تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الإنسان
{ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } * { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } * { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } * { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } * { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } * { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } * { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } * { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } * { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } * { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } * { فَوَقَاهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } * { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً } * { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } * { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } * { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } * { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } * { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } * { عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً } * { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } * { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } * { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } * { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } * { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً } * { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } * { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } * { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } * { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } * { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } * { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } * { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } * { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } الأمشاج: الاخلاط، واحدها مشج بفتحتين، أو مشج كعدل، أو مشيج كشريف وأشراف، قالهابن الأعرابي، وقال رؤبة:
يطرحن كل معجل بساج | لم يكس جلداً من دم أمشاج |
وقال الهذلي:
كأن النصل والفوقين منها | خلاف الريش سيط به مشيج |
وقال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت | على مشج سلالته مهين |
ويقال: مشج يمشج مشجاً إذا خلط، ومشيج: كخليط،وممشوج: كمخلوط. مزج الشيء بالشيء: خلطه، وقال الشاعر:
كأن سبيئة من بيت رأس | يكون مزاجها عسل وماء |
استطار الشيء: انتشر، وتقول العرب: استطار الصدع في القارورة وشبهها واستطال، ومنه قول الشاعر:
فبانت وقد أسأرت في الفؤا | د صدعاً على نأيها مستطيرا |
وقال الفراء: مستطير: مستطيل. ويقال: يوم قمطرير وقماطرواقمطرّ، فهو مقمطر إذا كان صعباً شديداً، وقال الزاجز:
قد جعلت شبوة تزبئر | تكسو إستها لحماً وتقمطر |
وقال الشاعر:
ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها | وبج بها اليوم الشديد القماطر |
وقال الزجاج: القمطرير: الذي يعيش حتى يجتمع ما بين عينيه، ويقال: أقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريهاورمت بأنفها، فاشتقه من القطر وجعل الميم زائدة، وقال أسد بن ناعصة:
واصطليت الحروب في كل يوم | باسد الشر قمطرير الصباح |
واختلف في هذا الوزن، وأكثر النحاة لا يثبت افمعلّ في أوزان الأفعال. الزمهرير:أشد البرد، وقال ثعلب: هو القمر بلغة طي، وأنشد قول الراجز:
وليلة ظلامها قد اعتكر | قطعتها والزمهرير ما زهر |
القارورة: إناء رقيق صاف توضع فيه الأشربة، قيل: ويكون من الزجاج. الزنجبيل، قالالدينوري: نبت في أرض عمان عروق تسري وليس بشجر، يؤكل رطباً، وأجوده ما يحمل من بلاد الصين، كانت العرب تحبهلأنه يوجب لذعاً في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون به، قال الشاعر:
كأن جنباً من الزنجبيل بات | بفيها وارياً مستورا |
وقال المسيب بن علس:
وكـــأن طعـــم الـــزنجبيـــــل به إذا ذقته وسلافة الخمر |
