تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة التكاثر
{ أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } * { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } * { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } * { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } * { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ } * { لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ } * { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } * { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ }
{أَلْهَـٰكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّسَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْـئَلُنَّ يَوْمَئِذٍعَنِ ٱلنَّعِيمِ }. هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين. وقال البخاري: مدنية. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة. وسببنزولها أنه فيما روى الكلبي ومقاتل: كان بين بني سهم وبين بني عبد مناف لحاء، فتعادّوا الأشراف الأحياء أيهم أكثر،فكثرهم بنو عبد مناف. ثم تعادوا الأموات، فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية. وقال قتادة: نزلت فياليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان. وقال ابن زيد: نزلت في بطن منالأنصار. {أَلْهَـٰكُمُ }: شغلكم فعلى ما روى الكلبي ومقاتل يكون المعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم، صرتم إلىالمقابر فتكاثرتم بالأموات. عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكماً بهم، وهذا معنى ينبو عنه لفظ زرتم. قيل: {حَتَّىٰزُرْتُمُ }: أي متم وزرتم بأجسادكم مقابرها، أي قطعتم بالتكاثر والمفاخرة بالأموال والأولاد والعدد أعماركم حتى متم. وسمع بعض الأعراب{حَتَّىٰ زُرْتُمُ } فقال: بعث القوم للقيامة، ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم. وعن عمر بن عبد العزيز نحومن قول الأعرابي. وقيل: هذا تأنيث على الإكثار من زيارة تكثراً بمن سلف وإشادة بذكره. وكان رسول الله صلى اللهعليه وسلم نهى عن زيارة القبور، ثم قال: فزوروها أمر إباحة للاتعاظ بها لا لمعنى المباهاة والتفاخر . قال ابن عطية:كما يصنع الناس في ملازمتها وتسليمها بالحجارة والرخام، وتلوينها شرفاً، وبيان النواويس عليه. وابن عطية لم ير إلا قبور أهلالأندلس، فكيف لو رأى ما تباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى، والقرافة الصغرى، وباب النصر وغير ذلك، ومايضيع فيها من الأموال، والتعجب من ذلك، ولرأى ما لم يخطر ببال؟ وأما التباهي بالزيارة، ففي هؤلاء المنتمين إلىالصوف أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور. زرت قبر سيدي فلان بكذا، وقبر فلان بكذا، والشيخ فلاناً بكذا، والشيخفلاناً بكذا؛ فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد، وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ بحيث لو كتبتلجاءت أسفاراً، وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه، وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظنبهم وبذل أموالهم لهم. وأما من شذا منهم لأن يتكلم للعامة فيأتي بعجائب، يقولون هذا فتح هذا من العلم اللدنيعلم الخضر، حتى أن من ينتمي إلى العلم لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ونقل كثيراً من حكاياتهم ومزجذلك بيسير من العلم طلباً للمال والجاه وتقبيل اليد؛ ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته. وقرأ الجمهور:ألهاكم على الخبر؛ وابن عباس وعائشة ومعاية وأبو عمروان الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة: بالمد علىالاستفهام، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب، وعن أبي بكر الصديق وابن عباس أيضاً والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلةوالكسائي في رواية: أألهاكم بهمزتين، ومعنى الاستفهام: التوبيخ والتقرير على قبح فعلهم؛ والجمهور: على أن التكرير توكيد. قال الزمخشري: والتكريرتأكيد للرع والإنذار؛ وثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشد، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقوللك لا تفعل، والمعنى: سوف تعلمون الخطاب فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى.وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * فِى ٱلْقُبُورِ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} في البعث: غاير بينهما بحسب التعلق، وتبقى ثم على بابها من المهلة في الزمان. وقال الضحاك: الزجر الأول ووعيدهللكافرين، والثاني للمؤمنين. {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ }: أي ما بين أيديكم مما تقدمون عليه، {عِلْمَ ٱلْيَقِينِ }: أي كعلم ماتستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر أو العلم اليقين، فأضاف الموصوف إلى صفته وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه وهو{أَلْهَـٰكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ }. وقيل: اليقين هنا الموت. وقال قتادة: البعث، لأنه إذا جاء زال الشك. ثم قال: {لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ }:والظاهر أن هذه الرؤية هي رؤية الورود، كما قال تعالى: { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } ، ولا تكون رؤية عند الدخول،فيكون الخطاب للكفار لأنه قال بعد ذلك: {ثُمَّ لَتُسْـئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ }. {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ }: تأكيدللجملة التي قبلها، وزاد التوكيد بقوله: {عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى. وعن ابن عباس: هو خطابللمشركين، فالرؤية رؤية دخول. وقرأ ابن عامر والكسائي: لترون بضم التاء؛ وباقي السبعة: بالفتح، وعليّ وابن كثير في رواية، وعاصمفي رواية: بفتحها في {لَتَرَوُنَّ }، وضمها في {لَتَرَوُنَّهَا }، ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة: بضمها. وروي عن الحسن وأبيعمرو بخلاف عنهما أنهما همز الواوين، استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا كما همزوا في وقتت، وكان القياس أن لا تهمز،لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها. لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا،وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقف نحو استرؤا الصلاة، فهمز هذه أولى. {ثُمَّ لَتُسْـئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِٱلنَّعِيمِ }: الظاهر العموم في النعيم، وهو كل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب، فالمؤمن يسأل سؤال إكراموتشريف، والكافر سؤال توبيخ وتقريع. وعن ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد: هو الأمن والصحة. وعن ابن عباس: البدن والحواس فيماستعملها. وعن ابن جبير: كل ما يتلذذ به. وفي الحديث: بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم