تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة النحل
{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ } * { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } * { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } * { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } * { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } * { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } * { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } * { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } * { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } * { وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } * { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } * { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } * { أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } * { إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وَاحِدٌ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } * { لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } * { قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } * { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ إِنَّ ٱلْخِزْيَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوۤءَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } * { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ بَلَىٰ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } * { فَٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ }
[عدل]النطفة: القطرة من الماء، نظف رأسه ماء أي قطر. الدفء اسم لما يدَّفأبه أي يسخن. وتقول العرب: دفىء يومنا فهو دفيء إذا حصلت فيه سخونة تزيل البرد، ودفىء الرجل فداء ودفأ، وجمعالدفء أدفاء. ورجل دفآن وامرأة دفأى، والدفئة الإبل الكثيرة الأوبار، لا دفاء بعضها بعضاً بأنفاسها. وقد تشدَّد، وعن الأصمعي الدفئةالكثيرة الأوبار والشحوم. وقال الجوهري: الدفء نتاج الإبل وألبانها، وما ينتفع به منها. البغل: معروف، ولعمرو بن بحر الجاحظ كتابالبغال. الحمار: معيروف، يجمع في القلة على أحمر وفي الكثرة على حمر، وهو القياس وعلى حمير. الطرى: فعيل من طرويطر، وطراوة مثل سر ويسر سراوة. وقال الفراء: طري يطري طراء وطراوة مثل: شقى، يشقى، شقاء، وشقاوة. المخر: شق الماءمن يمين وشمال، يقال: مخر الماء الأرض. وقال الفراء: صوت جرى الفلك بالرياح، وقيل: الصوت الذي يكون من هبوب الريحإذا اشتدت، وقد يكون من السفينة ونحوها. ماد: تحرك ودار. السقف: معروف ويجمع على سقوف وهو القياس، وعلى سقف وسقف،وفعل وفعل محفوظان في فعل، وليسا مقيسين فيه. {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَـٰنَهُ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُشْرِكُونَ *يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱتَّقُونِ * خَلَقَ}: قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر: هي كلها مكية. وقال ابن عباس: إلا ثلاث آثات منها نزلت بالمدينة بعد حمزةوهي قوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } إلى قوله:
{ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقيل: إلا ثلاث آيات
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ }
الآية نزلت في المدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد، وقوله:
{ وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ }
وقوله:
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ }
وقيل: من أولها إلى قوله: {يُشْرِكُونَ } مدني وما سواه مكي. وعن قتادةعكس هذا. ووجه ارتباطها بما قبلها أنه تعالى لما قال:
{ فَوَرَبّكَ لَنَسْـئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }
كان ذلك تنبيهاً على حشرهميوم القيامة، وسؤالهم عما أجرموه في دار الدنيا، فقيل: أتى أمر الله وهو يوم القيامة على قول الجمهور. وعن ابنعباس المراد بالأمر: نصر رسول الله ﷺ، وظهوره على الكفار. وقال الزمخشري: كانوا يستعجلون ما وعدوا منقيام الساعة، أو نزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيباً بالوعد انتهى. وهذا الثاني قاله ابن جريج قال: الأمر هناما وعد الله نبيه من النصر وظفره بإعدائه، وانتقامه منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال، والاستيلاء على منازلهم وديارهم. وقال الضحاك:الأمر هنا مصدر أمر، والمراد به: فرائضه وأحكامه. قيل: وهذا فيه بعد، لأنه لم ينقل أنّ أحداً من الصحابة استعجلفرائض من قبل أن تفرض عليهم. وقال الحسن وابن جريج أيضاً: الأمر عقاب الله لمن أقام على الشرك، وتكذيب الرسول،واستعجال العذاب منقول عن كثير من كفار قريش وغيرهم. وقريب من هذا القول قول الزجاج: هو ما وعدهم به منالمجازاة على كفرهم. وقيل: الأمر بعض أشراط الساعة. وأتى قيل: باق على معناه من المضي، والمعنى: أقي أمر الله وعداًفلا تستعجلوه وقوعاً. وقيل: أتى أمر الله، أتت مبادئه وأماراته. وقيل: عبر بالماضي عن المضارع لقرب وقوعه وتحققه، وفي ذلكوعيد للكفار. وقرأ الجمهور: تستعجلوه بالتاء على الخطاب، وهو خطاب للمؤمنين أو خطاب للكفار على معنى: قل لهم فلا تستعجلوه.وقال تعالى:
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا }
وقرأ ابن جبير: بالياء نهياً للكفار، والظاهر عود الضمير في فلاتستعجلوه على الأمر لأنه هو المحدث عنه. وقيل: يعود على الله أي: فلا تستعجلوا الله بالعذاب، أو بإتيان يوم القيامةكقوله:
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ }
وقرأ حمزة والكسائي: تشركون بتاء الخطاب، وباقي السبعة والأعرج وأبوه جعفر، وابن وضاح، وأبو رجاء، والحسن.وقرأ عيسى: الأولى بالتاء من فوق، والثانية بالياء والتاء من فوق معاً؛ الأعمش، وأبو العالية، وطلحة، وأبو عبد الرحمن، وابنوثاب، والجحدري، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية. وأفضل قراءته عما يشركون باستعجالهم، لأن استعجالهم استهزاء وتكذيب، وذلك منالشرك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: ينزل مخففاً، وباقي السبعة مشدداً، وزيد بن علي والأعمش وأبو بكر: تنزل مشدداً مبنياًللمفعول، الملائكة بالرفع. والجحدري كذلك، إلا أنه خفف. والحسن، وأبو العالية، والأعرج، والمفضل، عن عاصم ويعقوب: بفتح التاء مشدداً مبنياًللفاعل. وقرأ ابن أبي عبلة: ما ننزل بنون العظمة والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف. قال ابن عطية: وفيهما شذوذ كثير انتهى.وشذوذهما أنّ ما قبله وما بعده ضمير غيبة، ووجهه أنه التفات، والملائكة هنا جبريل وحده قاله الجمهور، أو الملائكة المشارإليهم بقوله:
{ وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ غَرْقاً }
وقال ابن عباس: الروح الوحي تنزل به الملائكة على الأنبياء، ونظيره:
{ يُلْقِى ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ }
وقال الربيع بن أنس: هو القرآن، ومنه {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا }وقال مجاهد: المراد بالروح أرواح الخلق، لا ينزل ملك إلا ومعه روح. وقال الحسن وقتادة: الروح الرحمة. وقال الزجاج: مامعناه الروح الهداية لأنها تحيا بها القلوب، كما تحيا الأبدان بالأرواح. وقيل: الروح جبريل، ويدل عليه: {نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاْمِينُ} وتكون الباء للحال أي: ملتبسة بالروح. وقيل: بمعنى مع، وقيل: الروح حفظة على الملائكة لا تراهم الملائكة، كما الملائكةحفظة علينا لا تراهم. وقال مجاهد أيضاً: الروح اسم ملك، ومنه: {يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً } وعن ابن عباس:أنّ الروح خلق من خلق الله كصور ابن آدم، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وقال نحوهابن جريج. قال ابن عطية: وهذا قول ضعيف لم يأت به سند. وقال الزمخشري: بالروح من أمره، بما تحيابه القلوب الميتة بالجهل، من وحيه أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد انتهى. ومِنْ للتبعيض، أو لبيانالجنس. ومن يشاء: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنْ مصدرية، وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع، وصلت بالأمر كماوصلت في قولهم: كتبت إليه بأنْ قم، وهو بدل من الروح. أو على إسقاط الخافض: بأن أنذروا، فيجري الخلاف فيه:أهو في موضع نصب؟ أو في موضع خفض؟ وقال الزمخشري: وأن أنذروا بدلاً من الروح أي: ننزلهم بأن أنذروا، وتقديره:أنذروا أي: بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أنه لا إله إلا أنا انتهى. فجعلها المخفف من الثقيلة، وأضمر اسمها وهوضمير الشأن، وقدر إضمار القول: حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع سهولة كونهاالشانية التي من شأنها نصب المضارع. وجوّز ابن عطية، وأبو البقاء، وصاحب الغنيان: أن تكون مفسرة فلا موضع لها منالإعراب، وذلك لما في التنزل بالوحي من معنى القول أي: أعلموا الناس من نذرت بكذا إذا أعلمته. قال الزمخشري: والمعنىيقول لهم: أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فاتقون انتهى. لما جعل أنْ هي التي حذف منها ضمير الشأنقدر هذا التقدير وهو يقول لهم: أعلموا. وقرىء: لينذروا أنه، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيهخوف من حيث كان المنذرون كافرين بألوهيته، ففي ضمن أمرهم مكان خوف، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه،ووعيد وتحذير من عبادة الأوثان. ومعنى: فاتقون أي اتقوا عقابي باتخاذكم إلهاً غيري. وجاءت الحكاية على المعنى في قوله: إلاأنا، ولو جاءت على اللفظ لكان لا إله إلا الله، وكلاهما سائغ. وحكاية المعنى هنا أبلغ إذ فيها نسبة الحكمإلى ضمير المتكلم المنزل الملائكة، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليهغيره من خلق السموات والأرض، وهم مقرون بأنه تعالى هو خالقها. وبالحق أي: بالواجب اللائق، وذلك أنها تدل على صفاتتحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، بخلاف شركائهم التي لا يحق لها شيء منذلك. وقرأ الأعمش: فتعالى بزيادة فاء، وجاءت هذه الجملة منبهة على تنزيه الله تعالى موجد هذا العالم العلوي والعالمالسفلي عن أن يتخذ معه شريك في العبادة. ولما ذكر ما دل على وحدانيته من خلق العالم العلوي والأرض، وهواستدلال بالخارج، ذكر الاستدلال من نفس الإنسان، فذكر إنشاءه من نطفة فإذا هو خصيم مبين، وكان حقه والواجب عليه أنيطيع وينقاد لأمر الله. والخصيم من صفات المبالغة من خصم بمعنى اختصم، أو بمعنى مخاصم، كالخليط والجليس، والمبين الظاهر الخصومةأو المظهرها. والظاهر أنّ سياق هذين الوصفين سياق ذم لما تقدم من قوله: سبحانه وتعالى عما يشركون، وقوله: أن أنذرواالآية. ولتكرير تعالى عما يشركون، ولقوله في يس:
{ أَوَ لَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ }
الآية وقال:
{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }
وعنى به مخاصمتهم لأنبياء الله وأوليائه بالحجج الداحضة، وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم، أو مردفاًبالذم. وقيل: المراد بالإنسان هنا أبي بن خلف الجمحي. وقال قوم: سياق الوصفين سياق المدح، لأنه تعالى قواه علىمنازعة الخصوم، وجعله مبين الحق من الباطل، ونقله من تلك الحالة الجمادية وهو كونه نطفة إلى الحالة العالية الشريفة وهي:حالة النطق والإبانة. وإذ هنا للمفاجأة، وبعد خلقه من النطفة لم تقع المفاجأة بالمخاطبة إلا بعد أحوال تطور فيها، فتلكالأحوال محذوفة، وتقع المفاجأة بعدها. وقال أبو عبد الله الرازي: إعلم أنّ أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان، ثمذكر الإنسان وأنه مركب من بدن ونفس في كلام كثير يوقف عليه في تفسيره، ولا نسلم ما ذكره من أنّالأفلاك والكواكب أشرف من الإنسان. ولما ذكر خلق الإنسان ذكر ما امتن به عليه في قوام معيشته، فذكر أولاً أكثرهامنافع، وألزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك الأنعام، وتقدم شرح الأنعام في الأنعام. والأظهر أن يكون لكم فيها دفء استئنافلذكر ما ينتفع بها من جهتها، ودفء مبتدأ وخبره لكم، ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار. وجوز أبوالبقاء أن يكون فيها حالاً من دفء، إذ لو تأخر لكان صفة. وجوز أيضاً أن يكون لكم حالاً من دفءوفيها الخبر، وهذا لا يجوز لأنّ الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها، لا يجوز:فائماً في الدار زيد، فإنْ تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف، أو توسطت فأجاز ذلك الأخفش، ومنعه الجمهور. وأجازأيضاً أن يرتفع دفء بلكم أو نعتها بال، والجملة كلها حال من الضمير المنصوب انتهى. ولا تسمى جملة، لأنّ التقدير:خلقها لكم فيها دفء، أو خلقها لكم كائناً فيها دفء، وهذا من قبيل المفرد، لا من قبيل الجملة. وجوزوا أنيكون لكم متعلقاً بخلقها، وفيها دفء استئناف لذكر منافع الأنعام. ويؤيد كون لكم فيها دفء يظهر فيه الاستئناف مقابلته بقوله:ولكم فيها جمال، فقابل المنفعة الضرورية بالمنفعة غير الضرورية. وقال ابن عباس: الدفء نسل كل شيء، وذكره الأموي عن لغةبعض العرب. والظاهر أن نصب والأنعام على الاشتغال، وحسن النصب كون جملة فعلية تقدمت، ويؤيد ذلك قراءته في الشاذ برفعالأنعام. وقال الزمخشري، وابن عطية: يجوز أن يكون قد عطف على البيان، وعلى هذا كون لكم استئناف، أو متعلق بخلقها.وقرأ الزهري وأبو جعفر: دفء بضم الفاء وشدها وتنوينها، ووجهه أنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء بعد حذفها، ثمشدد الفاء إجراء للوصل مجرى الوقف، إذ يجوز تشديدها في الوف. وقرأ زيد بن علي: دف بنقل الحركة، وحذف الهمزةدون تشديد الفاء. وقال صاحب اللوامح: الزهري دف بضم الفاء من غير همز، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة. ومنهم منيعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفاً. وقال مجاهد: ومنافع الركوب، والحمل، والألبان، والسمن،والنضج عليها، وغير ذلك. وأفرد منفعة الأكل بالذكر، كما أفرد منفعة الدفء، لأنهما من أعظم المنافع. وقال الزمخشري: (فإنقلت): تقدم الظرف في قوله: ومنها تأكلون مؤذن، بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها (قلت): الأكل منها هو الأصل الذي يعتمدهالناس في معائشهم، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به، وكالجاري مجرى التفكه. وماقاله منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص. وقد رددنا عليه ذلك في قوله:
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ }
والظاهر أنّ مِن للتبعيض كقولك: إذا أكلت من الرغيف. وقال الزمخشري: ويحتمل أنّ طعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر، والحب والثمارالتي تأكلونها منها، وتكتسبون بإكراء الإبل، وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها انتهى. فعلى هذا يكون التبعيض مجازاً، أو تكون من للسبب.الجمال مصدر جمل بضم الميم، والرجل جميل، والمرأة جميلة وجملاء عن الكسائي وأنشد:
فهي جملاء كبدر طالع | بزت الخلق جميعاً بالجمال |
ويطلق الجمال ويراد به التجمل، كأنه مصدر على إسقاط الزوائد. والجماليكون في الصورة بحسن التركيب يدركه البصر، ويلقيه في ألقاب، فتتعلق به النفس من غير معرفة. وفي الأخلاق باشتمالها علىالصفات المحمودة: كالعلم، والعفة، والحلم، وفي الأفعال: بوجودها ملائمة لمصالح الخلق، وجلب المنفعة إليهم، وصرف الشر عنهم. والجمال الذي لنافي الأنعام هو خارج عن هذه الأنواع الثلاثة، والمعنى: أنه لنا فيها جمال وعظمة عند الناس باقتنائها ودلالتها على سعادةالإنسان في الدنيا، وكونه فيها من أهل السعة، فمنّ الله تعال بالتجمل بها، كما منّ بالانتفاع الضروري، لأن التجمل بهامن أغراض أصحاب المواشي ومفاخر أهلها، والعرب تفتخر بذلك. ألا ترى إلى قول الشاعر:
لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم | مرابط للإمهاز والعكر الدثر أحب إلينا من أناس بقنة يروح على آثار شائهم النمر |
والعكرةمن الإبل ما بين الستين إلى السبعين، والجمع عكر. والدثر الكثير، ويقال: أراح الماشية ردها بالعشيّ من المرعى، وسرحها يسرحهاسرحاً وسروحاً أخرجها غدوة إلى المرعى، وسرحت هي يكون متعدياً ولازماً، وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذا سقط الغيثوكبر الكلأ وخرجوا للنجعة. وقدم الإراحة على السرح لأنّ الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون، حافلة الضروع، ثم أوتإلى الحظائر، بخلاف وقت سرحها، وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية، وتجاوب فيها الرغاء والثغاء، فيأتنس أهلها، وتفرح أربابها وتجلهمفي أعين الناظرين إليها، وتكسبهم الجاه والحرمة لقوله تعالى:
{ ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا }
وقوله تعالى:
{ زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوٰتِ }
ثم قال تعالى:
{ وَٱلانْعَـٰمِ وَٱلْحَرْثِ }
وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري: حيناً فيهما بالتنوين، وفك الإضافة. وجعلوا الجملتين صفتينحذف منهما العائد كقوله:
{ وَٱتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى }
ويكون العامل في حيناً على هذا، إمّا المبتدأ لأنه في معنىالتجمل، وإما خبره بما فيه من معنى الاستقرار والأثقال. الأمتعة: واحدها ثقل. وقيل: الأجسام لقوله تعالى:
{ وَأَخْرَجَتِ ٱلارْضُ أَثْقَالَهَا }
أي أجساد بني آدم. وقوله: إلى بلد، لا يراد به معين أي: إلى بلد بعيد توجهتم إليه لأغراضكم. وقيل: المرادبه معين وهو مكة، قاله: ابن عباس، وعكرمة، والربيع بن أنس. وقيل: مدينة الرسول. وقيل: مصر. وينبغي حمل هذه الأقوالعلى التمثيل لا على المراد، إذ المنة لا تختص بالحمل إليها. ولم تكونوا بالغيه صفة للبلد، ويحتمل أن يكون التقديربها، وذلك تنبيه على بعد البلد، وأنه مع الاستعانة بها بحمل الأثقال لا يصلون إليه إلا بالمشقة. أو يكون التقدير:لم تكونوا بالغيه بأنفسكم دونها إلا بالمشقة عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم. وقرأ الجمهور: بشق بكسر الشين. وقرأ مجاهد،والأعرج، وأبو جعفر، وعمر بن ميمون، وابن أرقم: بفتحها. ورويت عن نافع وأبي عمرو، وهما مصدران معناهما المشقة. وقيل: الشقبالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، ويعني به: المشقة. وقال الشاعر في الكسر:
وذي إبل يسعى ويحسبها له | أخي نصب من شقها ودؤوب |
أي مشقتها. وشق الشيء نصفه، وعلى هذا حمله الفراء هنا أي: يذهبان صف الأنفس، كأنها قد ذابتتعباً ونصباً كما تقول: لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك، وبفطعة من كبدك. ونحو هذا من المجاز. ويقال:أخذت شق الشاة أي نصفها والشق: الجانب، والأخ الشقيق، وشق اسم كاهن. وناسب الامتنان بهذه النعمة من حملها الأثقال الخثمبصفة الرأفة والرحمة، لأن من رأفته تيسير هذه المصالح وتسخير الأنعام لكم. ولما ذكر تعالى مننه بالأنعام ومنافعها الضرورية، ذكرالامتنان بمنافع الحيوان التي ليست بضرورية. وقرأ الجمهور: والخيل وما عطف عليه بالنصب عطفاً على والأنعام. وقرأ ابن أبي عبلةبالرفع. ولما كان الركوب أعظم منافعها اقتصر عليه، ولا يدل ذلك على أنه لا يجوز لكل الخيل، خلافاً لمن استدلبذلك. وانتصب وزينة، ولم يكن باللام، ووصل الفعل إلى الركوب بوساطة الحرف، وكلاهما مفعول من أجله، لأن التقدير: خلقها، والركوبمن صفات المخلوق لهم ذلك فانتفى شرط النصب، وهو: اتحاد الفاعل، فعدى باللام. والزينة من وصف الخالق، فاتحد الفاعل، فوصلالفعل إليه بنفسه. وقال ابن عطية: وزينة نصب بإضمارفعل تقديره: وجعلناها زينة. وروى قتادة عن ابن عباس: لتركبوها زينة بغيرواو. قال صاحب اللوامح: والزينة مصدر أقيم مقام الاسم، وانتصابه على الحال من الضمير في خلقها، أو من لتركبوها. وقالالزمخشري: أي وخلقها زينة لتركبوها، أو يجعل زينة حالاً من هاء، وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال. وقال ابن عطية: والنصبحينئذ على الحال من الهاء في تركبوها. والظاهر نفي العلم عن ذوات ما يخلق تعالى، فقال الجمهور: المعنى ما لاتعلمون من الآدميين والحيوانات والجمادات التي خلقها كلها لمنافعكم، فأخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، لنزداددلالة على قدرته بالإخبار، وإنْ طوى عنا علمه حكمة له في طيه، وما خلق تعالى من الحيوان وغيره لا يحيطبعلمه بشر. وقال قتادة: ما لا تعلمون، أصل حدوثه كالسوس في النبات والدود في الفواكه. وقال ابن بحر: لا تعلمونكيف يخلقه. وقال مقاتل: هو ما أعد الله لأوليائه في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطرعلى قلب بشر. قال الطبري: وزاد بعد في الجنة وفي النار لأهلها، والباقي بالمعنى. ورويت تفاسير في: ما لاتعلمون في الحديث عن ابن عباس، ووهب بن منبه، والشعبي، الله أعلم بصحتها. ويقال: لما ذكر الحيوان الذي ينتفع بهانتفاعاً ضرورياً وغير ضروري، أعقب بذكر الحيوان الذي لا ينتفع به غالباً على سبيل الإجمال، إذ تفاصيله خارجة عن الإحصاءوالعد، والقصد مصدر يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، والسبيل هنا مفرد اللفظ. فقيل: مفرد المدلول، وأل فيهللعهد، وهي سبيل الشرع، وليست للجنس، إذ لو كانت له لم يكن منها جائز. والمعنى: وعلى الله تبين طريق الهدى،وذلك بنصب الأدلة وبعثة الرسل. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى: إنّ من سلك الطريق القاصد فعلى الله رحمتهونعيمه وطريقه، وإلى ذلك مصيره. وعلى أنّ للعهد يكون الضمير في قوله: ومنها جائز، عائد على السبيل التي يتضمنها معنىالآية، كأنه قيل: ومن السبيل جائر، فأعاد عليها وإن لم يجر لها ذكر، لأنّ مقابلها يدل عليها. قال ابن عطية:ويحتمل أن يعود منها على سبيل الشرع، وتكون مِن للتبعيض، والمراد: فرق الضلالة من أمة محمد ﷺ.كأنه قال: ومن بنيات الطرق في هذه السبيل، ومن شعبها. وقيل: أل في السبيل للجنس، وانقسمت إلى مصدر وهو طريقالحق، وإلى جائر وهو طريق الباطل، والجائر العادل عن الاستقامة والهداية كما قال:
يجور بها الملاح طوراً ويهتدي |
وكما قال الآخر:
ومن الطريقة جائر وهدى | قصد السبيل ومنه ذو دخل |
قسم الطريقة:إلى جائر، وإلى هدى، وإلى ذي دخل وهو الفساد. وقال الزمخشري: ومعنى قوله: وعلى الله قصد السبيل إنّ هداية الطريقالموصل إلى الحق واجبة عليه لقوله:
{ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ }
(فإن قلت): لم غير أسلوب الكلام في قوله: ومنها جائر؟(قلت): ليعلم بما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان كما تزعم المجبرة لقيل: وعلى الله قصدالسبيل، وعليه جائرها، أو وعليه الجائر. وقرأ عبد الله: ومنكم جائر يعني ومنكم جائر عن القصد بسواء اختياره، والله بريءمنه. ولو شاء لهداكم أجمعين قسراً والجاء انتهى. وهو تفسير على طريقة الاعتزال. وقيل: الضمير في ومنها يعود على الخلائقأي: ومن الخلائق جائر عن الحق. ويؤيده قراءة عيسى: ومنكم جائر، وكذا هي في مصحف عبد الله، وقراءة علي: فمنكمجائر بالفاء. قال ابن عباس: هم أهل الملل المختلفة. وقيل: اليهود والنصارى والمجوس. ولهداكم: لخلق فيكم الهداية، فلم يضل أحدمنكم، وهي مشيئة الاختيار. وقال الزجاج: لفرض عليكم آية تضطركم إلى الاهتداء والإيمان. قال ابن عطية: وهذا قول سوء لأهلالبدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد، لم يحصله الزجاج، ووقع فيه رحمة الله من غير قصد انتهى.ولم يعرف ابن عطية أنّ الزجاج معتزلي، فلذلك تأول أنه لم يحصله، وأنه وقع فيه من غير قصد. وقال أبوعلي: لو شاء لهداكم إلى الثواب، أو إلى الجنة بغير استحقاق. وقال ابن زيد: لو شاء لمحض قصد السبيل دونالجائر. ومفعول شاء محذوف لدلالة لهداكم أي: ولو شاء هدايتكم. {هُوَ ٱلَّذِى أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌوَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلاعْنَـٰبَ وَمِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ إِنَّ فِىذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرٰتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى ٱلاْرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }: مناسبة هذه الآية لما قبلهاأنه لما امتن بإيجادهم بعد العدم وإيجاد ما ينتفعون به من الأنعام وغيرها من الركوب، ذكر ما امتن به عليهممن إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان، وما يتولد عنه من أقواتهم وأقواتها من الزرع، وما عطف عليهفذكر منها الأغلب، ثم عمم بقوله: ومن كل الثمرات، ثم أتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم، والنهار الذيهو معاش، ثم بالنيرين اللذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه، ثم بما ذرأ في الأرض.والظاهر أنّ لكم، في موضع الصفة لماء، فيتعلق بمحذوف، ويرتفع شراب به أي: ماء كائناً لكم منه شراب. ويجوزأن يتعلق بانزل، ويجوز أن يكون استئنافاً، وشراب مبتدأ. لما ذكر إنزال الماء أخذ في تقسيمه. والشراب هو المشروب، والتبعيضفي منه ظاهر، وأما في منه شجر فمجاز، لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء كماقال: أسنمة الآبال في ربابه، أي في سحاب المطر. وقال ابن الأنباري: هو على حذف المضاف، إما قبل الضمير أي:ومن جهته، أو سقيه شجر، وإما قبل شجر أي: شرب شجر كقوله
{ وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ }
أي حبه. والشجرهنا كل ما تنبته الأرض قاله الزجاج. وقال: نطعمها اللحم إذا عز الشجر، فسمى الكلأ شجراً. وقال ابن قتيبة: الشجرهنا الكلأ، وفي حديث عكرمة: لا تأكلوا الشجر فإنه سحت يعني الكلأ. ويقال: أسام الماشية وسومها جعلها ترعى، وسامتبنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، قال الزجاج: من السومة، وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات. وقرأ زيدبن علي: تسيمون بفتح التاء، فإن سمع متعدياً كان هو وأسام بمعنى واحد، وإن كان لازماً فتأويله على حذف مضافتسيمون أي: تسيم مواشيكم لما ذكر، ومنه شجر. أخذ في ذكر غالب ما ينتفع به من الشجر إنْ كان المرادمن قوله: ومنه شجر العموم، وإن كان المراد الكلأ فهو استئناف إخبار منافع الماء. ويقال: نبت الشيء وأنبته الله فهومنبوت، وهذا قياسه منبت. وقيل: يقال أنبت الشجر لازماً. وأنشد الفراء:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم | قطينا بهم حتى إذا أنبت البقل |
أي نبت. وكان الأصمعي يأبى أنبت بمعنى نبت. وقرأ أبو بكر: ننبت بنون العظمة.وقرأ الزهري: ننبت بالتشديد قيل: للتكثير والتكرير، والذي يظهر أنه تضعيف التعدية. وقرأ أبيّ: ينبت من نبت ورفع الزرع وماعطف عليه. وخص الأربعة بالذكر لأنها أشرف ما ينبت، وأجمعه للمنافع. وبدأ بالزرع لأنه قوت أكثر العالم، ثم بالزيتون لمافيه من فائدة الاستصباح بدهنه، وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه، والاطلاء بدهنه، ثم بالنخل لأنّ ثمرته منأطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد، ثم بالأعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال: ومن كل الثمرات، أتى بلفظ مِن التيللتبعيض، لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة. ولما ذكر الحيواناتالمنتفع بها على التفصيل أعقبه بقوله: ويخلق ما لا تعلمون، كذلك هنا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، ثم قال:ومن كل الثمرات، تنبيهاً على أنّ تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها مما لا يكاد يحصر، كما أن تفصيلما خلق من باقي الحيوان لا يكاد يحصر. وختم ذلك تعالى بقوله: لآية لقوم يتفكرون، لأنّ النظر في ذلك يحتاجإلى فضل تأمل واستعمال فكر. ألا ترى أنّ الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان معينلحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به، فينشق أعلاها فيصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه في عمق الأرضشجرة أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى ويقوى، وتخرج الأوراق والأزهار والأكمام، والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والطعوم والألوانوالروائح والأشكال والمنافع، وذلك بتقدير قادر مختار وهو الله تعالى. وقرأ الجمهور: والشمس وما بعده منصوباً، وانتصبمسخرات على أنها حال مؤكدة إن كان مسخرات اسم مفعول، وهو إعراب الجمهور. وقال الزمخشري: ويجوز أن كون المعنى: أنهسخرها أنواعاً من التسخير جمع مسخر بمعنى: تسخير من قولك: سخره الله مسخراً، كقولك: سرحه مسرحاً، كأنه قيل: وسخرها لكمتسخيرات بأمره انتهى. وقرأ ابن عامر: والشمس وما بعده بالرفع على الابتداء والخبر، وحفص والنجوم مسخرات برفعهما، وهاتان القراءتان يبعدانقول الزمخشري إنّ مسخرات بمعنى تسخيرات. وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وابن مصرف: والرياح مسخرات في موضع، والنجوم وهي مخالفة لسوادالمصحف. والظاهر في قراءة نصب الجميع أنّ والنجوم معطوف على ما قبله. وقال الأخفش: والنجوم منصوب على إضمار فعل تقديره:وجعل النجوم مسخرات، فأضمر الفعل. وعلى هذا الإعراب لا تكون مسخرات حالاً مؤكدة، بل مفعولاً ثانياً لجعل إن كان جعلالمقدرة بمعنى صير، وحالاً مبينة إن كان بمعنى خلق. وتقدم شرح تسخير هذه النيرات في الأعراف. وجمع الآيات هنا، وذكرالعقل، وأفرد فيما قبل، وذكر التفكر لأنّ فيما قبل استدلالاً بإثبات الماء وهو واحد وإن كثرت أنواع النبات، والاستدلال هنامتعدّد، ولأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. وما درأ معطوف على الليل والنهار يعني:ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلفاً ألوانه من البياض والسواد وغير ذلك. وقيل: مختلفاً ألوانه أصنافهكما تقول: هذه ألوان من الثمر ومن الطعام. وقيل: المراد به المعادن. إنّ في ذلك أي: فيما ذرأ على هذهالحال من اختلاف الألوان، أو إنّ في ذلك أي: اختلاف الألوان. وختم هذا بقوله: يذكرون، ومعناه الاعتبار والاتعاظ، كان علمهمبذلك سابق طرأ عليه النسيان فقيل: يذكرون أي: يتذكرون ما نسوا من تسخير هذه المكونات في الأرض. {وَهُوَ ٱلَّذِىسَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ }: لما ذكرتعالى الاستدلال بما ذرأ في الأرض، ذكر ما امتن به من ستخير البحر. ومعنى تسخيره: كونه يتمكن الناس من الانتفاعبه للركوب في المصالح، وللغوص في استخراج ما فيه، وللاصطياد لما فيه. والبحر جنس يشمل الملح والعذب، وبدأ أولاً منمنافعه بما هو الأهم وهو الأكل، ومنه على حذف مضاف أي: لتأكلوا من حيوانه طرياً، ثم ثنى بما يتزين بهوهو الحلية من اللؤلؤ والمرجان، ونبه على غاية الحلية وهو اللبس. وفيه منافع غير اللبس، فاللحم الطري من الملح والعذب،والحلية من الملح. وقيل: إنّ العذب يخرج منه لؤلؤ لا يلبس إلا قليلاً وإنما يتداوى به، ويقال: إنّ في الزمردبحرياً، فأما لتأكلوا فعام في النساء والرجال، وأما تلبسونها فخاص بالنساء. والمعنى: يلبسها نساؤكم. وأسند اللبس إلى الذكور، لأنّ النساءإنما يتزين بالحلية من أجل رجالهن، فكأنها زينتهم ولباسهم. ولما ذكر تعالى نعمة الأكل منه والاستخراج للحلية، ذكر نعمة تصرفالفلك فيه ماخرة أي: شاقة فيه، أو ذات صوت لشق الماء لحمل الأمتعة والأقوات للتجارة وغيرها، وأسند الرؤية إلى المخاطبالمفرد فقال: وترى، وجعلها جملة معترضة بين التعليلين: تعليل الاستخراج، وتعليل الابتغاء، لذلك عدل عن جمع المخاطب، والظاهر عطف، ولتبتغواعلى التعليل قبله كما أشرنا إليه. وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفاً على علة محذوفة أي: لتبتغوا بذلك. ولتبتغوا، وأنيكون على إضمار فعل أي: وفعل ذلك لتبتغوا. والفضل هنا حصول الأرباح بالتجارة، والوصول إلى البلاد الشاسعة، وفي هذا دليلعلى جواز ركوب البحر. ولعلكم تشكرون، على ما منحكم من هذه النعم. قيل: خلق الله اورض فجعلت تمور فقالت الملائكة:ما هي بمقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجيال، لم تدر الملائكة مم خلقت. وعطف وأنهاراً على رواسي. ومعنىألقى: جعل، ألا ترى إلى قوله:
{ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلاْرْضَ مِهَـٰداً وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً }
وقوله: وجعل فيها رواسي، من فوقها.وقال {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى } أي: جعلت. وقال ابن عطية: قال المتأولون: ألقى بمعنى خلق وجعل، وهي عندي أخصمن خلق وجعل، وذلك أن ألقى يقتضي أن الله أوجد الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه، ويؤيد هذاالنظر ما روي في القصص عن الحسن، عن قيس بن عباد: أنّ الله تعالى لما خلق الأرض جعلت تمور إلىآخر الكلام السابق، وهو أيضاً مروي عن وهب بن منبه. وقال ابن عطية أيضاً: وقوله: وأنهاراً، منصوب بفعل مضمر تقديره:وجعل، أو خلق أنهار أو إجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ألقى، ولو كانت ألقى بمعنى خلق لميحتج إلى هذا الإضمار انتهى. وأي إجماع في هذا، وقد حكى عن المتأولين أنّ ألقى بمعنى خلق وجعل، وقال الزمخشري:وأنهاراً، وجعل فيها أنهاراً لأنّ ألقى فيه معنى جعل. ألا ترى إلى قوله:
{ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلاْرْضَ مِهَـٰداً وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً }
. وقال أبو البقاء: أي وشق أنهاراً وعلامات أي: وضع علامات، ويجوز أن يعطف على رواسي. وقال أبو عبد اللهالرازي: ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال، فلهذا السبب أتبع ذكرها بتفجير الأنهار، وسبلاًطرقاً إلى مقاصدكم لعلكم تهتدون بالسبل إلى مقاصدكم، هذا هو الظاهر، ويدل عليه ما بعده. وقال تعالى: وجعل لكم فيهاسبلاً لعلكم تهتدون. وقيل: تهتدون أي: بالنظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها، فهو من الهداية إلى الحق، ودين الله.وعلامات هي معالم الطرق، وكل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك قاله الزمخشري، وهو معنى قول ابنعباس. وقال أبو عبد الله الرازي: ورأيت جماعة يتعرفون الطرقات بشم التراب. وقال ابن عيسى: العلامة صورة يعلم بها مايراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة. وقال ابن عطية: وعلامات نصب كالمصدر أي: فعل هذه الأشياء لعلكمتعتبرون بها، وعلامات أي: عبرة وإعلاماً في كل سلوك، فقد يهتدي بالجبال وبالأنهار وبالسبل انتهى. وقال ابن الكلبي: العلامات الجبال.وقال النخعي ومجاهد: النجوم. وأغرب ما فسرت به العلامات أنها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تسمى بالعلامات، وذلكفي بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن، فإذا ظهرت كانت علامة للوصول لبلاد الهند وأمارة للنجاة. وقرأ الجمهور: وبالنجم،على أنه اسم جنس، ويؤيد ذلك قراءة ابن وثاب: وبالنجم بضم النون والجيم، وقراءة الحسن: بضم النون. وفي اللوامح الحسن:النجم بضمتين، وابن وثاب: بضمة واحدة، وجاء كذلك عن ابن هشام الرفاعي، ولا شك في أنه يذكره عن أصحاب عاصمانتهى. وذلك جمع كسقف وسقف، ورهن وترهن، وجعله مما جمع على فعل أولى من حمله على أنه أراد النجوم، فحذفالواو. إلا أن ابن عصفور ذكر أن قولهم: النجم من ضرورة الشعر، وأنشد:
إن الذي قضى بذا قاض حكم | أن يرد الماء إذا غاب النجم |
قال: يريد النجوم. مثل قوله:
حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق |
يريد:الحلوق. والتسكين: قيل تخفيف، وقيل: لغة. وعن السدي: هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي. وقال الفراء: المراد الجدي والفرقدان انتهى.قيل: والجدي هو السابع من بنات نعش الصغرى، والفرقدان الأولان منها، وليس بالجدي الذي هو المنزلة، وبعضهم يصغره فيقول: جدي.وفي الحديث عن ابن عباس أنه سأل الرسول ﷺ عن قوله: وبالنجم، فقال: هو الجدي ولو صحهذا لم يعدل أحد عنه. وقال ابن عباس: عليه قبلتكم، وبه تهتدون في بركم وبحركم. وقيل: هو القطب الذي لايجري. وقيل: هو الثريا. وقال الشاعر:
إذا طلب الجوزاء والنجم طالع | فكل مخاضات الفرات معابر |
وقالآخر:
حتى إذا ما استقل النجم في غلس | وغودر البقل ملوى ومحصود |
أي ومنه ملوى، ومنه محصود، وذلكإنما يكون عند طلوع الثريا. وهم: ضمير غيبة خرج من الخطاب إلى الغيبة، كان الضمير النعت به إلى قريش إذكان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن لغيرهم، فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم.وقدم المجرور على ما يتعلق به اعتناء ولأجل الفاصلة. والزمخشري على عادته كأنه قيل: وبالنجم خصوصاً هم يهتدون. {أَفَمَنيَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱللَّهَلَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَـٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰحِدٌ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ* لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ }: ذكر تعالى التباين بين منيخلق وهو الباري تعالى، وبين من لا يخلق وهي الأصنام، ومن عبد ممن لا يعقل، فجدير أن يفرد بالعبادة منله الإنشاء دون غيره. وجيء بمن في الثاني لاشتمال المعبود غير الله على من يعقل وما لا يعقل، أو لاعتقادالكفار أنّ لها تأثيراً وأفعالاً، فعوملت معاملة أولي العلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق، أو لتخصيصه بمن يعلم. فإذاوقعت البينونة بين الخالق وبين غير الخالق، من أولي العلم فكيف بمن لا يعلم البتة كقوله:
{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا }
أي: أن آلهتهم منحطة عن حال من له أرجل، لأنّ من له هذه حي، وتلك أموات، فكيف يصح أنيعبد لا أن من له رجل يصح أن يعبد؟ قال الزمخشري: (فإن قلت): هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهةتشبيهاً بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حق الإلزام أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ (قلت):حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له، وسووا بينه وبينه، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقاتوشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: أفمن يخلق كمن لا يخلق، ثم وبخهم بقوله: أفلا تذكرون، أي: مثل هذا لاينبغي أن تقع فيه الغفلة. والنعمة يراد بها النعم لا نعمة واحدة، يدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ }وقوله:
{ لاَ تُحْصُوهَا }
إذ ينتفي العدو الإحصاء في الواحدة، والمعنى: لا تحصوا عدها، لأنها لكثرتها خرجت عن إحصائكم لها،وانتفاء إحصائها يقتضي انتفاء القيام بحقها من الشكر. ولما ذكر نعماً سابقة أخبر أنّ جميع نعمه لا يطيقون عدها. وأتبعذلك بقوله: إن الله لغفور رحيم، حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعم، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكمبالعقوبة على كفرانها. ولما كان الإنسان غير قادر على أداء شكر النعم، وأن له حالة يعرض فيها منه كفرانها قالفي عقب الآية التي في ابراهيم:
{ إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }
أي لظلوم بترك الشكر كفار للنعمة. وفي هذه الآيةذكر الغفران والرحمة لطفاً به، وإيذاناً في التجاوز عنه. وأخبر تعالى أنه يعلم ما يسرون، وضمنه الوعيد لهم، والإخبار بعلمهتعالى. وفيه التنبيه على نفي هذه الصفة الشريفة عن آلهتهم. وقرأ الجمهور: بالتاء من فوق في تسرون وتعلنون وتدعون،وهي قراءة: مجاهد، والأعرج، وشيبة، وأبي جعفر، وهبيرة، عن عاصم على معنى: قل لهم. وقرأ عاصم في مشهورة: يدعون بالياءمن تحت، وبالتاء في السابقتين. وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله: يعلم الذي يبدون وما يكتمون، وتدعون بالتاء من فوق فيالثلاثة. وقرأ طلحة: ما يخفون وما يعلنون، وتدعون بالتاء من فوق، وهاتان القراءتان مخالفتان لسواد المصحف، والمشهور ما روي عنالأعمش وغيره، فوجب حملها على التفسير، لا على أنها قرآن. ولما أظهر تعالى التباين بين الخالق وغيره، نص على أنّآلهتهم لا تخلق، وعلى أنها مخلوقة. وأخبر أنهم أموات. وأكد ذلك بقوله: غير أحياء، ثم نفى عنهم الشعور الذي يكونللبهائم، فضلاً عن العلم الذي تتصف به العقلاء. وعبر بالذين وهو للعاقل عومل غيره معاملته، لكونها عبدت واعتقدت فيها الألوهية،وقرأ محمد اليماني: يدعون بضم الياء وفتح العين مبنياً للمفعول، والظاهر أنّ قوله: وهم يخلقون، أي: الله أنشأهم واخترعهم. وقالالزمخشري: ووجه آخر وهو أن يكون المعنى: أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير، وهم لا يقدرون على ذلك فهم أعجز منعبدتهم انتهى. وأموات خبر مبتدأ محذوف أي: هم أموات. ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر. والظاهر أن هذه كلها مماحدث به عن الأصنام، ويكون بعثهم إعادتها بعد فنائها. ألا ترى إلى قوله تعالى:
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ }
. وقيل: معنى بعثها إثارتها، كما تقول: بعثت النائم من نومه إذ نبهته، كأنه وصفهم بغاية الجمود أي:وإن طلبتهم بالتحريك أو حركتهم لم يشعروا بذلك، ونفى عنهم الحياة لأنّ من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطق التيينشئها الله حيواناً، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. وأما الأصنام من الحجارة والخشب فأموات لا يعقب موتها حياة، وذلكأعرق في موتها. وقيل: والذين تدعون، هم الملائكة، وكان ناس من الكفار يعبدونهم. وأموت أي: لا بد لهم من الموت،وغير أحياء أي: غير باق حياتهم، وما يشعرون أي: لا علم لهم بوقت بعثهم. وجوزوا في قراءة: والذين يدعون، بالياءمن تحت أن يكون قوله: أو موت، يراد به الكفار الذين ضميرهم في: يدعون، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيثهم ضلال. غير مهتدين وما بعده عائد عليهم، والبعث الحشر من قبورهم. وقيل: في هذا التقدير وعيد أي: أيان يبعثونإلى التعذيب. وقيل: الضمير في وما يشعرون، للأصنام وفي: يبعثون، لعبدتها. أي: لا تشعر الأصنام متى تبعث عبدتها. وفيه تهكمبالمشركين، وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعث عبدتهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبادتهم. وتلخص من هذه الأقوال أنتكون الإخبار بتلك الجمل كلها من المدعوين آلهة، أما الأصنام، وأما الملائكة، أو يكون من قوله: أموات إلى آخره، إخباراًعن المدعوين، ويبعثون: إخباراً عن الداعين العابدين. وقرأ أبو عبد الرحمن إيان بكسر الهمزة، وهي لغة قومه سليم. والظاهر أنّقوله: إيان، معمول ليبعثون، والجملة في موضع نصب بيشعرون، لأنه معلق. إذ معناه العلم. والمعنى: أنه نفى عنهم علم ماانفرد بعلمه الحي القيوم، وهو وقت البعث إذا أريدبالبعث الحشر إلى الآخرة. وقيل: تم الكلام عند قوله: وما يشعرون. وأيانيبعثون ظرف لقوله: آلۤهكم إلۤه واحد، أخبر عن يوم القيامة أنّ الإلۤه فيه واحد انتهى. ولا يصح هذا القول لأنّأيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفاً، إما استفهاماً، وإما شرطاً. وفي هذا التقدير تكون ظرفاً بمعنىوقت مضافاً للجملة بعدها، معمولاً لقوله: واحد، كقولك: يوم يقوم زيد قائم. وفي قوله: أيان يبعثون دلالة على أنه لابد من البعث، وأنه من لوازم التكليف. ولما ذكر تعالى ما اتصفت به آلهتهم بما ينافي الألوهية، أخبر تعالى أنّإلۤه العالم هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ وأن الذين لا يؤمنون بالجزاء بعد وضوح بطلان أن تكون الإلۤهية لغيرهبل له وحده، هم مستمرون على شركهم، منكرون وحدانيته، مستكبرون عن الإقرار بها، لاعتقادهم الإلۤهية لأصنامهم وتكبرها في الوجود. ووصفهمبأنهم لا يؤمنون بالآخرة مبالغة في نسبة الكفر إليهم، إذ عدم التصديق بالجزاء في الآخرة يتضمن التكذيب بالله تعالى وبالبعث،إذ من آمن بالبعث يستحيل أن يكذب الله عز وجل. وقيل: مستكبرون عن الإيمان برسول الله وأتباعه. وقال العلماء: كلذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان. وفي الحديث الصحيح: إنۤ المستكبرين يجيؤون أمثال الذر يوم القيامة، يطؤهم الناس بأقدامهم أو كما قال ﷺ، وتقدم الكلام في {لاَ جَرَمَ } في هود. وقرأعيسى الثقفي إن بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما قبله. وقال بعض أصحابنا: وقد يغني لا جرم عن لفظ القسم،تقول: لا جرم لآتينك، فعلى هذا يكون لقوله: إن الله بكسر الهمزة تعلق بلا جرم، ولا يكون استئنافاً. وقد قالبعض الأعراب لمرداس الخارجي: لا جرم والله لأفارقنك أبداً، نفى كلامه تعلقها بالقسم. وفيقوله: يعلم ما يسرون وما يعلنون وعيدوتنبيه على المجازاة،وقال يحيى بن سلام، والنقاش: المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي صلى اللهعليه وسلم انتهى. ولا يحب المستكبرين عام في الكافرين والمؤمنين، يأخذ كل واحد منهم بقسطه. {وإذا قيل لهم ماذاأنزل ربكم قالو أساطير الأولين * ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء مايزرون ﷺ قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهموأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذينأوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين * الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل منسوء بل إن الله عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين}. قيل: سبب نزولوإذا قيل لهم الآية، أنّ النضر بن الحرث سافر عن مكة إلى الحيرة، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلةودمنة، وأخبار اسفنديار ورستم، فجاء إلى مكة فكان يقول: إنما يحدث محمد بأساطير الأولين وحديثي أجمل من حديثه. وما كلمةاستفهام مفعول بأنزل، أو مبتدأ خبره ذا بمعنى الذي، وعائده في أنزل محذوف أي: أي شيء الذي أنزله. وأجاز الزمخشريأن يكون ماذا مرفوعاً بالابتداء قال: بمعنى أي شيء أنزله ربكم. وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في ضرورة الشعر،والضمير في لهم عائد على كفار قريش. وماذا أنزل ليس معمولاً لقيل على مذهب البصرين، لأنه جملة، والجملة لا تقعموقع المفعول الذي لم يسم فاعله، كما لا تقع موقع الفاعل. وقرىء شاذاً: أساطير بالنصب على معنى ذكر ثم أساطير،أو أنزل أساطير على سبيل التهكم والسخرية، لأنّ التصديق بالإنزال ينافي أساطير، وهم يعتقدون أنه ما نزل شيء ولا أنثمّ منزل. وبنى قيل: للمفعول، فاحتمل أن كون القائل بعضهم لبعض، واحتمل أن يكون المؤمنون قالوا لهم على سبيل الامتحان.وقيل: قائل ذلك الذين تقاسموا مداخل مكة ينفرون عن الرسول ﷺ إذا سألهم وفود الحاج: ماذا أنزلعلى رسول الله ﷺ؟ قالوا: أحاديث الأولين. وقرأ الجمهور: برفع أساطير، فاحتمل أن يكون التقدير المذكور:أساطير، أو المنزل أساطير، جعلوه منزلاً على سبيل الاستهزاء، وإن كانوا لا يؤمنون بذلك. واللام في ليحملوا لام الأمر علىمعنى الحتم عليهم والصغار الموجب لهم، أو لام التعليل من غير أن يكون غرضاً كقولك: خرجت من البلد مخافة الشر،وهي التي يعبر عنها بلام العاقبة، لأنهم لم يقصدوا بقولهم: أساطير الأولين، أن يحملوا الأوزار. ولما قال ابن عطية: إنهيحتمل أن تكون لام العاقبة قال: ويحتمل أن يكون صريح لام كي على معنى قدر هذا لكذا، وهي لام التعليل،لكنه لم يعلقها بقوله. قالوا: بل أضمر فعلاً آخر وهو: قدر هذا، وكاملة حال أي: لا ينقص منها شيء، ومِنللتبعيض. فالمعنى: أنه يحمل من وزر كل من أضل أي: بعض وزر من ضلّ بضلالهم، وهو وزر الإضلال، لأنّ المضلوالضال شريكان، هذا يضله، وهذا يطاوعه على إضلاله، فيتحاملان الوزر، لأنّ المضل والضال شريكان، هذا يضله، وهذا يطاوعه على إضلاله،فيتحاملان الوزر. وقال الأخفشٰ: مِن زائدة أي: وأوزار الذين يضلونهم، والمعنى: ومثل
{ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ }
كقوله: فعليه وزرها ووزر عن عمل بها إلى يوم القيامة المراد: ومثل وزر، والمعنى: أن الرئيس إذا وضع سنة قبيحة عظم عابه حتى أنذلك العقاب يكون مساوياً لعقاب كل من اقتدىء به في ذلك. وقال الواحدي: ليست مِن للتبعيض، لأنه يستلزم تخفيف الأوزارعن الاتباع، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام: «من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» لكنها للجنس أي: ليحملوامن جنس أوزار الاتباع انتهى. ولا تتقدر من التي لبيان الجنس هذا التقدير الذي قدره الواحدي، وإنما تقدر: الأوزار التيهي أوزار الذين يضلونهم، فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير. وبغير علم قال الزمخشري: حالمن المفعول أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضلال. وقال غيره: حال من الفاعل وهو أولى، إذ هو المحدث عنهالمسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية، والمعنى: أنهم يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد علىذلك الإضلال. ثم أخبر تعالى عن سوء ما يتحملونه للآخرة، وتقدم الكلام في إعراب مثل ساء ما يزرون. فأتى اللهأي: أمره وعذابه والبنيان، قيل: حقيقة. قال ابن عباس وغيره: الذين من قبلهم نمرود بني صرحاً ليصعد بزعمه إلى السماء،وأفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش، وقاله كعب الأحبار. وقال ابن عباس ووهب: طوله فيالسماء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع، فبعث الله تعالى عليه ريحاً فهدمته، وخر سقفه عليه وعلى اتباعه. وقيل:هدمه جبريل بجناحه، وألقى أعلاه في البحر، والحقف من أسفله. وقال ابن الكلبي: المراد المقتسمون المذكورون في سورة الحجر. وقيل:الذين من قبلهم بخت نصر وأصحابه. وقال الضحاك: قريات قوم لوط، وقالت فرقة: المراد بالذين من قبلهم من كفر منالأمم المتقدمة ومكر، ونزلت به عقوبة من الله، ويكون فأتى الله بنيانهم إلى آخره تمثيلاً والمعنى: أنهم سوّوا منصوبات ليمكروابها الله ورسوله، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين، فأتى البنيان من الأساطين بأنتضعضعت، فسقط عليهم السقف وهلكوا ونحوه: من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً. ومن القواعد لابتداء الغاية أي: أتاهم أمرالله من جهة القواعد. وقالت فرقة: المراد بقوله: فخرَّ عليهم السقف من فوقهم. جاءهم العذاب من قبل السماء التي هيفوقهم، وقاله ابن عباس. وقيل: المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه. قال ابن عطية: وهذا ينجر إلىاللغز. ومعنى قوله: من فوقهم، رفع الاحتمال في قوله: فخرَّ عليهم السقف، فإنك تقول: انهدم على فلان بناؤه وليس تحته،كما تقول: انفسد عليه، وقوله: من فوقه، ألزم أنهم كانوا تحته انتهى. وهذا الذي قاله ابن الأعرابي قال: يعلمك أنهمكانوا جالسين تحته، والعرب تقول: خر علينا سقف، ووقع علينا سقف، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه. وإن لم يكنوقع عليه فجاء بقوله من فوقهم ليخرج هذا الذي في كلام العرب فقال: من فوقهم، أي: عليهم وقع، وكانوا تحتهفهلكوا، فأتاهم العذاب. قال ابن عباس: يعني البعوضة التي أهلك بها نمروذ، وقيل: من حيث لا يشعرون، من حيث ظنواأنهم في أمان. وقرأ الجمهور: بنيانهم، وقرأت فرقة بنيتهم. وقرأ جعفر: بيتهم، والضحاك: بيوتهم. وقرأ الجمهور: السقف مفرداً، والأعرجالسقف بضمتين وزيد بن علي ومجاهد، بضم السين فقط. وتقدم توجيه مثل هاتين القراءتين في وبالنجم. وقرأت فرقة: السقف بفتحالسين وضم القاف، وهي لغة في السقف، ولعل السقف مخفف منعه، ولكنه كثر استعماله كما قالوا في رجل رجل وهيلغة تميمية. ولما ذكر تعالى ما حل بهم في دار الدنيا، ذكر ما يحل بهم في الآخرة. ويخزيهم: يعم جميعالمكاره التي تحل بهم، ويقتضي ذلك إدخالهم النار كقوله:
{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ }
أي أهنته كلالإهانة. وجمع بين الإهانة بالفعل، والإهانة بالقول بالتقريع والتوبيخ في قوله: يخزيهم. ويقول: أين شركائي، أضاف تعالى الشركاء إليه، والإضافةتكون بأدنى ملابسة، والمعنى: شركائي في زعمكم، إذ أضاف على الاستهزاء. وقرأ الجمهور: شركائي ممدوداً مهموزاً مفتوح الياء، وفرقة كذلك:تسكنها، فسقط في الدرج لالتقاء الساكنين. والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه: مقصوراً وفتح الياء هنا خاصة. وروي عنه: تركالهمز في القصص والعمل على الهمز فيه وقصر الممدود، وذكروا أنه من ضرورة الشعر، ولا ينبغي ذلك لثبوته في هذهالقراءة، فيجوز قليلاً في الكلام. والمشاقة: المفاداة والمخاصمة للمؤمنين. وقرأ الجمهور: تشاقون بفتح النون، وقرأ نافع بكسرها، ورويت عن الحسن،ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم هذه القراءة. وقرأت فرقة: بتشديدها، أدغم نون الرفع في نون الوقاية. والذين أوتوا العلم،عام فيمن أوتي العلم من الأنبياء، وعلماء أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم، فلا يلتفتون إليهم، وينكرون عليهم. وقيل:هم الملائكة، وقاله ابن عباس. وقيل: الحفظة من الملائكة. وقيل: من حضر الموقف من ملك وأنسي، وغير ذلك. وقال يحيىبن سلام: هم المؤمنون انتهى. ويقول أهل العلم: شماتة بالكفار وتسميعاً لهم، وفي ذلك إعظام للعلم، إذ لا يقول ذلكإلا أهله
{ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ }
تقدم تفسيره في سورة النساء. والظاهر أنّ الذين صفة للكافرين، فيكون ذلكداخلاً في القول. فإن كان القول يوم القيامة فيكون تتوفاهم حكاية حال ماضية، وإن كان القول في الدنيا لما أخبرتعالى أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول لهم ما يقول قال أهل العلم: إذا أخبر الله تعالى بذلك أن الخزي اليومالذي أخبر الله أنه يخزيهم فيه، فيكون تتوفاهم على بابها. ويشمل من حيث المعنى من توفته، ومن تتوفاه. ويجوز أنيكون الذين خبر مبتدأ محذوف، وأن يكون منصوباً على الذم، فاحتمل أن يكون مقولاً لأهل العلم، واحتمل أنْ يكون غيرمقول، بل من إخبار الله تعالى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله، وخبره فيقوله: فألقوا السلم، فزيدت الفاء في الخبر، وقد يجيء مثل هذا انتهى. وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش، فإنهيجيز: زيد فقام، أي قام. ولا يتوهم أنّ الفاء هي الداخلة في خبر المبتدإ إذا كان موصولاً، وضمن معنى الشرط،لأنه لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح الشرط، فلا يجوز فيما ضمن معناه. وقرأ حمزة، والأعمش: يتوفاهمبالياء من أسفل في الموضعين. وقرىء: بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها، وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين.والسلم هنا الاستسلام. قاله الأخفش، أو الخضوع قاله مقاتل. أي، انقادوا حين عاينوا الموت قد نزل بهم. وقيل: في القيامةانقادوا وأجابوا بما كانوا على خلافه في الدنيا من الشقاق والكبر. والظاهر عطف فألقوا على تتوفاهم، وأجاز أبو البقاء أنيكون معطوفاً على قوله: الذين، وأن يكون مستأنفاً. وقيل: تم الكلام عند قوله: ظالمي أنفسهم، ثم عاد الكلام إلىحكاية كلام المشركين يوم القيامة، فعلى هذا يكون قوله: قال الذين إلى قوله فألقوا، جملة اعتراضية بين الإخبار بأحوال الكفارما كنا نعمل من سوء هو على إضمار القول أي: ونعتهم بحمل السوء، إما أن يكون صريخ كذب كما قالوا:والله ربنا ما كنا مشركين، فقال تعالى: انظر كيف كذبوا على أنفسهم. وإما أن يكون المعنى: عند أنفسنا أي لوكان الكفر عند أنفسنا سواء ما علمناه. ويرجح الوجه الأول الرد عليهم ببلى، إذ لو كان ذلك على حسب اعتقادهملما كان الجواب بلى، على أنه يصح على الوجه الثاني أن يرد عليهم ببلى، والمعنى: أنكم كذبتم في اعتقادكم أنهليس بسوء، بل كنتم تعتقدون أنه سوء لأنكم تبينتم الحق وعرفتموه وكفرتم لقوله:
{ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }
وقوله:
{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }
والظاهر أنّ هذا السياق كله هو مع أهل العلم والكفار، وإن أهلالعلم هم الذين ردوا عليهم إخبارهم بنفي عمل السوء. ويجوز أن يكون الرد من الملائكة وهم الآمروهم بالدخول في النار،يسوقونهم إليها. وقيل: الخزنة، والظاهر الأبواب حقيقة. وقيل: المراد الدركات. وقيل: الأصناف كما يقال: فلان ينظر في باب من العلمأي صنف. وأبعد من قال: المراد بذلك عذاب القبر مستدلاً بما جاء القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ولما أكذبوهم من دعواهم أخبروا أنه هو العالم بأعمالهم، فهو المجازى عليها، ثم أمروهم بالدخول، واللام في فلبئسلام تأكيد، ولا تدخل على الماضي المنصرف، ودخلت على الجامد لبعده عن الأفعال وقربه من الأسماء. والمخصوص بالذم محذوف أي:فلبئس مثوى المتكبرين هي أي جهنم. ووصف التكبر دليل على استحقاق صاحبه النار، وذلك إشارة إلى قوله.
{ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ }
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ } * { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ } * { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } * { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } * { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ } * { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } * { إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } * { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } * { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } * { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } * { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } * { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } * { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } * { بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } * { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } * { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } * { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } * { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } * { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } * { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
[عدل]خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب، وخسفه الله يريد أذهبه في الأرض به.دخر دخوراً تصاغر، وفعل ما يؤمر شاء أو أبى. فقال ابن عطية: تواضع. قال ذو الرمة:
فلم يبق إلا داخر في مجلس | ومنجحر في غير أرضك في جحر |
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْفِى هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلاْخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ }: تقدم إعراب ماذا، إلا أنه إذا كانت ذا موصولة لميكن الجواب على وفق السؤال، لكون ماذا مبتدأ وخبر، أو الجواب نصب وهو جائز، ولكن المطابقة في الإعراب أحسن. وقرأالجمهور: خيراً بالنصب أي: أنزل خيراً. قال الزمخشري: فإن قلت: لم نصب هذا، ورفع الأول؟ قلت: فصلاً بين جواب المقروجواب الجاحد، يعني: أنّ هؤلاء لما سئلوا: لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال مكشوفاً مفعولاً للإنزال فقالوا: خيراً، وأولئك عدلوابالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأولين، وليس من الإنزال في شيء انتهى. وقرأ زيد بن علي: خير بالرفع أي:المنزل فتطابق هذه القراءة تأويل من جعل إذا موصولة، ولا تطابق من جعل ماذا منصوبة، لاختلافهما في الإعراب، وإن كانالاختلاف جائزاً كما ذكرنا. وروي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام المواسم من يأتيهم بخير النبي ﷺ،فإذا جاء الوفد كفه المقتسمون وأمره بالانصراف وقالوا: إنْ لم تلقه كان خيراً لك فيقول: أنا شر وافد إن رجعتإلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد ﷺ وأراه، فيلقى أصحاب رسول الله ﷺفيخبرونه بصدقه، وأنه نبي مبعوث، فهم الذين قالوا خيراً. والظاهر أن قوله: للذين، مندرج تحت القول، وهو تفسير للخير الذيأنزل الله في الوحي: أنّ من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة. وقالالزمخشري: للذين أحسنوا وما بعده بدل من خير، حكاية لقول الذين اتقوا أي: قالوا هذا القول، فقدم عليه تسميته خيراًثم خكاه انتهى. وقالت فرقة: هو ابتداء كلام من الله تعالى، مقطوع مما قبله، وهو بالمعنى وعد متصل بذكر إحسانالمتقين في مقالتهم. ومعنى حسنة مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها. ولما ذكر حال الكفارفي الدنيا والآخرة ذكر حال المؤمنين في الدارين، والظاهر أنّ المخصوص بالمدح هو جنات عدن. وقال الزمخشري: ولنعم دار المتقيندار الآخرة، فحذف المخصص بالمدح لتقدم ذكره، وجنات عدن خبر مبتدأ محذوف انتهى. وقاله ابن عطية: وقبلهما الزجاج وابن الأنباري،وجوزوا أن يكون جنات عدن مبتدأ، والخبر يدخلونها. وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات عدن بالنصب على الاشتغالأي: يدخلون جنات عدن يدخلونها، وهذه القراءة تقوي إعراب جنات عدن بالرفع أنه مبتدأ، ويدخلونها الخبر. وقرأ زيد بن علي:ولنعمت دار، بتاء مضمومة، ودار مخفوض بالإضافة، فيكون نعمت مبتدأ وجنات الخبر. وقرأ السلمي: تدخلونها بتاء الخطاب. وقرأ إسماعيل بنجعفر عن نافع: يدخلونها بياء على الغيبة، والفعل مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر وشيبة: تجري. قال ابن عطية: فيموضع الحال، وقال الحوفي: في موضع نعت لجنات انتهى. فكان ابن عطية لحظ كون جنات عدن معرفة، والحوفي لحظ كونهانكرة، وذلك على الخلاف في عدن هل هي علم؟ أو نكرة بمعنى إقامة؟ والكاف في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوفأي: جزاء مثل جزاء الذين أحسنوا يجزي، وطيبين حال من مفعول تتوفاهم، والمعنى: أنهم صالحوا الأحوال مستعدّون للموت والطيب الذيلا خبث فيه، ومنه:
{ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ }
. وقال أبو معاذ: طيبين طاهرين من الشكر بالكلمة الطيبة. وقيل: طيبينسهلة وفاتهم لا صعوبة فيها ولا ألم، بخلاف ما يقبض روح الكافر والمخلط. وقيل: طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله تعالى،وقيل: زاكية أفعالهم وأقوالهم، وقيل: صالحين، وقال الزمخشري: طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم. ويقولوننصب على الحال من الملائكة، وتسليم الملائكة عليهم بشارة من الله تعالى، وفي هذا المعنى أحاديث صحاح. وقوله: هدى للمتقين،هو وقت قبض أرواحهم، قاله: ابن مسعود، ومحمد بن كعب، ومجاهد. والأكثرون جعلوا التبشير بالجنة دخولاً مجازاً. وقال مقاتل والحسن:عند دخول الجنة وهو قول خزنة الجنة لهم في الآخرة: سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار. فعلى هذا القوليكون يقولون حالاً مقدرة، ولا يكون القول وقت التوفي. وعلى هذا يحتمل أن يكون الذين مبتدأ، والخبر يقولون، والمعنى: يقولونلهم سلام عليكم. ويدل لهذا القول قولهم: ادخلوا الجنة، ووقت الموت لا يقال لهم ادخلوا الجنة، فالتوفي هنا توفي الملائكةلهم وقت الحشر. وقوله: بما كنتم تعملون ظاهره في دخول الجنة بالعمل الصالح. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلـٰئِكَةُأَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن }: مناسبة هذه الآية لما قلبها أنهتعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم: أساطير الأولين، ثم أتبع ذلك بوعيدهم وتهديدهم، ثم توعد من وصف القرآنبالخيرية بين أن أولئك الكفرة لا يرتدعون عن حالهم إلا أن تأتيهم الملائكة بالتهديد، أو امر الله بعذاب الاستئصال. وقرأحمزة والكسائي: يأتيهم بالياء، وهي قراءة ابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وباقي السبعة بالتاء على تأنيث الجمع، وإتيان الملائكة لقبض الأرواح،وهم ظالمو أنفسهم، وأمر ربك العذاب المستأصل أو القيامة. والكاف في موضع نصب أي: مثل فعلهم في انتظار الملائكة أوامرالله فعل الكفار الذين يقدمونهم. وقيل: مثل فعلهم في الكفر والديمومة عليه فعل متقدموهم من الكفار. وقيل: فعل هنا كنايةعن اغترارهم، كأنه قيل: مثل اغترارهم باستبطاء العذاب اغتر الذين من قبلهم، والظاهر القول الأول لدلالة: هل ينظرون عليه، وماظلمهم بالله بإهلاكهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بكفرهم وتكذيبهم الذي أوجب لهم العذب في الدنيا والآخرة. وقوله: فأصابهم، معطوف علىفعل، وما ظلمهم اعتراض. وسيئات: عقوبات كفرهم. وحاق بهم أحاط بهم جزاء استهزائهم. وقال الذين أشركوا، تقدم تفسير مثل هذهالآية في آخر الأنعام، فأغنى عن الكلام في هذا. وقال الزمخشري: هنا يعني أنهم أشركوا بالله وحرموا ما أحل منالبحيرة والسائبة وغيرهما، ثم نسبوا فعلهم إلى الله، وقالوا: لو شاء الله لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه. كذلك فعلالذين من قبلهم أي أشركوا وحرموا حلال الله، فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوا على ربهم، فهل على الرسل إلاأن يبلغوا الحق، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه، وبراءة الله من أفعالالعباد، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها، وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه انتهى. وهوعلى طريقة الاعتزال. وهذا القول صادر ممن أقر بوجود الباري تعالى وهم الأكثرون، أو ممن لا يقول بوجوده. فعلى تقديرأنّ الرب الذي يعبده محمد ويصفه بالعلم والقدرة يعلم حالنا، وهذا جدال من أي الصفنين كان ليس فيه استهزاء. وقالالزجاج: قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء، ومن المطابقة التي أنكرت مطابقة الأدلة لإقامة الحجة من مذهب خصمها مستهزئة في ذلك.{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً * مّنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ *وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْحَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَـٰلَةُ فَسِيرُواْ فِى ٱلاْرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ }: قال الزمخشري: ولقد أمد إبطال قدر السوء ومشيهالشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله واجتناب الشر الذيهو الطاغوت فمنهم من هدى الله أي لطف به، لأنه عرفه من أهل اللطف، ومنهم من حقت عليه الضلالة أيثبت عليه الخذلان والشرك من اللطف، لأنه عرفه مصمماً على الكفر لا يأتي منه خير. فسيروا في الأرض فانظروا مافعلت بالمكذبين حتى لا تبقى لكم شبهة وإني لا أقدر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار انتهى. وهوعلى طريقة الاعتزال. ولما قال: فهل على الرسل إلا البلاغ المبين، بيَّن ذلك هنا بأنه بعث الرسل بعبادته وتجنب عبادةغيره، فمنهم من اعتبر فهداه الله، ومنهم من أعرض وكفر، ثم أحالهم في معرفة ذلك على السير في الأرض واستقراءالأمم، والوقوف على عذاب الكافرين المكذبين، ثم خاطب نبيه وأعلمه أنّ من حتم عليه بالضلالة لا يجدي فيه الحرص علىهدايته. وقرأ النخعي: وإن بزيادة واو وهو والحسن، وأبو حيوة: تحرص بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة. وقرأالجمهور بالكسر مضارع حرص بالفتح، وهي لغة الحجاز. وقرأ الحرميان، والعربيان، والحسن، والأعرج، ومجاهد، وشيبة، وشبل، ومزاحم الخراساني، والعطاردي، وابنسيرين: لا يهدي مبنياً للمفعول، ومن مفعول لم يسم فاعله. والفاعل في يضل ضمير الله والعائد على من محذوف تقديره:من يضله الله. وقرأ الكوفيون، وابن مسعود، وابن المسيب، وجماعة: يهدي مبنياً للفاعل. والظاهر أنّ في يهدي ضميراً يعود علىالله، ومن مفعول، وعلى ما حكى الفراء أنّ هدى يأتي بمعنى اهتدى يكون لازماً، والفاعل من أي لا يهتدي منيضله الله. وقرأت فرقة منهم عبد الله: لا يهدي بفتح الياء وكسر الهاء والدال. كذا قال ابن عطية، ويعني: وتشديدالدال وأصله يهتدي، فأدغم كقولك في: يختصم بخصم. وقرأت فرقة: يهدي بضم الياء وكسر الدال، قال ابن عطية: وهي ضعيفةانتهى. وإذا ثبت أن هدى لازم بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة، لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى: لا يجعلمهتدياً من أضله، وفي مصحف أُبي: لا هادي لمن أضل. وقال الزمخشري: وفي قراءة أبيّ فإنّ الله لا هادي لمنيضل ولمن أضل. وقرىء: يضل بفتح الياء، وقال أيضاً: حرص رسول الله ﷺ على إيمان قريش، وعرفهأنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه لا يهدي من يضل أي: لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث، واللهتعالى متعالٍ عن العبث، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والضمير في لهمعائد على معنى من، والضمير في وأقسموا عائد على كفار قريش. وعن أبي العالية: نزلت في رجل من المسلمين تقاضىديناً على رجل من المشركين، فكان فيما تكلم به المسلم الذي ادخره بعد الموت فقال المشرك، وأنكر أنك تبعث بعدالموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، بلى رد عليه ما نفاه، وأكده بالقسم، والتقدير: بلى يبعثه. وانتصب وعداًوحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى من تقدير المحذوف الذي هو يبعثه. وقال الحوفي: حقاً نعت لوعدا. وقرأ الضحاك: بلى وعد حق، والتقدير: بعثهم وعد عليه حق، وحق صفة لوعد. وقال الزمخشري: وأقسموا بالله معطوف علىوقال الذين أشركوا، إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا، توريك ذنوبهم على مشيئة الله، وإنكارهم البعث مقسمينعليه، وبيّن أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنهم يبعثون، أو أنه وعد واجبعلى الله لأنهم يقولون: لا يجب على الله شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة انتهى. وهو علىطريقة الاعتزال. وأكثر الناس هم الكفار المكذبون بالبعث. وأما قول الشيعة: إن الإشارة بهذه الآية إنما هي لعليّ بن أبيطالب، وأن الله سيبعثه في الدنيا، فسخافة من القول. والقول بالرجعة باطل وافتراء على الله على عادتهم، رده ابن عباسوغيره. واللام في ليبين متعلقة بالفعل المقدر بعد بلى أي: نبعثهم ليبين لهم كما يقول الرجل: ما ضربت أحداً فيقول:بلى زيداً أي: ضربت زيداً. ويعود الضمير في يبعثهم المقدر، وفي لهم على معنى من في قوله: من يموت، وهوشامل للمؤمنين والكفار. والذي اختلفوا فيه هو الحق وأنهم كانوا كاذبين فيما اعتقدوا من جعل آلهة مع الله، وإنكار النبوّات،وإنكار البعث، وغير ذلك مما أمروا به. وبين لهم أنه دين الله فكذبوا به وكذبوا في نسبة أشياء إلى اللهتعالى. وقال الزمخشري: إنهم كذبوا في قولهم: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، وفي قولهم: لا يبعثالله من يموت انتهى. وفي قولهم دسيسة الاعتزال. وقيل: تتعلق ليبين بقوله: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً، أي: ليظهرلهم اختلافهم، وأنّ الكفار كانوا على ضلالة من قبل بعث ذلك الرسول، كاذبون في رد ما يجيء به الرسل.{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ فِى ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ *لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَة وَلاَجْرُ ٱلاْخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }: لما تقدّم إنكارهمالبعث وأكدوا ذلك بالحلف بالله الذي أوجدهم، ورد عليهم تعالى بقوله: {بَلَىٰ } وذكر حقية وعده بذلك، أوضح أنه تعالىمتى تعلقت إرادته بوجود شيء أوجده. وقد أقروا بأنه تعالى خالق هذا العالم سمائة وأرضه، وأن إيجاده ذلك لم يوقفعلى سبق مادّة ولا آلة، فكما قدر على الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادراً على الإعادة. وتقدم تفسير قوله تعالى:كن فيكون في البقرة، فأغنى عن إعادته. والظاهر أن اللام في لشيء وفي له للتبليغ، كقولك: قلت لزيد قم. وقالالزجاج: هي لام السبب أي: لأجل إيجاد شيء، وكذلك له أي لأجله. قال ابن عطية: وما في ألفاظ هذه الآيةمن معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد، لا إلى الإرادة. وذلك أنّ الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئنافواستقبال، لا في إرادة ذلك، ولا في الأمر به، لأن ذينك قديمان. فمن أجل المراد عبر بإذا، ونقول: وأما قولهلشيء فيحتمل وجهين: أحدهما: أنه لما كان وجوده حتماً جاز أن يسمى شيئاً وهو في حالة عدم. والثاني: أن قولهلشيء تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها، وأنّ ما كان منها موجوداً كان مراداً، وقيل له: كن فكان، فصار مثالاًلما يتأخر من الأمور بما تقدّم، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئاً انتهى. وفيه بعض تلخيص. وقال: إذا أردناهمنزل منزلة مراد، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أنّ الموجودات تجيء وتظهر شيئاً بعد شيء، فكأنه قال: إذا ظهرالمراد فيه. وعلى هذا الوجه يخرج قوله:
{ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ }
وقوله: {لِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا منكم} ونحو هذامعناه يقع منكم ما أراد الله تعالى في الأزل وعلمه، وقوله: أن نقول، ينزل منزلة المصدر كأنه قال قولنا، ولكنأن مع الفعل تعطى استئنافاً ليس في الصدر في أغلب أمرها، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذهالآية. وكقوله تعالى:
{ وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضُ بِأَمْرِهِ }
وغير ذلك انتهى. وقوله: ولكنْ أنّ مع الفعل يعنيالمضارع، وقوله: في أغلب أمرها ليس بجيد، بل تدل على المستقبل في جميع أمورها. وأما قوله: وقد تجيء إلى آخره،فلم يفهم ذلك من دلالة أنْ، وإنما ذلك من نسبة قيام السماء والأرض بأمر الله، لأنّ هذا لا يختص بالمستقبلدون الماضي في حقه تعالى. ونظيره
{ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء * قَدِيراً }
فكان تدل على اقتران مضمونالجملة بالزمن الماضي، وهو تعالى متصف بهذا الوصف ماضياً وحالاً ومستقبلاً، وتقييد الفعل بالزمن لا يدل على نفيه عن غيرذلك الزمن. والذين هاجروا قال قتادة: نزلت في مهاجري أصحاب الرسول ﷺ. وقال داود بن أبي هند:في أبي جندل بن سهيل بن عمرو. وعن ابن عباس: في صهيب، وبلال، وخباب بن الأرت، وأضرابهم عذبهم المشركون بمكة،فبوأهم الله المدينة. وعلى هذا الاختلاف في السبب يتنزل المراد بقوله: والذين هاجروا. قال ابن عطية: لما ذكر الله كفارمكة الذين أقسموا بأنّ الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجرواإلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور وهو الصحيح في سبب الآية، لأنّ هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزولالآية انتهى. والذين هاجروا، عموم في المهاجرين كائناً ما كانوا، فيشمل أولهم وآخرهم. وقرأ الجمهور: لنبوأنهم، والظاهر انتصاب حسنة علىأنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي: تبوئة حسنة. وقيل: انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر، لأنّ معنىلنبوأنهم في الدنيا لنحسنن إليهم، فحسنة في معنى إحساناً. وقال أبو البقاء: حسنة مفعول ثان لنبوأنهم، لأنّ معناه لنعطينهم، ويجوزأن يكون صفة لمحذوف أي: دار حسنة انتهى. وقال الحسن، والشعبي، وقتادة: داراً حسنة وهي المدينة. وقيل: التقدير منزلة حسنة،وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموا، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب. وقال مجاهد: الرزق الحسن. وقال الضحاك:النصر على عدوهم. وقيل: ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. وقيل: ما بقي لهم فيهامن الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وقيل: الحسنة كل شيء مستحسن ناله المهاجرون. وقرأ عليّ، وعبد الله، ونعيمبن ميسرة، والربيع بن خيثم: لنثوينهم بالثاء المثلثة، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، وانتصب حسنةعلى تقدير إثواة حسنة، أو على نزع الخافض أي: في حسنة، أي: دار حسنة، أو منزلة حسنة. ودل هذا الإخباربالمؤكد بالقسم على عظيم محل الهجرة، لأنه بسببها ظهرت قوة الإسلام كما أنّ بنصرة الأنصار قويت شوكته. وفي الله دليلعلى إخلاص العمل لله، ومن هاجر لغير الله هجرته لما هاجر إليه. وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدالعليها الجملة المقسم عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ، خلافاً لثعلب. وأجاز أبو البقاء أن يكون الذينمنصوباً بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل. ولا يجوززيداً لأضربن، فلا يجوز زيداً لأضربنه. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه قال:خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكثر، ولأجر الآخرة أي: ولأجرالدار الآخرة أكبر، أي: أكبر أنْ يعلمه أحد قبل مشاهدته كما قال: وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً. والضميرفي يعلمون عائد على الكفار أي: لو كانوا يعلمون أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا فيدينهم. وقيل: يعود على المؤمنين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم، والذين صبروا على تقديرهم الذين، أوأعني الذين صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، لا سيما حرم الله المحبوب لكل قلب مؤمن، فكيف لمن كان مسقطرأسه؟ وعلى بذل الروح في ذات الله، واحتمال الغربة في دار لم ينشأ بها، وناس لم يألفهم أجانب حتى فيالنسب. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ * فَاسْئَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِٱلْبَيّنَـٰتِوَٱلزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُٱلاْرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰتَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ * لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ }: نزلت في مشركي مكة أنكروا نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: الله أعظمأن يكون رسوله بشراً، فهلا بعث إلينا ملكاً؟ وتقدّم تفسير هذه الجملة في آخر يوسف، والمعنى: نوحي إليهم على ألسنةالملائكة. وقرأ الجمهور: يوحى بالياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة: بالياء وكسرها وعبد الله، والسلمي، وطلحة، وحفص: بالنون وكسرها. وأهل الذكر:اليهود، والنصارى، قاله: ابن عباس، ومجاهد، والحسن. وعن مجاهد أيضاً: اليهود. والذكر: التوراة لقوله تعالى:
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذّكْرِ }
وعن عبد الله بن سلام، وسلمان. وقال الأعمش، وابن عيينة: من أسلم من اليهود والنصارى. وقال الزجاج:عام فيمن يعزى إليه علم. وقال أبو جعفر وابن زيد: أهل القرآن. ويضعف هذا القول وقول من قال: من أسلممن الفريقين، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين، لأنهم مكذبون لهم. قال ابن عطية: والأظهر أنهم اليهود والنصارىالذين لم يسلموا، وهم في هذه الآية النازلة، إنما يخبرون من الرسل عن البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لميزالوا مصدقين لهم، ولا يتهمون بشهادة لهم لنا، لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد ﷺ، وهذا هوكسر حجتهم ومذهبهم، لا أنا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه. وقد أرسلت قريش إلى يهود يثربيسألونهم ويسدون إليهم انتهى. والأجود أن يتعلق قوله: بالبينات، بمضمر يدل عليه ما قبله كأنه قيل: ثم أرسلوا؟ قال: أرسلناهمبالبينات والزبر، فيكون على كلامين، وقاله: الزمخشري وابن عطية وغيرهما. وقد يتعلق بقوله: وما أرسلنا، وهذا فيه وجهان: أحدهما: أنّالنية فيه التقديم قبل أداة الاستثناء، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً حتى لا يكون ما بعدإلا معمولين متأخرين لفظاً ورتبة، داخلين تحت الحصر لما قبلها، وهذا حكاه ابن عطية عن فرقة. والوجه الثاني: أنْ لاينوي به التقديم، بل وقعا بعد إلا في نية الحصر، وهذا قاله الحوفي والزمخشري، وبدأ به قال: تتعلق بما أرسلناداخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيداً بالسوط، لأن أصلهضربت زيداً بالسوط انتهى. وقال أبو البقاء: وفيه ضعف، لأنّ ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذا تم الكلامعلى إلا وما يليها، إلا أنه قد جاء في الشعر. قال الشاعر:
ليتهم عذبوا بالنار جارهم | ولا يعذب إلا الله بالنار |
انتهى. وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، لأنهم لا يجيزون أن يقع بعدإلا، إلا مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعاً، وما ظن من غير الثلاثة معمولاً لما قبل إلاّ قدر له عامل.وأجاز الكسائي أن تقع معمولاً لما قبلها منصوب نحو: ما ضرب إلا زيد عمراً، ومخفوض نحو: ما مرّ إلا زيدبعمرو، ومرفوع نحو: ما ضرب إلا زيداً عمرو. ووافقه ابن الأنباري في الموفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال. فالقول الذيقاله الحوفي والزمخشري يتمشى على مذهب الكسائي والأخفش، ودلائل هذه المذاهب مذكورة في علم النحو. وأجاز الزمخشري أن يكون صفةلرجال أي: رجالاً ملتبسين بالبينات فيتعلق بمحذوف، وهذا وجه سائغ، لأنه في موضع صفة لما بعد: إلا، فوصف رجالاً بيوحىإليهم، وبذلك العامل في بالبينات كما تقول: ما أكرمت إلا رجلاً مسلماً ملتبساً بالخير. وأجاز أيضاً أن يتعلق بيوحى إليهم،وأن يتعلق بلا يعلمون. قال: على أنّ الشرط في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير: إن كانت علمت لك فاعطني حقي،وقوله: فاسألوا أهل الذكر، اعتراض على الوجوه المتقدمة يعني: من التي ذكر غير الوجه الأخير. وأنزلنا إليك الذكر: هو القرآن،وقيل له ذكر لأنه موعظة وتبيه للغافلين. وقيل: الذكر العلم ما نزل إليهم من المشكل والمتشابه، لأن النص والظاهر لايحتاجان إلى بيان. وقال الزمخشري: مما أمروا به ونهوا عنه، ووعدوا وأوعدوا. وقال ابن عطية: لتبين بسردك بنص القرآن مانزل إليهم. ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل، فيدخل في هذا ما تبينه السنة من أمر الشريعة،وهذا قول مجاهد انتهى. ولعلهم يتفكرون أي: وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا، والسيئات نعت لمصدر محذوف أي: المكراتالسيئات قاله الزمخشري، أو مفعول يمكروا على تضمين مكروا معنى فعلوا وعملوا، والسيئات على هذا معاصي الكفر وغيره قاله قتادة،أو مفعول بأمن ويعني به العقوبات التي تسوءهم ذكرهما ابن عطية. وعلى هذا الأخير يكون أن يخسف بدلاً من السيئات.وعلى القولين، قبله مفعول بامن، والذين مكروا في قول الأكثرين هم أهل مكة مكروا بالرسول ﷺ. وقالمجاهد: هو نمرود، والخسف بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل. وذكر النقاش أنه وقع الخسف في هذه الأمةبهم الأرض كما فعل بقارون، وذكر لنا أنّ أخلاطاً من بلاد الروم خسف بها، وحين أحسن أهلها بذلك فرّ أكثرهم،وأن بعض التجار ممن كان يرد إليها رأى ذلك من بعيد فرجع بتجارته. من حيث لا يشعرون: من الجهة التيلا شعور لهم بمجيء العذاب منها، كما فعل بقوم لوط في تقلبهم في أسفارهم قاله قتادة، أو في منامهم رويهذا وما قبله عن ابن عباس. وقال الضحاك، وابن جريج، ومقاتل: في ليلهم ونهارهم أي: حالة ذهابهم ومجيئهم فيمما. وقيل:في تقلبهم في مكرهم وحيلهم، فيأخذهم قبل تمام ذلك. وقال الزجاج: جميع ما يتقلبون فيه، فما هم بسابقين الله ولافائتيه. والأخذ هنا الإهلاك كقوله:
{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ }
وعلى تخوف على تنقص قاله: ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. وقال ابنقتيبة: يقال خوفته وتخوفته إذا تنقصته وأخذت من ماله وجسمه. وقال الهيثم بن عدي: هو النقص بلغة أزدشنوءة. وفي حديثلعمر أنه سأل عن التخوف، فأجابه شيخ: بأنه التنقص في لغة هذيل. وأنشده قول أبي كثير الهذلي:
تخوف الرجل منها تامكاً قردا | كما تخوف عود النبة السقر |
وهذا التخوف بمعنى التنقص، قيل: من أعماله، وقيل: يأخذ واحداً بعد واحد، وروياعن ابن عباس. وقال الزجاج: ينقص ثمارهم وأموالهم حتى يهلكهم. وقيل: على تخوف، على خوف أن يعاقبهم أو يتجاوز عنهمقاله قتادة. وقال الزمخشري: على تخوف متخوفين، وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا، فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلافقوله: من حيث لا يشعرون انتهى. وقاله الضحاك، يأخذ قرية فتخاف القرية الأخرى. وقال ابن بحر: على تخوف ضد البغتةأي: على حدوث حالات يخاف منها كالرياح والزلازل والصواعق، ولهذا ختم بقوله تعالى: إن ربكم لرؤوف رحيم، لأنّ في ذلكمهلة وامتداد وقت، فيمكن فيه التلافي. وقال الليث بن سعد: على تخوف على عجل. وقيل: على تقريع بما قدّموه، وهذامروي عن ابن عباس. ولما كان تعالى قادراً على هذه الأمور ولم يعاجلهم بها ناسب وصفه بالرأفة والرحمة. {أَوَلَمْ * يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء * يَتَفَيَّأُ ظِلَـٰلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دٰخِرُونَ *وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلاْرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلَـئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَـٰفُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَمَا يُؤْمَرُونَ }: لما ذكر تعالى قدرته على تعذيب الماكرين وإهلاكهم بأنواع من الأخذ، ذكر تعالى طواعية ما خلق منغيرهم وخضوعه ضد حال الماكرين، لينبههم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره. وقرأ السلمي، والأعرج،والأخوان: أو لم تروا بتاء الخطاب إما على العموم للخلق استؤنف به الأخبار، وإما على معنى: قل لهم إذا كانخطاباً خاصاً. وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة. واحتمل أيضاً أن يعود الضمير على الذين مكروا، واحتمل أن يكون إخباراًعن المكلفين، والأول أظهر لتقدم ذكرهم. وقرأ أبو عمرو، وعيسى، ويعقوب: تتفيئوا بالتاء على لتأنيث، وباقي السبعة بالياء. وقرأ الجمهور:ظلاله جمع ظل. وقرأ عيسى: ظلله جمع ظلة، كحلة وحلل. والرؤية هنا رؤية القلب التي يقع بها الاعتبار، ولكنها بواسطةرؤية العين. قيل: والاستفهام هنا معناه التوبيخ. قيل: ويجوز أن يكون معناه التعجب والتقدير: تعجبوا من اتخاذهم مع الله شريكاًوقد رأوا هذه المصنوعات التي أظهرت عجائب قدرته وغرائب صنعه، مع علمهم بأنّ آلهتهم التي اتخذوها شركاء لا يقدر علىشيء البتة. والجملة من قوله: تتفيئوا، في موضع الصفة قاله الحوفي، وهو ظاهر قول ابن عطية والزمخشري. قال ابن عطية:من شيء لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله: تتفيؤ ظلاله، لأنّ ذلك صفة لما عرض للعبرة فيجميع الأشجاص التي لها ظل. وقال الزمخشري: وما موصولة بخلق الله وهو مبهم بيانه من شيء تتفيؤ ظلاله، وقال غيرهؤلاء: المعنى من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، وقوله: تتفيؤ ظلاله، إخبار عن قوله من شيءوصف له، وهذا الإخبار يدل على ذلك الوصف المحذوف الذي هو له ظل. وتتفيؤ تتفعل من الفيء، وهو الرجوع يقال:فاء الظل يفيء فيأرجع، وعاد بعدما نسخه ضياء الشمس. وفاء إذا عدي فبالهمزة كقوله:
{ مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ }
أو بالتضعيف نحو: فيأ الله الظل فتفيأ، وتفيأ من باب المطاوعة، وهو لازم وقد استعمله أبو تمام متعدياً قال:
طلبت ربيع ربيعة الممهى لها | وتفيأت ظلالها ممدودا |
ويحتاج ذلك إلى نقله من كلام العرب متعدياً. قال الأزهري: تفيؤالظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس، والظل ما يكون بالغداة وهو مالم تنله. وقال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه | ولا الفيء من برد العشيّ تذوق |
وقالامرؤ القيس:
تيممت العين التي عند ضارج | يفيء عليها الظل عرمضها طام |
وعن رؤبة ما كانت عليه الشمسفزالت عنه فهو فيء وظل ما لم تكن عليه فهو ظل، وذلك أنّ الشمس من طلوعها إلى وقت الزوال تنسخالظل، فإذا زالت رجع، ولا يزال ينمو إلى أن تغيب. والمشهور أنّ الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، والاعتبار فيهذه الآية من أول النهار إلى آخره. فمعنى تتفيؤ تتنقل وتميل، وأضاف الظلال وهي جمع إلى ضمير مفرد، لأنه ضميرما، وهو جمع من حيث المعنى لقوله:
{ لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ }
وقال صاحب اللوامح: في قراءة عيسى ظلله، وظله الغيموهو جسم، وبالكسر الفيء وهو عرض في العامة: فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى، وأما في العامةفعلى الاستعارة انتهى. قالوا في قوله: عن اليمين والشمائل، بحثان. أحدهما: ما المراد بذلك. والثاني: ما الحكمة في إفراداليمين وجمع الشمائل؟ أما الأول فقالوا: يمين الفلك وهو المشرق. وشماله هو المغرب. وخص هذان الاسمان بهذين الجانبين لأن أقوىجانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغربشماله، فعلى هذا تقول الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك يقع الظلال إلى الجانب الغربي، فإن انحدرتمن وسط الفلك عن الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي، فهذا المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال.وقيل: البلدة التي عرضها أقل من مقدار الميل تكون الشمس في الصيف عن يمين البلدة فتقع الظلال على يمينهم. وقالالزمخشري: المعنى أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ضلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها عن جانبيكل واحد منها وشقيه، استعارة من يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي: ترجع الظلال من جانب إلى جانب انتهى. وقالابن عطية: والمقصود العبرة في هذه الآية، هو كل جرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمانوشمائل إنما هو البشر فقط، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على حسب الاستعارة لغير اللبس تقدره: ذا يمين وشمال، وتقدره:بمستقبل أي جهة شئت، ثم تنظر ظله فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كلأقطار الدنيا، فهذا يعم ألفاظ الآية. وفيه تجوز واتساع. ومن ذهب إلى أنّ اليمين من غدوة الزوال، ويكون من الزوالإلى المغيب عن الشمال، وهو قول قتادة وابن جريج، فإنما يترتب فيما قدره مستقبل الجنوب انتهى. وأما الثاني فقال الزمخشري:واليمين بمعنى الأيمان، فجعله وهو مفرد بمعنى الجمع، فطابق الشمائل من حيث المعنى كما قال:
{ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ }
يريد الإدبار.وقال الفراء: كأنه إذا وجد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها لأنّ قوله ما خلقالله من شيء، لفظ واحد ومعناه الجمع، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد لقوله:
{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ }
وقوله:
{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ }
وقيل: إذا فسرنا اليمين بالمشرق، كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها، فكانت اليمينواحدة. وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض، وهي كثيرة، فلذلك عبر عنهابصيغة الجمع. وقال الكرماني يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف، لأنّ الظل يفيء من الجهات كلها فبدىء باليمين لأنابتداء التفيؤ منها، أو تيمناً بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين اليمين والشمال من التضاد، وتنزل القداموالخلف منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف. وقيل: وحد اليمين وجمع الشمائل، لأن الابتداء عن اليمين، ثم ينقبضشيئاً فشيئاً حالاً بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمال، فتعدد بتعدد الحالات. وقال ابن عطية:وما قال بعض الناس من أن اليمين أول وقعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمائل، وأفرداليمين فتخليط من القول ومبطل من جهات. وقال ابن عباس: إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربهاظلاً، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً فقبض إليه الظل، فعلى هذا تأول دورة الشمس بالظل عن يمين مستقبل الجنوب،ثم يبدأ الانحراف فهو من الشمائل، لأنه حركات كثيرة وظلال منقطعة، فهي شمائل كثيرة، فكان الظل عن اليمين متصلاً واحداًعاماً لكل شيء انتهى. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكتامي المعروف بانب الصائغ: أفرد وجمعبالنظر إلى الغايتين، لأنّ ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو بالعشي علىالعكس لاستيلائه على جميع الجهات، فلحظت الغايتان في الآية: هذا من جهة المعنى، وفيه من جهة اللفظ المطابقة، لأنّ سجداًجمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به، فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى، ولحظهما معاً وتلك الغاية في الإعجاز انتهى. والظاهرحمل الظلال على حقيقتها، وعلى ذلك وقع كلام أكثر المفسرين وقالوا: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظلقدامك، فإذا ارتفعت كان على يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا أرادت الغروب كان على يسارك. وقالت فرقة:الظلال هنا الأشخاص وهي المرادة نفسها، والعرب تخبر أحياناً عن الأشخاص بالظلال. ومنه قول عبدة بن الطبيب:
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية | وفار للقوم باللحم المراجيل |
وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الشاعر:
تتبع أفياء الظلال عيشة |
أي: أفياءالأشخاص. قال ابن عطية: وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان أبو علي قرره انتهى. والظاهر أن السجود هناعبارة عن الانقياد، وجريانها على ما أراد الله من ميلان تلك الظلال ودورانها كما يقال للمشير برأسه إلى الأرض علىجهة الخضوع: ساجد. قال الزمخشري: سجداً حال من الظلال، وهم داخرون حال من الضمير في ظلاله، لأنه في معنى الجمع،وهو ما خلق الله من شيء له ظل. وجمع بالواو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلكمن يعقل فغلب، والمعنى: أنّ الظلال منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها. ذاخرةأيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع انتهى. فغاير الزمخشري بين الحالين، جعل سجداً حالاً من الظلال، ووهم داخرونحالاً من الضمير في سجداً، وأن يكون حالاً ثانية من الظلال كما تقول: جاء زيد راكباً وهو ضاحك، فيجوز أنيكون وهو ضاحك حالاً من الضمير في راكباً، ويجوز أن يكون حالاً من زيد، وهذا الثاني عندي أظهر، والعامل فيالحالين هو تتفيؤ، وعن متعلقة به، وقاله الحوفي. وقيل: في موضع الحال، وقاله أبو البقاء. وقيل: عن اسم أي: جانباليمين، فيكون إذ ذاك منصوباً على الظرف. وأما ما أجازه الزمخشري من أن قوله: وهم داخرون، حال من الضمير فيظلاله، فعلى مذهب الجمهور لا يجوز، وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة، ومن ذهب إلى أنه إذا كان المضاف جزءاًأو كالجزء جاز، وقد يخبر هنا ويقول: الظلال وإن لم تكن جزءاً من الأجرام فهي كالجزء، لأن وجودها ناشىء عنوجودها. وذهبت فرقة إلى أن السجود هنا حقيقة. قال الضحاك: إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبتوشجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت. وقال مجاهد: إنما تسجد الظلال دون الأشخاص، وعنه أيضاً إذا زالتالشمس سجد كل شيء. وقال الحسن: أما ظللك فيسجد لله، وأما أنت فلا تسجد له. وقيل: لما كانت الظلال ملصقةبالأرض واقعة عليها على هيئة الساجد وصفت بالسجود، وكون السجود يراد به الحقيقة وهو الوقوع على الأرض على سبيل العبادةوقصدها يبعد، إذ يستدعي ذلك الحياة والعلم والقصد بالعبادة. وخصّ الظل بالذكر لأنه سريع التغير، والتغير يقتضي مغيراً غيره ومدبراًله، ولما كان سجود الظلال في غاية الظهور بدىء به، ثم انتقل إلى سجود ما في السموات والأرض. ومن دابة:يجوز أن يكون بياناً لما في الظرفين، ويكون مَن في السموات خلق يدبون. ويجوز أن يكون بياناً لما في الأرض،ولهذا قال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض. وعطف والملائكة على ما في السموات وما في الأرض، وهممندرجون في عموم ما تشريفاً لهم وتكريماً، ويجوز أن يراد بهم الحفظة التي في الأرض، وبما في السموات ملائكتهنّ، فلميدخلوا في العموم. وقيل: بين تعالى في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله، بين أنّ أشرف الموجودات وهم الملائكة،وأخسها وهي الدواب منقادة له تعالى، ودل ذلك على أن الجميع منقاد لله تعالى. وقيل: الدابة اسم لكل حيوان جسمانييتحرك ويدب، فلما ميز الله تعالى الملائكة عن الدابة، علمنا أنها ليست مما يدب، بل هي أرواح مختصة بحركة انتهى.وهو قول فلسفي. ولما كان بين المكلفين وغيرهم قدر مشترك في السجود وهو الانقياد لإرادة الله، جمع بينهما فيه وإناختلفا في كيفية السجود. وقال الزمخشري: فإن قلت: فهلا جيء بمن دون ما تغليباً للعقلاء من الدواب على غيرهم؟قلت: لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب، فكان متناولاً للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاءوغيرهم إرادة العموم انتهى. وظاهر السؤال تسليم أنّ من قد تشمل العقلاء وغيرهم على جهة التغليب، وظاهر الجواب تخصيص منبالعقلاء، وأنّ الصالح للعقلاء وغيرهم ما دون من، وهذا ليس بجواب، لأنه أورد السؤال على التسليم، ثم ذكر الجواب علىغير التسليم فصار المعنى: أن من يغلب بها، والجواب لا يغلب بها، وهذا في الحقيقة ليس بجواب، والظاهر أنّ الضميرفي قوله: يخافون، عائد على المنسوب إليهم السجود. في ولله يسجد، وقاله أبو سليمان الدمشقي. وقال ابن السائب ومقاتل: يخافونمن صفة الملائكة خاصة، فيعود الضمير عليهم. وقال الكرماني: والملائكة موصوفون بالخوف، لأنهم قادرون على العصيان وإن كانوا لا يعصون.والفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى، فإن علقته بيخافون كان على حذف مضاف أي: يخافون عذابه كائناً من فوقهم، لأنالعذاب إنما ينزل من فوق، وإن علقته بربهم كان حالاً منه أي: يخافون ربهم عالياً لهم قاهراً لقوله:
{ وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }
{ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـٰهِرُونَ }
وفي نسبة الخوف لمن نسب إليه السجود أو الملائكة خاصة دليل على تكليفالملائكة كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء مدارون على الوعد والوعيد كما قال تعالى:
{ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }
ومن يقل منهم: إنه إلۤه من دونه، فذلك نجزيه جهنم. وقيل: الخوف خوف جلال ومهابة. والجملة من يخافون يجوز أن تكونحالاً من الضمير في من لا يستكبرون، ويجوز أن تكون بياناً لنفي الاستكبار وتأكيداً له، لأن من خاف الله لميستكبر عن عبادته. وقوله: ويفعلون ما يؤمرون، أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهمإلى ما نفذ من أمر الله تعالى.
{ وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } * { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } * { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } * { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } * { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } * { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } * { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } * { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } * { يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } * { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } * { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } * { تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } * { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } * { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } * { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } * { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } * { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } * { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } * { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } * { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
[عدل]وصب الشيء دام، قال أبو الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه | يوماً بذمّ الدهر أجمع واصبا |
وقال حسان:
غيرته الريح يسفى به | وهزيم رعده واصب |
والعليل وصيب، لكنّالمرض لازم له. وقيل: الوصب التعب، وصب الشيء شق، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها. والجواز: رفع الصوت بالدعاء، وقالالأعشى يصف راهباً: يداوم من صلوات المليك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا ويروى: يراوح. دس الشيء في الشيء أخفاهفيه. الفرث: كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعى. النحل: حيوان معروف. الحفدة: الأعوان والخدم، ومن يسارع فيالطاعة حفد يحفد حفداً وحفوداً وحفداناً، ومنه: وإليك نسعى ونحفد أي: نسرع في الطاعة. وقال الشاعر:
حفد الولائد حولهنّ وأسلمت | بأكفهنّ أزمة الأجمال |
وقال الأعشى:
كلفت مجهودها نوقاً يمانية | إذا الحداة على أكسائها حفدوا |
وتتعدى فيقال:حفدني فهو حافدي. قال الشاعر:
يحفدون الضيف في أبياتهم | كرماً ذلك منهم غير ذل |
قال أبو عبيدة: وفيه لغة أخرى،أحفد إحفاداً، وقال: الحفد العمل والخدمة. وقال الخليل: الحفدة عند العرب الخدم. وقال الأزهري: الحفدة أولاد الأولاد، وقيل: الأختان. وأنشد:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت | لها حفد مما يعد كثير ولكنها نفس عليّ أبية |
{وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّـٰيَ فَٱرْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ* وَلَهُ ٱلدّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ * ٱللَّهِ فَمَنِ * ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـئَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَـٰهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَتَعْلَمُونَ }: لما ذكر انقياد ما في السموات وما في الأرض لما يريده تعالى منها، فكان هو المتفرد بذلك. نهىأن يشرك به، ودل النهي عن اتخاذ إلۤهين على النهي عن اتخاذ آلهة. ولما كان الاسم الموضوع للإفراد والتثنية قديتجوز فيه فيراد به الجنس نحو: نعم الرجل زيد، ونعم الرجلان الزيدان، وقول الشاعر:
فإن النار بالعودين تذكي | وأن الحرب أولها الكلام |
أكد الموضوع لهما بالوصف، فقيل: إلۤهين اثنين، وقيل: إلۤه واحد، وقال الزمخشري: الاسم الحامل لمعنى الإفرادأو التثنية دال على شيئين: على الجنسية، والعدد المخصوص. فإذا أردت الدلالة على أن المعنى به مبهم. والذي يساق بهالحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به. ألا ترى أنك إذا قلت: إنما هوإلۤه ولم تؤكده بواحد، لم يحسن، وخيل: أنك تثبت الإلۤهية لا الوحدانية انتهى. والظاهر أن لا تتخذوا، تعدى إلى واحدواثنين كما تقدم تأكيد. وقيل: هو متعد إلى مفعولين، فقيل: تقدم الثاني على الأول وذلك جائز، والتقدير: لا تتخذوا اثنينإلۤهين. وقيل: حذف الثاني للدلالة تقديره معبوداً واثنين على هذا القول تأكيد، وتقرير منافاة الاثنينية للإلۤهية من وجود ذكرت فيعلم أصول الدين. ولما نهى عن اتخاذ الإلۤهين، واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة، أخبر تعالى أنه إلۤه واحد كما قال:
{ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ }
بأداة الحصر، وبالتأكيد بالوحدة. ثم أمرهم بأنْ يرهبوه، والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ فيالرهبة، وانتصب إياي بفعل محذوف مقدر التأخير عنه يدل عليه فارهبون، وتقديره: وإياي ارهبوا. وقول ابن عطية: فإياي، منصوب بفعلمضمر تقديره: فارهبوا إياي فارهبون، ذهول عن القاعدة في النحو، أنه إذا كان المفعول ضميراً منفصلاً والفعل متعدياً إلى واحدهو الضمير، وجب تأخير الفعل كقولك:
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ }
ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله:
إليك حين بلغت إياكا |
ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة فأخبر تعالى: أنّ له ما في السموات والأرض، لأنه لما كان هوالإلۤه الواحد الواجب لذاته كان ما سواه موجوداً بإيجاد وخلقه، وأخبر أنّ له الدين واصباً. قال مجاهد:الدين الإخلاص. وقال ابن جبير: العبادة. وقال عكرمة: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الحدود والفرائض. وقال الزمخشري وابنعطية: الطاعة، زاد ابن عطية: والملك. وأنشد:
في ديـن عمرو وحـالت بيننا فـدك |
أي: في طاعته وملكه. وقال الزمخشري: أوله الحداد أي:دائماً ثابتاً سرمداً لا يزول، يعني الثواب والعقاب. وقال ابن عباس، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، والثوري: واصباًدائماً. قال الزمخشري: والواصب الواجب الثابت لأن كل نعمة منه بالطاعة واجبة له على كل منعم عليه، وذكر ابن الأنباريأنه من الوصب وهو التعب، وهو على معنى النسب أي: ذا وصب، كما قال: أضحى فؤادي به فاتناً، أي ذافتون. قال الزمخشري: أو وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمى تكليفاً انتهى. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: ولهالدين والطاعة رضي العبد بما يؤمر به وسهل عليه أم لا يسهل فله الدين، وإن كان فيه الوصب. والوصب: شدّةالتعب. وقال الربيع بن أنس: واصباً خالصاً. قال ابن عطية: والواو في وله ما في السموات والأرض عاطفة على قوله:إله واحد، ويجوز أن تكون واو ابتداء انتهى. ولا يقال واو ابتداء إلا لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال، وإنماهي عاطفة: فإما على الخبر كما ذكر أولاً فتكون الجملة في تقدير المفرد لأنها معطوفة على الخبر، وإما على الجملةبأسرها التي هي: إنما هو إله واحد، فيكون من عطف الجمل. وانتصب واصباً على الحال، والعامل فيها هو ما يتعلقبه المجرور. أفغير الله استفهام تضمن التوبيخ والتعجب أي: بعدما عرفتم وحدانيته، وأن ما سواه له ومحتاج إليه، كيف تتقونوتخافون غيره ولا نفع ولا ضر يقدر عليه؟ ثم أخبر تعالى بأنّ جميع النعم المكتسبة منا إنما هي من إيجادهواختراعه، ففيه إشارة إلى وجوب الشكر على ما أسدى من النعم الدينية والدنيوية. ونعمه تعالى لا تحصى كما قال تعالى:
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }
. وما موصولة، وصلتها بكم، والعامل فعل الاستقرار أي: وما استقر بكم، ومن نعمةتفسير لما، والخبر فمن الله أي: فهي من قبل الله، وتقدير الفعل العامل بكم خاصاً كحلّ أو نزل ليس بجيد.وأجاز الفرّاء والحوفي: أن تكون ما شرطية، وحذف فعل الشرط. قال الفراء: التقدير. وما يكن بكم من نعمة، وهذا ضعيفجداً لأنه لا يجوز حذفه إلا بعد أن وحدها في باب الاشتغال، أو متلوة بما النافية مدلولاً عليه بما قبله،نحو قوله:
فطلقها فلست لها بكفء | وإلا يعل مفرقك الحسام |
أي: وإلا تطلقها، حذفتطلقها الدلالة طلقها عليه، وحذفه بعد أنْ متلوة بلا مختص بالضرورة نحو قوله:
قالت بنات العم يا سلمى وإن | كان فقيراً معدماً قالت وإن |
أي: وإن كان فقيراً معدماً، وأما غير إن من أدوات الشرط فلايجوز حذفه إلا مدلولاً عليه في باب الاشتغال مخصوصاً بالضرورة نحو قوله: أينما الريح تميلها تمل. التقدير: أينما تميلها الريحتميلها تمل. ولما ذكر تعالى أنّ جميع النعم منه ذكر حالة افتقار العبد إليه وحده، حيث لا يدعو ولا يتضرعلسواه، وهي حالة الضر والضر، يشمل كل ما يتضرر به من مرض أو فقر أو حبس أو نهب مال وغيرذلك. وقرأ الزهري: تجرون بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الجيم. وقرأ قتادة: كاشف، وفاعل هنا بمعنى فعل، وإذا الثانية للفجاءة.وفي ذلك دليل على أنّ إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب، لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها.ومنكم: خطاب للذين خوطبوا بقوله: وما بكم من نعمة، إذ بكم خطاب عام. والفريق هنا هم المشركون المعتقدون حالة الرجاءأنّ آلهتهم تنفع وتضر وتشقى. وعن ابن عباس: المنافقن. وعن ابن السائب: الكفار. ومنكم في موضع الصفة، ومِنْ للتبعيض، وأجازالزمخشري أن تكون من للبيان لا للتبعيض قال: كأنه قال فإذا فريق كافروهم أنتم. قال: ويجوز أن تكون فيهم مناعتبر كقوله:
{ فَلَمَّا نَجَّـٰهُمْ إِلَى ٱلْبَرّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ }
انتهى واللام في ليكفروا، إن كانت للتعليل كان المعنى: أنّ إشراكهمبالله سببه كفرهم به، أي جحودهم أو كفران نعمته، وبما آتيناهم من النعم، أو من كشف الضر، أو من القرآنالمنزل إليهم. وإن كانت للصيرورة فالمعنى: صار أمرهم ليكفروا وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، بل آل أمر ذلكالجوار والرغبة إلى الكفر بما أنعم عليهم، أو إلى الكفر الذي هو جحوده والشرك به. وإن كانت للأمر فمعناه التهديدوالوعيد. وقال الزمخشري: ليكفروا فتمتعوا، يجوز أن يكون من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية، واللام لام الأمر انتهى. ولميخل كلامه من ألفاظ المعتزلة، وهي قوله: في معنى الخذلان والتخلية. وقرأ أبو العالية: فيمتعوا بالياء باثنتين من تحتها مضمومةمبنياً للمفعول، ساكن الميم وهو مضارع متع مخففاً، وهو معطوف على ليكفروا، وحذفت النون إما للنصب عطفاً إنْ كان يكفروامنصوباً، وإما للجزم إن كان مجزوماً أن كان عطفاً، وأن للنصب إن كان جواب الأمر. وعنه: فسوف يعلمون بالياء علىالغيبة، وقد رواهما مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي عن النبي ﷺ. والتمتع هنا هو بالحياةالدنيا ومآلها إلى الزوال. {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مّمّا رَزَقْنَـٰهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْـئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ *وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَـٰتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلاْنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَٱلْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ }: الضمير في:ويجعلون، عائد على الكفار. والظاهر أنه في يعلمون عائد عليهم. وما هي الأصنام أي: للأصنام التي لا يعلم الكفار أنهاتضر وتنفع، أو لا يعلمون في اتخاذها آلهة حجة ولا برهاناً. وحقيقتها أنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تشفع،فهم جاهلون بها. وقيل: الضمير في لا يعلمون للأصنام أي: للأصنام التي لا تعلم شيئاً ولا تشعر به، إذ هيجماد ل يقم بها على البتة. والنصيب: هو ما جعلوه لها من الحرث والأنعام، قبح تعالى فعلهم ذلك، وهو أنيفردوا نصيباً مما أنعم به تعالى عليهم لجمادات لا تضر ولا تنفع، ولا تنتفع هي بجعل ذلك النصيب لها، ثمأقسم تعالى على أنه يسألهم عن افترائهم واختلاقهم في إشراكهم مع الله آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها بجعل النصيب لها،والسؤال في الآخرة، أو عند عذاب القبر، أو عند القرب من الموت أقوال. ولما ذكر الله تعالى أنه يسألهم عنافترائهم، ذكر أنهم مع اتخاذهم آلهة نسبوا إلى الله تعالى التوالد وهو مستحيل، ونسبوا ذلك إليه فيما لم يرتضوه، وتربدوجوههم من نسبته إليهم ويكرهونه أشد الكراهة. وكانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله سبحانه وتنزيه له تعالى عن نسبةالولد إليه، ولهم ما يشتهون: وهم الذكور، وهذه الجملة مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري: ويجوز فيما يشتهون الرفع على الابتداء، والنصبعلى أن يكون معطوفاً على البنات أي: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور انتهى. وهذا الذي أجازه من النصب تبعفيه الفراء والحوفي. وقال أبو البقاء: وقد حكاه، وفيه نظر. وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو: وهو أن الفعل الرافعلضمير الاسم المتصل لا يتعدّى إلى ضميره المتصل المنصوب، فلا يجوز زيد ضربه زيد، تريد ضرب نفسه إلا في بابظن وأخواتها من الأفعال القلبية، أو فقد، وعدم، فيجوز: زيد ظنه قائماً وزيد فقده، وزيد عدمه. والضمير المجرور بالحرف المنصوبالمتصل، فلا يجوز زيد غضب عليه تريد غضب على نفسه، فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب إحذ يكون التقدير:ويجعلون لهم ما يشتهون. قالوا: وضمير مرفوع، ولهم مجرور باللام، فهو نظير: زيد غضب عليه. وإذا بشر، المشهور أنالبشارة أول خبر يسر، وهنا قد يراد به مطلق الأخبار، أو تغير البشرة، وهو القدر المشترك بين الخبر السار أوالمخبرين، وفي هذا تقبيح لنسبتهم إلى الله المنزه عن الولد البنات واحدهم أكره الناس فيهنّ، وأنفرهم طبعاً عنهن. وظل تكونبمعنى صار، وبمعنى أقام نهاراً على الصفة التي تسند إلى اسمها تحتمل الوجهين. والأظهر أن يكون بمعنى صار، لأنّ التبشيرقد يكون في ليل ونهار، وقد تلحظ الحالة الغالبة. وأنّ أكثر الولادات تكون بالليل، وتتأخر أخبار المولود له إلى النهاروخصوصاً بالأنثى، فيكون ظلوله على ذلك طول النهار. واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والتكره والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى.قيل: إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف، ولا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغمن التعلق الشديد، فترى الوجه مشرقاً متلألئاً. وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قويفي ظاهر الوجه، فيربد الوجه ويصفر ويسود، ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه، ومن لوازم الغموالحزن اربداده واسوداده، فلذلك كنى عن الفرح بالاستنارة، وعن الغم بالاسوداد. وهو كظيم أي: ممتلىء القلب حزناً وغمًّا. أخبر عمايظهر في وجهه وعن ما يجنه في قلبه. وكظيم يحتمل أن يكون للمبالغة، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول لقوله:
{ وَهُوَ مَكْظُومٌ }
ويقال: سقاء. مكظوم، أي مملوء مشدود الفم. وروى الأصمعي أنّ امرأة ولدت بنتاً سمتها الذلفاء، فهجرها زوجها فقالت:
ما لأبي الذلقاء لا يأتينا | يظل في البيت الذي يلينا يحردان لا نلد البنينا |
يتوارى: يختفي من الناس، ومن سوء للتعليلأي: الحال له على التواري هو سوء ما أخبر به، وقد كان بعضهم في الجاهلية يتوارى حالة الطلق، فإن أخبربذكر ابتهج، أو أنثى حزن. وتوارى أياماً يدبر فيها ما يصنع. أيمسكه قبله حال محذوفة دل عليها المعنى، والتقدير: مفكراًأو مدبراً أيمسكه؟ وذكر الضمير ملاحظة للفظ ما في قوله: من سوء ما بشر به. وقرأ الجحدري: أيمسكها على هوان،أم يدسها بالتأنيث عوداً على قوله: بالأنثى، أو على معنى ما بشر به، وافقه عيسى على قراءة هوان على وزنفعال. وقرأت فرقة: أيمسكه بضمير التذكير، أم يدسها بضمير التأنيث. وقرأت فرقة: على هون بفتح الهاء. وقرأ الأعمش: على سوء،وهي عندي تفسير لا قراءة، لمخالفتها السواد المجمع عليه. ومعنى الإمساك حبسه وتربيته، والهون الهوان كما قال:
{ عَذَابَ ٱلْهُونِ }
والهون بالفتح الرفق واللبن،
{ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلاْرْضِ هَوْناً }
وفي قوله: على هون قولان: أحدهما: أنه حال من الفاعل، وهومروي عن ابن عباس. قال ابن عباس: إنه صفة للأب، والمعنى: أيمسكها مع رضاه بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه؟ وقيل:حال من المفعول أي: أيمسكها مهانة ذليلة، والظاهر من قوله: أم يدسه في التراب، إنه يئدها وهو دفنها حية حتىتموت. وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس في التراب. والظاهر من قوله: ألا ساء ما يحكمون، رجوعهإلى قوله: ويجعلون لله البنات الآية أي: ساء ما يحكمون في نسبتهم إلى الله ما هو مستكره عندهم، نافر عنهنطبعهم، بحيث لا يحتملون نسبتهن إليهن، ويئدونهن استنكافاً منهن، وينسبون إليهم الذكر كما قال:
{ أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلاْنثَىٰ }
وقالابن عطية: ومعنى الآية يدبر أيمسك هذه الأنثى على هوان يتجلد له، أم يئدها فيدفنها حية فهو الدس في التراب؟ثم استقبح الله سوء فعلهم وحكمهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله انتهى. فعلق ألا ساء ما يحكمون بصنعهمفي بناتهم مثل السوء. قيل: مثل بمعنى صفة أي: صفة السوء، وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث، ووأدهن خشيةالإملاق وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ. ولله المثل الأعلى أي: الصفة العليا، وهي الغنى عن العالمين، والنزاهة عن سمات المحدثين.وقيل: مثل السوء هو وصفهم الله تعالى بأن له البنات، وسماه مثل السوء لنسبتهم الولد إلى الله، وخصوصاً على طريقالأنوثة التي هم يستنكفون منها. وقال ابن عباس: مثل السوء النار. وقال ابن عطية: قالت فرقة مثل بمعنى صفة أي:لهؤلاء صفة السوء، ولله الوصف الأعلى، وهذا لا نضطرّ إليه لأنه خروج عن اللفظ، بل قوله: مثل، على بابه وذلكأنهم إذا قالوا: أن البنات لله فقد جعلوا لله مثلاً، فالبنات من البشر وكثرة البنات مكروه عندهم ذميم فهو المثلالسوء. والذي أخبر الله تعالى أنهم لهم وليس في البنات فقط، بل لما جعلوه هم البنات جعله هو هلم علىالإطلاق في كل سوء، ولا غاية أبعد من عذاب النار. وقوله: ولله المثل الأعلى، على الإطلاق أي: الكمال المستغنى. وقالقتادة: المثل الأعلى لا إله إلا الله انتهى، وقول قتادة مروي عن ابن عباس. ولما تقدم قوله: ويجعلون لله البناتالآية تقدم ما نسبوا إلى الله، وأتى ثانياً ما كان منسوباً لأنفسهم، وبدأ هنا بقوله: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثلالسوء، وأتى بعد ذلك بما يقابل قوله: سبحانه وتعالى من التنزيه وهو قوله: ولله المثل الأعلى، وهو الوصف المنزه عنسمات الحدوث والتوالد، وهو الوصف الأعلى الذي ليس يشركه فيه غيره، وناسب الختم بالعزيز وهو الذي لا يوجد نظيره، الحكيمالذي يضع الأشياء مواضعها. {وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰفَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ لاَ }: لما حكى الله تعالى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر ونسبة التولد له، بيَّنتعالى أنه يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً لفضله ورحمته. ويؤاخذ: مضارع آخذ، والظاهر أنه بمعنى المجرد الذي هو أخذه. وقالابن عطية: كان أحد المؤاخذين يأخذ من الآخر، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى، أو بإذاية في جهةالمخلوقين، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء انتهى. والظاهر: عموم الناس. وقيل: أهل مكة، والباء في بظلمهم للسبب. وظلمهم كفرهمومعاصيهم. والضمير في عليها عائد على غير مذكور، ودل على أنه الأرض قوله: من دابة، لأن الدبيب من الناس لايكون إلا في الأرض، فهو كقوله:
{ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً }
أي بالمكان لأن
{ وَٱلْعَـٰدِيَـٰتِ }
معلوم أنها لا تعدو إلافي مكان، وكذلك الإثارة والنفع. والظاهر عموم من دابة فيهلك الصالح بالطالح، فكان يهلك جميع ما يدب على الأرض حتىالجعلان في جحرها قاله: ابن مسعود. قال قتادة: وقد فعل تعالى في زمن نوح عليه السلام. وقال السدي ومقاتل: إذاقحط المطر لم تبق دابة إلا هلكت. وسمع أبو هريرة رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بلىوالله حتى أن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم. وهذا نظير:
{ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً }
الآية والحديث أنهلك وفينا الصالحون وقالابن السائب، واختاره الزجاج: من دابة من الإنس والجن. وقال ابن جريج: من الناس خاصة. وقالت فرقة منهم ابن عباس:من دابة من مشرك يدب عليها، ولكن يؤخرهم إلى أجل الآية، تقدّم تفسير ما يشبهه في الأعراف. وما في مايكرهون لمن يعقل، أريد بها النوع كقوله:
{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ }
ومعنى: ويجعلون، يصفونه بذلك ويحكمون به. وقال الزمخشري:ما يكرهون لأنفسهم من البنات، ومن شركاء في رئاستهم، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم، ويجعلون له أرذل أموالهم، ولأصنامهم أكرمها،وتصف ألسنتهم مع ذلك أنّ لهم الحسنى عند الله كقوله:
{ وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَىٰ رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ }
انتهى.وقال مجاهد: الحسنى قول قريش لنا البنون، يعني قالوا: لله البنات ولنا البنون. وقيل: الحسنى الجنة، ويؤيده: لا جرمأن لهم النار، والمعنى على هذا: يجعلون لله المكروه، ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة كما تقول: أنت تعصي اللهوتقول مع ذلك: أنك تنجو، أي هذا بعيد مع هذا. وهذا القول لا يتأتى إلا ممن يقول بالبعث، وكان فيهممن يقول به. أو على تقدير أنْ كان ما يقول من البعث صحيحاً، وأنّ لهم الحسنى بدل من الكذب، أوعلى إسقاط الحرف أي: بأن لهم. وقرأ الحسن ومجاهد باختلاف ألسنتهم: بإسكان التاء، وهي لغة تميم جمع لساناً المذكر نحو:حمار وأحمرة، وفي التأنيث: ألسن كذراع وأذرع. وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام: الكذب بضم الكاف والذال والباء صفةللألسن، جمع كذوب كصبور وصبر، وهو مقيس، أو جمع كاذب كشارف وشرف ولا ينقا، وعلى هذه القراءة أنّ لهم مفعولتصف، وتقدم الكلام في لا جرم أن. وقرأ الحسن وعيسى بن عمران: لهم بكسر الهمزة، وأن جواب قسم أغنتعنه لا جرم. وقرأ ابن عباس، وابن مسعود وأبو رجاء، وشيبة، ونافع، وأكثر أهل المدينة: مفرطون بكسر الراء من أفرطحقيقة أي: متجاوزون الحد في معاصي الله. وباقي السبعة، والحسن، والأعرج، وأصحاب ابن عباس، ونافع في رواية، بفتح الراء منأفرطته إلى كذا قدمته، معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه. قال القطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا | كما تعجل فراط لوراد |
ومنه أنا فرطكم على الحوض أي متقدمكم. وقال ابن جبير، ومجاهد، وابنأبي هند: مفرطون مخلفون متروكون في النار من أفرطت فلاناً خلفى إذا خلفته ونسيته. قال أبو البقاء: تقول العرب أفرطتمنهم ناساً أي خلفتهم ونسيتهم. وقرأ أبو جعفر: مفرطون مشدداً من فرط أي: مقصرون مضيعون. وعنه أيضاً: فتح الراء وشدهاأي، مقدمون من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى: تقدم. ثم أخبر تعالى بإرسال الرسل إلى أمم من قبل أممك،مقسماً على ذلك ومؤكداً بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية للرسول ﷺ لما كانيناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز، فزين لهم الشيطان أعمالهم من تماديهم على الكفر، فهو وليهماليوم حكاية حال ماضية أي: لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسللهم، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة. وأل في اليوم للعهد، وهو اليوم المشهود، فهو وليهم في ذلك اليومأي: قرينهم وبئس القرين. والظاهر عود الضمير في وليهم إلى أمم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش،وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم. ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي: فهو ولي أمثالهماليوم انتهى. وهذا فيه بعد، لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولا إلى حذف المضاف. واللام في لتبينلام التعليل، والكتاب القرآن، والذي اختلفوا فيه من الشرك والتوحيد والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه، وغير ذلك مما يعتقدون منالأحكام: كتحريم البحيرة، وتحليل الميتة والدم، وغير ذلك من الأحكام. وهدى ورحمة في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله،وانتصباً لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما، لأن المنزل هو الله وهو الهادي والراحم. ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل، لأنالمنزل هو الله، والتبيين مسند للمخاطب وهو الرسول ﷺ. وقول الزمخشري: معطوف محل لتبين ليس بصحيح، لأنّمحله ليس نصباً فيعطف منصوب عليه. ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل؟. والله أنزل من السماءماء قال أبو عبد الله الرازي: المقصود من القرآن أربعة: الإلهيات، والنبوات، والمعاد، والقدر، والأعظم منها الإلهيات فابتدأ في ذكردلائلها بالأجرام الفلكية، ثم بالإنسان ثم بالحيوان، ثم بالنبات ثم بأحوال البحر والأرض، ثم عاد إلى تقدير الإلاهيات فبدأ بذكرالفلكيات انتهى ملخصاً. وقال ابن عطية: لما أمره بتبيين ما اختلف فيه قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية، فبدأبنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، ولا يختلف فيها عاقل انتهى. ونقول: لماذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد، ولذلك ختم بقوله: لقوم يؤمنونأي: يصدقون. والتصديق محله القلب، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها. ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتهاإلى إحياء القلوب بالقرآن، كما قال تعالى:
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ }
فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعدهمودها، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتاً بالجهل. وكذلك ختم بقوله: يسمعون هذا التشبيه المشار إليه، والمعنى: سماعإنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى ـ والله أعلم ـ لم يختم بلقوم يبصرون، وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد.وقال ابن عطية: وقوله يسمعون، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وتبيانه، لأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر، وإنمايحتاج البتة إلى أن يسمع القول فقط. {وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلاْنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍوَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِن ثَمَرٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلاْعْنَـٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِىذٰلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّكُلِى مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ إِنَّ }: لماذكر الله تعالى إحياء الأرض بعد موتها، ذكر ما ينشأ عن ما ينشأ عن المطر وهو حياة الأنعام التي هيمألوف العرب بما يتناوله من النبات الناشىء عن المطر، ونبه على العبرة العظيمة وهو خروج اللبن من بين فرث ودم.وقرأ ابن مسعود بخلاف، والحسن، وزيد بن علي، وابن عامر، وأبو بكر، ونافع، وأهل المدينة. نسقيكم هنا، وفي قد أفلحالمؤمنون: بفتح النون مضارع سقى، وباقي السبعة بضمها مضارع أسقى، وتقدم الكلام في سقى وأسقى في قوله
{ فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ }
وقرأأبو رجاء: يسقيكم بالياء مضمومة، والضمير عائد على الله أي: يسقيكم الله. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون مسنداً إلىالنعم، وذكر لأنّ النعم مما يذكر ويؤنث ومعناه: وأنّ لكم في الأنعام نعماً يسقيكم أي: يجعل لكم سقياً انتهى. وقرأتفرقة: بالتاء مفتوحة منهم أبو جعفر. قال ابن عطية: وهي ضعيفة انتهى. وضعفها عنده ـ والله أعلم ـ من حيثأنث في تسقيكم، وذكر في قوله مما في بطونه، ولا ضعف في ذلك من هذه الجهة، لأن التأنيث والتذكير باعتباروجهين، وأعاد الضمير مذكراً مراعاة للجنس، لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكراًكقولهم: هو أحسن الفتيان وأنبله، لأنه يصح هو أحسن فتى، وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه، إنما يقتصر فيهعلى ما قالته العرب. وقيل: جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة، ومعاملة الجمع، فيعود الضمير عليه مفرداً. كقوله:
مثـل الفـراخ نبقت حواصلـه |
وقيل: أفرد على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كما قال:
فيها خطوط من سواد وبلق | كأنه في الجلد توليع البهق |
فقال: كأنه وقدر بكان المذكور. قال الكسائي: أي في بطون ماذكرنا. قال المبرد: وهذا سائغ في القرآن قال تعالى:
{ إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ }
{ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ }
أي ذكر هذاالشيء. وقال:
{ فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبّى }
أي هذا الشيء الطالع. ولا يكون هذا إلا في التأنيثالمجازى، لا يجوز جاريتك ذهب. وقالت فرقة: الضمير عائد على البعض، إذ الذكور لا ألبان لها فكأنّ العبرة إنما هيفي بعض الأنعام. وقال الزمخشري: ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة على أفعال كقولهم: ثوابأكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً، وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع، ويجوز أن يقال في الأنعاموجهان: أحدهما: أن يكون تكسير نعم كالأجبال في جبل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكمايذكر نعم في قوله:
في كل عام نعم تحوونه | يلقحه قوم وينتجونه |
وإذا أنّثففيه وجهان: إنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع انتهى. وأما ما ذكره عن سيبويه ففي كتابه في هذا فيباب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه: وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها، لأنها ضارعت الواحد. ألاترى أنك تقول: أقوال وأقاويل، وإعراب وأعاريب، وأيد وأياد، فهذه الأحرف تخرج إلى مثال مفاعل ومفاعيل كما يخرج إليه الواحدإذا كسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر، فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا، لأن هذا البناء هو الغاية، فلماضارعت الواحد صرفت. ثم قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس لأن تجمع جمعاً لأخرجته إلى فعائل، كما تقول: جدودوجدائد، وركوب وركائب، ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء. ويقوي ذلك أنّ بعض العرب يقول: أتى للواحدفيضم الألف، وأما أفعال فقد تقع للواحد من العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه وعز: نسقيكم مما فيبطونه. وقال أبو الخطاب: سمعت العرب يقولون: هذا ثواب أكياس انتهى. والذي ذكره سيبويه هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل،وبين أفعال وفعول، وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث أنّ مفاعل ومفاعيل لا يجمعان، وأفعال وفعول قد يخرجان إلىبناء شبه مفاعل أو مفاعيل لشبه ذينك بالمفرد، من حيث أنه يمكن جمعهما وامتناع هذين من الجمع، ثم قوى شبههمابالمفرد بأنّ بعض العرب قال في أتى: أتى بضم الهمزة يعني أنه قد جاء نادراً فعول من غير المصدر للمفرد،وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للواحدة من حيث أفرد الضمير فتقول: هو الأنعام، وإنما يعني أن ذلك على سبيلالمجاز، لأنّ الأنعام في معنى النعم كما قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى | وقلنا للنساء بها أقيمي |
ولذلك قال سيبويه: وأما أفعال فقد تقع للواحد دليل على أنه ليس ذلك بالوضع. فقول الزمخشري: إنهذكره في الأسماء المفردة على أفعال تحريف في اللفظ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده، ويدل على ما قلناه أنّسيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أنّ أفعالاً ليس من ابنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزوائدمن بنات الثلاثة وليس في الكلام: أفعيل، ولا أفعول، ولا أفعال، ولا أفعيل، ولا أفعال إلا أنْ تكسر عليه اسماًللجميع انتهى. فهذا نص منه على أنّ أفعالاً لا يكون في الأبنية المفردة. ونسقيكم مما في بطونه تبيين للعبرة. وقالالزمخشري: وهو استئناف كأنه قيل: كيف العبرة؟ فقيل: نسقيكم من بين فرث ودم، أي: يخلق الله اللبن وسطاً بين الفرثوالذم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالصمن كله انتهى. قال ابن عباس: إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثاً يبقى فيه، وأعلاه دماً يجري فيالعروق، وأوسطه لبناً يجري في الضرع. وقال ابن جبير: الفرث في أوسط المصارين، والدم في أعلاها، واللبن بينهما، والكبد يقسمالفرث إلى الكرش، والدم إلى العروق، واللبن إلى الضروع. وقال أبو عبد الله الرازي: قال المفسرون: المراد من قولهمن بين فرث ودم، هو أنّ هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد، فالفرث يكون في أسفل الكرش، والدم في أعلاه،واللبن في الوسط، وقد دللنا على أنّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة، وكان الرازي قد قدم أن الحيوان يذبحولا يرى في كرشه دم ولا لبن، بل الحق أنّ الغذاء إذا تناوله الحيوان وصل إلى الكرش وانطبخ وحصل الهضمالأول فيه، فما كان منه كثيفاً نزل إلى الأمعاء، وصافياً انحدر إلى الكبد فينطبخ فيها ويصير دماً، وهو الهضم الثانيمخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فتذهب الصفراء إلى المرارة، والسوداء إلى الطحال، والماء إلى الكلية، وخالص الدم يذهب إلى الأوردةوهي العروق النابتة من الكبد فيحصل الهضم الثالث. وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة ينصب الدم من تلك العروق إلىالضرع، وهو لحم رخو أبيض فينقلب من صورة الدم إلى صورة اللبن، فهذا هو الصحيح في كيفية توالد اللبن انتهىملخصاً. وقال أيضاً: وأما نحن فنقول: المراد من الآية هو أنّ اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنمايتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهي الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش. فاللبن متولد مما كان حاصلاً فيما بينالفرث أولاً، ثم مما كان حاصلاً فيما بين الدم ثانياً انتهى، ملخصاً أيضاً. والذي يظهر من لفظ الآية أنّاللبن يكون وسطاً بين الفرث والدم، والبينية يحتمل أن تكون باعتبار المكانية حقيقة كما قاله المفسرون وادعى الرازي أنه علىخلاف الحس والمشاهدة. ويحتمل أن تكون البينية مجازية، باعتبار تولده من ما حصل في الفرث أولاً، وتولده من الدم الناشىءمن لطيف ما كان في الفرث ثانياً كما قرره الرازي. ومِن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم، والثانية لابتداء الغاية متعلقة بنسقيكم،وجاز تعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما. ويجوز أن يكون من بين في موضع الحال، فتتعلق بمحذوف، لأنه لو تأخر لكانصفة أي: كائناً من بين فرث ودم. ويجوز أن يكون من بين فرث بدلاً من ما في بطونه. وقرأت فرقة:سيغاً بتشديد الياء، وعيسى بن عمر: سيغاً مخففاً من سيغ كهين المخفف من هين، وليس بفعل لازم كان يكون سوغاً.والسائغ: السهل في الحلق اللذيذ، وروي في الحديث «أنّ اللبن لم شرق به أحد قط» ولما ذكر تعالى ما منّبه من بعض منافع الحيوان، ذكر ما منّ به من بعض منافع النبات. والظاهر تعلق من ثمرات بتتخذون، وكررت منللتأكيد، وكان الضمير مفرداً راعياً لمحذوف أي: ومن عصير ثمرات، أو على معنى الثمرات وهو الثمر، أو بتقدير من المذكور.وقيل: تتعلق بنسقيكم، فيكون معطوفاً على مما في بطونه، أو بنسقيكم محذوفة دل عليها نسقيكم المتقدمة، فيكون من عطف الجمل،والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل. وقيل: معطوف على الأنعام أي: ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة، ثمبين العبرة بقوله: تتخذون. وقال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون. فحذف ما هو لا يجوز على مذهبالبصريين، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف كقوله: بكفي كان من أرمي البشر. تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعنابثمر تتخذون منه انتهى. وهذا الذي أجازه قاله الحوفي قال: أي وإن من ثمرات، وإن شئت شيء بالرفع بالابتداء، ومنثمرات خبره انتهى. والسكر في اللغة الخمر. قال الشاعر:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم | إذا جرى منهم المزّاء والسكر |
وقال الزمخشري: سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو: رشد رشداً ورشداً. قال الشاعر:
وجاءونا بهم سكر علينا | فأجلى اليوم والسكران صاحي |
وقاله: ابن مسعود، وابن عمر، وأبو رزين، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وابنأبي ليلى، والكلبي، وابن جبير، وأبو ثور، والجمهور. وهذه الآية مكية نزلت قبل تحريم الخمر، ثم حرمت بالمدينة فهي منسوخة.قال الحسن: ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر. وقال ابن عباس: هو الخل بلغة الحبشة. وقيل: العصير الحلوالحلال، وسمي سكراً باعتبار مآله إذا ترك. وقال أبو عبيدة: السكر الطعم، يقال هذا سكر لك أي طعم، واختاره الطبريقال: والسكر في كلام العرب ما يطعم. وأنشد أبو عبيدة:
جعلت أعراض الكرام سكراً |
أي: تنقلت بأعراضهم. وقيل: هو منالخمر، وأنه إذا ابترك في أعراض الناس فكأنه تخمر بها، قاله الزمخشري، وتبع الزجاج قال: يصف أنه يخمر بعيوب الناس،وعلى هذه الأقوال لا نسخ. وقال الزجاج: قول أبي عبيدة لا يصح، وأهل التفسير على خلافه. وقيل: السكر ما لايسكر من الأنبذة، وقيل: السكر النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد،وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر انتهى. وإذا أريد بالسكر الخمر فقد تقدم أنّ ذلك منسوخ، وإذا لمنقل بنسخ فقيل: جمع بين العتاب والمنة. يعني بالعتاب على اتخاذ ما يحرم، وبالمنة على اتخاذ ما يحل، وهو الخلوالرب والزبيب والتمر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً كأنه قيل: تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسنانتهى. فيكون من عطف الصفات، وظاهر العطف المغايرة. ولما كان مفتتح الكلام: وأن لكم في الأنعام لعبرة، ناسب الختم بقوله:يعقلون، لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول كما قال:
{ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لاِوْلِى ٱلالْبَـٰبِ }
.وانظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس، أخبرعن نفسه تعالى بقوله: نسقيكم. ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال: تتخذون، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكروالرزق، ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته. ولما ذكر تعالى المنة بالمشروب اللبن وغيره، أتم النعمة بذكر العسل النحل.ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل، قدم اللبن وغيره عليه، وقدم اللبن علىما بعده لأنه المحتاج إليه كثيراً وهو الدليل على الفطرة. ولذلك اختاره الرسول ﷺ حين أسري به،وعرض عليه اللبن والخمر والعسل، وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية قال تعالى:
{ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَـٰرٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنْهَـٰرٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى }
ففي إخراج اللبن من النعم والسكر، والرزق الحسن من ثمرات النخيلوالأعناب، والعسل من النحل، دلائل باهرة على الألوهية والقدرة والاختيار. والإيحاء هنا الإلهام والإلقاء في روعها، وتعليمها على وجه هوتعالى أعلم بكنهه لا سبيل إلى الوقوف عليه. والنحل: جنس واحده نحلة، ويؤنث في لغة الحجاز، ولذلك قال: أن اتحذي.وقرأ ابن وثاب: النحل بفتح الحاء، وأن تفسيرية، لأنه تقدم معنى القول وهو: وأوحى. أو مصدرية أي: باتخاذ، قال أبوعبد الله الرازي: أنْ هي المفسرة لما في الوحي من معنى القول، هذا قول جمهور المفسرين وفيه نظر. لأنّ الوحيهنا بإجماع منهم هو الإلهام، وليس في الإلهام معنى القول، وقال: قرر تعالى في أنفسها الأعمال العجيبة التي يعجز عنهاللعقلاء من البشر منها بناؤها البيوت المسدسة من أضلاع، متساوية بمجرد طباعها، ولا يتم مثل ذلك العقلاء إلا بآلات كالمسطرةوالبركان، ولم تبنها بأشكال غير تلك، فتضيق تلك البيوت عنها لبقاء فرج لا تسعها، ولها أمير أكبر جثة منها نافذالحكم يخدمونه، وإذ نفرت عن وكرها إلى موضع آخر وأرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول وآلات المويسيقا، وبوساطة تلك الألحانتعود إلى وكرها، فلما امتازت بهذه الخواص العجيبة وليس إلا على سبيل الإلهام، وهي حالة تشبه الوحي لذلك قال: وأوحىربك إلى النحل. انتهى ملخصاً. ومِنْ للتبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش، ولا فيكل مكان منها. والظاهر أن البيوت هنا عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال، وفي متجوف الأشجار. وأما من مايعرش ابن آدم فالخلايا التي يصنها للنحل ابن آدم، والكوى التي تكون في الحيطان. ولما كان النحل نوعين: منه مامقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد، ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهد في الخلايا ونحوها، شمل الأمر باتخاذالبيوت النوعين. وقال الزمخشري: ما يدل على أنّ البيوت ليست الكوى، وإنما هي ما تبنيه هي، فقال: أريد منى البعضية،يعني بمن، وأنْ لا يبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكلّ ما يعرش. وقال ابن زيد: ومما يعرشون الكروم.وقال الطبري: مما يبنون من السقوف. قال ابن عطية: وهذا منهما تفسير غير متقن انتهى. وقرأ السلمي، وعبيد بن نضلة،وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بضم الراء، وباقي السبعة بكسرها، وتقتضي ثم المهلة والتراخي بين الاتخاذ والأكل الذي تدخرمنه العسل، فلذلك كان العطف بثم وهو معطوف على اتخذي، وهو أمر معطوف على أمر، وسيأتي الكلام على أمر غيرالمكلف في قوله:
{ يأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ }
إن شاء الله وكل الثمرات عام مخصوص أي: المعتادة، لا كلها.قال الزمخشري: أي ابني البيوت ثم كلي من كل ثمرة تشتهيها انتهى. فدل قوله: أي ابني البيوت، أنه لا يريدبقوله بيوتاً الكوى التي في الجبال ومتجوف الأشجار ولا الخلايا، وإنما يراد البيوت المسدسة التي تبينها هي. وظاهر مِن فيقوله: من كل الثمرات أنها للتبعيض، فتأكل من الأشجار الطيبة والأوراق العطرة أشياء يولد الله منها في أجوافها عسلاً. قالابن عطية: إنما تأكل النوّار من الأشجار. وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: يحدث الله تعالى في الهواءظلاً كثيراً يجتمع منه أجزاء محسوسة مثل النرنجبين وهو محسوس، وقليلاً لطيف الأجزاء صغيرها، وهو الذي ألهم الله تعالى النحلالتقاطه من الأزهار وأوراق الأشجار، وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت بأفواهها شيئاً من تلك الأجزاء، ووضعتها في بيوتها كأنها تحاولأن تدخر لنفسها غذاءها، فالمجتمع من ذلك هو العسل. وعلى هذا القول تكون من لابتداء الغاية، لا للتبعيض انتهى. وظاهرالعطف بالفاء في فاسلكي أنه بعقيب الأكل أي: فإذا أكلت فاسلكي سبل ربك، أي طرق ربك إلى بيوتك راجعة، والسبلإذ ذاك مسالكها في الطيران. وربما أخذت مكانها فانتجعت المكان البعيد، ثم عادت إلى مكانها الأول. وقيل: سبل ربك أيالطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو فاسلكي ما أكلت أي: في سبل ربك، أي في مسالكه التي يحيلفيها بقدرته النور المر عسلاً من أجوافك ومنافذ مأكلك. وعلى هذا القول ينتصب سبل ربك على الظرف، وعلى ما قبلهينتصب على المفعول به. وقيل: المراد بقوله ثم كلي، ثم اقصدي الأكل من الثمرات فاسلكي في طلبها سبل ربك، وهذاالقول والقول الأول أقرب في المجاز في سبل ربك من القولين اللذين بينهما، إلا أنّ كلي بمعنى اقصدي الأكل، مجازأضاف السبل إلى رب النحل من حيث أنه تعالى هو خالقها ومالكها والناظر في تهيئة مصالحها ومعاشها. وقال مجاهد: ذللاًغير متوعرة عليها سبيل تسلكه، فعلى هذا ذللاً حال من سبيل ربك كقوله تعالى:
{ هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ ذَلُولاً }
وقال قتادة: أي مطيعة منقادة. وقال ابن زيد: يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم، فعلى هذا ذللاً حال منالنحل كقوله:
{ وَذَلَّلْنَـٰهَا لَهُمْ }
ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على المنة ثمرة هذا الاتخاذ والأكل والسلوك وهو قوله:يخرج من بطونها شراب، وهو العسل. وسماه شراباً لأنه مما يشرب، كما ذكر ثمرة الأنعام وهي سقي اللبن، وثمرة النخيلوالأعناب وهو اتخاذ السكر والرزق الحسن. وذكر تعالى المقر الذي يخرج منه الشراب وهو بطونها، وهو مبدأ الغاية الأولى، والجمهورعلى أنه يخرج من أفواهها وهو مبدأ الغاية الأخيرة ولذلك قال الحريري:
تقل هذا مجاج النحل تمدحه | وإن ذممت تقل قيء الزنابير |
والمجاج والقيء لا يكونان إلا من الفم. وروي عن عليّ كرم الله وجهه أنه قال في تحقير الدنيا:أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة. وعنه أيضاً: أما العسل فونيم ذباب، فظاهر هذا أنالعسل يخرج من غير الفم، وقد خفي من أي المخرجين يخرج، أمن الفم؟ أم من أسفل؟ وحكي أن سليمان عليهالسلام، والاسكندر، وأرسطاطاليس، صنعوا لها بيوتاً من زجاج لينظروا إلى كيفية صنعها، وهل يخرج العسل من فيها أم من أسفلها؟فلم تضع من العسل شيئاً حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة. وقال الحسن: لباب البر بلعاب النحل بخالصالسمن ما عابه مسلم، فجعله لعاباً كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم. وقيل: من بطونها من أفواهها، سمىالفم بطناً لأنه في حكم البطن، ولأنه مما يبطن ولا يظهر. واختلاف ألوانه بالبياض والصفرة والحمرة والسواد، وذلك لاختلاف طباعالنحل، واختلاف المراعي. وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى كما في الحديث «جرست نحلة العرفط» وقيل: الأبيض تلقيه شباب النحل، والأصفركهولها، والأحمر شبيبها. والظاهر عود الضمير فيه إلى الشراب وهو العسل، لأنه شفاء من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة. وقلَّمعجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، والعسل موجود كثير في أكثر البلدان. وأما السكر فمختص به بعض البلادوهو محدث، ولم يكن فيما تقدم في أكثر البلدان. وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث، ولم يكن فيماتقدم من الأزمان يجعل في الأشربة والأدوية إلا العسل، وليس المراد بالناس هنا العموم، لأن كثيراً من الأمراض لا يدخلفي دوائها العسل، وإنما المعنى للناس الذي ينجع العسل في أمراضهم. ونكر شفاء إما للتعظيم فيكون المعنى فيه شفاء أيشفاء، وإما لدلالته على مطلق الشفاء أي: فيه بعض الشفاء. وروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والضحاك، والفراء، وابن كيسان:أن الضمير في فيه عائد على القرآن، أي: في القرآن شفاء للناس. قال النحاس: وهو قول حسن أي: فيما قصصناعليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء،ولو صح نقلاً لم يصح عقلاً فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر، ولما كان أمر النحل عجيباًفي بنائها تلك البيوت المسدسة، وفي أكلها من أنواع الأزهار والأوراق الحامض والمر والضار، وفي طواعيتها لأميرها ولمن يملكها فيالنقلة معه، وكان النظر في ذلك يحتاج إلى تأمل وزيادة تدبر ختم بقوله تعالى: إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون.{وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّـٰكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ * لِكَيْلاَ يَعْلَمَ *بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌقَدِيرٌ * وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلْرّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَهُمْ فِيهِسَوَآء }: لما ذكر تعالى تلك الآيات التي في الأنعام والثمرات والنحل، ذكر ما نبهنا به على قدرته التامة فيإنشائنا من العدم وإماتتنا، وتنقلنا في حال الحياة من حالة الجهل إلى حالة العلم، وذلك كله دليل على القدرة التامةوالعلم الواسع، ولذلك ختم بقوله: عليم قدير. وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس، ويختل النطق والفكر. وخص بالرذيلةلأنها حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد، بخلاف حال الطفولة فإنها حالة تتقدم فيها إلى القوة وإدراك الأشياء ولايتقيد أرذل العمر بسن مخصوص، كما روي عن علي: أنه خمس وسبعون سنة. وعن قتادة: أنه تسعون، وإنما ذلك بحسبإنسان إنسان فرب ابن خمسين انتهى، إلى أرذل العمر، ورب ابن مائة لم يرد إليه. والظاهر أنّ من يرد إلىأرذل العمر عام، فيمن يلحقه الخرف والهرم. وقيل: هذا في الكافر، لأن المسلم لا يزداد بطول عمره إلا كرامة علىالله، ولذلك قال تعالى:
{ ثُمَّ رَدَدْنَـٰهُ أَسْفَلَ سَـٰفِلِينَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ }
أي لم يردوا إلى أسفلسافلين. وقال قتادة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. واللام في لكي قال الحوفي: هي لام كيدخلت على كي للتوكيد، وهي متعلقة ببرد انتهى. والذي ذهب إليه محققو النحاة في مثل لكي أنّ كي حرف مصدريإذا دخلت عليها اللام وهي الناصبة كأن، واللام جارة، فينسبك من كي والمضارع بعدها مصدر مجرور باللام تقديراً، فاللام علىهذا لم تدخل على كي للتوكيد لاختلاف معناهما واختلاف عملهما، لأن اللام مشعرة بالتعليل، وكي حرف مصدري، واللام جارة، وكيناصبة. وقال ابن عطية: يشبه أن تكون لام صيرورة والمعنى: ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئاً.وهذه عبارة عن قلة علمه، لا أنه لا يعلم شيئاً البتة. وقال الزمخشري: ليصير إلى حالة شبيهة بحالة في النسيان،وأن يعلم شيئاً ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إنْ سئل عنه. وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئاً.وقيل: لئلا يعلم زيادة علم على علمه انتهى. وانتصب شيئاً إما بالمصدر على مذهب البصريين في اختيار أعماله ما يليللقرب، أو بيعلم على مذهب الكوفيين في اختيار أعمال ما سبق للسبق. ولما ذكر ما يعرض في الهرم منضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم، ذكر علمه وقدرته اللذين لا يتبدلان ولا يتغيران ولا يدخلهما الحوادث، ووليت صفة العلم ماجاورها من انتفاء العلم، وتقدم أيضاً ذكر مناسبة للختم بهذين الوصفين. ولما ذكر تعالى خلقنا، ثم إماتتنا وتفاوتنا في السن،ذكر تفاوتنا في الرزق، وأن رزقنا أفضل من رزق المماليك وهم بشر مثلنا، وربما كان المملوك خيراً من المولى فيالعقل والدين والتصرف، وأن الفاضل في الرزق لا يساهم مملوكه فيما رزق فيساويه، وكان ينبغي أن يردّ فضل ما رزقعليه ويساويه في المطعم والملبس، كما يحكى عن أبي ذرّ أنه ريء عبده وإزاره ورداؤه مثل ردائه من غير تفاوت،عملاً بقول رسول الله ﷺ: إنما هم أخوانكم فاكسوهم مما تلبسون واطعموهم مما تطعمون وعن ابن عباسوقتادة: أنّ الأخبار بقوله: فما الذين فضلوا برادي رزقهم على سبيل المثل أي: إنّ المفضلين في الرزق لا يصح منهمأن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى اللهتعالى أنه يشرك في ألوهيته الأوثان والأصنام، ومن عد من الملائكة وغيرهم والجميع عبيده وخلقه؟ وعن ابن عباس: أن الآيةمشيرة إلى عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. وقال المفسرون: هذه الآية كقوله:
{ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ }
الآية. وقيل: المعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا تحسبن الموالي أنهم يردونعلى مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق، فإنما ذلك أجريه إليهم على أيديهم. وعلى هذا القول يكون فهم فيه سواءجملة أخبار عن تساوي الجميع في أكن الله تعالى هو رازقهم، وعلى القولين الآخرين تكون الجملة في موضع جواب النفيكأنه قيل: فيستووا. وقيل: هي جملة استفهامية حذف منها الهمزة التقدير: أفهم فيه سواء أي: ليسوا مستوين في الرزق، بلالتفضيل واقع لا محالة. ثم استفهم عن جحودهم نعمة استفهام إنكار، وأتى بالنعمة الشاملة للرزق وغيره من النعم التي لاتحصى أي: إنّ من تفضل عليكم بالنشأة أولاً ثم مما فيه قوام حياتكم جدير بأن تشكر نعمه ولا تكفر.وقرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو عبد الرحمن، والأعرج بخلاف عنه: تجحدون بالتاء على الخطاب لقوله: فضل، تبكيتاً لهم فيجحد نعمة الله. ولما ذكر تعالى امتنانه بالإيجاد ثم بالرزق المفضل فيه، ذكر امتنانه بما يقوم بمصالح الإنسان مما يأنسبه ويستنصر به ويخدمه، واحتمل أن أنفسكم أن يكون المراد من جنسكم ونوعكم، واحتمل أن يكون ذلك باعتبار خلق حواءمن ضلع من أضلاع آدم، فنسب ذلك إلى بني آدم، وكلا الاحتمالين مجاز. والظاهر أن عطف حفدة على بنين يفيدكون الجميع من الأزواج، وأنهم غير البنين. فقال الحسن:هم بنو ابنك. وقال ابن عباس والأزهري: الحفدة أولاد الأولاد، واختاره ابنالعربي. وقال ابن عباس أيضاً: البنون صغار الأولاد، والحفدة كبارهم. وقال مقاتل: بعكسه، وقيل: البنات لأنهنّ يخدمن في البيوت أتمخدمة. ففي هذا القول خص البنين بالذكران لأنه جمع مذكر كما قال:
{ ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا }
وإنما الزينةفي الذكورة. وعن ابن عباس: هم أولاد الزوجة من غير الزوج التي هي في عصمته. وقيل: وحفدة منصوب بجعل مضمرة،وليسوا داخلين في كونهم من الأزواج. فقال ابن مسعود، وعلقمة، وأبو الضحى، وابراهيم بن جبير: الأصهار، وهم قرابة الزوجة كأبيهاوأخيها. وقال مجاهد: هم الأنصار والأعوان والخدم. وقالت فرقة: الحفدة هم البنون أي: جامعون بين البنوة والخدمة، فهو من عطفالصفات لموصوف واحد. قال ابن عطية ما معناه: وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجه بنينوحفدة، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس. ويحتمل عندي أن قوله من أزواجكم، إنما هو على العموم والاشتراك أي:من أزواج البشر جعل الله منهم البنين، ومنهم جعل الخدمة، وهكذا رتبت الآية النعمة التي تشمل العالم. ويستقيم لفظ الحفدةعلى مجراها في اللغة، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة انتهى. وفي قوله: من أنفسكم أزواجاً دلالةعلى كذب العرب في اعتقادها أن الآدمي قد يتزوج من الجن ويباضعها، حتى حكوا ذلك عن عمرو بن هندانة تزوجسعلاة. ومِن في الطيبات للتبعيض، لأن كل الطيبات في الجنة، والذي في الدنيا أنموذج منها. والظاهر أنّ الطيبات هناالمستلذات لا الحلال، لأن المخاطبين كفار لا يتلبسون بشرع. ولما ذكر تعالى ما امتن به من جعل الأزواج وما ننتفعبه من جهتين، ذكر مننه بالرزق. والطيبات عام في النبات والثمار والحبوب والأشربة، ومن الحيوان. وقيل: الطيبات الغنائم. وقيل: ماأتى من غير نصب. وقال مقاتل: الباطل الشيطان، ونعمة لله محمد ﷺ. وقال الكلبي: طاعة الشيطان فيالحلال والحرام. وقيل: ما يرجى من شفاعة الأصنام وبركتها. قال الزمخشري: أفبالباطل يؤمنون وهو ما يعتقدون من مننفعة الأصنام وبركتهاوشفاعتها، وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، فليس لهم إيمان إلا به. كأنه شيء معلوممستيقن. ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل، وتمييزهم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذيلا تتصوره العقول. وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما، ونعمة الله ما أحل لهم انتهى.وقرأ الجمهور: يؤمنون بالياء، وهو توقيف للرسول ﷺ على إيمانهم بالباطل، ويندرج في التوقيف المعطوف بعدها. وقرأالسلمي بالتاء، ورويت عن عاصم، وهو خطاب إنكار وتقريع لهم، والجملة بعد ذلك مجرد إخبار عنهم. فالظاهر أنه لا يندرجفي التقريع. ويعبدون، استفهام أخبار عن حالهم في عبادة الأصنام، وفي ذلك تبيين لقوله: أفبالباطل يؤمنون، نعى عليهم فساد نظرهمفي عبادة ما لا يمكن أن يقع منه ما يسعى عابده في تحصيله منه وهو الرزق، ولا هو في استطاعته.فنفى أولاً أن يكون شيء من الرزق في ملكهم، ونفى ثانياً قدرتها على أن تحاول ذلك، وما لا تملك فيجميع من عبد من دون الله من ملك أو آدمي أو غير ذلك. وأجازوا في شيئاً انتصابه بقوله: رزقاً، أجازذلك أبو عليّ وغيره. ورد عليه ابن الطراوة بأنّ الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن، والمصدر هو الرزق بفتح الراء كالرعيوالطحن. ورد على ابن الطراوة بأنّ الرزق بالكسر يكون أيضاً مصدراً، وسمع ذلك فيه، فصح أنْ يعمل في المفعول بهوالمعنى: ما لا يملك أن يرزق من السموات والأرض شيئاً. ومن السموات متعلق إذ ذاك بالمصدر. قال ابن عطية بعدأن ذكر أعمال المصدر منوناً: والمصدر يعمل مضافاً باتفاق، لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف واللام لأنهقد توغل في حال الأسماء وبعد عن الفعلية. وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله، وقد جاء عاملاً مع الألف واللامفي قول الشاعر:
ضعيـف النكـايــة أعـــداءه |
البيت وقوله:
لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعا |
انتهى. أما قوله: يعمل مضافاً بالاتفاق إنْ عنى من البصريينفصحيح، وإن عنى من النحويين فغير صحيح، لأنّ بعض النحويين ذهب إلى أنه وإن أضيف لا يعمل، وإن نصب مابعده أو رفعه إنما هو على إضمار الفعل المدلول عليه بالمصدر. وأما قوله: لأنه في تقدير الانفصال ليس كذلك، لأنهلو كان في تقدير الانفصال لكانت الإضافة غير محضة، وقد قال بذلك أبو القاسم بن برهان، وأبو الحسين بن الطراوة،ومذهبهما فاسد لنعت هذا المصدر المضاف، وتوكيده بالمعرفة. وأما قوله: ولا يعمل إلى آخره فقد ناقض في قول أخيراً: وقدجاء عاملاً مع الألف واللام. وأما كونه لا يعمل مع الألف واللام فهو مذهب منقول عن الكوفيين، ومذهب سيبويه جوازأعماله. قال سيبويه: وتقول عجبت من الضرب زيداً، كما تقول: عجبت من الضارب زيداً، تكون الألف واللام بمنزلة التنوين. وإذاكان رزقاً يراد به المرزوق فقالوا: انتصب شيئاً على أنه بدل من رزقاً، كأنه قيل: ما لا يملك لهم منالسموات والأرض شيئاً، وهو البدل جارياً على جهة البيان لأنه أعم من رزق، ولا على جهة التوكيد لأنه لعمومه ليسمرادفاً، فينبغي أن لا يجوز، إذ لا يخلو البدل من أحد نوعيه هذين. إما البيان، وإما التوكيد. وأجازوا أيضاً أنيكون مصدراً أي: شيئاً من الملك كقوله: ولا تضرونه شيئاً أي شيئاً من الضرر. وعلى هذين الإعرابين تتعلق من السمواتبقوله: لا يملك، أو يكون في موضع الصفة لرزق فيتعلق بمحذوف. ومن السموات رزقاً يعني به المطر، وأطلق عليهرزق لأنه عنه ينشأ الرزق. والأرض يعني: الشجر، والثمر، والزرع. والظاهر عود الضمير في يستطيعون على ما على معناها، لأنهيراد بها آلهتهم، بعدما عاد على اللفظ في قوله: ما لا يملك، فأفرد وجاز أن يكون داخلاً في صلة ما،وجاز أنْ لا يكون داخلاً، بل إخبار عنهم بانتفاء الاستطاعة أصلاً، لأنهم أموات. وأما قول الزمخشري: إنه يراد بالجمع بيننفي الملك والاستطاعة التوكيد فليس كما ذكر، لأنّ نفي الملك مغاير لنفي الاستطاعة. وقال ابن عباس: ولا يستطيعون أن يرزقواأنفسهم. وجوز الزمخشري وابن عطية: أن يعود الضمير على ما عاد عليه في قوله: ويعبدون، وهم الكفار أي: ولا يستطيعهؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب من ذلك شيئاً، فكيف بالجماد الذي لا حس به قاله الزمخشري. وقال ابنعطية: لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها انتهى. ونهى تعالى عن ضرب الأمثال لله، وضرب الأمثال تمثيلها والمعنىهنا: تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالاً بحال. وقصة بقصة من قولهم: هذا ضرب لهذاأي: مثل، والضرب النوع. تقول: الحيوان على ضروب أي أنواع، وهذا من ضرب واحد أي: من نوع واحد. وقال ابنعباس: معناه لا تشبهوه بخلقه انتهى. وقال: إن الله يعلم أثبت العلم لنفسه، والمعنى: أنه يعلم ما تفعلون من عبادةغيره والإشراك به، وعبر عن الجزاء بالعلم: وأنتم لا تعلمون كنه ما أقدمتم عليه، ولا وبال عاقبته، فعدم علمكم بذلكجركم وجرأكم وهو كالتعليل للنهي عن الإشراك. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد أنّ الله يعلم كيف نضرب الأمثال وأنتم لاتعلمون انتهى. وقاله ابن السائب قال: يعلم بضرب المثل، وأنتم لا تعلمون ذلك. وقال مقاتل: يعلم أنه ليس له شريك،وأنتم لا تعلمون ذلك. وقيل: يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطته.
