انتقل إلى المحتوى

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة المطففين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } * { ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } * { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } * { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } * { لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } * { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } * { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } * { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } * { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } * { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو ٱلْجَحِيمِ } * { ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } * { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } * { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } * { يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } * { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } * { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } * { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } * { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ } * { خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } * { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } * { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ } * { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } * { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } * { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ } * { وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } * { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } * { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } * { هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } التطفيف النقصان وأصله من الطفيف وهو النزل الحقير والمطفف الآخذ في وزن أوكيل طفيفاً أي شيئاً حقيراً خفياً. ران غطى وغشى كالصدإ يغشى السيف. قال الشاعر:

وكم ران من ذنب على قلب فاجر     فتاب من الذنب الذي ران فانجلا

وأصل الرين الغلبة يقال رانت الخمر على عقل شاربها وران الغشىعلى عقل المريض. قال أبو زبيد:

ثم لما رآه رانت به الخمــــر وأن لا يــرينــه بــانتـقــاء    

وقال أبو زيد يقال رين بالرجل يران به ريناً إذا وقع فيما لا يستطيع منه الخروج. الرحيق قال الخليل أجودالخمر. وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيه. قال حسان:

بــردى يصفـق بـالرحيـق السلســل    

نافس في الشيء رغب فيهونفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه ولم تحب أن يصير إليه. التسنيم أصله الارتفاع ومنه تسنيم القبروسنام البعير وتسنمته علوت سنامه. الغمز الإشارة بالعين والحاجب. {وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُوْلَـئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ* كَلاَّ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ *ٱلَّذِينَ يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدّينِ * وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءايَـٰتُنَا قَالَ أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ* كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْٱلْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ }. هذه السورة مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل،مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل أيضاً. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا من {إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ } إلى آخرها،فهو مكي، ثمان آيات. وقال السدي: كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة، له مكيلان، يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص، فنزلت. ويقال:أنها أول سورة أنزلت بالمدينة. وقال ابن عباس: نزل بعضها بمكة، ونزل أمر التطفيف بالمدينة لأنهم كانوا أشد الناس فساداًفي هذا المعنى، فأصلحهم الله بهذه السورة. وقيل: نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمرهم قبل ورود رسوله صلىالله عليه وسلم. والمناسبة بين السورتين ظاهرة. لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه، ذكر ما أعدلبعض العصاة، وذكرهم بأخس ما يقع من المعصية، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئاً في تثمير المال وتنميته.{إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ }: قبضوا لهم، {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ }، أقبضوهم. وقال الفراء: من وعلى يعتقبان هنا، اكتلتعلى الناس، واكتلت من الناس. فإذا قال: اكتلت منك، فكأنه قال: استوفيت منك؛ وإذا قال: اكتلت عليك؛ فكأنه قال: أخذتما عليك، والظاهر أن على متعلق باكتالوا كما قررنا. وقال الزمخشري: لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيهعليهم، أبدل على مكان من للدلالة على ذلك؛ ويجوز أن يتعلق بيستوفون، أي يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفونلها. انتهى. وكال ووزن مما يتعدى بحرف الجر، فتقول: كلت لك ووزنت لك، ويجوز حذف اللام، كقولك: نصحت لك ونصحتك،وشكرت لك وشكرتك؛ والضمير ضمير نصب، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه، والمفعول محذوفوهو المكيل والموزون. وعن عيسى وحمزة: المكيل له والموزون له محذوف، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع الذي هو الواو.وقال الزمخشري: ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أن المعنى: إذاأخذوا من الناس استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا. وإن جعلت الضمير للمطففين، انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذاتولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر، لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر. انتهى.ولا تنافر فيه بوجه، ولا فرق بين أن يؤكد الضمير وأن لا يؤكد، والحديث واقع في الفعل. غاية ما فيهذا أن متعلق الاستيفاء، وهو على الناس، مذكور وهو في {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ }، محذوف للعلم به لأنه معلوم أنهملا يخسرون الكيل والميزان إذا كان لأنفسهم، إنما يخسرون ذلك لغيرهم. وقال الزمخشري: فإن قلت: هل لا. قيل أو اتزنوا،كما قيل أو وزنوهم؟ قلت: كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال منالاستيفاء والسرقة، لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً. {يُخْسِرُونَ }:ينقصون. انتهى. ويخسرون معدّى بالهمزة، يقال: خسر الرجل وأخسره غيره. {أَلا يَظُنُّ }: توقيف على أمر القيامة وإنكار عليهمفي فعلهم ذلك، أي {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ }، وهو يوم القيامة، ويوم ظرف، العامل فيه مقدر، أي يبعثون يوم يقوم الناس.ويجوز أن يعمل فيه مبعوثون، ويكون معنى {لِيَوْمِ }: أي لحساب يوم. وقال الفراء: هو بدل من يوم عظيم، لكنهبني وقرىء {يَوْمَ يَقُومُ } بالجر، وهو بدل من {لِيَوْمِ }، حكاه أبو معاد. وقرأ زيد بن عليّ: يوم بالرفع،أي ذلك يوم، ويظن بمعنى يوقن، أو هو على وضعه من الترجيح. وفي هذا الإنكار والتعجب، ووصف اليوم بالعظم، وقيامالناس لله خاضعين، ووصفه برب العالمين، دليل على عظم هذا الذنب وهو التطفيف. {كَلاَّ }: ردع لما كانوا عليه منالتطفيف، وهذا القيام تختلف الناس فيه بحسب أحوالهم، وفي هذا القيام إلجام العرق للناس، وأحوالهم فيه مختلفة، كما ورد فيالحديث. والفجار: الكفار، وكتابهم هو الذي فيه تحصيل أعمالهم. {*وسجين}، قال الجمهور: فعيل من السجن، كسكير، أو في موضع ساجن،فجاء بناء مبالغة، فسجين على هذا صفة لموضع المحذوف. قال ابن مقبل:

ورفقة يضربون البيض ضاحية     ضرباً تواصت به الأبطال سجينا

وقال الزمخشري: فإن قلت: {أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ }، أصفة هو أم اسم؟ قلت:بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف. انتهى. وكانقد قدم أنه كتاب جامع، وهو ديوان الشر، دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس، وهو:{كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ }: مسطور بين الكتابة، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، والمعنى: أن ما كتب منأعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان. انتهى. واختلفوا في سجين إذا كان مكاناً اختلافاً مضطرباً حذفنا ذكره. والظاهر أن سجيناًهو كتاب، ولذلك أبدل منه {كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ }. وقال عكرمة: سجين عبارة عن الخسار والهوان، كما تقول: بلغ فلان الحضيضإذا صار في غاية الجمود. وقال بعض اللغويين: سجين، نونه بدل من لام، وهو من السجيل، فتلخص من أقوالهم أنسجين نونه أصلية، أو بدل من لام. وإذا كانت أصلية، فاشتقاقه من السجن. وقيل: هو مكان، فيكون {كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ }خبر مبتدأ محذوف، أي هو كتاب. وعني بالضمير عوده على {كِتَـٰبَ ٱلْفُجَّارِ }، أو على {سِجّينٍ } على حذف، أيهو محل {كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ }، و{كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ } تفسير له على جهة البدل أو خبر مبتدأ. والضمير المقدر الذي هوعائد على {سِجّينٍ }، أو كناية عن الخسار والهوان، هل هو صفة أو علم؟ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ }: أيليس ذلك مما كنت تعلم. مرقوم: أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى. قال قتادة: رقم لهم: بشر، لا يزادفيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وقال ابن عباس والضحاك: مرقوم: مختوم بلغة حمير، وأصل الرقم الكتابة، ومنه قول الشاعر:

سأرقم في الماء القراح إليكم     على بعدكم إن كان للماء راقم

وتبين من الإعرابالسابق أن {كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ } بدل أو خبر مبتدأ محذوف. وكان ابن عطية قد قال: إن سجيناً موضع ساجن علىقول الجمهور، وعبارة عن الخسار على قول عكرمة، من قال: {كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ }. من قال بالقول الأول في سجين، فكتابمرتفع عنده على خبر إن، والظرف الذي هو {لَفِى سِجّينٍ } ملغى. ومن قال في سجين بالقول الثاني، فكتاب مرقومعلى خبر ابتداء مضمر التقدير هو {كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ }، ويكون هذا الكتاب مفسراً لسجين ما هو. انتهى. فقوله: والظرف الذيهو {لَفِى سِجّينٍ } ملغى قول لا يصح، لأن اللام التي في {لَفِى سِجّينٍ } داخلة على الخبر، وإذا كانتداخلة على الخبر، فلا إلغاء في الجار والمجرور، بل هو الخبر. ولا جائز أن تكون هذه اللام دخلت في {لَفِىسِجّينٍ } على فضلة هي معمولة للخبر أو لصفة الخبر، فيكون الجار والمجرور ملغى لا خبراً، لأن كتاب موصوف بمرقومفلا يعمل، ولأن مرقوماً الذي هو صفة لكتاب لا يجوز أن تدخل اللام في معموله، ولا يجوز أن يتقدم معمولهعلى الموصوف، فتعين بهذا أن قوله: {لَفِى سِجّينٍ } هو خبر إن. {ٱلَّذِينَ يُكَذّبُونَ }: صفة ذم، {كُلُّ مُعْتَدٍ}: متجاوز الحد، {أَثِيمٍ }: صفة مبالغة. وقرأ الجمهور: {إِذَا }؛ والحسن: أئذا بهمزة الاستفهام. والجمهور: {تُتْلَىٰ } بتاء التأنيث؛وأبو حيوة وابن مقسم: بالياء. قيل: ونزلت في النضر بن الحرث. {بَلْ رَانَ }، قرىء بإدغام اللام في الراء، وبالإظهاروقف حمزة على بل وقفاً خفيفاً يسير التبيين الإظهار. وقال أبو جعفر بن الباذش: وأجمعوا، يعني القراء، على إدغام اللامفي الراء إلا ما كان من سكت حفص على بل، ثم يقول: {رَانَ }، وهذا الذي ذكره ليس كما ذكرمن الإجماع. ففي كتاب اللوامح عن قالون: من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء، نحو قوله: { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ } { بَل رَّبُّكُمْ } . وفي كتاب ابن عطية، وقرأ نافع: {بَلْ رَانَ } غير مدغم، وفيه أيضاً: وقرأ نافع أيضاًبالإدغام والإمالة. وقال سيبويه: اللام مع الراء نحو: أسفل رحمه البيان والإدغام حسنان. وقال الزمخشري: وقرى بإدغام اللام في الراء،وبالإظهار والإدغام أجود، وأميلت الألف وفخمت. انتهى. وقال سيبويه: فإذا كانت، يعني اللام، غير لام المعرفة، نحو لام هل وبل،فإن الإدغام في بعضها أحسن، وذلك نحو: هل رأيت؟ فإن لم تدغم فقلت: هل رأيت؟ فهي لغة لأهل الحجاز، وهيغريبة جائزة. انتهى. وقال الحسن والسدي: هو الذنب على الذنب. وقال الحسن: حتى يموت قلبه. وقال السدي: حتى يسود القلب.وفي الحديث نحو من هذا. فقال الكلبي: طبع على قلوبهم. وقال ابن سلام: غطى. {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }، قال ابنعطية: وعلق اللوم بهم فيما كسبوه، وإن كان ذلك بخلق منه تعالى واختراع، لأن الثواب والعقاب متعلقان بكسب العبد. والضميرفي قوله: {أَنَّهُمْ }، فمن قال بالرؤية، وهو قول أهل السنة، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم، فهم محجوبون عنه.واحتج بهذه الآية مالك على سبيله الرؤية من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص. وقالالشافعي: لما حجب قوماً بالسخط، دل على أن قوماً يرونه بالرضا. ومن قال بأن لا رؤية، وهو قول المعتزلة، قال:إنهم يحجبون عن ربهم وغفرانه. نتهى. وقال أنس بن مالك: لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه، وقالالزمخشري: {فَاقِرَةٌ كَلاَّ } ردع عن الكسب الراثن على قلوبهم، وكونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم، لأنه لا يؤذنعلى الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم. قال الشاعر:

إذا اعتروا باب ذي عيبة رحبوا     والناس ما بين مرحوب ومحجوب

وعن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة: محجوبينعن رحمته. وعن ابن كيسان: عن كرامته. انتهى. وعن مجاهد: المعنى محجوبون عن كرامته ورحمته، وعن ربهم متعلق بمحجوبون، وهوالعامل في يومئذ، والتنوين تنوين العوض من الجملة المحذوفة، ولم تتقدّم جملة قريبة يكون عوضاً منها، لكنه تقدم {يَقُومُ ٱلنَّاسُلِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }، فهو عوض من هذه الجملة، كأنه قيل: يوم إذ يقوم الناس. ثم هم مع الحجاب عن اللههم صالوا النار، وهذه ثمرة الحجاب. {ثُمَّ يُقَالُ }: أي تقول لهم خزنة النار. {هَـٰذَا }، أي العذاب وصلي الناروهذا اليوم، {ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ }. قال ابن عطية: {هَـٰذَا ٱلَّذِى }، يعني الجملة مفعول لم يسم فاعله لأنهقول بني له الفعل الذي هو يقال. انتهى. وتقدم الكلام على نحو هذا في أول البقرة في قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلارْضِ } . قوله عز وجل: {كَلاَّ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ * وَمَا أَدْرَاكَمَا عِلّيُّونَ * كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ ٱلاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * عَلَى ٱلاْرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِىوُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَـٰمُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَـٰفِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ *عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَاٱنقَلَبُواْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـؤُلاَء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـٰفِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَءامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلاْرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }. لما ذكر تعالىأمر كتاب الفجار، عقبه بذكر كتاب ضدهم ليتبين الفرق. عليون: جمع واحده عليّ، مشتق من العلو، وهو المبالغة، قاله يونسوابن جني. قال أبو الفتح: وسبيله أن يقال علية، كما قالوا للغرفة علية، فلما حذفت التاء عوضوا منها الجمع بالواووالنون. وقيل: هو وصف للملائكة، فلذلك جمع بالواو والنون. وقال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد لهمن لفظه، كقوله: عشرين وثلاثين؛ والعرب إذا جمعت جمعاً، ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكروالمؤنث بالواو والنون. وقال الزجاج: أعرب هذا الاسم كإعراب الجمع، هذه قنسرون، ورأيت قنسرين. وعليون: الملائكة، أو المواضع العلية، أوعلم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما علمته الملائكة وصلحاء الثقلين، أو علو في علو مضاعف، أقوال ثلاثة للزمخشري.وقال أبو مسلم: {كِتَـٰبَ ٱلاْبْرَارِ }: كتابة أعمالهم، {لَفِى عِلّيّينَ }. ثم وصف عليين بأنه {كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ } فيهجميع أعمال الأبرار. وإذا كان مكاناً فاختلفوا في تعيينه اختلافاً مضطرباً رغبنا عن ذكره. وإعراب {لَفِى عِلّيّينَ }، و{كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ} كإعراب {لَفِى سِجّينٍ }، و{كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ }. وقال ابن عطية: و{كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ } في هذه الآية خبر إن والظرفملغى. انتهى. هذا كما قال في {لَفِى سِجّينٍ }، وقد رددنا عليه ذلك وهذا مثله. والمقربون هنا، قال ابن عباسوغيره: هم الملائكة أهل كل سماء، {يُنظَرُونَ }، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: إلى ما أعد لهم من الكرامات. وقالمقاتل: إلى أهل النار. وقيل: ينظر بعضهم إلى بعض. وقرأ الجمهور: {تَعْرِفُ } بتاء الخطاب، للرسول ،أو للناظر. {نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ }، نصباً. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب والزعفراني: تعرف مبنياً للمفعول، نضرةرفعاً؛ وزيد بن عليّ: كذلك، إلا أنه قرأ: يعرف بالياء، إذ تأنيث نضرة مجازي؛ والنضرة تقدّم شرحها في قوله: { نَضْرَةً وَسُرُوراً } . {مَّخْتُومٍ }، الظاهر أن الرحيق ختم عليه تهمماً وتنظفاً بالرائحة المسكية، كما فسره ما بعده. وقيل: تختم أوانيهمن الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة. وقرأ الجمهور: {خِتَـٰمُهُ }: أي خلطه ومزاجه، قاله عبد الله وعلقمة. وقال ابن عباسوابن جبير والحسن: معناه خاتمته، أي يجد الرائحة عند خاتمة الشراب، رائحة المسك. وقال أبو عليّ: أي إبزاره المقطع وذكاءالرائحة مع طيب الطعم. وقيل: يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك. وفي الصحاح: الختام: الطين الذي يختم به، وكذا قال مجاهدوابن زيد: ختم إناؤه بالمسك بدل الطين، وقال الشاعر:

كأن مشعشعاً من خمر بصرى     نمته البحث مشدود الختام

وقرأ عليّ والنخعي والضحاك وزيد بن عليّ: وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي: خاتمه، بعد الخاءألف وفتح التاء، وهذه بينة المعنى، إنه يراد بها الطبع على الرحيق. وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عنالكسائي: كسر التاء، أي آخره مثل قوله: { وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيّينَ } ، وفيه حذف، أي خاتم رائحته المسك؛ أو خاتمه الذي يختمبه ويقطع. {مِن تَسْنِيمٍ }، قال عبد الله وابن عباس: هو أشرف شراب الجنة، وهو اسم مذكر لماء عين فيالجنة. وقال الزمخشري: {تَسْنِيمٍ }: علم لعين بعينها، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه. و{عَيْناً } نصب علىالمدح. وقال الزجاج: على الحال. انتهى. وقال الأخفش: يسقون عيناً، {يَشْرَبُ بِهَا }: أي يشربها أو منها، أو ضمن يشربمعنى يروى بها أقوال. {ٱلْمُقَرَّبُونَ }، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح: يشربها المقربون صرفاً ويمزج للأبرار. ومذهبالجمهور: الأبرار هم أصحاب اليمين، وأن المقرّبين هم السابقون. وقال قوم: الأبرار والمقرّبون في هذه الآية بمعنى واحد يقع لكلمن نعم في الجنة. وروي أن علياً وجمعاً معه من المؤمنين مروا بجمع من كفار قريش، فضحكوا منهم واستخفوابهم عبثاً، فنزلت: {إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ }، قبل أن يصل عليّ رضي الله تعالى عنه إلى الرسول صلى الله عليهوسلم، وكفار مكة هؤلاء قيل هم: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل؛ والمؤمنون: عمار، وصهيب، وخباب، وبلال، وغيرهممن فقراء المؤمنين. والظاهر أن الضمير في {مَرُّواْ } عائد على {ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ }، إذ في ذلك تناسق الضمائر لواحد.وقيل: للمؤمنين، أي وإذا مرّ المؤمنون بالكافرين يتغامز الكافرون، أي يشيرون بأعينهم. و{فَكِهِينَ }: أي متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم. وقرأالجمهور: فاكهين بالألف، أي أصحاب فاكهة ومزح وسرور باستخفافهم بأهل الإيمان؛ وأبو رجاء والحسن وعكرمة وأبو جعفر وحفص: بغير ألف،والضمير المرفوع في {رَأَوْهُمْ }عائد على المجرمين، أي إذا رأوا المؤمنين نسبوهم إلى الضلال، وهم محقون في نسبتهم إليه.{وَمَا أُرْسِلُواْ } على الكفار، {حَـٰفِظِينَ }. وفي الإشارة إليهم بأنهم ضالون إثارة للكلام بينهم. وكان في الآية بعض موادعة،أي إن المؤمنين لم يرسلوا حافظين على الكفار، وهذا على القول بأن هذا منسوخ بآية السيف. وقال الزمخشري: وإنهم لميرسلوا عليهم حافظين، إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإسلام، وجدهم في ذلك. ولما تقدّم ذكر يوم القيامة قيل:{فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }، واليوم منصوب بيضحكون منهم في الآخرة، وينظرون حال من الضمير في يضحكون، أي يضحكون ناظرين إليهموإلى ما هم فيه من الهوان والعذاب بعد العزة والنعيم. وقال كعب لأهل الجنة: كوى ينظرون منها إلى أهل النار.وقيل: ستر شفاف بينهم يرون منه حالهم. {هَلْ ثُوّبَ }: أي هل جوزي؟ يقال: ثوبه وأثابه إذا جازاه، ومنه قولالشاعر:

سأجزيك أو يجزيك عني مثوب     وحسبك أن يثني عليك وتحمد

وهو استفهام بمعنىالتقرير للمؤمنين، أي هل جوزوا بها؟ وقيل: {هَلْ ثُوّبَ } متعلق بينظرون، وينظرون معلق بالجملة في موضع نصب بعد إسقاطحرف الجر الذي هو إلى. وقرأ الجمهور: {هَلْ ثُوّبَ } بإظهار لام هل؛ والنحويان وحمزة وابن محيصن: بإدغامها في الثاء؛وفي قوله: {مَا كَانُواْ } حذف تقديره جزاء أو عقاب: {مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }.