تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الصف
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } * { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } * { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } * { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } * { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } * { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } المرصوص، قال الفرّاء والقاضي منذر بن سعيد: هو المعقود بالرصاص. وقال المبرد:رصصت البناء: لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة واحدة، قال الراعي:
ما لقي البيض من الحرقوص | بفتح باب المغلف المرصوص |
الحرقوص: دويبة تولع بالنساء الأبكار، وقيل: هو من الترصيص، وهو انصمام الأسنان. {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِوَمَا فِي ٱلاْرْضِ * وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ *وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌمَّرْصُوصٌ * وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْوَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ * وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِى إِسْرٰءيلَ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَيَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا }. هذه السورة مدنية في قول الجمهور، ابنعباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة. وقال ابن يسار: مكية، وروى ذلك أيضاً عن ابن عباس ومجاهد. وسبب نزولها قول المنافقينللمؤمنين: نحن منكم ومعكم، ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك؛ أو قول شباب من المسلمين: فعلنا في الغزو كذا ولميفعلوا؛ أو قول ناس: وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى ربنا حتى نعنى فيه، ففرض الجهاد؛ وأعلم تعالى بحب المجاهدين،فكرهه قوم وفر بعضهم يوم أحد، فنزلت، أقوال. الأول: لابن زيد، والثاني: لقتادة، والثالث: لابن عباس وأبي صالح. ومناسبتهالآخر السورة قبلها، أن في آخر تلك: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } ، فاقتضى ذلكإثبات العداوة بينهم، فحض تعالى على الثبات إذا لقي المؤمنون في الحرب أعداءهم. والنداء بـ {ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }،إن كان للمؤمنين حقيقة، فالاستفهام يراد به التلطف في العتب، وإن كان للمنافقين، فالمعنى {ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }: أيبألسنتهم، والاستفهام يراد به الإنكار والتوبيخ وتهكم بهم في إسناد الإيمان إليهم، ولم يتعلق بالفعل وحده. ووقف عليه بالهاء أوبسكون الميم، ومن سكن في الوقف فلإجرائه مجرى الوقف، والظاهر انتصاب {مَقْتاً } على التمييز، وفاعل {كَبُرَ }: أن {تَقُولُواْ}، وهو من التمييز المنقول من الفاعل، والتقدير: كبر مقت قولكم ما لا تفعلون. ويجوز أن يكون من باب نعموبئس، فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالتمييز، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم، أي بئس مقتاً قولكم كذا، والخلاف الجاريفي المرفوع في: بئس رجلاً زيد، جار في {أَن تَقُولُواْ } هنا، ويجوز أن يكون في كبر ضمير يعود علىالمصدر المفهوم من قوله: {لِمَ تَقُولُونَ }، أي كبر هو، أي القول مقتاً، ومثله كبرت كلمة، أي ما أكبرها كلمة،وأن تقولوا بدل من المضمر، أو خبر ابتداء مضمر. وقيل: هو من أبنية التعجب، أي ما أكبره مقتاً. وقال الزمخشري:قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله:
غـلت نـاب كـليب بـواؤهـا |
ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأنالتعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظرائه وأشكاله، وأسند إلى {أَن تَقُولُواْ } ونصب {مَقْتاً } على تفسيره،دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنهأشدّ البغض، ولم يقتصر على أن جعل البغض كثيراً حتى جعل أشدّه وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك، لأنه إذاثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته. انتهى. وقال ابن عطية: والمقت: البغض من أجل ذنب أو ريبةأو دناءة يصنعها الممقوت. انتهى. وقال المبرد: رجل ممقوت ومقيت، إذا كان يبغضه كل أحد. انتهى. وقرأ زيد بن عليّ:يقاتلون بفتح التاء. وقيل: قرىء يقتلون، وانتصب صفاً على الحال، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين، كأنهم فيء في تراصهم منغير فرجة ولا خلل، بنيان رص بعضه إلى بعض. والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص. وقيل: المراداستواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. قيل: وفيه دليل على فضل القتال راجلاً، لأن الفرسانلا يصطفون على هذه الصفة؛ وصفاً وكأنهم، قال الزمخشري: حالان متداخلان. وقال الحوفي: كأنهم في موضع النعت لصفاً. انتهى. ويجوزأن يكونا حالين من ضمير يقاتلون. ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل، وهو راجع إلى الكذب،فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب، فناسب ذكر قصة موسىوقوله لقومه: {لِمَ تُؤْذُونَنِى }، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهماقتراحه، {وَقَد تَّعْلَمُونَ }: جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه، فرتبوا على علمهم أنه رسول الله ما لا يناسب العلم وهوالإذاية، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع، والمضارع هنا معناه المضي، أي وقد علمتم، كقوله: { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } ، أي قد علم، { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ } . وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل، {فَلَمَّا زَاغُواْ} عن الحق، {أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }. قال الزمخشري: بأن منع ألطافه، {وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }: لا يلطفبهم، لأنهم ليسوا من أهل اللطف. وقال غيره: أسند الزيغ إليهم، ثم قال: {أَزَاغَ ٱللَّهُ } كقوله تعالى: { نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ } ، وهو من العقوبة على الذنب بالذنب، بخلاف قوله: { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } . ولما ذكر شيئاًمن قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، ذكر أيضاً شيئاً من قصة عيسى عليه السلام. وهناك قال: {عَلَيْهِ قَوْمٌ} لأنه من بني إسرائيل، وهنا قال عيسى: {مَعِىَ بَنِى إِسْرٰءيلَ } من حيث لم يكن له فيهم أب، وإنكانت أمه منهم. ومصدقاً ومبشراً: حالان، والعامل رسول، أي مرسل، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدقلما تقدم من كتب الله الإلهية، ولمن تأخر من النبي المذكور، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته. وروي أن الحواريينقالوا: يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، أمة أحمد ﷺ، حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل . وأحمد علم منقول منالمضارع للمتكلم، أو من أحمد أفعل التفضيل، وقال حسان:
صلى الإله ومن يحف بعرشه | والطيبون على المبارك أحمد |
وقال القشيري: بشر كل نبي قومه بنبينا محمد ﷺ، والله أفرد عيسى بالذكرفي هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا ﷺ، فبين أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحداًبعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام. والظاهر أن الضمير المرفوع في {جَاءهُمُ } يعود على عيسى لأنه المحدثعنه. وقيل: يعود على أحمد. لما فرغ من كلام عيسى، تطرق إلى الإخبار عن أحمد ﷺ، وذلكعلى سبيل الإخبار للمؤمنين، أي فلما جاء المبشر به هؤلاء الكفار بالمعجزات الواضحة قالوا: {هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }. وقرأ الجمهور:سحر، أي ما جاء به من البينات. وقرأ عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب: ساحر، أي هذا الحال ساحر. وقرأالجمهور: يدعى مبنياً للمفعول؛ وطلحة: يدعى مضارع ادعى مبنياً للفاعل، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به، لكنه لما ضمن معنىالانتماء والانتساب عدى بإلى. وقال الزمخشري: أيضاً، وقرأ طلحة بن مصرف: وهو يدعى بشد الدال، بمعنى يدعى دعاه وادعاه، نحولمسه والتمسه. {يُرِيدُونَ } الآية: تقدم تفسير نظيرها في سورة التوبة. وقال الزمخشري: أصله: { يُرِيدُونَ أَن يطفئوا } ، كما جاءفي سورة براءة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتكلأكرمك، كما زيدت اللام في: لا أبا لك، تأكيداً لمعنى الإضافة في: لا أبا لك. انتهى. وقال نحوه ابن عطية،قال: واللام في قوله: {*ليطفؤا} لام مؤكدة، دخلت على المفعول لأن التقدير: يريدون أن يطفؤا، وأكثر ما تلزم هذه اللامالمفعول إذا تقدم، تقول: لزيد ضربت، ولرؤيتك قصرت. انتهى. وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزمالمفعول إذا تقدم ليس بأكثر، بل الأكثر: زيداً ضربت، من: لزيد ضربت. وأما قولهما إن اللام للتأكيد، وإن التقدير أنيطفؤا، فالإطفاء مفعول {إِن يُرِيدُونَ }، فليس بمذهب سيبويه والجمهور. وقال ابن عباس وابن زيد: هنا يريدون إبطال القرآن وتكذيبهبالقول. وقال السدي: يريدون دفع الإسلام بالكلام. وقال الضحاك: هلاك الرسول ﷺ بالأراجيف. وقال ابن بحر: إبطالحجج الله بتكذيبهم. وعن ابن عباس: سبب نزولها أن الوحي أبطأ أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشريهود أبشروا، اطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره، فحزن الرسول ﷺ،فنزلت واتصل الوحي. وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن: {مُّتُّمْ } بالتنوين، {نُورِهِ } بالنصب؛ وباقيالسبعة والأعمش: بالإضافة. وقرأ الجمهور: {تُنجِيكُم } مخففاً؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر: مشدداً. والجمهور: {تُؤْمِنُونَ }، {وَتُجَـٰهِدُونَ}؛ وعبد الله: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا أمرين؛ وزيد بن علي بالتاء، فيهما محذوف النون فيهما. فأما توجيه قراءة الجمهور،فقال المبرد: هو بمعنى آمنوا على الأمر، ولذلك جاء يغفر مجزوماً. انتهى، فصورته صورة الخبر، ومعناه الأمر، ويدل عليه قراءةعبد الله، ونظيره قوله: اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه، أي ليتق الله، وجيء به على صورة الخبر. قالالزمخشري: للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين، ونظيره قول الداعي: غفر الله لك ويغفر اللهلك، جعلت المغفرة لقوة الرجاء، كأنها كانت ووجدت. انتهى. وقال الأخفش: هو عطف بيان على تجارة، وهذا لا يتخيل إلاعلى تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر، ثم حذف أن فارتفع الفعل كقوله:
ألا أيهـذا الـزاجـري احضـر الـوغـا |
يريد: أن احضر، فلما حذف أن ارتفع الفعل، فكان تقدير الآية {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}: إيمان بالله ورسوله وجهاد. وقال ابن عطية: {تُؤْمِنُونَ } فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون. انتهى، وهذا ليس بشيء،لأن فيه حذف المبتدأ وحذف أنه وإبقاء الخبر، وذلك لا يجوز. وقال الزمخشري: وتؤمنون استئناف، كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال:تؤمنون، ثم اتبع المبرد فقال: هو خبر في معنى الأمر، وبهذا أجيب بقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ }. انتهى. وأما قراءة عبدالله فظاهرة المعنى وجواب الأمر يغفر، وأما قراءة زيد فتتوجه على حذف لام الأمر، التقدير: لتؤمنوا، كقول الشاعر:
قلت لبواب على بابها | تأذن لي أني من أحمائها |
يريد: لتأذن، ويغفر مجزوم على جواب الأمرفي قراءة عبد الله وقراءة زيد، وعلي تقدير المبرد. وقال الفراء: هو مجزوم على جواب الاستفهام، وهو قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ}، واستبعد هذا التخريج. قال الزجاج: ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا.وقال المهدوي: إنما يصح حملاً على المعنى، وهو أن يكون تؤمنون وتجاهدون عطف بيان على قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ }، كأنالتجارة لم يدر ما هي، فبينت بالإيمان والجهاد، فهي هما في المعنى، فكأنه قال: هل تؤمنون وتجاهدون؟ قال: فإن لمتقدر هذا التقدير لم يصح، لأنه يصير: إن دللتم يغفر لكم، والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة. وقال الزمخشرينحوه، قال: وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد، فكأنه قال: هل تتحرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟انتهى، وتقدم شرح بقية الآية. ولما ذكر تعالى ما يمنعهم من الثواب في الآخرة، ذكر ما يسرهم في العاجلة،وهي ما يفتح عليهم من البلاد. {وَأُخْرَىٰ }: صفة لمحذوف، أي ولكم مثوية أخرى، أو نعمة أخرى عاجلة إلى هذهالنعمة الآجلة. فأخرى مبتدأ وخبره المقدر لكم، وهو قول الفراء، ويرجحه البدل منه بقوله: {نَصْرٌ مّن ٱللَّهِ }، و{تُحِبُّونَهَا }صفة، أي محبوبة إليكم. وقال قوم: وأخرى في موضع نصب بإضمار فعل، أي ويمنحكم أخرى؛ ونصر خبر مبتدأ، أي ذلك،أو هو نصر. وقال الأخفش: وأخرى في موضع جر عطفاً على تجارة، وضعف هذا القول لأن هذه الأخرى ليست ممادل عليه، إنما هي من الثواب الذي يعطيهم الله على الإيمان والجهاد بالنفس والمال. وقرأ الجمهور: {نَصْرُ } بالرفع، وكذا{وَفَتْحٌ قَرِيبٌ }؛ وابن أبي عبلة: بالنصب فيها ثلاثتها، ووصف أخرى بتحبونها، لأن النفس قد وكلت بحب العاجل، وفي ذلكتحريض على ما يحصل ذلك، وهو الإيمان والجهاد. وقال الزمخشري: وفي تحبونها شيء من التوبيخ على محبة العاجل، قال: فإنقلت: لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً؟ قلت: يجوز أن ينصب على الاختصاص، أو على ينصرون نصراًويفتح لكم فتحاً، أو على {يَغْفِرْ لَكُمْ } و{لَهُمْ جَنَّـٰتُ } ويؤتكم أخرى نصراً وفتحاً قريباً. فإن قلت علام عطفقوله: {وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }؟ قلت: على {تُؤْمِنُونَ }، لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم، وبشريا رسول الله المؤمنين بذلك. انتهى. {كُونُواْ أَنصَـٰرَ ٱللَّهِ }: ندب المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الاسم، وإنكان قد صار عرفاً للأوس والخزرج، وسماهم الله به. وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان: أنصاراً لله بالتنوين؛ والحسن والجحدريوباقي السبعة: بالإضافة إلى الله، والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار، أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى.وقال مكي: نعت لمصدر محذوف، والتقدير: كونوا كوناً. وقيل: نعت لأنصاراً، أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسىحين قال: {مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ }. انتهى. والحواريون اثنا عشر رجلاً، وهم أول من آمن بعيسى، بثهم عيسى فيالآفاق، بعث بطرس وبولس إلى رومية، وأندارس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس، وبوقاس إلى أرض بابل، وفيليس إلىقرطاجنة وهي إفريقية، ويحنس إلى أقسوس قرية أصحاب الكهف، ويعقوبين إلى بيت المقدس، وابن بليمن إلى أرض الحجاز وتستمر إلىأرض البربر وما حولها، وفي بعض أسمائهم إشكال من جهة الضبط، فليلتمس ذلك من مظانه. {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ * بِعَيسَى*عَلَىٰ عَدُوّهِمْ }: وهم الذين كفروا بعيسى، {فَأَصْبَحُواْ ظَـٰهِرِينَ }: أي قاهرين لهم مستولين عليهم. وقال زيد بن عليّ وقتادة:ظاهرين: غالبين بالحجة والبرهان. وقيل: أيدنا المسلمين على الفرقتين الضالتين، والله أعلم.