السلسبيل والسلسلوالسلسال: ما كان من الشراب غاية في السلاسة، قاله الزجاج. وقال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن. ثمظرف مكان للبعد. {هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَـٰنِ حِينٌ مّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِننُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ سَلَـٰسِلَ وَأَغْلَـٰلاًوَسَعِيراً * إِنَّ ٱلاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَـٰفُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَبِٱلنَّذْرِ وَيَخَـٰفُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَنُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَـٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّـٰهُمْنَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً * مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلاْرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً *وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـٰلُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً }. هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال مجاهد وقتادة: مدنية. وقال الحسنوعكرمة: مدنية إلا آية واحدة فإنها مكية وهي: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً }. وقيل: مدنية إلا من قوله:{فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ } الخ، فإنه مكي، حكاه الماوردي. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّاً لا تحتاج إلى شرح. {هَلُ} حرف استفهام، فإن دخلت على الجملة الاسمية لم يمكن تأويله بقد، لأن قد من خواص الفعل، فإن دخلت علىالفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض. وقال ابن عباس وقتادة: هي هنا بمعنى قد. قيل: لأن الأصل أهل، فكأن الهمزةحذفت واجتزىء بها في الاستفهام، ويدل على ذلك قوله:
سائل فوارس يربوع لحلتها | أهل رأونا بوادي النتّ ذي الأكم |
فالمعنى: أقد أتى على التقدير والتقريب جميعاً، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب حين من الدهرلم يكن كذا، فإنه يكون الجواب: أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكور. وما تليت عند أبي بكر، وقيل: عند عمررضي الله تعالى عنهما قال: ليتها تمت، أي ليت تلك الحالة تمت، وهي كونه شيئاً غير مذكور ولم يخلق ولميكلف. والإنسان هنا جنس بني آدم، والحين الذي مرّ عليه، إما حين عدمه، وإما حين كونه نطفة. وانتقاله من رتبةإلى رتبة حتى حين إمكان خطابه، فإنه في تلك المدة لا ذكر له، وسمي إنساناً باعتبار ما صار إليه. وقيل:آدم عليه الصلاة والسلام، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقي فيها إلى أن نفخ فيه الروح. وعن ابنعباس: بقي طيناً أربعين سنة، ثم صلصالاً أربعين، ثم حمأ مسنوناً أربعين، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة، وسمي إنساناًباعتبار ما آل إليه. والجملة من {لَمْ يَكُنِ } في موضع الحال من الإنسان، كأنه قيل: غير مذكور، وهو الظاهرأو في موضع الصفة لحين، فيكون العائد على الموصوف محذوفاً، أي لم يكن فيه. {إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ }: هوجنس بني آدم لأن آدم لم يخلق {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ }: أخلاط، وهو وصف للنطفة. فقال ابن مسعود وأسامة بنزيد عن أبيه: هي العروق التي في النطفة. وقال ابن عباس ومجاهد والربيع: هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا فيالرحم فخلق الإنسان منهما. وقال الحسن: اختلاط النطفة بدم الحيض، فإذا حبلت ارتفع الحيض. وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة وقتادة:أمشاج منتقلة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى إنشائه إنساناً. وقال ابن عباس أيضاً والكلبي: هيألوان النطفة. وقيل: أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء، والنطفة أريد بها الجنس، فلذلك وصفت بالجمع كقوله: { عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ } ،أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة. وقال الزمخشري: نطفة أمشاج، كبرمة إعسار، وبرد أكياس، وهي ألفاظ مفرد غير جموع،ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضاً: نطفة مشج، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له، بل هما مثلان في الإفرادلوصف المفرد بهما. انتهى. وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً. قال سيبويه: وليس في الكلامأفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه. {نَّبْتَلِيهِ }: نختبره بالتكليف في الدنيا؛وعن ابن عباس: نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة، فعلى هذا هي حال مصاحبة، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف،فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتلياً له بالتكليف في ذلك الوقت. وقال الزمخشري: ويجوزأن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة. انتهى. وهذا معنى قول ابن عباس.وقيل: نبتليه بالإيحان والكون في الدنيا، فهي حال مقارنة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير الأصل. {فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً } نبتليه،أي جعله سميعاً بصيراً هو الابتلاء، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير، والمعنى يصح بخلافه، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتينالصفتين، وهما كناية عن التمييز والفهم، إذ آلتهما سبب لذلك، وهما أشرف الحواس، تدرك بهما أعظم المدركات. ولما جعلهبهذه المثابة، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل، أي أرشده إلى الطريق، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك، إذأرشدناه طريق الهدى. وقال مجاهد: سبيل السعادة والشقاوة. وقال السدي: سبيل الخروج من الرحم. وقال الزمخشري: أي مكناه وأقدرناه فيحالتيه جميعاً، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة. انتهى، وهوعلى طريق الإلتزام. وقرأ الجمهور: {أَمَّا } بكسر الهمزة فيهما؛ وأبو السمال وأبو العاج، وهو كثير بن عبد الله السلميشامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك: بفتحها فيهما، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب، وهي التي عدها بعضالناس في حروف العطف وأنشدوا:
يلحقها إما شمال عرية | وإما صبا جنح العشي هبوب |
وقال الزمخشري: وهي قراءة حسنة، والمعنى: إما شاكراً بتوفيقنا، وإما كفوراً فبسوء اختياره. انتهى. فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط،ولذلك تلقاها بفاء الجواب، فصار كقول العرب: إما صديقاً فصديق؛ وانتصب شاكراً وكفوراً على الحال من ضمير النصب في {هَدَيْنَـٰهُ}. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونا حالين من السبيل، أي عرفناه السبيل، إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، كقوله: { وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ } ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً. انتهى. ولما كان الشكر قل من يتصف به قال شاكراً: ولما كان الكفركثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفوراً بصيغة المبالغة. ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد.وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة: {سَلَـٰسِلَ } ممنوع الصرف وقفاً ووصلاً. وقيل عن حمزة وأبيعمر: الوقف بالألف. وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف، واختلف عنهم في الوقف، وكذا عن البزي. وقرأ باقي السبعة: بالتنوينوصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً، وهي قراءة الأعمش، قيل: وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل مالا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء، ثم كثر حتى جرى في كلامهم، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لماكان يجمع فقالوا: صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف، وقال بعض الرجاز:
والصرف في الجمع أتى كثيرا | حتى ادعى قوم به التخييرا |
والصرف ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة، وفيمصحف أبي وعبد الله، وكذا قوارير. وروى هشام عن ابن عامر: سلاسل في الوصل، وسلاسلاً بألف دون تنوين في الوقف.وروي أن من العرب من يقول: رأيت عمراً بالألف في الوقف. {مِن كَأْسٍ }: من لابتداء الغاية، {كَانَ مِزَاجُهَا كَـٰفُوراً}، قال قتادة: يمزج لهم بالكافور، ويختم لهم بالمسك. وقيل: هو على التشبيه، أي طيب رائحة وبرد كالكافور. وقال الكلبي:كافوراً اسم عين في الجنة، وصرفت لتوافق الآي. وقرأ عبد الله: قافوراً بالقاف بدل الكاف، وهما كثيراً ما يتعاقبان فيالكلمة، كقولهم: عربي قح وكح، و{عَيْناً } بدل من {كَـٰفُوراً } مفعولاً بيشربون، أي ماء عين، أو بدل من محلمن كأس على حذف مضاف، أي يشربون خمراً خمر عين، أو نصب على الاختصاص. ولما كانت الكأس مبدأ شربهم أتىبمن؛ وفي {يَشْرَبُ بِهَا }: أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على الإلصاق، والمعنى: يشرب عباد الله بها الخمر،كما تقول: شربت الماء بالعسل، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء. وقيل: الباء زائدة والمعنى يشرب بها، وقال الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت | متى لجج خضر لهن نئيج |
قيل: أي شربن ماءالبحر. وقرأ ابن أبي عبلة: بشربها؛ وعباد الله هنا هم المؤمنون، {يُفَجّرُونَهَا }: يثقبونها بعود قصب ونحوه حيث شاءوا، فهيتجري عند كل واحد منهم، هكذا ورد في الأثر. وقيل: هي عين في دار رسول الله ﷺتنفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين. {يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ } في الدنيا، وكانوا يخافون. وقال الزمخشري: {يُوفُونَ } جواب من عسى يقولما لهم يرزقون ذلك. انتهى. فاستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز، وأتى بعد عسى بالمضارع غير مقرون بأن، وهوقليل أو في شعر. والظاهر أن المراد بالنذر ما هو المعهود في الشريعة أنه نذر. قال الأصم وتبعه الزمخشري: هذامبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان لما أوجبه الله تعالىعليه أوفى. وقيل: النذر هنا عام لما أوجبه الله تعالى، وما أوجبه العبد فيدخل