انتقل إلى المحتوى

تحريم النظر في كتب الكلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
كتاب
تحريم النظر في كتب الكلام
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا موافيا لنعمه مكافئا لمزيده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في توحيده وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم أنبيائه وخير عباده وعلى آله وصحابته وسائر المتمسكين بسنته المحتذين لطريقه.

أما بعد فإنني وقفت على فضيحة ابن عقيل التي سماها نصيحة، وتأملت ما اشتملت عليه من البدع القبيحة والشناعة على سالكي الطريق الواضحة الصحيحة فوجدتها فضيحة لقائلها قد هتك الله تعالى بها ستره وأبدى بها عورته ولولا أنه قد تاب إلى الله تعالى منها وتنصل ورجع عنها واستغفر الله تعالى من جميع ما تكلم به من البدع أو كتبه بخطه أو صنفه أو نسب إليه لعددناه في جملة الزنادقة وألحقناه بالمبتدعة المارقة.

ولكنه لما تاب وأناب وجب أن تحمل منه هذه البدعة والضلالة على أنها كانت قبل توبته في حال بدعته وزندقته.

ثم قد عاد بعد توبته إلى نص السنة والرد على من قال بمقالته الأولى بأحسن كلام وأبلغ نظام وأجاب على الشبه التي ذكرت بأحسن جواب وكلامه في ذلك كثير في كتب كبار وصغار وأجزاء مفردة وعندنا من ذلك كثير.

فلعل إحسانه يمحو إساءته وتوبته تمحو بدعته فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات.

ولقد كنت أعجب من الأئمة من أصحابنا الذين كفروه وأهدروا دمه وأفتوا بإباحة قتله وحكموا بزندقته قبل توبته ولم أدر أي شيء أوجب هذا في حقه وما الذي اقتضى أن يبالغوا فيه هذه المبالغة حتى وقفت على هذه الفضيحة.

فعلمت أن بها وبأمثالها استباحوا دمه.

وقد عثرت له على زلات قبيحة ولكن لم أجد عنه مثل هذه التي بالغ فيها في تهجين السنة مبالغة لم يبالغها معتزلي ولا غيره.

وكان أصحابنا يعيرونه بالزندقة.

فقال الشيخ أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلواذاني رحمه الله تعالى في قصيدته يقول فيها.

ومذ كنت من أصحاب أحمد لم أزل ** أناضل عن أعراضهم وأحامي

وما صدني عن نصرة الحق مطمع ** ولا كنت زنديقا حليف خصام

يعرض بابن عقيل حيث نسب إلى ذلك.

وبلغني أن سبب توبته أنه لما ظهرت منه هذه الفضيحة أهدر الشريف أبو جعفر رحمه الله تعالى دمه وأفتى هو وأصحابه بإباحة قتله.

وكان ابن عقيل يخفى مخافة القتل فبينما هو يوما راكب في سفينة فإذا في السفينة شاب يقول تمنيت لو لقيت هذا الزنديق ابن عقيل حتى أتقرب إلى الله تعالى بقتله وإراقة دمه.

ففزع وخرج من السفينة وجاء إلى الشريف أبي جعفر فتاب واستغفر.

وها أنا أذكر توبته وصفتها بالإسناد ليعلم أن ما وجد من تصانيفه مخالفا للسنة فهو مما تاب منه فلا يغتر به مغتر ولا يأخذ به أحد فيضل ويكون الآخذ به كحاله قبل توبته في زندقته وحل دمه.

أخبرنا الشيخ الإمام الثقة المسند أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزد البغدادي بقراءتي عليه في ذي القعدة سنة ثلاث وستمائة بمسجدنا المحروس بظاهر دمشق حرسها الله تعالى قلت له أخبركم القاضي الأجل العالم أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزار إجازة إن لم يكن سماعا قال حضرت يوم الاثنين الثامن من المحرم سنة خمس وستين وأربعمائة توبة الشيخ الإمام أبي الوفاء بن عقيل في مسجد الشريف أبي جعفر رحمه الله تعالى في نهر معلى وحضر في ذلك اليوم خلق كثير.

قال: يقول علي بن عقيل إنني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب المبتدعة الاعتزال وغيره ومن صحبة أربابه وتعظيم أصحابه والترحم على أسلافهم والتكثر بأخلاقهم وما كنت علقته ووجد بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم فأنا تائب إلى الله سبحانه تعالى من كتابته وقراءته وإنه لا يحل لي كتابته ولا قراءته ولا اعتقاده.

وذكر شيئا آخر، ثم قال: فإني أستغفر الله وأتوب إليه من مخالطة المبتدعة المعتزلة وغيرهم ومكاثرتهم والترحم عليهم والتعظيم لهم فإن ذلك كله حرام لا يحل لمسلم فعله لقول النبي من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.

وقد كان سيدنا الشريف أبو جعفر أدام الله علوه وحرس على كافتنا ظله ومن معه من الشيوخ والأتباع سادتي وإخواني أحسن الله عن الدين والمروة جزاءهم مصيبين في الإنكار علي لما شاهدوه بخطي في الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها واتحقق أنني كنت مخطئا غير مصيب.

ومتى حفظ علي ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار فلإمام المسلمين أعز الله سلطانه مكافاتي على ذلك بما يوجبه الشرع من ردع ونكال وإبعاد وغير ذلك وأشهدت الله تعالى وملائكته وأولي العلم على جميع ذلك غير مجبر ولا مكره وباطني وظاهري في ذلك سواء.

قال الله تعالى: { ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام }.

ثم كتب الشهود خطوطهم وهذه نسختها.

أشهدني المقر على إقراره بجميع ما تضمنه هذا الكتاب وكتب عبد الله بن رضوان في المحرم سنة خمس وستين وأربعمائة.

بمثل ذلك أشهدني وكتب محمد بن عبد الرزاق بن أحمد بن السني في التاريخ.

أشهدني المقر على إقراره بجميع ما تضمنه هذا الكتاب وكتب الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف بخطه.

سمعت إقرار المقر بذلك وكتب محمد بن أحمد بن الحسن.

أشهدني المقر على نفسه بذلك وكتب علي بن عبد الملك بن محمد بن يوسف آخرها.

وكتب محمد بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله وحضر في هذا اليوم في مسجد الشريف خلق كثير.

فهذه الفضيحة من جملة ما تاب منه إلى الله تعالى وأقر بأنه ضلال وبدعة وأنه متى وجد بخطه وجبت مقابلته عليه وينتقم الله منه.

فكيف يحتج بقول هذا محتج أو يغتر به مغتر أو يقول به قائل أو يتعلق به متعلق مع شهادة قائله عليه بالضلال وإجماع العلماء من أهل بلدته على استتابته منه وإهدار دمه به وبأمثاله وهذا أدل شيء على خطئه وضلاله وإن كانت هذه المقالة صدرت منه بعد توبته فهذا دليل على زندقته وإصراره على بدعته ورجوعه إلى ضلالته.

فإن معنى الزندقة إظهار الحق واعتقاد خلافه وهو النفاق الذي كان على عهد رسول الله ويسمى اليوم الزندقة.

وهذا الرجل قد صنف في نفي تأويل الصفات والرد على متأولها جزءا مفردا وصنف في الحرف والصوت جزءا مفردا وصنف كتاب الانتصار للسنة وغيرها من الكتب وملأها من السنة والرد على المبتدعة.

فإن كان يظهر ذلك ويبطن هذا ويعتقده فهو زنديق فكيف يجوز أن يحتج محتج بمقالته أو يرضى لنفسه بمثل حاله أو يضل بضلالته ونعوذ بالله تعالى ولا يظن به هذا ولكن لما علمت منه حالتان حالة بدعة وحالة توبة نسبنا كل ما وجد من كلامه من البدع إلى حالة البدعة لا غير.

وما عادتي ذكر معائب أصحابنا وإنني لأحب ستر عوراتهم ولكن وجب بيان حال هذا الرجل حين اغتر بمقالته قوم واقتدى ببدعته طائفة من أصحابنا وشككهم في اعتقادهم حسن ظنهم فيه واعتقادهم أنه من جملة دعاة السنة.

فوجب حينئذ كشف حاله وإزالة حسن ظنهم فيه ليزول عنهم اغترارهم بقوله وينحسم الداء بحسم سببه.

فإن الشيء يزول من حيث ثبت وبالله التوفيق والمعونة ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإسلام والسنة.

وعلى كل حال فهو قد نفر من التقليد وأنكر حسن الظن بالمشايخ.

فكيف يحسن الظن فيمن ينكر حسن الظن به وكيف يقبل قول من ينهى عن قبول قول غيره وينبغي لنا أن نقبل قوله في نفسه فيساء الظن به ولا نقبل قوله في غيره كمن أقر بشيء عليه وعلى غيره قبل قوله عليه ولم يقبل على غيره.

وها أنا أجيب عن مقالته إن شاء الله تعالى فصلا فصلا وأبين عوار كلامه فرعا وأصلا بتوفيق الله ومعونته.

أما قوله إنا كنا أعزاء بين أهل المذاهب فها نحن اليوم سبعون منفيون محصورون إلى آخر كلامه.

فهذا إيماء منه إلى أن أسلافنا رحمهم الله تعالى كانوا على قول ونحن على غيره وأننا أحدثنا مقالة غير مقالتهم استحققنا بها العقوبة.

وهذا كذب وفرية وقول من لا حياء له ولا دين فليخبرنا أي شيء أحدثناه وأي مقالة خالفنا فيها أسلافنا فإن قال تركتم تأويل الآيات والأخبار الواردة في الصفات وادعى أن السلف تأولوها وفسروها فقد أفك وافترى وجاء بالطامة الكبرى.

فإنه لا خلاف في أن مذهب السلف الإقرار والتسليم وترك التعرض للتأويل والتمثيل.

ثم إن الأصل عدم تأويلهم فمن ادعى أنهم تأولوها فليأت ببرهان عل قوله.

وهذا لا سبيل إلى معرفته إلا بالنقل والرواية.

فلينقل لنا ذلك عن رسول الله أو عن صحابته أو عن أحد من التابعين أو الأئمة المرضيين.

ثم المدعي لذلك من أهل الكلام وهم أجهل الناس بالآثار وأقلهم علما بالأخبار وأتركهم للنقل.

فمن أين لهم علم بهذه ومن نقل منهم شيئا لم يقبل نقله ولا يلتفت إليه.

وإنما لهم الوضع والكذب وزور الكلام.

ولا خلاف بين أهل النقل سنيهم وبدعيهم في أن مذهب السلف رضي الله عنهم في صفات الله سبحانه وتعالى الإقرار بها والإمرار لها.

والتسليم لقائلها وترك التعرض لتفسيرها بذلك جاءت الأخبار عنهم مجملة ومفصلة.

فروي عن مالك بن أنس والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة ومعمر بن راشد في الأحاديث في الصفات: أمروها كما جاءت.

وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب العلم: ما جاء عن النبي من نقل الثقات وصح عن الصحابة رضي الله عنهم فهو علم يدان به. وما أحدث بعدهم ولم يكن له أصل في ما جاء عنهم فهو بدعة وضلالة. وما جاء في أسماء الله وصفاته عنهم نسلم له ولم نناظر كما لم يناظروا. ورواها السلف وسكتوا عنها وكانوا أعمق الناس علما وأوسعهم فهما وأقلهم تكلفا ولم يكن سكوتهم عن عي. فمن لم يسعه ما وسعهم فقد خاب وخسر.

وروى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه: أجمع أهل العلم في المشرق والمغرب على أن هذه الأحاديث التي جاءت في الصفات لا تفسر، أو كما قال.

وقال حنبلي سألت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه عن هذه الأحاديث التي تروي أن الله تبارك وتعالى يرى وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يضع قدمه وما أشبه ذلك. فقال أبو عبد الله رضي الله عنه: نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد منها شيئا إذا كانت بأسانيد صحاح، ولا نرد على الرسول قوله، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه لا نتعدى ذلك ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت.نؤمن بهذه الأحاديث ونقرها ونمرها كما جاءت بلا كيف ولا معنى إلى على ما وصف به نفسه تبارك وتعالى وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير. صفاته منه وله. لا نتعدى القرآن والحديث والخبر ولا نعلم كيف ذاك إلا بتصديق الرسول وتثبيت القرآن.

وقال أبو عبد الله: حدثنا وكيع يوما بحديث من هذه الأحاديث فاقشعر زكرياء بن عدي فقال وكيع وغضب أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها.

وهذا مما لا نعلم فيه بين سلفنا رحمهم الله اختلافا والمنكر له إما جاهل أو متجاهل قليل الدين والحياء لا يخاف من الله تعالى إذا كذب ولا يستحيي من الناس إذا كذب.

ونحن على طريقة سلفنا وجادة أئمتنا وسنة نبينا ما أحدثنا قولا ولا زدنا زيادة بل آمنا بما جاء وأمررناه كما جاء وقلنا بما قالوا وسكتنا عما سكتوا عنه وسلكنا حيث سلكوا فلا وجه لنسبة الخلاف والبدعة إلينا.

وإنما تكلم ابن عقيل على حال نفسه في حال بدعته حين أحدث في دين الله تعالى وخالف سلفه وأئمته وسادة أهل مذهبه واتبع أهل الكلام والبدع وفارق السنة وأخذ في البدعة أهدر دمه وأخيف سربه وقصد بالأذى والتشريد والإخافة والتطريد وصار ذليلا حقيرا فنسب حاله إلى من سواه وجعل الحدث منه حادثا ممن عداه وكسى وصفه لغيره وعير أهل السنة بمثل ذنبه.

كما قيل رمتني بدائها وانسلت.

أما أهل السنة المتبعون للآثار السالكون طريق السلف الأخيار فما عليهم غضاضة ولا يلحقهم عار منهم العلماء العاملون ومنهم الأولياء والصالحون ومنهم الأتقياء الأبرار والأصفياء والأخيار أهل الولايات والكرامات وأهل العبادات والاجتهادات بذكرهم تزين الكتب والدفاتر وأخبارهم تحسن المحافل والمحاضر تحيا القلوب بذكر أخبارهم وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم بهم قام الدين وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وهم مفزع الخلق عند اشتداد الأمور عليهم فالملوك فمن دونهم يقصدون زياراتهم ويتبركون بدعائهم ويستشفعون إلى الله سبحانه وتعالى بهم.

فنحن أصحاب المقامات الفاخرة ولنا شرف الدنيا والآخرة ومن نظر في كتب العلماء التي أفردت لذكر الأولياء لم يجد فيها إلا منا ومتى نقلت الكرامات لم تنقل إلا عنا ومتى أراد واعظ أو غيره يطيب مجلسه ويزينه زينه بأخبار بعض زهادنا أو كرامات عبادنا أو وصف علمائنا وعند ذكر صالحينا تنزل الرحمة وتطيب القلوب ويستجاب الدعاء ويكشف البلاء ولله در القائل:

ذهبت دولة أصحاب البدع ** ووهى حبلهم ثم انقطع

وتداعى بانصداع شملهم ** حزب إبليس الذي كان جمع

هل لكم بالله في بدعتكم ** من فقيه أو إمام يتبع

مثل سفيان أخي الثوري الذي ** علم الناس خفيات الورع

أو سليمان أخي التيم الذي ** هجر النوم لهول المطلع

أو إمام الحرمين مالكا ** ذلك البحر الذي لا ينتزع

أو فقيه الشام أوزاعيها ** ذاك لو قارعه القرا قرع

أو فتى الإسلام أعني أحمدا ** ذاك حصن الدين إن حصن منع

لم يخف سوطهم إذ خوفوا ** لا ولا سيفهم حين لمع الرمل

أما هو حزبه من أهل الكلام فما ذكرهم إلا ذمهم والتحذير منهم والتنفير من مجالستهم والأمر بمباينتهم وهجرانهم وترك النظر في كتبهم لا يثبت لأحد منهم قدم في الولاية ولا يقوم لهم في الصالحين راية ولا يكون لأحد منهم كرامة ولا يرون ربهم في الآخرة ولا كرامه يكذبون بكرامات الصالحين وينكرون نعمة الله على عباده المؤمنين فهم في الدنيا ممقوتون وفي الآخرة معذبون لا يفلح منهم أحد ولا يوفق لاتباع رشد.

