تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الفتح
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } * { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } * { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } * { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } * { لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } * { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } * { وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } * { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } * { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } * { سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } * { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } * { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً } * { وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَتِ وَٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } * { سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ ٱللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } * { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } * { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } * { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } * { وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } * { وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } * { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } * { سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } * { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } * { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } * { إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } * { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } * { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } * { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } ظفر بالشيء: غلب عليه، وأظفره: غلبه. المعرة: المكروه والمشقة اللاصقة، مأخوذ من العروالعرة، وهو الجرب الصعب اللازم. قال الشاعر:
كـذي العـرّ يكـوى غيـره وهـو راتـع |
الشطء: الفراخ، أشطأ الزرع: أفرخ، والشجرة: أخرجتغصونها. آزر: ساوى طولاً. قال الشاعر:
بمحنية قد آزر الضال نبتها | بجر جيوش غانمين وخيب |
أي ساوى نبتها الضال طولاً، وهو شجر، ووزنه أفعل لقولهم في المضارع: يوزر. {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً* لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراًعَزِيزاً * هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَكَانَٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * لّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَٱللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً }. هذه السورة مدنية، وعن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة، ولعل بعضاً منها نزل، والصحيحأنها نزلت بطريق منصرفه ﷺ من الحديبية، سنة ست من الهجرة، فهي تعد في المدني. ومناسبتها لماقبلها أنه تقدم: { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } الآية، وهي خطاب لكفار قريش، أخبر رسوله بالفتح العظيم، وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال،وآمن كل من كان بها، وصارت مكة دار إيمان. ولما قفل رسول الله ﷺ من صلح الحديبية،تكلم المنافقون وقالوا: لو كان محمد نبياً ودينه حق، ما صد عن البيت، ولكان فتح مكة. فأكذبهم الله تعالى، وأضافعز وجل الفتح إلى نفسه، إشعاراً بأنه من عند الله، لا بكثرة عدد ولا عدد، وأكده بالمصدر، ووصفه بأنه مبين،مظهر لما تضمنه من النصر والتأييد. والظاهر أن هذا الفتح هو فتح مكة. وقال الكلبي، وجماعة: وهو المناسب لآخر السورةالتي قبل هذه لما قال: { هَاأَنتُمْ هَـؤُلاَء تُدْعَوْنَ } الآية، بين أنه فتح لهم مكة، وغنموا وحصل لهم أضعاف ماأنفقوا؛ ولو بخلوا، لضاع عليهم ذلك، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم. وأيضاً لما قال: { وَأَنتُمُ ٱلاْعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ } ،بين برهانه بفتح مكة، فإنهم كانوا هم الأعليين. وأيضاً لما قال: { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى ٱلسَّلْمِ } ، كان فتح مكة حيثلم يلحقهم وهن، ولادعوا إلى صلح، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين. وكانت هذه البشرى بلفظ الماضي، وإن كانلم يقع، لأن إخباره تعالى بذلك لا بد من وقوعه، وكون هذا الفتح هو فتح مكة بدأ به الزمخشري. وقالالجمهور: هو فتح الحديبية؛ وقاله: السدي، والشعبي، والزهري. قال ابن عطية: وهو الصحيح. انتهى. ولم يكن فيه قتال شديد، ولكنترام من القوم بحجارة وسهام. وعن ابن عباس: رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم. وعن الكلبي: ظهروا عليهم حتى سألوه الصلح.قال الشعبي: بلغ الهدى محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس، وأطعموا كل خيبر.وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم، وتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم فيثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام. قال القرطبي: فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكةفي عشرة آلاف. وقال موسى بن عقبة: قال رجل منصرفهم من الحديبية: ما هذا الفتح؟ لقد صدونا عن البيت. فقالرسول الله ﷺ: بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادكم بالراح، ويسألونكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، ورأوا منكم ما كرهوا . وكان في فتحها آية عظيمة وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبقفيها قطرة، فتمضمض رسول الله ﷺ، ثم مجه فيها، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه.وقيل: فجاش الماء حتى امتلأت، ولم ينفد ماؤها بعد. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكون فتحاً، وقد أحصروا فنحرواوحلقوا بالحديبية؟ قلت: كان ذلك قبل الهدنة، فلما طلبوها وتمت كان فتحاً مبنياً. انتهى. وفي هذا الوقت اتفقت بيعة الرضوان،وهو الفتح الأعظم، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب، وفيه استقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً، ولميفتحها إلا أهل الحديبية، ولم يشركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية. وقال مجاهد: هو فتح خيبر. وفي حديث مجمع بنجارية: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا، إذ الناس يهزون الأباعر، فقيل: ما بال الناس؟ قالوا: أوحى الله للنبي صلى الله عليهوسلم، قال: فخرجنا نرجف، فوجدنا النبي ﷺ عند كراع الغميم، فلما اجتمع الناس، قرأ النبي صلى اللهعليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }. قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: أوفتح هو يا رسول الله؟قال: نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح . فقسمت خيبر على أهل الحديبية، ولم يدخل فيها أحد إلا من شهد الحديبية.وقال الضحاك: الفتح: حصول المقصود بغير قتال، وكان الصلح من الفتح، وفتح مكة بغير قتال، فتناول الفتحين: الحديبية ومكة. وقيل:فتح الله تعالى له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كلها، إذ لافتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه. وقيل: قضينا لك قضاءً بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنتوأصحابك من قابل، ليطوفوا بالبيت من الفتاحة، وهي الحكومة، وكذا عن قتادة. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعل فتحمكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهدايةالصراط المستقيم، والنصر العزيز؛ كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجلوالآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث أنه جهاد للعدوّ، وسبب للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحاً،بحرب أو بغير حرب، لأنه منغلق ما لم يظفر، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. انتهى. وقال ابنعطية: المراد هنا: أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك علامة لغفرانه لك، فكأنها صيرورة، ولهذا قال عليه السلام: لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إلييّمن الدنيا . انتهى. ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جازبحال لجاز: ليقوم زيد، في معنى: ليقومّن زيد. انتهى. أما الكسر، فقد علل بأنه شبهت تشبيهاً بلام كي، وأما النصبفله أن يقول: ليس هذا نصباً، لكنها الحركة التي تكون مع وجود النون، بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف، وبعدهذا، فهذا القول ليس بشيء، إذ لا يحفظ من لسانهم: والله ليقوم، ولا بالله ليخرج زيد، بكسر اللام وحذف النون،وبقاء الفعل مفتوحاً. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ }، بإظهارك على عدوّك ورضاه عنك، وبفتح مكة والطائف وخيبر {نَصْراً عَزِيزاً }، أيبالظفر والتمكن من الأعداء بالغنيمة والأسر والقتل نصراً فيه عز ومنعة. وأسندت العزة إليه مجازاً، والعزيز حقيقة هو المنصور صلىالله عليه وسلم. وأعيد لفظ الله في: {وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً }، لما بعد عن ما عطف عليه، إذ في الجملتينقبله ضمير يعود على الله، وليكون المبدأ مسنداً إلى الاسم الظاهر والمنتهى كذلك. ولما كان الغفران وإتمام النعمة والهداية والنصريشترك في إطلاقها الرسول ﷺ وغيره بقوله تعالى: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } ، وقوله: { إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } ؛ وكان الفتح لم يبق لأحد إلا للرسول ﷺ، أسنده تعالى إلى نون العظمة تفخيماًلشأنه، وأسند تلك الأشياء الأربعة إلى الاسم الظاهر، واشتركت الخمسة في الخطاب له ﷺ، تأنيساً له وتعظيماًلشأنه. ولم يأت بالاسم الظاهر، لأن في الإقبال على المخاطب ما لا يكون في الاسم الظاهر. {هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَٱلسَّكِينَةَ }: وهي الطمأنينة والسكون؛ قيل: بسبب الصلح والأمن، فيعرفون فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والهدنة بعد القتال،فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم. وقيل: السكينة إشارة إلى ما جاء به الرسول ﷺ من الشرائع، ليزدادوا إيماناًبها إلى إيمانهم، وهو التوحيد؛ روي معناه عن ابن عباس. وقيل: الوقار والعظمة لله ولرسوله. وقيل: الرحمة ليتراحموا، وقاله ابنعباس. {وَلِلَّهِ جُنُودُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }: إشارة إلى تسليم الأشياء إليه تعالى، ينصر من شاء، وعلى أي وجه شاء،ومن جنده السكينة ثبتت قلوب المؤمنين. {لّيُدْخِلَ }: هذه اللام تتعلق، قيل: بإنا فتحنا لك. وقيل: بقوله: {لِيَزْدَادُواْ }. فإنقيل: {وَيُعَذّبَ } عطف عليه، والازدياد لا يكون سبباً لتعذيب الكفار، أجيب عن هذا بأنه ذكر لكونه مقصوداً للمؤمن، كأنهقيل: بسبب ازديادكم في الأيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا. وقيل: بقوله: {وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ }: أي بالمؤمنين. وهذهالأقوال فيها بعد. وقال الزمخشري: {وَلِلَّهِ جُنُودُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }، يسلط بعضها على بعض، كما يقتضيه علمه وحكمته. ومنقضيته أن صلح قلوب المؤمنين بصلح الحديبية، وإن وعدهم أن يفتح لهم، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيهويشكرون، فيستحقوا الثواب، فيثيبهم، ويعذب الكافرين والمنافقين، لما غاظهم من ذلك وكرهوه. انتهى. ولا يظهر من كلامه هذا ما تتعلقبه اللام؛ والذي يظهر أنها تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام، وذلك أنه قال: {وَلِلَّهِ جُنُودُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }. كانفي ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي يتلك الجنود من شاء، فيقبل الخير من قضى له بالخير، والشر من قضىله بالشر. {لّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } جنات، ويعذب الكفار. فاللام تتعلق بيبتلي هذه، وما تعلق بالابتلاء من قبول الإيمان والكفر. {وَيُكَفّرْ}: معطوف على ليدخل، وهو ترتيب في الذكر لا ترتيب في الوقوع. وكان التبشير بدخول الجنة أهم، فبدىء به. ولماكان المنافقون أكثر ضرراً على المسلمين من المشركين، بدىء بذكرهم في التعذيب. {ٱلظَّانّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْء }: الظاهر أنهمصدر أضيف إلى ما يسوء المؤمنين، وهو أن المشركين يستأصلونهم ولا ينصرون، ويدل عليه: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ٱلسَّوْء }، و { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً } . وقيل: {ظَنَّ ٱلسَّوْء }: ما يسوء المشركين من إيصال الهموم إليهم، بسببعلو كلمة الله، وتسليط رسوله قتلاً وأسراً ونهباً. ثم أخبر أنهم يستعلي عليهم السوء ويحيط بهم، فاحتمل أن يكون خبراًحقيقة، واحتمل أن يكون هو وما بعده دعاء عليهم. وتقدم الكلام على هذه الجملة في سورة براءة. وقيل: {ظَنَّ ٱلسَّوْء} يشمل ظنونهم الفاسد من الشرك، كما قال: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } ، ومن انتفاء رؤية الله تعالى الأشياء وعلمهبها كما قال: { وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً } بطلان خلق العالم، كما قال: { ذٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } . وقيل: السوء هنا كما تقول: هذا فعل سوء. وقرأ الحسن: السوء فيهما بضم السين. {وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}: لما تقدم تعذيب الكفار والانتقام منهم، ناسب ذكر العزة. ولما وعد تعالى بمغيبات، ناسب ذكر العلم، وقرن باللفظتين ذكرجنود السموات والأرض؛ فمنها السكينة التي للمؤمنين والنقمة للمنافقين والمشركين، ومن جنود الله الملائكة في السماء، والغزاة في سبيل اللهفي الأرض. وقرأ الجمهور: {لّتُؤْمِنُواْ }، وما عطف عليه بتاء الخطاب؛ وأبو جعفر، وأبو حيوة، وابن كثير، وأبو عمرو: بياءالغيبة؛ والجحدري: بفتح التاء وضم الزاي خفيف؛ وهو أيضاً، وجعفر بن محمد كذلك، إلا أنهم كسروا الزاي؛ وابن عباس، واليماني:بزاءين من العزة؛ وتقدم الكلام في وعزّروه في الأعراف. والظاهر أن الضمائر عائدة على الله تعالى، وتفريق الضمائر يجعلها للرسولﷺ، وبعضها لله تعالى، حيث يليق قول الضحاك. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً }، قال ابن عباس: صلاة الفجر وصلاةالظهر والعصر. {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ }: هي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة، حين أخذ الرسول ﷺ الأهبةلقتال قريش، حين أرجف بقتل عثمان بن عفان، فقد بعثه إلى قريش يعلمهم أنه جاء معتمراً لا محارباً، وذلك قبلأن ينصرف من الحديبية، بايعهم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد، ولذلك قال سلمة بن الأكوع وغيره:بايعنا على الموت. وقال ابن عمر، وجابر: على أن لا نفر. والمبايعة: مفاعلة من البيع، { لأِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } ، وبقي اسم البيعة بعد على معاهدة الخلفاء والملوك. {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } أي صفقتهم،إنما يمضيها ويمنح الثمن الله عز وجل. وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب: إنما يبايعون لله، أي لأجل اللهولوجهه؛ والمفعول محذوف، أي إنما يبايعونك لله. {يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }. قال الجمهور: اليد هما النعمة، أي نعمةالله في هذه المبايعة، لما يستقبل من محاسنها، فوق أيديهم التي مدوها لبيعتك. وقيل: قوة الله فوق قواهم في نصركونصرهم. وقال الزمخشري: لما قال: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }، أكد تأكيداً على طريقة التخييل فقال: {يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }،يريد أن يد رسول الله ﷺ التي تعلو يدي المبايعين، هي يد الله، والله تعالى منزه عنالجوارح وعن صفات الأجسام. وإنما المعنى: تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول ﷺ كعقده مع الله تعالىمن غير تفاوت بينهما، كقوله تعالى: { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } ، و{مِنْ * نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ }،فلا يعود ضرر نكثه إلا على نفسه. انتهى. وقرأ زيد بن علي: ينكث، بكسر الكاف. وقال جابر بن عبد الله:ما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس، زكان منافقاً، اختبأ تحت إبط بعيره، ولم يسر مع القوم فحرم.وقرأ الجمهور: {عَلَيْهِ ٱللَّهَ }: بنصب الهاء. وقرىء: بما عهد ثلاثياً. وقرأ الحميدي: {فَسَيُؤْتِيهِ }؛ بالياء؛ والحرميان، وابن عامر، وزيدبن علي: بالنون. {أَجْراً عَظِيماً }: وهي الجنة، وأو في لغة تهامه، قوله عز وجل: {سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَٱلاْعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ }. قال مجاهد وغيره:ودخل كلام بعضهم في بعض. {ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلاْعْرَابِ }: هم جهينة، ومزينة، وغفار، وأشجع، والديل، وأسلم. استنفرهم رسول الله صلىالله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً، ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب،أو يصدوه عن البيت؛ وأحرم هو ﷺ، وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حرباً، ورأى أولئكالأعراب أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل والمجاورين بمكة، وهو الأحابيش؛ ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم،فقعدوا عن النبي ﷺ، وتخلفوا وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله عزوجل في هذه الآية، وأعلم رسوله ﷺ بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، فكان كذلك. {شَغَلَتْنَاأَمْوٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا }: وهذا اعتلال منهم عن تخلفهم، أي لم يكن لهم من يقوم بحفظ أموالهم وأهليهم غيرهم،وبدؤا بذكر الأموال، لأن بها قوام العيشذ؛ وعطفوا الأهل، لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال. وقرىء:شغلتنا، بتشديد الغين، حكاه الكسائي، وهي قراءة إبراهيم بن نوح بن باذان، عن قتيبة. ولما علموا أن ذلك التخلف عنالرسول كان معصية، سألوا أن يستغفر لهم. {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ }: الظاهر أنه راجع إلى الجملتين المقولتينمن الشغل وطلب الاستغفار، لأن قولهم: شغلتنا، كذب؛ وطلب الاستغفار: خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون. وقال الطبري: هو راجعإلى قولهم: فاستغفر لنا، يريد أنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم. {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ }: أيمن يمنعكم من قضاء الله؟ {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً }: من قتل أو هزيمة، {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً }، منظفر وغنيمة؟ أي هو تعالى المتصرف فيكم، وليس حفظكم أموالكم وأهليكم بمانع من ضياعها إذا أراده الله تعالى. وقرأ الجمهور:ضراً، بفتح الضاد؛ والإخوان: بضمها، وهما لغتان. ثم بين تعالى لهم العلة في تخلفهم، وهي ظنهم أن الرسول عليه الصلاةوالسلام وأصحابه لا يرجعون إلى أهليهم. وتقدم الكلام على أهل، وكيف جمع بالواو والنون في قوله: { مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } .وقرأ عبد الله: إلى أهلهم، بغير ياء؛ وزين، قراءة الجمهور مبنياً للمفعول، والفاعل هو الله تعالى. وقيل غيره ممن نسبإليه التزيين مجازاً. وقرىء: وزين مبنياً للفاعل. {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْء }: احتمل أن يكون هو الظن السابق، وهو ظنهم أنلا ينقلبوا، ويكون قد ساءهم ذلك الظن وأحزنهم حيث أخلف ظنهم. ويحتمل أن يكون غيره لأجل العطف، أي ظننتم أنهتعالى يخلف وعده في نصر دينه وإعزاز رسوله ﷺ. {بُوراً }: هلكى، والظاهر أنه مصدر كالهلك، ولذلكوصف به المفرد المذكر، كقول ابن الزبعري:
يا رسول المليك إن لساني | راتق ما فتقت إذ أنا بور |
والمؤنث، حكى أبو عبيدة: امرأة بور، والمثنى والمجموع. وقيل: يجوز أن يكون جمع بائر، كحائل، وحول هذا فيالمعتل، وباذل وبذل في الصحيح، وفسر بوراً: بفاسدين هلكى. وقال ابن بحر: أشرار. واحتمل وكنتم، أي يكون المعنى: وصرتم بذلكالظن، وأن يكون وكنتم على بابها، أي وكنتم في الأصل قوماً فاسدين، أي الهلاك سابق لكم على ذلك الظن. ولماأخبر تعالى أنهم قوم بور، ذكر ما يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين فقال: {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }، فهوكافر جزاؤه السعير. ولما كانوا ليسوا مجاهدين بالكفر، ولذلك اعتذروا وطلبوا الاستغفار، مزج وعيدهم وتوبيخهم ببعض الإمهال والترجئة. وقال الزمخشري:{وَللَّهِ مُلْكُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }، يدبره تدبير قادر حكيم، فيغفر ويعذب بمشيئته، ومشيئته تابعة لحكمته، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيبالمصر. {وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }، رحمته سابقة لرحمته، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر بالتوبة. انتهى. وهو على مذهب الاعتزال.{سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ }: روي أن الله تعالى أمر نبيه ﷺ يغزو خيبر، ووعده بفتحها، وأعلمه أنالمخلفين إذا رأوا مسيره إلى خيبر، وهم عدو مستضعف، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا من الغنيمة، وكان كذلك.{يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ }: معناه أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم منمغانم مكة خيبر، إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منها شيئاً، قاله مجاهد وقتادة، وعليه عامة أهل التأويل. وقال ابن زيد:{كَلاَمَ ٱللَّهِ }: قوله تعالى: { قُل لَّن * تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَـٰتِلُواْ مَعِىَ عَدُوّا } ، وهذا لا يصح، لأنهذه الآية نزلت مرجع رسول الله ﷺ من تبوك في آخر عمره. وهذه السورة نزلت عام الحديبية،وأيضاً فقد غزت مزينة وجهينة بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام، وفضلهم بعد على تميم وغطفان وغيرهم من العرب.وقرأ الجمهور: كلام الله، بألف؛ والإخوان: كلم الله، جمع كلمة، وأمره تعالى أن يقول لهم: {لَّن تَتَّبِعُونَا }، وأتى بصيغةلن، وهي للمبالغة في النفي، أي لا يتم لكم ذلك، إذ قد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها إلا أهلالحديبية فقط. {كَذَلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ }: يريد وعده قبل اختصاصهم بها. {بَلْ تَحْسُدُونَنَا }: أي يعز عليكم أننصيب مغنماً معكم، وذلك على سبيل الحسد أن نقاسمكم فيما تغنمون. وقرأ أبو حيوة: بكسر السين، ثم رد عليهم تعالىكلامهم هذا فقال: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } من أمور الدنيا، وظاهره ليس لهم فكر إلا فيها، كقوله: { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } . والإضراب الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد. والثاني، إضراب عنوصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما هو أطم منه، وهو الجهل وقلة الفقه. {قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلاْعْرَابِ }:أمر تعالى نبيه ﷺ أن يقول لهم ذلك، ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام، ولو لم يكنالأمر كذلك، لم يكونوا أهلاً لذلك الأمر. وأبهم تعالى في قوله: {إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ }. فقال عكرمة، وابنجبير، وقتادة: هم هوازن ومن حارب الرسول ﷺ في حنين. وقال كعب: الروم الذين خرج إليهم عامتبوك، والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة. وقال الزهري، والكلبي: أهل الردة، وبنو حنيفة باليمامة. وعن رافع بن خديج: إناكنا نقرأ هذه الآية فيما مضى، ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، إلى قتالبني حنيفة، فعلمنا أنهم أريدوا بها. وقال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى: همالفرس. وقال الحسن: فارس والروم. وقال أبو هريرة: قوم لم يأتوا بعد. وظاهر الآية يرد هذا القول. والذي أقوله: إنهذه الأقوال تمثيلات من قائليها، لا أن المعنى بذلك ما ذكروا، بل أخبر بذلك مبهماً دلالة على قوة الإسلام وانتشاردعوته، وكذا وقع حسن إسلام تلك الطوائف، وقاتلوا أهل الردة زمان أبي بكر، وكانوا في فتوح البلاد أيام عمر وأيامغيره من الخلفاء. والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية، إذ لم يذكر هنا إلا القتال أوالإسلام. ومذهب أبي حنيفة، رحمه الله تعالى ورضي عنه: أن الجزية لا تقبل من مشركي العرب، ولا من المرتدين، وليسإلا الإسلام أو القتل؛ وتقبل ممن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس. ومذهب الشافعي، رحمه الله تعالى: لا تقبلإلا من أهل الكتاب والمجوس، دون مشركي العجم والعرب. وقال الزمخشري: وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق، رضي اللهتعالى عنه، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول الله ﷺ، ولكن بعد وفاته. انتهى. وهذاليس بصحيح، فقد حضر كثير منهم مع جعفر في موتة، وحضروا حرب هوازن معر رسول الله ﷺ،وحضروا معه في سفرة تبوك. ولا يتم قول الزمخشري: إلا على قول من عين أنهم أهل الردة. وقرأ الجمهور: أويسلمون، مرفوعاً؛ وأبي، وزيد بن علي: بحذف النون منصوباً بإضمار أن في قول الجمهور من البصريين غير الجرمي، وبها فيقول الجرمي والكسائي، وبالخلاف في قول الفراء وبعض الكوفيين. فعلى قول النصب بإضمار أن هو عطف مصدر مقدر على مصدرمتوهم، أي يكون قتال أو إسلام، أي أحد هذين، ومثله في النصب قول امرىء القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما | نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا |
والرفع على العطف على تقاتلونهم، أو على القطع، أي أوهم يسلمون دون قتال. {فَإِن تُطِيعُواْ }: أي فيما تدعون إليه. {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ }: أي في زمان الخروجمع الرسول ﷺ، في زمان الحديبية. {يُعَذّبُكُم }: يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.{لَّيْسَ عَلَى ٱلاْعْمَىٰ حَرَجٌ }: نفي الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو، ومع ارتفاع الحرج، فجائزلهم الغزو، وأجرهم فيه مضاعف، والأعرج أحرى بالصبر وأن لا يفر. وقد غزا ابن أم مكتوم، وكان أعمى، في بعضحروب القادسية، وكان رضي الله عنه يمسك الراية، فلو حضر المسلمون، فالغرض متوجه بحسب الوسع في الغزو. وقرأ الجمهور: يدخلهويعذبه، بالياء؛ والحسن، وقتادة، وأبو جعفر، والأعرج، وشيبة، وابن عامر، ونافع: بالنون، قوله عز وجل: {لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـٰبَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً }. لما ذكر تعالىحال من تخلف عن السفر مع الرسول ﷺ، ذكر حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه. والآية دالةعلى رضا الله تعالى عنهم، ولذا سميت: بيعة الرضوان؛ وكانوا فيما روي ألفاً وخمسمائة وعشرين. وقال ابن أبي أوفى: وثلاثمائة.وأصل هذه البيعة أن رسول الله ﷺ حين نزل الحديبية، بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاًإلى أهل مكة، وحمله على جمل له يقال له: الثعلب، يعلمهم أنه جاء معتمراً، لا يريد قتالاً. فلما أتاهم وكلمهم،عقروا جمله وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، وبلغ رسول الله ﷺ، فأراد بعث عمر. فقال: قد علمت فظاظتي،وهم يبغضوني، وليس هناك من بني عدي من يحميني، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني وأحب إليهم، عثمان بنعفان. فبعثه، فأخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لحرمته. وكان أبان بن سعيد بن العاصيحين لقيه، نزل عن دابته وحمله عليها وأجاره، فقالت له قريش: إن شئت فطف بالبيت، وأما دخولكم علينا فلا سبيلإليه. فقال: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله ﷺ. وكانت الحديبية من مكةعلى عشرة أميال، فصرخ صارخ من العسكر: قتل عثمان، فحمى رسول الله ﷺ والمؤمنون وقالو: لا نبرحإن كان هذا حتى نلقى القوم. فنادى منادي رسول الله ﷺ: البيعة البيعة، فنزل روح القدس، فبايعواكلهم إلا الجد بن قيس المنافق. وقال الشعبي: أول من بايع أبو سنان بن وهب الأسدي، والعامل في إذ رضي.والرضا على هذا بمعنى إظهار النعم عليهم، فهو صفة فعل، لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت، يحتمل أن يكون معمولاًليبايعونك، أو حالاً من المفعول، لأنه ﷺ كان تحتها جالساً في أصلها. قال عبد الله بن المغفل:وكنت قائماً على رأسه، وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه، فرفعت الغصن عن ظهره. بايعوه على الموت دونه، وعلى أنلا يفروا، فقال لهم: أنتم اليوم خير أهل الأرض . وكانت الشجرة سمرة. قال بكير بن الأشجع: يوم فتح مكة. قالنافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة يصلون عندها، فبلغ عمر، فأمر بقطعها. وكانت هذه البيعة سنة ست من الهجرة. وفيالحديث عنه ﷺ: لا يدخل النار من شهد بيعة الرضوان . {فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ }، قالقتادة، وابن جريج: من الرضا بالبيعة أن لا يفروا. وقال الفراء: من الصدق والوفاء. وقال الطبري، ومنذر بن سعيد: منالإيمان وصحته، والحب في الدين والحرص عليه. وقيل: من الهم والانصراف عن المشركين، والأنفة من ذلك، على نحو ما خاطببه عمر وغيره؛ وهذا قول حسن يترتب معه نزول السكينة والتعريض بالفتح القريب. والسكينة تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر اللهتعالى، وعلى الأقوال السابقة قيل هذا القول، لا يظهر احتياج إلى إنزال السكينة إلا أن يجازي بالسكينة والفتح القريب والمغانم.وقال مقاتل: فعلم ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت، {فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } حتىبايعوا. قال ابن عطية: وهذا فيه مذمة للصحابة، رضي الله تعالى عنهم. انتهى. {وَأَثَـٰبَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } قال قتادة،وابن أبي ليلى: فتح خيبر، وكان عقب انصرافهم من مكة. وقال الحسن: فتح هجر، وهو أجل فتح اتسعوا بثمرها زمناًطويلاً. وقيل: فتح مكة والقرب أمر نسبي، لكن فتح خيبر كان أقرب. وقرأ الحسن، ونوح القارىء: وآتاهم، أي أعطاهم؛ والجمهور:وأثابهم من الثواب. {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً }: أي مغانم خيبر، وكانت أرضاً: ذات عقار وأموال، فقسمها عليهم. وقيل: مغانم هجر. وقيل:مغانم فارس والروم. وقرأ الجمهور: يأخذونها بالياء على الغيبة في وأثابهم، وما قبله من ضمير الغيبة. وقرأ الأعمش، وطلحة، ورويسعن يعقوب، ودلبة عن يونس عن ورش، وأبو دحية، وسقلاب عن نافع، والأنطاكي عن أبي جعفر: بالتاء على الخطاب. كماجاء بعد {وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً } بالخطاب. وهذه المغانم الموعود بها هي المغانم التي كانت بعد هذه، وتكون إلىيوم القيامة، قاله ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين. ولقد اتسع نطاق الإسلام، وفتح المسلمون فتوحاً لا تحصى، وغنموا مغانملا تعد، وذلك في شرق البلاد وغربها، حتى في بلاد الهند، وفي بلاد السودان في عصرنا هذا. وقدم علينا حاجاًأحد ملوك غانة من بلاد التكرور، وذكر عنه أنه استفتح أزيد من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان، وأسلموا، وقدمعلينا ببعض ملوكهم يحج معه. وقيل: الخطاب لأهل البيعة، وأنهم سيغنمون مغانم كثيرة. وقال زيد بن أسلم وابنه: المغانم الكثيرةمغانم خيبر؛ {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ }: الإشارة بهذه إلى البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح، قاله ابن عباس وزيد بنأسلم وابنه. وقال مجاهد: مغانم خيبر. {وَكَفَّ أَيْدِىَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ }: أي أهل مكة بالصلح. وقال ابن عباس عيينةبن حصن الفزاري، وعوف بن مالك النضري، ومن كان معهم: إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر، والرسول عليه الصلاة والسلام محاصرلهم، فجعل الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين. وقال ابن عباس أيضاً: أسد وغطفان حلفاء خيبر. وقال الطبري: كفاليهود عن المدينة بعد خروج الرسول ﷺ إلى الحديبية وإلى خيبر. {وَلِتَكُونَ }: أي هذه الكفة آيةللمؤمنين، وعلامة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم. وقيل: رأى رسول الله صلى اللهعليه وسلم فتح مكة في منامه، ورؤيا الأنبياء حق، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل فتح خيبر علامة وعنواناً لفتحمكة، فيكون الضمير في ولتكون عائداً على هذه، وهي مغانم خيبر، والواو في ولتكون زائدة عند الكوفيين وعاطفة على محذوفعند غيرهم، أي ليشكروه ولتكون، أو وعد فعجل وكف لينفعكم بها ولتكون، أو يتأخر، أو يقدر ما يتعلق به متأخراً،أي فعل ذلك. {وَيَهْدِيَكُمْ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً }: أي طريق التوكل وتفويض الأمور إليه. وقيل: بصيرة واتقاناً. {وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْعَلَيْهَا }، قال ابن عباس، والحسن، ومقاتل: بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون. وقال الضحاك، وابن زيد، وابن اسحاق: خيبر.وقال قتادة، والحسن: مكة، وهذا القول يتسق معه المعنى ويتأيد. وفي قوله: {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } دلالة على تقدم محاولةلها، وفوات درك المطلوب في الحال، كما كان في مكة. وقال الزمخشري: هي مغانم هوازن في غزوة حنين. وقال: {لَمْتَقْدِرُواْ عَلَيْهَا }، لما كان فيها من الجولة، وجوز الزمخشري في: {وَأُخْرَىٰ }، أن تكون مجرورة بإضمار رب، وهذا فيهغرابة، لأن رب لم تأت في القرآن جارة، مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب، فكيف يؤتى بها مضمرة؟ وإنمايظهر أن {وَأُخْرَىٰ } مرفوع بالابتداء، فقد وصفت بالجملة بعدها، وقد أحاط هو الخبر. ويجوز أن تكون في موضع نصببمضمر يفسره معنى {قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا }: أي وقضى الله أخرى. وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين ومعنى {قَدْ أَحَاطَٱللَّهُ بِهَا } بالقدرة والقهر لأهلها، أي قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها. {وَلَوْقَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ }: هذا ينبني على الخلاف في قوله تعالى: {وَكَفَّ أَيْدِىَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ }، أهم مشركو مكة، أوناصروا أهل خيبر، أو اليهود؟ {لَوَلَّوُاْ ٱلاْدْبَـٰرَ }: أي لغلبوا وانهزموا. {سُنَّةَ ٱللَّهِ }: في موضع المصدر المؤكد لمضمون الجملةقبله، أي سن الله عليه أنبياءه سنة، وهو قوله: { لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } . {وَهُوَ ٱلَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ }: أي قضىبينكم المكافة والمحاجزة، بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة. وروي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها، وجعلوهم مع عكرمةبن أبي جهل، وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله ﷺ. فلما أحس بهم المسلمون، بعث عليهالصلاة والسلام خالد بن الوليد، وسماه حينئذ سيف الله، في جملة من الناس، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة، وأسروامنهم جملة، وسيقوا إلى الرسول ﷺ، فمنّ عليهم وأطلقهم. وقال قتادة: كان ذلك بالحديبية عند معسكر، وهوببطن مكة. وعن أنس: هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة على رسول الله ﷺ من جبل التنعيممسلحين يريدون غرته، فأخذناهم فاستحياهم. وفي حديث عبد الله بن معقل أن رسول الله ﷺ دعا عليهم،فأخذ الله أبصارهم، فقال لهم: هل جئتم في عهد؟ وهل جعل لكم أحد أماناً ؟ قالوا: اللهم لا، فخلي سبيلهم. وقالالزمخشري كان يعني هذا الكف يوم الفتح، وبه استشهد أبو حنيفة، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً. وقيل: كانذلك في غزوة الحديبية، لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة، فبعث رسول الله صلى الله عليهوسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة. وعن ابن عباس: أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت. انتهى. وقرأ الجمهور:بما تعملون، على الخطاب؛ وأبو عمرو: بالياء، وهو تهديد للكفار. {هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }: يعني أهل مكة. قال ابنخالوية: يقال الهدي والهدى والهداء، ثلاث لغات. انتهى. وقرأ الجمهور: الهدي، بسكون الدال، وهي لغة قريش؛ وابن هرمز، والحسن، وعصمةعن عاصم، واللؤلؤي، وخارجة عن أبي عمرو: والهدي، بكسر الدال وتشديد الياء، وهما لغتان، وهو معطوف على الضمير في صدّوكم؛ومعكوفاً: حال، أي محبوساً. عكفت الرجل عن حاجته: حبسته عنها. وأنكر أبو عليّ تعدية عكف، وحكاه ابن سيدة والأزهري وغيرهما.وهذا الحبس يجوز أن يكون من المشركين بصدهم، أو من جهة المسلمين لتردّدهم ونظرهم في أمرهم. وقرأ الجعفي، عن أبيعمرو: والهدي، بالجر معطوفاً على المسجد الحرام: أي وعن نحر الهدي. وقرأ: بالرفع على إضمار وصد الهدي، وكان خرج عليهومعه مائة بدنة، قاله مقاتل. وقيل: بسبعين، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت البدنة عن عشرة، قاله المسور بن مخرمة وأبيّبن الحكم. {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ }، قال الشافعي: الحرم، وبه استدل أبو حنيفة أن محل هدي المحصر الحرم، لاحيث أحصر. وقال الفراء: حيث يحل نحره، و{أَن يَبْلُغَ }: يحتمل أن يتعلق بالصد، أي وصدوا الهدى، وذلك على أنيكون بدل اشتمال، أي وصدوا بلوغ الهدي محله، أو على أنه مفعول من أجله، أي كراهة أن يبلغ محله. ويحتملأن يتعلق بمعكوفاً، أي محبوساً لأجل أن يبلغ محله، فيكون مفعولاً من أجله، ويكون الحبس من المسلمين. أو محبوساً عنأن يبلغ محله، فيكون الحبس من المشركين، وكان بمكة قوم من المسلمين مختلطين بالمشركين، غير متميزين عنهم، ولا معروفي الأماكن؛فقال تعالى: ولولا كراهة أن يهلكوا أناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين لهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، ماكف أيديكم عنهم؛ وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون: {لَوْ تَزَيَّلُواْ }، كالتكرير للولا رجالمؤمنون، لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون: {لَعَذَّبْنَا }، هو الجواب. انتهى. وقوله: لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح، لأن ماتعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية. فالمعنى في الأولى: ولولا وطء قوم مؤمنين، والمعنى في الثانية: لوتميزوا من الكفار؛ وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة. و{ءانٍ }: بدل اشتمال من رجال وما بعده. وقيل: بدل منالضمير في {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ }، أي لم تعلموا وطأتهم، أي أنه وطء مؤمنين. وهذا فيه بعد. والوطء: الدوس، وعبر بهعن الإهلاك بالسيف وغيره. قال الشاعر:
ووطئتنا وطأ على حنق | وطء المقيد ثابت الهرم |
وفي الحديث: اللهم اشدد وطأتك على مضر . و{لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ }: صفة لرجال ونساء غلب فيها المذكر؛ والمعنى: لمتعرفوا أعيانهم وأنهم مؤمنون. وقال ابن زيد: المعرة: المأثم. وقال ابن إسحاق: الدية. وقال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأنه لاإثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب. وقال الطبري: هي الكفارة. وقال القاضي منذر بن سعيد:المعرة: أن يعنفهم الكفار، ويقولون قتلوا أهل دينهم. وقيل: الملامة وتألم النفس منه في باقي الزمن. ولفق الزمخشري من هذهالأقوال سؤالاً وجواباً على عادته في تلفق كلامه من أقوالهم وإيهامه أنها سؤالات وأجوبة له فقال: فإن قلت: أي معرةتصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون؟ قلت: يصيبهم وجوب الدية والكفارة، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوابنا من غير تمييز، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. انتهى. {بِغَيْرِ عِلْمٍ }: أخبار عن الصحابة وعن صفتهمالكريمة من العفة عن المعصية والامتناع من التعدى حتى أنهم لو أصابوا من ذلك أحداً لكان من غير قصد، كقولالنملة عن جند سليمان: { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } . وبغير علم متعلق بأن تطؤهم. وقيل: متعلق بقوله: {فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ } منالذين بعدكم ممن يعتب عليكم. وقرأ الجمهور: لو تزيلوا؛ وابن أبي عبلة، وابن مقسم، وأبو حيوة، وابن عون: لو تزايلوا،على وزن تفاعلوا، ليدخل متعلق بمحذوف دل عليه المعنى، أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة، وانتفاء العذاب. {لّيُدْخِلَ ٱللَّهُفِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء }: وهذا المحذوف هو مفهوم من جواب لو، ومعنى تزيلوا: لو ذهبوا عن مكة، أي لوتزيل المؤمنون من الكفار وتفرقوا منهم، ويجوز أن يكون الضمير للمؤمنين والكفار، أي لو افترق بعضهم من بعض. {إِذْ جَعَلَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ }: إذ معمول لعذبنا، أو لو صدوكم، أو لا ذكر مضمرة. والحمية: الأنفة،يقال: حميت عن كذا حمية، إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله، قال المتلمس:
إلا أنني منهم وعرضي عرضهم | كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما |
وقال الزهري: حميتهم: أنفتهم عن الإقرار لرسول الله ﷺ بالرسالةوالاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو. وقال ابن بحر: حميتهم: عصبيتهم لآلهتهم، والأنفة:أن يعبدوا وغيرها. وقيل: قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبداً؛ وكانت حمية جاهليةلأنها بغير حجة وفي غير موضعها، وإنما ذلك محض تعصب لأنه ﷺ إنما جاء معظماً للبيت لايريد حرباً، فهم في ذلك كما قال الشاعر في حمية الجاهلية:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت | غوين وإن ترشد غزية أرشد |
وحمية: بدل من الحمية والسكينة الوقار والاطمئنان، فتوقروا وحلموا؛ و{كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ }: لا إله إلا الله. رويذلك عن النبي ﷺ، وبه قال علي، وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن ميمون، وقتادة، ومجاهد، وعكرمة،والضحاك، وسلمة بن كهيل، وعبيد بن عمير، وطلحة بن مصرف، والربيع، والسدي، وابن زيد. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهدأيضاً: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وقالعلي بن أبي طالب، وابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: لا إله إلا الله، والله أكبر. وقال أبو هريرة، وعطاءالخراساني: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ﷺ، وأضيفت الكلمة إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها.وقيل: هو على حذف مضاف، أي كلمة أهل التقوى. وقال المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم: كلمة التقوى هنا هيبسم الله الرحمن الرحيم، وهي التي أباها كفار قريش، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم أحق بها. وقيل: قولهم سمعاً وطاعة. والظاهرأن الضمير في: {وَكَانُواْ } عائد على المؤمنين، والمفضل عليهم محذوف، أي {أَحَقَّ بِهَا } من كفار مكة، لأن اللهتعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه ﷺ. وقيل: من اليهود والنصارى، وهذه الأحقية هي في الدنيا. وقيل: أحقبها في علم الله تعالى. وقيل: {وَأَهْلُهَا } في الآخرة بالثواب. وقيل: الضمير في وكانوا عائد على كفار مكة لأنهمأهل حرم الله، ومنهم رسوله لولا ما سلبوا من التوفيق. {وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً }، إشارة إلى علمهتعالى بالمؤمنين ورفع الكفار عنهم، وإلى علمه بصلح الكفار في الحديبية، إذ كان سبباً لامتزاج العرب وإسلام كثير منهم، وعلوكلمة الإسلام؛ وكانوا عام الحديبية ألفاً وأربعمائة، وبعده بعامين ساروا إلى مكة بعشرة آلاف. وقال أبو عبد الله الرازي:في هذه الآية لطائف معنوية، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن. باين بين الفاعلين، إذ فاعل جعلهو الكفار، وفاعل أنزل هو الله تعالى؛ وبين المفعولين، إذ تلك حمية، وهذه سكينة؛ وبين الإضافتين، أضاف الحمية إلى الجاهلية،وأضاف السكينة إلى الله تعالى. وبين الفعل جعل وأنزل؛ فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى، والسكينة كالمحفوظفي خزانة الرحمة فأنزلها. والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحاً بالإضافة إلى الجاهلية، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسناًبإضافتها إلى الله تعالى. والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة، تقول: أكرمني فأكرمته، فدلت على المجازاة للمقابلة،ولذلك جعل فأنزل. ولما كان الرسول ﷺ هو الذي أجاب أولاً إلى الصلح، وكان المؤمنون عازمين علىالقتال، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر، وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسولالله ﷺ وباسم الله، قال تعالى: {عَلَىٰ رَسُولِهِ }. ولما سكن هو ﷺ للصلح،سكن المؤمنون، فقال: {وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }. ولما كان المؤمنون عند الله تعالى، ألزموا تلك الكلمة، قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ } ، وفيه تلخيص، وهو كلام حسن. قوله عز وجل: {لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَإِن شَاء ٱللَّهُ ءامِنِينَ مُحَلّقِينَ * رُءوسَكُمْ *وَمُقَصّرِينَ لاَ تَخَـٰفُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً* هُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَمَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـٰهُمْ }. رأى رسول اللهﷺ قبل خروجه إلي الحديبية. وقال مجاهد: كانت الرؤيا بالحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين، وقد حلقواوقصروا. فقص الرؤيا على أصحابه، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم، وقالوا: إن رؤيا رسول الله صلى الله عليهوسلم حق. فلما تأخر ذلك، قال عبد الله أبيّ، وعبد الله بن نفيل، ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا ولاقصرنا ولا رأينا المسجد الحرام. فنزلت. وروي أن رؤياه كانت: أن ملكاً جاءه فقال له: {لَتَدْخُلُنَّ }. ومعنى {صَدَقَ ٱللَّهُ}: لم يكذبه، والله تعالى منزه عن الكذب وعن كل قبيح. وصدق يتعدى إلى اثنين، الثاني بنفسه وبحرف الجر. تقول:صدقت زيداً الحديث، وصدقته في الحديث؛ وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر. وقال الزمخشري: فحذف الجار وأوصل الفعل لقولهتعالى: { صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } . انتهى. فدل كلامه على أن أصله حرف الجر. وبالحق متعلق بمحذوف، أي صدقاً ملتبساًبالحق. {لَتَدْخُلُنَّ }: اللام جواب قسم محذوف، ويبعد قول من جعله جواب بالحق؛ وبالحق قسم لا تعلق له بصدق، وتعليقهعلى المشيئة، قيل: لأنه حكاية قول الملك للرسول ﷺ، قاله ابن كيسان. وقيل: هذا التعليق تأدب بآدابالله تعالى، وإن كان الموعود به متحقق الوقوع، حيث قال تعالى: { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } . وقال ثعلب: استثنى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون. وقال الحسن بن الفضل: كأن الله علمأن بعض الذين كانوا بالحديبية يموت، فوقع الاستثناء لهذا المعنى. وقال أبو عبيدة: وقوم إن بمعنى إذ، كما قيل فيقوله: {وَإِنَّا إِن شَاء ٱللَّهُ * بِكُمْ }. وقيل: هو تعليق في قوله: {ٱللَّهُ ءامِنِينَ }، لا لأجل إعلامه بالدخول،فالتعليق مقدم على موضعه. وهذا القول لا يخرج التعليق عن كونه معلقاً على واجب، لأن الدخول والأمن أخبر بهما تعالى،ووقعت الثقة بالأمرين وهما الدخول والأمن الذي هو قيد في الدخول. و{ءامِنِينَ }: حال مقارنة للدخول. ومحلقين ومقصرين: حال مقدرة؛ولا تخافون: بيان لكمال الأمن بعد تمام الحج. ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف، واطمأنتقلوبهم ودخلوها معه عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه، وصدقت رؤياه صلى اللهعليه وسلم. {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ }: أي ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة، ودخول الناس فيه،وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين الذين دفع الله بهم، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: فعلم ما لم تعلموا منالحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل. انتهى. ولم يكن فتح مكة في العالم القابل، إنما كان بعدذلك بأكثر من عام، لأن الفتح إنما كان ثمان من الهجرة. {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ }: أي من قبل ذلك،أي من زمان دون ذلك الزمان الذي وعدوا فيه بالدخول. فتحاً قريباً، قال كثير من الصحابة: هذا الفتح القريب هوبيعة الرضوان. وقال مجاهد وابن إسحاق: هو فتح الحديبية. وقال ابن زيد: خيبر، وضعف قول من قال إنه فتح مكة،لأن فتح مكة لم يكن دون دخول الرسول ﷺ وأصحابه مكة، بل كان بعد ذلك. {هُوَٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ }: فيه تأكيد لصدق رؤياه ﷺ، وتبشير بفتح مكة لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِكُلّهِ }، وتقدم الكلام على معظم هذه الآية. {وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } على أن ما وعده كائن. وعن الحسن: شهيداًعلى نفسه أنه سيظهر دينك. والظاهر أن قوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } مبتدأ وخبر. وقيل: رسوله الله صفة. وقال الزمخشري:عطف بيان، {وَٱلَّذِينَ } معطوف، والخبر عنه وعنهم أشداء. وأجاز الزمخشري أن يكون محمد خبر مبتدأ محذوف، أي هو محمد،لتقدم قوله: {هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ }. وقرأ ابن عامر في رواية: رسوله الله بالنصب على المدح، والذين معه هممن شهد الحديبية، قاله ابن عباس. وقال الجمهور: جميع أصحابه أشداء، جمع شديد، كقوله: { أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } . {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ }،كقوله: { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، وكقوله: { وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ، وقوله: { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } . وقرأ الحسن: أشداء رحماء بنصبهما. قيل: على المدح،وقيل: على الحال، والعامل فيهما العامل في معه، ويكون الخبر عن المتبدأ المتقدم: تراهم. وقرأ يحيـى بن يعمر: أشدا، بالقصر،وهي شاذة، لأن قصر الممدود إنما يكون في الشعر، نحو قوله:
لا بـد مـن صنعـا وإن طـال السفـر |
وفيقوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } دليل على كثرة ذلك منهم. وقرأ عمرو بن عبيد: ورضواناً، بضم الراء. وقرىء: سيمياهم، بزيادةياء والمد، وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر، قال الشاعر:
غلام رماه الله بالحسن يافعا | له سيمياء لا تشق على البصر |
وهذه السيما، قال مالك بن أنس: كانت جباههم منيرة من كثرة السجود فيالتراب. وقال ابن عباس، وخالد الحنفي، وعطية: وعد لهم بأن يجعل لهم نوراً يوم القيامة من أثر السجود. وقال ابنعباس أيضاً: السمت: الحسن وخشوع يبدو على الوجه. وقال الحسن، ومعمر بن عطية: بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجه من السهر.وقال عطاء، والربيع بن أنس: حسن يعتري وجوه المصلين. وقال منصور: سألت مجاهداً: هذه السيما هي الأثر يكون بين عينيالرجل؟ قال: لا، وقد تكون مثل ركبة البعير، وهي أقسى قلباً من الحجارة. وقال ابن جبير: ذلك مما يتعلق بجباههممن الأرض عند السجود. وقال الزمخشري: المراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود. وقوله: {مّنْ أَثَرِٱلسُّجُودِ } يفسرها: أي من التأثير الذي يؤثره السجود. وكان كل من العليين، علي بن الحسين زين العابدين، وعلي بنعبد الله بن العباس أبي الملوك، يقال له ذو الثفنات، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير.انتهى. وقرأ ابن هرمز: إثر، بكسر الهمزة وسكون الثاء، والجمهور بفتحهما. وقرأ قتادة: من آثار السجود، بالجمع. {ذٰلِكَ }:أي ذلك الوصف من كونهم أشداء رحماء مبتغين سيماهم في وجوههم صفتهم في التوراة. قال مجاهد والفراء: هو مثل واحد،أي ذلك صفتهم في التوراة والإنجيل، فيوقف على الإنجيل. وقال ابن عباس: هما مثلان، فيوقف على ذلك في التوراة؛ وكزرع:خبر مبتدأ محذوف، أي مثلهم كزرع، أو هم كزرع. وقال الضحاك: المعنى ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة وتم الكلام،ثم ابتدأ ومثلهم في الإنجيل كزرع، فعلى هذا يكون كزرع خبر ومثلهم. وقال قتادة: مثل أصحاب النبي صلى الله عليهوسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من أمة محمد ﷺ قوم ينتبون نباتاً كالزرع، يأمرون بالمعروف وينهونعن المنكر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ }، كقوله: { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـؤُلآْء } . وقال ابن عطية: وقوله: كزرع، هو على كلا الأقوال، وفي أي كتاب أنزل، فرض مثلللنبي ﷺ وأصحابه في أن النبي ﷺ بعث وحده، فكان كالزرع حبة واحدة، ثمكثر المسلمون فهم كالشطء، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل. انتهى. وقال ابن زيد: شطأه: فراخه وأولاده. وقال الزجاج:نباته. وقال قطرب: شتول السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، قاله الفراء. وقال الكسائي والأخفش: طرفه، قال الشاعر:
أخرج الشطء على وجه الثرى | ومن الأشجار أفنان الثمر |
وقرأ الجمهور: شطأه، بإسكان الطاء والهمزة؛ وابنكثير، وابن ذكوان: بفتحهما؛ وكذلك: وبالمدّ، أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي؛ وبألف بدل الهمزة، زيد بن علي؛ فاحتملأن يكون مقصوراً، وأن يكون أصله الهمز، فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفاً. كما قالوا في المرأة والكمأة: المراة والكماة، وهوتخفيف مقيس عند الكوفيين، وهو عند البصريين شاذ لا يقاس عليه. وقرأ أبو جعفر: شطه، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها علىالطاء. ورويت عن شيبة، ونافع، والجحدري، وعن الجحدري أيضاً: شطوه بإسكان الطاء وواو بعدها. وقال أبو الفتح: هي لغة أوبدل من الهمزة، ولا يكون الشط إلا في البر والشعير، وهذه كلها لغات. وقال صاحب اللوامح: شطأ الزرع وأشطأ، إذاأخرج فراخه، وهو في الحنطة والشعير وغيرهما. وقرأ ابن ذكوان: فأزره ثلاثياً؛ وباقي السبعة: فآزره، على وزن أفعله. وقرىء: فازّره،بتشديد الزاي. وقول مجاهد وغيره: آزره فاعله خطأ، لأنه لم يسمع في مضارعه إلا يؤزر، على وزن يكرم؛ والضمير المنصوبفي آزره عائد على الزرع، لأن الزرع أول ما يطلع رقيق الأصل، فإذا خرجت فراخه غلظ أصله وتقوى، وكذلك أصحابرسول الله ﷺ كانوا أقلة ضعفاء، فلما كثروا وتقووا قاتلوا المشركين. وقال الحسن: آزره: قواه وشدّ أزره.وقال السدي: صار مثل الأصل في الطول. {فَٱسْتَغْلَظَ }: صار من الرقة إلى الغلظ. {فَٱسْتَوَىٰ }: أي تم نباته. {عَلَىٰسُوقِهِ }: جمع ساق، كناية عن أصوله. وقرأ ابن كثير: على سؤقه بالهمز. قيل: وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو الذيقبلها ضمة، ومنه قول الشاعر:
أحـب المـؤقـديـن إلـيّ مـؤسـي |
{يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ }: جملة في موضع الحال؛ وإذا أعجب الزراع،فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه، إذ قد أعجب العارفين بعيوب الزرع، ولو كان معيباً لم يعجبهم،وهنا تم المثل. و{لِيَغِيظَ }: متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام قبله تقديره: جعلهم الله بهذه الصفة {لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ }.وقال الزمخشري: فإن قلت: ليغيظ بهم الكفار تعليل لماذا؟ قلت: لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادةوالقوّة، ويجوز أن يعلل به. {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }: لأن الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة معما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك. ومعنى: {مِنْهُمْ }: للبيان، كقوله تعالى: { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلاْوْثَـٰنِ } . وقال ابن عطية:وقوله منهم، لبيان الجنس وليست للتبعيض، لأنه وعد مدح الجميع. وقال ابن جرير: منهم يعني: من الشطء الذي أخرجه الزرع،وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة، فأعاد الضمير على معنى الشطء لا على لفظة. والأجر العظيم: الجنة.وذكر عند مالك بن أنس رجل ينتقص الصحابة، فقرأ مالك هذه الآية وقال: من أصبح بين الناس في قلبه غيظمن أصحاب رسول الله ﷺ، فقد أصابته هذه الآية، والله الموفق.