فيه الإيمان وجمع الطاعات. {عَلَىٰ حُبّهِ}: أي على حب الطعام، إذ هو محبوب للفاقة والحاجة، قاله ابن عباس ومجاهد؛ أو على حب الله: أي لوجههوابتغاء مرضاته، قاله الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني. والأول أمدح، لأن فيه الإيثار على النفس؛ وأما الثاني فقد يفعلهالأغنياء أكثر. وقال الحسن بن الفضل: على حب الطعام، أي محبين في فعلهم ذلك، لا رياء فيه ولا تكلف. {مِسْكِيناً}: وهو الطواف المنكسر في السؤال، {وَيَتِيماً }: هو الصبي الذي لا أب له، {وَأَسِيراً }: والأسير معروف، وهو منالكفار، قاله قتادة. وقيل: من المسلمين تركوا في بلاد الكفار رهائن وخرجوا لطلب الفداء. وقال ابن جبير وعطاء: هو الأسيرمن أهل القبلة. وقيل: {وَأَسِيراً } استعارة وتشبيه. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء: هو المسجون. وقال أبو حمزة اليماني: هيالزوجة؛ وعن أبي سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون. وفي الحديث: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك». {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ}: هو على إضمار القول، ويجوز أن يكونوا صرحوا به خطاباً للمذكورين، منعاً منهم وعن المجازاة بمثله أو الشكر، لأنإحسانهم مفعول لوجه الله تعالى، فلا معنى لمكافأة الخلق، وهذا هو الظاهر. وقال مجاهد: أما أنهم ما تكلموا به، ولكنالله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم به. {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء }: أي بالأفعال، {وَلاَ شُكُوراً }: أي ثناء بالأقوال؛وهذه الآية قيل نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جداً ظاهرةالاختلاف، وفيها إشعار للمسكين واليتيم والأسير، يخاطبون بها ببيت النبوة، وإشعار لفاطمة رضي الله عنها تخاطب كل واحد منهم، ظاهرهاالاختلاف لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسفاطة معانيها. {يَوْماً عَبُوساً }: نسبة العبوس إلى اليوم مجاز. قال ابن عباس: يعبس الكافريومئذ حتى يسيل من عينيه عرق كالقطران. وقرأ الجمهور: {فَوَقَـٰهُمُ } بخفة القاف؛ وأبو جعفر: بشدها؛ {وَلَقَّـٰهُمْ نَضْرَةً }: بدلعبوس الكافر، {وَسُرُوراً }: فرحاً بدل حزنه، لا تكاد تكون النظرة إلا مع فرح النفس وقرة العين. وقرأ الجمهور: {وَجَزَاهُمْ}؛ وعليّ: وجازاهم على وزن فاعل، {جَنَّةً وَحَرِيراً }: بستاناً فيه كل مأكل هنيء، {وَحَرِيراً } فيه ملبس بهي، وناسبذكر الحرير مع الجنة لأنهم أوثروا على الجوع والغذاء. {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا }: أي في الجنة، {شَمْساً }: أي حرشمس ولا شدة برد، أي لا شمس فيها فترى فيؤذي حرها، ولا زمهرير يرى فيؤذي بشدته، أي هي معتدلة الهواء.وفي الحديث: هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر . وقيل: لا يرون فيها شمساً ولا قمراً، والزمهرير في لغة طيءالقمر. وقرأ الجمهور: {وَدَانِيَةً }، قال الزجاج: هو حال عطفاً على {مُتَّكِئِينَ }. وقال أيضاً: ويجوز أن يكون صفةللجنة، فالمعنى: وجزاهم جنة دانية. وقال الزمخشري: ما معناه أنها حال مطعوفة على حال وهي لا يرون، أي غير رائين،ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنوّالظلال عليهم. وقرأ أبو حيوة: ودانية بالرفع، واستدل به الأخفش على جواز رفع اسم الفاعل من غير أن يعتمد، نحوقولك: قائم الزيدون، ولا حجة فيه لأن الأظهر أن يكون {ظِلَـٰلُهَا } مبتدأ {وَدَانِيَةً } خبر له. وقرأ الأعمش: ودانياًعليهم، وهو كقوله: { خَـٰشِعَةً أَبْصَـٰرُهُمْ } . وقرأ أبيّ: ودان مرفوع، فهذا يمكن أن يستدل به الأخفش. {وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا }، قالقتادة ومجاهد وسفيان: إن كان الإنسان قائماً، تناول الثمر دون كلفة؛ وإن قاعداً أو مضطعجاً فكذلك، فهذا تذليلها، لا يرداليد عنها بعد ولا شوك. فأما على قراءة الجمهور: {وَدَانِيَةً } بالنصب، كان {وَذُلّلَتْ } معطوفاً على دانية لأنها فيتقدير المفرد، أي ومذللة، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية. ويجوز أن تكون في موضعالحال، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت. قوله عز وجل: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِـئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ* قَوارِيرَ * مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً *وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰنٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَـٰلِيَهُمْ ثِيَابُسُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً* إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ تَنزِيلاً * فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً * وَٱذْكُرِ ٱسْمَرَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَـٰؤُلاَء يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً* نَّحْنُ خَلَقْنَـٰهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَـٰلَهُمْ تَبْدِيلاً * إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبّهِ سَبِيلاً* وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَٱلظَّـٰلِمِينَ أَعَدَّلَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }. لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم، ذكر شرابهم، وقدم ذكر الآنية التي يسقون منها، والآنيةجمع إناء، وتقدم شرح الأكواب. وقرأ نافع والكسائي: قواريراً قواريراً بتنوينهما وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً؛ وابن عامر وحمزة وأبو عمرووحفص: بمنع صرفهما؛ وابن كثير: بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني. وقال الزمخشري: وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنهفاصلة، وفي الثاني لاتباعه الأول. انتهى. وكذا قال في قراءة من قرأ سلاسلاً بالتنوين: إنه بدل من حرف الإطلاق، أجرىالفواصل مجرى أبيات الشعر، فكما أنه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعاراً بترك الترنم، كما قال الراجز:
يـا صـاح مـا هـاج الدمـوع الذرّفـن |
فهذه النون بدل من الألف، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق. {مِن فِضَّةٍ }: أي مخلوقة منفضة، ومعنى {كَانَتْ }: أنه أوجدها تعالى من قوله: { كُنْ فَيَكُونُ } تفخيماً لتلك الخقلة العجيبة الشأن الجامعة بين بياضالفضة ونصوعها وشفيف القوارير وصفائها، ومن ذلك قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كَـٰفُوراً }. وقرأ الأعمش: قوارير من فضة بالرفع، أي هوقرارير. وقرأ الجمهور: {قَدَّرُوهَا } مبنياً للفاعل، والضمير للملائكة، أو للطواف عليهم، أو المنعمين، والتقدير: على قدر الأكف، قاله الربيع؛أو على قدر الري، قاله مجاهد. وقال الزمخشري: {قَدَّرُوهَا } صفة لقرارير من فضة، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها فيأنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروها. وقيل: الضمير للطائفين بها يدل عليه قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ }،على أنهم قدروا شرابها على قدر الري، وهو ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته، لا يفضل عنها ولا يعجز. وعنمجاهد: لا يفيض ولا يغيض. انتهى. وقرأ عليّ وابن عباس والسلمي والشعبي وابن أبزي وقتادة وزيد بن عليّ والجحدري وعبدالله بن عبيد بن عمير وأبو حيوة وعباس عن أبان، والأصمعي عن أبي عمرو، وابن عبد الخالق عن يعقوب: قدروهامبنياً للمفعول. قال أبو علي: كأن اللفظ قدروا عليها، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم، فهيمثل قوله: { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِى ٱلْقُوَّةِ } ، ومثل قول العرب: إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء.وقال الزمخشري: ووجهه أن يكون من قدر منقولاً من قدر، تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلك قادراً عليه، ومعناه:جعلوا قادرين لها كما شاءوا، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا. انتهى. وقال أبو حاتم: قدرت الأوانيعلى قدر ريهم، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا، قال: فيه حذف على حذف، وهو أنه كان قدر على قدرريهم إياها، ثم حذف على فصار قدر ريهم مفعول لم يسم فاعله، ثم حذف قدر فصار ريهم قائماً مقامه، ثمحذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله، واتصلضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل. انتهى. والأقربفي تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف وهو الذي، وأقيم الضمير مقامه فصارالتقدير: قدروا منها؛ ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدّروها، فلم يكن فيه إلاحذف مضاف واتساع في المجرور. والظاهر أن الكأس تمزج بالزنجبيل، والعرب تستلذة وتذكره في وصف رضاب أفواه النساء، كماأنشدنا لهم في الكلام على المفردات. وقال الزمخشري: تسمى العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها. انتهى. وقال قتادة: الزنجبيل اسم لعينفي الجنة، يشرب منها المقربون صرفاً، ويمزج لسائر أهل الجنة. وقال الكلبي: يسقى بجامين، الأول مزاجه الكافور، والثاني مزاجه الزنجبيل.وعيناً بدل من كأس على حذف، أي كأس عين، أو من زنجبيل على قول قتادة. وقيل: منصوب على الاختصاص. والظاهرأن هذه العين تسمى سلسبيلاً بمعنى توصف بأنها سلسلة في الاتساع سهلة في المذاق، ولا يحمل سلسبيل على أنه اسمحقيقة، لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية. وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف، جعله علماً لها،فإن كان علماً فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل، كما قال ذلك بعضهم في سلاسلاً وقواريراً؛ ويحسن ذلك أنه لغةبعض العرب، أعني صرف ما لا يصرفه أكثر العرب. وقال الزمخشري: وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية.انتهى. وكان قد ذكر فقال: شراب سلسل وسلسال وسلسيل، فإن كان عنى أنه زيد حقيقة فليس بجيد، لأن الباء ليستمن حروف الزيادة المعهودة في علم النحو؛ وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسيل ولا فيسلسال، فيصح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة. وقال بعض المعربينّ: سلسبيلاً أمر للنبي صلى الله عليهوسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها، وقد نسبوا هذا القول إلى علي كرم الله وجهه، ويجب طرحه من كتب التفسير. وأعجبمن ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته، ويذكر نسبته إلى عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه. وقال قتادة: هي عينتنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى الجنان. وقال عكرمة: عين سلس ماؤها. وقال مجاهد: عين جديرة الجرية سلسلةسهلة المساغ. وقال مقاتل: عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاءوا وتقدّم شرح {مُّخَلَّدُونَ } وتشبيه الولدان باللؤلؤ المنثورفي بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في المساكن في خدمة أهل الجنة يجيئون ويذهبون. وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا أنثر منصدفه، فإنه أحسن في العين وأبهج للنفس. وجواب {إِذَا رَأَيْتَهُمْ }: {نَعِيماً }، ومفعول فعل الشرط محذوف، حذف اقتصاراً، والمعنى:وإذا رميت ببصرك هناك، وثم ظرف العامل فيه رأيت. وقيل: التقدير: وإذا رأيت ما ثم، فحذف ما كما حذف فيقوله: { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } ، أي ما بينكم. وقال الزجاج، وتبعه الزمخشري فقال: ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ،لأن ثم صلة لما، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة. انتهى. وليس بخطأ مجمع عليه، بل قد أجاز ذلك الكوفيون،وثم شواهد من لسان العرب كقوله:
فمن يهجو رسول الله منكم | ويمدحه وينصره سواء |
أي: ومن يمدحه، فحذف الموصول وأبقى صلته. وقال ابن عطية: وثم ظرف العامل فيه رأيت أو معناه، التقدير: رأيت ماثم حذفت ما. انتهى. وهذا فاسد، لأنه من حيث جعله معمولاً لرأيت لا يكون صلة لما، لأن العامل فيه إذذاك محذوف، أي ما استقر ثم. وقرأ الجمهور: ثم بفتح الثاء؛ وحميد الأعرج: ثم بضم التاء حرف عطف، وجواب إذاعلى هذا محذوف، أي وإذا رميت ببصرك رأيت نعيماً؛ والملك الكبير قيل: النظر إلى الله تعالى. وقال السدّي: استئذان الملائكةعليهم. وقال أكثر المفسرين: الملك الكبير: اتساع مواضعهم. وقال الكلبي: كبيراً عريضاً يبصر أدناهم منزلة في الجنة مسيرة ألف عام،يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقاله عبد الله بن عمر، وقال: ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليهألف غلام، كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه. وقال الترمذي، وأظنه الترمذي الحكيم لا أبا عيسى الحافظ صاحب الجامع: هوملك التكوين والمشيئة، إذا أراد شيئاً كان قوله تعالى: { لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا } ، وقيل غير هذه الأقوال. وقرأعمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة: {عَـٰلِيَهُمْ } بفتح الياء؛ وابن عباس: بخلاف عنه؛ والأعرج وأبوجعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة: بسكونها، وهي رواية أبان عن عاصم. وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ:بالياء مضمومة؛ وعن الأعمش وأبان أيضاً عن عاصم: بفتح الياء. وقرأ: عليهم حرف جر، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوةوابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً؛ وقرأت عائشة رضي الله عنها: علتهم بتاء التأنيث فعلاً ماضياً، فثياب فاعل. ومن قرأبالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب؛ ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال،وهو حال من المجرور في {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ }، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل يطوف. وقال الزمخشري: وعاليهم بالنصب على أنهحال من الضمير في {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ }، أو في {حَسِبْتَهُمْ }، أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب، أوحسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب. ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. انتهى. إما أن يكون حالاً منالضمير في {حَسِبْتَهُمْ }، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول، وهذا عائد على {وِلْدٰنٌ }، ولذلك قدر عاليهم بقوله: عالياًلهم، أي للولدان، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله: {وَحُلُّواْ وَسَقَـٰهُمْ}، وإن هذا كان لكم جزاء، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لايجوز. وأما جعله حالاً من محذوف وتقديره أهل نعيم، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقديرذلك المحذوف، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال. وقال ابن عطية: ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنهبمعنى فوقهم. انتهى. وعال وعالية اسم فاعل، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب عاليكأو عاليتك ثوب. وقرأ الجمهور: ثياب بغير تنوين على الإضافة إلى سندس. وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة: عليهم ثيابسندس خضر وإستبرق، برفع الثلاثة، برفع سندس بالصفة لأنه جنس، كما تقول: ثوب حرير، تريد من حرير؛ وبرفع خضر بالصفةأيضاً لأن الخضرة لونها؛ ورفع استبرق بالعطف عليها، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره: وثياب استبرق، أي من استبرق. وقرأالحسن وعيسى ونافع وحفص: خضر برفعهما. وقرأ العربيان ونافع في رواية: خضر بالرفع صفة لثياب، وإستبرق جر عطفاً على سندس.وقرأ ابن كثير وأبو بكر: بجر خضر صفة لسندس، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب. وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو:بخلاف عنهما؛ وحمزة والكسائي: ووصف اسم الجنس الذي بينه وبين واحده تاء التأنيث، والجمع جائز فصيح كقوله تعالى: { وَيُنْشِىء ٱلسَّحَابَ ٱلثّقَالَ } ، وقال: { وَٱلنَّخْلَ بَـٰسِقَـٰتٍ } ، فجعل الحال جمعاً، وإذا كانوا قد جمعوا صفة اسم الجنس الذي ليس بينه وبينواحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع، كقولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، حيث جمع وصفهما ليس بسديد، بل هوجائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح. وقرأ ابن محيصن: {وَإِسْتَبْرَقٍ }، وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف. وقالالزمخشري: هنا وقرىء واستبرق نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف،تقول: الاستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب. وقرىء: واستبرق، بوصل الهمزة والفتحعلى أنه مسمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضاً لأنه معرب مشهور تعريبه، وأن أصله استبره. انتهى. ودل قوله: إلاأن يزعم ابن محيصن، وقوله: بعد وقرىء واستبرق بوصل الألف والفتح، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتحالقاف؛ والمنقول عنه في كتب القراآت أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف. وقال أبو حاتم: لا يجوز، والصواب أنه اسمجنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً، ويومئذ ذلك دخول لام المعرفة عليه، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة. انتهى.ونقول: إن ابن محيصن قارىء جليل مشهور بمعرفة العربية، وقد أخذ عن أكابر العلماء، ويتطلب لقراءته وجه، وذلك أنه يجعلاستفعل من البريق. وتقول: برق واستبرق، كعجب واستعجب. ولما كان قوله: {خُضْرٍ } يدل على الخضرة، وهي لون ذلكالسندس، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش، أخبر أن في ذلك اللون بريقاً وحسناً يزيل غبشته. فاستبرق فعل ماض،والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله: {خُضْرٍ }. وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرفالعربية وتوهيم ضابط ثقة {أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ }، وفي موضع آخر { مّن ذَهَبٍ } ، أي يحلون منهما على التعاقب أوعلى الجمع بينهما، كما يقع للنساء في الدنيا. قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران، سوار من ذهبوسوار من فضة. انتهى. فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن، وإما أن يكون بدلاً منه، وإمّا أن يكون مفعولأحسن، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور. فإن كان الأول، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب،لا تقول: ما أحسن بزيد، تريد: ما أحسن زيداً، وإن كان الثاني، ففي مثل هذا الفصل خلاف. والمنقول عن سيبويهأنه لا يجوز، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف. {وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}، طهور صفة مبالغة في الطهارة، وهي من فعل لازم؛ وطهارتها بكونها لم يؤمر باجتنابها، وليست كخمر الدنيا التي هيفي الشرع رجس؛ أو لكونها لم تدس برجل دنسة، ولم تمس بيد وضرة، ولم توضع في إناء لم يعن بتنظيفه.