{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } * { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } * { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } * { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ } * { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } * { وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } * { وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } * { وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } * { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ }
[عدل]الكل: الثقيل، وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله. وقال الشاعر:
أكول لمال الكل قبل شبابه | إذا كان عظم الكل غير شديد |
والكل أيضاً الذي لا ولد له ولا والد،والكل العيال، والجمع كلول. اللمح: النظر بسرعة، لمحه لمحاً ولمحاناً. الجو: مسافة ما بين السماء والأرض، وقيل: هو ما يليالأرض في سمت العلو، واللوح والسكاك أبعد منه. الظعن: سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع، والظعن الهودجأيضاً. الصوف للضأن، والوبر للإبل، والشعر للمعز، قاله أهل اللغة في قوله: ومن أصوافها الآية. الأثاث: قال المفضل متاع البيتكالفرش والأكسية، وقال الفراء: لا واحد له من لفظه، كما أنّ المتاع لا واحد له من لفظه، ولو جمعت لقلت:أأثثة في القليل، وأثث في الكثير. وقال أبو زيد: واحده أثاثه، وقال الخليل: أصله من قولهم أثث النبات والشعر، فهوأثيث إذا كثر. قال امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحمأثيت كقنو النخلة المتعثكل |
الكن ما حفظ، ومنعمن الريح والمطر وغير ذلك، ومن الجبال الغار. استعتبت الرجل بمعنى أعتبته أي: أزلت عنه ما يعتب عليه ويلام، والاسمالعتبى، وجاءت استفعل بمعنى أفعل نحو استدينته وأدينته. {ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَىْء وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّارِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا }: مناسبة ضرب هذا المثل أنه لما بين تعالى ضلالهم في إشراكهم باللهغيره وهو لا يجلب نفعاً ولا ضراً لنفسه ولا لعابده، ضرب لهم مثلاً قصة عبد في ملك غيره، عاجز عنالتصرف، وحر غني متصرف فيما آتاه الله. فإذا كان هذان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد، ومشتركين فيالإنسانية، فكيف تشركون بالله وتسوون به من مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره، مع تباين الأوصاف. وأنّ موجد الوجودلا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه، ولا يمكن لعاقل أن يشبه به غيره. قال مجاهد: هذا مثل لله وللأصنام.وقال قتادة: للمؤمن والكافر فالكافر العبد المملوك لا ينتفع بعبادته في الآخرة، ومن رزقناه المؤمن. وقال ابن جبير: مثل للبخيلوالسخي انتهى. ولما كان لفظ عبد قد يطلق على الحر، خصص بمملوك. ولما كان المملوك قد يكون له تصرفوقدرة كالمأذون له والمكاتب، خصص بقوله: لا يقدر على شيء، والمعنى: على شيء من التصرف في المال، لأنه يقدر علىأشياء من حركاته: كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، والنوم، وغير ذلك. والظاهر كون ومن موصولة أي: والذي رزقناه، ودلت الصلة وماعطف على أنه يراد به الحر. وقال أبو البقاء: موصوفة. قال الزمخشري: الظاهر أنها موصوفة كأنه قال: وحراً رزقناه ليطابقعبداً، ولا يمتنع أن تكون موصولة. وقال الحوفي: مَن بمعنى لذي، ولا يقتضي ضرب المثل لشخصين موصوفين بأوصفا متباينة تعيينهما،بل ما روي في تعيينهما من أنهما: عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد له أو أنهما أبو بكر الصديقرضي الله عنه وأبو جهل، لا يصح إسناده. وجمع الضمير في يستوون ولم يثن لسبق اثنين، لأن مَن يحتمل أنيراد بها الجمع فيصير إذ ذاك جمع الضمير لانتظام العبد المملوك والأغنياء في الجمع، وكأنه قيل: عبداً مملوكاً. والملاك المرزوقونالمنفقون. ويحتمل أن يراد بعبداً مملوكاً الجنس، فيصلح عود الضمير جمعاً عليه، وعلى جنس الأغنياء. ويحتمل أن يعود على العبيدوالأحرار وإن لم يجر للجمعين ذكر، لدلالة عبد مملوك ومن رزقناه عليهما. قل: الحمد لله، الظاهر أنه خطاب للرسولﷺ. وقيل: يحتمل أن يكون خطاباً لمن رزقه الله، أمره أن يحمد الله على أنّ ميزه بهذهالقدرة على ذلك الضعيف. وقال ابن عطية: الحمد لله شكر على بيان الأمر بهذا المثل، وعلى إذعان الخصم له كماتقول لمن أذعن لك ي حجة وسلم تبنى أنت عليه، قولك: الله أكبر على هذا يكون كذا وكذا، فلما قالهنا: هل يستوون، فكأن الخصم قال له: لا، فقال: الحمد لله ظهرت الحجة انتهى. وقيل: الحمد لله أي: هو المستحقللحمد دون ما يعبدون من دونه، إذ لا نعمة للأصنام عليهم فتحمد عليها، إنما الحمد الكامل لله لأنه المنعم الخالق.وقال ابن عباس: الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد. والظاهر نفي العلم عن أكثرهم، لأنّ منهم منبان له الحق ورجع إليه، أو أكثر الخلق لأن الأكثر هم المشركون. وقيل: المراد به االعموم أي: بل هم لايعلمون. ومتعلق يعلمون محذوف، إما لأنّ المعنى نفي العلم عن الأكثر ولم يلحظ متعلقه، وإما لأنه محذوف يترتب على الأقوالالتي سببها قوله الحمد لله. وضرب الله مثلاً رجلين أي قصة رجلين. قال الزمخشري: وهذا مثل ثان ضربه لنفسهولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، والأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع.والأبكم الذي ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم. وهو كل على مولاه أي: ثقيل، وعيال على من يلي أمره ويعوله.أينما يوجهه: حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح. هل يستوي هو، ومنهو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة، فهو يأمر الناس بالعدل، وهو في نفسه على صراط مستقيم علىسيرة صالحة، ودين قويم انتهى. وقال ابن عباس: أحدهما أبكم مثل للكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن. وقال قتادة: هذا مثلالله تعالى، والأصنام فهي الأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء، وهو عيال على من والاه من قريبأو صديق، كما الأصنام تحتاج أن تنقل وتخدم ويتعذب بها، ثم لا يأتي من جهتها خير البتة. وعن قتادة أيضاًوغيره: هذا مثل ضربه الله لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو اللهتعالى، وهذا ليس كذلك لأنه قال: مثلاً رجلين،فلا بد أن يكون عديل الأبكم الموصوف بتلك الصفات، ومقابله رجل موصوف بمايقابل تلك الصفات من النطق والقدرة والكفاية، ولكنه حذف المقابل لدلالة مقابله عليه، ثم قيل: هل يستوي ذلك الأبكم الموصوفبتلك الصفات، وهذا الناطق: ففي ذكر استوائهما أيضاً دليل على حذف المقابل. ولما كان البكم هو المبدأ به من الأوصاف،وعنه تكون الأوصاف التي بعده قابلة في الاستواء بالنطق، وثمرته من الأمر بالعدل غيره وهو في نفسه على طريقة مستقيمة،فحيثما توجه صدر منه الخبر ونفع، وليس بكالّ على أحد. وقد تقرر في بداية العقول أنّ الأبكم العاجز لا يكونمساوياً في العقل والشرف للناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية، فلأن يحكم بأنّ الجماد لا يكون مساوياً لرب العالمينفي المعبودية أحرى وأولى. وكما قلنا في المثل السابق: لا يحتاج إلى تعيين المضروب بهما المثل، فكذلك هنا، فتعيين الأبكمبأبي جهل، والآمر بالعدل: بعمار، أو بأبيّ بن خلف، وعثمان بن مظعون، أو بهاشم بن عمرو بن الحرث كان يعاديالرسول ﷺ لا يصح إسناده. وقرأ عبد الله، وعلقمة، وابن وثاب، ومجاهد، وطلحة يوجه بهاء واحدةساكنة مبنياً، وفاعله ضمير يعود عليى مولاه، وضمير المفعول محذوف لدلالة المعنى عليه. ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائداً علىالأبكم، ويكون الفعل لازماً وجه بمعنى توجه، كان المعنى: أينما يتوجه. وعن عبد الله أيضاً: توجهه بهاءين، بتاء الخطاب، والجمهوربالياء والهاءين. وعن علقمة وابن وثاب، وطلحة، يوجه بهاء، واحدة ساكنة، والفعل مبني للمفعول. وعن علقمة، وطلحة: يوجه بكسر الجيموهاء واحدة مضمومة. قال صاحب اللوامح: فإنْ صح ذلك فإنّ الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فراراً من التضعيف، ولأناللفظ به صعب مع التضعيف، أو لم يرد به الشرط، بل أمر هو بتقدير أينما هو يوجه، وقد حذف منهضمير المفعول به، فيكون حذف الياء من لا يأت بخير على التخفيف نحو: يوم يأت. وإذا يسر انتهى. ولا يخرجأين عن الشرط أو الاستفهام. وقال أبو حاتم: هذه القراءة ضعيفة، لأن الجزم لازم انتهى. والذي توجه عليه هذه القراءةإن صحت أنّ أينما شرط حملت على إذا لجامع ما اشتركا فيه من الشرطية، ثم حذفت الياء من لا يأتتخفيفاً، أو جزمه على توهم أنه نطق بأينما المهملة معملة لقراءة من قرأ أنه من يتقي ويصبر في أحد الوجهين،ويكون معنى يوجه يتوجه، فهو فعل لازم لا متعد. ثم ذكر تعالى أنه له غيب السموات والأرض، وهو ماغاب عن العباد وخفي فيهما عنهم علمه. والظاهر اتصاله بقوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
أخبر باستئثاره بعلمغيب السموات والأرض، بكمال قدرته على الإتيان بالساعة التي تنكرونها في لمحة البصر أو أقرب، والمعنى بهذا الإخبار: أنّ الآلهةالتي تعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان للإله وهما: العلم المحيط بالمغيبات، والقدرة البالغة التامّة. ومن ذكر أنّ قوله: ومنيأمر بالعدل هو الله تعالى، ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأنّ من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هوالكامل في العلم والقدرة، فبين ذلك بهذه الجملة. قيل: والغيب هنا ما لا يدرك بالحس، ولا يفهم بالعقل. وقال المفضل:ما غاب عن الخلق هو في قبضته لا يعزب عنه. وقيل: هو ما في قوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }
وقال الزمخشري: أو أراد بغيب السموات والأرض يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلععليه أحد منهم. قيل: لما كانت الساعة آتية ولا بد، جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج: لم يرد أنّالساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي: يقول للشيء كن فيكون. وقيل: هذا تمثيلللقرب كما تقول: ما السنة إلا لحظة. وقال الزمخشري: هو عند الله وإن تراخى، كما يقولون أنتم في الشيء التيتستقربونه: كلمح البصر، أو هو أقرب إذا بالغتم في استقرابه ونحوه قوله:
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ }
{ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ }
{ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ }
أي هو عنده دان، وهو عندكم بعيد. وقيل: المعنى أنّ إقامةالساعة وإماتة الأحياء، وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت أوحاه. أنّ الله على كل شيء قدير، فهويقدر على أنْ يقيم الساعة، ويبعث الخلق، لأنه بعض المقدورات. وقال ابن عطية: والمعنى على ما قال قتادة وغيره، وماتكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها: كن فلو اتفق أن يقف على ذلك شخص منالبشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر؟ أو هي أقرب من ذلك؟ فأو على هذا على بابهافي الشك. وقيل: هي للتخيير انتهى. والشك والتخيير بعيدان، لأنّ هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة، فالشك مستحيلعليه. ولأنّ التخيير إنما يكون في المحظورات كقولهم: خذ من مالي ديناراً أو درهماً، أو في التكليفات كآية الكفارات:
{ وَٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ }
وأو هنا للإبهام على المخاطب كقوله:
{ وَأَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ }
وقوله:
{ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا }
وهو تعالى قد علم عددهم، ومتى يأتيها أمره، كما علم أمر الساعة، لكنه أبهم على المخاطب. وكون أوهنا للإبهام ذكره الزجاج هنا. وقال القاض: هذا لا يصح، لأنّ إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال: إنه تعالىيأتي بها في زمان يعني القاضي فيكون الإبهام على المخاطب في ذلك الزمان، وليس زمان تكليف. والذي نقوله: إن الإبهاموقع وقت الخطاب المتقدم على أمر الساعة، لا وقت الإتيان بها. وليس من شرط الإبهام على المخاطب في الإخبار عنشيء اتحاد زمان الإخبار وزمان وقوع ذلك الشيء، ألا ترى في قوله تعالى:
{ وَأَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ }
كيف تأمر زمان الإخبار عن زمان وقوع ذلك الإرسال، ووجودهم مائة ألف أو يزيدون. وقال أبو عبد الله الرازي: لمحالبصر انتقال الجسم بالطرف من أعلى الحدقة، وهي مؤلفة من أجزاء وتلك الأجزاء كثيرة، والزمان الذي يحصل فيه للمح مركبمن آناء متعاقبة، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآناء، فلذلك قال:
{ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ }
ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا هو لمح البصر ذكره، ثم قال: أو هو أقرب تنبيهاً على ماذكرناه، وليس المراد طريقة الشك، والمراد بل هو أقرب انتهى. وفيه بعض تلخيص. وما ذكره من أنّ أو بمعنى بل،هو قول الفراء، ولا يصح لأنّ الإضراب على قسمين كلاهما لا يصح هنا. أما أحدهما: فإن يكون إبطالاً للإسناد السابق،وأنه ليس هو المراد، وها مستحيل هنا، لأنه يؤول إلى إسناد غير مطابق. والثاني: أن يكون انتقالاً من شيء إلىشيء من غير إبطال لذلك الشيء السابق، وهذا مستحيل هنا للتنافي الذي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر في السرعة،والإخبار بالأقربية، فلا يمكن صدقهما معاً. وقال صاحب الغيـان: وهذا وإن كان يعتبر إدراكه حقيقة، إلا أن المقصود المبالغة علىمذهب العرب وأرباب النظم. وما أحسن قول الأبله الشاعر في المعنى:
قال له البرق وقالت له الريح | جميعاً وهما ما هما أأنت تجري معنا قال إن | |
نشطت أضحكتكما منكما أنا ارتداد الطرف قد فته | إلى المدى سبقاً فمن أنتما |
ولما ذكر تعالى أمر الساعةوأنها كائنة لا محالة، فكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة. وتقدم وصفهم بانتفاء العلم، ذكر تعالى النشأة الأولى وهيإخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئاً، تنبيهاً على وقوع النشأة الآخرة. ثم ذكر تعال امتنانه عليهم بجعل الحواس التيهي سبب لإدراك الأشياء والعلم، ولما كانت النشأة الأولى، وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال: لعلكمتشكرون، وتقدّم الكلام في أمهات في النساء. وقرأ حمزة: بكسر الهمزة، والميم هنا وفي النور، والزمر، والنجم، والكسائي بكسر الهمزةفيهن، والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم. قال أبو حاتم: حذف الهمزة رديء، ولكحن قراءةابن أبيّ أصوب انتهى. وإنما كانت أصوب لأنّ كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة، فإذا كانت الهمزة محذوفة زالالاتباع، بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقرّ الميم على حركتها. ولا تعلمون جملة حالية أي: غير عالمين. وقالوا: لاتعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، أو شيئاً مما قضى عليكم من السعادة أو القاوة، أوشيئاً من منافعكم. والأولى عموم لفظ شيء، ولا سيما في سياق النفي. وقال وهب: يولد المولود حذر إلى سبعة أياملا يدرك راحة ولا ألماً. ويحتمل وجعل أن يكون معطوفاً على أخرجكم، فيكون واحداً في حيز خبر المبتدأ، ويحتمل أنيكون استئناف إخبار معطوفاً على الجملة الابتدائية كاستئنافها. والمراد بالسمع والأبصار والأفئدة إحساسها وإدراكها، فعبر عن ذلك بالآية. وقالأبو عبد الله الرازي ما معناه: إنما جمع الفؤاد جمع قلة، لأنه إنما خلق للمعارق الحقيقية اليقينية، وأكثر الخلق مشغولونبالأفعال البهيمية، فكان فؤادهم ليس بفؤاد، فلذلك ذكر في جمعه جمع القلة انتهى ملخصاً. وهو قول هذياني، ولولا جلاله قائلهوتسطيره في الكتب ما ذكرته، وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري: أنه من جموع القلة التي جرت مجرى جموعالكثرة والقلة، إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء: شسوع في جمع شسع لا غير، فجرى ذلك المجرى انتهى.إلا أنّ دعوى الزمخشري أنه لم يجيء في جمع شسع إلا شسع لا غير، ليس بصحيح، بل جاء فيه جمعالقلة قالوا: أشساع، فكان ينبغي له أن يقول: غلب شسوع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وطلحة، والأعمش، وابن هرمز: ألم تروابتاء الخطاب، وباقي السبعة بالياء. قال ابن عطية: واختلف عن الحسن، وعيسى الثقفي، وعاصم، وأبي عمرو. ولما ذكر تعالى مداركالعلم الثلاثة: السمع، والنظر، والعقل، والأولان مدرك المحسوس، والثالث مدرك المعقول، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر، فإنه أغربلما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك. وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوانالطائر، فإنّ طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به. وتضمنت الآية أيضاً ذكر مدرك العقل فيكونه لا يسقط، إذ ليس تحته ما يدعمه، ولا فوقه ما يتعلق به، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر علىإمساكه وهو الله تعالى، كما قال تعالى:
{ أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَــٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ }
فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل. ومعنى مسخرات: مذللات، وبني للمفعول دلالة علىأن له مسخراً. وقال أبو عبد الله الرازي: هذا دليل على كمال قدرة الله وحكمته، فإنه تعالى خلق الطائر خلقهمعها يمكنه الطيران، أعطاه جناحاً يبسطه مرة، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجو خلقه معها يمكنالطيران خلقه خلقة لطيفة، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً انتهى. وكلامه منتزع من كلامالقاضي قال: إنما أضاف الإمساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال، فلماكان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى. والذي نقوله: إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح،وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى، وأن الممسك له في جو السماء هو الله تعالى. وقدقام الدليل على أنّ جميع الأفعال كلها مخلوقة لله، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار، فلا نقول: إنهلولا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران، ولا لولا الآلات ما أمكن. وقال الزمخشري: ما يوافق كلامهما قال: مسخرات، مذللاتللطيران بما خلق لها من الأجنحة، والأسباب المواتية لذلك. ثم أحسن أخيراً في قوله: ما يمسكهن في قبضهن وبسطهن ووقوفهنإلا الله بقدرته انتهى. لآيات: جمع ولم يفرد، لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأنيرتفع بها، وثقله الذي جعله فيه لأن ينزل، والفضاء الذي بين السماء والأرض، والإمساك الذي لله تعالى، أو جمع باعتبارما في هذه الآية والتي قبلها وقال: لقوم يؤمنون، فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار، ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لهاهو الله، فهو إخبار منه تعالى ما يصدق به إلا المؤمن. {وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْمّن جُلُودِ ٱلاْنْعَـٰمِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَـٰمَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَـٰثاً وَمَتَـٰعاً إِلَىٰ حِينٍ * وَٱللَّهُجَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلَـٰلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَـٰناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرٰبِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ }: لماذكر تعالى ما من به عليهم من خلقهم، وما خلق لهم من مدارك العلم، ذكر ما امتن به عليهم مماينتفعون به في حياتهم من الأمور الخارجية عن دوابهم من البيوت التي يسكنونها، من الحجر والمدر والأخشاب وغيرها. والسكن فعلبمعنى مفعول، كالقنص، والنفص. وأنشد الفراء:
جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا | يا ويح نفسي من حفر القراميص |
وليسالسكن بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية، وكأنه تعالى ذكر أولاً ما غالب البيوت عليه من كونها لا تنقل، بلينتقل الناس إليها. ثم ذكر ثانياً ما منّ به علينا من المتخذ من جلود الأنعام، وهو ما ينتقل من القبابوالخيام والفساطيط التي من الأدم، أو ذكر أولاً البيوت على طريق العموم، ثم ذكر بيوت الجلود خصوصاً تنبيهاً على حالأكثر العرب، فإنهم لانتجاعهم إنما بيوتهم من الجلود، والظاهر أنه لا يندرج في البيوت التي من جلود الأنعام بيوت الشعر،وبيوت الصوف والوبر. وقال ابن سلام: تندرج لأنها ثابتة فيها، فهي منها. ومعنى تستخفونها: تجدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقضوالنقل. يوم ظعنكم: يوم ترحلون خف عليكم حملها ونثلها، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها. وقد يرادبالاستخفاف في وقتي السفر والحضر أي: مدة النجعة والإقامة. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: ظعنكم بفتح العين، وباقي السبعة بسكونها، وهمالغتان. وليس السكون بتخفيف كما جاء في نحو الشعر والعر لمكان حرف الخلق، والظاهر أنّ أثاثاً مفعول، والتقدير: وجعل منأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً. وقيل: أثاثاً منصوب على الحال على أنّ المعنى: جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً، فيكون ذلكمعطوفاً على من جلود الأنعام، كما تقول: جعلت لك من الماء شراباً ومن اللبن، وفي التقدير الأول يكون قد عطفمجروراً على مجرور، ومنصوباً على منصوب كما تقول: ضربت في الدار زيداً وفي القصر عمراً، ولما لم تكن بلادهم بلادقطن وكتان وحرير اقتصر على هذه الثلاثة هنا، واندرجت في قوله سرابيل تقيكم الحر. والمتاع: ما يتمتع به أي: ينتفعبه. وقال ابن عباس: الزينة. وقال المفضل: المتجر والمعاش. وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف اللفظين كقوله: وألفىقولها كذباً وميناً. وغيا تعالى ذلك بقوله: إلى حين، فقال ابن عباس: إلى الموت. وقال مقاتل: إلى بلى ذلك الشيء.وقيل: إلى انقضاء حاجتكم منه. ولما ذكر تعالى ما منّ به عليهم ما سبق ذكره، وكانت بلادهم غالباً عليها الحر،ذكر امتنانه عليهم بما يقيهم الحر من خلق الأجرام التي لها ظل كالشجر وغيره مما يمنع من أذى الشمس. وقالابن عباس ومجاهد: ظلال الغمام. وقال ابن السائب: طلال البيوت. وقال قتادة، والزجاج: ظلال الشجر. وقال ابن قتيبة: ظلال الشجروالجبال والأكنان من الجبال هي الغيران، والكهوف، والبيوت المنحوتة منها. والسربال ما لبس على البدن من: قميص، وقرقل، ومجول، ودرع،وجوشن، ونحو ذلك من صوف وكتان وقطن وغيرها. واقتصر على ذكر الحر إما لأن ما يقي الحر يقي البرد قالهالزجاج، أو حذف البرد لدلالة ضده عليه قاله المبرد، أو لأنه أمس في تلك البلاد والبرد فيها معدوم في الأكثر.وإذا جاء توقى بالأثاث فيخلص السربال لتوقي الحر فقط، قاله عطاء الخراساني. وهذا في بلاد الحجاز، وأما غيرها من بلادالعرب فيوجد فيها البرد الشديد كما قال متمم:
إذا القشـع مـن بـرد الشتـاء تقعقعـا |
وقال آخر:
في ليلـة مـن جمادى ذات أنديـة |
والسرابيل التي تقي الناس هي الدروع. قال كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم | من نسج داود في الهيجا سرابيل |
والسربال عام، يقع على ما كان من حديد وغيره. والبأس في أصل اللغة الشدة، وهنا الحرب. وفيالحديث: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله ﷺ والمعنى: تقيكم أذى الحرب وهو ما يعرض فيهامن الجراح الناشئة من ضرب السيف، والدبوس، والرمح، والسهم، وغير ذلك مما يعد للحديث. كذلك أي مثل ذلك الإتمام للنعمةفيما سبق، يتم نعمته في المستقبل. وقرأ ابن عباس: تتم بتاء مفتوحة نعمته بالرفع، أسند التمام إليها اتساعاً، وعنه نعمهجمعاً. وقرأ: لعلكم تسلمون بفتح التاء، واللام من السلامة والخلاص، فكأنه تعليل لوقاية السرابيل من أذى الحرب، أو تسلمون منالشرك. وأما تسلمون في قراءة الجمهور فالمعنى: تؤمنون، أو تنقادون إلى النظر في نعم الله تعالى مفض إلى الإيمان والانقياد.روي أن أعرابياً سمع قوله تعالى: والله جعل لكم من بيوتكم سكناً إلى آخر الآيتين فقال: عند كل نعمة اللهمنعم، فلما سمع: لعلكم تسلمون، قال: اللهم هذا فلا، فنزلت. فإن تولوا، يحتمل أن يكون ماضياً أي: فإن أعرضواعن الإسلام. ويحتمل أن يكون مضارعاً أي: فإن تتولوا، وحذفت التاء، ويكون جارياً على الخطاب السابق والماضي على الالتفات، والفاءوما بعدها جواب الشرط صورة، والجواب حقيقة محذوف أي: فأنت معذور إذ أدّيت ما وجب عليك، فأقيم سبب العذر وهوالبلاغ مقام المسبب لدلالته عليه. وقال ابن عطية: المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على حق الإيمان في قلوبهم، فإنما عليكأن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه انتهى. ثم أخبر عنهم على سبيل التقريع والتوبيخ بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها،وعرفانهم للنعم التي عدت عليهم حيث يعترفون بها، وأنها منه تعالى، وإنكارهم لها حيث يعبدون غير الله، وجعل ذلك إنكاراًعلى سبيل المجاز، إذ لم يرتبوا على معرفة نعمه تعالى مقتضاها من عبادته، وإفراده بالعبادة دون ما نسبوا إليه منالشركاء، قال قريباً من هذا المعنى مجاهد. وقال السدّي: النعمة هنا محمد ﷺ، والمعنى: يعرفون بمعجزاته وآياتنبوته، وينكرون ذلك بالتكذيب، ورجحه الطبري. وعن مجاهد أيضاً: إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا. وعن ابن عون: إضافتها إلى الأسبابلا إلى مسببها، وحكى صاحب الغنيان: يعرفونها في الشدة، ثم ينكرونها في الرخاء. وقيل: إنكارهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله.وقيل: يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم. والظاهر أنّ المراد مِن وأكثرهم موضوعه الأصلي. وقال الحسن: وكلهم: ما من أحد يقومبواجب حق الشكر، فجعله من كفران النعمة. وظاهر أن الكفر هنا هو مقابل الإيمان. وقيل: أكثر أهل مكة، لأنّ منهممن أبى. وقيل: معنى الكافرون الجاحدون المعاندون، لأنّ فيهم من كان جاهلاً لم يعرف فيعاند. وقال الزمخشري: (فإن قلت): مامعنى ثم؟ (قلت): الدلالة على أنّ إنكارهم مستبعد بعد حصول المعرفة، لأنّ حق من عرف النعمة أنْ يعترف لا أنْينكر. {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَارَأى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِذَا رَءا ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلآء شُرَكَآؤُنَاٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَـٰذِبُونَ }: لما ذكر إنكارهم لنعمة الله تعالى، ذكر حال يومالقيامة حيث لا ينفع فيه الإنكار على سبيل الوعيد لهم بذلك اليوم. وانتصب يوم بإضمار اذكر قاله: الحوفي، والزمخشري، وابنعطية، وأبو البقاء. وقال الزمخشري: أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه. وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العاملفيه: ثم ينكرونها، أي ينكرونها اليوم. ويوم نبعث أي: ينكرون كفرهم، فيكذبهم الشهيد، والشهيد نبي تلك الأمة يشهد عليهم بإيمانهموبكفرهم، ومتعلق الأذن محذوف. فقيل: في الرجوع إلى دار الدنيا. وقيل: في الكلام والاعتذار كما قال:
{ هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ . وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ }
فيعتذرون أي بعد شهادة أنبيائهم عليهم، وإلا فقبل ذلك تجادل كل أمة عن نفسه. وجاءكلامهم في ذلك، ولكنها مواطن يتكلمون في بعضها ولا ينطقون في بعضها ولا هم يستعتبون أي: مزال عنهم العتب. وقالقوم: معناه لا يسألون أن يرجعوا عن ما كانوا عليه في الدنيا، فهذا استعتاب معناه طلب عتباهم، ونحوه قول منقال: ولا هم يسترضون أي: لا يقال لهم ارضوا ربكم، لأنّ الآخرة ليست بدار عمل قاله الزمخشري. وقال الطبري: معناهيعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة وعمل. قال الزمخشري: (فإن قلت): فما معنى ثم هذه؟ (قلت): معناها انهميمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منه، وأنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقائ معذرة، ولا إدلاء بحجةانتهى. ولما كانت حالة العذاب في الدنيا مخالفة لحال الآخرة إذ من رأى العذاب في الدنيا رجا أن يؤخر عنه،وإن وقع فيه أن يخفف عنه، أخبر تعالى أن عذاب الآخرة لا يكون فيه تخفيف ولا نظرة. والظاهر أنّ جوابإذا قوله فلا يخفف، وهو على إضمار هو أي: فهو لا يخفف، لأنه لولا تقدير الإضمار لم تدخل الفاء، لأنجواب إذا إذا كان مضارعاً لا يحتاج إلى دخول الفاء، سواء كان موجباً أم منفياً، كما قال تعالى:
{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا بَيّنَـٰتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمُنْكَرَ }
وتقول: إذا جاء زيد لا يجيء عمرو. قال الحوفي: فلايخفف جواب إذا، وهو العامل في إذا، وقد تقدم لنا أنّ ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا تعملفيما قبله، وبينا أنّ العامل في إذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط، وإن كان ليس قول الجمهور. وجعل الزمخشريجواب إذا محذوفاً فقال: وقد قدر العامل في يوم نبعث مجزوماً قال: ويوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه، وكذلك وإذارأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف ولا هم ينظرون كقوله:
{ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً }
فتبهتهم الآية انتهى. والظاهر أنقوله: شركاءهم، عام في كل من اتخذوه شريكاً لله من صنم ووثن وآدمي وشيطان وملك، فيكذبهم من له منهم عقل،فيكون: فألقوا عائداً على من له الكلام، ويجوز أن يكون عاماً ينطق الله تعالى بقدرته الأوثان والأصنام. وإضافة الشركاء إليهمعلى هذا القول لكونهم هم الذين جعلوهم شركاء لله. وقال الحسن: شركاؤهم الشياطين، شركوهم في الأموال والأولاد كقوله تعالى:
{ وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلاْمْوٰلِ وَٱلاْوْلَـٰدِ }
، وقيل: شركاؤهم في الكفر. وعلى القول الأول شركاؤهم في أنْ اتخذوهم آلهة مع الله وعبدوهم، أوشركاؤهم في أنْ جعلوا لهم نصيباً من أموالهم وأنعامهم، والظاهر أنّ القول منسوب إليهم حقيقة. وقيل: منسوب إلى جوارحهم، لأنهملما أنكروا الإشراك بقولهم:
{ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
أصمت الله ألسنتهم وأنطق جوارحهم. ومعنى: تدعو،ونعبد قالوا ذلك رجاء أن يشركوا معهم في العذاب، إذ يحصل التأسي، أو اعتذاراً عن كفرهم إذ زين لهم الشيطانذلك وحملهم عليه، إن كان الشركاء هم الشياطين. وقال أبو مسلم الأصبهان. قالوا: ذلك إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام،وظناً أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو من عذابهم، فعند ذلك تكذيبهم تلك الأصنام. وقال القاضي: هذا بعيد، لأنّالكفار يعلمون علماً ضرورياً في الآخرة أن العذاب سينزل بهم، ولا نصرة، ولا فدية، ولا شفاعة. وتقدم الإخبار بأنهم شركاء،والإخبار أنهم كانوا يدعونهم: أي يعبدونهم، فاحتمل التذكيب أن يكون عائداً للإخبار الأول أي: لسنا شركاء لله في العبادة، ولاآلهة نزهوا الله تعالى عن أن يكونوا شركاء له. واحتمل أن يكون عائداً على الإخبار الثاني وهو العبادة، لما لميكونوا راضين بالعبادة جعلوا عبادتهم كلا عبادة، أو لما لم يدعوهم إلى العبادة. ألا ترى أنّ الأصنام والأوثان لا شعورلها بالعبادة، فضلاً عن أن يدعو وإن من عبد من صالحي المؤمنين والملائكة، لم يدع إلى عبادته. وإن كان الشركاءالشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في إخبارهم بكذب من عبدهم، كما كذب إبليس في قوله:
{ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ }
والضمير في إلى الله فألقوا عائد على الذين أشركوا، قاله الأكثرون. والسلم: الاستسلام والانقياد لحكم الله بعد الإباءوالاستكبار في الدنيا، فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو: السلم بإسكان اللام. وقرأمجاهد: بضم السين واللام. وقيل: الضمير عائد على الذين أشركوا، وشركائهم كلهم. قال الكلبي: استسلموا منقادين لحكمه، والضمير في وضلواعائد على الذين أشركوا خاصة أي: وبطل عنهم ما كانوا يفترون من أنّ لله شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حينكذبوهم وتبرأوا منهم، والظاهر أنّ الذين مبتدأ وزدناهم الخبر. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون قوله: الذين، بدلاً من الضميرفي يفترون. وزدناهم فعل مستأنف إخباره. وصدوا عن سبيل الله أي: غيرهم زدناهم عذاباً بسبب الصد فوق العذاب، أي: الذيترتب لهم على الكفر ضاعفوا كفرهم، فضاعف الله عقابهم. وهذا المزيد عن ابن مسعود عقارب كأمثال النخل الطوال، وعنه: حياتكأمثال الفيلة، وعقارب كأمثال البغال. وعن ابن عباس: أنها من صفر مذاب تسيل من تحت العرش يعذبون بها، وعن الزجاج:يخرجون من حر النار إلى الزمهرير، فيبادرون من شدة برده إلى النار، وعلل تلك الزيادة بكونهم مفسدين غيرهم، وحاملين علىالكفر. وفي كل أمة فيها منها حذف في السابق من أنفسهم وأثبته هنا وحذف هناك في وأثبته هنا، والمعنى فيكليهما: أنه يبعث الله أنبياء الأمم فيهم منهم، والخطاب في ذلك للرسول ﷺ، والإشارة بهؤلاء إلى أمته.وقال ابن عطية: ويجوز أن يبعث الله شهداء من الصالحين مع الرسل. وقد قال بعض الصحابة: إذا رأيت أحداً علىمعصية فانهه، فإنْ أطاعك وإلا كنت عليه شهيداً يوم القيامة انتهى. وكان الشهيد من أنفسهم، لأنه كان كذلك حين أرسلإليهم في الدنيا من أنفسهم. وقال الأصم أبو بكر المراد الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أجزاء الإنسان حتىتشهد عليه، لأنه قال في صفة الشهيد من أنفسهم، وهذا بعيد لمقابلته بقوله: وجئنا بك شهيداً على هؤلاء، فيقتضي المقابلةأنّ الشهداء على الأمم أنبياؤهم كرسول الله ﷺ. ونزلنا استئناف إخبار، وليس داخلاً مع ما قبله لاختلافالزمانين. لما ذكر ما شرفه الله به من الشهادة على أمته، ذكر ما أنزل عليه مما فيه بيان كل شيءمن أمور الدين، ليزيح بذلك علتهم فيما كلفوا، فلا حجة لهم ولا معذرة. والظاهر أنّ تبياناً مصدر جاء على تفعال،وإن كان باب المصادر أن يجيء على تفعال بالفتح كالترداد والتطواف، ونظير تبيان في كسر تائه تلقاء. وقد جوّز الزجاجفتحه في غير القرآن. وقال ابن عطية: تبياناً اسم وليس بمصدر، وهو قول أكثر النحاة. وروى ثعلب عن الكوفيين، والمبردعن البصريين: أنه مصدر ولم يجيء على تفعال من المصادر إلا ضربان: تبيان وتلقاء. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيفكان القرآن تبياناً لكل شيء؟ (قلت): المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين حيث كان نصاً على بعضها وإحالةعلى السنة، حيث أمر فيه باتباع رسول الله ﷺ وطاعته. وقيل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } وحثاًعلى الإجماع في قوله {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وقد رضي رسول الله ﷺ لأمته اتباع أصحابه،والاقتداء بآثارهم في قوله: {يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } وقد اجتهدوا، وقاسوا، ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماعوالقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيين الكتاب، فمن ثم كان تبياناً لكل شيء. وقوله: وقد رضي رسول الله صلى الله عليهوسلم إلى قوله: اهتديتم، لم يقل ذلك رسول الله ﷺ، وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عنرسول الله ﷺ. قال الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم في رسالته في إبطال الرأي،والقياس، والاستحسان، والتعليل، والقليد ما نصه: وهذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصلح قط، وذكر إسناده إلى البزاز صاحب المسندقال: سألتم عما روي عن النبي ﷺ مما في أيدي العامة ترويه عن رسول الله صلى اللهعليه وسلم أنه قال: إنما مثل أصحابي كمثل النجوم أو كالنجوم، بأيها اقتدوا اهتدوا. وهذا كلام لم يصح عن النبيﷺ، رواه عبد الرحيم بن زيد العمى، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر عنالنبي ﷺ. وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم، لأن أهل العلم سكتوا عن الروايةلحديثه. والكلام أيضاً منكر عن النبي ﷺ ولم يثبت، والنبي ﷺ لا يبيح الاختلافبعده من أصحابه، هذا نص كلام البزار. قال ابن معين: عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث ليس بشيء. وقال البخاري:هو متروك، رواه أيضاً حمزة الجزري، وحمزة هذا ساقط متروك. ونصبوا تبياناً على الحال. ويجوز أن يكون مفعولاً منجله. وللمسلمين متعلق ببشرى ومن حيث المعنى هو متعلق بهدى ورحمة.
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } * { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } * { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } * { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } * { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } * { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } * { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } * { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } * { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ } * { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } * { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } * { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } * { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } * { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } * { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } * { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } * { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } * { مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } * { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } * { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } * { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } * { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } * { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }
[عدل]النقض ضد الإبرام، وفي الجرم فك أجزائه بعضها من بعض. التوكيد: التثبيت ويقال: توكيد،وتأكيد، وهما لغتان. وزعم الزجاج أنّ الهمزة بدل من الواو، ولبس بجيد. لأن التصريف جاء في التركيبين فدل على أنهماأصلان. الغزل: معروف، وفعله غزل يغزل بكسر الزاي غزلاً، وأطلق المصدر على المغزول. نفذ الشيء ينفذ فنى. الأعجمي الذي لايتكلم بالعربية{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرونوأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلونولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربىمن أمة إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفوه}: عن ابن عباس في حديث فيهطول منه: إن عثمان بن مظعون كان جليس النبي ﷺ وقتاً فقال له: عثمان ما رأيتك تفعلفعلتك الغداة؟ قال: «وما رأيتني فعلت؟» قال: شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت عني إليه وتركتني، فأخذتتنغض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك قال: أو فطنت لذلك؟ أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس قال: فماذا قاللك: قال لي: {إن الله يأمر بالعدل}: الآية. قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، فأحببت محمداً صلىالله عليه وسلم لما ذكر الله تعالى. ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء، وصل به ما يقتضي التكاليف فرضاً ونفلاًوأخلاقاً وآداباً. والعدل فعل كل مفروض من عقائد، وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحقوالإحسان فعل كل مندوب إليه قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: العدل هو الواجب، لأن الله عز وجل عدل فيه علىعباده، فجعل ما فرضه عليهم واقعاً تحت طاقتهم. والإحسان الندب، وإنما علق أمره بهم جميعاً، لأنّ الفرض لا بد أنيقع فيه تفريط فيجبره الندب انتهى. وفي قوله: تحت طاقتهم، نزغة الاعتزال. وعن ابن عباس: العدل لا إله إلا الله،والإحسان أداء الفرائض. وعنه أيضاً أنّ العدل هو الحق. وعن سفيان بن عيينة: أنه أسوأ السريرة والعلانية في العمل. وذكرالماوردي أنه القضاء بالحق قال تعالى:
{ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ }
وقال أبو سليمان: العدل في لسانالعرب الانصاف. وقيل: خلع الأنداد. وقيل: العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال. وإيتاء ذي القربى: هو صلة الرحم، وهو مندرجتحت الإحسان، لكنه نبه عليه اهتمامه به وحضاً على الإحسان إليه. والفحشاء: الزنا، أو ما شنعته ظاهرة من المعاصي. وفاعلهاأبداً مستتر بها، أو القبيح من فعل أو قول، أو البخل، أو موجب الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة، أومجاوزة حدود الله أقوال، أولها لابن عباس. والمنكر: الشرك عن مقاتل، أو ما وعد عليه بالنار عن ابن السائب، أومخالفة السريرة للعلانية عن ابن عيينة، أو ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن العذاب في الآخرة. أو ما تنكرهالعقول أقوال، ويظهر أنه أعم من الفحشاء لاشتماله على المعاصي والرذائل والبغي: التطاول بالظلم والسعاية فيه، وهو داخل في المنكر،ونبه عليه اهتماماً باجتنابه. وجمع في المأمور به والمنهىعنه بين ما يجب ويندب، وما يحرم ويكره، لاشتراك ذلك في قدرمشترك وهو الطلب في الأمر، والترك في النهي. وقال أبو عبد الله الرازي: أمر بثلاثة، ونهى عن ثلاثة. فالعدلالتوسط بين الإفراط والتفريط، وذلك في العقائد وأعمال الرعاة. فقال ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، وهو إثبات الإلهالواحد، فليس تعطيلاً محضاً ولا إثبات أكثر من إله. وإثبات كونه عالماً قادراً واجب الصفات فليس نفياً للصفات، ولا إثباتصفة حادثة متغيرة. وكون فعل العبد بواسطة قدرته تعالى، والداعية التي جعلها فيه فليس جبراً محضاً، ولا استقلالاً بالفعل. وكونهتعالى يخرج من النار من دخلها من أهل التوحيد، فليس إرجاء ولا تخليداً بالمعصية. وأما أعمال الرعاة فالتكاليف اللازمة لهم،فليس قولاً بأنه لا تكليف، ولا قولاً بتعذيب النفس واجتناب ما يميل الطبع إليه من: أكل الطيب، والتزوج، ورمى نفسهمن شاهق، والقصاص، أو الدية، أو العفو، فليس تشديداً في تعيين القصاص كشريعة موسى عليه السلام، ولا عفواً حتماً كشريعةعيسى عليه السلام، وتجنب الحائض في اجتناب وطئها فقط فليس اجتناباً مطلقاً كشريعة موسى عليه السلام، ولا حل وطئها حالةالحيض كشريعة عيسى عليه السلام، والاختتان فليس إبقاء للقلفة ولا قطعاً للآلة كما ذهب إليه المانوية. وقال تعالى:
{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }
{ وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ }
ولا تجعل الآيتين. ومن المشهور قولهم بالعدل: قامت السموات والأرض، ومعناه: إن مقاديرالعناصر لو لم تكن متعادلة، وكان بعضها أزيد، لغلب الازدياد وانقلبت الطبائع. فالشمس لو قربت من العالم لعظمت السخونة واحترقما فيه، ولو زاد بعدها لاستوى الحر والبرد. وكذا مقادير حركات الكواكب، ومراتب سرعتها، وبطئها. والإحسان: الزيادة على الواجب منالطاعات بحسب الكمية والكيفية، والدواعي، والصوارف، والاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية. ومن الإحسان الشفقة على الخلق، وأصلها صلة الرحم،والمنهى عنه ثلاثة. وذلك أنه أودع في النفس البشرية قوى أربعة: الشهوانية وهي تحصيل اللذات، والغضبية وهي: إيصال الشر، ووهمية:وهي شيطانية تسعى في الترفع والتراوس على الناس. فالفحشاء ما نشأ عن القوّة الشهوانية الخارجة عن أدب الشريعة، والمنكر مانشأ عن الغضبية، والبغي ما نشأ عن الوهمية انتهى. ما تخلص من كلامه عفا الله عنه. ولما أمر تعالى بتلكالثلاث، ونهى عن تلك الثلاث قال: يعظكم به، أي بما ذكر تعالى من أمر ونهي، والمعنى: ينبهكم أحسن تنبيه لعلكمتذكرون أي: تتنبهون لما أمرتم به ونهيتم عنه، وعقد الله علم لما عقده الإنسان والتزمه مما يوافق الشريعة. وقال الزمخشري:هي البيعة لرسول الله ﷺ
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }
. وكأنه لحظ ما قيل أنهانزلت في الذين بايعوا الرسول ﷺ على الإسلام، رواه عن بريدة. وقال قتادة ومجاهد: فيما كان منتحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر. وقال ميمون بن مهران: الوفاء لمن عاهدته مسلماً كان أو كافراً،فإنما العهد لله. وقال الأصم: الجهاد وما فرض في الأموال من حق. وقيل: اليمين بالله، ولا تنقضوا العهود الموثقة بالإيمان،نهى عن نقضها تهمماً بها بعد توكيدها أي: توثيقها باسم الله وكفالة الله وشهادته، ومراقبته، لأن الكفيل مراع لحال المكفولبه. ولا تكونوا أي: في نقض العهد بعد توكيده بالله كالمرأة الورهاء تبرم فتل غزلها ثم تنقضه نكثاً، وهو مايحل فتله. والتشبيه لا يقتضي تعيين المشبه به. وقال السدي، وعبد الله بن كثير: هي امرأة حمقاء كانت بمكة. وعنالكلبي ومقاتل: هي من قريش خرقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تيم، تلقب بجفراء، اتخذت مغزلاً قدر ذراع، وصنارة مثلأصبع، وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. وعن مجاهد:هذا فعل نساء أهل نجد، تنقض إحداهن غزلها ثم تنفشه، وتخلطه بالصوف فتغزله. وقال ابن الأنباري: ريطة بنت عمرو المرية،ولقبها الجفراء من أهل مكة، وكانت معروفة عند المخاطبين. والظاهر أنّ المراد بقوله: من بعد قوّة أي: شدة حدثت منتركيب قوى الغزل. ولو قدرناها واحدة القوى لم تكن تنتقض أنكاثاً. والنكث في اللغة الحبل إذا انتقضت قواه. وقال مجاهد:المعنى من بعد إمرار قوة. والدخل: الفساد والدغل، جعلوا الإيمان ذريعة إلى الخدع والغدر، وذلك أن المحلوف له مطمئن، فيمكنالحالف ضره بما يريده. قالوا: نزلت في العرب كانوا إذا حالفوا قبيلة فجاء أكثر منها عدداً حالفوه وغدروا بالتي كانتأقل. وقيل: أن تكونوا أنتم أزيد خبراً، فأسند إلى أمة، والمراد المخاطبون. وقال ابن بحر: الدخل والداخل في الشيء لمتكن منه، ودخلاً مفعول ثان. وقيل: مفعول من أجله، وأن تكون أي: بسبب أن تكون وهي أربى مبتدأ وخبر. وأجازالكوفيون أن تكون هي عماداً يعنون فضلاً، فيكون أربى في موضع نصب، ولا يجوز ذلك عند البصريين لتنكير أمة. والضميرفي به عائد على المصدر المنسبك من أن تكون أي: بسبب كون أمة أربى من أمة يختبركم بذلك. قال الزمخشري:لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة للرسول ﷺ، أمتغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم وليبينن لكم: إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام انتهى. وقيل: يعودعلى الوفاء بالعهد. وقال ابن جبير، وابن السائب، ومقاتل: يعود على الكثرة. قال ابن الأنباري: لما كان تأنيثها غير حقيقيحمل على معنى التذكير، كما حملت الصيحة على الصياح. {وَلَوْ شَآء ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَلـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءوَيَهْدِى مَن يَشَآء وَلَتُسْـئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوءبِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }: هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة، ابتلى الناس بالأمروالنهي ليذهب كل إلى ما يسر له، وذلك لحق الملك لا يسأل عما يفعل. ولو شاء لكانوا كلهم على طريقواحدة، إما هدى، وإما ضلالة، ولكنه فرق، فناس للسعادة، وناس للشقاوة. فخلق الهدى والضلال، وتوعد بالسؤال عن العمل، وهو سؤالتوبيخ لا سؤال تفهم، وسؤال التفهم هو المنفى في آيات. ومذهب المعتزلة أن هذه المشيئة مشيئة قهر. قال العسكري: المرادأنه قادر على أن يجمعكم على الإسلام قهراً، فلم يفعل ذلك، وخلقكم ليعذب من يشاء على معصيته، ويثيب من يشاءعلى طاعته، ولا يشاء شيئاً من ذلك إلا أن يستحقه. ويجوز أن يكون المعنى: أنه لو شاء خلقكم في الجنة،ولكن لم يفعل ذلك ليثيب المطيعين منكم، ويعذب العصاة. ثم قال: ولتسألن عما كنتم تعملون يعني: سؤال المحاسبة والمجازاة.وفيه دليل على أنّ الإضلال في الآية العقاب، ولو كان الإضلال عن الدين لم يكن لسؤاله إياهم معنى. وقال الزمخشري:أمة واحدة حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار، وهو قادر على ذلك، ولكن الحكمة اقتضت أن يضل من يشاء، وهوأن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه، ويهدي من يشاء وهو أنْ يلطف بمن علم الله أنه يختارالإيمان، يعني: أنه بنى الأمر على الاختيار، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب، ولم ينبه على الإجبار الذيلا يستحق به شيء من ذلك، وحققه بقوله: ولتسألن عما كنتم تعملون. ولو كان هذا المضطر إلى الضلال والاهتداء، لماأثبت لهم عملاً يسألون عنه انتهى. قالوا: كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً تهمماً بذلك، ومبالغة في النهي عنه لعظمموقعه في الدين. قال ابن عطية: وتردده في معاملات الناس. وقال الزمخشري: تأكيداً عليهم، وإظهار العظم ما يرتكب منه انتهى.وقيل: إنما كرر لاختلاف المعنيين: لأن الأول نهى فيه عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة، وهنا نهي عنالدخل في الإيمان التي يراد بها اقتطاع حقوق، فكأنه قال: دخلاً بينكم لتتوصلوا بها إلى قطع أموال المسلمين، وأقول: لميتكرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً، وإنما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلاً معللاً بشيء خاص وهو: أن تكون أمةهي أربى من أمة. وجاء النهي بقوله: ولا تتخذوا، استئناف إنشاء عن اتخاذ الإيمان دخلاً على العموم، فيشمل جميع الصورمن الحلف في المبايعة، وقطع الحقوق المالية، وغير ذلك. وانتصب فتزل على جواب النهي، وهو استعارة لمن كان مستقيماً ووقعفي أمر عظيم وسقط، لأنّ القدم إذا زلت تقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر. وقال كثير: فلما توافيناثبت وزلت. قال الزمخشري: فنزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها. فإن قلت: لم وجدت القدم ونكرت؟ قلت: لاستعظامأن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة انتهى؟ ونقول: الجمع تارة يلحظ فيهالمجموع من حيث هو مجموع، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد، فإذا لوحظ فيه المجموع كان الإسناد معتبراً فيهالجمعية، وإذا لوحظ كل فرد فرد كان الإسناد مطابقاً للفظ الجمع كثيراً، فيجمع ما أسند إليه، ومطابقاً لكل فرد فردفيفرد كقوله:
{ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ متكأ }
أفرد متكأ لما كان لوحظ في قوله لهن معنى لكل واحدة، ولو جاء مراداً بهالجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع المتكأ، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قول الشاعر:
فإني وجدت الضامرين متاعهم | يموت ويفنى فارضخي من وعائيا |
أي: رأيت كل ضامر. ولذلك أفرد الضمير في يموت ويفنى. ولما كان المعنى هنا:لا يتخذ كل واحد منكم، جاء فنزل قدم مراعاة لهذا المعنى ثم قال: وتذوقوا، مراعاة للمجموع، أو للفظ الجمع علىالوجه الكثير. إذا قلنا: إن الإسناد لكل فرد فرد، فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً باعتبار المجموعوباعتبار كل فرد فرد، ودل على ذلك بإفراد قدم وبجمع الضمير في: وتذوقوا. وما مصدرية في بما صددتم، أي: بصدودكمأو بصدكم غيركم، لأنهم لو نقضوا الأيمان وارتدوا لاتخذ نقضها سنة لغيرهم فيسبون بها، وذوق السوء في الدنيا. ولكم عذابعظيم أي: في الآخرة. والسوء: ما يسوءهم من قتل، ونهب، وأسر، وجلاء، وغير ذلك مما يسوء. قال ابن عطية:وقوله صددتم عن سبيل الله، يدل على أنّ الآية فيمن بايع رسول الله ﷺ، وعلى هذا فسرالزمخشري قال: لأنهم قد نقضوا أيمان البيعة. ولا يدل على ذلك لخصوصه، بل نقض الأيمان في البيعة مندرج في العموم.ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً، هذا نهي عن نقض ما بين الله تعالى والعبد لأخذ حطام من عرض الدنيا.قال الزمخشري: كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم،ولما كانوا يعدونهم إنْ رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله ﷺ فثبتهم الله.ولا تشتروا: ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسول الله ثمناً قليلاً عرضاً من الدنيا يسيراً، وهو ما كانت قريش يعدونهمويمنونهم إن رجعوا أنّ ما عند الله من إظهاركم وتغنيمكم ومن ثواب الآخرة خير لكم. وقال ابن عطية: هذه آيةنهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله، أو فعل ما يجب عليه تركه، فإن هذههي التي عهد الله إلى عبادة فيها وبين تعالى الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة، بأنّ هذه تنفد وتنقضي عنالإنسان، وينقضي عنها، والتي في الآخرة باقية دائمة. ودل قوله: وما عند الله باق، على أن نعيم الجنة لا ينقطع،وفي ذلك حجة على جهم بن صفوان إذ زعم أن نعيم الجنة منقطع. وقرأ عاصم، وابن كثير: ولنجزين بالنون، وباقيالسبعة بالياء. وصبروا: أي جاهدوا أنفسهم على ميثاق الإسلام وأذى الكفار، وترك المعاصي، وكسب المال بالوجه الذي لا يحل بأحسنما كانوا يعملون. قيل: من التنفل بالطاعات، وكانت أحسن لأنها لم يحتم فعلها، فكان الإنسان يأتي بالتنفلات مختاراً غير ملزومبها. وقيل: ذكر الأحسن ترغيباً في عمله، وإن كانت المجازاة على الحسن والأحسن. وقيل: الأحسن هنا بمعنى الحسن، فليس أفعلالتي للتفضيل. والذي يظهر أنّ المراد بالأحسن هنا الصبر أي: وليجزين الذين صبروا بصبرهم أي: بجزاء صبرهم، وجعل الصبر أحسنالأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه، فالصبر هو رأسها، فكان الأحسن لذلك. ومن صالحة للمفرد والمذكر وفروعهما. لكن يتبادر إلى الذهنالإفراد والتذكير، فبين بالنوعين ليعم الوعد كليهما. وهو مؤمن: جملة حالية، والإيمان شرط في العمل الصالح مخصص لقوله:
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ }
أو يراد بمثقال ذرة من إيمان، كما جاء في من يخرج من النار من عصاةالمؤمنين، والظاهر من قوله تعالى: فلنحيينه حياة طيبة، أنّ ذلك في الدنيا وهو قول الجمهور؛ ويدل عليه قوله: ولنجزينهم أجرهميعني في الآخرة، وقال الحسن، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، وابن زيد: ذلك في الجنة. وقال شريك: في القبر. وقال عليّ،ووهب بن منبه، وابن عباس، والحسن في رواية عنهما هي: القناعة، وعن ابن عباس والضحاك: الرزق الحلال، وعنه أيضاً: السعادة.وقال عكرمة: الطاعة. وقال قتادة: الرزق في يوم بيوم، وقال إسماعيل بن إبي خالد: الرزق الطيب والعمل الصالح، وقال أبوبكر الورّاق: حلاوة الطاعة،وقيل: العافية والكفاية، وقيل: الرضا بالقضاء، ذكرهما الماوردي. وقال الزمخشري: المؤمن مع العمل الصالح إنْ كان موسراًفلا مقال فيه، وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه، وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى. والفاجر إن كان معسراًفلا إشكال في أمره، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. وقال ابن عطية: طيب الحياة للصالحين بانبساطنفوسهم ونيلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، وبأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلالوصحة وقناعة فذاك كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرنا راتب. وعاد الضمير في فلنحيينه على لفظة من مفرداً، وفي ولنجزينهم علىمعناها من الجمع، فجمع. وروي عن نافع: وليجزينهم بالياء بدل النون، التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة. وينبغي أنيكون على تقدير قسم ثان لا معطوفاً على فلنحيينه، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية، وكلتاهما محذوفتان. ولايكون من عطف جواب على جواب، لتغاير الإسناد، وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه بإخبار الغائب، وذلك لا يجوز.فعلى هذا لا يجوز: زيد قلت والله لأضربن هنداً ولينفينها، يريد ولينفيها زيد. فإنْ جعلته على إضمار قسم ثان جازأي: وقال زيد لينفينها لأن، لك في هذا التركيب أن تحكى لفظه، وأن تحكى على المعنى. فمن الأول:
{ وَلَيَحْلِفَنَّ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ }
ومن الثاني:
{ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ }
ولو جاء على اللفظ لكان ماقلنا. {فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبّهِمْيَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَايُنَزّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِٱلْحَقّ لِيُثَبّتَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْوَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ}: لما ذكر تعالى:
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء }
وذكر أشياء مما بين في الكتاب، ثم ذكر قوله:
{ مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً }
ذكر ما يصون به القارىء قراءته من وسوسة الشيطان ونزغه، فخاطب السامع بالاستعادة منه إذا أخذفي القراءة. فإن كان الخطاب للرسول ﷺ لفظاً فالمراد أمته، إذ كانت قراءة القرآن من أجل الأعمالالصالحة كما ورد في الحديث: {ءانٍ * ثَوَابَ * فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ } والظاهر بعقب الاستعاذة. وقد روىذلك بعض الرواة عن حمزة، وروي عن ابن سيرين أنه قال: كلما قرأت الفاتحة حين تقول: آمين، فاستعذ. وروي عنأبي هريرة، ومالك، وداود. تعقبها القراءة كما روي عن حمزة والجمهور: على ترك هذا الظاهر وتأويله بمعنى: فإذا أردت القراءة.قال الزمخشري: لأنّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان بسبب قوى وملابسة ظاهرة كقوله:
{ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وجوهكم }
وكقوله: «إذا أكلت فسم الله» وقال ابن عطية: فإذا وصلة بين الكلامين والعربتستعملها في مثل هذا، وتقدير الآية: فإذا أخذت في قراءة القرآن فاستعذ، أمر بالاستعاذة. فالجمهور على الندب، وعن عطاء الوجوب.والظاهر: طلب الاستعاذة عند القراءة مطلقاً، والظاهر: أنّ الشيطان المراد به إبليس وأعوانه. وقيل: عام في كل متمرد عاتٍ منجن وإنس، كما قال شياطين الإنس والجن. واختلف في كيفية الاستعاذة، والذي صار إليه الجمهور من القراء وغيرهم واختاروه: أعوذبالله من الشيطان الرجيم، لما روى عبد الله بن مسعود، وأبو هريرة، وجبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليهوسلم: أنه استعاذ عند القراءة بهذا اللفظ بعينه ونفى تعالى سلطان الشيطان عن المؤمنين. والسلطان هنا التسليط والولاية، والمعنى: أنهملا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته كما قال تعالى:
{ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ }
وكما أخبر تعالى عنه فقال في قصة أوليائه:
{ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى }
وقيل: المراد بالسلطان الحجة، وظاهر الإخبار انتفاء سلطنته على المؤمنين مطلقاً. وقيل: ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم منه. وقيل:ليس له قدرة أن يحملهم على ذنب، والضمير في به عائد على بهم، وقيل: على الشيطان، وهو الظاهر لاتفاق الضمائروالمعنى: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله، أو تكون الباء للسبية، والأمر بالاستعاذة يقتضي أنها تصرف كيد الشيطان، كأنها متضمنةالتوكل على الله والانقطاع إليه. ولما ذكر تعالى إنزال الكتاب نبييناً لكل شيء، وأمر بالاستعاذة ند قراءته، ذكر تعالىنتيجة ولاية الشيطان لأوليائه المشركين، وما يلقيه إليهم من الأباطيل، فألقى أليهم إنكار النسخ لما رأوا تبديل آية مكان آية.وتقدم الكلام في النسخ في البقرة. والظاهر أنّ هذا التبديل رفع آية لفظاً ومعنى، ويجوز أن يكون التبديل لحكم المعنىوإبقاء اللفظ. ووجد الكفار بذلك طعناً في الدين، وما علموا أنّ المصالح تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص، وكما وقع نسخ شريعةبشريعة يقع في شريعة واحدة. وأخبر تعالى أنه العالم بما ينزل لا أنتم، وما ينزل مما يقره وما يرفعه، فمرجععلم ذلك إليه، وهو على حسب الحوادث والمصالح، وهذه حكمة إنزاله شيئاً فشيئاً، وهذه الجملة اعتراض بين الشرط وجوابه. قيل:ويحتمل أن يكون حالاً. وبالغوا في نسبة الافتراء للرسول بلفظ إنما، وبمواجهة الخطاب، وباسم الفاعل الدال على الثبوت، وقال: بلأكثرهم، لأن بعضهم يعلم ويكفر عناداً. ومفعول لا يعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه أي: لا يعلمون أنّ الشرائع حكم ومصالح.هذه الآية دلت على وقوع نسخ القرآن بالقرآن. وروح القدس: هنا هو جبريل عليه السلام بلا خلاف، وتقدم لم سميروح القدس. وأضاف الرب إلى كاف الخطاب تشريفاً للرسول ﷺ باختصاص الإضافة، وإعراضاً عنهم، إذ لم يضفإليهم. وبالحق حال أي: ملتبساً بالحق سواء كان ناسخاً أو منسوخاً، فكله مصحوب بالحق لا يعتريه شيء من الباطل. وليثبتمعناه أنهم لا يضطربون في شيء منه لكونه نسخ، بل النسخ مثبت لهم على إيمانهم، لعلمهم أنه جميعه من عندالله، لصحة إيمانهم واطمئنان قلوبهم يعلمون أنه حكيم، وأنّ أفعاله كلها صادرة عن حكمة، فهي صواب كلها. ودل اختصاص التعليلبالمسلمين على اتصاف الكفار بضده من لحاق الاضطراب لهم وتزلزل عقائدهم وضلالهم. وقرىء: ليثبت مخففاً من أثبت. قال الزمخشري: وهدىوبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت انتهى. وتقدم الرد عليه في نحو هذا، وهو قوله:
{ لِتُبَيّنَ لَهُمُ ٱلَّذِى ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ }
وهدى ورحمة في هذه السورة. ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل، لأنه مجرور، فيكون وهدىوبشرى مجرورين كما تقول: جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد، إذ التقدير: لإحسان إلى زيد. وأجاز أبو البقاء أن يكونارتفاع هدى وبشرى على إضمار مبتدأ أي: وهو هدى وبشرى. ولما نسبوه عليه السلام للافتراء وهو الكذب على الله، لميكتفوا بذلك حتى جعلوا ذلك الافتراء الذي نسبوه هو من تعليم بشر إياه، فليس هو المختلق بل المختلق غيره، وهوناقل عنه. وظاهر قولهم: إنما أنت مفتر. إنّ معناه: مختلف الكذب، وهو ينافي التعلم من البشر، فيحتمل أن يكون قوله:مفتر، في نسبة ذلك إلى الله، ويحتمل أن يكونوا فيه طائفتين: طائفة ذهبت إلى أنه هو المفتري، وطائفة أنه يتعلممن البشر. ويعلم مضارع اللفظ ومعناه: المضي أي: ولقد علمنا، وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين. فقيل: هو حبرغلام ورمى كان لعامر بن الحضرمي، وقيل: عائش أو يعيش، وكان صاحب كتب مولى حويطب بن عبد العزى وكان قدأسلم فحسن إسلامه قاله: الفراء، والزجاج. وقيل: أبو فكيهة أعجمي مولى لمرأة بمكة. قيل: واسمه يسار وكان يهودياً قاله: مقاتل،وابن جبير، إلا أنه لم يقل كان يهودياً. وقال ابن زيد: كان رجلاً حداداً نصرانياً اسمه عنس. وقال حصين بنعبد الله بن مسلم: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، يسار وحبر، كانا يقرآن كتباً لهما بلسانهم، وكانﷺ يمر بهما فيسمع قراءتهما. قيل: وكانا حدادين يصنعان السيوف، فقال المشركون: يتعلم منهما فقيل لأحدهما ذلكفقال: بل هو يعلمني، فقال ابن عباس: كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له: بلعام، فكان رسول اللهﷺ يعلمه الإسلام فقالت قريش: هذا يعلم محمداً من جهة الأعاجم. وقال الضحاك: الإشارة إلى سلمان الفارسي،وضعف هذا من جهة أنّ سلمان إنما أسلم بعد الهجرة، وهذا السورة مكية إلا ما نبه عليه أنه مدني. واللسان:هنا اللغة. وقرأ الحسن: اللسان الذي بتعريف اللسان بأل، والذي صفته. وقرأ حمزة والكسائي: يلحدون من لحد ثلاثياً، وهي قراءةعبد الله بن طلحة، والسلمي، والأعمش، ومجاهد، وقرأ باقي السبعة، وابن القعقاع: بضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعياً وهمابمعنى واحد. قال الزمخشري: يقال ألحد القبر ولحده، فهو ملحد وملحوداً ذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه،ثم استعير لكل إمالة عن استقامة فقالوا: ألحد فلان في قوله: وألحد في دينه لأنه أمال دينه عن الأديان كلها،لم يمله من دين إلى دين. والمعنى: لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين، وهذاالقرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة، ردّاً لقولهم وإبطالاً لطعنهم انتهى. وظاهر قول الزمخشري: إن اللسان في الموضعين اللغة.وقال ابنعطية: وهذا إشارة إلى القرآن، والتقدير: وهذا سرد لسان أو نطق لسان، فهو على حذف مضاف، وهذا على أنيجعل اللسان هنا الجارة. واللسان في كلام العرب اللغة، ويحتمل أن يراد في هذه الآية. وقال الكرماني: المعنى أنتم أفصحوأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظماً ونثراً، وقد عجزتم وعز جميع العرب، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن؟ قال الزمخشري: (فإنقلت): الجملة التي هي قوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، ما محلها؟ (قلت): لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم،ومثله قول الله: أعلم، حيث يجعل رسالاته بعد قوله:
{ وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ }
انتهى. ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي: يقولون ذلكوالحالة هذه أي: علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة، كما تقول: تشتم فلاناًوهو قد أحسن إليك أي: علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه. وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهبإلى الحال، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ، وهو مذهب مرجزوح جداً، ومجيء ذلك بغيرواو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب، وهو مذهب تبع فيه الفراء، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها، لأنهاجملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا، وفي هذه الآية ذو الحال ضميريقولون، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.{إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِى ٱلْكَذِبَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـٰنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّبِٱلإِيمَـٰنِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ }: لما ذكر تعالى نسبتهم إلى الافتراء إلى الرسول صلى الله عليهوسلم، وأنّ ما أتى به من عند الله إنما يعلمه إياه بشر، كان ذلك تسجيلاً عليهم بانتفاء الإيمان، فأخبر تعالىعنهم أنهم لا يهديهم الله أبداً إذ كانوا جاحدين آيات الله، وهو ما أتى به الرسول من المعجزات وخصوصاً القرآن،فمن بالغ في جحد آيات الله سد الله عليه باب الهداية. وذكر تعالى وعيده بالعذاب الأليم لهم، ومعنى لا يهديهم:لا يخلق الإيمان في قلوبهم. وهذا عام مخصوص، فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى. وقال الزمخشري: لا يهديهم اللهلا يلطف بهم، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة، لا من أهل اللطف والثواب انتهى. وهو علىطريقة الاعتزال. وقال ابن عطية: المفهوم من الوجود أنّ الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته، ولكنه قدم في هذاالترتيب وأخبرتهمما بتقبيح فعلهم والتشنيع بخطئهم، وذلك كقوله:
{ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }
والمراد ما ذكرناه، فكأنه قال: إن الذينلم يؤمنوا لم يهدهم الله انتهى. وقال القاضي: أقوى ما قيل في ذلك لا يهديهم إلى طريق الجنة، ولذلك قالبعده: ولهم عذاب أليم، والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار. وقالالعسكري: يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا، والمراد بقوله: لا يهديهم الله أي لايهتدون، وإنما يقال: هدى الله فلاناً على الإطلاق إذا اهتدى هو، وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال: إن اللههداه فلم يهتد، كما قال:
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }
ثم ردّ تعالى قولهم:
{ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ }
بقوله: إنما يفتري الكذب، أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه يترقب عقاباً عليه. ولما كان فيكلامهم إنما وهو يقتضي الحصر عند بعضهم، جاء الرد عليهم بإنما أيبضاً، وجاء بلفظ يفتري الذي يقتضي التجدد، ثم علقالحكم على الوصف المقتضي للافتراء وهو: انتفاء الإيمان، وختم بقوله: وأولئك هم الكاذبون. فاقتضى التوكيد البالغ والحصر بلفظ الإشارة، والتأكيدبلفظ هم، وإدخال أل على الكاذبون، وبكونه اسم فاعل يقتضي الثبوت والدوام، فجاء يفتري يقتضي التجدد، وجاء الكاذبون يقتضي الثبوتوالدوام. وقال الزمخشري: وأولئك إشارة إلى قريش هم الكاذبون، هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون. أو إلى الذين لا يؤمنونأي: وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب. أو أولئك هم الكاذبون عادتهمالكذب لا يبالون به في كل شيء، لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين. أو أولئك هم الكاذبون في قولهم: إنماأنت مفتر انتهى. والوجه الذي بدأ به بعيد، وهو أن وأولئك إشارة إلى قريش. والظاهر أن من شرطية في موضعرفع على الابتداء، وهو استئناف إخبار لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب. ولما كان الكفر يكون باللفظ وبالاعتقاد،استثنى من الكافرين من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان، ورخص له في النطق بكلمة الكفر إذ كان قلبه مؤمناً، وذلكمع الإكراه. والمعنى: إلا من أكره على الكفر، تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعدهعليه تقديره: الكافرون بعد الإيمان غير المكرهين، فعليهم غضب. ويصح أن يكون الاستثناء من ما تضمنه جواب الشرط المحذوف أي:فعليهم غضب، إلا من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب، ولكنْ من شرح وكذا قدره الزمخشري أعني الجواب قبل الاستثناءفي قول مَن جعل مَن شرطاً. وقال ابن عطية: وقالت فرقة مَن في قوله مَن كفر ابتداء، وقوله: من شرحتخصيص منه، ودخل الاستثناء لإخراج عمار وشبهه. ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن وقوله: فعليهم، خبر عن مَن الأولى والثانية،إذ هو واحد بالمعنى لأن الإخبار في قوله: من كفر، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر انتهى. وهذا وإن كانكما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك، فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لايشتركان فيه، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب. وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله:
{ فَسَلَـٰمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ }
وقوله:
{ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ }
جواب لأما، ولأنّ هذا وهما أدانا شرط، إحداهما تلي الأخرى، وعلى كون مَن فيموضع رفع على الابتداء، يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا، ويجوز أن تكون موصولة وما بعدها صلتها، والخبر محذوف لدلالةما بعده عليه، كما ذكرنا في حذف جواب الشرط. إلا أنْ من الثانية لا يجوز أنْ تكون شرطاً حتى يقدرقبلها مبتدأ لأنّ من وليت لكنْ فيتعين إذ ذاك أن تكون مَن موصولة، فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أنتكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله:
ولكن مـتى يسترقـد القوم أرقـد |
