أنسابهم وأوطانهم . ولهذا كان يجتهد مسلمو العجم في خدمة هذه اللغة كما يجتهد مسلمو العرب بلا فرق ، ويعدونها لغتهم ؛ لأنها لغة القرآن التي تقوم بها حجته : وهم من أمة القرآن كالعرب بلا فرق . قال تعالى : (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وفي حديث جابر عند البيهقي وابن مردويه أن النبي - - قال في خطبة الوداع في وسط أيام التشريق : " يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ألا هل بلغت ؟ - قالوا : بلى يا رسول الله ، قال - فليبلغ الشاهد الغائب " . ثم حدثت في الإسلام عصبية الجنسية الجاهلية التي حرمها الإسلام وشدد في منعها ، بعد أن ضعف العلم والدين في المسلمين بضعف اللغة العربية فيهم ، حتى قام بعض الأعاجم في هذه السنين الأخيرة يدعون قومهم إلى ترجمة القرآن بلغتهم والاستغناء عن القرآن العربي . زاعما أن الإسلام دين ليس له لغة . وغلا بعض هؤلاء في بغض العربية فدعا مسلمي قومه إلى الأذان والصلاة والخطبة بلغتهم ، وقد أجمع المسلمون بالعمل على إقامة هذه الشعائر الإسلامية بلغة الإسلام العربية إلى اليوم ، وكان من عاقبة هذا الضعف في العلم والدين أن بعض المسلمين في بلاد الأعاجم - كجاوة ، التي يقل فيها العلماء العارفون بالدين ولغته ، القادرون على دفع الشبه عن القرآن - صاروا يرتدون عن الإسلام لإيضاع دعاة النصرانية خلالهم ، وسؤالهم الفتنة بالتشكيك في القرآن والطعن فيه . وأين من يفهمه ويدافع عنه هناك ؟ ومنهم من صار يفخر بسلفه من الوثنيين والمجوس حتى بفرعون الذي لعنه الله في جميع كتبه . أمرنا الله تعالى أن نتدبر القرآن ونعتبر به ، ونتذكر ونهتدي ، وأن نعلم ما نقوله في صلاتنا من آياته وأذكاره ، وأكد هذه المسائل في آيات كثيرة ، والامتثال لها والعمل بها لا يكون إلا بفهم العربية الفصحى . وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وجعل الله تعالى القرآن معجزا

للبشر ولا تقوم حجته في هذا عليهم إلا بفهمه ، ولا يمكن فهمه إلا بفهم العربية الفصحى ، فمعرفة العربية من ضروريات دين الإسلام ، ندعو إليها جميع المسلمين بدعائهم إلى القرآن . وإننا نعتقد أن المسلمين ما ضعفوا وزال ما كان لهم من الملك الواسع إلا بإعراضهم عن هداية القرآن ، وأنه لا يعود إليهم بشيء مما فقدوا من العز والسيادة والكرامة إلا بالرجوع إلى هدايته ، والاعتصام بحبله كما يرون ذلك مبينا في تفسير الآيات الكريمة الدالة عليه ، ولا يتم ذلك إلا بالاتفاق على إحياء لغته فالدعاء له دعاء لها (ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) (8 : 24 - 26) وبالشكر تدوم النعم ، وكفرها مجلبة للنقم ، ولذلك أرشدنا الله في فاتحة كتابه إلى الدعاء بأن يهدينا صراط المنعم عليه من الشاكرين ، وها نحن أولاء نبدأ بالمقصود بعون الله الرحمن الرحيم .