ذكره بأبسط من هذا الزمخشري ثم قال: أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة، لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريحكريح المسك. انتهى. وهذا الآخر قاله أبو قلابة والنخعيّ وإبراهيم التيمي، قالوا: لا تنقلب إلى البول، بل تكون رشحاً منالأبدان أطيب من المسك. {إِنَّ هَذَا }: أي النعيم السرمدي، {كَانَ لَكُمْ جَزَاء }: أي لأعمالكم الصالحة، {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً}: أي مقبولاً مثاباً. قال قتادة: لقد شكر الله سعياً قليلاً، وهذا على إضمار يقال لهم. وهذا القول لهم هوعلى سبيل التهنئة والسرور لهم بضد ما يقال للمعاقب: إن هذا بعملك الرديء، فيزداد غماً وحزناً. ولما ذكر أولاًحال الإنسان وقسمه إلى العاصي والطائع، ذكر ما شرف به نبيه محمداً ﷺ، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَاعَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ }، وأمره بالصبر بحكمه، وجاء التوكيد بأن لمضمون الخبر ومدول المخبر عنه، وأكد الفعل بالمصدر. {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْءاثِماً أَوْ كَفُوراً }، قال قتادة: نزلت في أبي جهل، قال: إن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه، فأنزل اللهتعالى: {وَلاَ تُطِعِ } الآية. والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما، لأنه يستلزم النهي عنأحدهما، لأن في طاعتهما طاعة أحدهما. ولو قال: لا تضرب زيداً وعمراً، لجاز أن يكون نهياً عن ضربهما جميعاً، لاعن ضرب أحدهما. وقال أبو عبيدة: أو بمعنى الواو، والكفور، وإن كان إثماً، فإن فيه مبالغة في الكفر. ولما كانوصف الكفور مبايناً للموصوف لمجرّد الإثم، صلح التغاير فحسن العطف. وقيل: الآثم عتبة، والكفور الوليد، لأن عتبة كان ركاباً للمآثممتعاطياً لأنواع الفسوق؛ وكان الوليد غالباً في الكفر، شديد الشكيمة في العتوّ. {وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً }: يعني صلاةالصبح، {وَأَصِيلاً }: الظهر والعصر. {وَمِنَ ٱلَّيْلِ }: المغرب والعشاء. وقال ابن زيد وغيره: كان ذلك فرضاً ونسخ، فلا فرضإلا الخمس. وقال قوم: هو محكم على وجه الندب. {إِنَّ هَـؤُلآء }: إشارة إلى الكفرة. {يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ }: يؤثرونها علىالدنيا. {وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ }: أي أمامهم، وهو ما يستقبلون من الزمان. {يَوْماً ثَقِيلاً }: استعير الثقل لليوم لشدته، وهوله منثقل الجرم الذي يتعب حامله. وتقدم شرح الأسر في سورة القتال. {وَإِذَا شِئْنَا }: أي تبديل أمثالهم بإهلاكهم، {بَدَّلْنَا أَمْثَـٰلَهُمْ} ممن يطيع. وقال الزمخشري: وحقه أن يجيء بإن لا بإذا، كقوله: { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } . انتهى. يعني أنهم قالوا إن إذا للمحقق وإن للممكن، وهو تعالى لم يشأ، لكنه قد توضع إذا موضع إن،وإن موضع إذا، كقوله: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن } . {إِنَّ هَـٰذِهِ }: أي السورة، أو آيات القرآن، أو جملةالشريعة ليس على جهة التخيير، بل على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل الله. وقال الزمخشري: لمن شاء ممن اختارالخير لنفسه والعاقبة، واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة. {وَمَا تَشَاءونَ }: الطاعة، {إِلاَّ أَن يَشَاءٱللَّهُ }، يقسرهم عليها. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً } بأحوالهم وما يكون منهم، {حَكِيماً } حيث خلقهم مع علمه بهم.انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. وقرأ العربيان وابن كثير: وما يشاءون بياء الغيبة؛ وباقي السبعة: بتاء الخطاب؛ ومذهب أهل السنة أنهنفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في أنفسهم، ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب. وقال الزمخشري: فإن قلت:ما محل {أَن يَشَاء ٱللَّهُ }؟ قلت: النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قرأ ابن مسعود: إلاما يشاء الله، لأن ما مع الفعل كان معه. انتهى. ونصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرحبه، كقولك: أجيئك صياح الديك، ولا يجيزون: أجيئك أن يصيح الديك، ولا ما يصيح الديك؛ فعلى هذا لا يجوز ماقاله الزمخشري. {يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ }: وهم المؤمنون. وقرأ الجمهور: {وَٱلظَّـٰلِمِينَ } نصباً بإضمار فعل يفسره قوله:{أَعَدَّ لَهُمْ }، وتقديره: ويعذب الظالمين، وهو من باب الاشتغال، جملة عطف فعلية على جملة فعلية. وقرأ ابن الزبير وأبانبن عثمان وابن أبي عبلة: والظالمون، عطف جملة اسمية على فعلية، وهو جائز حسن. وقرأ عبد الله: وللظالمين بلام الجر،وهو متعلق بأعد لهم توكيداً، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال، ويقدر فعل يفسره الفعل الذي بعده، فيكون التقدير:وأعد للظالمين أعدّ لهم، وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو، فتقول: بزيد مررت به، ويكون التقدير: مررتبزيد مررت به، ويكون من باب الاشتغال. والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخر، وما أشبهه من جهةالمعنى فعلاً ماضياً.