أي: ولكن أنا متى يسترقد القوم أرقد. وكذلكتقدر هنا، ولكن هم من شرح بالكفر صدراً أي: منهم. وأجاز الحوفي والزمخشري: أن تكون بدلاً من الذين لا يؤمنون،ومن الكاذبون. ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلاً من الكاذبون، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام، فعلقهبما قبله. وأجاز الزمخشري أن يكون بدلاً من أولئك، فإذا كان بدلاً من الذين لا يؤمنون فيكون قوله: وأولئك همالكاذبون، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكرهفلم يدخل تحت حكم الافتراء. وإذا كان بدلاً من الكاذبون فالتقدير: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه، وإذاكان بدلاً من أولئك فالتقدير: ومَن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون. وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة. لأنّالأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هوالذي لا يؤمن، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط، بل من لم يؤمن قطهم الأكثرون المفترون الكذب. وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك، إذ التقدير: وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفربالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون. وأما الثالث فكذلك. إذ التقدير: أن المشار إليهم هم من كفربالله من بعد إيمانه، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى. وهذا أيضاً بعيد، والذيتقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى. والمناسبة وفيقوله: إلا من أكره دليل على أنّ من فعل المكره لا يترتب عليه شيء، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفرأو فعل ما يؤدي إليه، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى. وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك، وفي تفصيل الأشياءالتي يقع الإكراه فيها، وذلك كله مذكور في كتب الفقه. والمكرهون على الكفر المعذبون على الإسلام: خباب، وصهيب، وبلال، وعمار،وأبواه ياسر وسمية، وسالم، وحبر، عذبوا فأجابهم عمار وحبر باللفظ فخلى سبيلهما، وتمادى الباقون على الإسلام فقتل ياسر وسمية، وهماأول قتيل في الإسلام، وعذب بلال وهو يقول: (أحد أحد) وعذب خباب بالنار فما أطفأها إلا ودك ظهره. وجمع الضميرفي فعليهم على معنى من، وأفرد في شرح على لفظها. والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذابأي: كائن لهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة. وقال الزمخشري: واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والضمير فيبأنهم عائد على من في من شرح: ولما فعلوا فعل من استحب، ألزموا ذلك وإن كانوا غيره مصدقين بآخره، لكنمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره. وقوله: استحبوا، هو تكسب منهم علق به العقاب، وأنّ اللهلا يهدي إشارة إلى اختراع الله الكفر في قلوبهم، فجمعت الآية بين الكسب والاختراع، وهذا عقيدة أهل السنة. وقيل: ذلكإشارة إلى الارتداد والإقدام على الكفر، لأجل أنهم رجحوا الدنيا على الآخرة، ولأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان. وتقدم الكلامعلى الطبع على القلوب والسمع والأبصار والختم عليها. وأولئك هم الغافلون: قال ابن عباس: عن ما يراد منهم في الآخرة.وقال الزمخشري: الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم، لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها. ولماكان الإسناد ليكتسب بالطاعات سعادة الآخر، فعمل على عكس ذلك من المعاصي الكفر وغيره عظم خسرانه فقيل فيهم: هم الخاسرونولا غيرهم. ومن أخسر ممن اتصف بتلك الأوصاف السابقة من كينونة غضب الله عليهم، والعذاب الأليم، واستحباب الدنيا، وانتفاء هدايتهم،والأخبار بالطبع وبغفلتهم. ولما ذكر تعالى حال من كفر بعد الإيمان، وحال من أكره، ذكر حال من هاجر بعد مافتن. قال ابن عطية: وهذه الآية مدنية، ولا أعلم في ذلك خلافاً. وقال ابن عباس: نزلت فكتب بها المسلمون إلىمن كان أسلم بمكة أنّ الله قد جعل لكم مخرجاً، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل منقتل، فعلى هذا السبب يكون جهادهم مع الرسول على الإسلام. وروي أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجامن نجا، فنزلت حينئذ، فعنى بالجهاد جهادهم لمتبعيهم. وقال ابن إسحاق: نزلت في عمار، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بنالوليد. قال ابن عطية: وذكر عمار في هذا غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من باب ممنشرح بالكفر صدراً أفتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية. وقال عكرمة والحسن: نزلت في شأن عبد الله بنأبي سرح وأشباهه، فكأنه يقول: من بعد ما فتنهم الشيطان. وقال الزمخشري: ثم إن ربك دلالة على تباعد حال هؤلاءمن حال أولئك، وهم عمار وأصحابه. وللذين عند الزمخشري في موضع خبران قال: ومعنى إن ربك لهم إنه لهم لاعليهم، بمعنى أنه وليهم وناصرهم، لا عدوهم وخادلهم كما يكون الملك للرجل: لا عليه، فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور انتهى.وقوله: منفوعاً اسم مفعول من نفع، وهو قياسه لأنه متعد ثلاثي. وزعم الأهوازي النحوي أنه لا يستعمل من نفع اسممفعول، فلا يقال منفوع وقفت له عليه في شرحه موجز الرماني. وقال أبو البقاء: خبر أن الأولى قوله: إن ربكلغفور، وأن الثانية واسمها تكرير للتوكيد انتهى. وإذا كانت أنّ الثانية واسمها تكريراً للتوكيد كما ذكر، فالذي يقتضيه صناعة العربيةأن يكون خبر أنّ الأولى هو قوله: لغفور، ويكون للذين متعلقاً بقوله: لغفور، أو برحيم على الأعمال، لأنّ إن ربكالثانية لا يكون لها طلب لما بعدها من حيث الإعراب. كما أنك إذا قلت: قام قام زيد، فزيد إنما هومرفوع بقام الأولى، لأن الثانية ذكرت على سبيل التوكيد للأولى. وقيل: لا خبر لأن الأولى في اللفظ لأن خبر الثانيةأغنى عنه انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه ألغى حكم الأولى وجعل الحكم للثانية، وهو عكس ما تقدم، ولا يجوز. وقيل:للذين متعلق بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل: أعني للذين، أي الغفران للذين. وقرأ الجمهور: فتنوا مبنياً للمفعول أي: بالعذابوالإكراه على كلمة الكفر. وقرأ ابن عامر: فتنوا مبنياً للفاعل، والظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا، فالمعنى: فتنوا أنفسهمبما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار. أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم همالمعذبون أنفسهم، ويجوز أن يكون عائداً على المشركين أي: من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه. والضمير في مَن بعدهاعائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي: من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر. وقال ابن عطية: والضمير في بعدهاعائد على الفتنة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح. {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍتُجَـٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ يُظْلَمُونَ * وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةًيَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ }: يوم منصوب على الظرف، وناصبه رحيم، أوعلى المفعول به، وناصبه اذكر. والظاهر عموم كل نفس، فيجادل المؤمن والكافر، وجداله بالكذب والجحد، فيشهد عليهم الرسل والجوارح، فحينئذلا ينطقون. وقالت فرقة: الجدال قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم: نفسي نفسي. قال ابن عطية: وهذا ليس بجدال ولااحتجاج، إنما هو مجرد رغبة. واختار الزمخشري هذا القول، وركب معه ما قبله فقال: كأنه قيل يوم يأتي كل إنسانيجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كل يقول: نفسي نفسي. ومعنى المجادلة الاعتذار عنها كقولهم:
{ هَـؤُلاء أَضَلُّونَا }
{مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ونحو ذلك. وقال: يقال لعين الشيء وذاته نفسه، وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي، فالنفسالأولى هي الجملة، والثانية عينها وذاتها. وقال ابن عطية: أي كل ذي نفس، ثم أجرى الفعل على المضاف إليه المذكور،فأثبت العلامة. ونفس الأولى هي النفس المعروفة، والثانية هي بمعنى البدن كما تقول: نفس الشيء وعينه أي ذاته. وقال العسكري:الإنسان يسمي نفساً تقول العرب: ما جاءني إلا نفس واحدة أي: إنسان واحد. والنفس في الحقيقة لا تأتي، لأنها هيالشيء الذي يعيش به الإنسان انتهى. (فإن قلت): لم لم يتعد الفعل إلى الضمير، لا إلى لفظ النفس؟ (قلت):منع من ذلك أنّ الفعل إذا لم يكن من باب ظن، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله، ولا مضمره إلىمضمره المتصل، فلذلك لم يجيء التركيب تجادل عنها، ولذلك لا يجوز: ضربتها هند ولا هند ضربتها، وإنما تقول: ضربت نفسهاهند، وضربت هند نفسها، ما عملت أي: جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة، وأنث الفعل في تأتي، والضمير فيتجادل وفي عن نفسه، وفي توفي، وفي عملت، حملاً على معنى كل، ولو روعي اللفظ لذكر. وقال الشاعر:
جادت عليها كل عين ثرة | فتركن كل حديقة كالدرهم |
فأنث على المعنى. وما ذكر عن ابن عباس: أنّالجدال هنا هو جدال الجسد للروح، والروح للجسد لا يظهر قال: يقول الجسد: رب جاء الروح بأمرك به نطق لسانيوأبصرت عيني ومشت رجلي، فتقول الرّوح: أنت كسبت وعصيت لا أنا، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول، فيقول الله عز وجل:أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعداً إلى بستان فأصابا من ثماره، فالعذاب عليكما. وعن ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، وقتادة:أن القرية المضروب بها المثل مكة، كانت لا تغزي ولا يغار عليها، والأرزاق تجلب إليها، وأنعم الله عليها بالرسول صلىالله عليه وسلم فكفرت، فأصابها السنون والخوف. وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلاً لغيرها مما يأتي بعدها. وهذا وإن كانت الآيةمدنية، وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب بسبب التكذيب. ويؤيد كونها مكية قوله: ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه، ويجوزأن يكون قرية من قرى الأولين. وعن حفصة: أنها المدينة. وقال ابن عطية: يتوجه عندي أنها قصد بها قرية غيرمعينة، جعلت مثلاً لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة. وقال الزمخشري: يجوز أن يراد قريةمقدرة على هذه الصفة، وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثلعاقبتها انتهى. ولا يجوز أنْ يراد قرية مقدرة على هذه الصفة، بل لا بد من وجودها لقوله: ولقد جاءهم رسولمنهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون. كانت آمنة ابتدأ بصفة الأمن، لأنه لا يقيم لخائف. والاطمئنان زيادة في الأمن، فلايزعجها خوف. يأتيها رزقها أقواتها واسعة من جميع جهاتها، لا يتعذر منها جهة. وأنعم جمع نعمة، كشدّة وأشد. وقال قطرب:جمع نعم بمعنى النعيم، يقال: هذه أيام طعم ونعم انتهى. فيكون كبؤس وأبؤس. وقال الزمخشري: جمع نعمة على ترك التاء،جمع نعمة على ترك التاء، والاعتداد بالتاء كدرع وأدرع. وقال العقلاء: ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن، والصحة، والكفاية. قال أبوعبد الله الرازي: أمنة إشارة إلى الأمن، مطمئنة إشارة إلى الصحة، لأن هواء ذلك لما كان ملازماً لا مزجتهم اطمأنواإليها واستقروا، يأتيها رزقها السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام:
{ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ }
وقال: الأنعم جمع نعمة وجمع قلة، ولم يأت بنعم الله، وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أنّكفران النعم القليلة أوجب العذاب، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه. قال ابن عطية: لما باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى:
إذا ما الضجيجع ثنى جيدها | تثنت فكانت عليه لباسا |
ونحو قوله تعالى:
{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }
ومنه قول الشاعر:
وقد لبست بعد الزبير مجاشع | ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما |
كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه. وقوله: فأذاقها الله، نظير قوله:
{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ }
ونظيرقول الشاعر:
دونك مـا جنيتـه فـاحس وذق |
وقال الزمخشري: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباسفما وجه صحة إيقاعها؟ (قلت): أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منهافيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وإذاقة العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع.وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وأما إيقاع الإذاقة علىلباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة: عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهمفي نحو هذا طريقان: أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه ههنا، ونحوه قول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا | غلقت لضحكته رقاب المال |
استعار الرداء للمعروف، لأنه يصون عرض صاحبه، صون الرداءلما يلقى عليه. ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا صفة الرداء، نظراً إلى المستعار له. والثاني: أن ينظروافيه إلى المستعار كقوله:
ينازعني ردائي عبد عمرو | رويدك يا أخا عمرو بن بكر لي الشطر الذي ملكت يميني |
أراد بردائه سيفه ثم قال: فاعتجر منه بشطر،فنظر إلى المستعار في لفظ: الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل: فكساهم لبس الجوع والخوف، ولقال كثير: ضافيالرداء إذا تبسم ضاحكاً انتهى. وهو كلام حسن. ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق، قابلهما بالجوع الناشىء عن انقطاع الرزقوبالخوف. وقدم الجوع ليلى المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله:
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ }
وأماقوله:
{ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ }
فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدىء به وهما طريقان. وقرأ الجمهور: والخوف بالجرّعطفاً على الجوع. وروي العباس عن أبي عمرو: والخوف بالنصب عطفاً على لباس. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نصبهبإضمار فعل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه، أصله ولباس الخوف. وقرأ عبدالله فأذاقها الله الخوف والجوع، ولا يذكر لباس. والذي أقوله: إنّ هذا تفسير المعنى لا قراءة، لأن المنقول عنه مستفيضاًمثل ما في سواد المصحف. وفي مصحف أبي بن كعب لباس الخوف والجوع، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله:كانت آمنة، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقاً وغرباً، ولذلكالمستفيض عن أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله، ومنها تكذيب الرسول صلىالله عليه وسلم الذي جاءهم. والضمير في بما كانوا يصنعون عائد على المحذوف في قوله: وضرب الله مثلاً قرية، أي:قصة أهل قرية، أعاد الضمير أولاً على لفظ قرية، ثم على المضاف المحذوف كقوله:
{ فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَـٰتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ }
. والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم، عائد على ما عاد عليه في قوله: بما كانوا يصنعون. وقال ابن عطية:يحتمل أن يكون الضمير في جاءهم لأهل تلك المدينة، يكون هذا بما جرى فيها كمدينة شعيب عليه السلام وغيره، ويحتملأن يكون لأهل مكة. وقال أبو عبد الله الرازي: لما ذكر المثل قال: ولقد جاءهم ـ يعني أهل مكة ـرسول منهم يعني ـ من أنفسهم ـ يعرفونه بأصله ونسبه، ولما وعظ تعالى بضرب ذلك المثل وصل هذا الأمر للمؤمنينبالفاء، فأمر المؤمنين بأكل ما رزقهم وشكر نعمته ليباينوا تلك القرية التي كفرت بنعم الله. ولما تقدم فكفرت بأنعم اللهجاء هنا: واشكروا نعمة الله. وفي البقرة جاء:
{ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُم }
لم يذكر من كفرنعمته فقال:
{ وَٱشْكُرُواْ ٱللَّهِ }
ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم، عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دوناتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه. وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله: كلوا مما رزقناكم. وقوله:إنما حرم الآية تقدّم تفسير مثلها في البقرة. {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْعَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ }: لما بين تعالى ما حرم، بالغ في تأكيد ذلك بالنهي عنالزيادة فيما حرم كالبحيرة، والسائبة، وفيما أحل كالميتة والدم، وذكر تعالى تحريم هؤلاء الأربع في سورة الأنعام. وهذه السورة وهمامكيتان بأداة الحصر، ثم كذلك في سورة البقرة والمائدة بقوله:
{ أُحِلَّتْ لَكُمْ }
الآية وأجمعوا على أن المراد:
{ مّمَّا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ }
هو قوله:
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ }
الآية وهما مدنيتان فكان هذا التحريم لهذه الأربع مشرعاً ثانياً في أولمكة وآخرها، وأول المدينة وآخرها. فنهى تعالى أن يحرموا ويحلوا من عند أنفسهم، ويفترون بذلك على الله حيث ينسبون ذلكإليه. وقرأ الجمهور الكذب بفتح الكاف والباء وكسر الذال، وجوزوا في ما في هذه القراءة أن تكون بمعنى الذي، والعائدمحذوف تقديره: للذي تصفه ألسنتكم. وانتصب الكذب على أنه معمول لتقولوا أي: ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم من البهائمبالحل والحرمة، من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي. وهذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب، أو على إضمار فعلأي: فتقولوا هذا حلال وهذا حرام. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون انتصاب الكذب على أنه بدل من الضمير المحذوفالعائد على ما، كما تقول: جاءني الذي ضربت جخاك، أي ضربته أخاك. وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً بإضمار أعني.وقال الكسائي والزجاج: ما مصدرية، وانتصب الكذب على المفعول به أي: لوصف ألسنتكم الكذب. ومعمول: ولا تقولوا، الجملة من قوله:هذا حلال وهذا حرام، والمعنى: ولا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذباً، لا بحجة وبينة. وهذا معنىبديع، جعل قولهم: كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد جلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولهم: وجهه يصفالجمال، وعينها تصف السحر. وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وابن عبيد، ونعيم بن ميسرة: بكسر الباء،وخرج على أن يكون بدلاً من ما، والمعنى الذي: تصفه ألسنتكم الكذب. وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون الكذب بالجر صفةلما المصدرية. قال الزمخشري: كأنه قيل: لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى:
{ بِدَمٍ كَذِبٍ }
والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحلوالحرمة انتهى. وهذا عندي لا يجوز، وذلك أنهم نصوا على أنّ أنْ المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل،ولا يوجد من كلامهم: يعجبني أنْ قمت السريع، يريد قيامك السريع، ولا عجبت من أنْ تخرج السريع أي: من خروجكالسريع. وحكم باقي الحروف المصدرية حكم أنّ فلا يوجد من كلامهم وصف المصدر المنسبك من أنْ ولا، من ما ولا،من كي، بخلاف صريح المصدر فإنه يجوز أن ينعت، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ماتكلمت به العرب. وقرأ معاذ، وابن أبي عبلة، وبعض أهل الشام: الكذب بضم الثلاثة صفة للألسنة، جمع كذوب. قالصاحب اللوامح: أو جمع كاذب أو كذاب انتهى. فيكون كشارف وشرف، أو مثل كتاب وكتب، ونسب هذه القراءة صاحب اللوامحلمسلمة بن محارب. وقال ابن عطية: وقرأ مسلمة بن محارب الكذب بفتح الياء على أنه جمع كذاب، ككتب في جمعكتاب. وقال صاحب اللوامح: وجاء عن يعقوب الكذب بضمتين والنصب، فأما الضمتان فلأنه جمع كذاب وهو مصدر، ومثله كتاب وكتب.وقال الزمخشري: بالنصب على الشتم، أو بمعنى الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك: كذب كذاباً ذكره ابن جنيانتهى. والخطاب على قول الجمهور بقوله: ولا تقولوا، للكفار في شأن ما أحلوا وما حرموا من أمور الجاهلية، وعلى ذلكالزمخشري وابن عطية. وقال العسكري: الخطاب للمكلفين كلهم أي: لا تسموا ما لم يأتكم حظره ولا إباحته عن الله ورسولهحلالاً ولا حراماً، فتكونوا كاذبين على الله في إخباركم بأنه حلله وحرمه انتهى. وهذا هو الظاهر، لأنه خطاب معطوف علىخطاب وهو: فكلوا إنما حرم عليكم، فهو شامل لجميع المكلفين. واللام في لتفتروا لام التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض،قاله الزمخشري، وهي التي تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة. قيل: ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم، والظاهر أنها لام التعليلوأنهم قصدوا الافتراء كما قالوا:
{ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا }
والله أمرنا بها، ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد لما تقدملتضمنه الكذب، لأنّ هذا التعليل فيه التنبيه على من افتروه عليه، وهو الله تعالى. وقال الواحدي: لتفتروا على الله الكذبيدل من قوله: لما تصف ألسنتكم الكذب، لأنّ وصفهم الكذب هو افتراء على الله، ففسر وصفهم بالافتراء على الله انتهى.وهو على تقدير ما مصدرية، وأما إذا كانت بمعنى الذي فاللام في لما ليست للتعليل، فيبدل منها ما يقتضي التعليل،بل اللام متعلقة بلا تقولوا على حد تعلقها في قولك: لا تقولوا، لما أحل الله هذا حرام أي: لا تسمواالحلال حراماً، وكما تقول لزيد عمرو أي لا تطلق على زيد هذا الاسم. والظاهر أنهم افتروا على الله حقيقة، وهوظاهر الافتراء الوارد في آي القرآن. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سنناً لا يرضاها اللهافتراء عليه، لأنّ من شرع أمراً فكأنه قال لتابعه: هذا هو الحق، وهذا مراد الله. ثم أخبر تعالى عن الذينيفترون على الله الكذب بانتفاء الفلاح. والفلاح: الظفر بما يؤمل، فتارة يكون في البقاء كما قال الشاعر:
والمسي والصبح لا فلاح معـه |
وتارة في نجح المساعي كما قال عبيد بن الأبرص:
أفلح بما شئت فقد يبـ | ـلغ بالضعف وقد يخدع الأريب |
وارتفاع متاع على أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدر الزمخشري منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعةقليلة وعقابها عظيم. وقال ابن عطية: عيشهم في الدنيا. وقال العسكري: يجوز أن يكون المتاع هنا ما حللوه لأنفسهم مماحرمه الله تعالى. وقال أبو البقاء: بقاؤهم متاع قليل. وقال الحوفي: متاع قليل ابتداء وخبر انتهى. ولا يصح إلا بتقديرالإضافة أي: متاعهم قليل. ولما بيّن تعالى ما يحل وما يحرم وهل الإسلام، أتبعه بما كان خص به اليهود محالاًعلى ما تقدم ذكره في سورة الأنعام، وهذا يدل على أنّ سورة الأنعام نزلت قبل هذه السورة، إذ لا تصحالحوالة إلا بذلك. ويتعلق من قبل بقصصنا، وهو الظاهر. وقيل: بحرمنا، والمحذوف الذي في من قبل تقديره من قبل تحريمناعلى أهل ملتك. والسوء هنا قال ابن عباس: الشرك قبل المعرفة بالله انتهى. ما يسوء صاحبه من كفر ومعصية غيره.والكلام في للذين عملوا وما يتعلق به تقدم نظيره في قوله:
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ }
فأغنى عن إعادته.وقال قوم: بجهالة تعمد. وقال ابن عطية: ليست هنا ضد العلم، بل تعدى الطور وركوب الرأس منه: أو أجهل أويُجهل عليّ. وقول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
والتي هي ضدالعلم، تصحب هذه كثيراً، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر. وقلّ ما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علمبخطر المعصية التي يواقع انتهى. ملخصاً. وقال الزمخشري: بجهالة في موضع الحال أي: عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه،أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم. وقال سفيان: جهالته أن يلتذ بهواه، ولا يبالي بمعصية مولاه. وقال الضحاك: باغترارالحال عن المآل. وقال العسكري: ليس المعنى أنه يغفر لمن يعمل السوء بجهالة، ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة، بلالمراد أن جميع من تاب فهذا سبيله، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة، لأنّ أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلةفكر في عاقبة، أو عند غلبة شهوة، أو في جهالة شباب، فذكر الأثر على عادة العرب في مثل ذلك. والإشارةبذلك إلى عمل السوء، وأصلحوا: استمروا على الإقلاع عن تلك المعصية. وقيل: أصلحوا آمنوا وأطاعوا، والضمير في من بعدها عائدعلى المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي: من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح. وقيل: يعود على الجهالة. وقيل: على السوءعلى معنى المعصية. {إِنَّ إِبْرٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * شَاكِراًلاّنْعُمِهِ ٱجْتَبَـٰهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَءاتَيْنَـٰهُ فِى ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى ٱلاْخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَأَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُبَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }: لما أبطل تعالى مذاهب المشركين في هذه السورة من إثبات الشركاء لله،والطعن في نبوّة رسول الله ﷺ، وتحليل ما حرّم، وتحريم ما أحل، وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم عليهالسلام مقرين بحسن طريقته ووجوب الاقتداء به، ذكره في آخر السورة وأوضح منهاجه، وما كان عليه من توحيد الله تعالىورفض الأصنام، ليكون ذلك حاملاً لهم على الاقتداء به. وأيضاً فلما جرى ذكر اليهوديين طريقة إبراهيم ليظهر الفرق بين حالهوحالهم، وحال قريش. وقال مجاهد: سمى أمّة لانفراده بالإيمان في وقته مدّة ما. وفي البخاري أنه قال لسارة: ليس علىالأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك. والأمة لفظ مشترك بين معان منها: الجمع الكثير من الناس، ثم يشبه به الرجل الصائم،أو الملك، أو المنفرد بطريقة وحده عن الناس فسمي أمة، وقاله ابن مسعود والفراء وابن قتيبة. وقال ابن عباس: كانعنده من الخير ما كان عنده أمة، ومن هنا أخذ الحسن بن هانىء قوله:
وليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
وعن ابن مسعود: إنه معلم الخير، وأطلق هو وعمر ذلك على معاذفقال: كان أمة قانتاً. وقال ابن الأنباري: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة، وعلامة، ونسابة، يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنىالموصوف به. وقيل: الأمة الإمام الذي يقتدي به من أم يؤم، والمفعول قد يبنى للكثرة على فعلة وتقدم تفسير القانت،والحنيف: شاكراً الأنعمة. روي أنه كان لا يتعدى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداه، فإذا هوبفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام، فخيلوا أنَّ بهم جذاماً فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم، شكر الله علىأنه عافاني وابتلاكم. ورتيناه في الدنيا حسنة، قال قتادة: حببه الله تعالى إلى كل الخلق، فكل أهل الأديان يتولونه اليهودوالنصارى والمسلمون، وخصوصاً كفار قريش، فإنّ فخرهم إنما هو به، وذلك بإجابة دعوته.
{ وَٱجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى ٱلاْخِرِينَ }
وقيل: الحسنة قول المصلي منا: كما صليت على إبراهيم. وقال ابن عباس: الذكر الحسن. وقال الحسن: النبوة. وقال مجاهد: لسانصدق. وقال قتادة: القبول، وعنه تنويه الله بذكره. وقيل: الأولاد الأبرار على الكبر. وقيل: المال يصرفه في الخير والبر. {وَإِنَّهُلَمِنَ * ٱلْمُصْلِحِينَ }، تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة، ولما وصف إبراهيم عليه السلام بتلك الأوصاف الشريفة أمرنبيه ﷺ أن يتبع ملته، وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم في الدنيا. قالابن فورك: وأمر الفاضل باتباع المفضول، لما كان سابقاً إلى قول الصواب والعمل به. وقال الزمخشري: ثم أوحينا في ثمهذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله ﷺ، وإجلال محله، والإيذان بأنّ أشرف ما أوت يخليلالله إبراهيم عليه السلام من الكرامة، وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله ﷺ ملته، منقبل أنها على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليها بها انتهى. وأنْ تفسيرية،أو في موضع المفعول. واتباع ملته قال قتادة: في الإسلام، وعنه أيضاً: جميع ملته إلا ما أمر بتركه. وعن عمروبن العاص: مناسك الحج. وقال القرطبي: الصحيح عقائد الشرع دون الفروع لقوله:
{ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً }
وقيل: فيالتبري من الأوثان. وقال قوم كان على شريعة ابراهيم، وليس له شرع ينفرد به، وإنما المقصود من بعثته إحياء شرعابراهيم عليه السلام. قال أبو عبد الله الرازي: وهذا القول ضعيف، لأنه وصف إبراهيم في هذه الآية بأنه ما كانمن المشركين، فلما قال: اتبع ملة ابراهيم، كان المراد ذلك. فإن قيل: النبي ﷺ إنما نفى الشركوأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعاً له، فيمتنع حمل قوله: أن اتبع، على هذاالمعنى، فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها. (قلت): يحتمل أن يكون المراد متابعته في كيفية الدعوةإلى التوحيد، وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقةالمألوفة في القرآن انتهى. ولا يحتاج إلى هذا، لأنّ المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أنْ يوحي لتظافر المعقولوالمنقول على اعتقاده. ألا ترى إلى قوله تعالى:
{ قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ }
فليس اعتقاد الوحدانيةبمجرد الوحي فقط، وإنما تظافر المنقول عن الله في ذلك مع دليل العقل. وكذلك هنا أخبر تعالى أنّ ابراهيم لميكن مشركاً، وأمر الرسول باتباعه في ذلك، وإن كان انتفاء الشرك ليس مستنده مجرد الوحي، بل الدليل العقلي والدليل الشرعيتظافراً على ذلك. وقال ابن عطية: قال مكي: ولا يكون ـ يعني حنيفاً ـ حالاً من ابراهيم لأنه مضاف إليه،وليس كما قال لأنّ الحال قد تعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك: مررت بزيد قائماً انتهى.أما ما حكى عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافاً إليه، فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضافإليه في محل رفع أو نصب، جازت الحال منه نحو: يعجبني قيام زيد مسرعاً، وشرب السويق ملتوتاً. وقال بعض النحاة:ويجوز أيضاً ذلك إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه كقوله:
{ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا }
أوكالجزء منه كقوله:
{ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفاً }
وقد بينا الصحيح في ذلك فيما كتبناه على التسهيل، وعلى الألفية لابن مالك.وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله: وليس كما قال، لأنّ الحال إلى آخره فقول بعيد عن قولأهل الصنعة، لأن الباء في بزيد ليست هي العاملة في قائماً، وإنما العامل في الحال مررت، والباء وإن عملت الجرفي زيد فإنّ زيداً في موضع نصب بمررت، وكذلك إذا حذف حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسمالذي كان مجروراً بالحرف. ولما أمر الله رسوله ﷺ باتباع ملة ابراهيم عليه السلام، وكان الرسول قداختار يوم الجمعة، فدل ذلك على أنه كان في شرع ابراهيم، بين أنّ يوم السبت لم يكن تعظيمه، واتخاذه للعبادةمن شرع ابراهيم ولا دينه، والسبت مصدر، وبه سمي اليوم. وتقدم الكلام في هذا اللفظ في الأعراف. قال الزمخشري: سبتتاليهود إذا عظمت سبتها والمعنى: إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، واختلافهم فيه: أنهم أحلوا الصيدفيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أنْ يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعدما حتم الله عليهم الصبر عنالصيد فيه، والمعنى في ذكر ذلك نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلاً، وغير ما ذكر وهوالإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته. (فإن قلت): فما معنى الحكم بينهم إذا كانواجميعاً محلين أو محرمين؟ (قلت): معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرمين أخرى، ووجه آخر وهوأنّ موسى عليه السلام أمرهم أنْ يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة، وأن يكون يوم الجمعة، فأبوا عليه وقالوا: نريد اليومالذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فهذا اختلافهم في السبت،لأنّ بعضهم اختاره، وبعضهم اختار عليه الجمعة، فأذن الله لهم في السبت، وابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر الله الراضونبالجمعة فكانوا لا يصيدون، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك. وهو يحكم بينهم يوم القيامة، فيجازي كلواحد من الفريقين بما يستوجبه. ومعنى جعل السبت: فرض عليهم تعظيمه، وترك الاصطياد فيه انتهى. وهو كلام ملفق من كلامالمفسرين قبله. وقال الكرماني: عدي جعل بعلي، لأن اليوم صار عليهم لا لهم، لارتكابهم المعاصي فيه انتهى. ولهذا قدره الزمخشري:إنما جعل وبال السبت. وقال الحسن: جعل السبت لعنة عليهم بأن جعل منهم القردة. وقال ابن عباس: إن الله سبحانهقال: ذروا الأعمال في يوم الجمعة وتفرغوا فيه لعبادتي، فقالوا: نريد السبت، لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق السمواتوالأرض، فهو أولى بالراحة. وقرأ أبو حيوة: جعل بفتح الجيم والعين مبنياً للفاعل، وعن ابن مسعود والأعمش: أنهما قرآ إنماأنزلنا السبت، وهي تفسير معنى لا قراءة، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، ولما استفاض عن الأعمش وابن مسعود أنهماقرآ كالجماعة. {ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّعَن سَبِيلِهِ }: أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف، وهو أنيسمع المدعو حكمة، وهو الكلام الصواب القريب الواقع من النفس أجمل موقع. وعن ابن عباس: أنّ الحكمة القرآن، وعنه: الفقه.وقيل: النبوّة. وقيل: ما يمنع من الفساد من آيات ربك المرغبة والمرهبة. والموعظة الحسنة مواعظ القرآن عن ابن عباس، وعنهأيضاً: الأدب الجميل الذي يعرفونه. وقال ابن جرير: هي العبر المعدودة في هذه السورة. وقال ابن عيسى: الحكمة المعروفة بمراتبالأفعال والموعظة الحسنة أن تختلط الرغبة بالرهبة، والإنذار بالبشارة. وقال الزمخشري: إلى سبيل ربك الإسلام، بالحكمة بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهيالدليل الموضح للحق المزيل للشبهة، والموعظة الحسنة وهي التي لا تخفى عليهم إنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها، ويجوزأن يريد القرآن أي: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللينمن غير فظاظة ولا تعنيف. وقال ابن عطية: الموعظة الحسنة التخويف والترجئة والتلطف بالإنسان بأن تجله وتنشطه، وتجعله بصورة منقبل الفضائل ونحو هذا. وقالت فرقة: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقالت فرقة: هي محكمة. وإن عاقبتم أطبق أهلالتفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفيكتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها اتصالاً حسناً، لأنها تتدرج الذنب من الذي يدعي، وتوعظإلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله، ولكن ما روى الجمهور أثبت انتى. وذهبت فرقة منهم ابن سيرين ومجاهد:إلى أنها نزلت فيمن أصيب بظلامة أنْ لا ينال من ظالمه إذا تمكن الأمثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها، وسمىالمجازاة على الذنب معاقبة لأجل المقابلة، والمعنى: قابلوا من صنع بكم صنيع سوء بمثله، وهو عكس:
{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }
.المجاز في الثاني وفي: وإنْ عاقبتم في الأول. وقرأ ابن سيرين: وإنْ عقبتم فعقبوا بتشديد القافين أي: وإنْ قفيتم بالانتصارفقفوا بمثل ما فعل بكم. والظاهر عود الضمير إلى المصدر الدال عليه الفعل مبتدأ بالإضافة إليهم أي: لصبركم وللصابرين أي:لكم أيها المخاطبون، فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم بصبرهم على الشدائد، وبصبرهم على المعقابة. وقيل: يعود إلىجنس الصبر، ويراد بالصابرين جنسهم، فكأنه قيل: والصبر خير للصابرين، فيندرج صبر المخاطبين في الصبر، ويندرجون هم في الصابرين. ونحوه:
{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ }
{ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ }
ولما خير المخاطبون في المعاقبة والصبر عنها عزم على الرسول صلىالله عليه وسلم في الذي هو خير وهو الصبر، فأمر هو وحده بالصبر. ومعنى بالله: بتوفيقه وتيسيره وإرادته. والضمير فيعليهم يعود على الكفار، وكذلك في يمكرون كما قال:
{ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ }
وقيل: يعود على القتلى الممثلبهم حمزة، ومن مثل به يوم أحد. وقرأ الجمهور: في ضيق بفتح الضاد. وقرأ ابن كثير: بكسرها، ورويت عن نافع،ولا يصح عنه، وهما مصدران كالقيل والقول عند بعض اللغويين. وقال أبو عبيدة: بفتح الضاد مخفف من ضيق أي: ولاتك في أمر ضيق كلين في لين. وقال أبو علي: الصواب أن يكون الضيق لغة في المصدر، لأنه إنْ كانمخففاً من ضيق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف، وليس هذا موضع ذلك، والصفة إنما تقوم مقامالموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة كما تقول: رأيت ضاحكاً، فإنما تخصص الإنسان. ولو قلت: رأيت بارداً لم يحسن،وببارد مثل سيبويه وضيق لا يخصص الموصوف. وقال ابن عباس، وابن زيد: إنّ ما في هذه الآيات من الأمر بالصبرمنسوخ، ومعنى المعية هنا بالنصرة والتأييد والإعانة.