انتقل إلى المحتوى

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة يس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ يسۤ } * { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } * { إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ } * { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } * { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } * { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } * { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } * { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } * { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } * { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } * { وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } * { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } * { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } * { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } * { وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } * { قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَإِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } * { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } * { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ } * { إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } * { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } * { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } * { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } * { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } * { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } * { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } * { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } * { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } * { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ ٱلْعُيُونِ } * { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } * { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } * { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } * { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } * { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } * { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } * { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } * { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } * { إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } * { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } * { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } * { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } * { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } * { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } * { فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } * { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } * { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ } * { لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } * { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } * { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } * { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } * { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } * { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } * { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } * { ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } * { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } * { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } * { وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } * { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } * { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } * { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } * { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } * { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } * { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ } * { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } * { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ } * { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } * { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } * { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } * { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } * { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

قمح البعير رأسه: رفعه أثر شرب الماء، ويأتي الكلام فيه مستوفي. العرجون: عودالعذق من بين الشمراخ إلى منبته من النخلة. وقال الزجاج: هو فعلون من الانعراج، وهو الإنعطاف. الجدث: القبر، وسمع فيهجدف بإبدال الثاء فاء، كما قالوا: فم في ثم، وكما أبدلوا من الفاء ثاء، قالوا في معفور معثور، وهو ضربمن الكمأة. المسخ: تحويل من صورة إلى صورة منكرة. الرميم: البالي المفتت. {يس * وَٱلْقُرْءانِ ٱلْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَٱلْمُرْسَلِينَ * عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَـٰفِلُونَ * لَقَدْ حَقَّٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلاً * فَهِىَ * إِلَى ٱلاْذْقَـٰنِ فَهُم مُّقْمَحُونَ *وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَآء عَلَيْهِمْ أَءنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَيُؤمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِكْرَ وَخشِىَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُمَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ وَكُلَّ شىْء أَحْصَيْنَـٰهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ }. هذه السورة مكية، إلا أن فرقة زعمت أنقوله: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ }، و{ءاثَـٰرِهِمْ }، فنزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلىجوار مسجد الرسول، وليس زعماً صحيحاً. وقيل: إلا قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ ٱلله } الآية. وتقدمالكلام في الحروف المقطعة في أول البقرة، قال ابن جبير هنا: إنه اسم من أسماء محمد ،ودليله {إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }. قال السيد الحميري:

يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة     على المودة إلا آل ياسيناً

وقال ابن عباس: معناه يا إنسان بالحبشية، وعنه هو في لغة طيء، وذلك أنهم يقولون إيسان بمعنىإنسان، ويجمعونه على أياسين، فهذا منه. وقالت فرقة: يا حرف نداء، والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه.وقال الزمخشري: إن صح أن معناه يا إنسان في لغة طيء، فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين، فكثر النداء علىألسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما قالوا في القسم: م الله في أيمن الله. انتهى. والذي نقل عن العرب فيتصغيرهم إنسان أنيسيان بياء بعدها ألف، فدل على أن أصله أنيسان، لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، ولا نعلمهم قالوافي تصغيره أنيسين، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين، فلا يجوز ذلك، لا أن يبنى على الضم، ولا يبقى موقوفاً، لأنهمنادي مقبل عليه، مع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير، ويمتنع ذلك في حق النبوة. وقوله: كما قالوا في القسم مالله في أيمن الله، هذا قول. ومن النحويين من يقول: إن م حرف قسم وليس مبقى من أيمن. وقرىء: بفتحالياء وإمالتها محضاً، وبين اللفظين. وقرأ الجمهور: بسكون النون مدغمة في الواو؛ ومن السبعة: الكسائي، وأبو بكر، وورش، وابن عامر:مظهرة عند باقي السبعة. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى: بفتح النون. وقال قتادة: يس قسم. قال أبو حاتم: فقياس هذاالقول فتح النون، كما تقول: الله لأفعلن كذا. وقال الزجاج: النصب، كأنه قال: اتل يس، وهذا على مذهب سيبويه أنهاسم للسورة. وقرأ الكلبي: بضم النون، وقال هي بلغة طيء: يا إنسان. وقرأ السماك، وابن أبي إسحاق أيضاً: بكسرها؛ قيل:والحركة لالتقاء الساكنين، فالفتح كائن طلباً للتخفيف والضم كحيث، والكسر على أصل التقائهما. وإذا قيل أنه قسم، فيجوز أن يكونمعرباً بالنصب على ما قال أبو حاتم، والرفع على الابتداء نحو: أمانة الله لأقومن، والجر على إضمار حرف الجر، وهوجائز عند الكوفيين. والحكيم: إما فعيل بمعنى مفعل، كما تقول: عقدت العسل فهو عقيد: أي معقد، وإما للمبالغة من حاكم،وإما على معنى السبب، أي ذي حكمة. {عَلَىٰ صِرٰطٍ }: خبر ثان، أو في موضع الحال منه عليه السلام، أومن المرسلين، أو متعلق بالمرسلين. والصراط المستقيم: شريعة الإسلام. وقرأ طلحة، والأشهب، وعيسى: بخلاف عنهما؛ وابن عامر، وحمزة، والكسائي:تنزيل، بالنصب على المصدر؛ وباقي السبعة، وأبو بكر، وأبو جعفر، وشيبة، والحسن، والأعرج، والأعمش: بالرفع مبتدأ محذوف، أي هو تنزيل؛وأبو حيوة، واليزيدي، والقورصي عن أبي جعفر، وشيبة؛ بالخفض إما على البدل من القرآن، وإما على الوصف بالمصدر. {لّتُنذِرَ }:متعلق بتنزيل أو بأرسلنا مضمرة. {مَّا أُنذِرَ }، قال عكرمة: بمعنى الذي، أي الشيء الذي أنذره آباؤهم من العذاب، فمامفعول ثان، كقوله:

{ إِنَّا أَنذَرْنَـٰكُمْ عَذَاباً قَرِيباً }

. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي {مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ}، والآباء على هذا هم الأقدمون من ولد إسماعيل، وكانت النذارة فيهم. و{فَهُمُ } على هذا التأويل بمعنى فإنهم، دخلتالفاء لقطع الجملة من الجملة الواقعة صلة، فتتعلق بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }. {لّتُنذِرَ }، كما تقول: أرسلتك إلى فلانلتنذره، فإنه غافل، أو فهو غافل. وقال قتادة: ما نافية، أي أن آباءهم لم ينذروا، فآباؤهم على هذا هم القربيونمنهم، وما أنذر في موضع الصفة، أي غير منذر آباؤهم، وفهم غافلون متعلق بالنفي، أي لم ينذروا فهم غافلون، علىأن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم. وباعتبار الآباء في القدم والقرب يزول التعارض بين الإنذار ونفيه. {لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُعَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ }: المشهور أن القول

{ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }

. وقيل: لقد سبق في علمه وجوب العذاب.وقيل: حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه؛ فأكثرهم لا يؤمنون بعذ ذلك. والظاهرأن قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلاً } الآية هو حقيقة لا استعارة. لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون، أخبرعن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار. قال ابن عطية: وقوله {فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } يضعف هذا،لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله. انتهى، ولا يضعف هذا. ألا ترى إلى قوله:

{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا }

، وقوله:

{ قَالَ رَبّ لِمَ * حشرتني أَعْمَىٰ }

؟ وإما أن يكون قوله:

{ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ }

، كناية عن إدراكه ما يؤول إليه، حتى كأنه يبصره. وقال الجمهور: ذلك استعارة. قال ابن عباس، وابن إسحاق:استعارة لحالة الكفرة الذين أرادوا الرسول بسوء، جعل الله هذا لهم مثلاً في كفه إياهم عنه، ومنعهم من أذاه حينبيتوه. وقال الضحاك، والفراء: استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله، كما قال:

{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ }

وقالعكرمة: نزلت حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم، وفي غير ذلك من المواطن، فمنعه الله؛ وهذا قريب من قولابن عباس، فروى أن أبا جهل حمل حجراً ليدفع به النبي ، وهو يصلي، فانثنت يداه إلىعنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر في يده قد لزق، فما فكوه إلا بجهد، فأخذ آخر، فلما دنا من الرسول،طمس الله بصره فلم يره، فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فجعل الغل يكون استعارة عن منع أبي جهلوغيره في هذه القصة. ولما كان أصحاب أبي جهل راضين بما أراد أن يفعل، فنسب ذلك إلى جمع. وقالت فرقة:استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه. قال ابن عطية: وهذا أرجح الأقوال، لأنه تعلى لما ذكر أنهملا يؤمنون، لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حالالمغلوين. انتهى. وقال الزمخشري: مثل تصمميهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى دعواهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لايلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ماخلفهم في أن لا تأمل لهم ولا يبصرون، إنهم متعامون عن النظر في آيات الله تعالى. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.ألا ترى إلى قول أهل السنة استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان؟ وقول الزمخشري مثل تصمميهم ونسبته الأفعال التي يعدهاإليهم لا إلى الله. والغل ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف والتضييق والتعذيب والأسر، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدةعلى معنى التعليل. والظاهر عود الضمير في فهي إلى الأغلال، لأنها هي المذكورة والمحدث عنها. قال ابن عطية: هي عريضةتبلغ بحرفها الأذقان، والذقن مجتمع اللحيين، فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء، وذلك هو الإقماح، وهو نحو الأقناع فيالهيئة. وقال الزمخشري: الأغلال وأصله إلى الأذقان مكزوزة إليها، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقىطرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادراً من الحلقة إلى الذقن، فلا تخليه يطاطىء رأسه ويوطىء قذاله، فلا يزالمقمحاً. انتهى. وقال الفراء: القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه. وقال الزجاج نحوه قال: يقال قمح البعير رأسه عنري وقمح هو. وقال أبو عبيدة: قمح قموحاً: رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب، والجمع قماح، ومنه قول بشر يصفميتة أحدهم ليدفنها:

ونحن على جوانبها قعود     نغض الطرف كالإبل القماح

وقال الليث: هورفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود. وقال الزجاج: للكانونين شهرا قماح، لأن الإبل إذا وردت الماء ترفعرؤوسها لشدة برده، وأنشد أبو زيد بيت الهذلي:

فتى ما ابن الأعز إذا شتوناوحب الزاد في شهري قماح    

رواه بضم القاف، وابن السكيت بكسرها، وهما لغتان. وسميا شهري قماح لكراهة كل ذي كبد شرب الماء فيه.وقال الحسن: القامح: الطافح ببصره إلى موضع قدمه. وقال مجاهد: الرافع الرأس، الواضح يده على فيه. وقال الطبري: الضمير فيفهي عائد على الأيدي، وإن لم يتقدم لها ذكر، لوضوح مكانها من المعنى، وذلك أن الغل إنما يكون في العنقمع اليدين، ولذلك سمي الغل جامعة لجمعه اليد والعنق. وأر ى علي، كرم الله وجهه، الناس الأقماح، فجعل يديه تحتلحييه وألصقهما ورفع رأسه. وقال الزمخشري: جعل الأقماح نتيجة قوله: {فَهِىَ * إِلَى ٱلاْذْقَـٰنِ }. ولو كان الضمير للأيدي، لميكن معنى التسبب في الأقماح ظاهراً. على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلىنفسه إلى الباطل الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج. انتهى. وقرأ عبد الله، وعكرمة، والنخعي، وابن وثاب،وطلحة، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، وحفص: {سَدّا } بفتح السين فيهما؛ والجمهور: بالضم، وتقدم شرح السد في الكهف. وقرأ الجمهور:{فَأغْشَيْنَـٰهُمْ } بالغين منقوطة؛ وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، وابن يعمر، وعكرمة، والنخعي، وابن سيرين، والحسن، وأبو رجاء، وزيدابن علي، ويزيد البربري، ويزيد بن المهلب، وأبو حنيفة، وابن مقسم: بالعين من العشاء، وهو ضعف البصر، جعلنا عليها غشاوة.{وَسَوَآء عَلَيْهِمْ } الآية: تقدّم الكلام على نظيرها تفسيراً وإعراباً في أول البقرة. {إِنَّمَا تُنذِرُ }: تقدم {لِتُنذِرَ قَوْماً}، لكنه لما كان محتوماً عليهم أن لا يؤمنوا حتى قال: {وَسَوَآء عَلَيْهِمْ أَءنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ }، لم يجدالإنذار لانتفاء منفعته فقال: {إِنَّمَا تُنذِرُ }: أي إنذاراً ينفع من اتبع الذكر، وهو القرآن. قال قتادة: أو الوعظ. {وَخشِىَٱلرَّحْمـٰنَ }: أي المتصف بالرحمة، مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء، لكنه مع علمه برحمته هو يخشاه خوفاً منأن يسلبه ما أنعم به عليه بالغيب، أي بالخلوة عند مغيب الإنسان عن غيوب البشر. ولما أحدث فيه النذارة، بشرهبمغفرة لما سلف؛ {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } على ما أسلف من العمل الصالح، وهو الجنة. ولما ذكر تعالى الرسالة، وهيأحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمناً، ذكر الحشر، وهو أحد الأصول الثلاثة. والثالث هو توحيد، فقال: {إِنَّا نَحْنُنُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ }: أي بعد مماتهم. وأبعد الحسن والضحاك في قوله: إحياؤهم: إخراجهم من الشرك إلى الإيمان. {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ}، كناية عن المجازاة: أي ونحصي، فعبر عن إحاطة علمه بأعمالهم بالكتابة التي تضبط بها الأشياء. وقرأ زر ومسروق: ويكتبما قدموا وآثارهم بالياء مبنياً للمفعول، وما قدموا من الأعمال. وآثارهم: خطاهم إلى المساجد. وقال: السير الحسنة والسيئة. وقيل: ماقدّموا من السيئات وآثارهم من الأعمال. وقال الزمخشري: ما أسلفوا من الأعمال الصالحات غيرها، وما هلكوا عنه من أثر حسن،كعلم علموه، وكتاب صنفوه، أو حبيس أحبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك، أوسيء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تحيرهم، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحانوملاه، وكذلك كل سنة حسنة، أو سيئة يستن بها، ونحوه قوله عز وجل:

{ يُنَبَّأُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ }

،من آثاره. انتهى. وقرأ الجمهور: {وَكُلَّ شىْء } بالنصب على الاشتغال. وقرأ أبو السمال: بالرفع على الابتداء. والإمام المبين: اللوحالمحفوظ، قاله مجاهد وقتادة وابن زيد، وقالت فرقة: أراد صحف الأعمال. {وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَـٰبَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا ٱلْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَمَاأَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا * إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ * قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَـٰئِرُكُم مَّعَكُمْ *مَّعَكُمْ أَءن ذُكّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَجَاء مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ * ٱتَّبِعُواْمَن لاَّ يَسْـئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَةًإِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شَفَـٰعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ * إِنّى إِذاً لَّفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ * إِنّى ءامَنتُبِرَبّكُمْ فَٱسْمَعُونِ * قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ }.تقدم الكلام على {ٱضْرِب } مع المثل في قوله:

{ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً }

، والقرية: أنطاكية، فلا خلاف فيقصة أصحاب القرية. {إِذَا * جَاءهَا ٱلْمُرْسَلُونَ }: هم ثلاثة، جمعهم في المجيء، وإن اختلفوا في زمن المجيء. {إِذَا *أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ }. الظاهر من أرسلنا أنهم أنبياء أرسلهم الله، ويدل عليه قوله المرسل إليهم: {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌمّثْلُنَا }. وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله، وهذا قول ابن عباس وكعب. وقال قتادة وغيرهم منالحواريين: بعثهم عيسى عليه السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه، فافترق الحواريون في الآفاق، فقص الله قصة الذينذهبوا إلى أنطاكية، وكان أهلها عباد أصنام، صادق وصدوق، قاله وهب وكعب الأحبار. وحكى النقاش بن سمعان: ويحنا. وقال مقاتل:تومان ويونس. {فَكَذَّبُوهُمَا }، أي دعواهم إلى الله، وأخيراً بأنهما رسولا الله، {فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ }: أي قوينا وشددنا، قالهمجاهد وابن قتيبة، وقال؛ يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب، وقال غيره: يقال المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها، ويقالللأرض الصلبة القرآن، هذا على قراءة تشديد الزاي، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وأبو بكر، والمفضل، وأبان: بالتخفيف.قال أبو علي: فغلبنا. انتهى، وذلك من قولهم من عزني، وقوله تعالى:

{ وَعَزَّنِى فِى ٱلْخِطَابِ }

. وقرأ عبد الله: بالثالث،بألف ولام، والثالث شمعون الصفا، قاله ابن عباس. وقال كعب، ووهب: شلوم؛ وقيل: يونس. وحذف مفعول فعززنا مشدداً، أي قويناهمابثالث مخففاً، فغلبناهم: أي بحجة ثالث وما يلطف به من التوصل إلى الدعاء إلى الله حتى من الملك على ماذكر في قصتهم، وستأتي هي أو بعض منها إن شاء الله. وجاء أولاً مرسلون بغير لام لأنه ابتداء إخبار، فلايحتاج إلى توكيد بعد المحاورة. {لَمُرْسَلُونَ } بلام التوكيد لأنه جواب عن إنكار، وهؤلاء أمة أنكرت النبوات بقولها: {وَمَا أَنَزلَٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَىْء }، راجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط، وماعليهم من هداهم وضلالهم، وفي هذا وعيدلهم. ووصف البلاغ بالمبين، وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال، كما روي في هذهالقصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت. {قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ }: أيتشاء منا. قال مقاتل: احتبس عليهم المطر. وقال آخر: أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل. قال ابن عطية: والظاهر أنتطير هؤلاء كان سبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس، وهذا على نحو تطير قريش بمحمد صلى اللهعليه وسلم، وعلى نحو ما طب به موسى عليه السلام. وقال الزمخشري: وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادةالجهال أن يتمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وقبلته طباعهم، ويشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابتهم نعمة أو بلاءقالوا: ببركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط:

{ وَإِن تُصِبْهُمْ * يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ }

؛ وعن مشركىمكة:

{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ }

. انتهى. وعن قتادة: إن أصابنا شيء كان من أجلكم. {*لنرجمنهم} بالحجارة،قاله قتادة. {وَلِلكَـٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }: هو الحريق. {قَالُواْ طَـٰئِرُكُم مَّعَكُمْ }: أي حظكم وما صار لكم من خيرأو شر معكم، أي من أفعالكم، ليس هو من أجلنا بل بكغركم. وقرأ الحسن، وابن هرمز، وعمرو بن عبيد، وزربن حبيش: طيركم بياء ساكنة الطاء. وقرأ الحسن فيما نقل: اطيركم مصدر اطير الذي أصله تطير، فأدغمت التاء في الطاء،فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر. وقرأ الجمهور: طائركم على وزن فاعل. وقرأ الجمهور: {أَءن ذُكّرْتُم } بهمزتين، الأولى همزةالاستفهام، والثانية همزة إن الشرطية، فخففها الكوفيون وابن عامر، وسهلها باقي السبعة. وقرأ زر: بهمزتين مفتوحتين، وهي قراءة أبي جعفروطلحة، إلا أنها البناء الثانية بين بين. وقال الشاعر في تحقيقها:

أإن كنت داود بن أحوى مرحلا     فلست بداع لابن عمك محرماً

والماجشوني، وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبدالله بن أبي سلمة المدني: بهمزةواحدة مفتوحة؛ والحسن: بهاء مكسورة؛ وأبو عمرو في رواية، وزر أيضاً: بمدة قبل الهمزة المفتوحة، استثقل اجتماعهما ففضل بينهما بألف.وقرأ أبو جعفر أيضاً، والحسن أيضاً، وقتادة، وعيس الهمداني، والأعمش: أين بهمزة مفتوحة وياء ساكنة، وفتح النون ظرف مكان. ورويهذا عن عيسى الثقفي أيضاً. فالقراءة الأولى على معنى: إن ذكرتم تتطيرون، بجعل المحذوف مصب الاستفهام، على مذهب سيبويه، بجعلهللشرط، على مذهب يونس؛ فإن قدرته مضارعاً كان مجزوماً. والقراءة الثانية على معنى: ألان ذكرتم تطيرتم، فإن مفعول من أجله،وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة؛ وقراءة الهمزة المكسورة وحدها، فحرف شرط بمعنى الإخبار، أي إن ذكرتمتطيرتم. والقراءة الثانية الأخيرة أين فيها ظرف أداة الشرط، حذف جزاؤه للدلالة عليه وتقديره: أين ذكرتم صحبكم طائركم، ويدل عليهقوله: {طَـٰئِرُكُم مَّعَكُمْ }. ومن جوز تقديم الجزاء على الشرط، وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد، يجوز أن يكون الجواب {طَـٰئِرُكُممَّعَكُمْ }، وكان أصله: أين ذكرتم فطائركم معكم، فاما قدم حذفت الفاء. وقرأ الجمهور: ذكرتم، بتشديد الكاف؛ وأبو جعفر، وخالدبن الياس، وطلحة، والحسن، وقتادة. وأبو حيوة، والأعمش من طريق زائدة، والأصمعي عن نافع: بتخفيفها. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }:مجاوزون الحد في ضلالكم، فمن ثم أتاكم الشؤم. {وَجَاء مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ } اسمه حبيب، قاله ابنعباس وأبو مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل. قيل: وهو ابن إسرائيل، وكان قصاراً، وقيل: إسكافاً، وقيل: كان ينحت الأصنام، ويمكنأن يكون جامعاً لهذه الصنائع. و{مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ }: أي من أبعد مواضعها. فقيل: كان في خارج المدينة يعاني زرعاًله. وقيل: كان في غار يعبد ربه. وقيل: كان مجذوماً، فيزله أقصى باب من أبوابها، عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهملكشف ضره. فلما دعاه للرسل إلى عبادة الله قال: هل من آية؟ قالوا: نعم، ندعو ربنا القادر يفرج عنك مابك، فقال: إن هذا لعجيب لى سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع، يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: نعم،ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر، فآمن. ودعوا ربهم، فكشف الله ما به، كأن لميكن به بأس. فأقبل على التكسب، فإذا مشى، تصدق بكسبه، نصف لعياله، ونصف يطعمه. فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهمفقال: {قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ }. وحبيب هذا ممن آمن برسول الله ، وبينهما ستمائة سنة، كماآمن به تبع الأكبر، وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن بني غيره أحد إلا بعد ظهوره. وقال ابن أبيليلى: سباق الأمم ثلاثة، لم يكفروا قط طرفة عين: على بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون. وأورد الزمخشريقول ابن أبي ليلى حديثاً عن رسول الله ، وتقدم قبل من حاله أنه كان مجذوماً، عبدالأصنام سبعين سنة، فالله أعلم. وهنا تقدم: {مِنْ أَقْصَى * ٱلْمَدِينَةِ }، وفي القصص تأخر، وهو من التفنن في البلاغة.{رَجُلٌ يَسْعَىٰ }: يمشي على قدميه. {قَالَ يَـاءادَمُ * قَوْمٌ * ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ }. الظاهر أنه لا يقول ذلك بعدتقدم إيمانه، كما سبق في قصة. وقيل: جاء عيسى وسمع قولهم وفهمه فيما فهمه. روي أنه تعقب أمرهم وسبره بأنقال لهم: أتطلبون أجراً على دعوتكم هذه؟ قالوا: لا، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم، واحتج عليهم بقوله:{ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْـئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }: أي وهم هدى من الله. أمرهم أولاً باتباع المرسلين، أي هم رسلالله إليكم فاتبعوهم، ثم أمرهم ثانياً بجمله جامعة في الترغيب، في كونهم لا ينقص منهم من حطام دنيانهم شيء، وفيكونهم يهتدون بهداهم، فيشتملون على خيري الدنيا والآخرة. وقد أجاز بعض النحويين في {مِنْ } أن تكون بدلاً من {ٱلْمُرْسَلِينَ}، ظهر فيه العامل كما ظهر إذا كان حرف جر، كقوله تعالى:

{ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ }

. والجمهور: لايعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب، بدلاً، بل يجعلون ذلك مخصوصاً بحرف الجر. وإذا كان الرافع والناصب، ذلك بالتتبيعلا بالبدل. وفي قوله: {ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْـئَلُكُمْ أَجْراً }، دليل على نقص من يأخذ أجراً على شيء من أفعالالشرع التي هي لازمة له، كالصلاة. ولما أمرهم باتباع المرسلين، أخذ يبدي الدليل في اتباعهم وعبادة الله، فأبرزه فيصورة نصحه لنفسه، وهو يريد نصحهم ليتلطف بهم ويراد بهم؛ ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلاما يريد لنفسه، فوضح قوله: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِى فَطَرَنِى }، موضع: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ ولذلكقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }، ولولا أنه قصد ذلك لقال: وإليه أرجع. ثم أتبع الكلام كذلك مخاطباً لنفسه فقال: {أَءتَّخِذُ مِندُونِهِ ءالِهَةً } قاصرة عن كل شيء، لا تنفع ولا تضر؟ فإن أرادكم الله بضر، وشفعت لكم، لم تنفع شفاعتهم،ولم يقدروا على إنقاذكم فيه، أولاً بانتفاء الجاه عن كون شفاعتهم لا تنفع، ثم ثانياً بانتفاء القدر. فعبر بانتفاء الإنقاذعنه، إذ هو نتيجته. وفتح ياء المتكلم في يردني مع طلحة السمان، كذا في كتاب ابن عطية، وفي كتاب ابنخالويه طلحة بن مطرف، وعيسى الهمذاني، وأبو جعفر، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو. وقال الزمخشري: وقرىء إن يردني الرحمنبضر بمعنى: إن يجعلني مورداً للضر. انتهى. وهذا والله أعلم رأي في يكتب القراءات، يردني بفتح الياء، فتوهم أنها ياءالمضارعة، فجعل الفعل متعدياً بالياء المعدية كالهمزة، فلذلك أدخل عليه همزة التعدية، ونصب به اثنين. والذي في كتب القراء الشواذأنها ياء الإضافة المحذوفة خطأ ونطقاً لالتقاء الساكنين. قال في كتاب ابن خالويه: بفتح ياء الإضافة. وقال في اللوامح: إنيردني الرحمن بالفتح، وهو أصل الياء عند البصرية، لكن هذه محذوفة، يعني البصرية، أي المثبتة بالخط البربري بالبصر، لكونها مكتوبةبخلاف المحذوفة خطأً ولفظاً، فلا ترى بالبصر. {إِنّى إِذاً }، إن لم أعبد الذي فطرني واتخذت آلهة من دونه، فيحيرة واضحة لكل ذي عقل صحيح. ثم صرح بإيمانه وصدع بالحق، فقال مخاطباً لقومه: {إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ }: أيالذي كفرتم به، {فَٱسْمَعُونِ }: أي اسمعوا قولي وأطيعون، فقد نبهتكم على الحق، وأن العبادة لا تكون إلا لمن منهنشأتكم وإليه مرجعكم. والظاهر أن الخطاب بالكاف والميم وبالواو، وهو لقومه، والأمر على جهة المبالغة والتنبيه، قال ابن عباس وكعبووهب. وقيل: خاطب بقوله {فَٱسْمَعُونِ } الرسل، على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم. وقيل: الخطاب في {بِرَبّكُمْ }، وفي{فَٱسْمَعُونِ } للرسل. لما نصح قومه أخذوا يرجمونه، فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال ذلك، أي اسمعوا إيماني واشهدوالي به. {قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ }: ظاهره أن أمر حقيقي. وقيل: معناه وجبت لك الجنة، فهو خبر بأنه قداستحق دخولها، ولا يكون إلا بعد البعث، ولم يأت في القرآن أنه قتل. فقال الحسن: لما أراد قومه قتله، رفعهالله إلى السماء، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السموات وهلاكه الجنة، فإذا أعاد الله الجنة دخلها. وقيل: لماقال ذلك، رفعوه إلى الملك، فطول معهم الكلام ليشغلهم عن قتل الرسل إلى أن صرح لهم بإيمانه، فوثبوا عليه فقتلوهبوطء الأرجل حتى خرج قلبه من دبره وألقي في بئر، وهي الرس. وقال السدي: رموه بالحجارة وهو يقول: «اللهم اهدقومي»، حتى مات. وقال الكلبي: رموه في حفرة، وردوا التراب عليه فمات. وعن الحسن: حرقوه حرقاً، وعلقوه في باب المدينة،وقبره في سور أنطاكية. وقيل: نشروه بالمناشير حتى خرج من بين رجليه. وعن قتادة: أدخله الله الجنة، وهو فيها حييرزق. أراد قوله تعالى:

{ بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ }

: فرحين، وفي النسخة التي طالعنا من تفسير ابن عطية مانصه. وقرأ الجمهور: فاسمعون بفتح النون. قال أبو حاتم: هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر، فإما حذف النون، وإما كسرهاعلى جهة البناء. انتهى، يعني ياء المتكلم والنون للوقاية. وقوله: وقرأ الجمهور وهم فاحش، ولا يكون، والله أعلم، إلا منالناسخ؛ بل القراء مجمعون فيما أعلم على كسر النون، سبعتهم وشواذهم، إلا ما روي عن عصمة عن عاصم من فتحالنون، ذكره في الكامل مؤلف أبي القاسم الهذلي، ولعل ذلك وهم من عصمة. وقال ابن عطية: هنا محذوف تواترت بهالأحاديث والروايات، وهو أنهم قتلوه، فقيل له عند موته: {ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ }، وذلك، والله أعلم، بأن عرض عليه مقعده منها،وتحقق أنه من ساكنيها، فرأى ما أقر عينه، فلما حصل ذلك، تمنى أن يعلم قومه بذلك. انتهى. وقول: {قِيلَ ٱدْخُلِٱلْجَنَّةَ } كأنه جواب لسائل عن حاله عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه فقيل: {ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ }، ولميأت التركيب: قيل له، لأنه معلوم أنه المخاطب، وتمنيه علم قومه بذلك هو مرتب على تقدير سؤال عن ما وجدمن قوله عند ذلك استيفاقاً ونصحاً لهم، أي لو علموا ذلك لآمنوا بالله. وفي الحديث: نصح قومه حياً وميتاً . وقيل:تمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ في أمره، وهو على صواب، فيندموا ويحزنهم ذلك ويبشر بذلك. وموجود في طباعالنشر أن من أصاب خيراً في غير موطنه، ودَّ أن يعلم بذلك جيرانه وأترا به الذين نشأ فيهم. وبلغنا أنالوزير ذنك الدين المسيري، وكان وزيراً لملك مصر، راح إلى قريته التي كان منها، وهي مسير، وهي من أصغر قرىمصر، فقيل له في ذلك، فقال: أردت أن يراني عجائز مسير في هذه الحالة التي أنا فيها، قال الشاعر:

والعز مطلوب وملتمس     وأحبه ما نيل في الوطن

والظاهر أن ما في قوله: {بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى} مصدرية، جوزوا أن يكون بمعني الذي، والعائد محذوف تقديره: بالذي غفره لي ربي من الذنوب، وليس هذا بجيد، إذيؤول إلى تمني علمهم بالذنوب المغفرة، والذي يحسن تمني علمهم بمغفرة ذنوبه وجعله من المكرمين. وأجاز الفراء أن تكون مااستفهاماً. وقال الكسائي: لو صح هذا، يعني الاستفهام، لقال بم من غير ألف. وقال الفراء: يجوز أن يقال بما بالألف،وأنشد فيه أبياتاً. وقال الزمخشري: ويحتمل أن تكون استفهامية، يعني بأي شيء غفر لي ربي، يريد ما كان منه معهممن المصابرة لاعزاز دين الله حتى قيل: إن قولك {بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى } يريد ما كان منه معهم بطرحالألف أجود، وإن كان إثباتها جائزاً فقال: قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت. انتهى. والمشهور أن إثبات الألف فيما الاستفهامية، إذا دخل عليها حرف جر، مختص بالضرورة، نحو قوله:

على ما قام يشتمني لئيم     كخنزير تمرغ في رماد

وحذفها هو المعروف في الكلام، نحو قوله:

على م يقول الرمح يثقل كاهلي     إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت

وقرىء: من المكرمين، مشدد الراء مفتوح الكاف؛ والجمهور: بإسكان الكاف وتخفيف الراء. {وَمَاأَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً فَإِذَا هُمْخَـٰمِدُونَ * خَـٰمِدُونَ * يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَاقَبْلَهُمْ مّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلاْرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـٰهَاوَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّـٰتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـٰبٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ ٱلْعُيُونِ * لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِوَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ * سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى خَلَق ٱلاْزْوٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلاْرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ *وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ * وَٱلْقَمَرَقَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ * لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِىفَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِننَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ * إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ }. أخبر تعالى بإهلاكقوم حبيب بصيحة واحدة صاح بهم جبريل، وفي ذلك توعد لقريش أن يصيبهم ما أصابهم، إذ هم المضروب لهم المثل.وأخبر تعالى أنه لم ينزل عليهم لإهلاكهم جنداً من السماء، كالحجارة والريح وغير ذلك، وكانوا أهون عليه. وقوله: {مِن بَعْدِهِ}، يدل على ابتداء الغاية، أي لم يرسل إليهم رسولاً، ولا عاتبهم بعد قتله، بل عاجلهم بالهلاك. والظاهر أن مافي قوله: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } نافية، فالمعنى قريب من معنى الجملة قبلها، أي وما كان يصح في حكمنا أنننزل في إهلاكهم جنداً من السماء، لأنه تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض، كما قال:

{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ }

الآية. وقالت فرقة: ما اسم معطوف على جند. قال ابن عطية: أي من جند ومن الذي كنامنزلين على الأمم مثلهم. انتهى، وهو تقدير لا يصح، لأن من في من جند زائدة. ومذهب البصريين غير الأخفش أنلزيادتها شرطين: أحدهما: أن يكون قبلها نفي، أو نهي، أو استفهام. والثاني: أن يكون بعدها نكرة، وإن كان كذلك، فلايجوز أن يكون المعطوف على النكرة معرفة. لا يجوز: ما ضربت من رجل ولا زيد، وإنه لا يجوز: ولا منزيد، وهو قدر المعطوف بالذي، وهو معرفة، فلا يعطف على النكرة المجرورة بمن الزائدة. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكونما زائدة، أي وقد كنا منزلين، وقوله ليس بشيء. وقرأ: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً }، بنصب الصيحة، وكان ناقصةواسمها مضمر، أي إن كانت الأخذة أو العقوبة. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ومعاذ بن الحارث القارىء: صيحة بالرفع في الموضعينعلى أن كانت تامة، أي ما خدثت أو وقعت إلا صيحة، وكان الأصل أن لا يلحق التاء، لأنه إذا كانالفعل مسنداً إلى مابعد إلا من المؤنث، لم تلحق العلامة للتأنيث فيقول: ما قام إلا هند، ولا يجوز: ما قامتإلا هند، عند أصحابنا إلا في الشعر، وجوزه بعضهم في الكلام على قلة. ومثله قراءة الحسن، ومالك بن دينار، وأبيرجاء، والجحدري، وقتادة، وأبي حيوة، وابن أبي عبلة، وأبي بحرية: لا ترى إلا مساكتهم بالتاء، والقراءة المشهورة بالياء، وقول ذيالرمة:

وما بقيت إلا الضلوع الجراشع    

وقول الآخر:

ما برئت من ريبة وذم     في حربنا إلا بنات العمّ

فأنكر أبو حاتم وكثير من النحويين هذه القراءة بسبب لحوق تاء التأنيث. {فَإِذَا هُمْ خَـٰمِدُونَ }:أي فاجأهم الخمود إثر الصيحة، لم يتأخر. وكنى بالخمود عن سكوتهم بعد حياتهم، كنار خمدت بعد توقدها. ونداء الحسرة علىمعنى هذا وقت حضورك وظهورك، هذا تقدير نداء، مثل هذا عند سيبويه، وهو منادى منكور على قراءة الجمهور. وقرأ أبيّ،وابن عباس، وعلي بن الحسين، والضحاك، ومجاهد، والحسن: يا حسرة العباد، على الإضافة، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على مافاتهم، ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم، لما فاتهم من اتباع الرسل حين أحضروا للعذاب؛ وطباع البشر تتأثر عندمعاينة عذاب غيرهم وتتحسر عليهم. وقرأ أبو الزناد، وعبد الله بن ذكوان المدني، وابن هرمز، وابن جندب: {خَـٰمِدُونَ يٰحَسْرَةًعَلَى ٱلْعِبَادِ }، بسكون الهاء في الحالين حمل فيه الوصل على الوقف، ووقفوا على الهاء مبالغة في التحسر، لما فيالهاء من التأهه كالتأوّه، ثم وصلوا على تلك الحال، قاله صاحب اللوامح. وقال ابن خالويه: يا حسرة على العباد بغيرتنوين، قاله ابن عباس، انتهى، ووجهه أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء، كمااجتزأ بالكسرة عن الياء فيه. وقد قرىء: يا حسرتا، بالألف، أي يا حسرتي، ويكون من الله على سبيل الاستعارة فيمعنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم، وفرط إنكاره وتعجيبه منه. والظاهر أن العباد هم مكذبو الرسل، تحسرت عليهم الملائكة، قالهالضحاك. وقال الضحاك أيضاً: المعنى يا حسرة الملائكة على عبادنا الرسل حتى لم ينفعهم الإيمان لهم. وقال أبو العالية: المرادبالعباد الثلاثة، وكان هذا التحسر هو من الكفار، حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم. قال ابن عطية: وقوله{مَا يَأْتِيهِمْ } الآية يدفع هذا التأويل. انتهى. قال الزجاج: الحسرة أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لانهاية له حتى يبقى حسيراً. وقيل: المنادى محذوف، وانتصب حسرة على المصدر، أي يا هؤلاء تحسروا حسرة. وقيل: {خَـٰمِدُونَ يٰحَسْرَةًعَلَى ٱلْعِبَادِ } من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، لما وثب القوم ولقتله. وقيل: هو من قولالرسل الثلاثة، قالوا ذلك حين قتلوا ذلك الرجل وجل بهم العذاب، قالوا: يا حسرة على هؤلاء، كأنهم تمنوا أن يكونواقد آمنوا. انتهى. فالألف واللام للعهد إذا قلنا إن العباد المراد بهم الرسل الثلاثة أو من أرسلوا إليه وهم الهالكونبسبب كفرهم وتكذيبهم إياهم. والظاهر أنها لتعريف جنس الكفار المكذبين وتلخص أن المتحسر الملائكة أو الله تعالى أو المؤمنون أوالرسل الثلاثة أو ذلك الرجل، أقوال. {مَا يَأْتِيهِمْ } إلى آخر الآية: تمثيل لقريش، وهم الذين عاد عليهم الضميرفي قوله {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا }. قال ابن عطية: وكم هنا خبرية، وأنهم بدل منها، والرؤية رؤية البصر. انتهى.فهذا لا يصح، لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب بأهلكنا، ولا يسوغ فيها إلا ذلك. وإذا كان كذلك،امتنع أن يكون أنهم بدل منها، لأن البدل على نية تكرار العامل، ولو سلطت أهلكنا على أنهم لم يصح. ألاترى أنك لو قلت أهلكنا انتفاء رجوعهم، أو أهلكنا كونهم لا يرجعون، لم يكن كلاماً؟ لكن ابن عطية توهم أنيروا مفعوله كم، فتوهم أن قولهم أنهم لا يرجعون بدل، لأنه يسوغ أن يتسلط عليه فتقول: ألم يروا أنهم لايرجعون؟ وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية. وقال الزجاج: هو بدل من الجملة، والمعنى: ألم يروا أن القرونالتي أهلكناها إليهم لا يرجعون، لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي. وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء، لأنه ليس بدلاًصناعياً، وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو. وقال أبو البقاء: أنهم إليهم. انتهى، وليس بشيء، لأن كم ليس بمعمولليروا. ونقل عن الفراء أنه يعمل يروا في الجملتين من غير إبدال، وقولهم في الجملتين تجوز، لأن أنهم وما بعدهليس بجملة، ولم يبين كيفية هذا العمل. وقال الزمخشري: {أَلَمْ يَرَوْاْ }: ألم يعلموا، وهو معلق عن العمل في كم،لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها كانت للاستفهام أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام، إلا أن معناها نافذ في الجملة،كما نفذ في قولك: ألم يروا أن زيداً لمنطلق؟ وأن لم تعمل في لفظه. و{أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدلمن {أَهْلَكْنَا } على المعنى لا على اللفظ تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم؟انتهى. فجعل يروا بمعنى يعلموا، وعلقها على العمل في كم. وقوله: لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها، كانت للاستفهامأو للخبر، وهذا ليس على إطلاقه، لأن العامل إذا كان حرف جر أو اسماً مضافاً جاز أن يعمل فيها، نحوكمعلى: كم جذع بيتك؟ وأين: كم رئيس صحبت؟ وعلى: كم فقير تصدّقت؟ أرجو الثواب، وأين: كم شهيد في سبيل اللهأحسنت إليه؟ وقوله: أو للخبر الخبرية فيها لغتان: الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار واللغةالأخرى، حكاها الأخفش؛ يقولون فيها: ملكت كم غلام؟ أي ملكت كثيراً من الغلمان. فكما يجوز أن يتقدم العامل على كثير،كذلك يجوز أن يتقدم على كم لأنها بمعناها. وقوله: لأن أصلها الاستفهام، ليس أصلها الاستفهام، بل كل واحدة أصل فيبابها، لكنها لفظ مشترك بين الاستفهام والخبر. وقوله: إلا أن معناها نافذ في الجملة، يعني معنى يروا نافذ في الجملة،لأن جعلها معلقة، وشرح يروا بيعلموا. وقوله: كما تقدم في قولك: ألم يروا أن زيداً لمنطلق؟ فإن زيداً لمنطلق معمولمن حيث المعنى ليروا، ولو كان عاملاً من حيث اللفظ لم تدخل اللام، وكانت أن مفتوحة، كإن وفي خبرها اللاممن الأدوات التي تعلق أفعال القلوب. وقوله: و{أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلاً، لاعلى اللفظ ولا على المعنى. أما على اللفظ فإنه زعم أن يروا معلقة، فيكون كم استفهاماً، وهو معمول لأهلكنا، وأهلكنالا يتسلط على {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ }، وتقدّم لنا ذلك. وأما على المعنى، فلا يصح أيضاً، لأنه قال تقديره،أي على المعنى: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم؟ فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك،فلا يكون بدل كل من كل، ولا بعضاً من الإهلاك، ولا يكون بدل بعض من كل، ولا يكون بدل اشتمال،لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه، وكذلك بدل بعض من كل، وهذا لا يصح هنا. لاتقول: ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم، وفي بدل الاشتمال نحو: أعجبني الجارية ملاحتها، وسرق زيد ثوبه،يصح أعجبني ملاحة الجارية، وسرق ثوب زيد، وتقدم لنا الكلام على إعراب مثل هذه الجملة في قوله:

{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ }

، في سورة الأنعام. والذي تقتضيه صناعة العربية أن أنهم معمول لمحذوف، ودل عليه المعنى،وتقديره: قضينا أو حكمنا {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ }. وقرأ ابن عباس والحسن: إنهم بكسر الهمزة على الاستئناف، وقطع الجملةعن ما قبلها من جهة الإعراب، ودل ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب لتتفقالقراءتان ولا تختلفا. والضمير في أنهم عائد على معنى كم، وهم القرون، وإليهم عائد على من أسند إليه يروا، وهمقريش؛ فالمعنى: أنهم لا يرجعون إلى من في الدنيا. وقيل: الضمير في أنهم عائد على من أسند إليه يروا، وفيإليهم عائد على المهلكين، والمعنى: أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة، أي أهلكنا هم وقطعنا نسلهم، والإهلاكمع قطع النسل أتم وأعم. وقرأ عبد الله: ألم يروا من أهلكنا، وأنهم على هذا بدل اشتمال؛ وفي قولهم: أنهملا يرجعون، رد على القائلين بالرجعة. وقيل لابن عباس: إن قوماً يزعمون أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: ليسالقوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه. وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر: بتثقيل لما؛ وباقي السبعة: بتخفيفها. فمن ثقلهاكانت عنده بمعنى إلا، وإن نافية، أي ما كل، أي كلهم {إِلا * جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }: أي محشورون، قالهقتادة. وقال ابن سلام: معذبون؛ وقيل: التقدير لمن ما وليس بشيء، ومن خفف لما جعل إن المخففة من الثقيلة، ومازائدة، أي إن كل لجميع، وهذا على مذهب البصريين. وأما الكوفيون، فإن عندهم نافية، واللام بمعنى إلا، وما زائدة، ولماالمشددة بمعنى إلا ثابت في لسان العرب بنقل الثقاة، فلا يلتفت إلى زعم الكسائي أنه لا يعرف ذلك. وقال أبوعبد الله الرازي: في كون لما بمعنى إلا معنى مناسب، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جميعاً. وهما لم وما،فتأكد النفي؛ وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا، فاستعمل أحدهما مكان الآخر. انتهى، وهذا أخذه من قول الفراء في إلافي الاستثناء أنها مركبة من إن ولا، إلا أن الفراء جعل إن المخففة من الثقيلة وما زائدة، أي إن كللجميع، وهذا على مذهب البصريين. وأما الكوفيون، فإن عندهم نافية، واللام بمعنى إلا، وما زائدة، ولما المشددة بمعنى إلا ثابتحرف نفي، وهو قول مردود عند النحاة ركيك، وما تركب منه وزاد تحريفاً أرك منه، وكل بمعنى الإحاطة، وجميع فعيلبمعنى مفعول، ويدل على الاجتماع، وجميع محضرون هنا على المعنى، كما أفرد منتصر على اللفظ، وكلاهما بعد جميع يراعى فيهالفواصل. وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإهلاك تبييناً أنه تعالى ليس من أهله يترك، بل بعد إهلاكهم جمع وحسابوثواب وعقاب، ولذلك أعقب هذا بما يدل على الحشر من قوله: {وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلاْرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـٰهَا } وما بعده منالآيات. وبدأ بالأرض، لأنها مستقرهم، حركة وسكوناً، حياة وموتاً. وموت الأرض جدبها، وإحياؤها بالغيث. والضمير في لهم عائد على كفارقريش ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر. و{أَحْيَيْنَـٰهَا }: استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية، وكذلك نسلخ. وقيل: أحييناها فيموضع الحال، والعامل فيها آية بما فيها من معنى الإعلام، ويكون آية خبراً مقدماً، والأرض الميتة مبتدأ؛ فالنية بآية التأخير،والتقدير: والأرض الميتة آية لهم محياة كقولك: قائم زيد مسرعاً، أي زيد قائم مسرعاً، ولهم متعلق بآية، لا صفة. وقالالزمخشري: ويجوز أن يوصف الأرض والليل بالفعل، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض، وليل بإحيائهما، فعوملا معاملة النكرات فيوصفها بالأفعال ونحوه:

ولقد أمر على اللئيم يسبني    

انتهى. وهذا هدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعتإلا بالنكرة، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك. وأما يسبني فحال، أي ساب لي، وقدتبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليفه. وفي هذه الجمل تعدد نعم إحياؤها بحيث تصير مخضرة تبهجالنفس والعين، وإخراج الحب منها حيث صار ما يعيشون به في المكان الذي هم فيه مستقرون، لا في السماء ولافي الهواء، وجعل الحبات لأنهم أكلوا من الحب، وربما تاقت النفس إلى النقلة، فالأرض يوجد منها الحب، والشجر يوجد منهالمثر، وتفجير العيون يحصل به الاعتماد على تحصيل الزرع والثمر، ولو كان من السماء لم يدرأ يغرس ولا أين يقعالمطر. وقرأ جناح بن حبيش: {وَفَجَّرْنَا } بالتخفيف، والجمهور: بالتشديد. {وَمِنْ * ثَمَرِهِ } بفتحتين؛ وطلحة، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي:بضمتين؛ والأعمش: بضم الثاء وسكون الميم؛ والضمير في ثمره عائد على الماء، قيل: لدلالة العيون عليه ولكونه على حذف مضاف،أي من ماء العيون؛ وقيل: على النخيل، واكتفى به للعلم في اشتراك الأعيان فيما علق به النخيل من أكل ثمره،أو يراد من ثمر المذكور، وهو الجنات، كما قال الشاعر:

فيها خطوط من سواد وبلق     كأنه في الجلد توليع البهق

فقيل له: كيف قلت بعيون، كأنه والذي تقدم خطوط؟ فقال أرت: كان ذاك. وقيل:عائد إلى التفجير الدال عليه وفجرنا الآية أقرب مذكور، وعنى بثمرة: فوائده، كما تقول: ثمرة التجارة الربح. وقال الزمخشري: وأصلهمن ثمرنا، كما قال: {وَجَعَلْنَا }، {وَفَجَّرْنَا }، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات، والمعنى: ليأكلوا مماخلقه الله من الثمر، ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه،وبأن أكله يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار من كد بني آدم. ويجوز أن تكون مانافية، على أن الثمر خلق الله، ولم تعمله أيديه الناس، ولا يقدرون على خلقه. وقرأ الجمهور: {وَمَا عَمِلَتْهُ } بالضمير،فإن كانت ما موصولة فالضمير عائد عليها، وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر. وقرأ طلحة، وعيسى، وحمزة، والكسائي، وأبوبكر: بغير ضمير مفعول عملت على التقريرين محذوفة، وجوز في هذه القراءة أن تكون ما مصدرية، أي وعمل أيديهم، وهومصدر أريد به المعمول، فيعود إلى معنى الموصول. ولما عدد تعالى هذه النعم، حض على الشكر فقال؛ {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ}، ثم نزه تعالى نفسه عن كل ما يلحد به ملحد، أو يشرك به مشرك، فذكر إنشاء الأزواج، وهي الأنواعمن جميع الأشياء، {مِمَّا تُنبِتُ ٱلارْضُ }: من النخل والشجر والزرع والثمر وغير ذلك. وكل صنف زوج مختلف لوناً وطعماًوشكلاً وصغراً وكبراً، {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ }: ذكوراً وإناثاً، {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }: أي وأنواعاً مما لا يعلمون، أعلموا بوجوده ولميعلموا ما هو، إذ لا يتعلق علمهم بماهيته، أمر محتاج إليه في دين ولا دنيا. وفي إعلامه بكثرة مخلوقاته دليلعلى اتساع ملكه وعظم قدرته. ولما ذكر تعالى الاستدلال بأحوال الأرض، وهي المكان الكلي، ذكر الاستدلال بالليل والنهار، وهوالزمان الكلي؛ وبينهما مناسبة، لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر، والزمان لا تستغني عنه الأعراض، لأن كل عرض فهو فيزمان، ومثله مذكور في قوله:

{ وَمِنْ ءايَـٰتِهِ ٱلَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ }

، ثم قال بعده:

{ وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلاْرْضَ خَـٰشِعَةً }

الآية. وبدأ هناك بالزمان، لأن المقصود إثبات الوحدانية بدليل قوله:

{ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ }

الآية، ثمالحشر بقوله:

{ إِنَّ ٱلَّذِى أَحْيَـٰهَا لمحيي الموتى }

، وهذا المقصود الحشر أولاً لأن ذكره فيها أكثر، وذكر التوحيد في فصلت أكثربدليل قوله:

{ قُلْ * أَئِنَّكُمْ * لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِى خَلَقَ ٱلاْرْضَ }

. انتهى، وهو من كلام أبي عبد الله الرازي، وفيهتلخيص. و{نَسْلَخُ }: معناه نكشط ونقشر، وهو استعارة لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل. و{مُّظْلِمُونَ }: داخلون في الظلام،كما تقول: أعتمنا وأسحرنا: دخلنا في العتمة وفي السحر. واستدل قوم بهذا على أن الليل أصل والنهار فرع طارىء عليه،ومستقر الشمس بين يدي العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها. كما جاء في حديث أبي در: «ويقال لها اطلعيمن حيث طلعت، فإذا كان طلوعها من مغربها يقال لها اطلعي من حيث غربت، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها،لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً». وقال ابن عباس: إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لاتتجاوزه، استوت تحت العرش إلى أن تطلع. وقال الحسن: للشمس في السنة ثلاثمائة وستون مطلعاً، تنزل كل يوم مطلعاً، ثملا تنزل إلى الحول، وهي تجري في فلك المنازل، أو يوم القيامة، أو غيبوبتها، لأنها تجري كل وقت إلى حدمحدود تغرب فيه، أو أحد مطالعها في المنقلبين، لأنهما نهايتا مطالعها؛ فإذا استقر وصولها كرت راجعة، وإلا فهي لا تستقرعن حركتها طرفة عين. ونحا إلى هذا ابن قتيبة، أو وقوفها عند الزوال كال يوم، ودليل استقرارها وقوف ذلك الظلامحينئذ. وقال الزمخشري: بمستقر لها: لحدها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخلا السنة. شبه بمستقر المسافر إذا قطعمسيره، أو كمنتهي لها من المشارق والمغارب، لأنها تتقصاها مشرقاً مشرقاً ومغرباً مغرباً حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع، فلذلك حدهاومستقرها، لأنها لا تعدوه أو لا يعدلها من مسيرها كل يوم في مرأي عيوننا وهو المغرب. وقيل: مستقرها: محلها الذيأقر الله عليه أمرها في جريها فاستقرت عليه، وهو آخر السنة. وقيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها، وهو يومالقيامة. وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: في المستقر وجوه في الزمان وفي المكان، ففي الزمان الليل أولاسنة أو يوم القيامة، وفي المكان غاية ارتفاعها في الصيف وانخفاضها في الشتاء، وتجري إلى ذلك الموضع فترجع، أو غايةمشارقها، فلها في كل يوم مشرق إلى ستة أشهر، ثم تعود على تلك المقنطرات؛ وهذا هو ما تقدم في الارتفاع.فإن اختلاف المشارق سبب اختلاف الارتفاع، أو وصولها إلى بيتها في الأسد، أو الدائرة التي عليها حركتها، حيث لا تميلعن منطقة البروج على مرور الشمس. ويحتمل أن يقال: تجري مجرى مستقرها، فإن أصحاب الهيئة قالوا: الشمس في فلك، والفلكيدور فيدير الشمس، فالشمس تجري مجرى مستقرها. انتهى. وقرىء: إلى مستقرها. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، وعطاء بن رباح،وزين العابدين، والباقر، وابنه الصادق، وابن أبي عبدة: لا مستقر لها، نفياً مبنياً على الفتح، فيقتضي انتفاء كل مستقر وذلكفي الدنيا، أي هي تجري دائماً فيها، لا تستقر؛ إلا ابن أبي عبلة، فإنه قرأ برفع مستقر وتنوينه على إعمالهاإعمال ليس، نحو قول الشاعر:

تعز فلا شيء على الأرض باقيا     ولا وزر مما قضى الله واقياً

الإشارةبذلك إلى جري الشمس: أي ذلك الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق. {تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ }: الغالب بقدرته على كل مقدور،المحيط علماً بكل معلوم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وابن محيصن، والحسن: بخلاف عنه. {وَٱلْقَمَرِ }: بالرفع على الابتداء؛وباقي السبعة: بالنصب على الاشتغال. و{قَدَّرْنَـٰهُ } على حذف مضاف، أي قدرنا سيره، و{مَنَازِلَ }: طرف، أي منازله؛ وقيل: قدرنانوره في منازل، فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية وينقص في المنازل الاستقبالية. وقيل: قدرناه: جعلنا أنه أجريجريه عكس منازل أنوار الشمس، ولا يحتاج إلى حذف حرف الصفة، فإن جرم القمر مظلم، ينزل فيه النور لقبوله عكسضياء الشمس، مثل المرأة المجلوة إذا قوبل بها الشعاع. وهذه المنازل معروفة عند العرب، وهي ثمانية وعشرون منزلة، ينزولالقمر كل ليلة في واحد منها، لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه، على تقدير مستولا بتفاوت، يسير فيها من ليلة المستهلإلى الثامنة والعشرين، ثم يسير ليلتين إذا نقص الشهر، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة،وهي: الشرطين، البطين، الثريا، الدبوان، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الدبرة، الصرفة، العواء، السماك، العفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة،النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرع الدلو المقدم، فرع الدلو المؤخر، بطن الحوت، ويقال لهالرشاء، فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس واصفر، فشبه العرجون القديم من ثلاثة الأوجه. وقرأ سليمان التيمي: كالعِرجون، بكسرالعين وفتح الجيم؛ والجمهور: بضمها، وهما لغتان كالبريون. و{ٱلْقَدِيمِ }: ما مر عليه زمان طويل. وقيل: أقل عدة الموصوف بالقدمحول، فلو قال رجل: كل مملوك لي قديم فهو حر، أو كتب ذلك في وصية، عتق منهم من مضى لهحول وأكثر. انتهى. والقدم أمر نسبي، وقد يطلق على ما ليس له سنة ولا سنتان، فلا يقال العالم قديم، وإنماتعتبر العادة في ذلك. {لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ }: ينبغي لها مستعملة فيما لا يمكن خلافه،أي لم يجعل لها قدرة على ذلك، وهذا الإدراك المنبغي هو، قال الزمخشري: إن الله تعالى جعل لكل واحد منالليل والنهار وآيتيهما قسماً من الزمان، وضرب له حداً معلوماً، ودبر أمرهما على التعاقب. فلا ينبغي للشمس أن لا يستهللها، ولا يصح، ولا يستقيم، لوقوع التدبير على العاقبة. وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان، على حياله أن يدركالقمر، فتجتمع معه في وقت واحد، وتداخله في سلطانه، فتطمس نوره. ولا يسبق الليل النهار، يعني آية الليل آية النهار،وهما النيران. ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، وينقص ما ألف، فيجمعبين الشمس والقمر، فتطلع الشمس من مغربها. انتهى. وقال ابن عباس، والضحاك: إذا طلعت، لم يكن للقمر ضوء؛ وإذا طلع،لم يكن للشمس ضوء. وقال مجاهد: لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر. وقال قتادة: لكل أحد حدّ لا يعدوه ولايقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا. وقال ابن عباس أيضاً: إذا اجتمعا في السماء، كان أحدهما بين يديالآخر، في منازل لا يشتركان فيها. وقال الحسن: لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة، أي لا تبقى الشمس حتىيطلع الفجر، ولكن إذا غربت طلع. وقال يحيـى بن سلام: لا تدركه ليلة البدر خاصة، لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها.وقيل: لا يمكنها أن تدركه في سرعته، لأن دائرة فلك القمر داخلة في فلك عطارد، وفك عطارد داخل في فلكالزهرة، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس. فإذا كان طريق الشمس أبعد، قطع القمر جميع أجزاء فلكه، أي من البروجالاثني عشر، في زمان تقطع الشمس فيه برجاً واحداً من فلكه. وقال النحاس: ما قيل فيه، وأبينه أن مسير القمرمسير سريع، والشمس لا تدركه في السير. انتهى، وهو ملخص القول الذي قبله: {وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ }، لا يعارضقوله:

{ يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً }

، لأن ظاهر قوله: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا }، أن النهار سابق أيضاً، فيوافق الظاهر. وفهم أبوعبد الله الرازي من قوله: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } أن النهار يطلب الليل، والليل سابقه. وفهم من قوله: {وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُٱلنَّهَارِ }، أن الليل مسبوق لا سابق، فأورده سؤالاً. وقال: كيف يكون الليل سابقاً مسبوقاً؟ وأجاب بأن المراد من الليلهنا سلطان الليل، وهو القمر، وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة. والمراد من الليل هناك نفس الليل، وكل واحدلما كان في عقب الآخر كان طالبه. انتهى. وعرض له هذا السؤال لكونه جعل الضمير الفاعل في يطلبه عائداً علىالنهار، وضمير المفعول عائداً على الليل. والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل، لأنهكان قبل دخول همزة النقل

{ يَغْشَى الليل النهار }

، وضمير المفعول عائد على النهار، لأنه المفعول قبل النقل وبعده. وقرأ عمارةبن عقيل بن بلال بن جرير الخطفي: سابق بغير تنوين، النهار: بالنصب. قال المبرد: سمعته يقرأ فقلت: ما هذا؟ قال:أردت سابق النهار، فحذفت لأنه أخف. انتهى، وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين. وتقدّم شرح: {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } فيسورة الأنبياء. والظاهر من الذرية أنه يراد به الأبناء ومن نشأ منهم. وقيل: ينطلق على الآباء وعلى الأبناء، قالهأبو عثمان. وقال ابن عطية: هذا تخليط، ولا يعرف هذا في اللغة. انتهى. وتقدّم الكلام في الذرية في آل عمران.والظاهر أن الضمير في لهم وفي ذرياتهم عائد على شيء واحد، فالمعنى أنه تعالى حمل ذريات هؤلاء، وهم آباؤهم الأقدمون،في سفينة نوح عليه السلام، قاله ابن عباس وجماعة. ومن مثله: للسفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامةأو أريد بقوله: ذرياتهم، حذف مضاف، أي ذريات جنسهم، وأريد بالذرية من لا يطيق المشي والركوب من الذرية والضعفاء. فالفلكاسم جنس من عليهم بذلك، وكون الفلك مراداً به الجنس، قاله ابن عباس أيضاً ومجاهد والسدّي، ومن مثله: الإبل وسائرما يركب. وقيل: الضميران مختلفان، أي ذرية القرون الماضية، قاله عليّ بن سليمان، وكان آية لهؤلاء، إذ هم نسل تلكالذرية. وقيل: الذرية: النطف، والفلك المشحون: بطون النساء، ذكره الماوردي، ونسب إلى عليّ بن أبي طالب، وهذا لا يصح، لأنهمن نوع تفسير الباطنية وغلاة المتصوفة الذين يفسرون كتاب الله على شيء لا يدل عليه اللفظ بجهة من جهات الدلالة،يحرفون الكلم عن مواضعة. ويدل على أنه أريد ظاهر الفلك قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ }: يعني الإبلوالخيل والبغال والحمير، والمماثلة في أنه مركوب مبلغ للأوطان فقط، هذا إذا كان الفلك جنساً. وأما إن أريد به سفينةنوح، فالمماثلة تكون في كونها سفناً مثلها، وهي الموجودة في بني آدم. ويبعد قول من قال: الذرية في الفلك قومنوح في سفينته، والمثل الأجل: وما يركب، لأنه يدفعه قوله: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ }. وقرأ نافع، وابن عامر، والأعمش، وزيدبن عليّ، وأبان بن عثمان: ذرياتهم بالجمع؛ وكسر زيد وأبان الذال؛ وباقي السبعة، وطلحة، وعيسى: بالإفراد. وقال الزمخشري: ذريتهم: أولادهمومن يهمهم حمله. وقيل: اسم الذرية يقع على النساء، لأنهن مزراعها. وفي الحديث: «أنه نهى عن قتل الذراري»، يعني النساء.{مّن مّثْلِهِ }: من مثل الفلك، {مَا يَرْكَبُونَ }: من الإبل، وهي سفائن البر. وقيل: {ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ }: سفينةنوح. ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها: أنه حمل فيها آباؤهم الأقدمون، وفي أصلابهم هم وذرياتهم. وإنما ذكر ذرياتهم دونهم، لأنهأبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. و{مّن مّثْلِهِ}: من مثل ذلك الفلك، {مَا يَرْكَبُونَ }: من السفن. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي: إنما خص الذريات بالذكر،لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم، أي لم يكن الحمل حملاً لهم، وإنما كان حملاً لما في أصلابهممن المؤمنين. وقال أيضاً: الضمير في وآية لهم عائد على العباد في قوله: {خَـٰمِدُونَ يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } ثم قالبعد {وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلاْرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـٰهَا }، {وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ }، {وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ }: ذريات العباد، ولايلزم أن يكون الضمير في الموضعين لمعنيين، فهو كقوله:

{ لاَ تَقْتُلُواْ * أَنفُسَكُـمْ }

، إنما يريد: لا يقتل بعضكم بعضاً،فذلك هذا. {وَءايَةٌ لَّهُمُ }: أي آية كل بعض منهم، {أَنَّا حَمَلْنَا } ذرية كل بعض منهم، أو ذرية بعضمنهم. انتهى. والظاهر فلي قوله: {وَخَلَقْنَا } أنه أريد الإنشاء والاختراع، فالمراد الإبل وما يركب، وتكون من للبيان، وإن كانما يصنعه الإنسان قد ينسب إلى الله خلقاً، لكن الأكثر ما ذكرنا. وإذا أريد به السفن، تكون من للتبعيض، ولهمالظاهر عوده على ما عاد عليه {وَءايَةٌ لَّهُمُ }، لأن المحدث عنهم، وجوز أن يعود على الذرية؛ والظاهر أن الضميرفي مثله عائد على الفلك. وقيل: يعود على معلوم غير مذكور وتقديره: من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله:

{ سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى خَلَق ٱلاْزْوٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلاْرْضُ }

، كما قالوا: في قوله {مِن ثَمَرِهِ }، أي من ثمر ماذكرنا. وقرأ الحسن: نغرقهم مشدداً؛ والجمهور: مخففاً؛ والصريح: فعيل بمعنى صارخ: أي مستغيث، ويمعنى مصرخ: أي مغيث، وهذا معناه هنا،أي فلا مغيث لهم ولا معين. وقال الزمخشري: {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ }: أي فلا إغاثة لهم. انتهى. كأنه جعله مصدراًمن أفعل، ويحتاج إلى نقل أن صريخاً يكون مصدراً بمعنى صراخ. والظاهر أن قوله: {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ }: أي لامغيث لهؤلاء الذين شاء الله إغراقهم، {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ }: أي ينجون من الموت بالغرق. نفي أولاً الصريخ، وهو خاص؛ثم نفى ثانياً إنقاذهم بصريخ أو غيره. وقال ابن عطية: وقوله {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } استئناف إخبار عن المسافرين فيالبحر، ناجين كانوا أو مغرقين، فهم في هذه الحال لا نجاة لهم إلا برحمة الله. وليس قوله: {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} مربوطاً بالمغرقين، وقد يصح ربطه به، والأول أحسن فتأمله. انتهى، وليس بحسن ولا أحسن. والفاء في {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} تعلق الجملة بما قبلها تعليقاً واضحاً، وترتبط به ربطاً لائحاً. والخلاص من العذاب بما يدفعه من أصله، فنفي بقوله:{فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ }، وما يرفعه بعد وقوعه، فنفي بقوله: {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ }. وانتصب {رَحْمَةً } على الاستثناء المفرغللمفعول من أجله، أي لرحمة منا. وقال الكسائي، والزجاج: {إِلَىٰ حِينٍ }: أي إلى حين الموت، قاله قتادة. وقال الزمخشري:إما لرحمة منا، وليتمتع بالحياة إلى حين: أي إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موتالغرق. انتهى. وإنما قال: لا بد لهم من موت الغرق، لأنه تعالى قال {وَإِن نَّشَأْ }: أي إغراقهم، {نُغْرِقْهُمْ }:فمن شاء إغراقه لا بد أن يموت بالغرق. والظاهر أن {رَحْمَةً }، {وَمَتَـٰعاً إِلَىٰ حِينٍ } يكون للذين ينقذون، فلايفيد الدوام، بل ينقذه الله رحمة له ويمتعه إلى حين ثم يميته. وقيل: فيه تقسيم، إلا رحمة لمن علم أنهيؤمن من فينقذه الله رحمة، ومن علم أنه لا يؤمن يمنعه زماناً ويزداد إثماً. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَابَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايَـٰتِ رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَاقِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء ٱللَّهُ * أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْإِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ * وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْيَخِصّمُونَ * فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مّنَ ٱلاْجْدَاثِ إِلَىٰ رَبّهِمْ يَنسِلُونَ* قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً فَإِذَاهُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }. الضمير في{لَهُمْ } لقريش، و{مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ }، قال قتادة ومقاتل: عذاب الأمم قبلكم، {وَمَا خَلْفَكُمْ }: عذاب الآخرة. وقال مجاهد:عكسه. وقال الحسن: خوفوا بما مضى من ذنوبهم وما يأتي منها. وقال مجاهد أيضاً، كقول الحسن: {مَا تَقَدَّمَ مِن }ذنوبكم وما تأخر، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }. وجواب إذا محذوف يدل عليه ما بعده، أي أعرضوا. {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ }:أي دأبهم الإعراض عند كل آية تأتيهم. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ }: لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم منالمستضعفين، قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به، وكان ذلك بمكة أولاً قبل نزول آيات القتال، فندبهم المؤمنون إلى صلة قراباتهمفقالوا: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ }. وقيل: سحق قريش بسبب أذية المساكين من مؤمن وغيره، فندبهم النبي صلىالله عليه وسلم إلى النفقة عليهم، فقالوا هذا القول. وقيل: قال فقراء المؤمنين: أعطونا ما زعمتم من أموالكم، إنها لله،فحرموهم وقالوا ذلك على سبيل الاستهزا. وقال ابن عباس: كان بمكة زنادقة، إذا أمروا بالصدقة قالوا: لا والله، أيفقره اللهونطمعه نحن؟ أو كانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله: لو شاء الله لأغنى فلاناً، ولو شاء لأعزه، ولو شاءلكان كذا، فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون. وقال القشيري: نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنونبالصانع، استهزاء بالمسلمين بهذا القول. وقال الحسن: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ }، أي اليهود، أمروا بإطعام الفقراء. وجواب لو نشاءقوله: اطعمهم، وورود الموجب بغير لام فصيح، ومنه:

{ أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـٰهُمْ }

{ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـٰهُ أجاجاً }

؛ والأكثر مجيئه باللام،والتصريخ بالموضعين من الكفر والإيمان دليل على أن المقول لهم هم الكافرون، والقائل لهم هم المؤمنون، وأن كل وصف حاملصاحبه على ما صدر منه، إذ كل إناء بالذي فيه يرشح. وأمروا بالانفاق {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ }، وهو عامفي الإطعام وغيره، فأجابوا بغاية المخالفة، لأن نفي إطعامهم يقتضي نفي الإنفاق العام، فكأنهم قالوا: لا ننفق، ولا أقل الأشياءالتي كانوا يسمحون بها ويؤثرون بها على أنفسهم، وهو الإطعام الذي به يفتخرون، وهذا على سبيل المبالغة. كمن يقول لشخص:أعط لزيد ديناراً، فيقول: لا أعطيه درهماً، فهذا أبلغ لا أعطيه ديناراً. والظاهر أن قوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍمُّبِينٍ } من تمام كلام الكفار يخاطبون المؤمنين، أي حيث طلبتم أن تطعموا من لا يريد الله إطعامه، إذ لوأراد الله إطعامه لأطعمه هو. ويجوز أن يكون من قول الله لهم استأنف زجرهم به، أو من قول المؤمنين لهم.ثم حكي تعالى عنهم ما يقولون على سبيل الاستهزاء والتعجيل: لما توعدون به؟ أي متى يوم القيامة الذي أنتم توعدوننابه؟ أو متى هذا العذاب الذي تهددوننا به؟ وهو سؤال على سبيل الاستهزاء منهم لما أمروا بالتقوى، ولا يتقي إلامما يخاف، وهم غير مؤمنين. سألوا متى يقع هذا الذي تخوفونا به استهزاء منهم. {مَا يَنظُرُونَ }: أي ماينتطرون. ولما كانت هذه الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها، وهذه هي النفخة الأولى تأخذهم فيهلكون، وهم يتخاصمون،أي في معاملاتهم وأسواقهم، في أماكنهم من غير إمهال لتوصية، ولا رجوع إلى أهل. وفي الحديث: تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه، فما يطويانه حتى تقوم، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه، والرجل يرفع أكلته إلي فيه، فما تصل إلي فيه حتى تقوم . وقيل: لا يرجعون إلى أهلهم قولاً؛ وقيل: ولا إلى أهلهم يرجعون أبداً. وقرأ أبي: يختصمون على الأصل؛ والحرميان،وأبو عمرو، والأعرج، وشبل، وابن فنطنطين: بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها إلى الخاء؛ وأبو عمرو أيضاً، وقالون: يخالف بالاختلاسوتشديد الصاد، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم؛ وباقي السبعة: بكسر الخاء وشد الصاد؛ وفرقة: بكسر الياء إتباعاً لكسرةالخاء وشد الصاد. وقرأ ابن محيصن: يرجعون، بضم الياء وفتح الجيم. وقرأ الأعراج: في الصور، بفتح الواو؛ والجمهور: بإسكانها. وقرىء:من الأجداف، بالفاء بدل الثاء. وقرأ الجمهور: بالثاء، وينسلون، بكسر السين؛ وابن أبي إسحاق، وأبو عمرو: بخلاف عنه بضمها. وهذهالنفخة هي الثانية التي يقوم الناس أحياء عنها. ولا تنافر بين {يَنسِلُونَ } وبين

{ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }

، لأنهلا ينسل إلا قائماً، ولأن تفاوت الزمانين يجعله كأنه زمان واحد. وقرأ ابن أبي ليلى: يا ويلتنا، بتاء التأنيث؛وعنه أيضاً: يا ويلتى، بالتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة، ومعنى هذه القراءة: أن كل واحد منهم يقول ياويلتىٰ. والجمهور: و{مَن بَعَثَنَا }: من استفهاما، وبعث فعل ماض؛ وعلي، وابن عباس، والضحاك، وأبو نهيك: من حرف جر، وبعثنامجرور به. والمرقد: استعارة عن مضجع الميت، واحتمل أن يكون مصدراً، أي من رقادنا، وهو أجود. أو يكون مكاناً، فيكونالمفرد فيه يراد به الجمع، أي من مراقدنا. وما روي عن أبيّ بن كعب ومجاهد، وقتادة: من أن جميع البشرينامون نومة قبل الحشر، فقالوا: هو غير صحيح الإسناد. وقيل: قالوا من مرقدناً، لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنبما صاروا إليه من عذاب جهنم. والظاهر أن هذا ابتداء كلام، فقيل: من الله، وعلى سبيل التوبيخ والتوقيف على إنكارهم.وقال الفراء: من قول الملائكة. وقال قتادة، ومجاهد: من قول المؤمنين للكفار، على سبيل التقريع. وقال ابن زيد: من قولالكفرة، أو البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا، قالوا ذلك. والاستفهام بمن سؤال عن الذي بعثهم، وتضمن قوله: {هَذَامَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ }، ذكر الباعث، أي الرحمن الذي وعدكموه، وما يجوز أن تكون مصدرية على سمة الموعود، والمصدر فيهبالوعد والصدق، وبمعنى الذي، أي هذا الذي وعده الرحمن. والذي صدق المرسلون، أي صدق فيه من قولهم: صدقت زيداً الحديث،أي صدقه فيه؛ ومنه قولهم: صدقني سن بكره، أي في سنّ بكره. وقال الزجاج: ويجوز أن يكون إشارة إلى المرقد،ثم استأنف ما وعد الرحمن، ويضمر الخبر حق أو نحوه. وتبعه الزمخشري فقال: ويجوز أن يكون هذا صفة للمرقد، وماوعد خبر مبتدأ محذوف، أي هذا وعد الرحمن، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي ما وعد الرحمن وصدق المرسلون حق عليكم.انتهى. وتقدمت قراءة {إِلاَّ صَيْحَةً } بالرفع وتوجيهها. {فَٱلْيَوْمَ }: هو يوم القيامة، وانتصب على الظرف، والعامل فيه لا يظلم.والظاهر أن الخطاب لجميع العالم، ويندرج فيه من تقدم ذكره. قيل: والصيحة قول إسرافيل عليه السلام: أيتها العظام النخرة والأوصالالمنقطعة والشعور المتمزقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، وهذا معنى قوله تعالى:

{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ }

. {إِنَّ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَـٰكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوٰجُهُمْ فِى ظِلَـٰلٍ عَلَى ٱلاْرَائِكِ * ٱلاْرَائِكِ مُتَّكِئُونَ* لَهُمْ فِيهَا فَـٰكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ * وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ * أَلَمْأَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْأَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ * هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ * ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ *ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوٰهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصّرٰطَ فَأَنَّىٰيُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَـٰهُمْ عَلَىٰ مَكَــٰنَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَـٰعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ * وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّـسْهُ فِى ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ* وَمَا عَلَّمْنَـٰهُ ٱلشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءانٌ مُّبِينٌ * لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُعَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ }. لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة، أعقب ذلك بحال السعداء والأشقياء. والظاهر أنه إخبار لنا بمايكونون فيه إذا صاروا إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب. وقيل: هو حكاية ما يقال في ذلك اليوم، وفيمثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود له في النفوس، وترغيب إلى الحرص عليه وفيما يثمره؛ والظاهر أن الشغل هو النعيمالذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال. وقال قريباً منه مجاهد، وبعضهم خص هذا الشغل بافتضاض الأبكار، قاله ابنعباس؛ وعنه أيضاً: سماع الأوتار. وعن الحسن: شغلوا عن ما فيه أهل النار. وعن الكلبي: عن أهاليهم من أهل النار،لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا. وعن ابن كيسان: الشغل: التزاور. وقيل: ضيافة الله، وأفرد الشغل ملحوظاً فيه النعيم، وهو واحد منحيث هو نعيم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: بضم الشين وسكون الغين؛ وباقي السبعة بضمها؛ ومجاهد، وأبو السمال، وابن هبيرة فيمانقل ابن خالويه عنه: بفتحتين؛ ويزيد النحوي، وابن هبيرة، فيما نقل أبو الفضل الرازي: بفتح الشين وإسكان الغين. وقرأ الجمهور:{فَـٰكِهُونَ }، بالألف؛ والحسن، وأبو جعفر، وقتادة، وأبو حيوة، ومجاهد، وشيبة، وأبو رجاء، ويحيـى بن صبيح، ونافع في رواية: بغيرألف؛ وطلحة، والأعمش: فاكهين، بالألف وبالياء نصباً على الحال، وفي شغل هو الخبر. فبالألف أصحاب فاكهة، كما يقال لابن وتامروشاحم ولاحم، وبغير ألف معناه: فرحون طربون، مأخوذ من الفكاهة وهي المزحة، وقرىء: فكهين، بغير ألف وبالياء. وقرىء: فكهون، بضمالكاف. يقال: رجل فكه وفكه، نحو: يدس ويدس. ويجوز في هم أن يكون مبتدأ، وخبره في ظلال، ومتكؤن خبر ثان،أو خبره متكئون، وفي ظلال متعلق به، أو يكون تأكيداً للضمير المستكن في فاكهون، وفي ظلال حال، ومتكئون خبر ثانلأن، أو يكون تأكيداً للضمير المستكن في شغل، المنتقل إليه من العامل فيه. وعلى هذا الوجه والذي قبله يكونالأزواج قد شار كوهم في التفكه والشغل والاتكاء على الأرائك، وذلك من جهة المنطوق. وعلى الأول، شاركوهم في الظلال والاتكاءعلى الأرائك من حيث المنطوق، وهن قد شاركنهم في التفكه والشغل من حيث المعنى. وقرأ الجمهور: {فِى ظِلَـٰلٍ }. قالابن عطية: وهو جمع ظل، إذ الجنة لا شمس فيها، وإنما هواؤها سجسج، كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس. انتهى. وجمعفعل على فعال في الكثرة، نحو: ذئب وذئاب. وأما أن وقت الجنة كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس، فيحتاج هذا إلىنقل صحيح. وكيف يكون ذلك؟ وفي الحديث ما يدل على حوراء من حور الجنة، لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا، أونحو من هذا؟ قال: ويحتمل أن يكون جمع ظلة. قال أبو عليّ: كبرمة وبرام. وقال منذر بن سعيد: جمع ظلة،بكسر الظاء. قال ابن عطية: وهي لغة في ظلة. انتهى. فيكون مثل لقحة ولقاح، وفعال لا ينقاس في فعلة بليحفظ. وقرأ عبد الله، والسلمي، وطلحة، وحمزة، والكسائي: في ظل جمع ظلة، وجمع فعلة على فعل مقيس، وهي عبارة عنالملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها من الأشياء التي تظل. وقرأ عبد الله: متكئين، نصب على الحال؛ ويدعون مضارع ادعى،وهو افتعل من دعا، ومعناه: ولهم ما يتمنون. قال أبو عبيدة: العرب تقول ادع علي ما شئت، بمعنى تمن عليّوتقول فلان في خبر ما تمنى. قال الزجاج: وهو من الدعاء، أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم. وقيل: يدعون بهلأنفسهم. وقيل: يتداعونه لقوله ارتموه وتراموه. وقرأ الجمهور: سلام بالرفع. وهو صفة لما، أي مسلم لهم وخالص. انتهى. ولايصح إن كان ما بمعنى الذي، لأنها تكون إذ ذاك معرفة. وسلام نكرة، ولا تنعت المعرفة بالنكرة. فإن كانت مانكرة موصوفة جاز، إلا أنه لا يكون فيه عموم، كحالها بمعني الذي. وقيل: سلام مبتدأ ويكون خبره ذلك الفعل الناصبلقوله: {قَوْلاً }، أي سلام يقال، {قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ }، أو يكون عليكم محذوفاً، أي سلام عليكم، {قَوْلاً مّنرَّبّ رَّحِيمٍ }. وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي هو سلام. وقال الزمخشري: {سَلاَمٌ قَوْلاً } بدل من {مَّا يَدَّعُونَ }،كأنه قال: لهم سلام يقال لهم قولاً من جهة رب رحيم، والمعنى: أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة، أو بغيرواسطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم، ولهم ذلك لا يمنعونه. قال ابن عباس: والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين.انتهى. وإذا كان سلام بدلاً من ما يدعون خصوصاً. والظاهر أنه عموم في كل ما يدعون، وإذا كان عموماً، لميكن سلام بدلاً منه. وقيل: سلام خبر لما يدعون، وما يدعون مبتدأ، أي ولهم ما يدعون سلام خالص لا شربفيه، وقولاً مصدر مؤكد، كقوله: {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ * سَلَـٰمٌ }: أي عدة من رحيم. قال الزمخشري: والأوجه أن ينتصبعلى الاختصاص، وهو من مجازه. انتهى. ويكون لهم متعلقاً على هذا الإعراب بسلام. وقرأ محمد بن كعب القرظي: سلم، بكسرالسين وسكون اللام، ومعناه سلام. وقال أبو الفضل: الرازي: مسالم لهم، أي ذلك مسالم. وقرأ أبيّ، وعبد الله، وعيسى، والقنوي:سلاماً، بالنصب على المصدر. وقال الزمخشري: نصب على الحال، أي لهم مرادهم خالصاً. {وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ }: أي انفردوا عنالمؤمنين، لأن المحشر جمع البر والفاجر، فأمر المجرمون بأن يكونوا على حدة من المؤمنين. والظاهر أن ثم قولاً محذوفاً لماذكر تعالى ما يقال للمؤمنين في قوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ }، قيل: ويقال للمجرمين: {*امتازوا}. ولما امتثلوا ماأمروا به، قال لهم على جهة التوبيخ والتقريع: {ٱلْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ }؟ وقفهم على عهده إليهم ومخالفتهم إياه. وعنالضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى، فعلى هذا معناه أن بعضهم من بعض. وعنقتادة: اعتزلوا عن كل خير. والعهد: الوصية، عهد إليه إذا وصاه. وعهد الله إليهم: ما ركز فيهم من أدلة العقل،وأنزل إليهم من أدلة السمع. وعبادة الشياطين: طاعته فيما يغويه ويزينه. وقرأ الجمهور: أعهد، بفتح الهمزة والهاء. وقرأ طلحة، والهذيلبن شرحبيل الكوفي: بكسر الهمزة، قاله صاحب اللوامح، وقال لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروفالمضارعة، يعني: نعهد وتعهد. وقال ابن خالويه: ألم أعهد؛ يحيـى بن وثاب: ألم أحد، تميم. وقال ابن عطية: وقرأ الهذيلابن وثاب: ألم أعهد، بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء، وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء. وروي عنابن وثاب: ألم أعهد، بكسر الهاء، يقال: عهد يعهد. انتهى. وقوله: بكسر الميم والهمزة يعني أن كسر الميم يدل علىكسر الهمزة، لأن الحركة التي في الميم هي حركة نقل الهمزة المكسورة، وحذفت الهمزة حين نقلت حركتها إلى الساكن قبلهاوهو الميم. اعهد بالهمزة المقطوعة المكسورة لفظاً، لأن هذا لا يجوز. وقال الزمخشري: وقرىء أعهد بكسر الهمزة، وباب فعل كلهيجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء؛ وأعهد بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم،وضرب يضرب، وأحهد بالحاء وأحد، وهي لغة تميم، ومنه قولهم: دحا محا. انتهى. وقوله: إلا في الياء، لغة لبعض كلبأنهم يكسرون أيضاً في الياء، يقولون: هل يعلم؟ وقوله: دحا محا، يريدون دعها معها، أدغموا العين في الحاء، والإشارة بهذاإلى ما عهد إليهم معصيه الشيطان وطاعة الرحمن. وقرأ نافع، وعاصم: {جِبِلاًّ }، بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وهيقراءة أبي حيوة، وسهيل، وأبي جعفر، وشيبة، وأبي رجاء؛ والحسن: بخلاف عنه. وقرأ العربيان، والهذيل بن شرحبيل: بضم الجيم وإسكانالباء؛ وباقي السبعة: بضمها وتخفيف اللام؛ والحسن بن أبي إسحاق، والزهري، وابن هرمز، وعبدالله بن عبيد بن عمير، وحفص بنحميد: بضمتين وتشديد اللام؛ والأشهب العقيلي، واليماني، وحماد بن مسلمة عن عاصم: بكسر الجيم وسكون الباء؛ والأعمش: جبلاً، بكسرتين وتخفيفاللام. وقرىء: جبلاً بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام، جمع جبلة، نحو فطرة وفطر، فهذه سبع لغات قرىء بها. وقرأعلي بن أبي طالب وبعض الخراسانيين: جيلاً، بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف، واحد الأجيال؛ والجبل بالباء بواحدة من أسفلالأمة العظيمة. وقال الضحاك: أقله عشرة آلاف. خاطب تعالى الكفار بما فعل معهم الشيطان تقريعاً لهم. وقرأ الجمهور: {أَفَلَمْ تَكُونُواْ} بتاء الخطاب؛ وطلحة، وعيسى: بياء الغيبة، عائداً على جبل. ويروى أنهم يجحدون ويخاصمون، فيشهد عليهم جيرانهم وعشائرهم وأهاليهم، فيحلفونما كانوا مشركين، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم و أرجلهم. وفي الحديث: يقول العبد يوم القيامة: إني لا أجيز عليّ شاهد إلا من نفسي فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقال: بعداً لكنّ وسحقاً، فعنكنّ كنت أناضل . وقرىء: يختم مبنياً للمفعول، وتتكلم أيديهم، بتاءين. وقرىء: ولتكلمنا أيديهم، بتاءين. وقرىء: ولتكلمنا أيديهمولتشهد بلام الأمر والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. وروي عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيهعن جده طلحة أنه قرأ: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد، بلام كي والنصب على معنى: وكذلك يختم على أفواهم. والظاهر أن الأعينهي الأعضاء المبصرة، والمعنى: لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون، قاله الحسن وقتادة، ويؤيده مناسبة المسخ، فهم في قبضة القدرة وبروجالعذاب إن شاءه الله لهم. وقال ابن عباس: أراد عين البصائر، والمعنى: ولو نشاء لختمت عليهم بالكفر فلا يهتدي منهمأحد أبداً. والطمس: إذهاب الشيء وأثره جملة حتى كأنه لم يوجد. فإن أريد بالأعين الحقيقة، فالظاهر أنه يطمس بمعنى يمسخحقيقة، ويجوز أن يكون الطمس يراد به العمى من غير إذهاب العضو وأثره. وقرأ الجمهور: {فَاسْتَبِقُوا }، فعلاً ماضياً معطوفاًعلى {لَطَمَسْنَا }، وهو على الفرض والتقدير. والصراط منصوب على تقدير إلى حذفت ووصل الفعل، والأصل فاستبقوا إلى الصراط، أومفعولاً به على تضمين استبقوا معنى تبادروا، وجعله مسبوقاً إليه. قال الزمخشري: أو ينتصب على الظرف، وهذا لا يجوز، لأنالصراط هو الطريق، وهو ظرف مكان مختص. لا يصل إليه الفعل إلا بوساطة في إلا في شذوذ، كما أنشد سيبويه:

لدن بهز الكف يعسل متنه     فيه كما عسل الطريق الثعلب

ومذهب ابن الطراوة أنالصراط والطريق والمخرم، وما أشبهها من الظروف المكانية ليست مختصة، فعلى مذهبة يسوع ما قاله الزمخشري. وقرأ عيسى: فاستبقوا علىالأمر، وهو على إضمار القول، أي فيقال لهم استبقوا الصراط، وهذا على سبيل التعجيز، إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمسالأعين. {فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ }: أي كيف يبصر من طمس على عينه؟ والظاهر أن المسخ حقيقة، وهو تبديل صورهم بصور شنيعة.قال ابن عباس: {لَمَسَخْنَـٰهُمْ } قردة وخنازير، كما تقدم في بني إسرائيل؛ وقيل حجارة. وقال الحسن، وقتادة، وجماعة: لأقعدناهم وأزمناهم،فلا يستطيعون تصرفاً. والظاهر أن هذا لو كان يكون في الدنيا. وقال ابن سلام: هذا التوعد كله يوم القيامة. وقرأالحسن: {عَلَىٰ مَكَــٰنَتِهِمْ }، بالافراد، وهي المكان، كالمقامة والمقام. وقرأ الجمهور، وأبو بكر: بالجمع. والجمهور: {مُضِيّاً }، بضم الميم: وأبوحيوة، وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي: بكسرها اتباعا لحركة الضاد، كالعتبي والقتبي، وزنه فعول. التقت واو ساكنة وياء، فأبدلتالواو ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبلها لتصح الياء. وقرىء: مضياً، بفتح الميم، فيكون من المصادر التي جاءت علىفعيل، كالرسيم والوجيف. ولما ذكر تعالى الطمس والمسخ على تقدير المشبه، ذكر تعالى دليلاً على باهر قدرته في تنكيسالمعمر، وأن ذلك لا يفعله إلا هو تعالى. وتنكيسه: قلبه وجعله على عكس ما خلقه أولاً، وهو أنه خلقه علىضعف في جسد وخلو من عقل وعلم، ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال، إن أن يبلغ أشده وتستكملقوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه. فإذا انتهى نكسه في الخلق، فيتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبافي ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من الفهم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله، وفي هذا كله دليل على أنمن فعل هذه الأفاعيل قادر على أن يطمس وأن يفعل بهم ما أراد. وقرأ الجمهور: {نُنَكّـسْهُ }، مشدداً؛ وعاصم، وحمزة:مخففاً. وقرأ نافع، وابن ذكوان، وأبو عمرو في رواية عباس: تعقلون بتاء الخطاب؛ وباقي السبعة: بياء الغيبة. {وَمَا عَلَّمْنَـٰهُٱلشّعْرَ }: الضمير في علمناه للرسول ، كانوا يقولون فيه شاعر. وروي أن القائل عقبة بن أبيمعيط، فنفى الله ذلك عنه، وقولهم فيه شاعر. أما من كان في طبعه الشعر، فقوله مكابرة وإيهام للجاهل بالشعر؛ وأمامن ليس في طبعه، فقوله جهل محض. وأين هو من الشعر؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنىتنتخبه الشعراء من كثرة التخييل وتزويق الكلام، وغير ذلك مما يتورع المتدين عن إنشاده، فضلاً عن إنشائه: وكان عليه السلاملا يقول الشعر، وإذا أنشد بيتاً أحرز المعنى دون وزنه، كما أنشد:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا     ويأتيك من لم تزود بالأخبار

وقيل: من أشعر الناس، فقال الذي يقول:

ألم ترياني كلما جئت طارقاًوجدت بها وإن لم تطيب طيباً أتجعل نهبي ونهب العبيدبين الأقرع وعيينة    

وأنشد يوماً:

كفى بالاسلام والشيب ناهياً    

فقال أبوبكر وعمر: نشهد أنك رسول الله، إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام، وربما أنشد البيت متزناً في النادر. وروي عنهأنشد بيت أبن رواحة:

يبيت يجافي جنبه عن فراشه     إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

ولا يدل إجراءالبيت على لسانه متزناً أنه يعلم الشعر، وقد وقع في كلامه عليه السلام ما يدخله الوزن كقوله:

أنا النبي لا كذب     أنا ابن عبد المطلب

وكذلك قوله:

هل أنت إلا أصبع دميت     وفي سبيل الله ما لقيت

وهو كلام من جنس كلامه الذي كان يتكلم به على طبيعته،من غير صنعة فيه ولا قصد لوزن ولا تكلف. كما يوجد في القرآن شيء موزون ولا يعد شعراً، كقوله تعالى:

{ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ }

. وقوله:

{ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ }

. وفي كثير من النثرالذي تنشئه الفصحاء، ولا يسمى ذلك شعراً، ولا يخطر ببال المنشي ولا السامع أنه شعر. {وَمَا يَنبَغِى لَهُ }: أيولا يمكن له ولا يصح ولا يناسب، لأنه عليه السلام في طريق جد محض، والشر أكثره في طريق هزل، وتحسينلما ليس حسناً، وتقبيح لما ليس قبيحاً ومغالاة مفرطة. جعله تعالى لا يقرض الشعر، كما جعله أمياً لا يخط، لتكونالحجة أثبت والشبهة أدحض. وقيل: في هذه الآية دلالة على غضاضة الشعر، وقد قال عليه السلام: ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي . وذهب قوم إلى أنه لا غضاضة فيه، وإنما منعه الله نبيه عليه الصلاة والسلام. وإن كان حلية جليلةليجيء القرآن من قبله أغرب، فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن: هذا من تلك القوة. قال ابنعطية: وليس الأمر عندي كذلك، وقد كان عليه السلام من الفصاحة والبيان في النثر في الرتبة العليا، ولكن كلام اللهيبين بإعجازه ويندر بوصفه، ويخرجه إحاطة علم الله عن كل كلام؛ وإنما منع الله نبيه من الشعر ترفيعاً له عنما في قول الشعراء من التخييل والتزويق للقول. وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين، فما هو بقول شاعر، وهذا كانأسلوب كلامه، عليه السلام، وقولاً واحداً. انتهى. والضمير في له للرسول، أي وما ينبغي الشعر لرسول الله صلى الله عليهوسلم. وأبعد من ذهب إلى أنه عائد على القرآن، أي وما ينبغي الشعر للقرآن، ولم يجر له ذكر، لكن لهأن يقول: يدل الكلام عليه، ويبينه عود الضمير عليه في قوله: {وَمَا عَلَّمْنَـٰهُ ٱلشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ }: أي كتابسماوي يقرأ في المحاريب، وينال بتلاوته والعمل به ما فيه فوز الدارين. فكم بينه وبين الشعر الذي أكثره من همزاتالشياطين؟ وقرأ نافع، وابن عامر: لتنذر بتاء الخطاب للرسول؛ وباقي السبعة: بالياء للغيبة، فاحتمل أن يعود على الرسول، واحتمل أنيعود على القرآن. وقرأ اليماني: {لّيُنذِرَ }، بالياء مبنياً للمفعول، ونقلها ابن خالويه عن الجحدري. وقال عن أبي السمال واليمانيأنهما قرآ: لينذر، بفتح الياء والذال مضارع نذر بكسر الذال، إذا علم بالشيء فاستعد له. {مَن كَانَ حَيّاً }: أيغافلاً، قاله الضحاك، لأن الغافل كالميت؛ ويريد به من حتم عليه بالإيمان، وكذلك قابله بقوله: {وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ }: أي كلمةالعذاب، {عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } المحتوم لهم بالموافاة على الكفر. {أَوَ لَمْ * يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَاأَنْعـٰماً فَهُمْ لَهَا مَـٰلِكُونَ * وَذَلَّلْنَـٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ وَمَشَـٰرِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ * وَٱتَّخَذُواْمِن دُونِ ٱللَّهِ ءالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ * فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُمَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ *أَوَ لَمْ * يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَامَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلاْخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ * أَوَ لَيْسَ * ٱلَذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَبِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلَّـٰقُ ٱلْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* فَسُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }. الإخبار وتنبيه الاستفهام لقريش، وإعراضها عن عبادة الله، وعكوفهاعلى عبادة الأصنام. ولما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها البشر إلا باليد، عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله: {مِمَّاعَمِلَتْ أَيْدِينَا }: أي مما تولينا عمله، ولا يمكن لغيرنا أن يعمله. فبقدرتنا وإرداتنا برزت هذه الأشياء، لم يشركنا فيهاأحد، والباري تعالى منزه عن اليد التى هي الجارحة، وعن كل ما اقتضى التشبيه بالمحدثات. وذكر الأنعام لها لأنها كانتجل أموالهم، ونبه على ما يجعل لهم من منافعها. {لَهَا مَا }: أي ملكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك،مختصون بالانتفاع بها، أو {مَا }: ضابطون لها قاهرونها، من قوله:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا     أملك رأس البعير إن نفرا

أي: لا أضبطه، وهو من جملة النعم الظاهرة. فلو لا تذليله تعالى إياها وتسخيره، لميقدر عليها. ألا ترى إلى ما ندمنها لا يكاد يقدر على ردة؟ لذلك أمر بتسبيح الله راكبها، وشكره على هذهالنعمة بقوله بقوله:

{ سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كنا له مقرنين }

. وقرأ الجمهور: {لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ }، وهو فعولبمعنى مفعول، كالحضور والحلوب والقذوع، وهو مما لا ينقاس. وقرأ أبي، وعائشة: ركوبتهم بالتاء، وهي فعولة بمعنى مفعولة. وقال الزمخشري:وقيل الركوبة جمع. انتهى، ويعني اسم جمع، لأن فعولة بفتح الفاء ليس بجمع تكسير. وقد عد بعض أصحابنا أبنية أسماءالجموع، فلم يذكر فيها فعولة، فينبغي أن يعتقد فيها أنها اسم مفرد لاجمع تكسير ولا اسم جمع، أي مركوبتهم كالحلوبةبمعنى المحلوبة. وقرأ الحسن، وأبو البرهسم، والأعمش : ركوبهم، بضم الراء وبغير تاء، وهو مصدر حذف مضافة، أي ذو ركوبهم،أو فحسن منافعها ركوبهم، فيحذف ذو، أو يحذف منافع. قال ابن خالويه: العرب تقول: ناقة ركوب حلوب، وركوبة حلوبة، وركباةحلباة، وركبوب حلبوب، وركبي حلبي، وركبوتا حلبوتا، كل ذلك محكي، وأنشد:

ركبانة حلبانة زفوف     تخلط بين وبر وصوف

وأجمل المنافع هنا، وفضلها في قوله: { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام } الآية. والمشارب: جمع مشرب،وهو إما مصدر، أي شرب، أو موضع الشرب. ثم عنفهم واستجهلهم في اتخاذهم آلهة لطلب الاستنصار. {وَٱلْوِلْدٰنِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ }:أي الآلهة، نصر متخذيهم، وهذا هو الظاهر. لما اتخذوهم آلهة للاستنصار بهم، رد تعالى عليهم بأنهم ليس لهم قدرة علىنصرهم. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الضمير في {يَسْتَطِيعُونَ } عائد للكفار، وفي {نَصَرَهُمُ } للأصنام. انتهى. والظاهر أنالضمير في وهم عائد على ما هو الظاهر في {لاَ يَسْتَطِيعُونَ }، أي والآلهة للكفار جند محضرون في الآخرة عندالحساب على جهة التوبيخ والنقمة. وسماهم جنداً، إذ هم معدون للنقمة من عابديهم وللتوبيخ، أو محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقوداًللنار. قيل: ويجوز أن يكون الضمير في وهم عائداً على الكفار، وفي لهم عائداً على الأصنام، أي وهم الأصنام جندمحضرون متعصبون لهم متحيرون، يذبون عنهم، يعني في الدنيا، ومع ذلك لا يستطيعون، أي الكفار التناصر. وهذا القول مركب علىأن الضمير في لا يستطيعون للكفار. ثم آنس تعالى نبيه بقوله: {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ }: أي لا يهمك تكذيبهم وأذاهموجفاؤهم، وتوعد الكفار بقوله: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }، فنجازيهم على ذلك. {أَوَ لَمْ * يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ}: قبح تعالى إنكار الكفرة البعث، حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو نطفة ماء مهين خارج من مخرجالنجاسة. أفضى به مهانة أصلة إلى أن يخاصم الباري تعالى ويقول: من يحيى الميت بعدما رمّ؟ مع علمه أنه منشأمن موات. وقائل ذلك العاصي بن وائل، أو أمية بن خلف، أو أبي بن خلف، أقوال أصحهاأنه أبي بن خلف،رواه ابن وهب عن مالك، وقاله ابن اسحاق وغيره. والقول أنه أمية، قاله مجاهد وقتادة؛ ويحتمل أن كلاً منهم واقعذلك منه. وقد كان لأبي مع الرسول مراجعات ومقامات، جاء بالعظم الرميم بمكة، ففتته في وجهه الكريم وقال: منيحيى هذا يا محمد؟ فقال: الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم ، ثم نزلت الآية. وأبيّ هذا قتلة رسول الله صلىالله عليه وسلم بيده يوم أُحُد بالحرية، فخرجت من عنقه. ووهم من نسب إلى ابن عباس أن الجأئي بالعظم هوعبد الله بن أبي بن سلول، لأن السورة والآية مكية باجماع، ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذهالمهاجرة. وبين قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } وبين: {خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ }، جمل محذوفة تبين أكثرها في قوله فيسورة المؤمنون: { ثُمَّ جَعَلْنَـٰهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ } ، وإنما اعتقب قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } الوصف الذي آلإليه من التمييز والإدراك الذي يتأتى معه الخصام،أي فإذا هو بعدما كان نطفة، رجل مميز منطيق قادر على الخصام،مبين معرب عما في نفسه. {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ }: أي نشأته من النطفة، فذهل عنها وترك ذكرهاعلى طريق اللدد والمكابرة والاستبعاد لما لا يستبعد. وقرأ زيد بن علي: ونسي خالقه، اسم فاعل؛ والجمهور: خلقه، أي نشأته.وسمى قوله: {مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ } لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة اللهعلى إحياء الموتى، كما هم عاجزون عن ذلك. وقال الزمخشري: والرميم اسم لما بلى من العظام غير صفة، كالرمة والرفاة،فلا يقال: لم لم يؤنث؟ وقد وقع خبراً لمؤنث، ولا هو فعيل أو مفعول. انتهى. واستدل بقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا }على أن الحياة نحلها، وهذا الاستدلال ظاهر. ومن قال: إن الحياة لا تحلها، قال: المراد بإحياء العظام: ردها إلى ماكانت عليه غضة رطبة في بدن حسن حساس. {وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }: يعلم كيفيات ما يخلق، لا يتعاظمه شيءمن المنشآت والمعدات جنساً ونوعاً، دقة وجلالة. {ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلاْخْضَرِ نَاراً }: ذكر ما هو أغربمن خلق الإنسان من النطفة، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء، وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر. ألاترى أن الماء يطفى النار؟ ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء. والأعراب توري النار من الشجر الأخضر، وأكثرهامن المرخ والعفار. وفي أمثالهم: في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعفار. وفي أمثالهم: في كل شيء نار، واستمجد المرخوالعفار. يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين، وهما أخضران يقطر منهما الماء، فيستحق المرخ وهو ذكر، والعفار وهي أنثى، ينقدحالنار بإذن الله عز وجل. وعن ابن عباس: ليس شجر إلا وفيه نار إلا العنا. وقرأ الجمهور: الأخضر؛ وقرىء: الخضراء؛وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحده بالتاء؛ وأهل نجد يذكرون ألفاظاً، واستثنيت في كتب النحو. ثم ذكر ما هوأبدع وأغرب من خلق الإنسان من نطفة، ومن إعادة الموتى، وهو إنشاء هذه المخلوقات العظيمة الغريبة من صرف العدم إلىالوجود، فقال: {أَوَ لَيْسَ * ٱلَّذِى خَلَقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم }؟ وقرأ الجمهور: بقادر،بباء الجر داخلة على اسم الفاعل. وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام، ويعقوب: يقدر، فعلاً مضارعاً، أي من قدرعلى خلق السموات والأرض من عظم شأنهما، كان على خلق الأناس قادراً، والضمير في مثلهم عائد على الناس، قاله الرماني.وقال جماعة من المفسرين: عائد على السموات والأرض، وعاد الضمير عليهما كضمير من يعقل، من حيث كانت متضمنة من يعقلمن الملائكة والثقلين. وقال الزمخشري: {مّثْلُهُمْ } يحتمل معنيين: أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السموات والأرض، أوأن يعيدهم، لأن المصادر مثل للمبتدأ وليس به. انتهى. ويقول: إن المعاد هو عين المبتدأ، ولو كان مثله لم يسمذلك إعادة، بل يكون إنشاء مستأنفاً. وقرأ الجمهور: {ٱلْخَلَّـٰقُ } مبالغة المبالغة لكثرة مخلوقاته. وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار،وزيد بن علي: الخالق، اسم فاعل. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }: تقدّم شرحمثل هذه الجملة، والخلاف في فيكون من حيث القراءة نصباً ورفعاً. {فَسُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء }: تنزيه عامله تعالى من جميع النقائص. وقرأ الجمهور: ملكوت؛ وطحلة، والأعمش: ملكة على وزن شجرة، ومعناه: ضبط كل شيء والقدرة عليه.وقرىء: مملكة، على وزن مفعلة؛ وقرىء: ملك، والمعنى أنه متصرف فيه على ما أراد وقضى. والجمهور: {تُرْجَعُونَ }، مبنياً للمفعول،وزيد بن علي: مبنياً للفاعل.