قال الإمام أحمد: لا يفلح صاحب كلام أبدا ولا يرى أحد نظر في الكلام إلا في قلبه دغل.

وقال الإمام الشافعي: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح.

وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام.

وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق.

وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع أهل الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ لا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء وإنما العلماء أهل الأثر والمتفقه فيه.

وقال أحمد بن إسحاق المالكي: أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري لا تقبل له شهادة ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها.

وذم أهل الكلام كثير، وابن عقيل من أهل الكلام وهو في هذه الحالة ينصر مذهبهم فلذلك تكلمنا عليه وذكرنا عيوبه لدخوله في جملتهم ودعايته إلى طريقهم.

فصل

وأما قوله فإن الأحمق من اغتر بأسلافه وسكن إلى مقالة أشياخه آنسا بتقليدهم من غير بحث عن مقالتهم فهذا كلام مسموم رديء يشير به إلى ذم اتباع طريقة السلف الصالح رضي الله عنهم ويعيب ما مدحه أئمتنا رحمة الله عليهم وما أوصونا به من لزوم طريقهم والاهتداء بهديهم ويدعو إلى مقالة أهل الكلام والنظر في المعقولات وهو علم الكلام الذي ذكرنا عن الأئمة رحمة الله عليهم ذمه وإفضاءه بصاحبه إلى الزندقة والبدعة وعدم الفلاح.

وقد ظهر برهان قولهم في ابن عقيل فإنه حين اشتغل به وآثره على علم الأثر صار زنديقا داعية إلى ترك اتباع السلف المتفق على صوابهم المجمع على هدايتهم الذين أخبر الله تعالى برضاه عنهم واختياره لهم ومدحهم وأثنى عليهم وحسبك بمن مدحه الله تعالى وأثنى عليه وخبر من وصى بهم النبي وحث الناس على اتباعهم والاقتداء بهم.

ثم لم يزل أئمتنا وعلماؤنا يحثوننا على التمسك بهديهم والسير بسيرتهم فجاء هذا المسكين يحذرنا منهم ويريد منا أن نسيء الظن بهم.

ونهجر طريقتهم ونصير إلى اتباع أهل الكلام والاقتداء بهم وهذا من أدل الأشياء على ضلاله وقبح مقاله فإنه لولا مخالفته لهم وسلوكه غير طريقتهم لما نفرنا منهم.

على أنه قد قال في آخر هذه المقالة فالله الله الزموا طريقة السلف الصالح فناقض كلامه هذا تسترا بعد أن فضح نفسه وكشف الستر عنها بذمه لقولهم وتنفيره من اتباعهم ودعايته إلى مخالفتهم.

ولسنا ممن يقبل قوله في ذم من مدحه الله تعالى ورسوله والأئمة ولا نهجر طريقة من أمرنا بسلوكها لقوله.

قال الله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه }، وقال سبحانه وتعالى: { محمد رسول الله والذين معه } الآية.

وقال النبي: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم».

وقال النبي: «لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».

وقال: «إن الله اختارني واختار أصحابي فجعل لي منهم أصهارا وأنصارا».

وقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ».

وقال: «اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر».

وقال: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".

وقال حين ذكر الفرق إنها «كلها في النار إلا واحدة» قيل من الواحدة قال: «ما أنا عليه وأصحابي».

ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فبعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد بعده فاختارهم لصحبة نبيه ونصرته ولم يزل أئمتنا يحثوننا على اتباع سبيلهم والاهتداء بهديهم.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقربها هديا وأحسنها حالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوا آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

وروي عن الحسن البصري رحمه الله تعالى بعض هذا الكلام أو قريب منه.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.

وقال رضي الله عنه:إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر.

وقال رضي الله عنه: أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم فأيما مرية أو رجيل أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فأنا اليوم على السنة.

وقال حذيفة بن اليمان: يا معشر القراء خذوا طريق من قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا.

وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة ضلالة.

وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلام معناه: قف حيث وقف القوم فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد قد كفوا وإنهم على كشفها كانوا أقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى فلئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ولقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم مقصر وما فوقهم مجسر لقد قصر عنهم قوم فجفوا وطمح آخرون عنهم فغلوا وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.

وقال الأوزاعي إمام أهل الشام رحمه الله تعالى: صبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم وقل بما قالوا وكف عما كفوا ولو كان هذا خيرا ما خصصتم به دون أسلافكم فإنه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضل عندكم وهم أصحاب رسول الله اختارهم الله تعالى وبعثه فيهم ووصفهم فقال: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } الآية.

وسأل رجل الحسن بن زياد اللؤلؤي عن زفر بن الهذيل: أكان ينظر في الكلام؟ فقال: سبحان الله ما أحمقك ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم.

فهؤلاء الأئمة وهذا قولهم يحثوننا على اتباع سلفنا والاقتداء بهم. أفترانا نترك قول الله سبحانه وتعالى وقول رسوله ووصية أئمتنا في ترك اتباع سلفنا ونقبل قول ابن عقيل في قوله دعوا الاقتداء بهم وقلدوني واتبعوا قولي وقول أمثالي من المتكلمين. ولسان حاله يقول أنا الكثير الزلات أنا المعروف بالبدع والضلالات أنا الكثير العثار أنا الجاهل بالآثار أنا المختار علم الكلام المذموم على علم نبينا المختار فاتبعوني ودعوا اتباعه فإنه يدعوكم إلى النجاة وأنا أدعوكم إلى النار.

ثم لا خلاف بيننا أن الإجماع حجة قاطعة، فإذا اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم على أمر ثم اتبعهم عليه أئمة التابعين واقتدى بهم من بعدهم من الأئمة في كل عصر وزمان وحث بعضهم بعضا على التمسك به وحذروا أصحابهم من مخالفته فكيف يقال لمتبع ذلك أحمق مغتر إنما الأحمق المغتر المخطئ المبتدع هو المخالف لذلك الراغب عنه.

قال الله تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا }.

فإن قال إنما أمرتم بالاجتهاد والمصير إلى ما دل عليه الدليل ونهيتم عن التقليد المذموم؟

قلنا: الجواب عن هذا من أوجه:

أحدها أن طريق السلف قد ثبت بالدليل القاطع سلامته وصحة حجته من الكتاب والسنة والإجماع فلا حاجة إلى الكشف عن صحته بدليل آخر.

الثاني أن في هذا القول إلزاما للعامة بالاجتهاد في دقائق الأمور والاعتقادات وهذا خطأ من وجوه:

أحدها أن فيه تخطئة رسول الله فإن النبي لم يأمر أحدا من أمته بعلم الكلام والنظر في أدلة العقول ليعرف به صحة معتقده بل قنع منهم بمجرد الإسلام.

وقال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى. أفترى يكون النبي مخطئا في قبول ذلك منهم وقناعته بمجرد إسلامهم من أن يتعلموا علم الكلام وينظروا في العرض والجوهر والجسم ويكون المتكلمون هم المصيبون في خطأ من لم يتعلم ذلك ولم ينظر فيه فإن كان هذا هكذا فليدعوا لأنفسهم شريعة ودينا غير دين الإسلام ويدعوا دين محمد.

الثاني أن تكليف العامة الاجتهاد تكليف ما لا يطاق. فإنهم لو اشتغلوا بعلم ما يصيرون به مجتهدين لانقطعوا عن المعايش والحراثة والزراعة وخربت الدنيا وهلك الخلق وانقطع النسل وترك الجهاد وخربت الدنيا ولا سبيل إلى هذا وقد قال الله تعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }.

الثالث أن الإجماع منعقد على أن العامة لا يكلفون الاجتهاد في أحكامهم وأن لهم تقليد العلماء في أمورهم وكذلك أمرهم الله تعالى بسؤال علمائهم فقال: { فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }.

الرابع أن في القول بوجوب الاجتهاد على الكل حكما على عامة الخلق بالضلال لتضييعهم الواجب عليهم. وإنما الذي قيل إنه لا يجوز لهم التقليد هو الأمر الظاهر الذي قد علموه لظهوره من غير احتياج إلى تعب ولا فكر ولا نظر كتوحيد الله سبحانه وتعالى ورسالة محمد ومعرفة وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وسائر الأركان التي اشتهر وجوبها وعلم ذلك بالإجماع عليها فلا يحتاج فيه إلى بحث ولا نظر فهذا لا يجوز تقليدهم فيه.

وأما دقائق الاعتقادات وتفاصيل أحكام العبادات والبياعات فما يقول بوجوب اجتهادهم فيها إلا جاهل وهو باطل بما ذكرناه.

ثم إن اغتر مغتر بقول ابن عقيل هذا ولم يقنع باتباع سلفه ولا رضي باتباع أئمته ولم يجوز تقليدهم في مثل السكوت عن تأويل الصفات التي وقع الكلام فيها فكيف يصنع فهل له سبيل إلى معرفة الصحيح من ذلك باجتهاد نفسه ونظر عقله ومتى ينتهي إلى حد يمكنه التمييز بين صحيح الدليل وفاسده فهذا ابن عقيل الذي زعم أنه استفرغ وسعه في علم الكلام مع الذكاء والفطنة في طول زمانه ما أفلح ولا وفق لرشد بل أفضى أمره إلى ارتكاب البدع المضلات والخطأ القبيح ومفارقة الصواب حتى استتيب من مقالته وأقر على نفسه ببدعته وضلالته.

فأنت أيها المغتر بقوله هذا متى تبلغ إلى درجته فإذا بلغتها فما الذي أعجبك من حالته حتى تقتدي به وقد ذكرنا ما قاله الأئمة في ذم الكلام وأهله ونسأل الله السلامة.

الوجه الخامس إننا إذا نظرنا في الدليل وجدناه يقضي خلاف ما دعا إليه ابن عقيل من الإيمان بالآيات وأخبار الصفات مع الإقرار والتسليم وترك التأويل والتعطيل والتشبيه والتمثيل على ما هو مذهب السلف الصالح والأئمة المرضيين رحمة الله عليهم أجمعين.

وبيان ذلك من وجوه تسعة:

أحدها قول الله سبحانه وتعالى: { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } فذم متبع التأويل وقرنه بمبتغي الفتنة في الذم وجعل ابتغاءه لذلك علامة على الزيغ فدل ذلك على أن ابتغاءه غير جائز. ثم قطعهم عما أملوه وحجبهم عن بلوغ ما ابتغوه بقوله سبحانه وتعالى وما يعلم تأويله إلا الله. ثم قال سبحانه وتعالى: { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب }. ثم سألوا ربهم أن لا يجعلهم مثل متبعي التأويل الزائغين فقالوا: { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا }.

الوجه الثاني أنه لو كان تأويل ذلك واجبا لبينه النبي لأمته فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقته ولأنه لو وجب علينا التأويل لوجب عليه فإنه مساو لنا في الأحكام ولو وجب عليه لما أخل به ولأنه حريص على أمته لم يكتم عنهم شيئا أمره الله به. وقد قال الله تعالى: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته }.

الوجه الثالث أنه قد ثبت أن مذهب السلف رضي الله عنهم ومن بعدهم من الأئمة في هذه الآيات الإقرار والإمرار والرضاء والتسليم من غير تأويل ولا تعطيل وقد بينا بالدليل أن مذهبهم الحق وأنهم على الهدى المستقيم فلا يجوز مخالفة سبيلهم ولا العدول عن طريقهم.

الوجه الرابع أن التأويل حكم على الله تعالى بما لا يعلمه المتأول وتفسير مراده بما لا يعلم أنه أراده. فإن أكثر ما عند المتأول أن هذه اللفظة تحتمل هذا المعنى في اللغة وليس يلزم من مجرد إحتمال اللفظ للمعنى أن يكون مرادا به فإنه كما يحتمل هذا المعنى يحتمل غيره وقد يحتمل معاني أخر لا يعلمها. وليس له إحاطة بمقتضى اللغات لا سيما المتكلمين فإنهم بعداء من معرفة اللغات والعلوم النافعة.

وقد حرم الله تعالى عليه القول بغير علم فقال تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير حق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }.

الوجه الخامس أن التأويل حدث في الدين. فإن الحدث كل قول في الدين ماتت الصحابة رضي الله عنهم على السكوت عنه.

والحدث في الدين هو البدعة التي حذرناها نبينا وأخبرنا أنها شر الأمور؛ فقال : «شر الأمور محدثاتها». وقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». والمتأول تارك لسنة رسول الله وسنة الخلفاء الراشدين وهو محدث مبتدع ضال بحكم الخبر المذكور.

الوجه السادس أن التأويل تكلف وحمق وتنطع وكلام بالجهل وتعرض للخطر فيما لا تدعو إليه حاجة. فإنه لا حاجة لنا إلى علم معنى ما أراد الله تعالى من صفاته جل وعز فإنه لا يراد منها عمل ولا يتعلق بها تكليف سوى الإيمان بها. ويمكن الإيمان بها من غير علم معناها. فإن الإيمان بالجهل صحيح. فإن الله تعالى أمر بالإيمان بملائكته وكتبه ورسله وما أنزل إليهم وإن كنا لا نعرف من ذلك إلا التسمية. وقال سبحانه وتعالى: { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم } الآية.

وقد نهينا عن التبدي والتنطع والتكلف. وقال الله تعالى لنبيه: { قل ما أسألكم من أجر وما أنا من المتكلفين }.

الوجه السابع أنه لو كان التأويل واجبا لم يخل إما أن يجب على الأعيان أو على من قام عنده دليله.

فإن وجب على الأعيان ولزم الخلق كلهم من عدم المعرفة بدليله ففيه تكليف القول بالجهل والتهجم على صفات الله سبحانه وتعالى وكتابه وآياته بالتخرص والحدس. وهذا حرام بالإتفاق.

وإن كان غير واجب على من لا يعلمه فكيف يأمرون به عامة الناس ومن لا يعلمه وينكرون عليهم تركه ولو كانوا ذوي تقوى أعفوا العامة عن التأويل وأمروهم بترك التعرض لما لا يعملون.

الوجه الثامن أن التأويل قول في كتاب الله تعالى وسنة رسوله بالرأي ومن قال في كتاب الله برأيه وإن أصاب فقد أخطأ.

وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين سئل عن الأب فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم.

الوجه التاسع أن المتأول يجمع بين وصف الله تعالى بصفة ما وصف بها نفسه ولا أضافها إليها وبين نفي صفة أضافها الله تعالى إليه.

فإذا قال معنى استوى استولى فقد وصف الله تعالى بالاستيلاء والله تعالى لم يصف بذلك نفسه ونفى صفة الاستواء مع ذكر الله تبارك وتعالى لها في القرآن في سبعة مواضع.

أفما كان الله سبحانه وتعالى قادرا على أن يقول استولى حتى جاء المتكلف المتأول فتطرف وتحكم على الله سبحانه وعلى رسوله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وإذا انسد باب التأويل من هذه الطرق كلها مع أن في واحد منها كفاية لم يبق إلا الطريق الواضح والقول السديد وسلوك سبيل الله تعالى التي دلت على استقامتها الآثار وسلكها الصحابة الأبرار والأئمة الأخيار ومضى عليها الصالحون واقتفاها المتقون وأوصى بلزمها الأئمة الناصحون الصادقون وهي الإيمان بالألفاظ والآيات والأخبار بالمعنى الذي أراده الله تعالى والسكوت عما لا نعلمه من معناها وترك البحث عما لم يكلفنا الله البحث عنه من تأويلها ولم يطلعنا على علمه واتباع طريق الراسخين الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين حين قالوا: { آمنا به كل من عند ربنا }.

فهذا الطريق السليم الذي لا خطر على سالكه ولا وحشة على صاحبه ولا مخافة على مقتفيه ولا ضرر على السائر فيه من سلكه سلم ومن فارقه عطب وندم وهو سبيل المؤمنين الذي دلت عليه السنة وسلكه صالح الأمة. { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا }.

وعائب هذه المقالة لا يخلو إما أن يعيب الإيمان بالألفاظ أو السكوت عن التفسير أو الأمرين معا.

فإن عاب الإيمان بالألفاظ فهي قول رب العالمين ورسوله الصادق الآمين فعائبها كافر بالله العظيم.

ولأن عائب الإيمان بما لا يخلو من أن يكون مؤمنا بهما أو كافرا فإن كان مؤمنا بهما فكيف يعيب ما هو عليه وإن كفر بهما خرج من الإسلام وكفر بالإيمان.

قال الله تعالى: { وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون }.

وإن عاب السكوت عن التفسير أخطأ.

فإننا لا نعلم لها تفسيرا ومن لم يعلم شيئا وجب عليه السكوت عنه وحرم عليه الكلام فيه.

قال الله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم }.

وذكر الله تعالى في المحرمات: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }.

وإذا فعلنا ما أوجب الله تبارك وتعالى علينا وتركنا ما حرمه فلا وجه لعيبنا به، وإنما العيب على من خالف ذلك وعابه.

وأيضا فإن عائب هذه المقالة عائب على رسول الله فإنه كان يؤمن بالله وكلماته ولم يفسر شيئا من ذلك ولا بين معناه.

ومن عاب على رسول الله فليس بمؤمن به ومن عاب على رسول الله فهو المخطئ الآثم المعيب المذموم.

ثم العائب لها عائب على الراسخين الذين أثنى الله تعالى عليهم والأمر الذي مدحهم الله تعالى به من التسليم والإيمان.

ثم هو مزرٍ على السلف أجمعين.

ولا مرية في خطأ من عاب هؤلاء كلهم وبدعته وضلالته.

وإذا دخلنا نحن في جملة الذين أثنى الله تعالى عليهم وصوب فعلهم وقولهم لم يضرنا عيب مفتون مبتدع مخذول.

وإذا سلكنا سبيل ربنا تعالى التي رضيها لنا لم نبال برغم أنف من سلك سبيل إبليس اللعين المفضية به إلى سواء الجحيم.

وإذا أتتك مذمتي من ناقص ** فهي شهادة لي بأني فاضل

وعلى كل فليس لنا قول نعاب به.

إن عيبت علينا الألفاظ التي آمنا بها فما عِيبَ إلا قائلُها ولا كفروا إلا بالمتكلم بها وهو الذي يجازيهم على كفرهم وإلحادهم.

وإن عيب علينا السكوت فليس السكوت بقول ولا ينسب إلى ساكت قول.

وإن قالوا قد اعتقدتم التشبية منها فقد كذبوا علينا ونسبوا إلينا ما قد علم الله تعالى براءتنا منه.

ثم ليس لهم اطلاع على قلوبنا وإنما يعبر عما في القلب اللسان وألسنتا تصرح بنفي التشبيه والتمثيل والتجسيم فليس لهم أن يتحكموا علينا بأن ينسبوا إلينا ما لم يظهر منا ولم يصدر عنا.

والإثم على الكاذب دون المكذوب كما أن حد القذف على القاذف لا على المقذوف وكفانا مدحا وبراءة أن خصومنا لا يجدون لنا عيبا يعيبوننا به هم فيصادقون ونحن به مقرون وإنما يعيبوننا بكذبهم ولو قدروا على عيب لما احتاجوا إلى الكذب.

فصل

وأما قوله إن الإخبار يجب إطراحها لأنها أخبار آحاد وقد ثبت بأدلة العقول القطع بنفي التشبيه والتجسيم فالجواب عنه من وجهين:

أحدهما بيان وجوب قبول هذه الأخبار لوجهين أحدهما اتفاق الأئمة عل نقلها وروايتها وتخريجها في الصحاح والمسانيد وتدوينها في الدواوين وحكم الحفاظ المتفقين عليها بالصحة وعلى رواتها بالإتقان والعدالة فطرحها مخالف للإجماع خارج عن أهل الاتفاق فلا يلتفت إليه ولا يعرج عليه والثاني أن رواة هذه الأخبار هم نقلة الشريعة ورواة الأحكام وعليهم الاعتماد في بيان الحلال والحرام في الدين. وإذا أبطلنا قولهم بتأويلنا وجب رد قولهم ثم فتبطل الشريعة ويذهب الدين.

الجواب الثاني أننا لا نسلم له في جميعها أنها أخبار آحاد. فإن منها ما نقل من طرق كثيرة متواطئة يصدق بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض. فهي وإن لم تتواتر آحادها لكن حصل من المجموع القطع واليقين بثبوت أصلها ويكفي ذلك في التواتر. فإننا نقطع بسخاء حاتم وشجاعة علي وعدل عمر وعلم عائشة وخلافة الخلفاء الأربعة ولم ينقل إلينا فيها خبر واحد متواتر لكن تظاهرت الأخبار بها وصدق بعضها بعضا ولم يوجد لها مكذب فحصل التواتر بالمجموع. كذا ههنا.

وأما ما يموه به من نفي التشبيه والتجسيم فإنما هو شيء وضعه المتكلمون وأهل البدع توسلا به إلى إبطال السنن ورد الآثار والأخبار والتمويه على الجهال والأغمار ليوهموهم إنما قصدنا التنزيه ونفي التشبيه.

وهذا مثل عمل الباطنية في التمسك بأهل البيت وإظهار بحثهم إيهاما للعامة أنهم قصدوا نصرهم. وإنما تستروا بهم إلى إبطال الشريعة والتمكن من عيب الصحابة والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم بنسبتهم إليهم وظلم أهل البيت والتعدي عليهم.

كذلك طائفة المتكلمين والمبتدعة تمسكوا بنفي التشبيه توسلا إلى عيب أهل الآثار وإبطال الأخبار وإلا فمن أي وجه حصل التشبيه إن كان التشبيه حاصلا من المشاركة في الأسماء والألفاظ فقد شبهوا الله تعالى حيث أثبتوا له صفات من السمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والحياة مع المشاركة في ألفاظها.

و«لله تسعة وتسعون اسما» ليس فيها ما لا يسمى به غيره إلا اسم الله تعالى والرحمن، وسائرها يسمى بها غيره سبحانه وتعالى ولم يكن ذلك تشبيها ولا تجسيما.

ثم كيف يعملون في الآيات الواردة في الصفات فهل لهم سبيل إلى ردها أو طريق في إبطالها أو يثبتونها مع التشبيه في زعمهم ولقد علموا إن شاء الله أن لا تشبيه في شيء من هذا ولكنهم قبحهم الله تعالى يبهتون ولا يستحيون.

وإن كان الله تعالى قد أعمى قلوبهم حتى ظنوا ذلك فما هو ببعيد. فقد رأينا من ينسب قول الله تعالى وقول رسوله إلينا على وجه العيب لنا بها فيقول أنتم تقولون { الرحمن على العرش استوى }. وأنتم تقولون: { وكلم الله موسى تكليما }وأنتم تقولون: « ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا «».

وهذا كلام الله تبارك وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وكلام رسوله؛ حملتهم العصبية وعمى القلب على أن جعلوه كلاما لنا ثم عابوه علينا.

ومن عاب كتاب الله تعالى وسنة رسوله فليس بمسلم.

ومن جعل كلام الله تعالى كلاما لغيره فهو جاهل غبي.

وسمعت بعض أصحابنا يقول سمعت قوما يقولون: الحنابلة يقولون: { الرحمن على العرش استوى }. قال فقلت لهم يا قوم الله الله إنكم لتنسبون إلى الحنابلة شيئا ما يصلحون له ولا يبلغون إليه. هذا قول الله سبحانه وتعالى، { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }.

فجعلتموه قولا للحنابلة ورفعتم قدرهم حتى جعلتموهم أهلا لذلك.

وإنما يحصل التشبيه والتجسيم ممن حمل صفات الله سبحانه وتعالى على صفات المخلوقين في المعنى ونحن لا نعتقد ذلك ولا ندين به بل نعلم أن الله تبارك وتعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وأن صفاته لا تشبه صفات المحدثين وكل ما خطر بقلب أو وهم فالله تعالى بخلافه لا شبيه له ولا نظير ولا عدل ولا ظهير { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }.

وأما إيماننا بالآيات وأخبار الصفات فإنما هو إيمان بمجرد الألفاظ التي لا شك في صحتها ولا ريب في صدقها وقائلها أعلم بمعناها فآمنا بها على المعنى الذي أراد ربنا تبارك وتعالى فجمعنا بين الإيمان الواجب ونفي التشبيه المحرم.

وهذا أسدّ وأحسن من قول من جعل الآيات والأخبار تجسيما وتشبيها وتحيل على إبطالها وردها فحملها على معنى صفات المخلوقين بسوء رأيه وقبح عقيدته ونعوذ بالله من الضلال البعيد.

فصل

وأما قوله هاتوا أخبرونا ما الذي يظهر لكم من معنى هذه الألفاظ الواردة في الصفات فهذا قد تسرع في التجاهل والتعامي كأنه لا يعرف معتقد أهل السنة و قولهم فيها وهو قوله وقد تربى بين أهلها وعرف أقوالهم فيها وإن كان الله سبحانه وتعالى قد أبكمه وأعمى قلبه إلى هذا الحد بحيث لا يعلم مقالتهم فيها مع معاشرته لهم واطلاعه على كتبهم ودعواه الفهم فالله على كل شيء قدير.

وكم قد شرح هو مقالة أهل السنة في هذه المسألة وبين الحق فيها بعد توبته من هذه المقالة وبين أنه إذا سألنا سائل عن معنى هذه الألفاظ قلنا لا نزيدك على ألفاظها زيادة تفيد معنى بل قراءتها تفسيرها من غير معنى بعينه ولا تفسير بنفسه ولكن قد علمنا أن لها معنى في الجملة يعلمه المتكلم بها فنحن نؤمن بها بذلك المعنى.

ومن كان كذلك كيف يسأل عن معنى وهو يقول لا أعلمه وكيف يسأل عن كيفية ما يرى أن السؤال عنه بدعة والكلام في تفسيره خطأ والبحث عنه تكلف وتعمق أو ما سمع حكاية مالك بن أنس رحمه الله تعالى ورضي الله عنه حين سئل عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فأطرق حتى علاه الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، ثم أمر الرجل فأخرج.

فصل

وأما قوله إنكم بدعتم مخالفيكم في هذه الأصول وسوغتم مخالفة أصحابكم فيها فكذب وبهتان.

فإننا لا نسوغ لأحد مخالفة السنه كائنا من كان. وإن كان من أصحابنا فنحن عليه أشد إنكارا من غيره.

ودليل ذلك أنك منتسب إلى أصحابنا وإمامنا فإذ صدرت منك هذه المقالة بدعناك وهجرك أصحابنا وأحلوا دمك ولولا توبتك ورجوعك لكنا عليك أشد ومنك أبعد.

ونحن لا نبدع إلا من بدعته السنة ولا نقول شيئا من عندنا ولكن النبي قال كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

فمن أحدث في الدين خلاف ما أتى عن رسول الله وخالف أصحابه رضي الله عنهم وترك قول الأئمة والفقهاء في الدين ورجع إلى قول المتكلمين ودعا إلى خلاف السنة فقد ابتدع وإنه تعالى حسيبه والمجازي له إن شاء تاب عليه وإن شاء أضله وحق القول عليه والله سبحانه وتعالى الفعال لما [ يريد ].

فصل

وأما قوله في مسألة القرآن فالكلام فيها في فصلين أحدهما في الصوت الذي بدأ بإنكاره.

فنقول ثبت أن موسى سمع كلام الله تبارك وتعالى منه بغير واسطة.

فإنه لو سمعه من شجرة أو حجر أو ملك لكان بنو إسرائيل أفضل منه في ذلك لأنهم سمعوه من موسى نبي الله وهو أفضل من الشجرة والحجر.

فلم سُمّي موسى إذا كليم الرحمن ولم قال الله تعالى: { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي }، وقال تعالى: { فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك } ولا يقول له هذا إلا الله تعالى.

وإذا ثبت هذا فالصوت ما سمع وما يتأتى سماعه.

وقد جاء ذكر الصوت مصرحا به في الأخبار الواردة.

قال عبد الله بن الإمام أحمد قلت لأبي: يا أبه إن الجهمية يزعمون أن الله تعالى لا يتكلم بصوت. فقال: كذبوا إنما يدورون على التعطيل.

ثم قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله رضي الله عنه قال إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء.

قال السجزي: وما في رواة هذا الحديث إلا إمام مقبول. وقد روي مرفوعا إلى رسول الله.

وفي حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه أن الله تعالى يناديهم يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان وهو حديث مشهور.

وفي الآثار أن موسى لما ناداه ربه تعالى يا موسى أجاب سريعا استئناسا بالصوت فقال لبيك لبيك أين أنت أسمع صوتك ولا أرى مكانك. فقال: يا موسى أنا فوقك وعن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك - فعلم أن هذه الصفة لا تكون إلا لله تعالى - قال فكذلك أنت يا رب.

ومروي أن موسى لما سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقر في أذنيه في سماع كلام الله تعالى.

وأما قوله إن الصوت اصطكاك في الهواء أو فقرع في الهواء، فهذيان محض ودعوى مجردة لا يشهد بصحتها خبر ولا معه فيها أثر ولا أقام به حجة ولا هو فيه على محجة.

فإذا قيل له لا نسلم أنه كذلك فما دليله؟

فإن قال هذا اصطلاحنا معشر المتكلمين؛ قلنا فهذا أبعد من الصواب وأقرب له إلى البطلان. فإنكم نبذتم الكتاب والسنة وعاديتم الله سبحانه وتعالى ورسوله. فما تكادون توفقون لصواب ولا ترشدون إلى حق ولا يقبل قولكم ولا يلتفت إلى اصطلاحكم.

فان قال هذا حد والحد لا يمنع.

قلنا ولم لا يمنع وهل سمعت بدعوى تلزم الخصم الانقياد لها بمجردها من غير ظهور صحتها أو إقامة برهان عليها.

فإن قال لا يمكن إقامة البرهان عليها.

قلنا: فهذا اعتراف بالعجز عن دليلها والجهل بصحتها. فإذا لم تعرف دليلها فبم عرفت صحتها ومن اعترف بالجهل بصحة ما يقول فقد كفى مؤنته واعترف لهم بجهله وبطلان قوله.

وكيف يصار إلى قول لا يدرى أصحيح هو أو باطل فكيف ينقاد خصمه إليه فيما هو معترف فيه بعمى نفسه وجهله به.

ومن العجب أن هؤلاء المتكلمين أعمى الله بصائرهم فوق ما قد أعماها يزعمون أنهم لا يرضون إلا بالأدله القاطعه والبراهين اليقينية، ويرَون الأخبار زعما منهم أنها أخبار آحاد لا تفيد علما يقينا ثم يستدلون بمثل هذا الذي لا يدل على شيء أصلا ولا ظاهرا لا يقينا بل هو بمجرد عمًى وهذيان يصوغه من عند نفسه ويخرجه من زبد معدته.

فإذا منعه وطولب بصحته لم يكن معه شيء يدل عليه سوى أنا قد اصطلحنا أن الحد لا يمنع.

أفترى إذا أعمى الله أبصارهم وبصائرهم يظنون أننا نقبل منهم مجرد دعواهم ونتابعهم على عماهم وإنما مثلهم في هذا كمثل أعمى يبول على سطح مستقبلا الناس بفرجه يحسب أن أحدا لا يراه لما عمي هو عن رؤية نفسه.

ثم تقول بل الصوت هو ما يتأتى سماعه.

وهذا هو الحد الصحيح الذي يشهد له العرف. فإن الصوت أبدا يوصف بالسماع.

فتعلق السماع بالصوت كتعلق الرؤية بالمرئيات ثم ثبت بالخبر الصحيح إضافة الصوت إلى الله تبارك وتعالى.

والنبي أعلم بالله تبارك وتعالى وأصدق من المتكلمين الذين لا علم لهم ولا دين ولا دينا ولا آخرة.

وإنما هم شر الخليقة الغالب عليهم الزندقة. وقد ألقى الله تعالى مقتهم في قلوب عباده وبغضهم إليهم.

ثم لو ثبت أن الصوت في المشاهدات يكون من اصطكاك الأجرام فلم يكون كذلك في صفات الله سبحانه وتعالى قولهم إن ما ثبت في حقنا يكون في الغائب مثله.

قلنا أخطأتم من وجوه ثلاثة:

أحدها تسميتكم الله تعالى غائبا. وأسماء الله تعالى وصفاته إنما توجد من الشرع. وأنتم قبحكم الله ما وجدتم لله تعالى من تسعة وتسعين اسما اسما تسمونه به حتى أحكيتم له من عندكم اسما ثم قد نفى الله سبحانه وتعالى هذا عن نفسه فقال تعالى وما كنا غائبين.

الثاني أنكم رجعتم إلى التشبيه الذي نفيه معتمدكم في رد كتاب الله تعالى وسنة رسوله وجعلتم الله تعالى مقيسا على عباده ومشابها لهم في صفاته وأسمائه. وهذا هو عين التشبيه فبعدا لكم.

الثالث أن هذا باطل بسائر صفات الله تعالى سلمتموها من السمع والبصر والعلم والحياة. فإنها لا تكون في حقنا إلا من أدوات.

فالسمع من انخراق والبصر من حدقة والعلم من قلب والحياة في جسم. ثم جميع الصفات لا تكون إلا في جسم.

فإن قلتم إنها في حق الباري كذلك فقد جسمتم وشبهتم وكفرتم، وإن قلتم لا تفتقر إلى ذلك فلم احتيج إليها ههنا؟

على أن ما ثبت بالكتاب والسنة لا يدفع بمجرد هذيان متكلمكم ولا نترك قول رسول الله لقول مبتدع متكلف.

ونحن لا نقبل قولهم فيما ليس كتاب فيه ولا سنة. ولا لهم عندنا قدر ولا محل.

فكيف نقبل في إبطال الكتاب والرد على السنة مع تمسكنا بها ولزومنا إياها وعضنا عليها بالنواجذ وحرصنا عليها حرص من يقطع بأن النجاة في لزومها والعطب في فراقها والخطأ والخذلان في خلافها ونسأل الله تعالى الثبات عليها في الحياة والممات إلى يوم نلقاه فيجزينا به ويجعلنا في زمرة شارعها.

وأما شبهته في قوله: «كجر السلسلة على الصفا» في أن هذا تشبيه فهذا اعتراض على سيد المرسلين محمد رسول الله الصادق الأمين ونسبة له إلى التمثيل والتجسيم.

ومن فعل هذا فقد مرق من الدين.

وليس الأمر كما زعم هذا المتخرص العديم الدين. ولكنه إنما أتي من فساد قصده وقلة فهمه.

وكم عائب قولا صحيحا ** وآفته من الفهم السقيم

وليس هذا تشبيها للمسموع. وإنما شبه السماع بالسماع أي سماعنا له كسماعنا لذلك.

كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام في الخبر الآخر: «إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته» يعني أن رؤيتكم لربكم كرؤيتكم للقمر في أنه لا يراه البعض دون البعض. كالمتناول لا يحتاج في رؤيته إلى أن ينضم بعضهم إلى البعض. كما في رؤية الهلال يجتمع بعضهم إلى بعض ليريه من يراه من لم يره. ورؤية القمر ليست كذلك. ولهذا روي: لا تضامون، ولا تضامون في الضيم والضم جميعا.

وهذا كذلك في تشبيه السماع بالسماع لا المسموع بالمسموع.

ومن قصد الحق أرشده الله تعالى إلى الصواب فحصلت له الحكم والفوائد من كلام الله تعالى وكلام رسوله.

ومن قصد غير ذلك أعماه الله تعالى عن الهدى فصار القرآن والسنة عنده شبها فضل بها.

قال الله تعالى: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا }.

ونظير ذلك ضوء الشمس تضيء لصحيح البصر ومن ضعف بصره ومرضت عينه أعشاه ضوؤها فأعماه.

قال الشاعر:

العلم للرجل اللبيب زيادة ** ونقيصة للأحمق الطياش

مثل النهار يزيد أبصار الورى ** نورا ويعمي أعين الخفاش

وأما ما ذكر من تفاصيل شبهه الكلامية فلا نخوض معه فيها. ولكن علمنا بطلانها من أصلها.

وقد بينا بما سبق فساد علم الكلام من أصله وذم أئمتنا له واتفاق أهل العلم على أن أصحابة أهل بدع وضلالة وأنهم غير معدودين من أهل العلم وأن من اشتغل به يتزندق ولا يفلح.

وقد ظهر برهان قول الأئمة وصدقهم في صاحب هذه المقالة.

فإنه أفضت حاله إلى الزندقة والبدعة حتى بدع وضلل وأبيح دمه واحتاج إلى التوبة والإقرار على نفسه بأنه كان على البدعة والضلالة وأن المنكر عليه مصيب في إنكاره عليه.

وهذه المقالة من جملة الضلالات التي تاب منها والبدع التي رجع عنها.

فصل

وأما إثبات حروف القرآن فإن القرآن هو هذا الكتاب العربي المنزل على محمد الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات. من قرأه فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات. فمن أقر بهذا وعلمه فقد أقر بالحروف فلا وجه بعد ذلك لإنكاره ولا لمجمجته.

ومن أنكر هذا ففي القرآن أكثر من مائة آية ترد عليه؛ فإجماع المسلمين يكذبه وسنة رسول الله وقول أصحابه رضي الله عنهم ومن بعدهم بكفره.

فكم في القرآن من آية يقول فيها { إن هذا القرآن } وهذا إشارة إلى حاضر.

وكم فيه { ولقد صرفنا هذا في القرآن } { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن } وكم فيه من آية وصفه فيها بأنه { عربي } وكم من آية تحداهم فيها بالإتيان بمثل هذا القرآن أو بسورة مثله، وكم فيه من نسبة الآيات إليه والسور والكلمات.

وقد أوعد الله تعالى من قال هذا قول البشر بإصلائه سقر.

ورد على من قال هو شعر بقوله: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين }.

ومن المعلوم أن الشعر إنما هو كلام موزون فلا يجوز نسبته إلا إلى الكلام المنظوم ذي الحروف والكلمات. وقد نفى الله تعالى عنه كونه شعرا وأثبته قرآنا.

ومثل هذا كثير. فلأي معنى يجحد الحروف بعد هذا مع أن لفظ الحروف قد نطق به النبي في أخباره وجاء عن أصحابه كثيرا وعن من بعدهم وأجمع الناس على عد حروف القرآن وآيه وكلماته وأجمعوا على أن من جحد حرفا متفقا عليه من القرآن فهو كافر.

فما الجحد له بعد ذلك إلا العناد.

فصل

فأما قوله فالله الله في هذا الإقدام وعليكم بما كان عليه السلف الصالح وترك الخوض في الله بما لم يرد به شرع ولا يطابقه عقل قلنا قد فعلنا ذلك بحمد الله ومنته من غير وصيته وأخذنا بما كان عليه سلفنا من غير نصيحته وفارقنا من فارقهم ورددنا على من خالفهم.

ومن جملة ذلك رددنا لقوله وتبينا فضيحته.

وأما هو فإنه بهذا القول آمر بالبر وناس نفسه وناه عن منكر ومخالف إلى ما نهى عنه.

والله تعالى يمقت على ذلك، قال الله تبارك وتعالى: { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }.

وعَيّر الله تعالى اليهود بقوله سبحانه وتعالى: { أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم }.

وروينا في خبر عن النبي أنه قال: «يؤتى برجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه فيشرف عليه بعض من كان يعرفه في الدنيا فيقول أي فلان ما هذا وإنما معك كنا نعلم منك فيقول إني كنت آمركم بالأمر ولا آتيه وأنهاكم عن الأمر وآتيه» أو كما لفظ الخبر.

وقد أخبر الله تعالى عن شعيب قوله: { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه }.

وقالت الشعراء في ذلك أقوالا منها قول أبي الأسود:

يا أيها الرجل المعلم غيره ** هلا لنفسك كان ذا التعليم

أتراك تلقح بالرشاد عقولنا ** صفة وأنت من الرشاد عديم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

إبدأ بنفسك فأنهها عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك ينفع إن وعظت ويقتدى ** بالقول منك وينفع التعليم

وقال أبو العتاهية:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ** إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها

كملبس الثوب من عري وعورته ** للناس بادية ما إن يواريها

وأعظم الذنب بعد الشرك تعلمه ** في كل نفس عماها عن مساويها

عرفانها بذنوب الناس تبصرها ** منهم ولا تعرف العيب الذي فيها الطيل

وقال أيضا:

وصفت التقى حتى كأنك ذو تقي ** وريح الخطايا من ثيابك يسطع

فهذه التي سماها نصيحة إنما هي أمر بالخوض في الله تعالى بغير علم والرد لسنن الرسول والنهي عن القناعة بقول السلف.

وهي وإن كان قد تاب منها ورجع عنها فلا ينفك من لحوقه إثمها.

ويتعلق به إثم من ضل بها واغتر بتصنيفه إياها. فإن «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

وأرجو أن تكون هذه الرسالة أعظم الأشياء بركة عليه ونفعا له من حيث أنها تمنع الناس من الضلال بكلامه. فينقطع عنه الإثم الذي كان يعرض الوصول إليه بضلالهم به.

وأسأل الله تعالى أن يعفو عنا وعنه فإنه قد تاب من هذه المقالة. وله في السنة الكلام الكثير والتصانيف الجيدة.

ولو كان محى هذه البدعة من كتابه لكان قد استراح من إثمها وأراح من الغيبة بها. ولكن الله تعالى يفعل ما يريد.

ولكنا قد نبأنا عنه في تبطيلها وبيان حالها ليزول اغترار المغترين بها.

ونحن نشفع الله تعالى في العفو عنه وعنا وأن يقبل توبته وتوبة جميع التائبين.

ونسأله تبارك وتعالى أن يثبتنا على دينه وسنة نبيه ويوفقنا لاتباع سلفنا الصالح ولزوم طريقتهم ويجعلنا معهم يوم القيامة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين برحمته وكرمه.

وأوصي إخواني وفقهم الله تعالى بلزوم كتاب ربكم سبحانه وتعالى وسنة نبيكم والعض عليها بالنواجذ واجتناب المحدثات. فإن «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة».

ولا تغتروا بمقالة قائل يصرفكم عما كنتم عليه من السنة كائنا من كان.

فإنه لا يزيد على نبيكم ولا على صحابته الكرام ولا على إمامكم إمام السنة بالاتفاق أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ولا على الأئمة الذين كانوا في عصره وقبل عصره. وقد بلغكم وذكرنا لكم بعض ما كانوا عليه وبعض وصاياهم. فلا تنحرفوا عن ذلك بقول أحد وإن ظننتموه إماما كبيرا.

فإنه روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: وزيغة الحكيم.

وقال عمر رضي الله عنه: ثلاث يهدمن الدين زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون.

وروي عن النبي أنه قال: «إني لأخاف على أمتي ثلاثة أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع ».

وقال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله».

وقد أراكم الله عبرة في هذا الرجل الذي اعتقدتم غزارة علمه كيف قد زل هذه الزلة القبيحة فلا تغتروا بأحد ثم وإياكم والكلام في المسائل المحدثات التي لم تسبق فيها سنة ماضية ولا إمام مرضي فإنها بدع محدثة.

وقد حذركم نبيكم المحدثات فقال: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». وقال: «شر الأمور محدثاتها».

وذلك مثل مسألة النقط والشكل ومسألة تخليد أهل البدع في النار وأشباه ذلك من المحدثات والحماقات التي لا أثر فيها فيتبع ولا قول من إمام مرضي فيستمع.

فإن الخوض فيها شين والصمت عنها زين والمتكلم فيها مبتدع خائض في البدعة مرتكب شر الأمور بشهادة الخبر المأثور.

والله سبحانه وتعالى سائلٌ من تكلم فيها عن كلامه ومطالبه بحجته وبرهانه.

قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: ما أحدث أحد في العلم شيئا إلا يسأل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة وإلا فهو العطب.

ومن سكت عن هذه الحماقات لم يسأل عنها.

وله في رسول الله وصحابته رضي الله عنهم وتابعيهم أسوة حسنة.

ونحن إن شاء الله تعالى أعلم بالآثار منكم وأشد لها طلبا وقد رضينا لأنفسنا باتباع سلفنا واجتناب المحدثات بعدهم.

أفلا ترضون لأنفسكم بذلك؟ أولا يسعنا ما وسعهم؟ أوليس لنا في السنة سعة عن البدعة؟

ومن لم يسعه ما وسع رسول الله وسلفه وأئمته فلا وسّع الله عليه.

ومن لم يكتف بما اكتفوا به ويرضى بما رضوا به ويسلك سبيلهم وكل آخذ منهم فهو من حزب الشيطان و إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.

ومن لم يرض الصراط المستقيم سلك إلى صراط الجحيم ومن سلك غير طريق سلفه أفضت به إلى تلفه.

ومن مال عن السنة فقد انحرف عن طريق الجنة.

فاتقوا الله تعالى وخافوا على أنفسكم فإن الأمر صعب.

وما بعد الجنة إلا النار وما بعد الحق إلا الضلال ولا بعد السنة إلا البدعة.

وقد علمتم أن «كل محدثة بدعة» فلا تتكلموا في محدثة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ثبتنا الله على السنة وأعاذنا من البدع والفتنة برحمته وطوله.

واتقوا رحمكم الله المراءَ في القرآن والبحث عن أمور لم يكلفكم الله تعالى إياها ولا عمل فيها. فقد روي عن النبي أنه قال: «والمراء في القرآن كفر».

ونهى السلف رضي الله عنهم عن الجدال في الله جل ثناؤه وفي صفاته وأسمائه.

وقد نهينا عن التفكير في الله تعالى.

وقال مالك رحمه الله ورضي عنه: الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الدين وفي الله تعالى فالسكوت أحب إلى لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا ما تحته عمل.

والذي قاله مالك رحمه الله تعالى عليه جماعة العلماء والفقهاء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى.

وإنما خالف ذلك أهل البدع. فأما الجماعة فعلى ما قال مالك.

فإذا أردتم الكلام والتوسع في العلم فابحثوا في الفقه ومسائله وأحكامه والفرائض ومسائلها والمناسخات وقسم التركات ومسائل الإقرار والولاء ودوره وجوه ثم الوصايا ومسائلها ثم المسائل التي تعمل بالجبر والمقابلة والحساب والمساحة.

فلكم في هذا سعة عما قد نهيتم عن الخوض فيه مما لم يتكلم فيه سلفكم وكرهه إمامكم ولا يفضي بكم إلى خير ولا تخلون فيه من إحداث بدعة إمامكم فيها إبليس يمقتكم الله بها ويتبرأ منكم نبيكم من أجلها ويفارقكم إخوانكم من أهل السنة لمفارقتكم سنة نبيكم عليه أفضل الصلاة والسلام. وتردّون عن حوض نبيكم كما قد جاء أنه: يأتي يوم القيامة قوم إلى الحوض فيختلجون دون النبي قال: فأقول أصحابي أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول بعدا وسحقا. أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

ولكن إن لزمتم سنة نبيكم وقبلتم وصيته وسلكتم طريق سلفكم وتركتم الفضول فكونوا على يقين من السلامة وأبشروا بالفضل والكرامة والخلود في دار المقامة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وفقنا الله تعالى وإياكم لما يرضيه برحمته آمين.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد ونبينا محمد نبي الخير وقائد الخير ورسول الرحمة وسلم.