انتقل إلى المحتوى

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الحاقة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ ٱلْحَاقَّةُ } * { مَا ٱلْحَآقَّةُ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } * { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ } * { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } * { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } * { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } * { فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } * { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } * { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } * { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } * { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } * { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } * { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } * { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } * { وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } * { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } * { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } * { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } * { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } * { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } * { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } * { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } * { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } * { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } * { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } * { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } * { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } * { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } * { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } * { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } * { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } * { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ } * { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } * { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ } * { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } * { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ } * { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } * { وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } * { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } * { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } * { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } * { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } * { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } * { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } * { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } * { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } * { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } * { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } * { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } * { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } الحسوم، قال الفراء: من حسم الداء، أي تابع بالمكواة عليه، قال الشاعر:

ففرق بين جمعهم زمان     تتابع فيه أعوام حسوم

وقال المبرد: حسمت الشيء: فصلتهعن غيره، ومنه الحسام. قال الشاعر:

فأرسلت ريحاً دبوراً عقيما     فدارت عليهم فكانت حسوماً

وقال الليث: الحسوم: الشؤم، يقال: هذه ليالي الحسوم: أي تحسم الخير عن أهلها، وقاله في الصحاح. صرعي: هلكى،الواحد صريع، وهي الشيء ضعف وتداعي للسقوط. قال ابن شجرة: من قولهم وهي السقاء إذا انخرق، ومن أمثالهم قول الراجز:

خل سبيل من وهي سقاؤه     ومن هريق بالفلاة ماؤه

الأرجاء: الجوانب، واحدها رجا، أيجانب من حائط أو بئر ونحوه، وهو من ذوات الواو، ولذلك برزت في التثنية. قال الشاعر:

كأن لم ترا قبلي أسيراً مقيدا     ولا رجلاً يرمي به الرجوان

وقال الآخر:

فلا يرمي به الرجوان إني     أقل اليوم من يغني مكاني

هاء بمعنى خذ، فيها لغات ذكرناها في شرح التسهيل. وقال الكسائيوابن السكيت: العرب تقول: هاء يا رجل، وللاثنين رجلين أو امرأتين: هاؤما، وللرجل هاؤم، وللمرأء هاء بهمزة مكسورة من غيرياء، وللنساء هاؤن. قيل: ومعنى هاؤم: خذوا، ومنه الخبر في الربا الإهاء وهاء: أي يقول كل واحد لصاحبه خذ. وقيل:تعالوا، وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف، وهذا ضعيف إلا إن كان عنى أنها تحل محلها في لغة منقال: هاك وهاك وهاكما وهاكم وهاكن، فيمكن أنه بدل صناعي، لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها. وقيل:هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط. وفي الحديث، أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال، فجاوبه عليهالصلاة والسلام: «هاؤم»، بصولة صوته. وزعم قوم أنها مركبة في الأصل، والأصل هاء أموا، ثم نقله التخفيف والاستعمال. وزعم قومأن هذه الميم ضمير جماعة الذكور. القطوف جمع قطف: وهو ما يجتنى من الثمر ويقطف. السلسلة معروفة، وهي حلق يدخلفي حلق على سبيل الطول. الذراع مؤنث، وهو معروف، وقال الشاعر:

أرمي عليها وهي فرع أجمع     وهي ثلاث أذرع وأصبع

حض على الشيء: حمل على فعله بتوكيد. الغسلين، قال اللغويون: ما يجري من الجراحإذا غسلت. الوتين: عرق يتعلق به القلب، إذا انقطع مات صاحبه. وقال الكلبي: عرق بين العلباء والحلقوم، والعلباء: عصب العنق،وهما علباوان بينهما العرق. وقيل: عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر، ومنه قول الشماخ:

إذا بلغتني وحملت رحلي     عرابة فاشرقي بدم الوتين {ٱ

;لْحَاقَّةُ * مَا ٱلْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍوَثَمَـٰنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مّن بَاقِيَةٍ * وَجَاء فِرْعَوْنُوَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً * إِنَّا لَمَّا * طَغَىٰ * ٱلْمَاء حَمَلْنَـٰكُمْ فِىٱلْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وٰعِيَةٌ * فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وٰحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ ٱلاْرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَادَكَّةً وٰحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ * وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَاء فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْيَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ }. هذه السورة مكية. ومناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكرشيئاً من أحوال السعداء والأشقياء، وقال: { ذَرْنِى وَمَنْ * يُكَذّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } ، ذكر حديث القيامة وما أعد الله تعالىلأهل السعادة وأهل الشقاوة، وأدرج بينهما شيئاً من أحوال الذين كذبوا الرسل، كعاد وثمود وفرعون، ليزدجر بذكرهم وما جرى عليهمالكفار الذين عاصروا رسول الله ، وكانت العرب عالمة بهلاك عاد وثمود وفرعون، فقص عليهم ذلك.{ٱلْحَاقَّةُ }: المراد بها القيامة والبعث، قاله ابن عباس وغيره، لأنها حقت لكل عامل عمله. وقال ابن عباس وغيره: لأنهاتبدي حقائق الأشياء. وقيل: سميت بذلك لأن الأمر يحق فيها، فهي من باب ليل نائم. والحاقة اسم فاعل من حقالشيء إذا ثبت ولم يشك في صحته. وقال الأزهري: حاققته فحققته أحقه: أي غالبته فغلبته. فالقيامة حاقة لأنها تحقق كلمحاق في دين الله بالباطل، أي كل مخاصم فتغلبه. وقيل: الحاقة مصدر كالعاقبة والعافية، والحاقة مبتدأ، وما مبتدأ ثان، والحاقةخبره، والجملة خبر عن الحاقة، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه نحو: زيد ما زيد، وما استفهام لا يراد حقيقته بل التعظيم،وأكثر ما يربط بتكرار المبتدأ إذا أريد، يعني التعظيم والتهويل. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ }: مبالغة في التهويل، والمعنى أنفيها ما لم يدر ولم يحط به وصف من أمورها الشاقة وتفصيل أوصافها. وما استفهام أيضاً مبتدأ، {*وأدراك} الخبر، والعائدعلى ما ضمير الرفع في {وَمَا أَدْرَاكَ }، وما مبتدأ، والحاقة خبر، والجملة في موضع نصب بأدراك، وأدراك معلقة. وأصلدرى أن يعدى بالباء، وقد تحذف على قلة، فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر،فقوله: {مَا ٱلْحَاقَّةُ } بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر. والقارعة من أسماء القيامة، لأنها تقرعالقلوب بصدمتها. وقال الزمخشري: تقرع الناس بالأقراع والأهوال، والسماء بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار؛ فوضع الضميرليدل على معنى القرع في الحاقة زيادة في وصف شدّتها. ولما ذكرها وفخمها، أتبع ذلك ذكر من كذب بها وماحل بهم بسبب التكذيب، تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم. انتهى. وقرأ الجمهور: {فَأُهْلِكُواْ }: رباعياً مبنياًللمفعول؛ وزيد بن عليّ: فهلكوا مبنياً للفاعل. قال قتادة: بالطاغية: بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة. وقال مجاهد وابنزيد: بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها. وقال ابن عباس وابن زيد أيضاً وأبو عبيدة ما معناه: الطاغية مصدر كالعاقبة، فكأنهقال: بطغيانهم، ويدل عليه { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } . وقيل: الطاغية: عاقر الناقة، والهاء فيه للمبالغة، كرجل راوية، وأهلكوا كلهم لرضاهمبفعله. وقيل: بسبب الفئة الطاغية. واختار الطبري وغيره أن الطاغية هي الصيحة، وترجيح ذلك مقابله سبب الهلاك في ثمود بسببالهلاك في عاد، وهو قوله: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ }، وتقدّم القول في {صَرْصَرٍ } في سورة القمر، {عَاتِيَةٍ }: عتت علىخزانها فخرجت بغير مقدار، أو على عاد فما قدروا على أن يتستروا منها، أو وصفت بذلك استعارة لشدّة عصفها، والتسخيرهو استعمال الشيء باقتدار عليه. فمعنى {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ }: أي أقامها وأدامها، {سَبْعَ لَيَالٍ }: بدت عليهم صبح الأربعاء لثمانبقين من شوّال إلى آخر الأربعاء تمام الشهر، {حُسُوماً }، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة: تباعاً لميتخللها انقطاع. وقال الخليل: شؤماً ونحساً. وقال ابن زيد: {حُسُوماً } جمع حاسم، أي تلك الأيام قطعتهم بالإهلاك، ومنه حسمالعلل والحسام. وقال الزمخشري: وإن كان مصدراً، فإما أن ينتصب بفعل مضمر، أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً، أو تكونصفة، كقولك: ذات حسوم، أو تكون مفعولاً له، أي سخرها عليهم للاستئصال. وقرأ السدّي: حسوماً بالفتح: حالاً من الريح، أيسخرها عليهم مستأصلة. وقيل: هي أيام العجز، وهي آخر الشتاء. وأسماؤها: الصين والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومصفى الجمر. وقيل:مكفى الطعن. {فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا }: أي في الليالي والأيام، أو في ديارهم، أو في مهاب الريح؛ احتمالات أظهرهاالأول لأنه أقرب ومصرح به. وقرأ أبو نهيك: أعجز، على وزن أفعل، كضبع وأضبع. وحكى الأخفش أنه قرىء: نخيل خاويةخلت أعجازها بلى وفساداً. وقال ابن شجرة: كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحسو من أدبارهم، فصارواكالنخل الخاوية. وقال يحيـى بن سلام: خلت أبدانهم من أرواحهم. وقال ابن جريج: كانوا في سبعة أيام في عذاب، ثمفي الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر، فذلك قوله: {فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مّن بَاقِيَةٍ }. وقال ابن الأنباري: {مّن بَاقِيَةٍ}: أي من باق، والهاء للمبالغة. وقال أيضاً: من فئة باقية. وقيل: {مّن بَاقِيَةٍ }: من بقاء مصدر جاء علىفاعلة كالعاقبة. وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه؛ وعاصم في رواية أبان، والنحويان: ومن قبله، بكسر القاف وفتحالباء: أي أجناده وأهل طاعته، وتقول: زيد قبلك: أي فيما يليك من المكان. وكثر استعمال قبلك حتى صار بمنزلة عندكوفي جهتك وما يليك بأي وجه ولي. وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة والسلمي: {وَمِن قَبْلِهِ }، ظرف زمان: أيالأمم الكافرة التي كانت قبله، كقوم نوح، وقد أشار إلى شيء من حديثه بعد هذا. {وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ }: قرى قوم لوط.وقرأ الحسن هنا: والمؤتفكة على الإفراد، {بِالْخَاطِئَةِ }: أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة، قاله مجاهد؛ أو بالخطأ، فيكون مصدراً جاءعلى فاعلة كالعاقبة، قاله الجرجاني. {فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ }: رسول جنس، وهو من جاءهم من عند الله تعالى، كموسىولوط عليهما السلام. وقيل: لوط عليه السلام، أعاده على أقرب مذكور، وهو رسول المؤتفكات. وقال الكلبي: موسى عليه السلام، أعادهعلى الأسبق وهو رسول فرعون. وقيل: رسول بمعنى رسالة، {رَّابِيَةً }: أي نامية. قال مجاهد: شديدة، يريد أنها زادت علىغيرها من الأخذات، وهي الغرق وقلب المدائن. {إِنَّا لَمَّا * طَغَىٰ * ٱلْمَاء }: أي زاد وعلا على أعلى جبلفي الدنيا خمس عشرة ذراعاً. قال ابن جبير: طغى على الخزان، كما طغت الريح على خزانها، {حَمَلْنَـٰكُمْ }: أي فيأصلاب آبائكم، {فِى ٱلْجَارِيَةِ }: هي سفينة نوح عليه السلام، وكثر استعمال الجارية في السفينة، ومنه قوله تعالى: { وَمِنْ ءايَـٰتِهِ ٱلْجَوَارِ فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلاْعْلَـٰمِ } ، وقال الشاعر:

تسعـون جـارية فـي بـطن جـارية    

وقال المهدوي: المعنى في السفن الجارية يعني أنذلك هو على سبيل الامتنان، والمحمولون هم المخاطبون. {لِنَجْعَلَهَا }: أي سفينة نوح عليه السلام، {لَكُمْ تَذْكِرَةً } بما جرىلقومه الهالكين وقومه الناجين فيها وعظة. قال قتادة: أدركها أوائل هذه الأمة. وقال ابن جريج: كانت ألواحها على الجودي. وقيل:لنجعل تلك الجملة في سفينة نوح عليه السلام لكم موعظة تذكرون بها نجاة آبائكم وإغراق مكذبي نوح عليه السلام، {وَتَعِيَهَا}: أي تحفظ قصتها، {أَذِنَ } من شأنها أن تعي المواعظ، يقال: وعيت لما حفظ في النفس، وأوعيت لما حفظفي غير النفس من الأوعية. وقال قتادة: الواعية هي التي عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت من كتاب الله؛ وفيالحديث، أنه قال لعلي: إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي . قال علي رضيالله تعالى عنه: فما سمعت بعد ذلك شيئاً فنسيته، وقرأها: وتعيها، بكسر العين وتخفيف الياء العامة؛ وابن مصرف وأبو عمروفي رواية هارون وخارجة عنه؛ وقنبل بخلاف عنه: بإسكانها؛ وحمزة: بإخفاء الحركة، ووجه الإسكان التشبيه في الفعل بما كان علىوزن فعل في الاسم والفعل. نحو: كبد وعلم. وتعي ليس على وزن فعل، بل هو مضارع وعي، فصار إلى فعلوأصله حذفت واوه. وروي عن عاصم عصمة وحمزة الأزرق: وتعيها بتشديد الياء، قيل: وهو خطأ وينبغي أن يتأول على أنهأريد به شدة بيان الياء إحترازاً ممن سكنها، لا إدغام حرف في حرف، ولا ينبغي أن يجعل ذلك من بابالتضعيف في الوقف، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وإن كان قد ذهب إلى ذلك بعضهم. وروي عن حمزة وعن موسىبن عبد الله العنسي: وتعيها بإسكان الياء، فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر، واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمونأهاليكم بسكون الياء. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل {أُذُنٌ وٰعِيَةٌ } على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهمقلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله تعالى فهي السوادالأعظم عند الله تعالى، وأن ما سواها لا يبالي بالة وإن ملأوا ما بين الخافقين. انتهى، وفيه تكثير. ولماذكر تعالى ما فعل بمكذبي الرسل من العذاب في الدنيا، ذكر أمر الآخرة وما يعرض فيها لأهل السعادة وأهل الشقاوة،وبدأ بإعلام يوم القيامة فقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وٰحِدَةٌ }، وهذه النفخة نفخة الفزع. قال ابن عباس: وهيالنفخة الأولى التي حصل عنها خراب العالم، ويؤيد ذلك قوله: {وَحُمِلَتِ ٱلاْرْضُ وَٱلْجِبَالُ }. وقال ابن المسيب ومقاتل: هي النفخةالآخرة، وعلى هذا لا يكون الدك بعد النفخ، والواو لا ترتب. وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً، ولما كانت مرةأكدت بقوله: {وٰحِدَةٌ }. وقرأ الجمهور: نفخة واحدة، برفعهما، ولم تلحق التاء نفخ، لأن تأنيث النفخة مجازى ووقع الفصل. وقالابن عطية: لما نعت صح رفعه. انتهى. ولو لم ينعت لصح، لأن نفخة مصدر محدود ونعته ليس بنعت تخصيص، إنماهو نعت توكيد. وقرأ أبو السمال: بنصبهما، أقام الجار والمجرور مقام الفاعل. وقرأ الجمهور: {وَحُمِلَتِ } بتخفيف الميم؛ وابن أبيعبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيـى: بتشديدها، فالتخفيف على أن تكون {ٱلاْرْضُ وَٱلْجِبَالُ } حملتها الريح العاصفأو الملائكة أو القدرة من غير واسطة مخلوق. ويبعد قوله من قال: إنها الزلزلة، لأن الزلزلة ليس فيها حمل، إنماهي اضطراب. والتشديد على أن تكون للتكثير، أو يكون التضعيف للنقل، فجاز أن تكون {ٱلاْرْضُ وَٱلْجِبَالُ } المفعول الأول أقيممقام الفاعل، والثاني محذوف، أي ريحاً تفتتها أو ملائكة أو قدرة. وجاز أن يكون الثاني أقيم مقام الفاعل، والأول محذوف،وهو واحد من الثلاثة المقدرة. وثني الضمير في {فَدُكَّتَا }، وإن كان قد تقدمه ما يعود عليه ضمير الجمع، لأنالمراد جملة الأرض وجملة الجبال، أي ضرب بعضها ببعض حتى تفتتت، وترجع كما قال تعالى: { كَثِيباً مَّهِيلاً } . والدك فيهتفرق الأجزاء لقوله: { هَبَاء } ، والدق فيه اختلاف الأجزاء. وقيل: تبسط فتصير أرضاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وهومن قولهم: بعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا، فلم يرتفع سنامهما واستوت عراجينهما مع ظهريهما. {فَيَوْمَئِذٍ } معطوف على {فَإِذَانُفِخَ فِى ٱلصُّورِ }، وهو منصوب بوقعت، كما أن إذا منصوب بنفخ على ما اخترناه وقررناه واستدللنا له في أنالعامل في إذا هو الفعل الذي يليهما لا الجواب، وإن كان مخالفاً لقول الجمهور. والتنوين في إذ للعوض من الجملةالمحذوفة، وهي في التقدير: فيوم إذ نفخ في الصور وجرى كيت وكيت، والواقعة هي القيامة، وقد تقدم في { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } أن بعضهم قال: هي صخرة بيت المقدس. {وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَاء }: أي انفطرت وتميز بعضها من بعض، {فَهِىَيَوْمَئِذٍ * إِذْ } انشقت، {وَاهِيَةٌ }: ضعيفة لتشققها بعد أن كانت شديدة، { أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَاء بَنَـٰهَا } ،أو منخرقة، كما يقال: وهي السقاء انخرق. وقيل انشقاقها لنزول الملائكة، قال تعالى: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَاء بِٱلْغَمَـٰمِ وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ تَنزِيلاً } . وقيل: انشقاقها لهول يوم القيامة. {وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا }، قال ابن عباس: على حافاتها حين تنشق، والظاهر أن الضميرفي حافاتها عائد على السماء. وقال ابن جبير والضحاك: على حافات الأرض، ينزلون إليها يحفظون أطرافها، وإن لم يجر لهاذكر قريب. كما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا فيقفون صفاً على حافات الأرض، ثم ملائكة الثانية فيصفونحولهم، ثم ملائكة كل سماء، فكلما ندّ أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها. {وَٱلْمَلَكُ }: اسم جنس يرادبه الملائكة. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين قولك: {وَٱلْمَلَكُ }، وبين أن يقال: والملائكة؟ قلت: الملك أعم منالملائكة. ألا ترى أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد، أعم من قولك: ما من ملائكة؟ انتهى. ولا يظهرأن الملك أعم من الملائكة، لأن المفرد المحلى بالألف واللام الجنسية قصاراه أن يراد به الجمع المحلى بهما، ولذلك صحالاستثناء منه، فقصاراه أن يكون كالجمع المحلى بهما. وأما دعواه أنه أعم منه بقوله: ألا ترى الخ، فليس دليلاً علىدعواه، لأن من ملك نكرة مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها من المخلصة للاستغراق، فشملت كل ملك فاندرج تحتهاالجمع لوجود الفرد فيه فانتفى كل فرد فرد، بخلاف من ملائكة، فإن من دخلت على جمع منكر، فعم كل جمعجمع من الملائكة، ولا يلزم من ذلك انتفاء كل فرد فرد من الملائكة. لو قلت: ما في الدار من رجال،جاز أن يكون فيها واحد، لأن النفي إنما انسحب على جمع، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفرد.والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه من فيكون أعم من جمع دخلت عليه من، وإنما جيء بهمفرداً لأنه أخف، ولأن قوله: {عَلَىٰ أَرْجَائِهَا } يدل على الجمع، لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكونعلى أرجائها في وقت واحد، بل في أوقات. والمراد، والله تعالى أعلم، أن الملائكة على أرجائها، لا أنه ملك واحدينتقل على أرجائها في أوقات. وقال الزمخشري: يعني أنها تنشق، وهي مسكن الملائكة، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافاتها.انتهى. والضمير في فوقهم عائد على الملك ضمير جمع على المعنى، لأنه يراد به الجنس، قال معناه الزمخشري. وقيل: يعودعلى الملائكة الحاملين، أي فوق رؤوسهم. وقيل: على العالم كلهم. والظاهر أن التمييز المحذوف في قوله: {ثَمَـٰنِيَةٌ } أملاك، أيثمانية أشخاص من الملائكة؛ وعن الضحاك: ثمانية صفوف؛ وعن الحسن، الله أعلم كم هم، أثمانية صفوف أم ثمانية أشخاص؟ وذكروافي صفات هؤلاء الثمانية أشكالاً متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحاً. {يَوْمَئِذٍ }: أي يوم إذٍ كان ما ذكر، {تُعْرَضُونَ}: أي للحساب، وتعرضون هو جواب قوله: {فَإِذَا نُفِخَ }. فإن كانت النفخة هي الأولى، فجاز ذلك لأنه اتسع فياليوم فجعل ظرفاً للنفخ ووقوع الواقعة وجميع الكائنات بعدها؛ وإن كانت النفخة هي الثانية، فلا يحتاج إلى اتساع لأن قوله:{فَيَوْمَئِذٍ } معطوف على فإذا، و{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } بدل من {فَيَوْمَئِذٍ }، وما بعد هذه الظروف واقع في يوم القيامة.والخطاب في {تُعْرَضُونَ } لجميع العالم المحاسبين. وعن عبد الله: رأى موسى في القيامة عرضتان فيهما معاذير وتوقيف وخصومات، وثالثةتتطاير فيها الصحف للإيمان والشمائل. وقرأ الجمهور: {لاَ تَخْفَىٰ } بتاء التأنيث؛ وعلي وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وابنمقسم عن عاصم وابن سعدان: بالياء، {خَافِيَةٌ }: سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا. قوله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْأُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ فَيَقُولُ هَاؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَـٰبيَهْ * إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـٰقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ٱلاْيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَكِتَـٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـٰبِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَىٰ عَنّىمَالِيَهْ * هَلَكَ عَنّى سُلْطَـٰنِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ* إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَـٰهُنَا حَمِيمٌ *وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَـٰطِئُونَ }. أما: حرف تفصيل فصل بها ما وقع فييوم العرض. ويظهر أن من قضى عليه دخول النار من الموحدين، أنه في يوم العرض يأخذ كتابه بيمينه مع الناجينمن النار، ويكون ذلك يأنس به مدة العذاب. وقيل: لا يأخذه حتى يخرج من النار، وإيمانه أنيسه مدة العذاب. قيل:وهذا يظهر لأن من يسار به إلى النار كيف يقول: {هَاؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَـٰبيَهْ }؟ وهل هذا إلا استبشار وسرور؟ فلايناسب دخول النار. وهاؤم إن كان مدلولها خذ، فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة، وإن كان مدلولها تعالوا، فهي متعديةإليه بواسطة إلى، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا. فالبصريون يعملون اقرؤا، والكوفيون يعملون هاؤم، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بيناسم الفعل والقسم. وقرأ الجمهور: {كِتَـٰبيَهْ }، و{حِسَابِيَهْ } في موضعيهما و{مَالِيَهْ } و{سُلْطَـٰنِيَهْ }، وفي القارعة: {*ماهيه} بإثبات هاءالسكت وقفاً ووصلاً لمراعاة خط المصحف. وقرأ ابن محيصن: بحذفها وصلاً ووقفاً وإسكان الياء، وذلك كتابي وحسابي ومالي وسلطاني، ولمينقل ذلك فيما وقفت عليه في { ماهيه } في القارعة؛ وابن أبي إسحاق والأعمش: بطرح الهاء فيهما في الوصل لا فيالوقف، وطرحهما حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف، وفتح الياء فيهن. وما قاله الزهراوي منأن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس كما قال، بل ذلك منقول نقل التواتر فوجبقبوله. {كِتَـٰبيَهْ إِنّى ظَنَنتُ }: أي أيقنت، ولو كان ظناً فيه تجويز لكان كفراً. {فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ }:ذات رضا. وقال أبو عبيدة والفراء: راضية مرضية كقوله: {مِن مَّاء دَافِقٍ }، أي مدفوق. {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ }: أيمكاناً وقدراً. {قُطُوفُهَا }: أي ما يجني منها، {دَانِيَةٌ }: أي قريبة التناول يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها.{كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ }: أي يقال، و{هَنِيئَاً }، تقدم الكلام عليه في أول النساء. وقال الزمخشري: هنيئاً أكلاً وشرباً هنيئاً، أوهنيتم هنيئاً على المصدر. انتهى فقوله: أكلاً وشرباً هنيئاً يظهر منه جعل هنيئاً صفة لمصدرين، ولا يجوز ذلك إلا علىتقدير الإضمار عند من يجيز ذلك، أي أكلاً هنيئاً وشرباً هنيئاً. {بِمَا أَسْلَفْتُمْ }: أي قدمتم من العمل الصالح، {فِىٱلاْيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ }: يعني أيام الدنيا. وقال مجاهد وابن جبير ووكيع وعبد العزيز بن رفيع: أيام الصوم، أي بدل ماأمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى. والظاهر العموم في قوله: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ }: أي من الأعمال الصالحة. {فَيَقُولُيٰلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـٰبِيَهْ }: لما رأى فيه قبائح أفعاله وما يصير أمره إليه، تمنى أنه لم يعطه، وتمنى أنهلم يدر حسابه، فإنه انجلى عنه حسابه عن ما يسوءه فيه، إذ كان عليه لا له. {*يا ليتها}: أي الموتةالتي متها في الدنيا، {حِسَابِيَهْ يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ }: أي القاطعة لأمري، فلم أبعث ولم أعذب؛ أو يا ليت الحالةالتي انتهيت إليها الآن كانت الموتة التي منها في الدنيا، حيث رأى أن حالته التي هو فيها أمر مما ذاقهمن الموتة، وكيف لا وأمره آل إلى عذاب لا ينقطع؟ {مَا أَغْنَىٰ عَنّى مَالِيَهْ }: يجوز أمن يكون نفياً محضاً،أخبر بذلك متأسفاً على ماله حيث لم ينفعه؛ ويجوز أن يكون استفهاماً وبخ به نفسه وقررها عليه. {هَلَكَ عَنّى سُلْطَـٰنِيَهْ}: أي حجتي، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي. وقال ابن زيد: يقول ذلك ملوك الدنيا. وكان عضد الدولةابن نوية لما تسمى بملك الأملاك غلاب القدر لم يفلح وجن، فكان لا ينطلق لسانه إلا بقوله: {هَلَكَ عَنّى سُلْطَـٰنِيَهْ}. {خُذُوهُ }: أي يقال للزبانية {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ }: أي اجعلوا في عنقه غلاًّ، {ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ }، قالالزمخشري: ثم لا تصلوه إلا الجحيم، وهي النار العظمى، لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس. يقال: صلى النار وصلاه النار.انتهى، وإنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر. وقد تكلمنا معه في ذلكعند قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النحاة. وأما قوله: لأنه كان سلطاناً يتعظم علىالناس، فهذا قول ابن زيد وهو مرجوح، والراجح قول ابن عباس ومن ذكر معه: أن السلطان هنا هو الحجة التيكان يحتج بها في الدنيا، لأن من أوتي كتابه بشماله ليس مختصاً بالملوك، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة.{ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا }: أي قياسها ومقدار طولها، {سَبْعُونَ ذِرَاعاً }: يجوز أن يراد ظاهره من العدد، ويجوزأن يراد المبالغة في طولها وإن لم يبلغ هذا العدد. قال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر: بذراع الملك.وقال نوف البكالي وغيره: الذراع سبعون باعاً، في كل باع كما بين مكة والكوفة، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. وقالالحسن: الله أعلم بأي ذراع هي. وقيل: بالذراع المعروف، وإنما خاطبنا تعالى بما نعرفه ونحصله. وقال ابن عباس: لو وضعمنها حلقة على جبل لذاب كالرصاص. {فَاْسْلُكُوهُ }: أي ادخلوه، كقوله: { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ } ، والظاهر أنه يدخله في السلسلة، ولطولهاتلتوي عليه من جميع جهاته فيبقى داخلاً فيها مضغوطاً حتى تعمه. وقيل: في الكلام قلب، والسلسلة تدخل في فمه وتخرجمن دبره، فهي في الحقيقة التي تسلك فيه، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج الكلام عن ظاهره، إلا إن دل الدليلالصحيح على خلافه. وقال الزمخشري: والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية، أي لا تسلكوهإلا في هذه السلسلة، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم. ومعنى ثم: الدلالة على تفاوت ما بين الغلوالتصلية بالجحيم، وما بينها وبين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدة. انتهى. وقد تقدم أن من مذهبه الحصر فيتقديم المعمول، وأما ثم فيمكن بقاؤها على موضوعها من المهلة الزمانية، وأنه أولاً يؤخذ فيغل. ولما لم يعذب بالعجلة، صارتله استراحة، ثم جاء تصلية الجحيم، فكان ذلك أبلغ في عذابه، إذ جاءه ذلك وقد سكنت نفسه قليلاً، ثم جاءسلكه بعد ذلك بعد كونه مغلولاً معذباً في النار، لكنه كان له انتقال من مكان إلى مكان، فيجد بذلك بعضتنفس. فلما سلك في السلسلة كان ذلك أشد ما عليه من العذاب، حيث صار لا حراك له ولا انتقال، وأنهيضيق عليه غاية، فهذا يصح فيه أن تكون ثم على موضوعها من المهلة الزمانية. {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ }:بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله، وإنه تعليل مستأنف، كأن قائلاً قال: لم يعذب هذا العذاب البليغ. وقيل: {إِنَّهُكَانَ لاَ يُؤْمِنُ }، وعطف {وَلاَ يَحُضُّ } على {لاَ يُؤْمِنُ } داخل في العلة، وذلك يدل على عظم ذنبمن لا يحض على إطعام المسكين، إذ جعل قرين الكفر، وهذا حكم ترك الحض، فكيف يكون ترك الإطعام؟ والتقدير علىإطعام طعام المسكين. وأضاف الطعام إلى المسكين من حيث لم ينسبه إليه، إذ يستحق المسكين حقاً في مال الغني الموسرولو بأدنى يسار؛ وللعرب في مكارمهم وإيثارهم آثار عجيبة غريبة بحيث لا توجد في غيرهم، وما أحسن ما قيل فيهم:

على مكثريهم رزق من يعتريهم     وعند المقلين السماحة والبذل

وكان أبو الدرداء يحض امرأتهعلى تكثير الرزق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع نصفها الآخر؟ وقيل: هو منع الكفار. وقولهم: { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } ، يعني أنه إذا نفي الحض انتفى الإطعام بجهة الأولى، كما صرح به في قولهتعالى: { لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ } . {فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَـٰهُنَا حَمِيمٌ }: أي صديق ملاطفوادّ، { ٱلاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } . وقيل: قريب يدفع عنه. {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ }، قال ابن عباس:هو صديد أهل النار. وقال قتادة وابن زيد: هو والزقوم أخبث شيء وأبشعه. وقال الضحاك والربيع: هو شجر يأكله أهلالنار. وقيل: هو شيء يجري من أهل النار، يدل على هذا قوله في الغاشية: { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } ، فهما شيء واحد أو متداخلان. قيل: ويجوز أن يكونا متباينين، وأخبر بكل واحد منهما عن طائفة غير الطائفة التيالآخر طعامها، وله خبر ليس. وقال المهدوي: ولا يصح أن يكون هاهنا، ولم يبين ما المانع من ذلك. وتبعه القرطبيفي ذلك وقال: لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك لأن ثم طعاماً غيره، وهاهنامتعلق بما في له من معنى الفعل. انتهى. وإذا كان ثم غيره من الطعام، وكان الأكل غير أكل آخر، صحالحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين. وأما إن كان الضريع هو الغسلين، كما قال بعضهم، فلا تناقض، إذ المحصور في الآيتينهو شيء واحد، وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره، وهو أنه إذا جعلنا الخبر هاهنا، كان له واليوممتعلقين بما تعلق به الخبر، وهو العامل في ههنا، وهو عامل معنوي، فلا يتقدم معموله عليه. فلو كان العامل لفظياًجاز، كقوله تعالى: { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ، فله متعلق بكفواً وهو خبر ليكن. وقرأ الجمهور: {ٱلْخَـٰطِئُونَ }،اسم فاعل من خطىء، وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمداً لذلك، والمخطىء الذي يفعله غير متعمد. وقرأ الحسن والزهري والعتكيوطلحة في نقل: بياء مضمومة بدلاً من الهمزة. وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع: بخلاف عنه، بضم الطاء دون همز،فالظاهر اسم فاعل من خطىء كقراءة من همز. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد: الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدودالله. انتهى. فيكون اسم فاعل من خطا يخطو، كقوله تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } خطا إلى المعاصي. قوله عز وجل: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍكَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مّن رَّبّٱلْعَـٰلَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلاْقَاوِيلِ * لاخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مّنْأَحَدٍ عَنْهُ حَـٰجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ * وَإِنَّهُلَحَقُّ ٱلْيَقِينِ * فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلْعَظِيمِ }. تقدم الكلام في لا قبل القسم في قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوٰقِعِ ٱلنُّجُومِ } ، وقراءة الحسن: لأقسم بجعلها لا ما دخلت على أقسم. وقيل: لا هنا نفي للقسم، أي لا يحتاج فيهذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك، وعلى هذا فجوابه جواب القسم. قال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد قال: إنمحمداً ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال: كاهن. فردّ الله عليهم بقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ}، عام في جميع مخلوقاته. وقال عطاء: ما تبصرون من آثار القدرة، وما لا تبصرون من أسرار القدرة. وقيل: {وَمَالاَ تُبْصِرُونَ }: الملائكة. وقيل: الأجساد والأرواح. {أَنَّهُ }: أي إن القرآن، {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }: هو محمد صلى اللهعليه وسلم في قول الأكثرين، ويؤيده: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } وما بعده، ونسب القول إليه لأنه هو مبلغه والعاملبه. وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة: هو جبريل عليه السلام، إذ هو الرسول عن الله. ونفى تعالى أنيكون قول شاعر لمباينته لضروب الشعر؛ ولا قول كاهن لأنه ورد بسبب الشياطين. وانتصب {قَلِيلاً } على أنه صفة لمصدرمحذوف أو لزمان محذوف، أي تؤمنون إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً. وكذا التقدير في: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }، والقلة هوإقرارهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا الله. وقال ابن عطية: ونصب {قَلِيلاً } بفعل مضمر يدل عليه {تُؤْمِنُونَ }، وماتحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، والمتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي، لأنهم قد صدقوابأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً، إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به رسول الله صلىالله عليه وسلم هو حق صواب. انتهى. أمّا قوله: ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون فلا يصح، لأن ذلكالفعل الدال عليه {تُؤْمِنُونَ } إما أن تكون ما نافية أو مصدرية، كما ذهب إليه. فإن كانت نافية، فذلك الفعلالمضمر الدال عليه تؤمنون المنفي بما يكون منفياً، فيكون التقدير: ما تؤمنون قليلاً ما تؤمنون، والفعل المنفي بما لا يجوزحذفه ولا حذف ما لا يجوز زيداً ما أضربه، على تقدير ما أضرب زيداً ما أضربه، وإن كانت مصدرية كانتما في موضع رفع على الفاعلية بقليلاً، أي قليلاً إيمانكم، ويبقى قلىلاً لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولاناصب له؛ وإما في موضع رفع على الابتداء، فيكون مبتدأ لا خبر له، لأن ما قبله منصوب لا مرفوع. وقالالزمخشري: والقلة في معنى العدم، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة، والمعنى: ما أكفركم وما أغفلكم. انتهى. ولا يراد بقليلاًهنا النفي المحض، كما زعم، وذلك لا يكون إلا في أقل نحو: أقل رجل يقول ذلك إلا زيد، وفي قلنحو: قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد. وقد تستعمل في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين، نحو ما جوزوا في قوله:

قليـل بهـا الأصـوات إلا بغاتهـا    

أما إذا كان منصوباً نحو: قليلا ضربت، أو قليلاً ما ضربت، على أن تكون مامصدرية، فإن ذلك لا يجور، لأنه في: قليلاً ضربت منصوب بضربت، ولم تستعمل العرب قليلاً إذا انتصب بالفعل نفياً، بلمقابلاً لكثير. وأمّا في قليلاً ما ضربت على أن تكون ما مصدرية، فتحتاج إلى رفع قليل، لأن ما المصدرية فيموضع رفع على الابتداء. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما؛ والجحدري والحسن: يؤمنون، يذكرون: بالياء فيهما؛ وباقيالسبعة: بتاء الخطاب؛ وأبيّ: بياءين. وقرأ الجمهور: {تَنزِيلَ } بالرفع؛ وأبو السمال: تنزيلاً بالنصب. وقرأ الجمهور: {وَلَوْ تَقَوَّلَ }،والتقول أن يقول الإنسان عن آخر إنه قال شيئاً لو يقله. وقرأ ذكوان وابنه محمد: يقول مضارع قال، وهذه القراءةمعترضة بما صرحت به قراءة الجمهور. وقرىء: ولو تقول مبنياً للمفعول، وحذف الفاعل وقام المفعول مقامه، وهو بعض، إن كانقرىء مرفوعاً؛ وإن كان قرىء منصوباً بعلينا قام مقام الفاعل، والمعنى: ولو تقول علينا متقول. ولا يكون الضمير في تقولعائد على الرسول لاستحالة وقوع ذلك منه، فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض فيحقه عليه الصلاة والسلام. والأقاويل جمع الجمع، وهو أقوال كبيت وأبيات، قال الزمخشري: وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً،كقولك: الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول. والظاهر أن قوله: {بِٱلْيَمِينِ } المراد به الجارحة. فقال الحسن: المعنى قطعناهعبرة ونكالاً، والباء على هذا زائدة. وقيل: الأخذ على ظاهرة. قال الزمخشري: والمعنى: ولو ادعى مدع علينا شيئاً لم نقلهلقتلناه صبراً، كما تفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذبيده وتضرب رقبته، وخص اليمين على اليسار لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أرادأن يوقعه في جيده وأن يلحفه بالسيف، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف، أخذ بيمينه. ومعنى {لاخَذْنَا مِنْهُبِٱلْيَمِينِ }: لأخذنا بيمينه، كما أن قوله تعالى {لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ }: لقطعنا وتينة. انتهى، وهو قول للمتقدّمين حسنه الزمخشريبتكثير ألفاظه ومصاغها قالوا: المعنى لأخذنا بيده التي هي اليمين على جهة الإذلال والصغار، كما يقول السلطان إذا أراد عقوبةرجل: يا غلام خذ بيده وافعل كذا، قاله أو قريباً منه الطبري. وقيل: اليمين هنا مجاز. فقال ابن عباس: باليمين:بالقوّة، معناه لنلنا منه عقابه بقوّة منا. وقال مجاهد: بالقدرة. وقال السدّي: عاقبناه بالحق ومن على هذا صلة. وقال نفطويه:لقبضنا بيمينه عن التصرّف. وقيل: لنزعنا منه قوّته. وقيل: لأذللناه وأعجزناه. {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ }، قال ابن عباس:وهو نياط القلب. وقال مجاهد: حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع. والموتون الذي قطع وتينه، والمعنى: لو تقول علينالأذهبنا حياته معجلاً، والضمير في عنه الظاهر أنه يعود على الذي تقول، ويجوز أن يعود على القتل، أي لا يقدرأحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه، والخطاب في منكم للناس، والظاهر في {حَـٰجِزِينَ } أن يكون خبراً لماعلى لغة الحجاز، لأن حاجزين هو محط الفائدة، ويكون منكم لو تأخر لكان صفة لأحد، فلما تقدّم صار حالاً، وفيجواز هذا نظر. أو يكون للبيان، أو تتعلق بحاجزين، كما تقول: ما فيك زيد راغباً، ولا يمنع هذا الفصل منانتصاب خبر ما. وقال الحوفي والزمخشري: حاجزين نعت لأحد على اللفظ، وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع فيالنفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ومنه: { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } ، وقوله: { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ٱلنّسَاء } ،مثل بهما الزمخشري، وقد تكلمنا على ذينك في موضعيهما. وفي الحديث: لم تحل لأحد سود الرؤوس قبلكم وإذا كان حاجزيننعتاً فمن أحد مبتدأ والخبر منكم، ويضعف هذا القول، لأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم، فلا يتسلط علىالحجز. وإذا كان حاجزين خبراً. تسلط النفي علىه وصار المعنى: ما أحد منكم يحجزه عن ما يريد به من ذلك.{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ }: أي وإن القرآن أو الرسول . {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ }: وعيد،أي مكذبين بالقرآن أو بالرسول . {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ }: أي القرآن من حيث كفروا به، ويرون منآمن به ينعم وهم معذبون. وقال مقاتل: وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم، عاد الضمير على المصدر المفهوم من قوله: {مُّكَذّبِينَ}، كقوله:إذا نهـي السفيـه جـرى إليـه أي للسفه. {وَأَنَّهُ }: أي وإن القرآن، {لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ * فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَٱلْعَظِيمِ }: وسبق الكلام على إضافة حق إلى اليقين في آخر الواقعة.