تتمة مصارع العشاق
موت جميل بثينة أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس قال، حدثنا أبو الحسين عبيد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر العامري، أخبرني أبو الحسن بن محمد بن أبي سيف، أخبرني أبو عبد الرحمن العجلاني عن سهل بن سعد الساعدي قال: بينا أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي فقال: هل لك في جميل تعوده، فإنه ثقيل بالمرض؟ قلت: نعم! فدخلنا عليه، وهو يجود بنفسه، وما يخيل إلي أن الموت علق به، فنظر إلي وقال: يا ابن سعد! ما تقول في رجل لم يزن قط، ولم يشرب خمراًقط، ولم يسفك دماً حراماً قط، يشهد أن لا إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، منذ خمسين سنة. قال: قلت: من هذا الرجل؟ فإني أظنه، والله، قد نجا، لن الله تعالى يقول: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً. قال: أنا. قال: فقلت: والله ما رأيت كاليوم أعجب من هذا، وأنت تشبب ببثينة منذ عشرين سنة. قال: أنا في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط، وإن كان أكثر ما كان مني إليها أني كنت آخذ يدها أضعها على قلبي، فأستريح إليها. قال: ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فقال: صَدَعَ النعيُّ وَما كَنى بجَمِيلِ، ... وَثَوَى بمِصرَ ثَوَاءَ غَيرِ قَفُولِ. وَلقد أجرُّ الذّيلَ في وَادِي القُرَى، ... نَشوَانَ بَينَ مَزَارِعٍ وَنَخِيلِ. قُومي بُثَيْنَةُ، فَاندُبي بعَوِيلِ، ... وَابكي خَليلَكِ دونَ كلّ خليلِ. ثم أغمي عليه فمات. (1/311) غشية تجيء وأخرى تذهب أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن يوسف العلاف بقراءتي عليه، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين، حدثنا جعفر بن محمد، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي، حدثنا علي القمي، حدثني أبو المصعب المديني قال: دخلت على الربيع بن عبيد، وكان قد أخذته زمعة الحب، وتيم عقله، فكان يصيبه كالغفلة حتى يذهب عقله، فسمعته وهو يخاطب نفسه، ويقول: الحبُّ لَوْ قَطّعَني ... ما قُلْتُ للحُبّ ظَلَمْ. قَدْ كُنْتُ خِلْواً، زَمَناً، ... فاليَوْمَ يَبدُو مَا كُتِمْ. قال: قلت كيف أنت برحمك الله؟ فقال: من أنت؟ فقلت: أنا أخوك أبو المصعب. قال: غشية تجيء، وأخرى تذهب، وأنا أتوقع الموت ما بين ذلك. قلت: الله بينك وبين من ظلمك. قال: مه، والله ما أحب أن يناله مكروه في الدنيا ولا في الآخرة! ثم تنفس حتى رحمته، وهمت دموعه، وذهب عقله، فقمت عنه. (1/312) الهم الملازم أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري في ما أذن لنا أن نرويه عنه، أخبرنا أبو القاسم طلحة بن محمد الشاهد، أخبرنا أبو عبد الله الحرمي بن أبي العلاء وهو أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أبي الخمصة الغطفاني المكي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني محمد بن حسن: أنشدني محرز بن جعفر لعبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي: غُرَابٌ وَظَبيٌ أعصَبُ القَرْنِ بَادِياً، ... بصَرْمٍ، وَصِرْدانُ العَشيّ تَصِيحُ. لَعَمرِي لَئن شَطّتْ بعَتمَةَ دارُها، ... لقَد كنتُ من وَشكِ الفرَاقِ أُلِيحُ. أرُوحُ بِهَمٍّ، ثمّ أغدُو بِمِثْلِهِ، ... وَيُحسَبُ أني في الثّيَابِ صَحِيحُ. الفتى المشدود بالحبل ذكر أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز ونقلته منخطه أن أبا بكر محمد بن خلف المحولي حدثهم قال: حدثنا يحيى بن جعفر الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، حدثنا يعقوب بن عتبة بن المغيرة الأخنس عن الزهري عن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه قال: كنت في خيل خالد بن الوليد فقال لي فتىً منهم، وهو في سني، قد جمعت يداه إلى عنقه برمةٍ، ونسوة مجتمعات غير بعيدات عنه: يا فتى! قلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة ومدنيني من هؤلاء النسوة، فأقضي إليهن حاجةً، ثم تردني، فتفعل ما بدا لك؟ قال: قلت والله ليسير ما طلبت. فأخذت برمته حتى وقفته، فقال: إسلم حبيش على بعد العيش، وذكر الحديث. (1/313) حكاية سلم حبيش على بعد العيش ذكر أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، ونقلته من خطه، أن أبا بكر محمد خلف بن المرزبان حدثهم قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الكوفي، حدثنا الهيثم بن عدي، حدثني سعيد بن شيبان عن أبي مسعود الأسلمي عن أبيه قال: نشأ فينا غلام يقال له عبد الله بن علقمة، وكان جميلاً، فهوي جاريةً من غير فخذه، يقال لها حبيشة، فكان يأتيها، ويتحدث إليها. قال: فخرج ذات يوم من عندها، ومعه أمه، فراى في طريقه ظبيةً على رابية، فأنشأ يقول: يا أُمَّنا خَبّرِينا، غَيرَ كاذِبَةٍ، ... وَلا تَشوبي سؤولَ الخيرِ بالكذِبِ. حُبَيشُ أحسَنُ أمْ ظَبيٌ بَرابيَةٍ، ... لا بل حُبيشةُ من دُرٍّ وَمن ذهَبِ. انصرف من عندها مرةً أخرى، فأصابته السماء، فأنشأ يقول: وَما أدْرِي، إذا أبْصَرْتُ يَوْماً، ... أصَوْبُ القَطْرِ أحْسَنُ أمْ حُبَيشُ. حُبَيشٌ، وَالّذِي خَلَقَ البَرَايَا ... عَلى أنْ لَيسَ عِندَ حُبَيشَ عَيشُ. فلما كثر ذلك منه وشهر بها، قال قومه لأمه: إن هذا الغلام يتيم، وإن أهل هذه المرأة يرغبون بأنفسهم عنكم، فانظري جاريةً ن قومك ممن لا تمتنع عليك، فزيّنيها واعرضيها عليه لعله يتعلقها ويسلى، ففعلت، وحضرها نساؤها، فجعلوا يعرون عليه نساء الحي، ثم يقولون له: يا عبد الله! كيف ترى؟ فيقول: إيهاً، والله حسناء، إلى ان قال قائل: أهي أحسن أم حبيشة؟ فقال: مرعى ولا كالسعدان. فلما يئسوا من أن ينصرف عنها، قال بعضهم لبعض: عليكم بحبيشة، (1/314) وطمعوا أن ياتوا الأمر من قبلها، فقالوا: والله لئن أتاك، لا تزرين به، وتتجهمينه، وتقولين له: أنت أبغض الناس إلي، فلا تقربني، ونحن بمرأى منك ومسمع، ليفعلن بك ما يسوءك، فأتاها، فلم تكلمه بشيء مما قالوا، ولم تزد على أن نظرت إليه، ونظر إليها، ثم أرسلت عينيها بالبكى، فانصرف عنها، وهو يقول: وَما كانَ حُبّي عن نَوَالٍ بَذَلْتِه ... وَلَيسَ بمُسْليَّ التّجَهّمُ وَالهَجْرُ. سِوَى أنّ دائي مِنكِ داءُ مَودّةٍ، ... قَدِيماً، وَلمْ يُمزَجْ كما تُمزَجُ الخمرُ. وَما أنسَ مِلْ أشياء لا أنسَ دمعَها ... وَنَظْرَتَها حَتّى يُغَيّبني القَبْرُ. فبينما هما على أشد ما كانا عليه من الهوى والصبوة، إذ هجم عليهم جيش خالد بن الوليد يوم الغميصاء، فأخذ الغلام رجل من أصحاب خالد، فأراد قتله، فقال له: ألمم بي أهل تلك البيوت أقضي إليهن حاجةً، افعل ما بدا لك. قال: فأقبلت به حتى انتهى إلى خيمة منها، فقال: إسلم حبيش بعد انقطاع العيش، فأجابته فقالت: سلمت وحياك الله عشراً، وتسعاً وتراً، وثلاثاً تترى، فلم أر مثلك يقتل صبراً. وخرجت تشتد، وعليها خمار أسود، وقد لاثته على رأسها، وكان وجهها مثل القمر ليلة البدر، فقال حين نظر إليها: أرَيتُكِ إنْ طالَبتُكم فَوجَدتكمْ ... ببرْزَةَ، أوْ إنْ لم تَفُتْني الحَرَانقُ. أمَا كانَ حَقّاً أن يُنَوَّلَ عاشِقٌ ... تكلّفَ إدلاجَ السُّرَى وَهوَ رَاهقُ. فَإنيَ لا سِرّاً لَدَيّ أضَعْتُهُ، ... وَلا رَاقَ عَيني بعد وَجهكِ رَائقُ. (1/315) على أن ما بات العشية شاغل، ... فلا ذكر إلا أن تكون توامق. فها أنا ماسور لديك مكبلن ... وما أنا بعد اليوم بالعتب ناطق. فأجابته: أرَى لكَ أسْبَاباً أظُنّكَ مُخْرِجاً ... بهَا النّفسَ من جَنبيّ والرّوحُ زَاهقُ. فأجابها فقال: فإنْ يَقتُلوني، يا حُبَيش، فلم يَدَعْ ... هَوَاكِ لهُمْ مِني سِوَى غُلّةِ الصّدرِ. وَأنتِ التي قَفّلتِ جِلْدِي عَلى دَمي ... وَعَظمي وَأسبَلتِ الدموعَ على النّهرِ. فأجابته فقالت: وَنَحنُ بَكَينا من فِرَاقِكَ مَرّةً، ... وَأُخرَى، وَقايَسنا لكَ العُسرَ باليُسرِ. فأنتَ فلا تَبْعَدْ، فَنِعمَ أخُو النَّدَى، ... جَميلُ المُحَيّا في المُرُوءةِ وَالبِشْرِ. قال الذي أخبر به: فلم سمعت ذلك منهما أدركتني الغيرة، فضربته ضربةً، فقطعت منها يده وعنقه، فلما رأته قد سقط قالت لي: ائذن لي أن أجمع بعضه إلى بعض، فأذنت لها، فجمعته وجعلت تمسح التراب عن وجهه بخمارها وتبكي، ثم شهقت شهقةً خرجت منها نفسها. موت عروة بن حزام قال أبو بكر بن المرزبان وأخبرنا أحمد بن زهير، أخبرنا الزبير بن بكار، أخبرنا أبي قال: قال عروة بن الزبير: مررت بوادي القرى فقيل لي: هل لك في عروة بن حزام؟ فقلت: الذي يلقى من الحب ما يلقى؟ قالوا: نعم! فخرجت حتى جئته، فإذا هوى (1/316) في بيت منفرد عن البيوت، وإذا، والله، حوله أخوات له أمثال التماثيل، وأمه وخالته. قال: فقلت له: أنت عروة؟ قال: نعم! قلت: صاحب عفراء؟ قال: صاحب عفراء، ثم استوى قاعداً فقال: وأنا الذي أقول: وعينان ما أوفيت نشزاً فتنظرا ... بما فيهما إلا هما تكفان. ألا فاحملاني، بارك الله فيكما، ... إلى حاضر البلقاء ثم ذراني. ثم التفت إلى أخواته فقال: مَنْ كانَ من أُمّهَاتِي بَاكِياً أبَداً، ... فَالَيْوَم إني أُرَاكَ اليَوْمَ مَقْبُوضا. مَنْ كانَ يَلحُو فإني غَيرُ سَامِعِهِ، ... إذَا عَلَوْتُ رِقَابَ القَوْمِ مَعرُوضَا. قال عروة بن الزبير: فلما سمعن قوله برزن والله يضربن حر الوجوه، ويشقنقن جيوبهن. قال عروة: فقمت، فما وصلت إلى منزلي حتى لحقني رجل فقال: قد مات. قصة عروة وعفراء نقلت من خط ابن حيويه: حدثنا أبو بكر بن المرزبان، حدثني أبو العباس فضل بن محمد اليزيدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أخبرني لقيط بن بكر المحاربي. أن عروة بن حزام وعفراء ابنة مالك العذريين، وهما بطن من عذرة، يقال لهم بنو هند بن حزام بن ضبة بن عبد بكير بن عذرة، نشأا جميعاً فعلقها علاقة الصبي، وكان عروة يتيماً في حجر عمه، حتى بلغ، فكان يسأل عمه أن يزوجه عفراء فيسوفه، إلى أن خرجت عير لأهله إلى الشام (1/317) وخرج عروة إليها، ووفد على عمه ابن عم له من البلقاء يريد الحج، فخطبها، فزوجها إياه. وأقبل عروة في عيره حتى إذا كان بتبوك نظر إلى رفقة مقبلةٍ من نحو المدينة فيها امرأة على جمل أحمر، فقال لأصحابه: والله، إنها شمائل عفراء، فقالوا: ويحك! ما تترك ذكر عفراء لشيء؟ قال: وجاء القوم، فلما دنوا منه وتبين الأمر يبس وبقي قائماً لا يتحرك، ولا يحير كلاماً، ولا يرجع جواباً، حتى بعد القوم، فذلك حيث يقول: وَإني لَتَعرُوني لِذِكرَاكِ رِعْدَةٌ، ... لها بَينَ جِلْدِي وَالعِظامِ دَبِيبُ. فَما هُوَ إلاّ أنْ أرَاهَا فُجاءةً ... فَأُبْهَتَ حَتى مَا أكَادُ أُجِيبُ. فَقُلْتُ لعَرّافِ اليَمَامَةِ: داوِني، ... فَإنّكَ إنْ أبْرَأتَني لَطَبِيبُ. فَما بيَ من حمّى وَلا مسّ جِنةٍ، ... وَلكنّ عَمي الحِميرِيَّ كَذُوبُ. قال أبو بكر: وعراف اليمامة هذا الذي ذكره عروة وغيره من الشعراء، هو رياح بن راشد ويكنى أبا كحيلة، وهو عبد لبني يشكر، تزوج مولاه امرأةً من بني الأعرج، فساقه في مهرها ثم ادعى بعد نسباً في بني الأعرج. ثم إن عروة انصرف إلى أهله واخذه البكاء والهلاس حتى نحل، فلم يبق منه شيء، فقال بعض الناس: هو مسحور، وقال قوم: بل به جنةٌ! وقال آخرون: بل هو موسوس، وإن بالحاضر من اليمامة لطبيبا يداوي من الجن، وهو أطب الناس، فلو أتيتموه، فلعل الله يشفيه، فساروا إليه من أرض بني عذرة حتى داواه، فجعل يسقيه السلوان، وهو يزداد سقماً، فقال له عروة: يا هناه! هل عندك للحب دواء أو رقية؟ فقال: (1/318) لا والله. فانصرفوا حتى مروا بطبيب بحجر، فعالجه وصنع به مثل ذلك، فقال له عروة: والله ما دائي ودوائي إلا شخص بالبلقاء مقيم، فهو دائي، وعنده دوائي. وفي غير هذه الرواية: شخص بالبلقاء مقيم هو وراني، أي أمرضني وهزلني، والورى داء يكون في الجوف مثل القرحة والسل. قال سحيم عبد بني الحسحاس: وَرَاهُنَّ رَبي مثلَ ما قَد وَرَينَني، ... وَأحمَى على أكبادِهنّ المَكاوِيَا. رجع الحديث قال: فانصرفوا به، فأنشأ يقول عند انصرافهم به: جَعلتُ لعَرّافِ اليَمَامَةِ حُكمَهُ ... وَعَرّافِ حِجرٍ إن هُما شَفَياني. فقالا: نعم! نَشفي من الداء كلّه، ... وَقَامَا مَعَ العُوّادِ يَبْتَدِرَانِ. فَمَا تَرَكَا مِنْ رُقيَةٍ يعلمانِها، ... وَلا سَلَوةٍ إلاّ وقَدْ سَقَيَاني. فَقالا: شَفاكَ الله، وَاللهِ مَا لَنَا ... بما ضَمِنَتْ مِنكَ الضّلُوعُ يَدانِ. قال: فلما قدم على أهله، وكان له أخوات أربع ووالدة وخالة، فمرض دهراً، فقال لهن يوماً، اعلمن أني لو نظرت إلى عفراء نظرة ذهب وجعي، فذهبن به حتى نزلوا البلقاء مستخفين، فكان لا يزال يلم بعفراء، وينظر إليها، وكانت عند رجل كريم سيد كثير المال والغاشية. فبينا عروة يوماً بسوق البلقاء، إذ لقيه رجل من بني عذرة فسأله عن حاله ومقدمه، فأخبره. قال: والله لقد سمعت انك مريض، وأراك قد صححت. فلما أمسى الرجل دخل على زوج عفراء فقال: متى قدم عليكم هذا الكلب الذي قد فضحكم؟ فقال زوج عفراء: أي كلب هو؟ قال: عروة! قال: أوقد قدم؟ قال: نعم! قال: أنت والله أولى بها منه أن تكون (1/319) كلباً، ما علمت بقدومه، ولو علمت لضممته إلي. فلما أصبح غدا يستدل عليه حتى جاءه، فقال: قدمت هذا البلد، ولم تنزل بنا، ولم تر أن تعلمنا بمكانك فيكون منزلكم عندنا وعلي، إن كان لكم منزل إلا عندي. قال: نعم! نتحول إليك الليلة، أو في غد. فلما ولى قال عروة لأهله: قد كان ما ترون، وإن أنتم لم تخرجوا معي لأركبن رأسي ولألحقن بقومكم، فليس علي بأس. فارتحلوا وركبوا طريقهم، ونكس عروة ولم يزل مدنفاً، حتى نزل وادي القرى. وروى العمري عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مسكين أن عفراء لما بلغها وفاة عروة قالت لزوجها: يا هناه! قد كان من أمر هذا الرجل ما بلغك، والله ما كان ذلك إلا على الحسن الجميل، وإنه قد بلغني أنه مات في أرض غربةٍ، فغن رأيت أن تأذن لي فأخرج في نسوة من قومي فيندبه ويبكين عليه. فقال: إذا شئت، فأذن لها، فخرجت، وقالت ترثيه: ألا أيّها الركبُ المُخِبّونَ وَيحَكُم! ... بحَقٍّ نَعَيتُم عُرْوَةَ بنَ حِزَامِ. فَلا هَنئ الفِتيَانَ بَعدَكَ غَارَةٌ، ... وَلا رَجَعُوا مِنْ غَيبَةٍ بِسَلامِ. فَقُلْ للحبَالى لا تُرَجّينَ غَائِباً، ... وَلا فَرَحَاتٍ بَعْدَهُ بِغُلامِ. قال: ولم تزل تردد هذه الأبيات وتبكي حتى ماتت، فدفنت إلى جابنه، فبلغ الخبر معاوية، فقال: لو علمت بهذين الشريفين لجمعت بينهما. وقد روي مثل هذا الكلام عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا، حدثنا العيشي عن أبيه قال: لما زُوجت عفراء جعل عروة يضع صدره في أعطان إبلها، وحيث (1/320) كانت تجلس، فقيل له: اتق الله، فإن هذا غير نافعك، فأنشأ يقول: بيَ اليأسُ، أوْ داءُ الهُيَامِ سُقِيتُه، ... فإيّاكَ عَني لا يَكُنْ بكَ مَا بيَا. الهجران إثم أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الحوهري، حدثنا أبو القاسم طلحة، حدثنا الجرمي بن أبي العلاء، حدثني الزبير، حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عبدي بن أبي سلمة: أنشدني جدي يوسف بن الماجشون لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة: كَتَمتَ الهوَى حَتى أضَرّ بِكَ الكتمُ، ... وَلامَكَ أقوَامُ، وَلَوْمُهُمُ ظُلْمُ. وَنَمّ عَلَيْكَ الكَاشِحُونَ، وَقبلَهم ... عَلَيكَ الهَوَى قد نمّ لَوْ نَفعَ النمُّ. وَزَادَكَ إغرَاءٌ بِهَا طُولُ هَجْرِهَا، ... قَدِيماً، وَأبلى لحمَ أعظُمِكَ الهَمّ. فأصْبَحتَ كالهِندِيّ، إذْ ماتَ حسرَةً ... على إثرِ هِندٍ، أوْ كمَنْ سُقيَ السُّمّ. ألا مَنْ لنَفسٍ لا تَمُوتُ فَيَنقَضي ... عَنَاهَا، وَلا تَحيَا حَياةً لها طَعمُ. تَجَنّبتَ إتْيَانَ الحَبِيبِ تَأثّماُ، ... ألا إنّ هِجْرَانَ الحَبِيبِ هوَ الإثمُ. فذُقْ هَجرَها، قَد كنتَ تَزْعُمُ أنّهُ ... رَشَادٌ، ألا يا رُبّما كَذَبَ الزّعمُ. (1/321) مصطبران على البلوى أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ، أخبرنا أبو الحسين بن روح النهرواني حدثنا المعافى بن زكريا: أخبرنا محمد بن يحيى الصولي عن أحمد بن يحيى أنه أنشد: هوَى نَاقَتي خَلفي، وَقُدّاميَ الهوَى، ... وَإني وَإيّاهَا لمُخْتَلِفَانِ. هَوَايَ عرَاقيٌّ وَتَثْني زِمَامَهَا، ... كَبَرْقٍ سرَى بَعدَ الهُدُوءِ يمَاني. تَحِنّ وَأبْكي، إنّها لَبَلِيّةٌ، ... وَإنّا عَلى البَلْوَى لمُصْطَبِرَان. فضل الشاعرة أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي إجازة، أخبرنا القاضي أبو عمر أحمد بن محمد بن العلاف، اخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثني محرز الكاتب، أخبرني يحيى بن الخصيب قال: كنت عند فضل الشاعرة إذ استأذن عليها إنسان فأذنت له، وقالت: ما حاجتك؟ قال: تجيزين مصراع بيت من شعر. قالت: ما هو؟ قال: مَن لمُحبٍّ أحَبّ في صِغَرِهْ ... فصَارَ أحدُوثَةً على كِبَرِهْ. فقالت: مِنْ نَظَرٍ شَفّهُ وَأرّقَهُ، ... فكانَ مَبدَا هَوَاهُ مِن نَظَرِهْ. لَوْلا الأمَاني لمَاتَ مِنْ كمَدٍ، ... مَرُّ اللَّيَالي يَزِيدُ في ذِكَرِهْ. مَا إنْ لَهُ مُسْعِدٌ فَيُسعِدَهُ ... بِاللّيْلِ في طُولِهِ وَفي قِصَرِهْ. (1/322) شهقة الموت قال محمد بن المرزبان، ونقلته من خط ابن حيويه عنه، قال: أخبرني بعض أصحاب المدايني اخبرنا المدايني، أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: كان بالمدينة رجل من ولد عبد الرحمن بن عوف، وكان شاعراً، وكانت عنده ابنة عم له، وكان لها عاشقاً، وبها مستهتراً، فضاق ضيقةً شديدة، وأراد المسير إلى هشام إلى الرصافة، فمنعه من ذلك ما كان يجد بها وكره فراقها، فقالت له يوماً، وقد بلغ منها الضيق: يا ابن عمي! ألا تأتي الخليفة لعل الله تعالى أن يقسم لك منه رزقاً، فنكشف به بعض ما نحن فيه. فلما سمع ذلك منها نشط للخروج، فتجهز، ومضى، حتى إذا كان من الرصافة على أميال خطر ذكرها بقلبه، وتمثلت له، فلبث ساعة شبيهاً بالمغمى عليه، ثم أفاق، فقال للجمال: احبس، فحبس إبله، فأنشأ يقول: بَينَما نحنُ في بلاكثَ فالقَا ... عِ سرَاعاً، وَالعِيسُ تَهْوِي هُوِيّا. خَطَرَتْ خطرَةٌ على القَلْبِ مِنْ ذِكْ ... رَاكِ، وَهناً، فَما أطقتُ مُضِيّا. قُلْتُ: لَبَيّكِ، إذْ دَعَاني لكِ الشّوْ ... قُ، وَللحَادِيَينِ رُدّا المَطِيّا. فكَرَرْنَا صُدُورَ عِيسٍ عِتَاقٍ، ... مُضْمَرَات، طُوِينَ بالسّيرِ طَيّا. ذَاكَ مِمّا لَقِينَ من دَلَجِ السّي ... رِ، وَقَوْلِ الحُدَاةِ، باللّيلِ، هَيّا. ثم قال للجمال: ارجع بنا! فقال له: سبحان الله، قد بلغت طيتك! هذه أبيات الرصافة. فقال: والله لا تخطو غلا راجعة، فرجع، حتى إذا كان من المدينة على قدر ميل لقيه بعض بني عمه، فأخبره أن امرأته قد توفيت، فشهق شهقةً، وسقط عن ظهر البعير ميتاً. (1/323) جنون وعشق أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بقراءتي عليه بباب الندوة، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المذكر، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الصوفي القزويني، حدثنا شادل، حدثنا يحيى بن سليمان المادراي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الأبلي قال: رأيت غورك يوماً خارجاً من الحمام، والصبيان يؤذونه، فقلت: ما خبرك أبا محمد؟ قال: قد آذاني هؤلاء الصبيان، أما يكفيني ما أنا فيه من العشق والجنون؟ قلت: ما أظنك مجنوناً. قال: بلى، والله، وبي عشق شديد. قلت: هل قلت في عشقك وجنونك شيئاً؟ قال: نعم، وأنشد: جُنُونٌ وعِشقٌ ذَا يَرُوحُ وَذا يَغدُو، ... فَهَذا لَهُ حَدٌّ، وَهَذا لَهُ حَدُّ. هُمَا استَوْطَنا جسمي وَقلبي كِلاهُما، ... فَلمْ يَبْقَ لي قَلبٌ صَحيحٌ وَلا جِلدُ. وَقَدْ سَكَنَا تحتَ الحَشَا، وَتَحَالَفَا ... عَلى مُهْجَتي ألاّ يُفَارِقَهَا الجَهدُ. فَأيُّ طَبِيبٍ يَسْتَطِيعُ بحيلَةٍ، ... يُعَالِجُ مِنْ دَاءَين مَا مِنْهُمَا بُدُّ. الفتى والشيخ العاشق أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي إن لم يكن سماعاً فإجازة، أخبرنا عبد الغفار بن عبد الواحد بن نصر الأرموي، حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد القاضي، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد الميموني، حدثني محمد بن عمر، حدثني أبو عبد الله الروذباري قال: دخلت درب الزعفراني، فرأيت فتىً قد صرع شيخاً، وهو يكلمه ويعض حلقه، فقلت له: يا فتى أتفعل هذا بأبيك؟ أباه، فقال: دعني حتى أفرغ منه ثم أحدثك بقصتي، فلما فرغ قلت: يا فتى ما ذنبه؟ قال: إن هذا يزعم أنه يهواني، وله ثلاث ما رآني. (1/324) زينة الله أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد المعدل، حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، اخبرنا عسل، أخبرنا التوزي قال: نظر رجل من قريش إلى رجل ينظر إلا غلام وضيء الوجه، فزجره، فرآه محيريز الزاهد فقال له: هل رأيت غير النظر؟ قال: لا! قال: أتريد أان تبطل زينة الله في بلاده، وحليته في عباده؟ ينشد في ظل خيمة أخبرنا أبو عبد الله الأندلسي الحافظ من لفظه، حدثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي، حدثنا القاضي أبو بكر عبد الله بن الربيع، حدثنا القالي أبو علي، حدثنا أبو بكر بن دريد، حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: بينا أنا سائر بناحية بلاد بني عامر، إذا برجل ينشد في ظل خيمة له، وهو يقول: أحَقّاً، عِبادَ اللهِ، أن لَستُ ناظِراً ... إلى قَرْقَرَى يَوْماً وَأعلامِهَا الغُبرِ؟ كأنّ فُؤادِي، كُلّمَا مَرّ رَاكِبٌ، ... جَنَاحُ غُرَابٍ رَامَ نَهْضاً إلى وكرِ. إذا ارْتَحَلَتْ نحوَ اليَمَامَةِ رِفْقَةٌ، ... دَعَاكَ الهَوَى، وَاهتَاجَ قَلبُك للذكرِ. فَيَا رَاكِبَ الوَجنَاءِ! أبتَ مُسَلَّماً، ... وَلا زِلتَ من رَيبِ الحَوَادثِ في سترِ. إذا ما أتَيتَ العُرْضَ، فاهتِفْ بجَوّه: ... سُقيتَ على شحطِ النوَى سَبَلَ القطرِ. (1/325) فإنّكَ مِنْ وَادٍ إليّ مُرَحَّبٍ، ... وَإن كنتَ لا تُزْدارُ إلاّ على عَفْرِ. قال: فأذنت، وكان ندي الصوت، فلما رآني أومأ إلى فأتيته، فقال: أأعجبك ما سمعت؟ فقلت: إي والله! فقال: أمن أهل الحضارة أنت؟ قلت: نعم! قال: فمن تكوت؟ قلت: لا حاجة لك في السؤوال عن ذلك. قال: أو ما حل الإسلام الضغائن، وأطفأ الأحقاد؟ قلت: بلى! قال: فما يمنعك إذا قلت: أنا امرؤ من قيس؟ قلت: الحبيب القريب. قال: فمن أيهم؟ قلت: أحد بني سعد بن قيس، ثم أحد أعصر بن سعد. قال: زادك الله قرباً. ثم وثب فأنزلني عن حماري، وألقى عنه إكافه، وقيده بقراب خيمته، وقام إلى زند فاقتدح وأوقد ناراً، وجاء بصيدانو، فألقى فيها تمراً، وأفرغ عليه سمناً، ثم لته حتى التبك، ثم ذر عليه دقيقاً، وقربه إلي، فقلت: إني إلى غير هذا أحوج. قال: وما هو؟ قلت: تنشدني. قال: أصبت فإني فاعل، فلقمت لقيمات وقلت: الوعد! قال: نعمى عين وأنشدني: لَقَدْ طَرَقَتْ أُمُّ الخُشَيفِ، وَإنّها ... إذا صَرَعَ القَوْمَ الكَرَى لَطَرُوقُ. فَيَا كَبِداً يُحمَى عليها، وَإنّها، ... مخافَةَ هَيضَاتِ النَّوَى، لخفُوقُ. أقَامَ فَرِيقٌ مِنْ أُنَاسٍ يَوَدّهُمْ، ... بذاتِ الغَضَا، قَلبي، وَبَانَ فَرِيقُ. بحَاجَةِ مَحْزُونٍ يَظَلّ وَقَلْبُهُ ... رَهِينٌ بِبَيضَاتِ الحِجَالِ صَدِيقُ. (1/326) تَحَمّلْنَ أنْ هَبّتْ لَهُنّ عَشِيّةً ... جَنوبٌ، وَأنْ لاحَتْ لَهُنّ بُرُوقُ. كَأنّ فُضُولَ الرَّقْمِ حِينَ جَعَلنَها ... ضُحَيّاً على أُدْمِ الجِمَالِ عُذُوقُ. وَفِيهِنّ مِن تَحتِ السّتَارِ تَحِلَّةٌ، ... تَكَادُ على غُرّ السّحَابِ تَرُوقُ. هَجين، فأما الدعص عن أخرياتها ... فوعث، وأما خصرها فدقيق. التفريق بين مؤتلفين أنبانا القاضي أبو عبد الله محمد بن علي الله بن سلامة القضاعي عن أبي الحسن بن نصر بن الصياح، حدثنا أبو عمر عبيد بن أحمد السمسار. أن أبا بكر بن داود الأصبهاني كان يدخل الجامع من باب الوراقين. فلما كان بعد مدة عدل عنه وجعل دخوله من غيره، وكنت مجترئاً عليه، فسألته عن ذلك، فقال: يا بين! السبب فيه أني في الجمعة الماضية أردت الدخول منه فصادفت عند الباب حدثين يتحدثان، وكل واحد منهما مسرور بصاحبه، فلما رأياني قالا: أبو بكر قد جاء، فتفرقا، فجعلت علي نفسي أن لا أدخل من باب فرقت فيه بين مؤتلفين. (1/327) لا كلمته أبداً أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة المصري، حدثنا ابن نصر، حدثنا أبو عمر عبيد الله بن أحمد بن السمسار أن حدثاً كان يعرف بابن سمنون الصوفي، نشأ مع أبي بكر في كتاب واحد، وكانا لا يفترقان، فإذا عمل أبو بكر كتاباً في الأدب ناقضه، وعمل في معناه، وإن أبا بكر نقش على فص خاتمه سطرين، الأول منهما: وما وجدنا لأكثرهم من عهد؛ والآخر: فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وكان إذا رأى إنساناً ينظر إلى حدث رمى إليه بخاتمه، وقال: اقرأ ما عليه فينتهي عن ذلك، فقال لابن سمنون: أتقدر أن تناقضني في هذا؟ قال: نعم! فلما كان الغد جاءه بخاتم على فصه سطران، الأول منهما: وجعلنا بعضكم لبعض فتنةً أتصبرون؛ والثاني: ولنصبرن على ما آذيتمونا. فاستحسن ذلك. وعلى هذا الطريق قال أبو نواس: كَتَبَتْ عَلى فَصٍّ لخاتَمِهَا: ... مَنْ نَامَ لم يَشعُرْ بمَن سَهِدا (2/5) وَكَتَبْتُ في فَصّي أُنَاقِضُهَا: ... لا كانَ مَنْ يَهْوَى إذا رَقَدَا قَالَتْ: يُنَاقِضُني بخَاتَمِهِ، ... وَاللهِ، لا كَلّمْتُهُ أبَداَ سلبت عظامي لحمها أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي في ما أذن لنا في روايته، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن السري، حدثنا أحمد بن الحسين بن محمد بن فهم، حدثني الخريمي قال: دخلت حماماً في درب الثلج، فإذا بسوار بن عبد الله القاضي في الحمام، في البيت الداخل، مستلقياً، وعليه المئزر، فجلست بقربه، فسكت ساعة ثم قال لي: قد أحشمتني يا رجل! إما أن تخرج أو أخرج. فقلت: جئت أسألك عن مسألة. فقال: ليس هذا موضع المسائل. قلت: إنها من مسائل الحمام، فضحك وقال: هاتها، فقلت: من الذي يقول: سَلبتِ عِظامي لحمهَا، فتركتِها ... عَوَارِيَ ممّا نَالَها تَتَكَسّرُ وَأخْلَيْتِها مِنْ مُخّها، فتركتِها ... أنَابيبَ في أجْوافِها الرّيحُ تَصْفِرُ إذا سمعتْ ذِكرَ الفرَاقِ ترَعدّت ... مَفَاصِلُهَا خَوْفاَ لِمَا تَتَنَظّرُ خذي بيدي ثم ارْفعي الثْوبَ تنظرِي ... بِلى جَسَدِي، لكنّني أتَسَتّرُ فقال سوار: أنا والله قلتها. قلت: فإنه يغنى بها، ويجود. فقال: لو شهد عندي الذي يغني بها لأجزت شهادته. (2/6) الزنجي الشاعر أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي بقراءتي عليه وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قراءة عليه قالا: أخبرنا أبو عمر بن حيويه الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، أخبرنا عبد الله بن شبيب، أخبرني الزبير بن بكار، حدثني محمد بن الحسن، حدثني هبيرة بن مرة القشيري قال: كان لي غلام يسوق ناضحاً ويرطن بالزنجية بشيء يشبه الشعر، فمر بنا رجل يعرف لسانه، فاستمع له ثم قال: هو يقول: فقلتُ لهَا: إني اهتَديتُ لِفِتْيَةٍ، ... أنَاخُوا بجَعجَاعٍ قَلائصَ سُهّمَا فقالت: كذاكَ العاشِقونَ ومن يخَفْ ... عُيونَ الأعادي بجعلِ اللّيلِ سُلّمَا نصيب وزينب أخبرني القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، حدثني محمد بن معاذ عن إسحق بن إبراهيم قال: حدثني رجل من قريش عمن حدثه قال: كنت حاجاً ومعي رجل من القافلة لا أعرفه، ولم أره قبل ذلك، ومعه هودج وأثقال وضينة، وعبيد ومتاع، فنزلنا منزلاً، فإذا فرش ممهدة، وبسط قد بسطت، فخرج من أعظمها هودجاً امرأة زنجية، فجلست على تلك الفرش الممهدة، ثم جاء زنجي، فجلس إلى جنبها، على الفرش، (2/7) فبقيت متعجباً منهما، فبينا أنا أنظر إذ مر بنا مار وهو يقود إبلاً معه، فجعل يغني ويقول: بزَينبَ ألمِمْ قَبلَ أن يرْحَلَ الرَّكبُ، ... وَقُلْ إنْ تَمَلّيْنَا فَمَا مَلّكِ القلبُ قال: فوثبت الزنجية إلى الزنجي، فخبطته وضربته، وهي تقول: شهرتني في الناس، شهرك الله. فقلت: من هذا؟ قالوا لي: نصيب الشاعر، وهذه زينب. وذكر الزبير ضد هذا الخبر. بريرة وزوجها الحبشي أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا الحسن بن مكرم بن حسان، حدثنا علي بن عاصم عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أعتقت بريرة، وكان زوجها حبشياً، خيرت، فاختارت فراقه، فكان يطوف حولها، ودموعه تسيل على خديه حباً لها، فقال رسول الله ﷺ، لعمه العباس: أما ترى شدة حبه لها، وشدة بغضها له؟ فقال له النبي ﷺ: لو تزوجته؟ قالت: إن أمرتني. قال: لا آمرك، ولكني شفيع، فلم تفعل. وبإسناده حدثنا محمد بن خلف، حدثنا محمد بن الهيثم، حدثنا يوسف بن عدي عن سعيد وأيوب عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: أن زوج بريرة كان عبداً أسود مولىً لبني المغيرة، يوم أعتقت، والله لكأني به في أطراف المدينة ونواحيها، وإن دموعه لتجري على لحيته، يتبعها ويترضاها لتختاره فلم تفعل. (2/8) ابن الدمينة العليل ذكر شيخنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، حدثنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد بن عمر بن عبد الملك بن جريج الطوماري، أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنبأنا عبد الله بن شبيب أنشدني الزبير لابن الدمينة: يَقولُون: قَد طالَ اعتلالُكَ بالقَذَى، ... ألَمْ يْأنِ أن تَلْقَى لعَينَيكَ رَاقِيَا؟ وَأقبَلنَ من أعلى البُيُوتِ يَعُدْنَني، ... ألا إنّ بَعضَ العائِداتِ دَوَائِيَا يَعُدْنَ مَرِيضاً هُنّ أصْلٌ لِدَائِه؛ ... بَقِيّة مَا أبْقَينَ نَصْلاً يَمَانِيَا لم يدر لوعتي إلا الله وذكر أبو علي أيضاً، حدثنا الطوماري، أخبرنا ثعلب أنشدنا عبد الله لعقبة الكلابي: إذا اقتَسَمَ النّاسُ الأحاديثَ وَانتَحَوا ... خَلا بِفُؤادِي حُبُّها وَانتَحَانِيَا فَكَفكَفتُ دمعي ثمّ حوّلتُ مَضْجعي ... فَلَمْ يَدْرِ إلا اللهُ لَوْعَةَ مَا بِيَا وَقالوا: نَرى هذا عَنِ اللهوِ مُعرِضاً؛ ... فَقُلتُ لَهُم: لا يَعنِكُمْ مَا عَنَانِيَا (2/9) أغزل بيت وأشجع بيت حدثنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي بن الحسن بن محمد الملحمي، حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى ابن زكريا، حدثنا علي بن الجهم أبو طالب الكاتب، حدثني أبو العباس سوار بن أبي شراعة البصري، حدثني الرياشي، حدثني الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء: إني أقول لكم أغزل الناس في بيت وأشجعهم في بيت، أما أغزل بيت فقوله: غَرّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُهَا ... تمشي الهُوَينا كَمَا يمشِي الوَجَى الوَجِلُ وأما أشجع بيت فقوله: قالوا: الطِّعان، فقُلنا: تلكَ عادَتُنَا؛ ... أوْ تَنْزِلُونَ، فإنّا مَعشَرٌ نُزُلُ أرق بيت في العيون حدثنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي الملحمي، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحارث أبو النضر العقيلي، أخبرني محمد بن راهويه الكاتب، أخبرني الحسن بن إبراهيم قال: قال المأمون لبعض من عنده: أنشدني أرق بيت قيل في العيون، فأنشده: إنّ العُيونَ التي في طَرْفها مَرَضٌ ... قَتَلْتَنَا ثمّ لَمْ يُحْيْينَ قَتْلانَا يَصرعنَ ذا اللُّبّ حتى لا حَرَاكَ به ... وَهُنّ أضْعَفُ خَلْقِ اللهِ أرْكانَا قال: ما عمل شيئاً، أشعر منه أبو نواس حيث يقول: رَبعُ البِلى بَينَ الجُفُونِ مُحِيلُ، ... عَفّى عليه بكىً عَليكَ طَويلُ (2/10) يا ناظِراً مَا أقلَعَتْ لَحَظَاتُهُ، ... حَتى تَشَحّطَ بَيْنَهُنّ قَتيل قال القاضي أبو الفرج: القول قول المأمون في رقة شعر أبي نواس. الشعر ما دخل القلب بلا إذن أخبرنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي قراءة عليه، حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا الحريري إملاء، حدثنا إبراهيم بن عرفة الأزدي قال: استنشدني أبو سليمان داود بن علي الأصبهاني بعقب قصيدة أنشدته إياها، ومدحته فيها وسألته الجلوس. فأجابني وقال لي في شيء منها: لو بدلت مكانه. فقلت له: هذا كلام العرب. فقال: أحسن الشعر ما دخل القلب بلا إذن؛ هذا بعد أن بدلت الكلمة. فقال لي إنسان بحضرته: ما أشد ولوعك بذكر الفراق في شعرك! فقال سليمان: وأي شيء أمض من الفراق؟ ثم حكى عن محمد بن حبيب عن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير أنه قيل له: ما كان أبوك صانعاً حيث يقول: لَوْ كُنتُ أعلَمُ أنّ آخِرَ عَهدكِم ... يَوْمَ الفِراقِ فَعَلتُ مَا لم أفعَلِ قال: كان يقلع عينه وَلا يَرى مَظْعنَ أحبابه. موت الحب أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا العباس بن العباس الجوهري، حدثنا محمد بن موسى الطوسي أنشدني هلال بن العلاء الرقي: وَقد ماتَ قَبلي أوّلُ الحُبّ فَانقَضَى، ... فإنْ متُّ أمسَى الحُبُّ قد ماتَ آخرُه (2/11) معشوقان يختصمان أخبرنا الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، أنبأنا أبو الحسن العباس بن العباس الجوهري، حدثنا الطوسي: أنشدني هلال بن العلاء: أرَى كلَّ مَعشوقينِ غيرِي وَغيرهَا، ... يَلَذّانِ في الدُّنيا وَيَغْتَبِطانِ وَأُمسِي وتُمسي في البِلادِ كأنّنا ... أسِيرانِ للأعْداءِ مُرْتَهَنانِ أُصلّي فأبكي في صلاتي لذكرِها، ... ليَ الويلُ مِمّا يكتُبُ المَلَكانِ ضمِنتُ لهَا أن لا أهيمَ بغَيرِها، ... وقَدْ وثِقَتْ مني بغَيرِ ضَمانِ ألا يا عبادَ اللهِ قُومُوا تَسَمّعُوا ... خُصُومَةَ مَعْشُوقَينِ يَختَصِمانِ وفي كلِّ عامٍ يَسْتَجِدّانِ مَرّةً ... عِتاباً وهَجراً، ثمّ يَصْطَلِحانَ يَعيشانِ في الدّنيا غَريبَيْنِ أينَمَا ... أقامَا وفي الأعْوامِ يَلْتَقِيانِ من يموت في الحب أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن المرزبان، حدثنا هارون بن محمد، أخبرني أبو عبد الله القرشي، حدثني الحكم قال: قيل لرجل من بني عامر: هل تعرفون فيكم المجنون الذي قتله الحب. قال: إنما تموت من الحب هذه اليمانية الضعاف القلوب. (2/12) يا حبها زدني جوى أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا عبد الله بن مسلم المروزي قال: كان الأصمعي يقول: لم يكن مجنوناً، ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية النميري، وهو أشعر الناس، على أنهم قد نحلوه شعراً كثيراً مثل قول أبي صخر الهذلي: أمَا والذي أبْكَى وأضْحكَ، والذي ... أمَات وأحيا، والذي أمرُهُ الأمرُ لقد تَركَتْني أحسُدُ الوحشَ أن أرى ... أليفينِ مِنْهَا لا يَرُوعُهُما الذُّعرُ فَيَا حبَّها زِدني جَوىً كلَّ لَيلَةٍ، ... ويا سَلوةَ الأيّامِ مَوْعِدُك الحَشرُ ويا هجرَ لَيلى قَد بَلَغت بيَ المَدى، ... وزِدت على ما لم يكُن صَنَع الهَجرُ معاوية والفتى العذري أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: قرئ على محمد بن المرزبان، وهو يسمع وأنا أسمع، حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا أبو محنف عن هشام بن عروة قال: أذن معاوية بن أبي سفيان للناس يوماً، فكان في من دخل عليه فتىً من بني عذرة، فلما أخذ الناس مجالسهم قام الفتى العذري بين السماطين، ثم أنشأ يقول: مُعاوِيَ! يا ذا الحِلمِ والفضْلِ والعقلِ، ... وذا البرِّ والإحسانِ وَالجُودِ وَالبَذلِ (2/13) أتَيتُكَ لمَّا ضاقَ في الأرْضِ مَسكني، ... وَأُنكِرْتُ مِمّا قد أصيبَ به عَقلي فَفَرِّجْ، كلاكَ اللهُ عَني، فإنّني ... لَقيتُ الذي لم يَلْقَهُ أحَدٌ قَبلي وَخُذْلي، هَداكَ اللهُ، حَقّي من الذي ... رَمَاني بِسَهمٍ كانَ أهوَنَهُ قَتلي وكنتُ أُرجّي عَدْلَهُ إذْ أتَيْتُهُ، ... فأكثر ترْدَادي مَع الحبَسِ والكَبلِ فَطَلّقْتُها من جُهدِ ما قد أصابَني، ... فهذا أميرَ المؤمِنِينَ مِن الَعدلِ؟ فقال له معاوية: ادن. بارك الله عليك، ما خطبك؟ فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! إنني رجل من بني عذرة تزوجت ابنة عم لي. وكانت لي صرمة من إبل وشويهات، فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتني نائبة الزمان وحادثات الدهر رغب عني أبوها، فكرهت مخالفة أبيها، فأتيت عاملك ابن أم الحكم، فذكرت ذلك له، وبلغه جمالها، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوجها، وأخذني فحبسني وضيق علي، فلما أصابني مس الحديد وألم العذاب طلقتها، وقد أتيتك، يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحروب، وسند المسلوب، فهل من فرج؟ ثم بكى. وقال في بكائه: في القَلْبِ مِنّي نَارُ، ... والنّارُ فِيهَا شَنَارُ وفي فُؤادِيَ جَمْرٌ، ... وَالجَمْرُ فِيهِ شَرَارُ وَالجِسْمُ مِنّي نَحيلٌ، ... وَاللّونُ فيهِ اصْفِرارُ وَالعَينْ تَبْكي بِشَجْوٍ ... فَدَمْعُهَا مِدرَارُ وَالحبُّ دَاءٌ عَسِيرٌ ... فِيهِ الطّبيبُ يَحَارُ (2/14) حَمَلْتُ مِنْهُ عَظيماً ... فَمَا عَلَيْهِ اصْطِبارُ فَلَيسَ لَيْليَ لَيْلاً، ... وَلا نَهَاري نَهَارُ فرق له معاوية، وكتب له إلى ابن أم الحكم كتاباً غليظاً، وكتب في آخره: رَكِبْتَ أمراً عظيماً لَسْتُ أعْرِفُهُ ... أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ جَوْرِ امرِئٍ زَانِ قَد كُنتَ تُشبِهُ صُوفياً لَهُ كُتُبٌ ... مِنَ الفَرَائِضِ أوْ آيَاتُ فُرقانِ حَتى أتَاني الفَتى العُذرِيُّ مُنْتَحِباً، ... يَشكُو إليّ بحَقٍّ غَيرِ بُهْتَانِ أُعْطِي الإلَهَ عُهُوداً لا أخيسُ بهَا ... أوْ لا فأبْرَأُ من دينٍ وَإيمانِ إنْ أنْتَ رَاجَعْتَنِي في مَا كَتَبْتُ بهِ ... لأجْعلنّكَ لحماً بَينَ عُقْبَانِ طَلّقْ سُعَادَ، وَفَارِقْها بمُجتَمَعٍ، ... وَأشهِد على ذاك نَصراً وَابنَ طِيبانِ فَمَا سَمْعتُ كمَا بُلّغتُ من عَجَبِ، ... وَلا فعَالُكَ حقّاً فِعْلَ إنْسَانِ فلما ورد كتاب معاوية على ابن أم الحكم تنفس الصعداء وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنةً، ثم عرضني على السيف؛ وجعل يؤامر نفسه في طلاقها ولا يقدر، فلما أزعجه الوفد طلقها، ثم قال: اخرجي يا سعاد، فخرجت شكلةً غنجة، ذات هيبة وجمال، فلما رآها الوفد قالوا: ما تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين لا لأعرابي؛ وكتب جواب كتابه: لا تَحْنَثَنّ، أمِيرَ المؤمِنِينَ، وَفي ... بِعَهْدِكَ اليَوْمَ في رِفْقٍ وَإحسَانِ وَمَا رَكِبتُ حَرَاماً حِينَ أعْجبَنِي، ... فَكيْفَ سُمّيتُ باسمِ الخائنِ الزّاني! (2/15) وَسَوْفَ تأتيكَ شَمْسٌ لا خَفَاءَ بهَا ... أبْهَى البَرِيّةِ من إنْسٍ وَمن جَانِ حَوْرَاءُ يَقصُرُ عنها الوَصْفُ إن وصِفتْ، ... أقُولُ ذَلكَ في سِرٍّ وَإعلانِ فلما ورد على معاوية الكتاب قال: إن كانت أعطيت حسن النغمة مع هذه الصفة، فهي أكمل البرية، فاستنطقها، فإذا هي أحسن الناس كلاماً، وأكملهم شكلاً ودلاً، فقال: يا أعرابي! هل من سلو عنها بأفضل الرغبة؟ قال: نعم، إذا فرقت بين رأسي وجسدي، ثم أنشأ يقول: لا تَجعَلَنِّي، والأمثالُ تُضرَبُ بي، ... كَالمُسْتَغيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنّارِ أُرْدُدْ سُعَادَ على حَرّانَ مُكْتَئِبٍ ... يُمسي ويُصْبِحُ في هَمٍّ وّتّذكارِ قَدْ شَفّهُ قَلَقٌ مَا مِثْلَهُ قَلَقٌ، ... وَأُشْعِرَ القَلْبُ مِنْهُ أيَّ إشْعَارِ وَاللهِ وَاللهِ لا أنسَى مَحَبَّتَها ... حَتى أُغيَّبَ في رَمْسٍ وَأحْجارِ كَيْفَ السُّلُوُّ وَقَدْ هَامَ الفُؤادُ بهَا ... وَأصْبَحَ القَلْبُ عَنْها غَيرَ صَبّارِ قال: فغضب معاوية غضباً شديداً، ثم قال لها: اختاري، إن شئت، أنا، وإن شئت ابن أم الحكم؛ وإن شئت الأعرابي، فأنشأت سعاد تقول: هَذا، وَإنْ أصْبَحَ في أطمارِ، ... وكان في نَقصٍ مِنَ اليَسارِ أعَزُّ عِنْدِي مِنْ أبي وَجَارِي، ... وَصَاحِبِ الدِّرْهَمِ وَالدّينَارِ أخشَى، إذا غَدَرْتُ، حَرَّ النّارِ فقال معاوية: خذها لا بارك الله لك فيها، فأنشأ الأعرابي يقول: خَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ للأعرابي، ... إنْ لمْ تَرقّوا وَيحَكُمْ لِمَا بي قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم، وناقة ووطاء، وأمر بها، فأدخلت بعض قصوره حتى انقضت عدتها من ابن أم الحكم ثم أمر بدفعها إلى الأعرابي. (2/16) المحب يسيء الظنون أخبرنا أبو محمد الحسن، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا ابن المرزبان أنشدني أبو العباس محمد بن يعقوب: ألا ليتَ شِعرِي، على نأيِكُم، ... أنَاسُونَ للعَهدِ أمْ حَافِظُونَا وَلا لَوْمَ إنْ سَاءَ ظَنّي بكُم، ... كذاكَ المُحبُّ يُسِيءُ الظنّونا اللهم فرج ما ترى أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: حدثنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثني إسحق بن محمد بن إبان، أخبرني بعض البصريين قال: مر أبو السائب المخزومي بسوداء تستقي وتسقي بستاناً. قال: ويلك! ما لك؟ قالت: صديقي عبد بني فلان كان يحبني وأحبه، ففطن بنا، فقيده مواليه وصيرني مولاي في هذا العمل. فقال أبو السائب: والله لا يجمع عليك ثقل الحب وثقل ما أرى. وقام مقامها في الزرنوق، فكل الشيخ وعرق، فجعل يمسح العرق ويقول: اللهم فرج ما ترى. (2/17) يا رب باك شجوه أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثنا أبو العباس محمد بن يحيى قال: قال أبو سعيد عبد الله بن شبيب: أنشدني علي بن طاهر بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب لبعض المدنيين: ألا رُبّ مَشغُوفٍ بِمَا لا يَنَالُهُ، ... غداةَ تُسَاقُ المُشعَرَاتُ إلى النّحرِ غداةَ تُوَافي أهْلَ جَمْعٍ، ضُحيّةً، ... لدى الجمرَة القُصْوَى أولو الجمم الغُبرِ وَللرّمي إذْ تُبْدِي الحِسانُ أكُفَّها، ... وَتَفْتَرّ بالتّكْبيرِ عَنْ شَنَبِ غُرّ فَيَا رُبّ بَاكِ شَجوَهُ، وَمُعَوِّلٍ، ... إذا مَا رأى الأطنَابَ تُنْزَعُ للنَّفرِ قال أبو بكر بن الأنباري: الشنب الثغر البارد، والشنب: برد الأسنان، والغر: البيض. ليلى الملاحين أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين الوكيل بقراءتي عليه سنة أربعين وأربعمائة، أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدل، حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم، حدثني أبي، حدثنا أحمد بن عبيد قال: قعد رجل في سفينة فسمع الملاحين يذكرون ليلى، وكان يهواها، فأنشأ يقول: فَويحكَ يا مَلاّحُ! أرّقَ لَيْلَنا ... دعاؤكَ لَيلى، وَالسّفِينُ تَعُومُ (2/18) لَعلّك إن طالَتْ حَياتُكَ أن تَرى ... حَبَائِبَكَ اللاّتي بِهِنّ تَهيمُ أجدَّكَ مَا تُنْسِيكَهُنّ مُلِمّةٌ، ... ألمّت، وَلا عهْدٌ بهِنّ قَديمُ النسيم المنيم الموقظ أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي إجازة، وحدثنا أحمد بن علي الحافظ عنه، أخبرنا أحمد بن محمد بن العباس الأخباري أنشدني أبو نضلة لنفسه: وَلمّا التَقَيْنَا للوَداعِ، وَلَمْ يَزَلْ ... يُنيلُ لِثَاماً دَائِماً وَعِنَاقَا شَمَمتُ نَسيماً منهُ يَستجلبُ الكَرَى، ... وَلَوْ رَقَدَ المَخْمُورُ فِيهِ أفَاقَا حديث كجنى النحل أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال بقراءتي عليه، سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدثنا محمد بن الحسين بن حميد الخزاز، أخبرني علي بن محمد المرهبي أنشدني بعض أصحابنا لذي الرمة: وَلمّا تَلاقَيْنَا جَرَتْ مِنْ عُيونِنَا ... دُمُوعٌ كَفَفْنَا مَاءَهَا بالأصابعِ وَنِلْنا سِقَاطاً مِن حَديثٍ كأنّهُ ... جنى النحلِ ممزُوجاً بماءِ الوَقائعِ (2/19) الصوفي والوجه الجميل أخبرنا أبو إسحق إبراهيم بن سعيد بفسطاط مصر بقراءتي عليه، أخبرنا أبو صالح السمرقندي، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع، حدثنا أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري، حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: قال أبو حمزة الصوفي: حدثني عبد الله بن الزبير الحنفي قال: كنت جالساً مع أبي النظر الغنوي، وكان من المبرزين الخائفين العابدين، فنظر إلى غلام جميل فلم تزل عيناه واقفتين عليه. حتى دنا منه. فقال له: سألتك بالله السميع وعزه الرفيع وسلطانه المنيع ألا وقفت علي أروى من النظر إليك! فوقف قليلاً ثم ذهب. فقال له: سألتك بالحكيم المجيد الكريم المبدي المعيد ألا وقفت! فوقف ساعةً، فأقبل يصعد النظر فيه ويصوبه ثم ذهب، فقال: سألتك بالواحد الجبار الصمد الذي لم يلد ولم يولد إلا وقفت! فوقف ساعةً ثم نظر إليه طويلاً، ثم ذهب، فقال: سألتك باللطيف الخبير السميع البصير، وبمن ليس له نظير ألا وقفت! فوقف فأقبل ينظر إليه ثم أطرق إلى الأرض. ومضى الغلام، فرفع رأسه بعد طويل، وهو يبكي، وقال: لقد ذكرني هذا بنظري إليه وجهاً جل عن التشبيه، وتقدس عن التمثيل، وتعاظم عن التحديد، والله لأجهدن نفسي في بلوغ رضاه بمجاهدتي جميع أعدائه، وموالاتي لأوليائه حتى أصير إلى ما أردته من نظري إلى وجهه الكريم وبهائه العظيم، ولوددت أنه قد أراني وجهه وحبسني في النار ما دامت السموات والأرض؛ ثم غشي عليه. (2/20) قيس ولبنى أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي إجازة، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر العامري، حدثنا سليمان بن أبي شيخ، حدثنا أيوب ابن عباية قال: خرج قيس بن ذريح إلى المدينة يبيع ناقة له، فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه، فقال له: انطلق معي أعطك الثمن، فمضى معه. فلما فتح الباب، فإذا لبنى، وقد استقبلت قيساً، فلما رآها ولى هارباً، وخرج الرجل في أثره بالثمن ليدفعه إليه، فقال له قيس: لا تركب لي والله مطيتين أبداً. قال: أنت قيس بن ذريح؟ قال: نعم! قال: هذه لبنى قد رأيتها فقف حتى أخيرها، فإن اختارتك طلقتها، وظن القرشي أن له في قلبها موضعاً، وأنها لا تفعل. قال له قيس: افعل. فدخل القرشي عليها، فخيرها، فاختارت قيساً. فطلقها، وأقام قيس ينتظر انقضاء عدتها ليتزوجها، فماتت في العدة. بهرام جور وابنه الخامل أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم بن أحمد المازني الكاتب، حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، حدثنا عيسى بن محمد أبو ناظرة السدوسي، حدثني قبيصة بن محمد المهلبي، أخبرني اليمان بن عمرو مولى ذي الرئاستين قال: كان ذو الرئاستين يبعثني ويبعث أحداثاً من أحداث أهله إلى شيخ بخراسان، له أدب وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلموا منه الحكمة، فإنه حكيم، فكنا نأتيه، فإذا انصرفنا من عنده، سألنا ذو الرئاستين (2/21) واعترض ما حفظناه، فنخبره به. فقصدنا ذات يوم إلى الشيخ فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم ولكم جدات، ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا! فقال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العيي ويفتح حيلة البليد والمخبل، ويبعث على التنظف وتحسن اللباس، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، وتشرف الهمة، وإياكم والحرام! فانصرفنا من عنده إلى ذي الرئاستين، فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك، فهبنا أن نخبره، فعزم علينا، فقلنا: إنه أمرنا بكذا وكذا. قال: صدق والله، تعلمون من أين أخذ هذا؟ قلنا: لا! قال: إن بهرام جور كان له ابن، وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس، سيء الأدب، فغمه ذلك، ووكل به المؤدبين والمنجمين والحكماء ومن يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه، فيحكمون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه، إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوماً، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره ما صيرنا إلى اليأس من فلاحه. قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها حتى غلبت عليه، فهو لا يهذي إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها. فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه. ثم دعا بأبي الجارية. فقال له: إني مسر إليك سراً، فلا يعدونك، فضمن له ستره، وأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها، ومراسلته من غير أن يراها وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها، تجنت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ومن همته همة ملك، وأنها تمنع من مواصلتها من لا يصلح للملك. ثم ليعلمه خبرها وخبره. ولا يطلعها على ما أسر إليه، فقبل أبوها ذلك منه، ثم قال للمؤدب الموكل (2/22) بولده: شجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك، وفعلت المرأة ما أمرها به أبوها. فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته له أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصوالجة، حتى مهر في ذلك. ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما تقدم له، فسر الملك بذلك، وأمر له به. ثم دعا مؤدبه فقال: إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من حيث هذه المرأة لا يزري به، فتقدم إليه أن يرفع إلي أمرها ويسألني أن أزوجه إياها. ففعل، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه، فدعا بأبيها فزوجها إياه، وأمر بتعجيلها إليه، وقال: إذا اجتمعا فلا تحدث شيئاً حتى أصير إليك. فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بني لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك وليست في حبالك، فإني أنا أمرتها بذلك. وهي أعظم الناس منةً عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي. وزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك. ففعل الفتى ذلك وعاش مسروراً بالجارية، وعاش أبوه مسروراً به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته وشرفه بصيانته سره وطاعته. وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره وعقد لابنه على الملك بعده. قال اليماني مولى ذي الرئاستين، ثم قال لنا ذو الرئاستين: سلوا الشيخ الآن لم حملكم على العشق؟ فسألناه، فحدثنا بحديث بهرام جور وابنه. (2/23) فؤادي! فؤادي أخبرنا أبو القاسم المحسن بن حمزة الشرطي، رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه بتنيس في كتاب التسلي، حدثنا أبو علي الحسن بن علي الديبلي الكوفي، حدثني جماعة من أهل طبرية منهم أبو يعقوب وأبو علي ابنا يعقوب الحذاء وأبو الحسين بن أبي الحارث وأبو الفرج الصوفي وغيرهم. أنه كان عندهم رجل صوفي يعرف بالقاسم الشراك وكانت له عنيزات يرعاهن. وقال لي بعضهم: إنه لم يكن يحضر معهم مجالس السماع، ويجتذبونه إلى ذلك فلم يكن له رغبة فيه. قالوا: فبينا هو يرعى عنيزاته إذ سمع صبياً من صبيان الصحراء يغني في حقل: إنّ هَوَاكَ الذي بِقلْبي ... صَيّرَني سَامعاً مُطِيعا أخذتَ قَلبي وَغُمْضَ طَرْفي، ... سَلَبَتني العَقلَ وَالهُجوعا فذَرْ فُؤداي، وّخذْ رُقادي ... فقال: لا بَلْ هُما جَمِيعَا فَرَاحَ مِنّي بحَاجَتَيْهِ، ... وَبِتُّ تحتَ الهوَى صَريعَا قال: فاعتراه طرب شديد، فقال للصبي، وأقبل نحوه: كيف قلت؟ ففزع الصبي وعدا، وهو يقول: لا بأس عليك! كيف قلت يا صبي؟ فلم يقف له ورجع إلى قصائدي كان لهم بطبرية يقال له حميد الفاخوري، حاذق بهذا المعنى، فتردد إليه ثلاثة أيام يردد عليه هذه الأبيات، ثم تخلف في منزله عليلاً، يصيح: فؤداي فؤادي، إلى أن قضى، رحمه الله تعالى. (2/24) الحب يعلن الجنون أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الاردستاني بقراءتي عليه في المسجد الحرام، حدثنا أبو القاسم الحسن بن حبيب المذكر، حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد الصوفي، حدثني يحيى بن سليمان، سمعت محمد بن الزيات يقول: قلت لغورك يوماً: متى حدث بك هذا العشق؟ قال: مذ زمان، إلا أني كنت أكتمه، فلما غلب علي بحت به. قلت: أنشدني من أحسن ما قلت في ذلك! فقال: كَتَمتُ جُنُوني، وَهوَ في القَلبِ كامنٌ، ... فَلَمّا استَوَى وَالحُبُّ أعلَنَهُ الحبُّ وخَلاّهُ وَالجِسْمُ الصّحيحَ يُذِيبُهُ، ... فلمّا أذَابَ الجِسْمَ ذلّ له القَلبُ فجِسمي نَحيلٌ للجُنُونِ وَللهَوَى، ... فَهذا لَهُ نَهبٌ، وَهذا له نَهبُ نار الهوى أحر من الجمر أخبرنا أبو بكر الاردستاني بمكة أيضاً، حدثنا الحسن بن حبيب أنشدني عبد العزيز بن محمد بن النضر الفهري لماني: زَعَموا أن من تَشاغلَ باللّذا ... تِ عَمّنْ يُحِبّهُ يَتَسَلّى كذّبوا وَالذي تُساقُ لَهُ البُدْ ... نُ وَمَن عاذَ بالطَّوافِ وَصَلّى إنّ نَارَ الهَوَى أحَرُّ من الجَمْ ... رِ على قَلبِ عاشِقٍ يَتَقَلّى (2/25) ماتا معتنقين وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الأبنوسي، ونقلته من أصله، حدثنا أبو علي محمد بن عبد الله بن المغيرة الجوهري، حدثنا أحمد بن محمد بن أسد الأزدي، حدثنا الساجي عن الأصمعي قال: رأيت بالبادية رجلاً قد دق عظمه، وضؤل جسمه، ورق جلده، فتعجبت فدنوت منه أسأله عن حاله، فلم يرد جواباً، فسألت جماعةً حوله عن حاله، فقالوا: اذكر له شيئاً من الشعر يكلمك، فقلت: سَبَقَ القَضَاءُ بأننّي لكّ عَاشِقٌ، ... حتى المّماتِ، فأينَ منكَ مَذاهبي؟ فشهق شهقة ظننت أن روحه قد فارقته، ثم أنشأ يقول: أخلُو بذِكْرِكّ لا أُرِيدُ محَدّثاً، ... وكَفَى بذلِكَ نِعمةً وَسُرورا أبكي فيُطرِبُني البُكاءُ، وَتارةً ... يأبى، فيأتي مَنْ أُحِبُّ أسِيرا فَإذا أنَا سَمْحٌ بِفُرْقَةِ بينِنا، ... أُعقِبتُ مِنهُ حَسرَةً وزَفِيرَا قال، فقلت: أخبرني عن حالك؟ قال: إن كنت تريد علم ذلك، فاحملني وألقني على باب تلك الخيمة! ففعلت، فأنشأ يقول بصوت ضعيف يرفعه جهده: ألا مَا للمَليحةِ لا تَعُودُ، ... أبُخلٌ ذاكَ منها أمْ صُدُودُ؟ فلَوْ كنتِ المَرِيضةَ جئتُ أسعى ... إلَيكِ، وَلم يُنَهنِهْني الوَعيدُ فإذا جارية مثل القمر قد خرجت، فألقت نفسها عليه، فاعتنقا، وطال ذلك فسترتهما بثوبي خشية أن يراهما الناس. فلما خفت عليهما الفضيحة. فرقت بينهما، فإذا هما ميتان، فما برحت حتى صليت عليهما، ودفنا، فسألت عنهما فقيل لي: عامر بن غالب وجميلة بنت أميل المزنيان، فانصرفت. (2/26) ؟ عبد الله بن عجلان صاحب هند أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، أخبرنا محمد بن المرزبان، حدثنا أبو بكر العامري، أخبرني سليمان بن الربيع الكاذي، حدثني عبد العزيز بن الماجشون عن أيوب عن ابن سيرين قال: عبد الله بن عجلان هو صاحب هند بنت كعب بن عمرو، وإنه عشقها، فمرض مرضاً شديداً، حتى ضني، فلم يدر أهله ما به، فدخلت عليه عجوز، فقالت: إن صاحبكم عاشق، فاذبحوا له شاة، وأتوه بكبدها، وغيبوا فؤادها. قال: ففعلوا وأتوه بها، فجعل يرفع بضعةً ويضع أخرى ثم قال: أما لشاتكم قلب؟ فقال أخوه: ألا أراك عاشقاً ولم تخبرنا. فبلغني أنه قال لهم بعد ذلك: آه! ومات. عاشق جارية أخته أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا أبو بكر بن المرزبان إجازة، حدثني محمد بن علي عن أبيه علي بن ابن دأب قال: عشق جاريةً لأخته، وكان سبب عشقه إياها أنه رآها في منامه فأصبح مستطاراً عقله ساهياً قلبه، فلم يزل كذلك حيناً لا يزداد إلا حباً ووجداً، حتى أنكر ذلك أهله وأعلموا عمه عما كان له، فسأله عن حاله، فلم يقر له بشيء، وقال: علة أجدها في جسمي، فدعا له أطباء الروم، فعالجوه بضروب من العلاج، فلم يزده علاجهم له إلا شراً، وامتنع من الطعام والكلام، (2/27) فلما رأوا ذلك منه اجتمعوا على أن يوكلوا به امرأةً، فتسقيه الخمر حتى يبلغ منه دون السكر، فإن ذلك يدعوه إلى الكلام والبوح بما في نفسه، فعزم رأيهم على ذلك وأعلموا عمه ما اتفقوا عليه، فبعث إليه بقينة يقال لها حمامة، ووكل به حاضنةً كانت له، فلما أن شرب الفتى غنت الجارية قدامه، فأنشأ يقول: دَعوني لما بي وَانهَضوا في كَلاءةٍ ... من اللهِ، قد أيقَنتُ أن لَستُ باقِيَا وَأن قد دَنا مَوتي وحانَت منيّتي، ... وَقد جَلَبت عَيني عليّ الدوَاهِيا أمُوتُ بشَوْقٍ في فُؤادي مُبرِّحٍ ... فَيَا وَيْحَ نَفسِي مَن به مثلُ ما بيَا قال: فصارت الحاضنة والقينة إلى عمه، فأخبرتاه الخبر، فاشتدت له رحمته، فتلطف في دس جارية من جواريه إليه، وكانت ذات أدب وعقل، فلم تزل تستخرج ما في قلبه حتى باح لها بالذي في نفسه، فصارت السفيرة فيما بينه وبين الجارية، وكثرت بينهما الكتب، وعلمت أخته بذلك فانتشر الخبر، فوهبتها له فبرأ من علته، وأقام على أحسن حال. من غزل ابن السراج قال ابن السراج: لي من جملة قصيدة كتبت بها إلى القاضي أبي مسلم ابن أخي أبي العلاء المعري أولها: إنّ غَرَامي، يَا أبَا مُسْلِمِ، ... إلى غَرِيمي، في الهَوَى مُسلِمي فَلا تَسَلْ يَوْمَ النَّوَى عن دَمٍ ... سَالَ مِنَ الأجفانِ كالعَندَمِ (2/28) ومنها: حَتى بَدَتْ لي من مِنىً ظَبيَةٌ ... ما بَينَ شعبِ الخَيفِ وَالمأزَمِ أعَرْتُهَا طَرْفَ خَليٍّ مِنَ ال ... وَجدِ، فغارَتْ وَاستَحَلّت دمي فقُلتُ، وَالأجفانُ مُنْهَلّةٌ، ... من سَقَمٍ في جفنِها مُسقمِي أللهَ يا ظبيَةَ خَيْفَي مِنى ... في مُحْرِمٍ لِوْلاكِ لمْ يُحرِمِ وإنّما حجَّ ليلقاكِ في ... جُملةِ من يلقاكِ في الموسِمِ أبَحتِ ما حَرّمَهُ اللهُ مِنْ ... قَتلِ حَنيفٍ نَاسِكٍ مُحْرِمِ رُدّي عَلَيهِ قَلبَهُ تُؤجَرِي ... وَلا تُبيحي دَمَهُ تأثَمي لا تَقتُلِيه، فَلَهُ مَعشَرٌ، ... مَا الدّهرُ من بأسهِمْ مُحتَمي قال: ولي من أبيات كتبت بها إلى بعض أهل الأدب بديار مصر: فَلَوْ كُنتَ شَاهِدَنا، وَالرّقِي ... بُ ينظرُ شَزْراً إلينا قِيامَا نَفُضّ عَنِ العَتبِ خَاتَامَهُ، ... وَقَد هَتَكتْ وَهَتكْتُ اللِّثاما وَعِفّتُنا حَاجِزٌ بَيْننَا ... وَلَوْ تَلْفَت مُهجَتَانَا غَرَاما فإنْ لم أمُتْ حَسرَةً، يا سُعا ... دُ، فقد ذقتُ قبلَ الحِمام الحِماما (2/29) بكاء الزنجي حدثنا محمد بن خلف، أخبرني عبد الجبار بن خلف قال: قال المزني: بينا أنا بنواحي مدينة الرسول، ﷺ، إذا أنا بزنجي يبكي على إلف كان له وهو يقول: أيَا دَهرُ ما هذا لنا مِنكَ مَرّةً، ... عثرتَ فأقصَيتَ الحَبيبَ المُحَبَّبَا وَأبدلتْنِي مَنْ لا أُحِبُّ دُنُوَّهُ، ... وَأسقَيتَني صَاباً من العّذبِ مشرَبَا سوداء تنتقد ذا الرمة حدثنا محمد بن خلف، أخبرنا محمد بن الفضل، أخبرني أبي، أخبرنا القحذمي قال: دخل ذو الرمة الكوفة، فبينا هو يسير في بعض شوارعها على نجيب له، إذ رأى جاريةً سوداء واقفةً على باب دار، فاستحسنها، ووقعت بقلبه، فدنا إليها، فقال: يا جارية! اسقيني ماء. فأخرجت إليه كوزاً فيه ماء، فشرب فأراد أن يمازحها، ويستدعي كلامها، فقال: يا جارية! ما أحر ماءك! فقالت: لو شئت لأقبلت على عيوب شعرك وتركت حر مائي وبرده. فقال لها: وأي شعري له عيب؟ فقالت: ألست ذا الرمة؟ قال: بلى! قالت: فأنتَ الذي شَبَّهْتَ عَنزاً بقَفرةٍ، ... لها ذنبٌ فَوْقَ استِها، أمَّ سالمِ جَعَلتَ لهَا قَرْنَيْنِ فَوْقَ جَبينها، ... وَطَبييْنِ مسوَدّين مثلَ المَحاجِمِ وَساقَينِ إن يَستمكِنا منك يترُكا ... بجلدِكَ، يا غَيلانُ، مثلَ الميَاسِمِ أيَا ظبيَةَ الوَعساءِ بَينَ جَلاجِلٍ ... وَبينَ النَّقا آأنتِ أم أمُّ سَالمِ فقال: نشدتك بالله ألا أخذت راحلتي هذه وما عليها، ولا تظهري (2/30) هذا! ونزل عن راحلته، فدفعها إليها وذهب ليمضي، فدفعتها إليه وضمنت ألا تذكر لأحد ما جرى. الأصمعي يصف العشق أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بالشام، أخبرني علي بن أيوب القمي، حدثني محمد بن عمران، حدثني علي بن هارون، أخبرنا محمد بن العباس عن الرياشي قال: قال الرشيد: يا أصمعي! ما العشق الذي على حقيقته؟ قال: قلت أن يكون ريح البصل منها أطيب عنده من ريح المسك والعنبر. العاشق على وجل قال محمد بن عمران: وأنشدني بعض أصحابنا عن أبي العباس المبرد لأبي حفص الشطرنجي: أتبَعتَ لما مَلكتَ الوَعدَ بالعِلَلِ ... لوْ صَحّ منك الهوَى أرْشدتَ للحِيَلِ قد كنتُ ممّا أرَاهُ خائِفاً وَجِلاً، ... وَلا تَرى عاشِقاً إلاّ على وَجَلِ (2/31) الرضاب الشبم ولي من أثناء قصيدة: فَتَنَتنِي أُمُّ خُشْفِ أوْدَعَتْ ... من هَوَاهَا في فُؤادي أسهُمَا وَظِباءٌ بحَطِيمِ مَكّةٍ، ... يَستَحِلّونَ بهِ سَفكَ الدِّمَا يَرْجعُ الصّائدُ عَنهُمْ مُخفِقَا ... وَيَصِيدُونَ الحَنيفَ المُسْلِمَا لَيْتَهُمْ إذ نَصَبُوا أشرَاكَهُم ... لقُلُوبِ الوَفدِ صَانُوا الحَرَمَا مَا عَلَيْهِمْ لَوْ أغَاثُوا صَادِياً ... فَسَقَوْهُ رِيقةً تَشفي الظَّمَا فَلَهُ عن زَمزَمٍ مَندوحَةٌ، ... إنْ أبَاحُوهُ الرُّضَابَ الشَّبِمَا ولي أيضاً من أثناء قصيدة: يا رَاحلِين عن الغَضَا، وَلِجَمرِهِ ... بَينَ الضّلُوعِ لَهِيُبُهُ وَضِرَامُهُ إنسَانُ عَيني مُنذُ حُمّ فِرَاقكم، ... ما إن يَزَالُ بمَائِهَا استِحمامُهُ هلْ عوْدةٌ ترْجى، وَجَيشُ نوَاكمُ، ... قد نُشّرَت لفرَاقِكُم أعلامُه؟ مجنون ليلى أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثني عبد الله بن المعدل قال: سمعت الأصمعي يقول: وذكر مجنون بني عامر قيس بن معاذ، ثم قال: لم يكن مجنوناً إنما كانت به لوثة، وهو القائل: وَلمْ أرَ ليلى بَعْدَ مَوْقِفِ سَاعَةٍ، ... بخَيفِ مِنى تَرْمي جمارَ المُحَصَّب (2/32) وتَبدي الحصَى منها، إذا قّذّفتْ بهِ، ... منَ البُرْدِ، أطرَافَ البَنَانِ المُخَضَّبِ وبه قال القحذمي لما قال المجنون، وهو قيس بن الملوح: قَضَاها لغَيرِي وَابَتلاني بِحُبّهَا، ... فهَلاَّ بشيءٍ غَيرِ لَيلى ابتَلانِيَا نظرة شافية أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف قال: وزعم ابن دأب أن معاذ بن كليب أحد بني نمير بن عوف بن عامر بن عقيل، وكان يعشق ليلى الأعلمية، من بني عقيل، وكان قد أقعده حبها من رجليه، فأتاه أخو ليلى بها، فلما نظر إليها وكلمته تحلل ما كان به وانصرف وقد عوفي. ذكر ليلى يعيد عقله قال أبو عبيدة: وكان المجنون يجلس في نادي قومه، وهم يتحدثون، فيقبل عليه بعض القوم، فيحدثه وهو باهت ينظر إليه ولا يفهم ما يحدثه، ثم يثوب عقله، فيسأل عن الحديث، فلا يعرفه، فحدثه مرةً بعض أهله بحديث، ثم سأله عنه في غد، فلم يعرفه، فقال: إنك لمجنون! فقال: إني لأجلِسُ في النّادي أُحَدّثُهُمْ، ... فأستفِيقُ، وَقَدْ غالَتنيَ الغُولُ يَهوي بقَلبي حدِيثُ النّفسِ نحوَكمُ ... حتى يَقُولَ جَلِيسي: أنتَ مخبُولُ قال أبو عبيدة: فتزايد الأمر به حتى فقد عقله، وكان لا يقر في موضع ولا يأنس برجل، ولا يعلوه ثوب إلا مزقه، وصار لا يفهم شيئاً مما يكلم به إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت أتى بالبدائه ورجع عقله. (2/33) بيت ربي أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد القطيعي، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد القرشي، حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي عن محمد بن يزيد عن خنيس عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: دخل قوم حجاج، ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه، فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك، أما ترينه؟ فخرجت وهي تقول: بيت ربي بيت ربي، حتى وضعت جبهتها على البيت، فوالله ما رفعت إلا ميتة. ما أحلاك مولاي أخبرنا أحمد بن علي بن الحسين، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا عبيد الله بن محمد القرشي، حدثني محمد بن مسعر عن رياح القيسي قال: بينا أنا أطوف بالبيت، إذ سمعت امرأةً تقول: خداه خداه شيرين خداه، قال: فاصطكت، والله، ركبتاي حتى سقطت، قالت: مولاي مولاي ما أحلاك مولاي. تموت متضرعة وبإسناده: حدثنا محمد بن الحسين وغير واحد قالوا: حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير قال: ما رأيت أحداً أرعى لحرمة هذا البيت ولا أحرص عليه منكم يا أهل البصرة، لقد رأيت جارية منهم، ذات ليلة، تعلقت بأستار الكعبة، وجعلت تدعو وتتضرع وتبكي حتى ماتت. (2/34) هجره تنزيهاً لله ولنفسه أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، حدثنا علي بن أيوب القمي، حدثنا المرزباني، حدثني عمر بن يوسف الباقلاني قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم: قلت لمحمد بن العلاء الدمشقي، وكان سيد الصوفية، وقد رأيته يماشي غلاماً وضيئاً مدةً، ثم فارقه: لم هجرت ذلك الفتى الذي كنت أراه معك، بعد أن كنت له مواصلاً، وإليه مائلاً؟ قال: والله لقد فارقته عن غير قلىً ولا مللٍ. قلت: ولم فعلت ذاك؟ قال: رأيت قلبي يدعوني إلى أمر إذا خلوت به وقرب مني. لو أتيته لسقطت من عين الله تعالى. فهجرته لذلك تنزيهاً لله تعالى، ولنفسي عن مصارع الفتن، وإني لأرجو أن يعقبني سيدي من مفارقته ما أعقب الصابرين عن محارمه عند صدق الوفاء بأحسن الجزاء، ثم بكى حتى رحمته. ألا أيها الواشي أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي الخلال، رحمه الله تعالى، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى، أنبأنا أبو بكر محمد بن القاسم أنشدني أبي لقيس بن الملوح: ألا أيّها الوَاشِي بلَيلى ألا تَرَى ... إلى من تَشِي أوْ من به جئتَ وَاشيَا لعمرُ الذي لمْ يَرْضَ حتى أُطِيعَهُ ... بهجرَانهَا لا يُصْبحُ، الدّهرَ، رَاضِيَا دعاني أمُتْ، يا عاذلِيَّ، بدائِيَا، ... وَلا تَلحَيَاني لا أُحِبّ اللّواحِيَا إذا نحنُ رُمنا هَجرهَا ضَمّ حُبَّهَا ... صَميمُ الحشا ضَمَّ الجناحِ الخوَافِيَا (2/35) دم العشاق غير حرام ولي من أبيات: يا ساكِني البَلَدِ الحَرَامِ! أعِندكم ... حِلٌّ دَمُ العُشّاقِ غيرُ حَرَامِ قالوا: أما لكَ في جَميلٍ أُسوَةٌ ... وَالعَامِرِيّ وَعُرْوَةِ بنِ حِزَامِ لمّا شكَوْتُ صَدىً إلى بَرْدِ اللَّمَى ... وَتَيَقّنُوا أني إلَيْهِ ظَامِي قالوا: عليكَ بماء زَمَزمَ! قَلتُ، ما ... في مَاءِ زَمَزمَ ما يَبُلّ أُوَامِي قالوا: فقد حَظَرَ العفافُ وُرُودَه، ... وَالصَّوْنُ، بَعدُ، وَمِلّةُ الإسلامِ حب السودان أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، حدثني القحطبي، أخبرني بعض الرواة قال: بينا أنا يوماً على ركي قاعد، وذلك في أشد ما يكون من الحر، إذا أنا بجارية سوداء تحمل جرة لها، فلما وصلت إلى الركي وضعت جرتها، ثم تنفست الصعداء وقالت: حَرُّ هَجرٍ وَحَرُّ حُبٍّ وَحَرُّ، ... أينَ مِن ذا وَذا يكُونُ المَفَرُّ؟ وفي رواية أخرى: أي حر من بعد هذا أضر؟ وملأت الجرة، وانصرفت، فلم ألبث إلا يسيراً، حتى جاء أسود، ومعه جرة، فوضعها بحيث وضعت السوداء جرتها، فمر به كلب أسود فرمى إليه رغيفاً كان معه، وقال: أُحِبُّ لحُبّها السُّودَانَ حَتّى ... أُحِبُّ لحُبّها سُودّ الكِلابِ (2/36) ابن المهدي والسوداء وبإسناده: حدثنا محمد بن خلف، أخبرني عبد الرحمن بن سليمان، حدثني محمد بن جعفر، حدثني أحمد بن موسى قال: دخلت على محمد بن عبيد الله بن المهدي، وقد قعد للشرب مع جواريه، فاحتشمت، فقال لي: لا تحتشم، ثم قال لي: بالله! من ترى لي أعشق من هؤلاء؟ فنظرت إلى سوداء كانت فيهن، فقلت: هذه، فقام، فقعد إلى جنبها، فوالله ما برحت حتى بكى من عشقها. كاد يخلع العذار ولي من أثناء قصيدة مدحت بها أحد بني منقذ: عَرَضَت لي لَمْيَاءُ بالخَيْفِ تحكي ... غُصُنَ البَانِ نَعمَةً وَقَوَاما تَتَمَشّى في نُسْوَةٍ كَظِبَاءِ الرَ ... ملِ يُخْفينَ بَيْنَهُنّ الكَلامَا كِدتُ أنْ أخلَعَ العذارَ، وَلَكنْ ... نِي تَحرّجتُ حيثُ كنتُ حَرَامَا ثمّ إني نَادَيتُ، وَالقَلبُ فِيهِ، ... شُعَلٌ للهَوَى تَزيدُ اضْطِرَامَا يا ابنَةَ القَوْمِ هل لَدَيكِ لِصَادٍ ... شرْبَةٌ من لَماكِ تَشفي الأُوَامَا؟ فأجابَت: إنّ العَفافَ وَإنّ الصْ ... صَوْنَ يَنهى عَن ذَاكَ وَالإسلامَا (2/37) صوت بأربعة آلاف دينار أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف المحولي، أخبرني أبو الفضل الكاتب عن أبي محمد العامري قال: قال إسماعيل بن جامع: كان أبي يعظني في الغناء، ويضيق، فهربت منه إلى أخوالي باليمن، فأنزلني خالي غرفة له مشرفة على نهر في بستان، فإني لمشرف منها، إذ طلعت سوداء معها قربةً، فنزلت إلى المشرعة، فجلست فوضعت قربتها وغنت: إلى اللهِ أشكُو بُخلَها وَسَمَاحَتي، ... لهَا عَسَلٌ مِني، وتَبْذُلُ عَلقَمَا فُردّي مُصَابَ القَلبِ أنتِ قَتَلتِهِ، ... وَلا تَترُكِيهِ هائِمَ القَلبِ مُغرَمَا وذرفت عيناها، فاستفزني ما لا قوام لي به، ورجوت أن ترده، فلم تفعل، وملأت القربة، ونهضت، فنزلت أعدو وراءها، وقلت: يا جارية! بأبي أنت وأمي ردي الصوت! قالت: ما اشغلني عنك! قلت: بماذا؟ قالت: علي خراج كل يوم درهمان. فأعطيتها درهمين، فتغنت وجلست حتى أخذته، وانصرفت، ولهوت يومي ذلك وكرهت أن أتغنى الصوت، فأصبحت وما أذكر منه حرفاً واحداً، وإذا أنا بالسوداء قد طلعت، ففعلت كفعلها الأول، إلا أنها غنت غير ذلك الصوت، فنهضت وعدوت في إثرها. فقلت: الصوت قد ذهب علي منه نغمة، قالت: مثلك لا يذهب عليه نغمة، فتبين بعضه ببعض، وأبت أن تعيده إلا بدرهمين، فأعطيتها ذلك، فأعادته فتذكرته، فقلت: حسبك! قالت: كأنك تكاثر فيه بأربعة دراهم، كأني والله بك، وقد أصبت به أربعة آلاف دينار. قال ابن جامع: فبينا أنا أغني الرشيد يوماً، وبين يديه أكياس في كل كيس ألف دينار، إذ قال: من أطربني، فله كيس، فغن لي الصوت، فغنيته، فرمى لي بكيس، ثم قال: أعد! فأعدت، فرمى لي بكيس، (2/38) وقال: أعد، فأعدت، فرمى لي بكيس، فتبسمت، فقال: ما يضحكك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، لهذا الصوت حديث أعجب منه، فحدثته الحديث فضحك، ورمى إلي الكيس الرابع، وقال: لا تكذب قول السوداء، فرجعت بأربعة آلاف دينار. يعتل لرؤيتها أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ بالشام، حدثنا علي بن أيوب القمي، حدثنا محمد بن عمران، حدثنا عمر بن داود العماني، حدثني محمد بن علي بن الفضل بن المديني، حدثني الحسين بن علي المهلبي مولى لهم يعني الكرابيسي، أخبرني مسدد، حدثني عبد الوهاب في ما أحفظ أو غيره قال: كان زياد بن مخراق يجلس إلى إياس بن معاوية. قال: ففقده يومين أو ثلاثة، فأرسل إليه، فوجده عليلاً. قال: فأتاه، فقال: ما بك؟ فقال له زياد: علة أجدها. قال له إياس: والله ما بك حمّى، وما بك علة أعرفها، فأخبرني ما الذي تجد؟ فقال: يا أبا وائلة تقدمت إليك امرأة، فنظرت إليها في نقابها حين قامت من عندك، فوقعت في قلبي فهذه العلة منها. جرح تعز مراهمه ولي من أثناء قصيدة: وَشَرْبِ هَوىً دارَتْ عَلَيهِم كؤوسُه ... حِثاثاً، فكلُّ طائرُ القَلبِ هَائِمُهْ فلمّا انتَشَوْا عُلُّوا بكَأسِ تَفَرُّقٍ، ... فَنَغّصَ حُلوَ الشَّهدِ منهُ عَلاقِمُهْ رَمَى رَشأٌ من وَحشِ وَجْرَةَ مَقتَلي، ... وكنتُ على مرّ اللّيَالي أُسَالِمُهْ فَلَمْ يُخطِ سَوْدَاءَ الفُؤادِ بِسَهمِهِ، ... فَيَا لَكَ من جُرْحٍ تَعِزُّ مَرَاهِمُهْ (2/39) ؟ قتيل الهوى أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بالشام، حدثنا علي بن أيوب، حدثنا محمد بن عمران، أخبرني يوسف بن يحيى بن علي المنجم عن أبيه، حدثني محمد إدريس بن سليمان بن يحيى عن أبيه قال: كان المؤمل بن جميل بن يحيى بن أبي حفصة شاعراً غزلاً ظريفاً، وكان منقطعاً إلى جعفر بن سليمان بالمدينة ثم قدم العراق، فكان مع عبد الله بن مالك الخزاعي، فذكره للمهدي، فحظي عنده، وهو القائل: قُلْنَ: مَن ذا؟ فقلتُ: هذا اليَما ... ميُّ قَتيلُ الهَوَى أبو الخطّابِ قلنَ: باللهِ أنتّ ذاكَ يَقينَاً، ... لا تَقُلْ قَوْلَ مازِحٍ لعّابِ إن تكنه حَقّاً، فأنتَ مُنَانَا ... خالِياً كنتَ أوْ معَ الأصْحابِ قال فسمي قتيل الهوى، وهو القائل: أنَا مَيتٌ مِنْ جَوَى الحُ ... بّ، فَيَا طِيبَ مَمَاتِي أنْدبُوني، يَا ثِقَاتِي، ... وَاحضرُوا اليَوْمَ وَفَاتي ثمّ قُولُوا عِنْدَ قَبرِي: ... يَا قَتِيلَ الغَانِياتِ قال وله أيضاً: إنّا إلى اللهِ رَاجِعُونَ، أمَا ... يَرْهَبُ مِنْ رَامَ قَتْلِيَ القَوَدَا أصْبَحْتُ لا أرْتَجي السُّلُوَّ، وَلا ... أرْجُو مِنَ الحُبّ رَاحَةً أبَدَا إني إذا لَمْ أُطِقْ زِيَارَتَكُمْ، ... وَخِفتُ مَوْتاً لِفَقْدِكُمْ كَمَدَا أخْلُو بذِكرَاكُمْ فَتُؤنِسُنِي ... فَلا أُبَالي أنْ لا أرَى أحَدَا (2/40) ميت يتكلم أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق بقراءتي عليه، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم بن بيان البزاز الزبيبي، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني يحيى بن أيوب أن فتىً كان يعجب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: إن هذا الفتى ليعجبني، وإنه انصرف ليلةً من صلاة العشاء، فمثلت له امرأة بين يديه، فعرضت له بنفسها، ففتن بها، ومضت فاتبعها حتى وقف على بابها، فلما وقف بالباب أبصر وجلي عنه، ومثلت له هذه الآية: " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون "، فخر مغشياً عليه، فنظرت إليه المرأة فإذا هو كالميت، فلم تزل هي وجارية لها تتعاونان عليه حتى ألقتاه على باب داره. وكان له أب شيخ كبير يقعد لانصرافه، كل ليلة، فخرج، فإذا مر به ملقى على باب الدار لما به، فاحتمله فأدخله، فأفاق بعد ذلك، فسأله أبوه: ما الذي أصابك يا بني؟ قال: يا أبت لا تسألني، فلم يزل به حتى أخبره، وتلا الآية. وشهق شهقة خرجت معها نفسه؛ فدفن فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال ألا آذ نتموني بموته؟ فذهب حتى وقف على قبره، فنادى: يا فلان، ولمن خاف مقام ربه جنتان، فأجابه الفتى من داخل القبر: قد أعطانيهما ربي يا عمر. (2/41) وسواس خالد الكاتب أخبرنا أبو غالب محمد بن أحمد بن بشران النحوي مكاتبة، حدثنا ابن دينار، أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني قال: كان خالد الكاتب، وهو خالد بن يزيد، ويكنى أبا القاسم، من أهل بغداد، وأصله من خراسان، وكان أحد كتاب الجيش، فوسوس في آخر عمره، وقيل: إن السوداء غلبت عليه، وقال قوم: بل كان يهوى جاريةً لبعض الملوك ببغداد، فلم يقدر عليها، وولاه محمد بن عبد الملك العطاء بالثغور، فخرج، فسمع في طريقه منشداً ينشد، ومغنية تغني: مَن كان ذا شَجَنٍ بالشامِ يَطلبُهُ، ... فَفي حِمَى الشامِ لي أهلٌ وَلي شجنُ فبكى حتى سقط على وجهه مغشياً عليه، ثم أفاق مختلطاً، واتصل ذلك حتى وسوس وبطل. قال ولخالد مما غني به: يا تَارِكَ الجِسْمِ بلا قَلْبِ؛ ... إن كنتُ أهوَاكَ فما ذَنبي؟ يا مُفرَداً بالحُسنِ أفرَدتَني ... مِنكَ بطُولِ الهَجرِ وَالحبّ إن تكُ عَيني أبصَرَتْ فتنةً، ... فَهَلْ على قَلبيَ من عَتْبِ حَسِيبُكَ اللهُ لِمَا بي كمَا ... أنّكَ في فِعلِكَ بي حَسبي (2/42) في تيه الحب ولي من أثناء قصيدة: عَجبَتْ أُمُّ خالدٍ إذْ رَأتْ سُحْ ... بَ جُفُوني، في فَيضِهِنّ، رُكامَا ثمّ نَادَتْ أترابَهَا، إذْ رَأتْ إنْ ... سَانَ عَيْني، في مَائِها، قد عَامَا يَا سُلَيْمَى، يَا هِنْدُ، يَا فا ... طِمَ، يَا أُمَّ مالكٍ يَا أُمَامَا مَا لإنْسانِ عَيْنِهِ يُكثِرُ الغَسْ ... لَ بِفَيّاضِ مَائِهَا استِحْمَاما؟ قُلنَ: لا عِلمَ عندنا غَيرَ أنّ المَرْ ... ءَ في تيهِ حُبّكُمْ قَدْ هَامَا أبو ريحانة والجارية السوداء أخبرنا الشيخ أبو بكر أحمد بن علي الشروطي بالشام، أخبرنا رضوان بن عمرو الدينوري قال: حدثنا الحسين بن جعفر العبدي قال: حدثنا أبو قتيبة سالم بن الفضل الأدمي، حدثني محمد بن موسى الشامي، سمعت الأصمعي يقول: مررت بالبصرة بدار الزبير بن العوام، فإذا أنا بشيخ أبو ولد الزبير، يكنى أبا ريحانة، على باب الزبير، ما عليه إلا شملة تستره، فسلمت عليه، وجلست إليه أحدثه، فبينا أنا كذلك إذ طلعت علينا جارية سوداء تحمل قربة، فلما نظر إليها لم يتمالك أن قام إليها ثم قال: يا ستي جمعة، غني لي صوتاً! فقالت: إن مواليّ أعجلوني. قال: لا بد من ذلك. قالت: أما والقربة على كتفي فلا. قال: فأنا أحملها. فأخذ القربة فحملها على عنقه واندفعت، فغنت: فُؤادي أسيرٌ لا يُفكّ، ومُهجَتي ... تَقَضّى، وَأحزَاني عَلَيكَ تَطولُ (2/43) وَلي مهجَةٌ قَرْحى لطولِ اشتياقها ... إلَيكَ، وَأجفاني عَلَيكَ هُمُولُ كَفَى حَزَناً أني أمُوتُ صَبَابَةً، ... بدائي، وَانصَارِي عَلَيكَ قَليلُ وكُنتُ إذا ما جِئتُ جِئتُ بِعِلّةٍ، ... فأفنَيتُ عِلاّتي، فَكَيفَ أقُولُ؟ قال: فطرب الشيخ، وصرخ صرخة، وضرب بالقربة الأرض فشقها، فقامت الجارية تبكي وقالت: ما هذا جزائي منك يا أبا ريحانة، أسعفتك بحاجتك وعرضتني لما أكره من مواليّ؟ قال: لا تغتمي، فإن المصيبة علي دخلت دونك. وأخذ بيدها واتبعته إلى السوق، فنزع الشملة، ووضع يداً من قدام ويداً من خلف، وباع الشملة، وابتاع بثمنها قربةً، وقعد على تلك الحال. ورجعت، فجلست عنده، فاجتاز به رجل من الطالبية، فلما نظر إليه وإلى حالته عرف قصته، فقال: يا أبا ريحانة! أحسبك من الذين قال الله عز وجل: " فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ". فقال: لا يا ابن رسول الله، ولكني من الذين قال الله تعالى فيهم: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " فضحك منه العلوي، وأمر له بألف درهم وخلعة. أتراك تعذب عبدك أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، إن لم يكن سماعاً فإجازة، أخبرني سلامة بن عمر النصيبي، حدثنا أحمد بن جعفر أبو بكر، حدثنا العباس بن يوسف الشكلي قال: قال سعيد بن جعفر الوراق، قال عنبسة الخواص: كان عتبة الغلام يزورني، فبات عندي ليلة، فقدمت له عشاءً، فلم يأكله، فسمعته يقول: يا سيدي إن تعذبني، فإن لك محب؛ وإن ترحمني، فإني لك محب. (2/44) فلما كان في آخر الليل شهق شهقة، وجعل يحشرج كحشرجة الموت، فلما أفاق قلت له: يا أبا عبد الله!؟ ما كان حالك منذ الليلة؟ قال: فصرخ، ثم قال: يا عنبسة، ذكر العرض على الله، عز وجل، قطع أوصال المحبين، ثم غشي عليه، ثم أفاق، فسمعته يقول: سيدي أتراك تعذب عبدك؟ ؟ لا محبوب إلا الله وأخبرنا أبو بكر أيضاً، حدثني يحيى بن علي الطيب العجلي، سمعت عبد الله بن محمد الدامغاني يقول: سمعت الحسن بن علي بن يحيى بن سلام يقول: قيل ليحيى بن معاذ: يروى عن رجل من أهل الخير قد كان أدرك الأوزاعي وسفيان، أنه سئل: متى تقع الفراسة على الغائب؟ قال: إذا كان محباً لما أحب الله مبغضاً لما أبغض الله، وقعت فراسته على الغائب. فقال يحيى: كلّ محبُوبٍ، سِوَى اللهِ، سرَفْ ... وَهُمُومٌ وَغُمُومٌ وَأَسَفْ كلّ محبُوبٍ، فَمِنْهُ خَلَفٌ، ... ما خَلا الرّحمنَ ما منهُ خَلَفْ إنّ للحُبّ دَلالاتٍ، إذا ... ظهرَتْ من صَاحِبِ الحبّ عُرِفْ صَاحِبُ الحُبّ حَزِينٌ قَلبُهُ، ... دائمُ الغُصّةِ مَحزُونٌ دَنِفْ هَمُّهُ في اللهِ لا في غَيْرِهِ، ... ذاهِبُ العَقلِ وَباللهِ كَلِفْ أشعَثُ الرّأسِ خَمِيصٌ بطنُهُ، ... أصْفَرُ الوَجنَةِ والطَّرْفُ ذَرّفْ دَائِمُ التّذكارِ مِنْ حُبّ الذي ... حُبُّهُ غَايَةُ غَايَاتِ الشّرَفْ (2/45) فإذا أمعنَ في الحُبِّ لَهُ، ... وَعَلاهُ الشّوْقُ من داءٍ كثفْ باشرَ المحرَابَ يَشكُو بثَّهُ، ... وَأمَامَ اللهِ مَوْلاهُ وَقَفْ قَائماً قُدّامَهُ مُنْتَصِباً، ... لَهِجاً يَتْلُو بآياتِ الصُّحُفْ رَاكِعاً طَوْراً وَطَوْراً ساجداً ... باكياً وَالدّمعُ في الأرضِ يَكِفْ أوْرَدَ القَلبَ على الحُبّ الّذي ... فِيهِ حُبُّ اللهِ حَقّاً، فَعَرَفْ ثمّ جَالَتْ كَفُّهُ في شَجَرٍ ... أنبَتَ الحُبَّ، فَسمَّى واقتَطَفْ إنّ ذا الحُبَّ لمن يُعى لَه، ... لا لدارٍ ذاتِ لَهوٍ وَطُرَفْ لا وَلا الفِرْدَوْسُ لا يألَفُهَا، ... لا وَلا الحَوْرَاء من فوْقِ غُرَفْ دمع وتسهاد ولي من أبيات: وَمُنْكِرَةٍ مَا بي من الوَجْدِ وَالأسَى، ... وَلي شاهِدانِ: فَيضُ دمعي وتَسهادي فَقُلتُ: إذا أنكَرْتِ مَا بي، فسائلي، ... إذا راحَ عَني، يا ابنَةَ القَومِ، عُوّادي ليلى ومجنونها أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا ابن المرزبان، أخبرني أبو محمد البلخي، أخبرني عبد العزيز بن صالح عن أبيه عن ابن دأب، حدثني رجل من بني عامر يقال له رياح بن حبيب قال: كان في بني عامر من بني الحريش جارية من أجمل النساء، وأحسنهن، لها عقل وأدب، يقال لها ليلى ابنة مهدي بن ربيعة بن الحريش، فبلغ (2/46) المجنون خبرها، وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صباً بمحادثة النساء، فعمد إلى أحسن ثيابه، فلبسها وتهيأ بأحسن هيئة، وركب ناقةً له كريمة، وأتاها، فلما جلس إليها وتحدث بين يديها، أعجبته، ووقعت بقلبه. فظل يومه يحدثها وتحدثه حتى أمسى، فانصرف، فبات بأطول ليلة من الليلة الأولى، وجهد أن يغمض، فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول: نَهارِي نَهارُ النّاسِ، حَتى إذا بَدَا ... ليَ اللّيلُ هَزّتْني إلَيكِ المَضَاجِعُ أُقَضّي نَهارِي بالحَديثِ، وَبالمُنى ... وَيَجمَعُني وَالهَمَّ، باللّيلِ، جَامعُ وأدام زيارتها، وترك إتيان كل من كان يأتيه، فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع، حتى إذا أمسى انصرف. وإنه خرج ذات يوم يريد زيارتها، فلما قرب من منزلها لقيته جارية عسراء، فتطير من لقائها فأنشأ يقول: وكيفَ ترَجّي وَصْلَ ليلى، وَقد جَرَى ... يجدُّ القُوَى من لَيلَ أعسرُ حاسرُ صَديعُ العَصَا جدبُ الزّمانِ إذا انتَحى ... لوَصلِ امرِئٍ لم يُقضَ منه الأوَاطرُ ثم صار إليها من غدٍ، فلم يزل عندها. فلما رأت ليلى ذلك منه وقع في قلبها مثل الذي وقع لها في قلبه، فجاء يوماً كما كان يجيء، فأقبل يحدثها، وجعلت هي تعرض عنه بوجهها وتقبل على غيره، كل ذلك تريد أن تمتحنه، وتعلم ما لها في قلبه، فلما رأى ذلك منها اشتد عليه، وجزع حتى عرف ذلك فيه، فلما خافت عليه، أقبلت كالمشيرة إليه، فقالت: كِلانَا مُظهِرٌ للنّاسِ بُغضاً، ... وكلٌّ عندَ صَاحِبِهِ مَكينُ (2/47) فسري عنه، وعلم ما في قلبها، وقالت له: إنما أردت أن أمتحنك، والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأنا معطية الله عهداً إن أنا جالست بعد هذا يومي رجلاً سواك حتى أذوق الموت، إلا أن أكره على ذاك. قال: فانصرف في عشيته، وهو أسر الناس بما سمع منها، فأنشأ يقول: أظُنّ هَوَاهَا تَاركِي بِمَضَلّةٍ ... من الأرْضِ، لا مالٌ لديّ، وَلا أهلُ وَلا أحَدٌ أُفضِي إلَيْهِ وَصِيّتي، ... وَلا وَارِثٌ إلا المَطِيّةُ وَالرّحلُ مَحا حُبّها حُبَّ الأُلَى كُنّ قبلَها ... وَحلّت مكاناً لم يكن حُلّ من قبلُ زيارة الطيف ولي من قصيدة: بَعَثَتْ خادِمَها نَحوِي، وَقَدْ ... أبصَرَتْ حَبْلَ الهَوَى مُنْصَرِمَا تَتَرَثّى ليَ مِنْ وَشكِ نَوىً، ... فَتَكَت فِينَا، وبَينٍ ظَلَمَا وَتَقُولُ: الصّبرُ أوْقَى جُنّةً، ... فَادّرِعْ صَبْرَكَ، أوْ مُتْ كرمَاَ وَتَزَوّدْ نَظَراً تَحْيَ بِهِ، ... لَستَ في أهلِ الهَوَى مُتّهَمَا قُلتُ: زَادِي شُرْبَةٌ مَثْلُوجَةٌ ... مِنْ ثَنَاياكِ، فقد مسّ الظَّما فاسمَحي لي، يا ابنَةَ العمّ، بهَا، ... وَاجعَلي إبرِيقَهَا مِنكِ الفَمَا فَتَمَلّتْ غَضَباً، وَاختَمَرَتْ ... بحَيَاءٍ، زَادَ جِسمي سَقَما ثم قالتْ: كنتَ يا صَاحِبَنَا ... قَبلَ هَذا عِندَنَا مُحتَشَما إنّ ثَوْبَ الصَّوْنِ والعِفّةِ مِنْ ... دُونِ ما تَطلبُهُ مِنّا حِمَى لَيسَ بَعدَ اليَوْمِ إلاّ طَيْفُنَا، ... يَمتَطي اللّيلَ، إذا مَا أظلَمَا قلتُ: يا هَذي هَبي الطّيف سَرَى، ... أيَزُورُ الطّيفُ إلاّ النُّوَّمَا؟ (2/48) جارية حاضرة الذهن أخبرنا القاضيان أبو الحسن أحمد بن علي بن الحسين التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: حدثنا أبو عمر بن حيويه الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، حدثني أبو عبد الله التميمي، حدثني أبو الوضاح الباهلي عن أبي محمد اليزيدي قال: قال عبد الله بن عمر بن عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير: خرجت أنا ويعقوب بن حميد بن كاسب قافلين من مكة، فلما كنا بودان لقيتنا جارية من أهل ودان، فقال لها يعقوب: يا جارية! ما فعلت نعم. فقالت: سل نصيباً. فقال: قاتلك الله، ما رأيت كاليوم قط أحد ذهنا، ولا أحضر جواباً منك. وإنما أراد يعقوب قول نصيب في نعم، وكانت تنزل ودان: أيَا صَاحِبَ الخَيماتِ من بَطنِ أرْثَدٍ ... إلى النّخلِ من وَدّانَ! ما فعَلتْ نُعْمُ أُسائِلُ عَنها كلَّ رَكْبٍ لَقيتُهُمْ، ... وَمَا لي بهَا مِنْ بَعدِ مَكّتِنَا عِلْمُ صفراء السوداء أخبرنا ابن التوزي والتنوخي قالا: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف قال: وذكر بعض الرواة عن العمري: كان أبو عبد الله الحبشاني يعشق صفراء العلاقمية، وكانت سوداء، فاشتكى من حبها، وضني حتى صار إلى حد الموت، فقال بعض أهله لمولاها: لو وجهت صفراء إلى أبي عبد الله الحبشاني، فلعله يعقل إذا رآها؟ ففعل، فلما دخلت عليه صفراء قالت: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: بخير ما لم تبرحي. قالت: ما تشتهي؟ قال: قربك. قالت: فما تشتكي؟ قال: حبك. قالت: أفتوصي بشيء؟ قال: نعم! أوصي بك إن قبلوا (2/49) مني. فقالت: إني أريد الانصراف. قال: فتعجلي ثواب الصلاة علي. فقامت فانصرفت، فلما رآها مولية تنفس الصعداء ومات من ساعته. سمنون الكذاب أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بقراءتي عليه بالشام، سمعت أبا نعيم الحافظ يقول: سمنون هو ابن حمزة الخواص، أبو الحسين، وقيل أبو بكر، بصري سكن بغداد، ومات قبل الجنيد، وسمى نفسه سمنون الكذاب، بسبب أبياته التي قال فيها: فَلَيسَ لي في سِوَاكَ حَظٌّ، ... فكَيفَ مَا شِئتَ فَامتَحنّي فحصر بوله من ساعته فسمى نفسه سمنون الكذاب. من شعر سمنون أنبأنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، وحدثنا الخطيب عنه، حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري، أنشدني علي بن أحمد بن جعفر أنشدني ابن فراس لسمنون: وكانَ فُؤادِي خَالِياً قَبلَ حُبّكُمْ، ... وكانَ بذِكرِ الخَلْقِ يَلهُو وَيَمزَحُ فَلَمّا دَعَا قَلْبي هَوَاكَ أجابَهُ، ... فَلَستُ أرَاهُ عَنْ فِنَائِكَ يَبْرَحُ رُميتُ بِبَينٍ مِنك إنْ كُنتُ كاذِباً، ... وَإنْ كُنتُ في الدّنيَا بِغَيْرِكَ أفرَحُ وَإنْ كانَ شَيءٌ في البِلادِ بأسرِها، ... إذا غِبْتَ عَنْ عَيْني، بعَينيَ يملُحُ فإنْ شئتَ وَاصِلْني، وَإن شئتَ لا تصِلْ، ... فَلَستُ أرَى قَلبي لِغَيركَ يَصْلُحُ (2/50) وأخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، حدثنا الحسن بن أبي بكر قال: ذكر أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد أن سمنون المجنون أنشده: يا مَن فُؤادي عَليهِ مَوْقُوفُ، ... وكلُّ هَمّي إلَيهِ مَصرُوفُ يا حَسرَتي حَسرَةً أمُوتُ بهَا، ... إنْ لمْ يكُنْ لي إلَيكَ مَعروفُ مساكين أهل العشق أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن الحسين وأبو القاسم علي بن المحسن بن علي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني جعفر بن علي اليشكري، أخبرني الرياشي، أخبرني العتبي قال: دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان، فقال له: هل عشقت يا نصيب؟ قال: نعم! جعلني الله فداءك، ومن العشق أفلتتني إليك البادية. قال: ومن عشقت؟ قال: جاريةً لبني مدلج، فأحدق بها الواشون، فكنت لا أقدر على كلامها إلا بعين أو إشارة، فأجلس على الطريق حتى تمر بي فأراها، ففي ذلك أقول: جَلستُ لهَا كَيْمَا تَمرّ لعَلّي ... أُخَالِسُها التسليمَ، إنْ لمْ تُسَلِّمِ فَلَمّا رَأتْني وَالوُشاةَ تَحَدّرَتْ ... مَدَامِعُها خَوْفاً وَلمْ تَتَكَلّمِ مساكينُ أهلُ العشق ما كنتُ أشترِي ... حَياةَ جَميعِ العاشِقِينَ بِدرْهَمِ (2/51) دعا باسم ليلى أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ، رحمه الله تعالى، حدثنا عبد الغني بن سعيد، حدثنا جعفر بن هارون بن زياد قال: وحدثني هلال بن العلاء، حدثني عياض بن أحمد السلمي قال: كنت أجلس إلى الأصمعي فما سمعته سئل فقال حتى أنظر، أو ما أعرفه. قال: وسمعته يقول: كنت مع جعفر بن يحيى في زورق فسمع هاتفاً يهتف باسم جارية، فقال: إن هذا الهاتف يهتف باسم جارية قلبي، فأنشدني في ذا شيئاً، فأنشدته: وداعدعا إذ نحن بالخيف مِن مِنىً، ... فَهَيّجَ أحزَانَ الفُؤادِ وَما يَدرِي دَعَا باسْمِ لَيلى غَيرِها، فَكَأنّمَا ... أطَارَ بلَيلى طَائراً كَانَ في صَدْرِي فأعطاني عشرة آلاف درهم. ؟ المجنون في مكة أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف قال: قال أبو عمرو الشيباني: لما ظهر من المجنون ما ظهر ورأى قومه ما ابتلي به، اجتمعوا إلى أبيه وقالوا: يا هذا! قد ترى ما ابتلي به ابنك، فلو خرجت به إلى مكة فعاذ ببيت الله الحرام، وزار قبر رسول الله ﷺ، ودعا الله تعالى، رجونا أن يرجع عقله، ويعافيه الله، فخرج أبوه حتى أتى به مكة، فجعل يطوف به ويدعو الله، عز وجل، له بالعافية. وهو يقول: دَعا المُحرِمونَ اللهَ يَستَغفِرُونَهُ، ... بمَكّةَ، وَهناً، أن تُمَحَّى ذنوبُها وَنَاديْتُ أنْ يا رَبِّ أوّلُ سُؤلَتي ... لِنَفسِيَ لَيلى ثمّ أنتَ حَسِيبُهَا (2/52) فإنْ أُعطَ لَيلى في حيَاتي لا يَتُب ... إلى الله خَلقٌ تَوْبَةً لا أتوبُهَا حتى إذا كان بمنىً نادى مناد من بعض تلك الخيام: يا ليلى، فخر قيس مغشياً عليه، واجتمع الناس حوله، ونضحوا على وجهه الماء، وأبوه يبكي عند رأسه، ثم أفاق وهو يقول: وَداعٍ دَعا، إذْ نحنُ بالخَيفِ من منىً، ... فَهَيّجَ أشوَاقَ الفُؤادِ وَلَمْ يّدْرِ دَعَا باسْمِ لَيلى غَيرِها، فَكَأنّمَا ... أطَارَ بلَيلى طائراً كانَ في صَدرِي ؟ الله يا سلام ولي من غزل قصيدة أولها: بَينَ الأرَاكِ وَبَينَ ذِي سَلَمِ ... ألقيت خوف نواك بالسلم ومنها: الله يا سلام في رجل ... أبقَيتِهِ لحماً عَلى وَضَمِ أعدتْ جفونُكِ جِسمَه فرمَتْ ... بفُتورِها فِيهِ وَبالسَّقَمِ وَرَمَيتِهِ بِسِهَامِ بَينِكِ إذ ... عَيّرْتِهِ بالشّيبِ وَالعَدَمِ فحَدا رِكابُ مُناهُ نحوَ فَتىً ... ذِي همّةٍ تَعلو على الهِمَمِ (2/53) نأت دار من تهوى أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، حدثنا أبو أحمد عبيد الله بن أحمد الفقيه، حدثنا محمد بن يحيى الصولي أبو بكر، حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال: هجر محمد بن إسحق بن إبراهيم جاريةً له كان يخرجها معه إلى أسفاره، وحدث له خروج، فجعلت تغني وتبكي، وهو مستمع: نَأت دارُ مَن تَهوَى، فَما أنتَ صَانِعُ؛ ... أمُصْطَبَرٌ للبَينِ أمْ أنتَ جَازِعُ؟ فإنْ تَمنَعُوني أنْ أبُوحَ بحُبّهَا، ... فَلَيسَ لقَلبي من جَوَى الحُبّ مانعُ قال: فدخل فترضاها وأخرجها معه. قتلته بالسحر أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف قال: قال إسحق بن منصور: حدثني جابر بن نوح قال: كنت بمدينة الرسول ﷺ، جالساً عند بعض أهل السوق، فمر بي شيخ حسن الوجه حسن الثياب، فقام إليه البائع فسلم عليه، وقال له: يا محمد! أسأل الله أن يعظم أجرك وأن يربط على قلبك بالصبر. فقال الشيخ مجيباً له: وكانَ يَميني في الوَغَى وَمُسَاعِدي، ... فأصْبَحتُ قَد خانَت يميني ذِرَاعُها وَأصْبَحتُ حرّاناً من الثُّكلِ حَائِراً، ... أخَا كَلَفٍ ضَاقَتْ عليّ رِبَاعُهَا فقال البائع: أبشر يا أبا محمد، فإن الصبر معول المؤمن، وإني لأرجو أن لا يحرمك الله الأجر على مصيبتك. (2/54) فقلت له: من هذا الشيخ؟ فقال: رجل منا من الأنصار من الخزرج، فقلت: وما قصته؟ قال: أصيب بابنه، وكان به باراً قد كفاه جميع ما يعنيه، وقام به، وميتته أعجب ميتةٍ. قلت: وما كان سبب ميتته، وما كان خبره؟ قال: أحبته امرأة من الأنصار، فأرسلت إليه تشكو حبها وتسأله الزيارة، وتدعوه إلى الفاحشة. قال: وكانت ذات بعل، فأرسل إليها: إنّ الحَرَامَ سَبيلٌ لستُ أسلُكُهُ، ... وَلا أمرُّ به ما عشتُ في النّاسِ ألغي العتابَ، فإني غَيرُ مُتّبِعٍ ... ما تَشتَهينَ، فكُوني مِنهُ في يَاسِ فلما قرأت الأبيات كتبت إليه: دَعْ عَنكَ هذا الذي أصبَحت تذكرهُ، ... وَصِرْ إلى حَاجَتي يا أيّها القاسِي دَعِ التّنَسُّكَ إنّي غَيْرُ نَاسِكَةٍ، ... وَلَيسَ يَدخُلُ ما أبدَيتَ في رَاسِي قال: فأفشى ذلك إلى صديق له، فقال له: لو بعثت إليها بعض أهلك فوعظتها وزجرتها رجوت أن تكف عنك. فقال: والله لا فعلت ولا صرت في الدنيا حديثاً، وللعار في الدنيا خير من النار في الآخرة، وقال: العارُ في مدّةِ الدّنيَا وَقِلّتِهَا، ... يَفنى وَيَبقى الذي بالنّار يؤذِيني وَالنّارُ لا تَنقَضِي ما دامَ بي رَمَقٌ، ... وَلَستُ ذا ميتةٍ فيها، فتُفنيني لكنْ سأصْبرُ صَبرَ الحُرِّ مُحتَسِباً، ... لَعَلّ رَبي مِن الفِرْدَوسِ يُدنيني قال: وأمسك عنها، فأرسلت إليه: إما أن تزورني، وإما أن أزورك، فأرسل إليها: اربعي أيتها المرأة على نفسك، ودعي عنك التسرع إلى هذا الأمر. قال: فلما أيست منه ذهبت إلى امرأة كانت تعمل السحر، فجعلت لها الرغائب لتهيجه. قال: فعملت لها فيه. قال: فبينا هو ذات ليلة جالس مع أبيه، إذ خطر ذكرها بقلبه وهاج به أمر لم يكن يعرفه، واختلط، فقام من بين يدي أبيه مسرعاً فصلى واستعاذ (2/55) وجعل يبكي والأمر يتزايد، فقال له أبوه: يا بني ما قصتك؟ فقال: يا أبت! أدركني بقيد فما أرى إلا وقد غلب علي. قال: فجعل أبوه يبكي ويقول: يا بني حدثني بالقصة، فحدثه بقصته، فقام إليه فقيده وأدخله بيتاً، فجعل يضطرب ويخور كما يخور الثور، ثم هدأ ساعة عند الباب، فإذا هو ميت، وإذا الدم يسيل من منخره. ميتان وامرأة حرى أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بالشام بقراءتي عليه، أخبرنا علي بن أبي علي البصري، حدثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، حدثنا جحظة قال: كنت بحضرة الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر، فاستؤذن عليه للزبير بن بكار حين قدم من الحجاز، فلما دخل عليه أكرمه وعظمه، وقال له: لئن باعدت بيننا الأنساب لقد قربت بيننا الآداب، وإن أمير المؤمنين ذكرك، فاختارك لتأديب ولده، وأمر لك بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت من الثياب وعشرة بغال تحمل عليها رحلك إلى حضرته بسر من رأى. فشكره على ذلك، وقبله، فلما أراد توديعه قال له: أيها الشيخ! أما تزودنا حديثاً نذكرك به؟ قال: أحدثك بما سمعت أو بما شاهدت؟ قال: بل بما شاهدت؟ فقال: بينا أنا في مسيري هذا بين المسجدين، إذ بصرت بحبالة منصوبة فيها ظبي ميت، وبإزائها رجل على نعشه ميت، ورأيت امرأة حرى تسعى، وهي تقول: يا خَشْنُ، لوْ بَطَلٌ، لكنّهُ أجَلٌ، ... على الإثاية، ما أودى بكَ البَطَلُ (2/56) يا خَشنُ قَلقَلَ أحشائي وَأزْعَجها، ... وَذاكَ يا خَشنُ عندي كلُّه جَلَلُ أمسَتْ فَتَاةُ بَني نَهدٍ عَلانِيَةً، ... وَبَعلُها في أكفّ القَوْمِ يُبتذَلُ قَد كنتُ رَاغبَةً فيهِ أضَنُّ بِهِ، ... فحان من دون ضَنِّ الرّغبةِ الأجلُ قال: فلما خرج من حضرته قال لنا محمد بن عبد الله بن طاهر: أي شيء أفدنا من الشيخ؟ قلنا له: الأمير أعلم. فقال: قوله: أمست فتاة بني نهد علانيةً أي ظاهرة، وهذا حرف لم أسمعه في كلام العرب قبل هذا. أسود وسوداء أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أبو الفضل قاسم بن سليمان الإيادي عن عبد الرحمن بن عبد الله قال: أخبرني مخبر أنه رأى أسود ببئر ميمون وهو يمتح من بئر، ويهمس بشيء لم أدر ما هو، فدنوت منه، فإذا بعضه بالعربية وبعضه بالزنجية، ثم تبينت ما قال، فإذا هو: ألا يا لا ئِمي في خُبّ رِئمٍ، ... أفِقْ عن بعض لومك لا اهتديتا أتأمرني بهجرَةِ بعضِ نَفسِي؟ ... مَعاذَ اللهِ أفعَلُ مَا اشتَهيتَا أُحِبُّ لحُبّها تَثْليمَ طُرّاً، ... وَتَكَعةَ وَالمَشكَّ وَعينَ زَيتَا فقلت: ما هذه؟ قال: رباع كانت لنا بالحبشة كنا نألفها. قال قلت: (2/57) أحسبك عاشقاً. قال: نعم! قلت: لمن؟ قال: لمن إن وقفت رأيته. فما لبثنا ساعة أن جاءت سوداء على كتفها جرة، فضرب بيده عليها، وقال: ها هي هذه. قال: قلت له: ما مقامك ههنا؟ قال: اشتريت، فأوقفت على هذا القبر أرشه، فأنا أبرد من فوق، وربك يسخن من أسفل. جبال الحب أنبأنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، رحمه الله تعالى، في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى المعمري، أنشدنا أبو محمد جعفر بن محمد الصوفي أنشدني بعض إخواننا لأبي بكر محمد بن داود الفقيه: حَمَلتُ جِبالَ الحُبّ فِيكَ، وَإنّني ... لأعجزُ عَن حَملِ القَميصِ وَأضْعُفُ وما الحُبّ من حُسنٍ وَلا من سَماحةٍ، ... وَلِكنّه شيءٌ به الرّوح تَكْلَفُ نياق القرشي أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال بالتاريخ، حدثنا عبد الواحد بن علي بن الحسين، حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة، حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى حدثنا المساحقي عن أبيه أنه خرج ساعياً في بني عامر، فأتاه مجنون بني عامر، فٍساله أن يكلم له عمه، فأبى أن يزوجه، فأمر المساحقي للمجنون بقلائص، فوهبها له وأبى أن يقبلها، ثم أنشأ يقول: تَركتُ قَلائِصَ القُرَشيّ لمّا ... رَأيتُ النّقضَ مِنهُ للعُهُودِ (2/58) بقاء العاشقين عجيب أنبأنا الجوهري، أنشدنا أبو عمر بن حيويه، أنشدنا محمد بن عبد الله الكاتب، أنشدني محمد بن المرزبان: لّئِنْ كنتُ لا أشكُو هَوَاكِ فإنّني ... أخُو زَفَرَاتٍ، وَالفُؤادُ كَئيبُ وَإنْ كانَ قلباً فيكِ يَضْنى صَبابَةً، ... وَقد مَرِضَتْ من مُقلَتَيكِ قلوبُ فما عجبٌ موتُ المُحبّينَ في الهَوَى، ... وَلَكن بَقَاء العَاشِقينَ عَجيبُ وفاة جميل أخبرنا الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، حدثنا أبو العباس أحمد بن منصور اليشكري، أخبرنا الصولي، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: لما حضرت الوفاة جميلاً بمصر قال: من يعلم بثينة؟ فقال رجل: أنا، فلما مات صار إلى حي بثينة فقال: بَكَرَ النَّعيُّ وَمَا كَنَى بجَميلِ، ... وَثَوَى بمصرَ ثَوَاءَ غيرِ قَفولِ بَكَرَ النَّعيُّ بفارِسٍ ذِي نَهمَةٍ، ... بطلٍ، إذا حُمِلَ اللّوَاءُ مُديلِ فسمعته بثينة، فخرجت مكشوفةً تقول: وَإنَّ سلُوِّي عَنْ جَميلٍ لَساعَةٌ ... من الدّهرِ ما حانَت وَلا حان حِينُها سَوَاءٌ عَلينا يا جَميلُ بن مَعَمرٍ، ... إذا مُتّ، بأساءُ الحَياةِ وَلينُها (2/59) الهوى ينسي الأكل أخبرنا الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر، حدثنا أحمد بن منصور اليشكري، حدثنا ابن الأنباري، أخبرنا أبو العباس قال: مر رجل بجميل، فأضافه، وخبز خبزةً من مكوك، وثردها في لين وسمن، قال: ثم أتاه بها، فجعل الرجل يحدث جميلاً عن بنت عم له بحبها، ويأكل حتى أتى على الخبزة، فقال جميل: وَقَد رَابَني من جَعفَرٍ أنّ جَعفَراً ... يُلّحُ على قُرْصِي، وَيَبكي عَلى جُملِ فَلَوْ كنتَ عُذرِيَّ العلاقَةِ لم تَكُنْ ... بَطِيناً وَأنْساكَ الهَوَى كَثرةَ الأكلِ لا تقتليه ولي من أثناء قصيدة أولها: أدِرِ المُخَدَّرَةَ العُقَارَا، ... فاللّيلُ قد أرْخى الإزَارَا يا جَارَتي بِرُصَافَةِ ال ... مَهْدِيّ لَمْ تَرْعَي جِوَارَا رُدّي عَلى المُشْتَاقِ قَلْ ... باً هَائِماً بِكِ مُستَطَارَا لا تَقْتُليهِ، فَقَوْمُهُ ... لا يَتركُونَ، الدّهرَ، ثَارَا (2/60) شعر على تكة أخبرنا أبو الحسين علي بن عمر الحربي المعروف بابن القزويني الزاهد، رحمه الله تعالى، فيما أذن لنا في روايته، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: كتبت عازم على تكة حرير كانت تتعصب بها: إنّ العُيونَ التي في طرْفِها مَرَضٌ ... قَتَلنَنا، ثمّ لمْ يُحيينَ قَتلانَا يَصرعْنَ ذا اللُّبّ حتى لا حَرَاكَ به، ... وَهنّ أضْعَفُ خلقِ اللهِ أرْكانَا شعر على عصابة وأخبرنا علي بن عمر أيضاً، أخبرنا عمر بن حيويه، أخبرنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: نقشت غليل على عصابتها: مَا ضَرّ مَن صَيّرَني حُبُّهُ ... قَرِينَ أحزَانٍ وَوَسْوَاسِ لَوْ أنّهُ فَرّجَ عَنْ كُرْبَتي ... بأسطُرٍ في شرّ قِرْطَاسِ تضن بتسليمة ولي من قصيدة رجز أولها: لا تَحسَبُوا أني مَلُولٌ سَالي، ... لا أعرِفُ الهَجرَ مِنَ الوِصَالِ حتى عَلِقتُ من بني هِلالِ ... جَارِيةً حَسنَاءَ كالتِّمْثَالِ صَامِتَةَ السِّوَارِ وَالخَلخَالِ، ... جَامِعَةً للصَّوْنِ وَالجَمَالِ (2/61) تَرْنُو بِعَينِ رَشَإٍ غَزَالِ، ... رِيقَتُها أشهَى من الجِرْيالِ قَد زَادَ في حُبّي لهَا بَلبَالي، ... لِحاظُها أمضَى منَ النِّصَالِ تَرْمي القُلُوبَ ثمّ لا تُبالِي، ... من قَتَلَت هَوىً من الرّجَالِ وَمَا دَمُ العُشّاقِ بالحَلالِ، ... سَألتُهَا عَشِيّةَ التّرْحَالِ تَسلِيمَةً، فَلَمْ تُجِبْ سؤالي، ... وَأعرَضَت إعراضَ ذِي مَلالِ أعشق من كثيِّر عزة أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني عبد الله بن محمد الطالقاني، أخبرني السري بن يحيى الأزدي عن أبيه عن المفضل بن الحسن المخزومي قال: دخل كثيِّر عزة على عبد الملك بن مروان، فجعل ينشده شعره في عزة، وعيناه تذرفان، فقال له عبد الملك: قاتلك الله يا كثير! هل رأيت أحداً أعشق منك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، خرجت مرةً أسير في البادية على بعير لي، فبينا أنا أسير إذ رفع إلي شخص، فأممته، فإذا رجل قد نصب شركاً للظباء، وقعد بعيداً منه، فسلمت عليه، فرد السلام، فقلت: ما أجلسك ها هنا؟ قال: نصبت شركاً للظباء، فأنا أرصدها. قلت: إن قمت له لديك فصدت أتطعمني؟ قال: إي والله. قال: فنزلت فعقلت ناقتي، وجلست أحدثه فإذا هو أحسن خلق الله حديثاً، وأرقه وأغزله. قال: فما لبثنا أن وقعت ظبية في الشرك، فوثب ووثبت معه فخلصها من الحبال، ثم نظر في وجهها ملياً، ثم أطلقها، وأنشأ يقول: أيَا شِبهَ لَيلَى لَن تُرَاعَي، فإننّي ... لكِ اليَوْمَ من بينِ الوُحوش صَديقُ (2/62) ويَا شبهَ لَيلى لَنْ تَزَالي بِرَوْضَةٍ ... عَلَيكِ سَحَابٌ دَائِمٌ وَبُرُوقُ فَما أنا إذ شَبّهتُها ثمّ لم تَؤبْ ... سَليماً عَليها، في الحَياةِ، شَفِيقُ فَدَيتُكِ من أسرٍ دَهَاكِ لحُبّها، ... فأنتِ لَليلى مَا حَييتِ طَلِيقُ ثم أصلح شركه، وعدونا إلى موضعنا، فقلت: والله لا أبرح حتى أعرف أمر هذا الرجل، فأقمنا باقي يومنا فلم يقع شيء، فلما أمسينا قام إلى غار قريب من الموضع الذي كنا فيه وقمت معه فبتنا به، فلما أصبح غدا فنصب شركه، فلم يلبث أن وقعت ظبية شبيهة بأختها بالأمس، فوثب إليها ووثبت معه، فاستخرجها من الشرك ونظر في وجهها ملياً ثم أطلقها، فمرت، وأنشأ يقول: اذهَبي في كلاءَةِ الرّحمنِ، ... أنتِ مِني في ذِمّةٍ وَأمَانِ تَرْهبيني؟ وَالجِيدُ مِنك كليلى، ... وَالحَشا وَالبُغَامُ وَالعَينانِ لا تَخافي بأنْ تُفاجَيْ بسُوءٍ ... ما تَغَنّى الحَمامُ في الأغصَانِ ثم عدنا إلى موضعنا فلم يقع يومنا ذلك شيء، فلما أمسينا صرنا إلى الغار، فبتنا فيه، فلما أصبحنا عدل إلى شركه، وغدوت معه، فنصبه، وقعدنا نتحدث وقد شغلني، يا أمير المؤمنين، حسن حديثه عما أنا فيه من الجوع، فبتنا نتحدث إذ وقعت في الشرك ظبية، فوثب إليها ووثبت معه، فاستخرجها من الشرك، ثم نظر في وجهها وأراد أن يطلقها فقبضت على يده وقلت: ماذا تريد أن تعمل؟ أقمت ثلاثاً كلما صدت شيئاً أطلقته. قال: فنظر في وجهي وعيناه تذرفان وأنشأ يقول: أتَلحَى محِبّاً هائِمٌ القلبِ أن رَأى ... شَبيهاً لمَن يهوَاهُ في الحَبلِ مُوثَقَا (2/63) فَلَمّا دَنَا مِنهُ تَذَكّرَ شَجوَهُ، ... وَذّكّرَهُ مَن قد نأى فَتَشَوَّقَا قال أبو بكر: وبيت آخر ذهب علي، فرحمته والله، يا أمير المؤمنين، فبكيت لبكائه ونسبته، فإذا هو قيس بن معاذ المجنون، فذاك والله أعشق مني يا أمير المؤمنين. وشاية الطيب ولي من ابتداء قصيدة: طَرَقَتْ، وَالظّلامُ قد مدَ سِترَا، ... تَتَخَطّى إليّ سَهْلاً وَوَعرَا وَالكَرَى قَد سَقَى سُلافَتَه السُّمّ ... ارَ صِرْفاً، فَطَرّحَ القَوْمَ سُكرَا كتَمتْ خشيةَ الرّقيبِ خُطاهَا، ... فَوَشَى الطيّبُ بالمَليحَةِ نَشرَا هَتَكتْ بُرْقُعَ العِتَابِ وَثَنّتْ ... مِنهُ نظماً يُذكي الغَرَامَ وَنثرَا ثمّ قالت: وَقد جَلَتْ غُرّةً رَدّ ... تْ بأضْوَائها دُجى الليل فجرَا أيّها المُدّعي هَوَانا، وَأنّا ... قد سَلَبنا كرَاهُ صَدّاً وَهَجرا أتُرَى ما قَرَأتَ أخبَارَ مَجنُو ... نِ بَني عامرٍ وَعرْوَةِ عَفرَا وَجَميلٍ وَقَيسِ لُبنى وَخَلْقٍ ... من بَني عُذرَةٍ يَزِيدُونَ كُثرَا تَدّعي حبَّنا بغَيرِ شُهُودٍ؛ ... قلتُ: هذه الدموع تشهدُ قَطرَا وَاستَهَلّت مدامعي، فَرَثَتْ لي، ... إذ رَأتْني حُرِمتُ في الحُبّ صَبرَا وَسَقتني من رِيقِها العذبِ كأساً ... كانتِ الشَّهدَ لذّةً وَالخَمرَا (2/64) أم سالم والغزال أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، رحمه الله تعالى، حدثنا محمد بن العباس، أخبرنا محمد بن خلف، حدثنا عمر بن شبة، حدثنا أبو غسان المديني، أخبرني عبد العزيز بن أبي ثابت، أخبرني رجل من التجار قال: اشترى أبو زبان الهرمي ظبياً من المصلى بدرهمين ثم أخذ بيدي، حتى إذا كنا بالحرة أطلقه وقال: ما كان ليؤسر شبه أم سالم، ثم أنشأ يقول: ألا يا غَزَالَ الرّملِ بَينَ الصّرَائِمِ ... ألا لا، فَقَد ذكَرتَني أمَّ سَالمِ لكَ الجِيدُ والعَينانِ منها وَحُوّةُ ال ... شّفَاهِ وَقد خالفَتهَا في القَوَائِمِ إبراهيم بن المهدي وجارية عمته أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي بقراءتي عليه في المسجد الحرام بين باب بني شيبة وباب النبي تجاه الكعبة، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن لآل الهمذاني، أخبرنا أحمد بن حرب الجيلي عن بعض مشايخه قال: اختفي إبراهيم بن المهدي زمن المأمون عند بنت عصمة بنت أبي جعفر عند هربه من المأمون لشدة طلبه له، وكانت تكرمه غاية الكرامة، وتلطفه بالطرائف، وتتفقده في أوقاته، ووكلت به جاريةً يقال لها ملك، وكانت قد أدبتها، وأنفقت عليها الأموال، وكانت مغنيةً حاذقة، راويةً للأشعار، بارعة الجمال، حسنة القد، عاقلة؛ وقد كانت طلبت منها بخمسين ومائة ألف درهم؛ فكانت تلي خدمة إبراهيم، وتقوم على رأسه، وتتفقد أموره، فهويها، وكره أن يطلبها من عمته، وأن يفجعها بها، وتذمم من ذلك، فلما اشتد وجده بها، وغلب حبها عليه، وسكر فهيجه السكر أيضاً، أخذ عوداً وغنى بشعر له فيها، وهي واقفة على (2/65) رأسه والغناء له: يا غَزَالاً لي إلَيْهِ ... شَافِعٌ مِنْ مُقْلَتَيهِ وَالّذي أجلَلتُ خَدّي ... هِ، فَقَبّلتُ يَدَيه بأبي وَجْهَكَ مَا أكْ ... ثَرَ حُسّادِي عَلَيْهِ أنَا ضَيْفٌ، وَجَزَاءُ الضَّ ... يفِ إحسَانٌ إلَيْهِ فسمعت الجارية الشعر، وفطنت لمعناه لرقتها وظرفها، وكانت مولاتها تسألها عن حالها وحاله في كل يوم، فأخبرتها في ذلك اليوم بما في قلبه منها، وبما سمعت منه من الشعر والغناء، فقالت لها مولاتها: اذهبي فقد وهبتك له! فعادت إليه، فلما رآها أعاد الصوت، فأكبت عليه الجارية فقبلت رأسه، فقال لها: كفى! فقالت: قد وهبتني مولاتي لك، وأنا الرسول، فقال: أما الآن فنعم. موت المجنون في الوادي أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أحمد بن الهيثم القرشي، حدثني العباس بن هشام عن أبيه هشام بن محمد بن السائب الكلبي أن رجلاً من أهل الشام كان له أدب، وأنه ذكر له المجنون، وأخبر بخبره، فأحب أن يراه، وأن يسمع من شعره، فخرج يريده، حتى إذا صار إلى حية سأل عنه، فأخبر أنه لا يأوي إلى مكان، وأنه يكون مع الوحش، قال: فكيف لي بالنظر إليه؟ قيل: إنه لا يقف لأحد حتى يكلمه إلا لداية له هي التي كانت ربته، فكلم دايته وسألها، فخرجت معه تطلبه في مظانه التي كان يكون فيها في البرية، فطلبوه يومه ذلك، فلم يقدروا (2/66) عليه، ثم غدوا في اليوم الثاني يطلبونه، فبينا هم كذلك إذ أشرفوا على واد كثير الحجارة، وإذا به في ذلك الوادي ميت، فاحتمله الرجل ودايته حتى أتيا به الحي، فغسلوه وكفنوه ودفنوه، فقال الرجل: قد كنت أقدر أن أسمع منه شيئاً من شعره ففاتني ذلك فأنشدوني من شعره شيئاً أنصرف به، فأنشدوه أشياء كتبها، وانصرف. لو بلي البين ببين أخبرنا الشيخ أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون قراءة عليه، أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن أبي علي الأصبهاني، أخبرنا سعد بن الحسن الصوفي، أنبأنا عبد المؤمن، حدثنا الحسن بن أبي الفضل أنشدنا هبة الله بن الحسن لنفسه: حتى مَتى يَا قُرّةَ العَينِ، ... تُعّذِّب المُدْنَفَ بالبَينِ ما أقتلَ الشوْقَ لأهلِ الهَوى ... وَأقرَبَ البَينَ منَ الحَينِ لَوْ بُلِيَ البَينُ بِبَينٍ لمَا ... فَرّقَ مَا بَينَ المُحِبَّينِ أوْ ذاق طعمَ الوَصلِ يوماً لما ... شَتّتَ شَمْلاً بَينَ إلْفَينِ غراب البين وأخبرنا أحمد بن الحسن على أثره، أخبرنا محمد بن الحسن الأصبهاني، أنبأنا وليد بن معن المؤدب: أنشدنا أبي لأبي الحسن البرمكي: أتَرْحَلُ عَمّن أنتَ صَبٌّ بذِكرِهِ ... وَتشكو غرَابَ البَينِ؟ هذا هوَ الظلمُ وَما لغُرَابِ البينِ بالبَينِ فِطنَةٌ؛ ... وَما لغُرابِ البَينِ بالمُلتقَى عِلمُ (2/67) امرأة على قبر ولدها أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي في ما أجاز لنا، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الرصافي، حدثنا أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة، حدثنا محمد بن موسى بن حماد، حدثني أبو عبد الله العدوي، حدثني الحسين، سمعت أبي يقول: سمعت مصعباً يقول: قرأت على لوحين على قبرين: أمُغَطّى مني على بَصَرِي في الحُبْ ... بِ أمْ أنتَ أكمَلُ النّاسِ حُسنَا وَحَديثٌ ألَذُّهُ هُوَ مِمّا ... يَنعَتُ النّاعتون يُوزَنُ وَزْنَا ورأيت امرأةً عند القبرين، وهي تقول: بأبي لم تمتعك الدنيا من لذتها، ولم تساعدك الأقدار على ما تهوى، فأوقرتني كمداً، فصرت مطيةً للأحزان، فليت شعري كيف وجدت مقيلك، وماذا قلت وقيل لك؟ ثم قالت: استودعتك من وهبك لي، ثم سلبني أسر ما كنت بك. فقلت لها: يا أمه! ارضي بقضاء الله، عز وجل، وسلمي لأمره! فقالت: هاه نعم! فجزاك الله خيراً، لا حرمني الله أجرك، ولا فتنني بفراقك. فقلت لها: من هذا؟ فقالت: ابني، وهذه ابنة عمه، كان مسمى بها وهي صغيرة، فليلة زفت إليه أخذها وجع أتى على نفسها فقضت فانصدع قلب ابني فلحقت روحه روحها فدفنتهما في ساعة واحدة. فقلت: فمن كتب هذا على القبرين؟ قالت: أنا. قلت: وكيف؟ قالت: كان كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين فحفظتهما لكثرة تلاوته لهما، فقلت: ممن أنت؟ فقالت: فزارية. قلت: ومن قائلهما؟ قالت: كريم ابن كريم، سخي ابن سخي، شجاع ابن بطل، صاحب رئاسة. قلت: من؟ قالت: مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن يقولهما في امرأته حبيبة بنت أبي جندب الأنصاري. ثم قالت: (2/68) وهو الذي يقول: يا مُنزِلَ الغَيثَ بَعدَمَا قَنَطوا ... وَيا وَليَّ النّعماءِ وَالمِنَنِ يكونُ ما شِئتَ أنْ يكونَ وَما ... قدّرْتَ أن لا يكونَ لم يَكُنِ لوْ شِئتَ إذ كان حبُّها غَرضاً، ... لم تُرِني وَجههَا، وَلم تَرَني يا جارةَ الحَيّ كنتِ لي سَكَناً، ... إذ ليس بعضُ الجيرانِ بالسكنِ أذكرُ من جارَتي وَمَجلِسِها ... طَرَائِفاً من حَديثِها الحَسَنِ وَمن حَديثِ يَزِيدُني مِقَةً، ... ما لحَديثِ المَوْموقِ من ثَمَنِ قال: فكتبتها، ثم قامت مولية، فقالت: شغلتني عما إليه قصدت لتسكين ما بي من الأحزان. هذي الخدود وأنشدت لأبي الحسن علي بن عبد الرحمن الصقلي، وقد لقيت المذكور بالإسكندرية منذ خمس وعشرين سنة، ابتداء قصيدة له: هذي الخُدُودُ، وَهذه الحَدَقُ، ... فَلْيَدْنُ مَنْ بفُؤادِهِ يَثِقُ لَو أنّهُمْ عَشِقُوا لمَا عَذّلُوا، ... لكِنّهُمْ عَذَلُوا وَمَا عَشِقُوا عَنُفُوا عَليّ بِلَوْمِهِمْ سَفهاً، ... لوْ جُرّعوا كأسَ الهَوَى رَفِقوا ليسَ الفُؤادُ مَعي فأعلَمَ مَا ... قد نَالَ منه الشْوقُ وَالقَلَقُ مَا الحُبُّ إلاّ مَسلَكٌ خَطِرٌ، ... عَسرُ النّجاةِ، وَمَوْطئٌ زَلَقُ (2/69) المطبوع على الكرم أخبرنا أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله قراءة عليه وأنا أسمع، حدثنا أبو العباس أحمد بن منصور اليشكري، حدثنا أبو القاسم الصائغ، حدثني أسد بن خالد، حدثني قبيصة بن عمر بن حفص المهلبي عن أبي عبيدة النحوي قال: كنا نأتي رؤبة بن العجاج، فربما أعوزنا مطلبه فنطلبه في مظانه، وكان للحارث بن سليم الهجيمي، وهو أبو خالد بن الحارث، مجلس يؤلف، وكان رؤبة ربما أتاه، فطلبته يوماً، فأتيت مجلس الحارث، فتحدث القوم، وتحدث الحارث قال: شهدت مجلس أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، فأتى سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، فقال يا أمير المؤمنين! أتيتك مستعدياً. فقال: على من؟ قال: موسى شهوات. قال: وما له؟ قال: سمع بي، واستطال في عرضي، قال: يا غلام! علي بموسى! فأتي به، فقال أمير المؤمنين: سمعت به واستطلت في عرضه. قال: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين، ولكني مدحت ابن عمه، فغضب هو. قال: وما ذاك؟ قال: يا أمير المؤمنين علقت جاريةً لم تبلغ ثمنها جدتي، فأتيته، وهو صديقي، فشكوت ذلك إليه، فلم أصب عنده في ذلك شيئاً، فأتيت ابن عمه سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فشكوت إليه ما شكوت إلى ذلك. قال: تعود إلي، فتركته ثلاثاً ثم أتيته، فسهل من أمري، فما استقر المجلس حتى قال: يا غلام! قل لقيمي وديعتي! ففتح باباً بين بابين، فإذا أنا بجارية، فقال لي: هذه بغيتك؟ قلت: نعم! فداؤك أبي وأمي! قال: اجلس! يا غلام قل لقيمي ظبية نفقتي. فأتي بظبية فنثرت بين (2/70) يديه، فإذا فيها مائة دينار، وليس فيها غيرها، فردت في الظبية ثم قال: عتيدتي التي فيها طيبي! فأتي بها، فقال: ملحفة فراشي! فأتي بها، فصير ما في الظبية وما في العتيدة في حواشي الملحفة، وقال لي: شأنك بهواك، واستعن بهذا عليه. قال فقال أمير المؤمنين: فذاك حين تقول ماذا؟ فقال: أيا خالداً! أعني سعيدَ بنَ خالدٍ ... أخا العُرْفِ لا أعني ابنَ بنتِ سعيدِ وَلكِنّني أعني ابنَ عائِشَةَ الّذي ... أبُو أبَوَيْهِ خَالِدُ بنُ أَسيدِ عقيدُ الندى ما عاشَ يَرْضَى به الندى ... فإنْ ماتَ لم يرضَ النّدَى بعَقيدِ دَعوهُ دَعُوهُ إنّكم قد رَقَدتُمُ، ... وَما هوَ عن أحسابكمْ برَقُودِ قال: فقال: يا غلام علي بسعيد بن خالد! فأتي به، فقال: يا سعيد! أحق ما وصفك به موسى؟ قال: وما هو، يا أمير المؤمنين؟ فأعاد عليه، فقال: قد كان ذلك، يا أمير المؤمنين. قال: فما طوقك ذاك؟ قال: الكلف. قال: فما حملتك الكلف؟ قال: دين، والله يا أمير المؤمنين، ثلاثين ألف دينار، قال: قد أمرت لك بها وبمثلها وبمثلها، وثلث مثلها. فلقيت سعيد بن خالد، بعد حين، فأخذت بعنان دابته، فقلت: بأبي وأمي! ما فعل المال الذي أمر لك بن سليمان أمير المؤمنين. قال: ما علمك به؟ قال: كنت حاضر المجلس يومئذ. قال: والله ما استطعت أن أملك منه ديناراً ولا درهماً، قال: فما اغتاله؟ قال: خلةٌ من صديق أو فاقةٌ من ذي رحم. (2/71) نقش الشعر على الخواتم أنبأنا أبو الحسن علي بن عمر القزويني الزاهد، رحمه الله تعالى، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، أخبرنا عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية قال: نقشت مغنية على خاتمها: مَا أنصَفوا، حَجبوكَ أوْ حَجَبوني، ... مَهمَا أذَوْكَ، فبالأذَى طَلبوني قال ونقشت مغنية أخرى على خاتمها: أحببَتُ مَنْ يَهوَاني ... برُغمِ مَنْ يَنهَاني ونقشت أخرى على خاتمها: كَفَى بصَبٍّ عَشِقْ ... يَدعو بقَلبٍ حَنِقْ ونقشت أخرى: سَمَاجَةٌ بمُحِبٍّ خانَ عاشِقَهُ، ... ما خانَ قَطُّ محِبُّ يعرفُ الكَرَمَا ونقشت أخرى: قَلبانِ في خاتَمِ الهَوَى جُمِعَا، ... فأرْغَمَ اللهُ أنفَ مَنْ قَطَعَا ونقشت أخرى: يَا حَبيبي مِنْ شَقَائِي وَشُومي، ... أنتَ للنّاسِ جَميعاً حَبِيبُ ونقشت أخرى: أنا إن مُتُّ فالهوى داءُ قلبي، ... فبِداءِ الهَوَى يموتُ الكِرامُ ونقشت أخرى: تَمَنّيْتُ القِيَامَةَ لَيسَ إلاّ ... لألقَى مَن أُحِبّ على الصِّرَاطِ ونقشت أخرى: لا تُنكِرَنّ تَذَلّلي، ... فالحبّ يلعبُ بالكرَامْ (2/72) قلب على شعل أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله تعالى، لمحمد بن عون الكاتب: غَنِيَتُ بمِشيَتِها عَنِ الأغصَانِ، ... حَسنَاءُ يَلعَبُ حُبُّهَا بجَنَاني وَبَدَتْ تَفضّ العَتبَ عن خاتامِه، ... وَتَجُولُ فِيهِ بِناظِرٍ وَلِسَانِ رِفقاً بقَلبٍ قَلّ مَا قَلّبتِه ... إلاّ عَلى شُعَلٍ مِنَ النّيرَانِ صوني ما تبقى ولي ابتداء قصيدة: طَرَقَت بعدَ هَجعَةٍ أمُّ وَرْقَا، ... خَوْفَ وَاشٍ وَحَاسِدٍ يَتَوَقّى ثمّ فَضّتْ خَتْمَ العِتَابِ وَقَالتْ: ... أنتَ لوْ كنتَ عاشِقاً مُتَّ عِشقَا مِثلَ ما ماتَ مِنْ بَني عُذرَةَ كُلْ ... لُ صَحيحِ الهَوَى فغُودرَ مُلقَى قَتَلَ الحُبُّ قَيسَ لُبنى وَمجنُو ... نَ بَني عَامِرٍ وَأمرَضَ خَلقَا وَتَحَدّى كُثيّراً وَجَميلاً، ... وَلَقيَ مِنْهُ عُرْوَةُ كُلِّ مَلقَى قُلتُ: عِندي على هَوَاكِ شُهُودٌ: ... أدمُعٌ مُستَهلّةٌ، لَيسَ تَرْقَا وَسَلي عَنْ أضَالِعي زَفَرَاتٍ، ... ما تُلاقي مِنْ حَرّهنّ وَألقَى أنتِ ضَيّعتِ جُلَّ قَلْبيَ بالهَج ... رِ، فَصُوني بالوَصْلِ مَا قد تَبَقّى (2/73) المغنيات ونقشهن الشعر أخبرنا ابن القزويني، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: نقشت مغنية على خاتمها: الحُبُّ أسقَمَني، والحُبُّ أضْنَاني، ... وَالحُبُّ أنحلَني، وَالحُبُّ أبلاني ونقشت أخرى: فإنْ تَضرِبوا جَنبي وَظَهري كلَيهما، ... فَلَيسَ لِقَلبٍ بَينَ جَنْبيَّ ضَارِبُ ونقشت مذنب جارية الحسن بن علي على قميص لها: كأنّ رُوحي إذا ما غبتَ غائِبَةٌ، ... فإنْ تَعُدْ ليَ عَادَت لي إلى بدَني ونقشت أخرى: مَنْ صَحّحَ الحُبَّ لأحبابِهِ، ... أعَانَهُ اللهُ عَلى مَا بِهِ ونقشت مخارق جارية القطيني على جبينها: لا عَدِمتُ الهَوَى، وَلا من هَوِيتُ، ... وَبَقي مَنْ هَوِيتُ لي وَبَقِيتُ ؟ لا فرج الله عني وأخبرني أبو الحسن القزويني أيضاً إجازة، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: نقشت شبل، وكانت تعشق ناشئاً: لا فَرّجَ اللهُ عني إنْ مَدَدْتُ يدي ... إلَيْه أسألُهُ مِنْ حُبّهِ الفَرَجَا (2/74) أعرابي حذاء الكعبة أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سعيد، حدثنا الحسين بن القاسم، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثني ابن بكار قال: وحكى العذري، أخبرنا الحسن بن جعفر بن سليمان الضبعي قال: كنت لا أكاد أمر في طريق ولا في حاجة إلا ومعي ألواح، فحججت فرأيت أعرابياً تقدم حتى قام حذاء الكعبة ثم قال: تفهموا عني، واحفظوا مقالتي، ثم رفع صوته فقال: ألا يَا مَنْ لعَينٍ قَد عَصَتْني، ... وَقَلْبٍ قَدْ أبى إلاّ الحَنِينَا وَنَفسٍ لا تَزَالُ الدّهرَ تَهفُو ... كأنّ بها لِما تَهفُو جُنُونَا أُحِبُّ الغانياتِ، وَلَيسَ قَلبي ... بِسَالٍ مَا بَقيتُ وَما بَقينَا وَجُملٌ، ما علِمتُ، غَرِيمُ سوء، ... تُمَنّينَا وَتَمْطُلُنا الدّيُونا فرآني وأنا أكتب ما ينشد، ثم قلت له: ويحك! هذا هو الخسران المبين؛ أتفعل هذا في مثل هذا الموضع؟ قال: بل الخسران المبين ما أنت فيه؛ أنا معذور مسلوب العقل، جئت مستجيراً بربي لما أجد من قلبي، وأنت تكتب بلايا العاشقين مؤثراً لها في هذا الموضع، تنح عني لا قدس الله روحك! يموت بكل يوم أخبرنا أبو محمد الجوهري، رحمه الله تعالى قراءة عليه، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني إسحق بن محمد، حدثني أبو معاذ النميري قال: لقي مجنون بني عامر الأحوص بن محمد الأنصاري، فقال له: حدثني حديث عروة بن حزام! قال: فجعل الأحوص يحدثه وهو يسمع، حتى (2/75) فرغ من حديثه، فأنشأ المجنون يقول: عَجِبتُ لعُرْوَةَ العُذرِيِّ أمسَى ... أحَادِيثاً لِقَوْمٍ بَعدَ قَوْمِ وَعُرْوَةُ مَاتَ مَوْتاً مُستَرِيحاً، ... وَهَا أنا ذا أمُوتُ بكلّ يَوْمِ عفا الله عنها وبإسناده قال: أنشدنا محمد بن خلف، أنشدني القحذمي للمجنون: أقُولُ لإلفٍ ذاتَ يَوْمٍ لَقِيتُهُ ... بمكّةَ، وَالأنضَاءُ مُلقى حِبالُها برَبّكَ أخبرني ألَمْ تَأثَمِ التي ... أضرّ بجسمي من زَمانٍ خَيالُها؟ فقال: بلى وَالله سوْفَ يمَسُّهَا ... عَذابٌ وَبَلوَى في الحيَاةِ يَنالُها فقلتُ: وَلم أملِك سَوَابقَ عَبرَةٍ ... سَرِيعٍ على جيبِ القميص انهمالُها: عَفا اللهُ عنها ذَنبَها وَأقالَها، ... وَإن كان في الدّنيا قَليلاً نَوَالُها لا مات ولا عوفي أخبرنا الأمير السيد أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، حدثنا أحمد بن منصور اليشكري، حدثنا أبو بكر بن دريد، حدثنا الرياشي قال: قال عركن بن الجميح الأسدي: كان لي صديق من الحي، وكان شاباً جميلاً، يعشق ابنة عم له، وكانت له محبة، وكانت هيبة عمه تمنعه أن يخطبها إليه، فحجبت عنه، فكان يأتيني، فيشكو شوقه إليها، فما لبث أن مرض عمه مرضاً أشفى منه، فكان الفتى يدخل إليه، وابنته عند رأسه تمرضه، فيستشفي بالنظر إليها، ثم يخرج إلي مسروراً جذلاً، إلى أن برأ عمه فأنشأ يقول: (2/76) أبكي مِنَ الخَوْفِ أن يبرَا فَيحجُبَها ... وَلَستُ أبكي على عمّي من الجَزَعِ لا ماتَ عمّي وَلا عُوفي منَ الوَجَعِ ... وَعَاشَ ما عاشَ بينَ اليَأسِ وَالطَّمعِ فخطبت الجارية، فزوجها أبوها غيره، فجاءني الفتى، فقال: ودعني وداعاً لا نتلاقى بعده! فناشدته، فإذا الجزع قد حال دون فهمه، فقلت: فأين تذهب؟ فقال: اذهب ما وجدت أرضاً؛ ونهض، فكان آخر العهد به، وقد التمسه عمه في آفاق البلاد، فما قدر عليه ولم يطل عمر الجارية بعده. الموت في الحب جميل أنبأنا أبو الحسن علي بن عمر الحزبي، رحمه الله تعالى أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: نقشت كلثم على فص خاتمها: لا غفر من هجر. ونقشت خليدة الحيرية: الموت في الحب جميل. حبذا نجد أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، حدثنا محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: وذكر محمد بن حبيب عن هشام بن محمد الكلبي وغيث الباهلي وأبي عمرو الشيباني عن ابن دأب عن رياح، حدثني بعض المشايخ قال: خرجت حاجاً حتى إذا كنت بمنى إذا جماعة على جبل من تلك الجبال، فصعدت إليهم، فإذا معهم فتى أبيض حسن الوجه، وقد علاه اصفرار، وبدنه ناحل، وهم يمسكونه. قال: فسألتهم عنه، فقالوا: هذا قيس الذي يقال له المجنون، خرج به أبوه لما بلي به، يستجير له ببيت (2/77) الله الحرام، وقبر محمد، عليه الصلاة والسلام، فلعل الله يعافيه. قلت لهم: فما بالكم تمسكونه؟ قالوا: نخاف أن يجني على نفسه جناية تتلفه، قال: وهو يقول: دعوني أتنسم صبا نجد. فقال لي بعضهم: ليس يعرفك، فلو شئت دنوت منه، فأخبرته أنك قدمت من نجد وأخبرته عنها، قلت: نعم، أفعل، فدنوت منه. فقالوا له: يا قيس، هذا رجل قدم من نجد. قال: فتنفس حتى ظننت أن كبده قد تصدعت، ثم جعل يسائلني عن موضع فموضع وواد فواد، وأنا أخبره وهو يبكي، ثم أنشأ يقول: ألا حَبذَا نَجدٌ وَطيبُ تُرَابِهِ ... وَأرْوَاحِهِ إنْ كانَ نجدٌ على العَهدِ ألا لَيتَ شِعرِي! هل عُوَارَضَتي قَنَا ... بطُولِ اللّيالي قَدْ تَغَيَّرَتَا بَعدي وَعَنْ جارَتَينَا بالنَّثِيلِ إلى الحِمَى، ... على عَهدنا أم لم تَدومَا على العَهدِ وَعَن عَلَوِيّاتِ الرِّيَاحِ إذا جَرَتْ ... برِيحِ الخُزَامَى هل تَهُبُّ على نجدِ وَعَنْ أُقحُوانِ الرَّملِ مَا هُوَ صَانعٌ ... إذا هُوَ أثرَى لَيلَةً بثَرىً جَعْدِ ظبية بشاة أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، أخبرنا محمد بن خلف، أخبرني أبو بكر العامري عن عبد الله بن أبي كريم عن أبي عمرو الشيباني عن أبي بكر الوالبي قال: ذكروا أن المجنون برجلين قد صادا عنزاً من الظباء فلما نظر إليها دمعت عيناه وقال: يا هذان! خلياها، فأبيا عليه. فقال: لكما مكانها (2/78) شاة من غنمي. فقبلا ذلك منه، ودفعاها إليه، فأطلقها، ودفع إليهما الشاة، وأنشأ يقول: شَرَيتُ بكَبشٍ شِبهَ ليلى، فلو أبى ... لأعطَيتُ ما لي من طَرِيفٍ وَتَالِدِ فَيَا بائِعَيْ شِبْهٍ للَيلى هُبِلتُما، ... وَجُنّبتُمَا مَا نَالَهُ كُلّ عَائِدِ فَلَوْ كُنتُما حُرّينِ ما بِعتُما فتىً ... شَبيهاً للَيلى بَيعَةَ المُتَزَايِدِ وَأعتَقتُماهَا رَغبةً في ثَوَابِهَا، ... وَلم تَرْغَبا في ناقِصٍ غَيرِ زَائِدِ قتيل لا يودى ولي ابتداء قطعة: بَينَ الحَطيمِ وزَمزَمٍ، ... وَالحِجرِ وَالحَجَرِ المُقبَّلْ للعَاشِقينَ بَني الهَوَى ... أبداً مَصَارِعُ لَيسَ تُجهلْ كَمْ بالمُحَصَّبِ مِنْ عَلِي ... لِ هَوىً طرِيحٍ لا يُعَلَّلْ وَقَتيلِ بَيْنٍ بَينَ خَيْ ... فِ منى وَجمعٍ ليس يُعقَلْ سكينة تنقد الشعراء أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي بقراءتي عليه في المسجد الحرام بين باب بني شيبة وباب النبي تجاه الكعبة، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن لآل الهمذاني، حدثنا أحمد بن الحسين بن علي، حدثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك، حدثنا إسحق بن سيار، حدثنا الأصمعي عبد الملك بن قريب عن أبيه عن لبطة بن الفرزدق بن غالب قال: اجتمع أبي وجميل بن معمر العذري وجرير بن الخطفى ونصيب مولى عمر وكثير في موسم من المواسم، فقال بعضهم لبعض: والله لقد اجتمعنا (2/79) في هذا الموسم لأمر خير أو شر، وما ينبغي لنا أن نتفرق إلا وقد تتابع لنا في الناس شيء نذكر به، فقال جرير: هل لكم في سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، نقصدها، فنسلم عليها، فلعل ذلك يكون سبباً لبعض ما نريد؟ فقالوا: امضوا بنا، فمضينا إلى منزلها، فقرعنا الباب فخرجت إلينا جارية لها بريعة ظريفة، فأقرأها كل رجل منهم السلام باسمه ونسبه، فدخلت الجارية، وعادت فبلغتهم سلامها، ثم قالت أيكم الذي يقول: سَرَتِ الهُمُومُ فَبِتْنَ غَيرَ نِيامِ ... وَأخُو الهُمومِ يَرُومُ كلّ مَرَامِ عَفّتْ مَعَالمَها الرّوَاسِمُ بَعدَنَا، ... وَسجالُ كلّ مُجَلجلٍ سَجّامِ دَرَسَ المنَازِلُ بَعدَ مَنزِلَةِ اللّوَى ... وَالعَيشُ بَعدَ أُولَئِكَ الأيّامِ طرَقَتْكَ صَائدةُ القلوبِ وَليسَ ذا ... حينَ الزيّارَةِ فَارْجِعي بسَلامِ تُجرِي السّوَاكَ على أغرّ كأنّهُ ... بَرَدٌ تَحَدّرَ من مُتُونِ غَمَامِ لَوْ كنتِ صَادِقَةً بمَا حَدّثْتِنا ... لَوَصَلتِ ذاكَ وكانَ غيرَ تَمامِ قال جرير: أنا قلته. قالت: فما أحسنت ولا أجملت، ولا صنعت صنيع الحر الكريم، لا ستر الله عليك كما هتكت سترك وسترها، ما أنت بكلف ولا شريف حين رددتها بعد هدوء العين، وقد تجشمت إليك هول الليل. هلا قلت: طرَقتْك صَائدَةُ القَلوبِ فَمَرْحباً ... نَفسِي فِدَاؤكِ فَادْخُلي بِسَلامِ خذ هذه الخمسمائة درهم، فاستعن بها في سفرك. ثم انصرفت إلى مولاتها وقد أفحمتنا، وكل واحد من الباقين يتوقع ما (2/80) يخجله، ثم خرجت فقالت: أيكم الذي يقول: ألا حَبّذا البَيتُ الذي أنا هَاجِرُهْ ... فلا أنا ناسيه، وَلا أنا ذَاكِرُهْ فَبُورِكَ من بَيتٍ وَطَالَ نَعيمُهُ ... وَلا زالَ مَغشِيّاً وَخُلّدَ عامِرُه هوَ البيتُ بيتُ الطَّوْلِ وَالفضْلِ دائماً ... وَأسعَدَ رَبي جَدّ مَن هُوَ زَائرُهْ بهِ كلّ مَوْشيِّ الذّرَاعَينِ يَرْتَعي ... أُصُولَ الخُزَامَى ما تَيَقّنَ طائرُهْ هُمَا دَلّتاني مِنْ ثَمَانينَ قَامةً ... كما انقَضّ بازٍ أقتمُ الرّيشِ كاسرُهْ فلما استَوَتْ رِجلايَ في الأرْضِ قالتا: ... أحَيٌّ نُرَجّي أم قَتيلٌ نُحاذرُهْ فأصْبَحتُ في أهلٍ وَأصبَحَ قصرُها ... مُغَلّقَةً أبْوَابُهُ ودَسَاكِرُهْ فقال أبي، يعني الفرزدق: أنا قلته. قالت: ما وفقت ولا أصبت، أما أيست بتعريضك من عودة عندك محمودة؟ خذ هذه الستمائة، فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها، ثم عادت فقالت: أيكم الذي يقول: فَلَوْلا أنْ يُقَالَ صَبا نُصَيبٌ ... لَقُلتُ بِنَفسِيَ النّشءُ الصّغَارُ بِنَفسِي كُلّ مَهضُومٍ حَشاهَا، ... إذا ظُلِمَت فليسَ وَلها انتصَارُ فقال نصيب: أنا قلته. فقالت: أغزلت وأحسنت وكرمت، إلا أنك صبوت إلى الصغار، وتركت الناهضات بأحمالها. خذ هذه السبعمائة درهم، فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها، ثم عادت فقالت: أيكم الذي يقول: وَأعجَبَني يا عَزّ مِنك خلائقٌ ... كِرَامٌ إذا عُدّ الخلائِقُ أرْبَعُ دُنُوُّكِ حتى يذكرَ الجاهلُ الصّبي ... وَمدّكِ أسبابَ الهوَى حينَ يَطمعُ وَأنّكَ لا يدرِي غَرِيمٌ مطلتهِ، ... أيَشتدّ إن لاقاكِ أمْ يَتَضرّعُ وَأنّكَ إن وَاصَلتِ أعلمتِ بالذي ... لديك فلم يوجَد لك الدهرَ مطمعُ (2/81) قال كثير: أنا قلته. قالت: أغزلت وأحسنت. خذ هذه الثمانمائة درهم، فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها، وخرجت فقالت: أيكم يقول: لكلّ حَدِيثٍ بَينَهُنّ بَشَاشَةٌ، ... وَكُلّ قَتيلٍ بَينَهُنّ شَهِيدُ يَقولونَ جاهِد يا جَميلُ بغَزْوَةٍ، ... وَأيّ جِهَادٍ غَيرَهُنّ أُرِيدُ وَأفضَلُ أيّامي وَأفضَلُ مَشهدِي، ... إذْ هِيجَ بي يوماً وَهنّ قُعُودُ فقال جميل: أنا قلته. قالت: أغزلت وكرمت وعففت، ادخل. قال: فلما دخلت سلمت، فقالت لي سكينة: أنت الذي جعلت قتيلنا شهيداً. وحديثنا بشاشة، وأفضل أيامك يوم تنوب فيه عنا، وتدافع، ولم تتعد ذلك إلى قبيح خذ هذه الألف درهم وابسط لنا العذر، أنت أشعرهم. سكينة والفرزدق وأخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي أيضاً بالمسجد الحرام، قال: أخبرنا أبو أحمد بن لآل الهمذاني قال: حدثنا أبو بكر بن أحمد الأخباري وأحمد بن الحسين قالا: حدثنا حامد بن حماد، حدثنا إسحق بن سيار، حدثنا الأصمعي، حدثنا جهضم بن سالم: بلغني أن الفرزدق بن غالب خرج حاجاً، فمر بالمدينة ودخل على سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب مسلماً عليها، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: ليس كما قلت، أشعر منك الذي يقول: بِنَفسِيَ مَن تَجَنّيهِ عَزيزٌ ... عليَّ، وَمَن زِيَارَتُهُ لمَامُ وَمَن أُمسِي وَأُصْبحُ لا أرَاهُ ... ويَطَرُقني إذا هَجَعَ النِّيَامُ (2/82) فقال: والله لئن آذنتني لأسمعنك من شعري ما هو أحسن من هذا. فقالت: أقيموه، فخرج. فلما كان من الغد، عاد إليها، فقالت: يا فرزدق! من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: ليس كما قلت؛ أشعر منك الذي يقول: لَولا الحَيَاءُ لهَاجَني اسِتعبَارُ، ... وَلَزُرْتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزَارُ كانَتْ إذا هَجَرَ الضَّجيعُ فرَاشَها ... خُزِنَ الحَديثُ وَعفَّتِ الأسرَارُ لا يُلبِثُ القُرَنَاءَ أنْ يَتَفَرَّقُوا ... لَيلٌ يَكُرُّ عَلَيهِمُ وَنَهَارُ قال: والله لئن أذنت لي لأسمعنك من شعري ما هو أحسن من هذا، فأمرت به، فأخرج. فلما كان الغد غدا عليها، وحولها جوار مولدات، عن يمينها وعن شمالها، كأنهن التماثيل، فنظر الفرزدق واحدة منهن، كأنها ظبية أدماء، فمات عشقاً لها، وجنوناً بها، فقالت: يا فرزدق! من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: ليس كذلك؛ أشعر منك الذي يقول: إنَّ العُيونَ التي في طَرْفها مَرَضٌ ... قَتَلْنَنَا ثمّ لَمْ يُحيِينَ قَتْلانَا يصرَعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حرَاكَ به ... وَهُنَّ أضْعَفُ خَلْقِ اللهِ أرْكَانَا فقال: يا ابنة رسول الله! إن لي عليك حقاً عظيماً لموالاتي لك ولآبائك، وإني سرت إليك من مكة قاصداً لك إرادة التسليم عليك، فلقيت في مدخلي إليك من التكذيب لي والتعنيف، ومنعك إياي أن أسمعك من شعري ما قطع ظهري وعيل صبري به، والمنايا تغدو وتروح، ولا أدري لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإذا مت فمري من يدفنني في درع هذه الجارية، وأومأ إلى الجارية التي كلف بها، فضحكت سكينة حتى كادت تخرج من بردها، ثم أمرت له بألف درهم وكسى وطيب وبالجارية بجميع آلتها، وقالت: يا أبا فراس! إنما أنت واحد منا أهل البيت، لا يسؤك ما جرى. خذ ما أمرنا لك به، بارك الله لك فيه، وأحسن إلى (2/83) الجارية، وأكرم صحبتها؛ وأمرت الجواري، فدفعن في ظهورهما، فقال الفرزدق، فلم أزل والله أرى البركة بدعائها في نفسي وأهلي ومالي. سكينة وقبلة عزة وبإسناده، حدثنا حامد بن حماد، حدثنا إسحق بن سيار، حدثنا الأصمعي، حدثنا سفيان بن عيينة قال: دخلت عزة على سكينة بنت الحسين بن علي، ذات يوم، فقالت: يا عزة، أرأيتك إن سألتك عن شيء هل تصدقينني؟ قالت: نعم! قالت: ما عنى كثير بقوله: قضَى كلُّ دَينٍ فَوَفّى غَرِيمَه ... وَعَزَّةُ مَمطُولٌ معنّى غرِيمُها فتحايت، وقالت: فداؤك أبي! إن رأيت أن تعفيني. فقالت: لا أعفيك بل أعزم عليك. قالت: كنت وعدته بقبة، قالت: أنجزيها له وعلي إثمها. شهادة قبل عيان أنشدني أبو محمد الحسن بن محمد الخلال من حفظه ولم يسم القائل: يا قُبلَةً شَهِدَ الضّميرُ لهَا ... قبلَ المَذاقِ بأنَها عَذبُ كَشَهَادَةٍ للهِ خَالِصَةٍ ... قَبلَ العِيانُ بأنّهُ الرَّبُّ (2/84) في أثواب العفاف ولي من نسب قصيدة مدحت بها أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله أولها: كَمْ لا تَزَالُ تُسائِلُ الأطْلالا، ... يَصِلُ الغدُوَّ وُقُوفُكَ الآصَالا رَحَلوا وَفي الأحداجِ غزْلانُ النَّقا ... مُتكَنّسِينَ أكِلَّةً وَحِجَالا من كلّ ذاتِ لمىً شَهِيٍّ بَارِدٍ، ... يَرْوِي الصّوَادِي رَائِقاً سَلْسَالا طَرَقَتْ فَنَمَّ الحَلْيُ في وَسوَاسِهِ ... بِمَزَارِهَا مِعطَارَةً مِكْسَالا وَتَضَوَّعَ النّادي بفَائِحِ طِيبِها ... نشراً فقال رَقِيبنَا مَا قَالا لمّا سَرَتْ وَهْناً، وَخافَت كاشحاً، ... جَرَّتْ عَلى آثَارِهَا أذْيَالا حَسناءُ لوْ عَرَضَتْ لأشمطَ رَاهبٍ ... هَجَرَ الأنيسَ وَبتَّ منه حِبَالا لَصبَا وَفَارَقَ دَبرَهُ وتَغَيَّرَتْ ... أحوَالُهُ لِجمَالِهَا أحوَالا عُلِّقتُهَا من قَبلِ طَرْحِ تَمائِمي ... عَني، وأُقسِمُ، حُبُّها لا زَالا بِتنَا، وَأثوَابُ العَفافِ تَضُمُّنَا، ... تَشكُو وَأشكُو في الهَوَى الأهوَالا وَجَعَلتُ أُذكِرُهَا لَياليَ وَصْلِنا، ... وَأقُولُ، لوْ رَفَعَتْ بقَوْلي بَالا: أنَسيتِ مَوْقِفنَا بِجَوّ سُوَيقَةٍ ... مُتَفَيِّئينَ بِهِ الغَضَا وَالضّالا أيّامَ لا أخشَى من البِيضِ الدُّمَى ... ليَّ الدُّيُونِ وَلا أخافُ مَطَالا (2/85) ليلى المريضة وأخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا محمد بن العباس، أخبرنا محمد بن خلف قال: قال رباح بن حبيب: حدثني بعض بني عامر أن رجلاً أتى يوماً بعد تزويج ليلى وذهاب عقل قيس، فسأل عن المجنون، فقيل له: ما تريد منه؟ فقال: أريد أن أنظر إليه وأخبره بخبر، فقيل له: أخبرنا نحن بما عندك، فإنه لا يفهم منك ما تقول، قال: دلوني عليه، على كل حال. قال: فبعثوا معه برجل، فلم يزل يطلبه حتى وجده، فقال له الرجل: أتحب ليلى؟ قال: نعم! قال: فما يغني حبك عنها، وهي مريضة لا تأتيها، ولا تسأل عنها؟ قال: فشهق شهقة ظننت أن روحه قد فارقت بدنه، ثم رفع رأسه، وهو يقول: يَقولونَ لَيلى بالصِّفاحِ مَرِيضَةٌ ... فماذا إذاً تُغني وَأنتَ صَديقُ شَفَى اللهُ مَرْضَى بالصِّفاحِ فإنّني ... عَلى كلِّ شاكٍ بالصِّفاحِ شَفيقُ خشوع المذنب المتنصل أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن العلاف الواعظ بقراءتي عليه، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين الواعظ، حدثنا جعفر بن محمد الصوفي، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق، حدثنا القاسم بن الحسن، حدثنا محمد بن سلام، حدثنا خلاد بن يزيد الأرقط، حدثني مغلس بن بكر الأسدي قال: كان في بني أسد شاب لا يكاد يكلم أحداً كأنه معتوه، فسمعته ينشد أبياتاً، فعلمت أنه مشغول عن كلام الناس ببثه، فسمعته يقول: وَصَلتُ، فلمّا أرَ الوَصْلَ نافعي، ... وَقَرَّبتُ قُرْباناً، فلمُ يُتَقَبَّلِ (2/86) وَعَذّبتُ قلبي بالتجَلَّدِ صَابياً ... إليكِ، وَإن لم يَصْفُ عندك مَنهَلي وَلمّا نَقَلتُ الدَّمعَ عَنْ مُسْتَقَرِّهِ ... إلى ساحَةِ من خَدِّ حَرّانَ مُعوِلِ وَأظلَمَتِ الدّنيَا عليَّ برَحبِها، ... وقَلقَلَني الهِجرَانُ كلَّ مُقَلقَلِ عَتبتُ على نَفسِي وَأقلَعتُ تائِباً، ... إليكِ، خشوعَ المُذنِبِ المُتَنَصّلِ فمَا زَادَني إلاّ صُدُوداً وَهِجرَةً ... وَقد كنتُ عن دارِ الهَوَانِ بمعزَلِ فَوَاللهِ ما أدرِي، فأشكُرُ عَامِداً ... لآخرَ، مَا أوْلَيتني أوْ لأوَّلِ فدنوت منه، ورفقت به، وسألته أن يخبرني بقصته، فأبى، وقال: إليك عني، اشتغل بنفسك، فإن لك فيها شغلاً، ولم يعلم أحداً حاله حتى قضى. الحب يتنفس ويتكلم أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، أنبأنا محمد بن خلف بن المرزبان أنشدنا عبد الله بن شبيب لبعضهم: وَمَا زَالَ يَشكو الحبَّ حتى سمعتُه ... تَنَفَّسَ في أحشَائِهِ وتَكَلَّمَا وَيَبكي فأبكي رَحمةً لبُكَائِهِ، ... إذا ما بَكَى دَمعاً بَكيتُ له دَمَا (2/87) عبرى مولهة وأخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، حدثنا الرياشي، حدثنا الأصمعي قال: مررت أنا وصاحب لي بجارية عند قبر، لم أر أحسن ولا أجمل منها، وعليها ثياب نظيفة وحلي كثير، وهي تبكي على القبر، فلم نزل نتعجب من جمالها وزينتها وحزنها، فقلت: يا هذه! علام هذا الحزن الشديد؟ فبكت، ثم أنشأت تقول: فَلا تَسألاني فيمَ حُزْني، فإنّني ... رَهينَةُ هّذا القَبرِ يَا فَتَيانِ وَإني لأستَحييهِ وَالتُّرْبُ بَينَنَا، ... كما كنتُ أستَحييهِ حينَ يَرَاني فعجبنا منها ومن ظرفها وجمالها، واستحيينا منها، فتقدمنا قليلاً، ثم جلسنا نسمع ما تقول، ولا ترانا، ولا تعلم بنا، فسمعناها تقول: يا صَاحبَ القبرِ يا من كان يؤنسني ... وكانَ يُكثِرُ في الدُّنيا مُؤاتَاتي قد زُرتُ قبرَك في حَلْيي وَفي حُللي ... كأنّني لَستُ من أهلِ المُصيباتِ لزمتُ ما كنتَ تَهوَى أن تَرَاهُ وَما ... قد كنتَ تَألَفُه من كلِّ هيئاتي فَمنْ رآني رأى عَبْرَى مُوَلَّهَةً، ... مَشهورَةَ الزِّيِّ تَبكي بينَ أموَاتِ فلم نزل قعوداً حتى انصرفت واتبعناها، حتى عرفنا موضعها، ومن هي، فلما خرجت إلى هارون الرشيد قال لي: يا أصمعي! ما أعجب ما رأيت بالبصرة؟ فأخبرته خبرها، فكتب إلى صاحب البصرة أن يمهرها عشرة آلاف وتجهز وتحمل إليه، فحملت إلى هارون، وقد سقمت حزناً على الميت، فلما وصلت إلى المداين ماتت، فقلما ذكرها هارون إلا دمعت عيناه. (2/88) شن بال أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الواعظ، رحمه الله تعالى، حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان المروروذي، حدثنا أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي، حدثنا أبو محمد عبد الصمد الصوفي، حدثنا علي بن سياخف، وكان من ظرفاء الصوفية ونساكهم، قال: قال لي أبو الجعد السائح: رأيت رجلاً حسن الوجه، كأنه الشن البالي بجبال لبنان، وعليه خرقة، وما معه شيء، ولا عليه غير تلك الخرقة، فسمعته يقول: شِدَّةُ الشّوْقِ وَالهَوَى ... تَرَكاني كمَا تَرَى حزن شديد أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد العباس بن حيويه الخزاز، حدثنا محمد بن خلف قال: روى هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: استعمل مروان بن الحكم رجلاً من قريش يقال له: محمد بن عبد الرحمن، على صدقات كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فسمع بخبر المجنون، فأمر أن يؤتى به، فسأله عن حاله، فأخبره، وأنشده شعره، فأعجب به، وقال له: الزمني، ووعده أن يعمل له في أمر ليلى، فكان يأتيه في بعض الأوقات، فيتحدث عنده. وكان لبني عامر مجتمع يجتمعون إليه في كل سنة مرة، فيأكلون ويشربون يومهم؛ وكان الوالي يخرج إليهم، فيكون معهم في ذلك المجتمع لئلا يكون بينهم شر أو قتل، فحضر ذلك اليوم، فقال المجنون للوالي: أتأذن لي في (2/89) الخروج معك إلى هذا المجتمع؟ فقال له: نعم. فقيل له: إنما سألك أن يخرج معك ليرى ليلى، وقد استعدى أهلها عليه، فأهدر السلطان دمع إن أتاهم، فلما سمع ذلك منعه من الخروج معه، وأمر له بقلائص من قلائص الصدقة فأبى أن يقبلها وقال: رَدَدتُ قَلائصَ القُرَشي لمّا ... أتَاني النَّقضُ مِنهُ العُهودِ وَرَاحُوا مُقْصِرِينَ وَخَلَّفونِي ... إلى حُزْنٍ، أُعالجهُ، شَديدِ ؟ شوق ووجد أخبرنا التنوخي، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف قال: وأنشدني أبو علي البلدي الشاعر للمجنون: مِنْ نَزَحَتْ دَارٌ بِلَيْلَى لَرُبّمَا ... غَنِينَا بخَيرٍ، وَالزَّمَانُ جَميعُ وَفي النّفسِ من شَوْقٍ إلَيكِ حَزَازَةٌ، ... وَفي القَلبِ من وَجدٍ عَليكَ صُدوعُ المجنون وولي الصدقات وأخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، حدثني محمد بن إسحق، حدثني ابن عائشة عن أبيه قال: ولي نوفل بن مساحق صدقات كعب بن ربيعة، فنزل بمجمع من تلك المجامع، فرأى قيس بن معاذ المجنون، وهو يلعب بالتراب، فدنا منه، فكلمه وجعل يجيبه بخلاف ما يسأله عنه، فقال له رجل من أهله: إن أردت (2/90) أن يكلمك كلاماً صحيحاً، فاذكر له ليلى، فقال له نوفل: أتحب ليلى؟ قال: نعم! قال: فحدثني حديثك معها! قال: فجعل ينشده شعره فيها، ويقول: وَشُغِلتُ عن فَهمِ الحَديثِ سوَى ... ما كانَ فيكِ، وَأنتمُ شُغلي وَأُدِيمُ نَحْوَ مُحَدِّثي لِيَرَى ... أنْ قد فَهِمتُ، وَعِندكُم عَقلي وأنشد أيضاً: سَرَتْ في سَوَادِ القَلبِ حتى إذا انتهَى ... بها السَّيرُ وَارْتادت حِمى القلبِ حلَّتِ فلِلعَينِ تَهمالٌ إذا القَلبُ مَلَّهَا، ... وَللقَلبِ وَسوَاسٌ إذا العَينُ مَلَّتِ وَوَاللهِ ما في القلبِ شيءٌ من الهَوَى ... لأخرَى سِواهَا أكثرَتْ أمْ أقَلَّتِ وأنشد أيضاً: ذكَرْتُ عَشِيَّةَ الصّدَفَيْنِ لَيلى، ... وكلّ الدَّهرِ ذِكرَاهَا جَدِيدُ عليَّ ألِيَّةٌ إنْ كُنتُ أدْرِي ... أيَنقُصُ حبُّ لَيلى أمْ يَزيدُ فلما رأى نوفل ذلك منه أدخله بيتاً، وقيده، وقال: أعالجه، فأكل لحم ذراعيه وكفيه، فحله، وأخرجه، فكان يأوي مع الوحوش، وكانت له داية ربته صغيراً فكان لا يألف غيرها، ولا يقرب منه أحد سواها، فكانت تخرج في طلبه في البادية وتحمل له الخبز والماء، فربما أكل بعضه، وربما لم يأكل، فلم يزل على ذلك حتى مات. (2/91) دية فاسق وجدت بخط أبي عمر بن حيويه ونقلته من كتابه، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدثني محمد بن سلمة الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا شعبة بن الحجاج عن الحكم: أن رجلاً كان يدخل على امرأة رجل من جيرانه، فنهاه زوجها عن الدخول عليها، وأشهد عليه، فلم ينته، ثم رآه بعد ذلك في بيته، فقتله، فرفع إلى مصعب بن الزبير، فقال: لولا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودى مثل هذا ما وديته. ثم وداه. أبو عيشونة الشاعر أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن علي الوراق، رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه، حدثنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون، حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم إملاء، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن محمد بن عجلان بسر من رأى قال: خرجت مرة من المرار إلى مدينة السلام، فدعاني صديق لي ينزل الدور، فأقمت عنده، ثم انصرفت إلى منزلي في ليلة مقمرة، فبينما أنا أنزل شارع دار الرقيق، رأيت شيخاً قصيراً أصلع متشحاً بإزار أحمر، وبيده سكين خوصية، وهو يقول: عِشرُونَ ألفَ فَتَىً مَا مِنهُمُ رَجُلٌ ... إلاّ كألفِ فَتىً مِقدامَةٍ بَطَلِ أضْحَتْ مَزَاوِدهُم مَملُوءةً أمَلاً ... فَفَرَّغُوها، وَأوْكَوْهَا على الأجل فقلت لهم: أحسنت، فقصد إلي، وقال لي: لبيك، أتريد رقيقةً؟ (2/92) قلت: نعم! فقال: إنّمَا هَيَّجَ البَلا، ... حِينَ عَض السفَرْجَلا وَلَقَدْ قَامَ لحظُهُ ... لي على القَلْبِ بالغَلا فقلت له: أبو من شيخنا؟ فقال: أبو عيشونة الخياط من أهل مربعة حرب، قد خرجت الفتيان الكبار، وصغا من يدي كل شاطر كان في هذا الصقع، وشهدت حروب محمد كلها وعمرت تلك الدار منذ عشرين سنة؛ وأشار بيده إلى سجن الشام، وأنا الذي أقول: لي فُؤادٌ مُستَهَامُ، ... وَجُفُونٌ مَا تَنَامُ وَدُمُوعٌ أبَدَ الدَّهْ ... رِ عَلى خَدِّي سِجَامُ وَحَبيبٌ كُلّمَا خا ... طَبْتُهُ قَالَ: سَلامُ فإذا ما قُلتُ: زُرْني! ... قَالَ لي: ذاكَ حَرَامُ ثم انثنى عني ناحيةً، وهو يقول: مُؤرَّقٌ في سُهْدِهِ، ... مُسَهَّدٌ في كَمَدِهْ خَلا بِهِ السُّقْمُ، فَمَا ... أسرَعَهُ في جَسَدِهْ يَرْحَمُهُ مِمّا بِهِ ... مَنْ ضَرِّهِ ذُو حَسَدِهْ كَأنَّ أطرَافَ المِدَى ... يَجرَحْنَ أعلى كَبِدِهْ (2/93) مجنون بين قبرين أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، بقراءتي عليه، حدثنا أبو الفتح يوسف بن عمر القواس الزاهد، حدثنا محمد بن عمرو البختري الرزاز إملاء، أنبأني محمد بن معاوية الزيادي قال: رأيت مجنوناً يختلف بين قبرين، وهو يقول: وَصَفَ الطَّبيبُ، فهم بِما ... وَصَفَ الطّبيبُ يُعالجونَهْ يَرْجُونَ صِحّةَ جِسْمِهِ، ... هَيهَاتَ مِمّا يَرتَجُونَهْ قاتل أبيه حدثنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر المؤدب من لفظه وكتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس، رحمه الله تعالى: أن أبا عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن الناصر، وهو المعروف بالمطلق من بني أمية، كان يعشق جارية كان أبوه قد رباها معه، وذكرها له، ثم بدا له، فاستأثر بها، وخلا معها، فيقال: إنه اشتدت غيرته لذلك وانتضى سيفاً وتغفل أباه في بعض خلواته ليلاً، فقتله، وعثر على ذلك، فحبسه المنصور محمد بن أبي عامر سنين، وقال في السجن أشعاراً رائقةً، ثم أطلق فلقب بالمطلق، ويقال: إنه من ذلك اعتراه الجنون، وكان يصرع. (2/94) ماني الموسوس والماجنة أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الحسن البصري بتنيس، رحمه الله تعالى، حدثنا محمد بن الحسين البغدادي، حدثنا محمد بن الحسن بن الفضل، حدثني ابن الأنباري أبو بكر، حدثني محمد بن المرزبان، حدثني أبو حفص عمر بن علي قال: كنت عند بعض إخواني، فبينا نحن على شرابنا وقينة تغنينا، إذ استأذن ماني الموسوس، فدخل، فأتي بطعام، فأكل، وسقيناه، فشرب، فحانت من بعضنا التفاتةٌ، فبصر به وقد أخرج رقعةً من جيبه، فقرأها، ثم طواها، وقبلها ووضعها على عينه، ثم ردها إلى جيبه، فقلنا: إن لهذه الرقعة لشأناً، فلاطفناه، فأخذناها، فإذا هي رقعة من ماجنة من مواجن الكرخ، قد كتبت إليه تصف شغفها به، وأنها على حال التلف، وتطالبه بالجواب، فلما طلب الرقعة في جيبه فلم يجدها هاج وقام، وقال: أين رقعتي؟ فلم نزل نسكته، حتى جلس، فأنشأ يقول: وَعَاشِقٍ جَاءَهُ كِتَابُ، ... فَزَالَ عَنْهُ بهِ العَذابُ وَقَالَ: قَد خَصَّني حَبيبي ... بِنعمةٍ مَا لَها ثَوَابُ فَحُقَّ لي أن أتِيهَ تِيهاً، ... يَقصرُ عَن وَصْفِهِ الخِطابُ حَتى رَمَتهُ بِصَرْفِ دَهرٍ ... عُيُونُ حُسّادِهِ الصِّلابُ فَاستَلَّ مِنهُ الكِتابَ وَاشٍ ... بِحيلَةٍ شَأنُهَا عِجَابُ فَليَسَ يَهنيهِ طِيبُ عَيش ... وَلا طَعَامٌ وَلا شَرَابُ ثم هاج، وقام، وحلف أن لا يجلس. (2/95) غريب يبسط عذره وجدت بخط في مجموع عتيق يقول: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يزيد الوراق، حدثني عمي قال: سافرت في طلب العلم والحديث، فلم أدع بخراسان بلداً إلا دخلته، فلما أن دخلنا سمرقند، رأيت بلداً حسناً أعجبني، وتمنيت أن يكون مقامي فيه بقية عمري، وأقمنا فيه أياماً، وعاشرت من أهله جماعة، فحدثني بعضهم قال: ورد إلينا فتىً من أهل بغداد حسن الوجه، ولم يزل مقيماً عندنا دهراً، وكان أديباً، ثم إنه أثرى وحسنت حاله، فارتحل مع الحاج إلى العراق، وكان هوي فتىً من أولاد الفقهاء وله معه مواقف وأقاصيص، وله فيه أيضاً أشعار كثيرة، يحفظها أهل البلد، فخرج يوماً معه إلى البستان للنزهة، وأقاما يومهما، فخرجت في غد ذلك اليوم، واجتزت بالبستان، فدخلته، فإني لأطوفه إذ قرأت على حائط مجلس مكتوباً فيه: لمْ يَخِبْ سَعيي وَلا سَفَرِي، ... حِينَ نِلْتُ الحَظّ مِنْ وَطَرِي في قَضِيبِ البَانِ في مَيَلٍ، ... وَشَبِيهِ الشّمسِ وَالقَمَرِ لَستُ أنسَى يَوْمَنَا أبَداً، ... بِفَنا البُسْتَانِ وَالنَّهَرِ في رِياضٍ وَسْطَ دَسْكَرَةٍ، ... وبِسَاطٍ حُفّ بالشّجَرِ وأبو نَصرٍ يُعَانِقُني، ... طَافِحاً سُكْراً إلى السَّحَرِ غيرَ أنّ الدّهرَ فَرّقَنَا، ... وكذا مِنْ عادة القَدَرِ وتحته مكتوب: الغريب يبسط العذر بالقول والفعل لاطراحه المراقبة وأمنه في هفواته من المعاتبة. (2/96) الشيطان واستراق السمع من السماء أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، رحمه الله تعالى، قراءة عليه سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، أخبرنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا عبد العزيز بن معاوية أبو خالد، حدثنا أبو حفص بن عمر أبو عمر الضرير، حدثنا حماد بن سلمة أن داود بن أبي هند أخبرهم عن سماك بن حرب عن جرير بن عبد الله البجلي قال: إني لفي تستر في طريق من طرقها، زمن فتحت، إذ قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون، قال: فسمعني هربذ من تلك الهرابذة، فقال: ما سمعت هذا الكلام من أحد منذ سمعته من السماء، فقلت له: وكيف ذلك؟ قال: إنه كان رجل، يعني نفسه، وإنه وفد عاماً على كسرى بن هرمز، قال: فخلفه في أهله شيطان تصور على صورته، فلما قدم، لم يهش إليه أهله، كما يهش أهل الغائب إلى غائبهم إذا قدم، فقال لهم: ما شأنكم؟ قالوا: إنك لم تغب. قال: وظهر له الشيطان فقال: اختر أن يكون لك منها يوم، ولي يوم، وإلا أهلكتك، فاختار أن يكون له يوم، وله يوم، فأتاه يوماً فقال: إني ممن يسترق السمع، وإن استراق السمع بيننا نوب، وإن نوبتي الليلة، فهل لك أن تجيء معنا؟ قلت نعم. فلما أمسى أتاني فحملني على ظهره، فإذا له معرفة كمعرفة الخنزير، فقال: لا تفارقني، فتهلك. قال: ثم عرجوا حتى لصقوا بالسماء، فسمعت قائلاً يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون. قال: فلبج، ووجم، فوقعوا من وراء العمران في (2/97) غياض الشجر، فلما أصبحت رجعت إلى منزلي، وقد حفظت الكلمات، فكان إذا جاء قلتهن، فيضطرب، حتى تخرج من كوة البيت، فلم أزل أقولهن حتى ذهب عني. تصرعه الجنية ذكر محمد بن سعيد التيمي قال: رأيت جارية سوداء في بعض مدن الشام، وبيدها خوص تسفه، وهي تقول: لَكَ عِلمٌ بما يَجُنُّ فُؤادِي، ... فارْحَمِ اليومَ ذِلّتي وَانفرادي فقلت: يا سوداء! ما علامة المحب؟ وإذا رجل قد صرع بالقرب منها، فنظرت إلي وإلي الرجل، وقالت: يا بطال! علامة المحب الصادق لله في حبه أن يقول لهذا المجنون: قم، فيقوم، فإذا الرجل قد قام، وإذا الجنية تقول لها على لسانه: وحق صدق حبك لربك لا رجعت إليه أبداً. الجني العاشق أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه، حدثنا أبو الحسن أحمد بن عمران الجندي، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا الوليد بن طلحة، حدثنا ابن وهب عن عمر بن محمد عن سالم يعني ابن عبد الله بن عمر، أخبرني واقد أخي أن جنياً عشق جاريةً لا أعلمه إلا قال: منهم أو من آل عمر، قال: وإذا في دارهم ديك. قال: فكلما جاءها صاح الديك، فهرب، (2/98) فتمثل في صورة إنسان، ثم خرج حتى لقي شيطاناً من الإنس، فقال: اذهب فاشتر لي ديك بني فلان بأي ثمن كان، فأتني به في مكان كذا؛ فذهب الرجل فأغلى لهم في الديك، فباعوه، فلما رآه الديك صاح، فهرب، وهو يقول: اخنقه، فخنقه حتى صرع الديك، فجاءه فحك رأسه، فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى صرعت الجارية. مس الإنسي كمس الجني أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي، رحمه الله تعالى، سمعت أبا الحسن الجهضمي الهمذاني بمكة يقول في المسجد الحرام: سمعت الخالدي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: إذا تمكن الذكر في القلب، وقوي سلطانه، فلا يأمنه العدو، ويصرع به كما يصرع الإنسي إذا مسه الجني، فتمر به الجن فيقولون: ما بال هذا؟ فيقال مسه الإنسي. عفا الله عن ليلى أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف قال: وقال العمري عن عطاء بن مصعب: خرج المجنون مع قوم في سفر، فبينا هم يسيرون إذا اتسعت لهم طريق إلى الماء الذي كانت عليه ليلى، فقال المجنون لأصحابه: إن رأيتم أن تحطوا وترعوا وتنتظروني حتى آتي الماء؟ فأبوا عليه، وعذلوه، فقال لهم: أنشدكم الله لو أن رجلاً صحبكم، وتحرم بكم، فأضل بعيره، أكنتم مقيمين عليه يوماً حتى يطلب بعيره؟ قالوا: نعم! قال: فوالله لليلى (2/99) أعظم حرمةً من البعير، وأنشأ يقول: أأترُكُ لَيلى لَيسَ بَيني وَبَينهَا ... سِوَى لَيلَةٍ، إني إذاً لَصَبُورُ هَبوني امرَأً مِنكُم أضَلَّ بَعيرَهُ ... لَهُ ذِمّةٌ، إنّ الذِّمَامَ كَبيرُ وَللصّاحبُ المَتروكُ أعظمُ حُرْمَةً ... عَلى صَاحبٍ من أنْ يَضِلَّ بَعِيرُ عَفَا اللهُ عَن لَيلى، الغَداةَ، فإنّها ... إذا وَلِيَتْ حُكْماً عَليَّ تَجُورُ قال: فأقاموا عليه حتى مضى ورجع. الحب المجرم ذكر أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، أخبرنا الفضل بن محمد العلاف قال: لما قدم بغا ببني نمير أسرى كنت كثيراً ما أصير إليهم، فلا أعدم أن ألقى منهم الفصيح، فجئتهم، ذات يوم، في صبيحة ليلة، قد كانوا مطروا فيها، وإذا شاب جميل قد نهكه المرض وليس به حراك وهو ينشد: ألا يا سنَا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمَى، ... لهَنَّكَ من بَرْقٍ عليَّ كَرِيمُ لَمعتَ اقتداءَ الطيرٍ، وَالقوْمُ هُجّعٌ، ... فَهَيَّجتَ أحَزاناً، وَأنتَ سَليمُ فَبِتُّ بحَدِّ المِرْفَقَينِ أشِيمُهُ، ... كَأني لبَرْقٍ بالسّتَارِ حَميمُ فهلْ من مُعيرٍ طَرْفَ عَينٍ خَليَّةٍ؟ ... فإنسَانُ عَينِ العَامِرِيِّ كَليمُ (2/100) رَمَى قَلبَهُ البرْقُ المُلألئُ رَميَةً ... بذكرِ الحِمَى وَهناً فصارَ يَهيمُ فقلت: يا فتى! إن في دون ما بك ما يشغل عن قول الشعر. قال: أجل، ولكن البرق أنطقني. ثم اضطجع فمات، فما يتهم عليه إلا الحب. عبد الملك والغلام العاشق أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله تعالى، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني، حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، حدثنا الكديمي أبو العباس، أخبرنا السلمي عن محمد بن نافع مولاهم عن أبي ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان قال: كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع يومين جلوساً عاماً، فبينا هو جالس في مستشرف له، وقد أدخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصةٌ غير مترجمة، فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته فلانة تغنيني ثلاثة أصوات ثم ينفذ في ما شاء من حكمه. فاستشاط من ذلك غضباً، وقال: يا رباح علي بصاحب هذه القصة. فخرج الناس جميعاً، وأدخل عليه غلام من أجمل الفتيان وأحسنهم، فقال له عبد الملك: يا غلام! أهذه قصتك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! قال: ومائتين الذي غرك مني؟ والله لأمثلن بك، ولأردعن بك نظراءك من أهل الخسارة. علي بالجارية! فجيء بها كأنها فلقة قمر، وبيدها عود، فطرح لها الكرسي، فجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام! فقال لها: غنيني يا جارية بشعر قيس بن ذريح: لقد كنتِ حسبَ النفسِ لوْ دامَ وِدُّنا، ... وَلَكِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعَ غُرُورِ (2/101) وَكنّا جميعاً قَبلَ أنْ يَظهَرَ الهَوَى ... بِأنْعَمِ حَالَيْ غِبْطَةً وَسُرُورِ فَمَا بَرِحَ الوَاشُونَ حَتى بَدَتْ لَنَا ... بُطُونُ الهَوَى مَقْلُوبَةً لِظُهُورِ فغنت، فخرج الغلام بجميع ما كان عليه من الثياب تخريقاً، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنك الصوت الثاني! فقال: غنيني بشعر جميل: ألا لَيتَ شِعري هَلْ أبِيتَنَّ لَيلَةً ... بِوَادي القُرَى إني إذاً لَسَعيدُ إذا قلتُ ما بي يا بُثيَنَةُ قَاتِلي ... من الحُبِّ قالت: ثابتٌ ويَزيدُ وَإن قلتُ رُدي بعض عقلي أعش به ... معَ النّاسِ قالت: ذاكَ منك بَعيدُ فَلا أنا مَرْدُوْدٌ بما جِئتُ طالِباً، ... وَلا حُبُّهَا فِيما يَبيدُ يَبيدُ يَموتُ الهَوَى مني إذا ما لَقيتُها، ... وَيَحيَا إذا فارَقتُها، فَيَعُودُ قال: فغنته الجارية، فسقط الغلام مغشياً عليه ساعةً، ثم أفاق، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث! فقال: يا جارية غنيني بشعر قيس بن الملوح المجنون: وَفي الجيرَة الغادينَ من بَطنِ وَجرَةٍ ... غَزَالٌ غَضيضُ المُقلَتينِ رَبيبُ فَلا تَحسَبي أنَّ الغَريبَ الذي نأى ... وَلَكِنَّ مَن تَنأينَ عَنهُ غَرِيبُ فغنته الجارية، فطرح الغلام نفسه من المستشرف فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع، فقال عبد الملك: ويحه لقد عجل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل، وأمر، فأخرجت الجارية من قصره، ثم سأل عن الغلام، فقالوا: غريب لا يعرف إلا أنه منذ ثلاث ينادي في الأسواق ويده على رأسه: غداً يكثُرُ الباكونَ مِنّا وَمِنكُمُ، ... وَتَزْدادُ دارِي من دِيارِكُمُ بُعدا (2/102) تصافح الأكف والخدود أنبأنا القاضي أبو الحسين بن المهتدي، أنشدنا أبو الفضل محمد بن الحسين بن الفضل بن المأمون، أخبرنا أبو بكر بن الأنباري: أنشدني إبراهيم بن عبد الله الوراق لمحمد بن أمية وأنشدنيها أبي لغيره من المحدثين: وَحدَثَّني عن مجلِسٍ كنتَ زينَهُ ... رَسُولٌ أمينٌ وَالوُفُودُ شُهُودُ فَقُلتُ له: كرَّ الحديثَ الذي مضَى ... وَذِكرُكَ من بَينِ الحَديثِ أرِيدُ أنَاشِدُهُ باللهِ ألاّ ذَكَرْتَهُ، ... كأني بَطيء الفَهمِ حِينَ يُعيدُ يُجَدِّدُ لي ذِكْرُ الحَديثِ لَذاذةً، ... فذِكرُكَ عِندي وَالحَديثُ جديدُ قال وفي رواية أبي، رحمه الله تعالى: فلمّا هَمَنا بالفِرَاقِ تَصَافَحَتْ ... أكفٌّ، وَثَنَّتْ عندَ ذاكَ خُدودُ مخافة الواشي وبالإسناد أخبرنا أبو بكر أنبأنا أبي أنشدنا أحمد بن عبيد: يَقولونَ: ما تَهوَاكَ ميُّ تَعَبُّثاً، ... فما بالُهُ يُضْحِي وَيُمسِي مُسَلَّمَا وَيُعرِض عن ذكرَاك في كلِّ موطنٍ ... وَقد يُسعِفُ الحبُّ المحبَّ المُتَيَّمَا وقد صَدقُوا أني لأترُكُ ذَاكُمُ، ... كَأنيَ لمْ أعرِفكَ إلاّ تَوَهُّمَا وَأهجُرُكُمْ، وَاللهُ يَعَلَمُ أنّني ... أُحِبّكِ حُبّاً خالطَ اللحمَ وَالدمَا مَخَافةَ وَاشٍ أوْ تَوَقّيَ أعيُنٍ، ... تَرَى بَثَّ أسرَارِ المُحبِّينَ مَغنَمَا (2/103) فراق أم تلاق؟ أخبرنا الأمين العدل أبو الفضل أحمد بن الحسن قراءة عليه، حدثنا أبو الحسين محمد بن الحسن الأصبهاني، سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن إسحق الشاهد يقول: ودعت أبا عبد الله نفطويه، فقال لي: إلى أين؟ فقلت: إلى العراق؛ فقال: وأي العراق؟ قلت: الأهواز، فأنشدني: قَالُوا: وَشيكُ فِرَاقِ، ... فَقُلتُ: لا بَلْ تَلاقِ كَمْ بَينَ أكْنَافِ نَجْدٍ، ... وَبَينَ أرْضِ العِرَاقِ قَدْ فُزْتُ يَوْمَ التَقَينَا، ... بِقُبْلَةٍ وَاعتِنَاقِ وَبَعدَ هَذَا وِصَالٌ ... مِنَ الأحِبَّةِ بَاقِ ؟ جناية السبع على عاشقين ذكر أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، ونقلته من خطه، أن أبا بكر محمد بن خلف حدثهم: حدثني أبو أحمد عبد الله بن محمد الطالقاني، حدثني محمد بن الحارث الرازي، أخبرني أحمد بن عمر الزهري، حدثني عمي عن أبيه قال: خرجت في نشدان صالة لي، فآواني المبيت إلى خيمة أعرابي، فقلت: هل من قرىً؟ فقال لي: انزل! فنزلت، فثنى لي وسادة، وأقبل علي يحدثني، ثم أتاني بقرىً، فأكلت. فبينا أنا بين النائم واليقظان، إذا بفتاة قد أقبلت لم أر مثلها جمالاً وحسناً، فجلست، وجعلت تحدث الأعرابي ويحدثها، ليس غير ذلك، حتى طلع الفجر، ثم انصرفت، فقلت: والله لا أبرح موضعي هذا، حتى أعرف خبر الجارية والأعرابي. (2/104) قال: فمضيت في طلب ضالتي يوماً، ثم أتيته عند الليل، فأتى بقرىً، فبينا أنا بين النائم واليقظان، وقد أبطأت الجارية عن وقتها، قلق الأعرابي، فكان يذهب ويجيء وهو يقول: ما بالُ مَيَّةَ لا تأتي لِعَادَتِها، ... أعاجَها طَرَبٌ أمْ صَدَّها شُغُلُ لَكِنَّ قَلبي عَنكُمُ لَيس يَشغلهُ ... حتى المماتِ، وَما لي غيركُم أمَلُ لَو تَعلمينَ الذي بي مِنْ فِرَاقِكُمُ ... لما اعتَذّرْتِ وَلا طابت لك العِلَلُ نَفسِي فداؤكِ قد أحلَلتِ بي سقَماً ... تكادُ من حرِّهِ الأعضَاءُ تَنفصِلُ لَوْ أنّ غادِيةً منهُ على جَبَلٍ، ... لمَادَ وَانهَدَّ من أرْكانِهِ الجَبَلُ ثم أتاني فأنبهني، ثم قال لي: إن خلتي التي رأيت بالأمس، قد أبطأت علي، وبيني وبينها غيضة، ولست آمن السبع عليها، فانظر ما ههنا حتى أعلم علمها، ثم مضى فأبطأ قليلاً، ثم جاء بها يحملها، السبع قد أصابها، فوضعها بين يدي، ثم أخذ سيفه، ومضى فلم أشعر إلا وقد جاء بالأسد يجره مقتولاً، ثم أنشأ يقول: ألا أيّها اللّيثُ المُضِرّ بِنَفسِهِ، ... هُبلتَ لقد جَرَّتْ يداكَ لكَ الشرَّا أخلّفتَني فَرْداً وَحِيداً مُدَلّهاً، ... وَصَيَّرْتَ آفَاقَ البِلادِ بِهَا قَبرَا أأصحَبُ دَهراً خَانَني بِفِرَاقِها؟ ... مَعاذَ إلهي أن أكونَ بها بَرّا ثم أقبل علي فقال: هذه ابنة عمي كانت من أحب الناس إلي، فمنعني أبوها أن أتزوجها، فزوجها رجلاً من أهل هذه الأبيات، فخرجت من مالي كله ورضيت بالمقام ههنا على ما ترى، فكانت إذا وجدت خلوة أو غفلة من زوجها أتتني، فحدثتني وحدثتها، كما رأيت ليس شيء (2/105) غيره، وقد آليت على نفسي أن لا أعيش بعدها، فأسألك بالحرمة التي جرت بيني وبينك، إذا أنا مت فلففني وإياها في هذا الثوب، وادفنا في مكاننا هذا، وأكتب على قبرنا هذا الشعر: كنّا على ظَهرِها وَالدَّهرُ في مَهَلٍ، ... وَالعَيشُ يَجمَعُنا وَالدّارُ وَالوَطنُ فَفَرَّقَ الدّهرُ بِالتّصرِيفِ أُلفَتَنَا، ... فَاليَوْمَ يَجمعُنا في بَطنِها الكَفَنُ ثم اتكأ على سيفه، فخرج من ظهره فسقط ميتاً، فلففتهما في الثوب وحفرت لهما، فدفنتهما في قبر واحد وكتبت عليه كما أمرني. ؟ في الدنيا وفي الآخرة قال ابن المرزبان: وحدثني سعيد بن يحيى القرشي، حدثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحق عن أبيه عن أشياخ من الأنصار قالوا: أتي النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم أحد بعبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح قتيلين، فقال: ادفنوهما في قبر واحد، فإنهما كانا متصافيين في الدنيا. مات على الجبل قال وذكر أبو الحسن المدايني عن محمد بن صالح الثقفي: أن بعض الأعراب عشق جاريةً من حيه، فكان يتحدث إليها، فلما علم أهلها بمكانه ومجلسه منها، تحملوا بها، فتبعهم ينظر إليهم، ففطن به، فلما علم أنه قد فطن به انصرف، وهو يقول: بانَ الخَليطُ فأوجَعوا قَلبي، ... حَسبي بما قد أوْرَثوا حَسبي (2/106) إن تَكتُبوا نكتُبْ، وإن لا يكن ... يأتيكُمُ بمَكانِكُمْ كُتْبي جدَّ الرّحِيلُ، فبَانَ ما بَينَنا، ... لا شَكَّ أني مُنقَضٍ نَحبي قال: ثم وقف على جبل ينظر إليهم ماضين، فلما غابوا عن عينه خر ميتاً. ليلى الغريبة ذكر أبو عمر بن حيويه ونقلته من خطه أن أبا بكر محمد بن خلف حدثهم: أخبرني عبد الله بن أبي عبد الله القرشي قال: وجدت في كتاب بعض أهل العلم أن الهيثم بن عدي حدثهم عن رجل من بني نهد قال: كان رجل منا يقال له: مرة تزوج ابنة عم له جميلة يقال لها: ليلى، وكان مستهاماً بها، فضرب عليه البعث إلى خراسان فكره فراقها، واشتد عليه، ولم يجد من ذلك بداً، فقال لها: أكره أن أخلفك، وقلبي متعب بك. قالت: اصنع ما شئت، فمر براذان، وبها رجل من قومه، له شرف وسؤدد، فذكر حاله، وأمر امرأته، وقال: اخلفها عند عيالك وأهلك حتى أقدم، قال: نعم! فأخلوا لها منزلاً، فقرأ، ثم تعجل، فلما صار براذان، جلس قريباً من القصر الذي كانت فيه امرأته، حتى يمسي، وكره أن يدخل نهاراً. فخرجت جارية من القصر، فقال لها: ما فعلت المرأة التي خلفتها عندكم؟ قالت: أما ترى ذلك القبر الجديد؟ قال: بلى! قالت: فإن ذلك قبرها، فلم يصدق حتى خرجت أخرى، فسألها، فقالت له مثل ذلك، فأتى القبر، فجعل يبكي ويتمرغ عليه، ويرثيها، فقال: أيَا قبرَ ليلى! لو شَهِدناكَ أعوَلَت ... علَيها نساءٌ من فصِيحٍ وَمَن عَجَمْ (2/107) ويَا قَبرَ لَيلى! ما تَضَمَّنتَ مثلَها ... شَبيهاً للَيلى في عَفافٍ وَفي كَرَمْ وَيَا قَبرَ لَيلى! أكرِمَنَّ مَحَلّها، ... تكنْ لكَ ما عِشنا عَلينا بها نِعَمْ ويَا قبرَ لَيلى، إنَّ لَيلى غَرِيبَةٌ، ... برَاذان لم يشهدكَ خالٌ وَلا ابنُ عمْ يسائلني عن علتي وهو علتي أخبرنا أبو محمد أحمد بن علي بن الحسن بن الحسين بن أبي عثمان فيما أجاز لنا، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى القرشي، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، حدثنا محمد بن المرزبان، حدثنا محمد بن هارون المقري، حدثنا سعيد بن عبد الله بن راشد قال: علقت فتاةٌ من العرب فتى من قومها، وكان الفتى عاقلاً فاضلاً، فجعلت تكثر التردد إليه، تسأله عن أمور النساء، وما في قلبها إلا النظر إليه واستماع كلامه، فلما طال ذلك عليها، مرضت وتغيرت، واحتالت في أن خلا لها وجهه وقتاً، فتعرضت له ببعض الأمر، فصرفها، ودفعها عنه، فتزايد بها المرض، حتى سقطت على الفراش، فقالت له أمه: إن فلانة قد مرضت، ولها علينا حق. قال: فعوديها، وقولي لها: يقول لك ما خبرك؟ فصارت إليها أمه، فقالت لها: ما بك؟ قالت: وجع في فؤادي هو أصل علتي، قالت: فإن ابني يقول لك ما علتك؟ فتنفست الصعداء، وقالت: يُسائِلُني عن عِلّتي وَهوَ عِلّتي، ... عَجيبٌ من الأنبَاءِ جَاءَ به الخَبَرْ فانصرفت أمه إليه، فأخبرته، وقالت له: قد كنت أحب أن نسألها المصير إلينا لنقضي حقها ونلي خدمتها، قال: فسليها ذلك. قالت: قد أردت أن أفعله ولكن أحببت أن يكون عن رأيك. فمضت إليها، فذكرت (2/108) لها ذلك عنه، فبكت وقبلت، ثم أنشأت تقول: يُبَاعِدُني عَنْ قُرْبِهِ وَلِقَائِهِ، ... فلمّا أذَابَ الجسْمَ مني تَعَطَّفَا فَلَستُ بآتٍ موْضِعاً فيه قاتلي، ... كَفَاني سَقَاماً أن أموتَ كذا كفى فألحت عليها؛ فأبت. وترامت العلة بها، وتزايد المرض حتى ماتت. أين الشفاء من السقم أخبرنا القاضي الشريف أبو الحسين بن المهتدي إن لم يكن سماعاً فإجازة، أخبرنا الشريف أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل الهاشمي، أنبأنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا محمد بن المرزبان: شَكَوْتُ إلى رَفيقيَّ الّذي بي، ... فَجَاءاني وَقد جَمَعا دَوَاءَ وَجَاءَا بالطّبيبِ ليَكوِيَاني، ... وَلا أبغي، عَدِمتُهما، اكتوَاءَ وَلَوْ ذَهَبا إلى مَنْ لا أُسَمّي، ... لأهدى لي منَ السّقَمِ الشّفَاءِ قوت النفس وبالإسناد: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري لأحمد بن يحيى: إذا كنتَ قُوتَ النفسِ ثمّ هَجَرْتَهَا ... فكَم تَلبثُ النّفسُ التي أنتَ قُوتُها سَتَبقَى بَقاءَ الضّبّ في الماءِ أوْ كَمَا ... يَعيشُ لَدى دَيمُومةِ النّبتِ حوتُهَا (2/109) المتصبر الجاهد قال وزادنا أبو الحسن بن البراء: أغرّكِ أني قد تَصَبّرتُ جاهِداً، ... وَفي النّفسِ مني مِنكِ ما سَيُميتُها فَلَوْ كانَ ما بي بالصّخُورِ لهَدّهَا، ... وَبالرّيحِ مَا هَبّتْ وطَالَ سكوتُهَا فَصَبراً لَعَلّ اللهَ يَجْمَعُ بَينَنَا، ... فأشكو هُمُوماً منكِ كنتُ لَقِيتُهَا على قبر ابن سريج أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن في ما أذن لنا أن نرويه عنه، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثني هارون بن أبي بكر بن عبد الله بن مصعب، حدثني إسحق بن يعقوب مولى آل عثمان عن أبيه قال: إنا لبفناء دار عمرو بن عثمان بالأبطح صبح خامسة من التهانئ إذ دريت برجل على راحلة؛ ومعه إداوة جميلة قد جنب إليها فرساً وبغلاً، فوقفا علي، فسألاني، فانتسبت لهما عثمانياً، فنزلا، وقالا: رجلان من أهلك، قد نابتنا إليك حاجةً، نحب أن تقضيها قبل الشدة، بأمر الحاج، قلت: فما حاجتكما؟ فالا: نريد إنساناً يوقفنا على قبر عبيد بن سريج. قال: فنهضت معهما، حتى بلغت بهما محلة ابن أبي قارة من خزاعة، بمكة، وهم موالي عبيد بن سريج، فالتمست لهما إنساناً يصحبهما، حتى يوقفهما على قبره بدسم، فوجدت ابن أبي دباكل، فأنهضته معهما، (2/110) فأخبرني ابن أبي دباكل أنه لما وقفهما على قبره، نزل أحدهما عن راحلته، وهو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان، ثم عقرها واندفع يغني غناء الركبان بصوت طليل حسن: وَقَفنَا على قَبرٍ بدَسْمَ، فهاجَنا، ... وذَكَّرَنا بالعَيشِ إذ هوَ مُصْحَبُ فَجالتْ بأرْجَاءِ الجُفُونِ سَوَافِحٌ ... من الدّمعِ تَستَبكي الذي تَتَعقّبُ فإنْ تَنْفَدَا عن ساحَةِ عُبَيداً بعَوْلَةٍ، ... وَقَلَّ له منّا البُكَى وَالتحَوّبُ فلما أتى عليها نزل صاحبه، فعقر ناقته، وهو رجل من جذام، يقال له عبيد الله بن المنتشر، فاندفع يتغنى عند الخلوات: فارَقوني وَقد عَلِمتُ يَقيناً، ... ما لَمنْ ذَاقَ مِيَتةً مِنْ إيَابِ إنّ أهلَ الحِصَابِ قد تَركوني ... مُودَعاً مُولَعاً بأهلِ الحِصَابِ أهلِ بيتٍ تَتَابَعُوا للمَنَايَا، ... ما على الدهرِ بعدهم من عِتابِ سكنوا الجِزْعَ جزْعَ بَيتِ أبي مو ... سَى إلى الشِّعبِ من صَفّي الشبابِ كم بذاك الحجونِ من حيّ صِدقٍ ... من كُهولٍ أعِفّةٍ وَشَبَابِ قال ابن أبي دباكل: فوالله ما أتم منها ثالثاً، حتى غشي على صاحبه، ومضى غير معرج عليه، حتى إذا فرغ جعل ينضح الماء في وجهه، ويقول: أنت أبداً منصوب على نفسك من كلفات ما ترى، فلما أفاق قرب إليه الفرس، فلما علاه استخرج الجذامي من خرج على البغل قدحاً، وإداوة، فجعل في القدح تراباً من تراب القبر، وصب عليه ماء، ثم قال: هاك! فاشرب، هذه السلوة، فشرب، ثم جعل الجذامي مثل ذلك لنفسه، ثم (2/111) نزل على البغل، وأردفني، فخرجنا، لا والله ما يعرجان ولا يعرضان بذكر شيء مما كانا فيه، ولا أرى في وجوههما مما كنت أرى قبل شيئاً. قال: فلما اشتمل علينا أبطح مكة مد يده إلي بشيء، وإذا عشرون ديناراً، فوالله ما جلست حتى ذهبت ببعيري، واحتملت أداة الراحلتين، فبعتهما بثلاثين ديناراً. قاتل الله الأعرابي ما أبصره! أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عمر بن شاهين، رحمه الله تعالى، حدثنا أبي، أخبرنا عمر بن الحسن، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثنا علي بن الجعد، سمعت أبا بكر بن عياش يقول: كنت في الشباب إذا أصابتني مصيبة تجلدت، ودفعت البكاء بالصبر، فكان ذلك يؤذيني ويؤلمني، حتى رأيت أعرابياً بالكناسة، واقفاً على نجيب، وهو ينشد: خَليليّ عُوجَا من صُدُورِ الرّوَاحِلِ ... بجُمهُورِ حَزْوَى فابكِيَا في المَنازِلِ لَعَلّ انحِدَارَ الدّمعِ يُعقِبُ رَاحَةً ... مِنَ الوَجْدِ أوْ يَشفي نَجيّ البَلابِلِ فسألت عنه، فقيل: ذو الرمة، فأصابتني بعد ذلك مصائب، فكنت أبكي، وأجد لذلك راحةً، فقلت: قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره! (2/112) لسان كتوم ودمع نموم أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال، رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه، سمعت أحمد بن محمد بن عروة يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: كان الجنيد يقول: لِسَاني كَتُومٌ لأسرَارِكُم، ... وَدَمعي نَمُومٌ لسِرّي مُذِيعْ وَلَوْلا دُمُوعي كَتَمتُ الهَوَى، ... وَلَوْلا الهَوى لم تكنْ لي دُمُوعْ الشعر حسن وقبيح ومما وجدته بغير سند في مجموعات بعض أهل العلم قال: وقف شيخ من العرب على مسعر بن كدام، وهو يصلي، فأطال، فلما فرغ قال له الأعرابي: خذ من الصلاة كفيلاً! فتبسم وقال له: يا شيخ! خذ فيما يجدي عليك. كم تعد من سنيك؟ قال: مائة وبضع عشرة سنة. فقال له: في بعضها ما يكفي واعظاً فاعمل لنفسك، فأنشأ الأعرابي يقول: أُحِبُّ اللّوَاتِي هُنّ مِنْ وَرَقِ الصّبى ... وَفيهِنَّ عَنْ أزْواجِهِنَّ طِمَاحُ مُسِرّاتُ بُغضٍ مُظهِرَاتٌ مَوَدّةً، ... تَرَاهُنّ كالمَرْضَى، وَهُنّ صَحَاحُ فقال له مسعر: أف لك من شيخ! فقال: والله ما بأخيك حراك منذ أربعين سنة، لكنه بحر يجيش من زبده، فضحك مسعر وقال: إن الشعر كلام، فحسنه حسن، وقبحه قبيح. (2/113) عديني وامطلي أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله تعالى، للشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي: أذاتَ الطَّوْقِ لمْ أُقرِضْكِ قَلبي، ... عَلى ضَنِّي بهِ، لِيضِيعَ دَيْنِي سكَنتِ القَلبَ حِينَ خُلِقتِ مِنهُ، ... فَأنتِ مِنَ الحَشَا وَالنّاظِرَينِ أُحِبّكِ أنّ لَوْنَكِ لَوْنَ قَلبي، ... وَإنْ ألبستِ لَوْناً غَيرَ لَوْني عِدِيني وَامطُلي، أبداً، فحِسبي ... وِصَالاً أنْ أرَاكِ وَأنْ تَرَيْني البين صعب على الأحباب وأخبرنا القاضي، أنشدنا الثقة بحضرة المرتضى: قالَتْ، وَقَد نَالَهَا للبَينِ أوْجَعُهُ، ... وَالبَينُ صَعبٌ على الأحبَابِ مَوْقِعُهُ اشدُدْ يَدَيكَ على قَلبي فقد ضَعُفَتْ ... قوَاهُ مِمّا بهِ لَوْ كانَ يَنفَعُهُ اعطِفْ عليّ المَطَايَا سَاعَةً فَعَسَى ... مَن كانَ شَتّتَ شملَ البَينِ يجمَعُهُ كَأنّني، يَوْمَ وَلَّوْا سَاعِةً بِمِنىً، ... غَرِيقُ بَحرٍ رَأى شَطّاً وَيَمنَعُهُ (2/114) قتلها الجوى ذكر أبو عمر بن حيويه ونقلته من خطه، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، أخبرني أبو العلاء القيسي، حدثنا أبو عبد الرحمن العائشي، أخبرني أبو منيع عبد لآل الحارث بن عبيد قال: رأيت شيخاً من كلب قاعداً على رأس هضبةٍ، فملت إليه، فإذا هو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: رحمةٌ لجارية منا كانت تحب ابن عم لها، وكان أهلها بأعلى واد بكلب، فتزوجها رجل من أهل الكوفة، فنقلها إلى الكوفة، فقتلها الجوى وبلغ منها الشوق، فأوت في علية لها، فتغنت بهذا الشعر: لَعَمرِي لَئِنْ أشرَفتُ أطوَلَ ما أرَى ... وكَلّفتُ عَيني مَنظَراً مُتَعَاديَا وَقُلتُ: زِيَادٌ مُؤنِسِي مُتَهَلِّلٌ، ... أمِ الشّوْقُ يُدني مِنهُ ما ليس دانيَا وَقُلتُ لبَطنِ الجِنّ حِينَ لَقِيتُهُ: ... سَقَى اللهُ أعلالَ السّحابَ الغَوَاديَا ثم قبضت مكانها. غراب البين ناقة أو جمل أخبرنا أبو إسحق الحبال في ما أذن لنا في روايته، أخبرنا أبو الفرج محمد بن عمر الصدفي، حدثنا أبو الفتح بن سنحت، حدثنا أبو عبد الله الحكيمي: أنشدني عون عن أبيه لأبي الشيص: مَا فَرّقَ الأحْبَابَ بَعْ ... دَ اللهِ إلاّ الإبلُ وَالنّاسُ يُلْحُونَ غُرَا ... بَ البَيْنِ لَمّا جَهِلُوا وَمَا غُرَابُ البَيْنِ إلْ ... لا نَاقَةٌ أوْ جَمَلُ (2/115) الدنو الفاضح وبإسناده قال: وأنشدنا لنفسه: اللهُ يَعلَمُ مَا أرَدتُ بِهَجرِكُمْ ... إلاّ مُسَاتَرَةَ العَدُوّ الكَاشِحِ وَعَلِمتُ أنّ تَسَتّرِي وَتَبَاعُدِي ... أدنى لِوَصْلِكِ مِنْ دُنُوٍّ فاضِحِ الحراث الشاعر أنبأنا أبو بكر الخطيب، إن لم يكن حدثنا، أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد بن إبراهيم قراءة عليه، حدثنا أبو الحسن علي بن الحسن الرازي، حدثنا أبو علي الحسين بن علي الكوكبي الكاتب، حدثنا أبو العباس المبرد قال: قال لي الجاحظ: أنشدني أكارٌ بالمصيصة لنفسه: حَصَدَ الصّدودُ وِصَالَنا بمَناجلٍ، ... طُبعَ المَناجِلُ من حَديدِ البَينِ دِيسَ الحَصَادُ، وَذُرّيتْ أكداسُهُ، ... بَعدَ الحَصَادِ، بسَافيَاتِ المَينِ فَالشّوْقُ يَطحنَهُ بأرْحِيةِ الهَوَى، ... وَالهَمُّ يَعجُنُهُ بدَمعِ العَينِ وَالحزْنُ يَخبزُهُ بنِيرانِ الهَوَى، ... وَالهَجْرُ يَأكُلُهُ بلَوْنٍ لَوْنِ (2/116) لم يطل ليلي وبإسناده أنشدنا أبو علي لبشار: لمْ يَطُلْ لَيلي، وَلكِنْ لمْ أنَمْ، ... وَنَفَى عَني الكَرَى طَيفٌ ألَمّ خَتَمَ الحُبُّ لهَا في عُنُقي، ... مَوْضِعَ الخَاتَم من أهلِ الذِّمَمْ إنّ في ثَوْبيّ جِسْماً نَاحِلاً ... لَوْ تَوَكّأتُ عَلَيْهِ لانْهَدَمْ عقوبة الغراب أخبرنا أبو إسحق الحبال، رحمه الله تعالى، فيما أجاز لنا، أخبرنا أبو الفرج محمد بن عمر الصدفي، أخبرنا أبو علي الحسين بن علي بن محمد بن رحيم، أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن زوزان، حدثنا أبو زيد، أخبرنا إبراهيم بن الأزهر عن عبد الله بن محمد قال: مررت في بعض سكك البصرة فسمعت استغاثة جارية تضرب، فتيممت الأبواب حتى وقفت على الباب الذي يخرج منه الصوت، فقلت: يا أهل الدار! أما تتقون الله؟ علام تضربون جاريتكم؟ فقيل لي: ادخل. فدخلت، فإذا أمرأة كأن عنقها إبريق فضة، جالسة على منصة، وبين يديها غراب مشدود، وفي يدها عصاً تضربه بها. قال: فكلما ضربت الغراب صاحت الجارية، فقلت: ما شأن هذا الغراب؟ فقالت لي: أما سمعت قول قيس بن ذريح حيث يقول: ألا يا غُرَابَ البَينِ قد طِرْتَ بالّذي ... أُحَاذِرُ مِنْ لَيلى فَهَلْ أنتَ وَاقعُ ألا وقع كما أمره؟ فقلت: إن هذا الغراب ليس هو ذاك الغراب. فقالت: نأخذ البريء بالسقيم حتى نظفر بحاجتنا. (2/117) موت عروة بن حزام حدث أبو القاسم منصور بن جعفر بن محمد الصيرفي، حدثنا عبد الله بن جعفر عن المبرد، أخبرني مسعود بن بشر الأنصاري قال: وليت صدقات عذرة، فصرت إلى بلدهم، فإذا بشيء يختلج تحت ثوب، فأقبلت، فكشفت عنه، فإذا رجل لا يرى إلا رأسه، فقلت: ويحك! ما بك؟ فقال: كأنّ قطاةً عُلّقَتْ بجنَاحِهَا ... عَلى كَبدي من شِدّةِ الخَفَقانِ جَعَلتُ لعَرّافِ اليَمَامَةِ حُكمَه ... وَعَرّافِ حِجرٍ إن هُما شَفَياني قال: ثم تنفس حتى ملأ ثوبه الذي كان فيه ثم خمد، فنظرت فإذا هو قد مات. فلم أرم حتى أصلحت من شأنه، وصليت عليه، فقال لي رجل: أتدري من هذا؟ قلت: لا! قال: هذا عروة بن حزام. عيش غض وزمان مطاوع أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ بدمشق، أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا الجريري، حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: كنت عند ثعلب جالساً، فجاءه محمد بن داود الأصبهاني، فقال له: أهاهنا شيء من صبوتك؟ فأنشده: سَقَى اللهُ أيّاماً لَنَا وَلَيَالِيَا ... لَهُنّ بأكْنَافِ الشّبَابِ مَلاعِبُ إذِ العيشُ غضٌّ وَالزَمانُ مطاوِعٌ ... وَشَاهِدُ آفَاتِ المُحِبّينَ غَائِبُ (2/118) فتوى في الحب وأخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو نعيم الحافظ، حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني، أخبرني بعض أصحابنا قال: كتب بعض أهل الأدب إلى أبي بكر بن داود الفقيه الأصبهاني: يا ابنَ داودَ، يا فَقيهَ العِرَاقِ ... أفتِنَا في قَواتِلِ الأحدَاقِ هَلْ عليها القِصَاصُ في القتلِ يوْماً، ... أمْ حَلالٌ لَهَا دَمُ العُشّاقِ؟ فأجابه ابن داود: عِندِي جَوَابُ مَسِائِلِ العُشّاقِ، ... فَاسمَعْهُ مِنْ قَلِقِ الحَشَا مُشتاقِ لمّا سألتَ عَنِ الهَوَى أهلَ الهَوَى ... أجرَيتَ دَمعاً لَمْ يَكُنْ بِالرّاقي أخطأتَ في نَفسِ السؤالِ، وَإن تُصِبْ ... بكَ في الهَوَى شَفَقاً مِنَ الأشفاقِ لَوْ أنّ مَعشُوقاً يُعَذِّبُ عَاشِقاً، ... كَانَ المُعَذَّبُ أنْعَمَ العُشّاقِ أبو العتاهية يعاتب عتبةَ أخبرنا القاضي الشريف أبو الحسين بن المهتدي، رحمه الله تعالى، إجازة، حدثنا الشريف أبو الفضل بن المأمون، حدثنا أبو بكر بن الانباري، أنشدنا محمد بن المرزبان: أنشدني الحسن بن صالح الأسدي لأبي العتاهية: سُبحَانَ جَبّارِ السّمَاءِ ... إنّ المُحِبّ لَفي عَنَاءِ مَن لمْ يَذُقْ حُرَقَ الهَوَى، ... لم يَدْرِ مَا جُهدُ البَلاءِ لَوْ كُنتُ أحسَبُ عَبرَتي ... لَوَجَدْتُهَا أنْهَارَ مَاءِ (2/119) كَمْ مِنْ صَدِيقٍ لي أُسا ... رِقُهُ البُكَاءَ مِنَ الحَيَاءِ فإذَا تَفَطّنَ لامَني، ... فأقُولُ: مَا بي مِنْ بُكاءِ لَكِنْ ذَهّبْتُ لأرْتَدِي، ... فَأصَبْتُ عَيْنيَ بالرّدَاءِ حَتى أُشَكّكَهُ، فَيَس ... كُتَ عَنْ مَلامي وَالمِرَاءِ يا عُتبَ! مَنْ لمْ يَبكِ لي ... مِمّا لَقيتُ مِنَ الشّقَاءِ بَكَتِ الوُحُوشُ لرَحْمَتي، ... وَالطّيرُ في جوّ السّمَاءِ وَالجِنُّ عُمّارُ البُيُو ... تِ، بَكَوْا، وَسكّانُ الهَوَاءِ وَالنّاسُ، فَضْلاً عَنْهُمُ، ... لَمْ تَبكِ إلاّ بالدّمَاءِ يا عَتبَ! إنّكِ لَوْ شَهِدْ ... تِ عليّ وَلْوَلَةَ النّسَاءِ وَمُوَجَّهاً مُسْتَرْسلاً ... بَينَ الأحِبّةِ للقَضاءِ لَجَزَيتنِي غَيرَ الّذِي ... قَد كانَ منكِ من الجَزَاءِ أفَمَا شَبِعتِ، وَلا رَوِي ... تِ منَ القَطيعَةِ وَالجَفَاءِ لِمْ تَبخَلِينَ عَلى فَتىً ... مَحضِ المَوَدّةِ وَالصّفَاءِ؟ وفيها أبيات اختصرتها. يا حبذا بلداً حلته أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عمر بن شاهين، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الحسن بن دريد الأزدي: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه يعني الأصمعي لنائل ابن أبي حليمة أحد بني بزوان من بني أسد: إني أرِقتُ، وَسارِي اللّيلِ قد هَجَدَا، ... وَالنّجمُ يَنهَضُ في مِرْقاتِهِ صُعُدَا (2/120) وَما أرِقتُ بحَمدِ اللهِ مِنْ وَصَبٍ ... وَمَا شَكَوْتُ وَرَبي مُنعِمٌ أبَدا طافَتْ طَوَائِفُ من ذِكرَاكِ عَاتِيَةٌ، ... مُخَالِطٌ حُبُّهَا الأحشَاءَ وَالكَبِدَا ما تأمُرِين بكَهلٍ قَد عَرضْتِ لَهُ، ... واللهِ مَا وَجَدَ النَّهدِيُّ مَا وَجَدَا أمّا الفُؤادُ فأمسَى مُقصَداً كَمِداً، ... مِنْ أجلِ مَنْ لا تُداني دارَهُ أبَدَا مِنْ أجلِ جَارِيَةٍ إني أُكَاتِمُهَا ... حَتى أمُوتَ، وَلَمْ أُخبِرْ بها أحَدَا مَنْ يَمُوتُ وَلَمْ يُخبرْ بقَاتِلِهِ ... فَلا إخَالُ لَهُ عَقلاً، وَلا قَوَدا وَهاجَني صُرَدٌ في فَرْعِ غَرْقَدَةٍ؛ ... إناّ إلى رَبّنَا، مَا أشأمَ الصُّرَدا مَا زَالَ يَنْتِفُ رِيشاً مِنْ قَوَادِمِهِ، ... ويَرْجُفُ الرّيشُ حتى قلتُ قد سجدَا تَحَقّقَ البَينُ مِنْ لُبنى وَجَارَتِها، ... يا بَرْحَ عَيْنيَ إنْ كانَ الفِرَاقُ غدَا تَمشي الهُوَينَا إلى الأترَابِ إن فَعَلتْ ... عومَ الغَدِيرِ زَهَتهُ الرّيحُ فَاطّرَدَا تَجلُو بأخضَرَ مِنْ نَعمَانَ يَصْحَبُه ... قَبلَ الشّرَابِ بكَفّ رَخصَةٍ بَردَا يُضَمَّنُ المِسكُ وَالكَافُورُ ذا غُدُرٍ ... مِثلِ الأسَاوِدِ لا سَبطاً وَلا قِدَدَا حَلّتْ بأطيبَ نجدٍ نَهرَهُ، عَلِمَتْ، ... يَا حَبّذا بَلَداً حَلّتْ بِهِ بَلَدَا (2/121) قتيلهن شهيد ووجدت على ظهر جزء بن شاهين هذين البيتين: يَقولُونَ جاهد يا جَميلُ بغَزْوَةٍ، ... وَأيّ جِهَادٍ غَيركُنّ أُرِيدُ لكلّ حَديثٍ عِنْدَكُنّ بَشاشَةٌ، ... وكُلُّ قَتيلٍ بَينَكُنّ شَهيدُ عاشق لي أو لمن؟ أنبأنا الرئيس أبو علي محمد بن وشاح الكاتب، أخبرنا المعافى بن زكريا الجريري إجازة، حدثنا محمد بن محمد بن يحيى الصولي، حدثنا عون بن محمد الكندي قال: خرجت مع محمد بن أبي أمية إلى ناحية الجسر ببغداد، فرأى فتىً من ولاد الكتاب جميلاً، فمازحه، فغضب وهدده، فطلب من غلامه دواته وكتب من وقته: دونَ بابِ الجِسرِ دارٌ لِفَتى، ... لا أُسَمّيهِ وَمَنْ شَاءَ فَطَنْ قَالَ كَالمَازِحِ، وَاستَعلَمَني: ... أنتَ صَبٌّ عَاشِقٌ لي، أوْ لمَنْ؟ قلتُ: سَلْ قَلبَكَ يخبرْكَ به، ... فَتَحَايَا بَعدَمَا كانَ مَحَنْ حُسنُ ذاكَ الوَجهِ لا يُسلِمُني، ... أبداً مِنهُ، إلى غَيرِ حَسَنْ ثم دفع الرقعة إليه، فاعتذر وحلف أنه لم يعرفه. (2/122) أبو العتاهية وعتبة أخبرنا القاضي أبو الحسين بن المهتدي، رحمه الله تعالى، إجازة إن لم يكن سماعاً، حدثنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل الهاشمي، أنشدنا أبو بكر بن الأنباري، حدثني محمد بن المرزبان، حدثني إسحق بن محمد، حدثنا محمد بن سلام قال: قدم أبو العتاهية من الكوفة إلى بغداد، وهو خامل الذكر، لا يعرف، فمدح المهدي بشعر، فلم يجد من يوصله إليه، فكان يطلب سبباً يشتهر به، ويعرف من جهته، فيوصله إلى المهدي، فاجتازت به يوماً عتبة راكبةً مع عدة من جواريها وحشمها، فكلمها واستوقفها، فلم تكلمه، لم تقف عليه، وأمرت غلمانها بتنحيته، فأنشأ يقول: يا عُتْبَ! مَا شاني وَمَا شانُكِ، ... تَرَفّقي، سِتّي، بسُلطَانِكِ أخَذْتِ قَلْبي هَكَذا عَنوَةً ... ثمّ شَدَدْتِيهِ بأشْطَانِكِ اللهَ في قَتلِ فَتىً مُسْلِمٍ ... مَا نَقَضَ العَهدَ وَما خانَكِ حَرَمْتنِي مِنكِ دُنُوّاً، فَيَا ... وَيْلِيَ، ما لي وَلحِرْمَانِكِ يا جَنّةَ الفِرْدوْسِ جودي، فَقد ... طَابَتْ ثَنَايَاكِ وَأرْدَانُكِ (2/123) البيت يعرفهن لو يتكلم وبإسناده: أنشدني أبي وأبو الحسن بن البر لعمر بن بي ربيعة: لَبِثُوا ثَلاثَ مِنى بمَنزِلِ قَلعَةٍ، ... فَهُمُ على عِرْضٍ، لعَمرُكَ ما همُ مُتَجاوِرِينَ بغَيرِ دَارِ إقَامَةٍ، ... لَوْ قد أجَدّ تَرَحّلٌ لَم يَندَمُوا وَلَهُنّ بالبَيتِ العَتيقِ لُبَانَةٌ، ... وَالبَيتُ يَعرِفُهُنّ لَوْ يَتَكَلّمُ لَوْ كانَ حَيّاً قَبلَهُنّ ظَعَائِناً، ... حَيّا الحَطيمُ وُجوهَهُنّ وزَمزَمُ لَكِنّهُ مِمّا يُطِيفُ بِرُكْنِهِ، ... مِنهنّ، صَمّاءُ الصّدى مُستَعجِمُ وكأنهّنّ، وَقد صَدَرْنَ عَشِيّةً، ... دُرٌّ بأكنَافِ الحَطيمِ مُنّظَّمُ الحب لا يعلق إلا الكرام أخبرنا القاضي أبو الحسين بن المهتدي فيما أجاز لنا، حدثنا الشريف أبو الفضل محمد بن الحسين بن الفضل الهاشمي، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، حدثني أبي، حدثنا الحسن بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن أبي أيوب: اجتمع أبو نواس والعباس بن الأحنف، فاستنشد أبو نواس العباس، فأنشده: حُبُّ الحِجازِيَّةِ أبلى العِظامْ، ... وَالحبُّ لا يَعلقُ إلاّ الكِرَامْ (2/124) سَيّدَتي، سَيّدَتي! إنّهُ ... ليسَ لِما بالعاشِقينَ اكتِتَامْ سَيّدَتي، سَيّدَتي! إنّني ... أعجزُ عن حمل البلايا العظامْ سَيّدَتي، سَيّدَتي! فاسمعي ... دعوَةَ صَبٍّ عاشقٍ مستهامْ ومر في أبيات كثيرة أول كل بيت سيدتي سيدتي، فقال له أبو نواس: لقد خضعت لهذه المرأة خضوعاً، ظننت معه أنك تموت قبل تمام القصيدة. يزيد بن معاوية وعمارة المغنية أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري إن لم يكن سماعاً فإجازة، حدثنا المعافى بن زكريا الجريري، حدثنا أبو النضر العقيلي، حدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم عن أبي بكر العجلي عن جماعة من مشايخ قريش من أهل المدينة قالوا: كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مغنية يقال لها عمارة، وكان يجد بها وجداً شديداً، وكان لها نمه مكان لم يكن لأحد من جواريه، فلما وفد عبد الله بن جعفر على معاوية خرج بها معه فزاره يزيد، ذات يوم، فأخرجها إليه، فلما نظر إليها، وسمع غناءها، وقعت في نفسه، فأخذه عليها ما لا يملكه، وجعل لا يمنعه من أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها، فلم يزل يكاتم الناس أمرها إلى أن مات معاوية، وأفضى الأمر إليه، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها، وكيف الحيلة فيها، فقيل له: إن أمر عبد الله بن جعفر لا يرام، ومنزلته من الخاصة والعامة ومنك ما قد علمت؛ وأنت لا تستجيز إكراهه، وهو لا يبيعها بشيء أبداً، وليس يغني في هذا إلا الحيلة، فقال: انظروا لي رجلاً عراقياً له أدب وظرف ومعرفة، فطلبوه، (2/125) فأتوه به، فلما دخل رأى بياناً وحلاوةً وفهماً، فقال يزيد: إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظك آخر الدهر ويد أكافئك عليها إن شاء الله تعالى؛ ثم أخبره بأمره، فقال له: عبد الله بن جعفر ليس يرام ما في قلبه إلا بالخديعة، ولن يقدر أحد على ما سألت، فأرجو أن أكونه، والقوة بالله، فأعني بالمال. قال: خذ ما أحببت. فأخذ من طرف الشام وثياب مصر، واشترى متاعاً للتجارة من رقيق ودواب وغير ذلك، ثم شخص إلى المدينة، فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر، واكترى منزلاً إلى جانبه، ثم توسل إليه وقال: إني رجل من أهل العراق قدمت بتجارة وأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به، فبعث عبد الله بن جعفر إلى قهرمانه أن أكرم الرجل، ووسع عليه في نزوله. فلما اطمأن العراقي سلم عليه أياماً وعرفه نفسه، وهيأ له بغلةً فارهةً، وثياباً من ثياب العراق وألطافاً، فبعث بها إليه، وكتب معها: يا سيدي! إني رجل تاجر، ونعم الله علي سابغة، وقد بعثت إليك بشيء من تحف وكذا من الثياب والعطر، وبعثت ببغلة خفيفة العنان، وطيئة الظهر، فاتخذها لرجلك، فأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ألا قبلت هديتي ولم توحشني بردها، إني أدين الله تعالى بحبك وحب أهل بيتك، وإن أعظم أملي في سفرتي هذه أن أستفيد الأنس بك والتحرم بمواصلتك. فأمر عبد الله بقبض هديته، وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مر بالعراقي في منزله، فقام إليه، وقبل يده، واستكثر منه، فرأى أدباً وظرفاً وفصاحةً، فأعجب به وسر بنزوله عليه، فجعل العراقي في كل يوم (2/126) يبعث إلى عبد الله بلطف تطرفه، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيراً، فقد ملأنا شكراً، وما نقدر على مكافأته. فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله، ودعا بعمارة في جواريه، فلما طاب لهما المجلس، وسمع غناء عمارة، تعجب، وجعل يزيد في عجبه، فلما رأى ذلك عبد الله سر به إلى أن قال له: هل رأيت مثل عمارة! قال: لا والله يا سيدي ما رأيت مثلها، وما تصلح إلا لك، وما ظننت أن يكون في الدنيا مثل هذه الجارية، حسن وجه، وحسن عمل، قال: فكم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة؟ قال: تقول هذا لتزين لي رأياً فيها وتجتلب سروري؟ قال له: يا سيدي، والله، إني لأحب سرورك، وما قلت لك إلا الجد، وبعد فإني تاجر أجمع الدراهم إلى الدرهم، طلباً للربح، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها. فقال له عبد الله: عشرة آلاف؟ قال: نعم! ولم يكن في لك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن. فقال له عبد الله: أنا أبيعكها بعشرة آلاف. قال: قد أخذتها. قال: هي لك، قال: قد وجب البيع، وانصرف العراقي. فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد جيء به، فقيل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار، وقال: هذا ثمن عمارة، فردها، وكتب إليه: إنما كنت أمزح معك، ومما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها. فقال له: جعلت فداءك! إن الجد والهزل في البيع سواء. فقال له عبد الله: ويحك! ما أعلم جاريةً تساوي ما بذلت، ولو كنت بائعها من أحد لآثرتك، ولكني كنت مازحاً، وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموضعها من قلبي. فقال العراقي: إن كنت مازحاً، فإني كنت جاداً، وما اطلعت على ما في نفسك وقد ملكت الجارية، وبعثت إليك بثمنها، وليس تحل لك، وما لي من أخذها من بد. فمانعه إياها، فقال له: ليست لي بينة، ولكني أستحلفك عند قبر رسول الله ﷺ، ومنبره. (2/127) فلما رأى عبد الله الجد قال: بئس الضيف أنت، ما طرقنا طارق، ولا نزل بنا نازل أعظم بليةً منك، أتحلفني فيقول الناس: اضطهد عبد الله ضيفه وقهره وألجأه إلى أن استحلفه؟ أما والله ليعلمن الله، عز وجل، أني سأبليه، في هذا الأمر، الصبر وحسن العزاء. ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه، وبتجهيز الجارية بما يشبهها من الخدم والثياب والطيب، فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، وقال: هذا لك ولك عوضها مما ألطفتنا، والله المستعان. فقبض العراقي الجارية وخرج بها، فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة! إني، والله، ما ملكتك قط، ولا أنت لي، ولا مثلي يشتري دارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلبه أحب الناس إليه لنفسي، ولكني دسيس من يزيد بن معاوية، وأنت له وفي طلبك بعث بي فاستتري مني، وإن داخلني الشيطان في أمرك، أو تاقت نفسي إليك فامتنعي. ثم مضى بها حتى ورد دمشق، فتلقاه الناس بجنازة يزيد، وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، فأقام الرجل أياماً، ثم تلطف للدخول عليه، فشرح له القصة، ويروى أنه لم يكن أحد من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلاً ونسكاً، فلما أخبره قال: هي لك وكل ما دفعه إليك من أمرها فهو لك، وارحل من يومك، فلا أسمع بخبرك في شيء من بلاد الشام. فرحل العراقي ثم قال للجارية: إني قلت لك ما قلت حين خرجت بك من المدينة، فأخبرتك أنك ليزيد، وقد صرت لي، وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، وإني قد رددتك عليه، فاستتري مني. ثم خرج بها حتى قدم المدينة، فنزل قريباً من عبد الله، فدخل عليه بعض خدمه فقال له: هذا العراقي ضيفك الذي صنع بنا ما صنع، وقد (2/128) نزل العرصة، لا حياه الله، فقال عبد الله: مه! أنزلوا الرجل وأكرموه. فلما استقر بعث إلى عبد الله: جعلت فداءك! إن رأيت أن تأذن لي أذنةً خفيفةً لأشافهك بشيء فعلت. فأذن له، فلما دخل سلم عليه، وقبل يده، فقربه عبد الله، ثم اقتص عليه القصة، حتى إذا فرغ قال: قد والله وهبتها لك قبل أن أراها، وأضع يدي عليها، فهي لك، ومردودة عليك. وقد علم الله تعالى أني ما رأيت لها وجهاً إلا عندك. فبعث إليها، فجاءت وجاء بما جهزها به موفراً، فلما نظرت إلى عبد الله خرت مغشياً عليها، وأهوى إليها عبد الله فضمها إليه. وخرج العراقي وتصايح أهل الدار: عمارة عمارة، فجعل عبد الله يقول، ودموعه تجري: أحلم هذا، أحق هذا؟ ما أصدق بهذا. فقال له العراقي: جعلت فداءك! قد ردها عليك إيثارك الوفاء وصبرك على الحق وانقيادك له. فقال عبد الله: الحمد لله، اللهم إنك تعلم أني تصبرت عنها، وآثرت الوفاء، وأسلمت لأمرك، فرددتها علي بمنك، فلك الحمد! ثم قال: يا أخا العراق ما في الأرض أعظم منةًَ منك، وسيجازيك الله تعالى. وأقام العراقي أياماً، وباع عبد الله غنماً له بثلاثة عشر ألف دينار، وقال لقهرمانه: احملها إليه، وقل له: اعذر، واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلاً لأكثر منه، فرحل العراقي محموداً وافر العرض والمال. (2/129) سكينة وعروة بن أذينة وأخبرنا محمد، حدثنا المعافى، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثنا محمد بن يحيى النحوي، حدثنا عبيد الله بن شبيب عن عمر بن عثمان قال: مرت سكينة بعروة بن أذينة، وكان تنسك، فقالت له: يا أبا عامر! ألست القائل: إذا وَجَدتُ أذىً للحبّ في كَبِدي ... أقبَلتُ نَحوَ سِقاءِ القَوْمِ أبترِدُ هَبني ابترَدتُ ببَرْدِ الماءِ ظاهرَهُ، ... فمَن لنَارٍ على الأحشاءِ تَتّقِد ُ أو لست القائل: قالت، وأبثَثتُها سرّي فبُحتُ بهِ: ... قد كُنتَ عندي تُحبّ السَّترَ فاستَترِ ألَستَ تُبصِرُ مَن حَوْلي؟ فقلتُ لها: ... غَطّى هَوَاكِ، ومَا ألقَى، على بصرِي ثم قالت: هؤلاء أحرار إن كان هذا خرج من قلب سليم. رقية حميرية وجدت بخط شيخي أبي عبد الله الحسين بن الحسن الأنماطي في مجموع له بخطه قال: وحكى بعضهم عن شيخ من أهل اليمن أنه وجد في كتاب بالمسند، وهي لغة حمير، كلاماً كانت حمير ترقي به العاشق، فيسلو. وهو: ما أحسَنَتْ سَلمَى إليكَ صَنيعَا، ... تَرَكَتْ فؤادَكَ بالفِرَاقِ مَرُوعا قال: فحدثت بهذا الحديث كاهنةً كانت هناك، فلما كان من غد ذلك اليوم، لقيتني فقالت: إني رأيت البارحة الشعر يحتاج أن يقلب كلامه وحروفه، حتى يسلو به العاشق. قلت: فكيف يقلب كلامه؟ قالت: يقول مروعاً بالفراق فؤادك تركت صنيعاً إليك سلمى. أحسنت ما. (2/130) أمثل هذا يبتغي وصلنا؟ أخبرنا أحمد بن علي الوراق بصور، حدثنا أبو الحسن علي بن الحسين بن أحمد التغلبي بدمشق، حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن نصر، حدثنا الزجاجي، حدثنا الأخفش، حدثني أبي عن أبيه قال: خرجت إلى سر من رأى في بعض حاجاتي فصحبني رجل في الطريق، فقال: ألا أنشدك شيئاً من شعري؟ قلت: بلى، فأنشدني: وَيلي على سَاكِنِ شَطِّ الصَّرَاهْ، ... مَرّرَ حُبِّيهِ عَليّ الحَيَاهْ مَا يَنْقَضِي مِنْ عَجَبٍ فِكرَتي، ... في خَلّةٍ قَصّرَ فِيها الوُلاهْ تَرْكُ المُحبّينَ بِلا حَاكِمٍ، ... لَمْ يَنصبُوا للعَاشِقينَ القُضَاهْ أما، وَمَنْ أصْبَحتُ عَبداً لَهُ، ... وَمَنْ لَهُ في كُلّ أُفْقٍ رُعَاهْ لَوْ أنّني مَلَكْتُ أمرَ الهَوَى، ... مَلأتُ بالضّرْبِ ظُهُورَ الوُشَاهْ حَتى إذا قَطّعتُ أبْشَارَهُمْ، ... قَعَدءتُ أقْضِي للفَتى بالفَتاهْ لَقَدْ أتَاني عَجَبٌ رَاعَني ... مَقَالُهَا للقَوْمِ: يا ضَيعَتَاهْ أمِثلُ هَذَا يَبْتَغِي وَصْلَنَا؟ ... أمَا يَرَى ذَا وَجْهَهُ في المِرَاهْ؟ فقلت: من أنت؟ قال: أنا القصافي الشاعر. (2/131) الأخوات الثلاث وكتابهن أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثني الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أبي خيثمة، أخبرنا الزبير بن بكار، حدثني مصعب عمي قال: ذكر لي رجل من أهل المدينة أن رجلاً خرج حاجاً، فنزل تحت سرحة في بعض الطريق، بين مكة والمدينة، فنظر إلى كتاب معلق على السرحة فيه، بسم الله الرحمن الرحيم، أيها الحاج القاصد بيت الله تعالى! إن ثلاث أخوات خلون يوماً فبحن بأهوائهن، وذكرن أشجانهن، فقالت الكبرى: عَجبتُ له إذ زَارَ في النّومِ مَضْجَعي، ... وَلَوْ زَارَني مُستَيقظاَ كَانَ أعجَبَا وقالت الوسطى: وَمَا زَارَني في النّوْم إلاّ خَيَالُهُ، ... فقلتُ لهُ: أهلاً وَسَهلاً وَمَرْحَبَا وقالت الصغرى: بِنَفسِي وَأهلي مَنْ أرَى كُلَّ لَيْلَةٍ ... ضَجيعي، وَرَيّاهُ مِنَ المِسكِ أطيَبَا وفي اسفل الكتاب مكتوب: رحم الله امرأً نظر في كتابنا، وقضى بالحق بيننا، ولم يجر في القضية. قال: فأخذ الكتاب فتىً، فكتب في أسفله: أُحَدّثُ عَنْ حُورٍ تَحَدّثنَ مَرّةً، ... حديثَ امرِئٍ سَاسَ الأمورَ وَجَرّبَا ثَلاثٍ كَبَكْرَاتِ الهِجَانِ عَطابلٍ، ... نَوَاعِمَ يَغلِبنَ اللّبِيبَ المُشَبِّبَا (2/132) خَلَوْنَ، وقد غابَتْ عُيُونٌ كَثيرَةٌ، ... مِنَ اللاّءِ قَد يَهوَينَ أنْ يَتَغَيَّبَا فَبُحنَ بمَا يُخفِينَ من لاعجِ الهَوَى، ... معاً، واتّخّذنَ الشّعرَ مَلهىً وَمَلعَبا عَجبتُ له إذ زَارَ في النّوْمِ مضجعي، ... ولَوْ زَارَني مُستَيقظاً كَانَ أعْجَبَا عمر وجميل وبثينة أخبرنا محمد بن الحسين، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، حدثنا أحمد بن يحيى عن أبي عبد الله القرشي قال: خرج عمر بن أبي ربيعة إلى الجباب، حتى إذا كان بالجباب لقيه جميل بن معمر، فاستنشده عمر بن أبي ربيعة، فأنشده كلمته التي يقول فيها: خَلِيليّ في ما عِشتُما هَلْ رَأيتُما ... قَتيلاً بكَى من حبّ قاتِلِهِ قَبلي ثم استنشده جميل، فأنشده قافيته التي أولها: عَرَفتُ مَصيفَ الحَيّ وَالمُترَبَّعَا حتى بلغ إلى قوله: وَقَرّبنَ أسبَابَ الهَوَى لمُتَيَّمٍ ... يَقيسُ ذرَاعاً قِسنَ إصْبَعَا فصاح جميل واستحيا، وقال: لا والله ما أحسن أن أقول مثل هذا. فقال له عمر: اذهب بنا إلى بثينة لنتحدث عندها؟ فقال له: إن الأمير قد أهدر دمي متى جئتها، قال: دلني علي أبياتها؟! فدله، ومضى حتى وقف على الأبيات، وتأنس، وتعرف، ثم قال: يا جارية أنا عمر بن أبي ربيعة، فأعلمي بثينة مكاني! فأعلمتها، فخرجت إليه فقالت: لا والله يا عمر! ما أنا من نسائك اللاتي تزعم أن قد قتلهن الوجد بك. قال: (2/133) وإذا امرأة طوالة أدماء حسناء، فقال لها عمر: فأين قول جميل: وَهُما قالَتا: لَو أنّ جَميلاً ... عَرَضَ اليَوْمَ نَظرَةً فَرَآنَا نَظَرَتْ نَحوَ تِرْبِها ثمّ قالَتْ: ... قَد أتَانَا، ومَا عَلِمنَا، مُنَانَا بَينَمَا ذاكَ مِنهُمَا رَأتَاني ... أُعمِلُ النّصّ سَيرَةً زَفَيَانَا فقالت له: لو استمد جميل منك ما أفلح، وقد قيل: اشدد البعير مع الفرس إن تعلم جرأته وإلا تعلم من خلقه. العجوز وبنتها الجميلة أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، حدثنا أبو القاسم إسماعيل بن سعيد بن سويد المعدل، حدثنا علي أبو الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أبو أمية الغلابي، أخبرني محمد بن أفلح السدوسي، أخبرني سوادة بن الحسين قال: خرجت أنا وصاحب لي نبغي ضالةً لنا، فألجأنا الحر إلى أخبية، فدنونا من خباء منها، فإذا عجوز بفنائه، فسلمنا، فردت السلام، ثم جلسنا نتناشد الأشعار. فقالت العجوز: هل فيكم من يروي لذي الرمة شيئاً؟ قلنا: نعم! قالت: قاتله الله حيث يقول: وَما زَالَ يَنمي حبُّ مَيّةَ عِندنَا ... وَيَزْدادُ حتى لم نَجِدْ مَا يَزِيدُها ثم ولت، واطلعت علينا من الخباء بهكنة كأنها شقة قمر، فقالت: إنها والله ما قالت شيئاً وإن أشعر منه الذي يقول: وَرَخْصَةِ الأطرَافِ مَمكُورَةٍ ... تَحسَبُها مِنْ حُسنِها لُؤلُؤهْ (2/134) كَأنّهَا بَيْضَةُ أُدْحِيّةٍ، ... أرْخَى عَلَيها هِقْلُها جُؤْجُؤْهْ قال: فأقبلت على صاحبي متعحباً من حالها، فقالت: مم تعجب؟ فقلت: من جمالك. قالت: فوالله لو رأيت بنيةً لي رأيت ما لم يخطر على قلبك من حسن امرأة. قلت: فأرينيها! قالت: إنه يقبح ذلك. قلت: إنما نريد أن نستتم الحديث، ولعلنا أن لا نلتقي أبداً. قال: فأشارت إلى جانب الخباء، فسفرت منه جارية كأنها الشمس، فبهتنا ننظر إليها ثم أسبلت الستر، فكان آخر العهد بها. أحيا الناس جميعاً أنبأنا الشيخ الصالح أبو طالب محمد بن علي بن الفتح، أخبرنا أبو الحسين محمد ابن أخي ميمي، حدثنا جعفر الخالدي، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق، حدثنا محمد الحسين البرجلاني، حدثني أشرس بن النعمان، حدثني الجزري، حدثني موسى بن علقمة المكي قال: كان عندنا ههنا بمكة نخاس، وكانت له جارية، وكان يوصف من جمالها وكمالها أمر عجيب، وكان يخرجها أيام الموسم، فتبذل فيها الرغائب، فيمتنع من بيعها، ويطلب الزيادة في ثمنها، فما زال كذلك حينا، وتسامع بها أهل الأمصار، فكانوا يحجون عمداً للنظر إليها. قال: وكان عندنا فتىً من النساك قد نزع إلينا من بلده، وكان مجاوراً عندنا، فرأى الجارية يوماً، في أيام العرض لها، فوقعت في نفسه، وكان يجيء أيام العرض، فينظر إليها، وينصرف. فلما حجبت أحزنه ذلك، وأمرضه مرضاً شديداً، فجعل يذوب جسمه، وينحل، واعتزل الناس، فكان يقاسي البلاء طول السنة إلى أيام الموسم، فإذا خرجت الجارية (2/135) إلى العرض خرج فنظر إليها فسكن ما به، حتى تحجب. فبقي على ذلك سنين، ينحل ويذبل، وصار الخلال من شدة الوله وطول السقم. قال: فدخلت عليه يوماً، ولم أزل به، وألح عليه، إلى أن حدثني بحديثه، وما يقاسيه، وسأل أن لا أذيع عليه ذلك، ولا يسمع به أحد، فرحمته لما يقاسي، وما صار إليه، فدخلت إلى مولى الجارية، ولم أزل أحادثه، إلى أن خرجت إليه بحديث الفتى، وما يقاسي، وما صار إليه، وأنه على حالة الموت، فقال: قم بنا إليه حتى أشاهده وأنظر حاله. فقمنا جميعاً فدخلنا عليه، فلما دخل مولى الجارية ورآه وشاهده، وشاهد ما هو عليه لم يتمالك أن رجع إلى داره، فأخرج ثياباً حسنة سرية، وقال: أصلحوا فلانة، ولبسوها هذه الثياب، واصنعوا بها ما تصنعون لها أيام الموسم، ففعلوا بها ذلك، فأخذ بيدها، وأخرجها إلى السوق، ونادى في الناس، فاجتمعوا، فقال: معاشر الناس! اشهدوا أني قد وهبت جاريتي فلانة لهذا وما عليها ابتغاء ما عند الله. ثم قال للفتى: تسلم هذه الجارية فهي هدية مني إليك بما عليها، فجعل الناس يعذلونه ويقولون: ويحك! ما صنعت؟ قد بذل لك فيها الرغائب، فلم تبعها، ووهبتها لهذا؟ فقال: إليكم عني، فإني قد أحييت كل من على وجه الأرض، قال الله تعالى: " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ". تضحية محمودة حدثنا الخطيب بدمشق، أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن يعقوب الضبي، سمعت أمي تقول، سمعت مريم امرأة أبي عثمان تقول: صادفت من أبي عثمان خلوةً، فاغتنمتها، فقلت: يا أبا عثمان! أي عملك أرجى عندك؟ فقال: يا مريم! لما ترعرعت، وأنا بالري، (2/136) وكانوا يريدونني على التزويج، فأمتنع، جاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان! قد أحببتك حباً ذهب بنومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب، وأتوسل إليك به أن تتزوج بي. قلت: ألك والد؟ قالت: نعم، فلان الخياط، في موضع كذا وكذا، فراسلت أباها أن يزوجها إياي، ففرح بذلك وأحضر الشهود، فتزوجت بها. فلما دخلت بها وجدتها عوراء عرجاء مشوهة الخلق، فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدرته لي. فكان أهل بيتي يلومونني على ذلك، فأزيدها براً وإكراماً، إلى أن صارت بحيث لا تدعني أخرج من عندها، فتركت حضور المجلس إيثاراً لرضاها، وحفظاً لقلبها، ثم بقيت معها على هذه الحال خمس عشرة سنة، وكأني في بعض أوقاتي على الجمر، وأنا لا أبدي لها شيئاً من ذلك إلى أن ماتت، فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي. ابن داود وابن سريج والظهار أخبرنا أبو بكر الخطيب، حدثنا التنوخي، حدثنا أبي، حدثني أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن البختري القاضي الداودي، حدثني أبو الحسن عبد الله بن أحمد، حدثني أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد الداودي قال: كان أبو بكر محمد بن داود وأبو العباس بن سريج، إذا حضرا مجلس القاضي أبي عمر، يعني محمد بن يوسف، لم يجر بين اثنين في ما يتفاوضان أحسن مما يجري بينهما، وكان ابن سريج كثيراً ما يتقدم أبا بكر في الحضور إلى المجلس، فتقدمه في الحضور أبو بكر يوماً، فسأله حدث من الشافعين عن العود الموجب للكفارة في الظهار ما هو؟ فقال: إنه إعادة القول ثانياً، وهو مذهبه، ومذهب داود، فطالبه بالدليل، فشرع فيه، (2/137) ودخل ابن سريج، فاستشرحهم ما جرى، فشرحوه، فقال ابن سريج لابن داود: أولاً يا أبا بكر أعزك الله! هذا قول، مَن من المسلمين تقدمكم فيه؟ فاستشاط أبو بكر من ذلك، وقال: أتقدر أنّ من اعتقدت أن قولهم إجماع في هذه المسألة، إجماع عندي؟ أحسن أحوالهم أن أعدهم خلافاً، وهيهات أن يكونوا كذلك. فغضب ابن سريج وقال له: أنت يا أبا بكر بكتاب الزهرة أمهر منك في هذه الطريقة. فقال أبو بكر: وبكتاب الزهرة تعيرني! والله ما تحسن تستتم قراءته قراءة من يفهم، وإنه من أحد المناقب إذ كنت أقول فيه: أُكَرّرُ في رَوْضِ المَحَاسنِ مُقلَتي، ... وَأمنَعُ نَفسِي أنْ تَنَالَ المُحَرَّمَا رَأيتُ الهَوَى دَعوَى من الناس كلّهم، ... فَمَا إنْ أرَى حُبّاً صَحِيحاً مُسلَّمَا وَيَنطِقٌ سِرّي عَن مُتَرْجَمِ خاطرِي، ... فَلَوْلا اختِلاسٌ رَدَّهُ لَتَكَلّمَا ؟ يكتب إلى روحه أخبرنا الأزجي، حدثنا علي بن عبد الله: كتب الحسين بن منصور إلى أخبرنا بن عطاء: أطال الله لي حياتك، وأعدمني وفاتك، على ما أحسن ما جرى به قدر، أو نطق به خبر، مع ما أنّ لك في قلبي من لواعج أسرار محبتك، وأفانين ذخائر مودتك، ما لا يترجمه كتاب، ولا يحصيه حساب، ولا يفنيه عتاب، وفي ذلك أقول: كَتَبتُ، وَلَمْ أكتُبْ إلَيكَ، وَإنّمَا ... كَتَبتُ إلى رُوحي بِغَيرِ كِتابِ وَذلكَ أنّ الرّوحَ لا فَرْقَ بَينَها ... وَبَينَ محبّيها بِفَضْلِ خِطابِ فكلُّ كِتَابٍ صَادِرٍ مِنكَ وَارِدٌ ... إلَيكَ، بِلا رَدّ الجَوَابِ، حَوَابي (2/138) الفتى الحاج والجارية المكية وجدت بخط أبي عمر بن حيويه يقول: حدثنا أبو بكر محمد بن المرزبان، أخبرني أبو جعفر أحمد بن الحارث، حدثنا أبو الحسن المدايني عن بعض رجاله قال: حج ابن أبي العنبس الثقفي، فجاور، ومعه ابن ابنه، وإلى جانبهم قوم من آل أبي الحكم مجاورون، وكان الفتى يجلس مجلساً يشرف منه على جارية، فعشقها، فأرسل إليها، فأجابته، فكان يأتيها يتحدث إليها. فلما أراد جده الرحيل جعل الفتى يبكي، فقال له جده: ما يبكيك يا بني، لعلك ذكرت مصر؟ وكانوا من أهل مصر. فقال: نعم! وأنشأ يقول: يُسائِلُني، غَداةَ البَينِ، جَدّي، ... وَقَد بَلّتْ دُمُوعُ العَينِ نَحرِي: أمِنْ جَزَعٍ بكَيتَ، ذكَرْتَ مصراً؟ ... فقلتُ: نعم! وَما بي ذكرُ مصرِ وَلَكِنْ للّتي خَلّفتُ خَلْفي، ... بكَتْ عَيني، وَقَلّ اليَوْمَ صَبرِي فَمن ذا إن هَلَكتُ وَحانَ يَوْمي ... يُخَبّرُ وَالِدي دَائي وَأمرِي فَيَحفظَ أهلُ مَكّةَ في هَوَائي، ... وَإنْ كانوا أتوا قَتلي وَضُرّي قال: وارتحلوا، فلما خرجوا عن أبيات مكة أنشأ يقول: رَحَلُوا، وكُلّهُمْ يَحِنّ صَبَابَةً ... شَوْقاً إلى مِصْرَ، وَدَارِي بالحَرَمْ لَيتَ الرّكابَ، غداةَ حَانَ فرَاقُنا، ... كانتْ لحوماً قُسّمَتْ فوْق الوَضَمْ رَاحُوا سِرَاعاً يُعملِونَ مَطِيّهم ... قُدُماً، وَبتّ مِنَ الصّبابَةِ لم أنمْ طُوبى لهُمْ يَبغونَ قَصْدَ سَبيلهمْ، ... وَالقَلبُ مُرْتهنٌ ببَيتِ أبي الحَكَمْ ثم إن الفتى اعتل، واشتدت علته، فلما وردوا أطراف الشام (2/139) مات فدفنه جده، ووجد عليه وجداً شديداً، وقال يرثيه: يَا صَاحِبَ القَبرِ الغَرِيبِ ... بالشّامِ من طَرفِ الكَثيبِ بالشِّعبِ بَينَ صَفَائِحٍ ... صُمٍّ تُرَصَّفُ بالجُنُوبِ مَا إنْ سَمعتُ أنينَهُ، ... وَنِدَاءَهُ عِنْدَ المَغيبِ أقبَلْتُ أطْلُبُ طِبَّهُ، ... وَالمَوْتُ يَعْضُلَ بالطَّبيبِ وَاللّيلُ مُنْسَدِلُ الدّجَى، ... وَحشُ الجِنابِ من الغُرُوبِ هَاجَتْ لِذَلِكَ لَوْعَةٌ ... في الصّدْرِ ظَاهرَةُ الدبيبِ عاشق أخت زوجته ذكر أبو عمر محمد بن العباس، ونقلته من خطه، أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، أخبرني أبو بكر العامري، أخبرني رياح بن قطب بن زيد الأسدي ابن أخت قريبة أم البهلول ابنة أباق الدبيرية الأسدية أخت الركاض بن أباق الدبيري الشاعر عن قريبة قالت: كان لعبد المخبل وهو كعب بن مالك؛ وقال غير قريبة: هو كعب بن عبد الله من بني لأي بن شاس بن أنف الناقة وهو من أهل الحجاز؛ ابنة عم له يقال لها أم عمرو، وكانت أحب الناس إليه، فخلا بها ذات يوم، فنظر إليها وهي واضعة ثيابها فقال لها: يا أم عمرو! هل ترين أن أحداً من النساء أحسن منك؟ قالت: نعم! أختي ميلاء أحسن مني. قال: فكيف لي بأن ترينيها؟ قالت: إن علمت بك لم تخرج إليك. ولكن تختبئ في الستر، وأبعث إليها. قال: ففعلت، وأرسلت إليها، وهو في الستر، وجاءت ميلاء، فلما نظر إليها عشقها وترك أختها امرأته، وعارضها من مكان لا تحتسبه، فشكا إليها حبها، وأعلمها أنه قد رآها. فقالت: والله يا ابن عم! ما (2/140) وجدت بي من شيء، إلا قد وجدت منك مثله، وظنت أم عمرو امرأته أنه قد عشق أختها فتبعتهما، وهما لا يدريان، حتى رأتهما قاعدين جميعاً، فمضت تقصد إخوتها، وكانوا سبعةً، فقالت: إما أن تزوجوا كعباً ميلاء، وإما أن تغيبوها عني. فلما بلغه أن ذلك قد بلغ إخوتها هرب، فرمى بنفسه نحو الشام وترك الحجاز. وقال وهو بالشام: أفي كُلّ يَوْمٍ أنتَ مِنْ بارِحِ الهَوَى ... إلى الشُّمّ من أعلامِ مَيلاءَ ناظِرُ فروى هذا البيت رجل من أهل الشام. ثم خرج يريد مكة فمر على أم عمرو وأختها ميلاء، وقد ضل الطريق، فسلم عليهما، وسألهما عن الطريق. فقالت أم عمرو: يا ميلاء! صفي له الطريق، فذكر الرجل لما سمعها تقول يا ميلاء: أفي كُلّ يَومِ أنتَ مِنْ بارِحِ الهَوَى ... إلى الشُّمِّ مِنْ أعلامِ مَيلاءَ نَاظِرُ فتمثل به فعرفت الشعر، فقالت: يا عبد الله! من أين أنت؟ قال: أنا رجل من أهل الشام، فقالت: فمن أين رويت هذا الشعر؟ قال: رويته عن أعرابي بالشام. قالت: أو تدري ما اسمه؟ قال: اسمه كعب. قال: فأقسمتا عليه أن لا يبرح حتى يراك إخوتنا، فيكرموك، ويدلوك على الطريق، فقد أنعمت علينا. فقال: إني لأروي له شعراً آخر، فما أدري أتعرفانه أم لا؟ فقالتا: نسألك بالله إلا أسمعتنا إياه؟ قال: سمعته يقول: خَلِيليَّ! قد رُزْتُ الأمورَ وَقِستُهَا، ... بِنَفسِي وَبالفِتيَانِ كُلَّ مَكَانِ فَلَمْ أُخفِ يَوْماً للرّفِيقِ وَلمْ أجِدْ ... خَلِيّاً وَلا ذا البَثّ يَستَوِيَانِ مِنَ النّاسِ إنسَانانِ، دَيني عَلَيهما، ... مَلِيّانِ لَوْلا النّاسُ قَدْ قَضَيَانِي مَنُوعَانِ، ظَلاّمانِ، مَا يُنصِفَانِني، ... بدَلَّيهِما وَالحُسنِ قَدْ خَلَبَاني (2/141) يُطِيلانِ حَتى يَحسَبَ النّاسُ أنّني ... قُضِيتُ، وَلا وَاللهِ مَا قَضَيَاني خَلِيليّ، أمّا أُمُّ عَمرو فَمِنهُمَا، ... وَأمّا عَنِ الأخرَى، فَلا تَسلاني بُلِينا بِهِجرانٍ، وَلَمْ يُرَ مِثْلُنا ... مِنَ النّاسِ إنسَانَانِ يَهتَجِرَانِ أشَدَّ مُصافاةً وَأبْعَدَ مِنْ قِلىً، ... وَأعصَى لِوَاشٍ حِينَ يُكْتَنَفَانِ يُبَيّنُ طَرْفَانَا الذّي في نُفُوسِنا، ... إذا استُعجِمَتْ بالمَنطِقِ الشّفَتَانِ فَوَاللهِ مَا أدرِي أكُلُّ ذَوِي الهَوَى ... عَلى شَكلِنَا، أمْ نَحنُ مُبتَلَيَانِ فَلا تَعجَبا مِمّا بيَ اليَوْمَ مِنْ هَوَىً، ... فَفي كُلّ يَوْمٍ مِثْلُ مَا تَرَيَانِ خَلِيليّ! عَن أيّ الذي كانَ بَيننَا ... مِنَ الوَصْلِ أوْ ماضِي الهَوَى تَسَلانِ وكُنّا كَرِيمَيْ مَعشَرٍ حُمّ بَينَنَا ... هَوىً، فَحِفظنَاهُ بِحُسْنِ صِيَانِ نَذودُ النفوسَ الحَائماتِ عَنِ الهَوَى ... وَهُنّ بأعنَاقٍ إلَيْهِ ثَوَانِ سَلاهُ بأُمّ العَمرِ مِنهُ، فَقَدْ بَرَا ... بِهِ السّقمُ لا يَخفَى وَطولُ ضَمانِ فَما زَادَنا بُعدَ المَدى نَقضُ مَرّةٍ، ... وَلا رَجَعَا مِنْ عِلْمِنا بِبَيَانِ خَلِيليّ! لا وَاللهِ مَا لي بالّذي ... تُرِيدانِ مِنْ هَجرِ الصّدِيقِ يَدَانِ وَلا ليَ بالهَجرِ اعتِلاءٌ، إذا بَدَا ... كَمَا أنْتُمَا بالبَينِ مُعتَلَيَانِ قال: فنزل الرجل وحط رحله حتى جاءت إخوتهما فأخبرتاهم الخبر، وكانتا مهتمتين بكعب، وذلك أنه كان ابن عمهم، وكان ظريفاً شاعراً، فأكرموا الرجل ودلوه على الطريق، وخرجوا، فطلبوا كعباً بالشام، فوجدوه، فأقبلوا به، حتى إذا صار إلى بلدهم نزل كعب في بيت ناحيةً من الحي، فرأى ناساً قد اجتمعوا عند البيوت، فقال كعب لغلام قائم، وكان قد ترك بنياً له صغيراً: يا غلام من أبوك؟ قال: أبي كعب. قال: فعلام يجتمع هذا الناس؟ وأحس فؤاد كعب بشر. قال: يجتمعون على (2/142) خالتي ميلاء، ماتت الساعة. قال: فزفر زفرةً حر منها ميتاً، فدفن إلى جانب قبرها. يقتل حبيبته وينتحر ذكر أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، ونقلته من خطه، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، حدثنا العمري عن الهيثم عن ابن عياش ولقيط بن بكير قال: وحدثنا أحمد بن الحارث الخزاز، حدثنا أبو الحسن المدايني، حدثني هشام بن الكلبي عن أبي مسكين قال: خرج ناس من بني حنيفة يتنزهون فبصر فتىً منهم بجارية فعشقها، فقال لأصحابه: انصرفوا حتى أقيم وأرسل إليها، فطلبوا إليه أن يكف، وأن ينصرف، فأبى، وانصرف القوم، وجعل يراسل الجارية حتى وقع في نفسها، فأقبل في ليلة إضحيان متقلداً قوساً، والجارية نائمة بين إخوتها، فأيقظها، فقالت: يا فاسق انصرف وإلا، والله أيقظت إخوتي، فقاموا إليك، فقتلوك، فقال: والله للموت أهون علي مما أنا فيه، ولكن أعطيني يدك أضعها على فؤادي وأنصرف، فأعطته يدها، فوضعها على فؤاده وصدره، ثم انصرف. فلما كانت الليلة القابلة أتاها، وهي في مثل حالها، فأيقظها، فقالت: له مثل مقالتها الأولى، ورد هو عليها مثل قولها، وقال: لك الله علي إن أمكنتني من شفتيك أرتشفهما أن أنصرف، ثم لا أعود إليك، فأمكنته من شفتيها ثم انصرف، ووقع في نفسها مثل النار، ونذر به الحي، فقالوا: ما لهذا الفاسق في هذا الحي ذاهباً وجائياً؟ انهضوا بنا حتى نخرجه. فأرسلت إليه أن القوم يأتونك الليلة، فالحذر، فلما أمسى خرج ناحيةً عن الحي، فقعد على مرقب له ومعه قوسه وأسهمه، وكان أحد الرماة، (2/143) وأصاب الحي من النهار مطر، فلهوا عنه، فلما كان في آخر الليل ذهب السحاب، وطلع القمر، فخرجت تريده، وقد أصابها الندى، فنشرت شعرها، وكانت معها جارية من الحي، فقالت: هل لك في عباس، وهو اسمه، فخرجتا تمشيان، فنظر إليهما، وهو على المرقب، فظن أنهما ممن يطلبه، فرمى بسهمه فما أخطأ قلب الجارية، ففلقه، وصاحت الجارية التي كانت معها، وانحدر من المرقب الذي كان عليه، فإذا هو بالجارية متضمخة بدمها، فقال عند ذلك، وهو يبكي: نَعَبَ الغُرَابُ بِما كَرِهْ ... تُ وَلا إزَالَةَ للقَدَرْ تَبكي، وَأنتَ قَتَلتَهَا، ... فَاصْبِرْ، وَإلا فانْتَحِرْ قال: ثم وجأ نفسه بمشاقصه، حتى مات. وجاء الحي فوجدوهما ميتين، فدفنوهما في قبر واحد. ؟ المأمون وذات القلم أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني، حدثنا محمد بن عبد الله البصري، حدثنا الغلابي محمد بن زكريا، حدثنا مهدي بن سابق قال: رأى المأمون في يد جارية له قلماً، وكان ذا شغف بها، واسمها منصف، فقال: أرَاني مَنَحتُ الحُبّ مَن لَيسَ يعرِفُ ... فمَا أنصَفتَني في المَحَبّةِ مُنصِفُ وَزَادَتْ لَدَينا حُظوَةً يَوْمَ أعرَضَتْ ... وَفي إصْبعَيها أسمَرُ اللّوْنِِ أهيَفُ أصَمُّ، سَميعٌ، سَاكِنٌ، مُتَحَرّكٌ، ... يَنالُ جَسِيماتِ العُلى، وَهوَ أعجَفُ عَجبتُ لَهُ أنَّى، وَدَهرُكِ مُعجِبٌ، ... يُقَوِّمُ تَحريفَ العِبَادِ مُحَرَّفُ (2/144) ميت الحب شهيد قال الجوهري: وأنشدني محمد بن محمد الصائغ: سأكتُمُ ما ألقَاهُ، يا فَوْزَ، نَاظِرِي، ... من الوَجدِ كَيلا يَذهَبَ الأجرُ باطِلا فَقَدْ جاءَنا عَن سَيّدِ الخَلقِ أحمدٍ، ... وَمَن كانَ بَرّاً بالعِبَادِ وَوَاصِلا بأنْ من يَمُتْ في الحُبِّ يكتمُ وَجدَهُ، ... يَمُوتُ شَهيداً في الفَرَاديسِ نَازِلا رَوَاهُ سُوَيدٌ عَنْ عليّ بنِ مُسهَرٍ، ... فَما فيه من شَكٍّ لمَنْ كانَ عَاقِلا وَمَاذا كَثيرٌ للّذي بَاتَ مُفرَداً، ... سَقِيماً، عَليلاً، بالهَوَى مُتَشَاغِلا عصيان العذال سنة ولي من أثناء قصيدة مدحت بها ببغداد: وَحَوْراءَ غَدَتْ باللّحْ ... ظِ للعُشّاقِ قَتّالَهْ فكَمْ من قَائِلٍ حينَ ... رآهَا، وَهيَ مُختالَهْ أفي أجفَانِها المَرْضَى ... مِنَ القَارَةِ نَبّالَهْ بَدَتْ مَا بَينَ أترَابٍ ... لَهَا كَالبَدرِ في الهَالَهْ عَلَيهَا من ثِيَابِ الصَّوْ ... نِ مَا تَسْحَبُ أذْيَالَهْ أيَا ظَبيَةَ بَطنِ الخَيْ ... فِ! ضَيفٌ رَامَ إنزَالَهْ قِرَاهُ قُبْلَةٌ، فَالبَيْ ... نُ قَدْ قَرّبَ أحمَالَهْ (2/145) فَكَمْ لاحٍ عَلى حُبِّي ... كِ لمْ أُصْغِ لِمَا قَالَهْ وَمِنْ سُنّةِ مَنْ يَعْشَ ... قُ أنْ يَعصِيَ عُذّالَهْ عمر والمرأة المتلعجة أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، حدثني أبي، حدثنا أحمد بن الربيع الخزاز، حدثني يونس بن بكير الشيباني، حدثني أبو إسحق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس، وكان قد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: ما زلت أسمع حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيراً، إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة عليها بابها، وهي تقول: تَطَاولَ هذا اللّيلُ تَسرِي كَوَاكِبُهْ ... وأَرّقَنِي أنْ لا ضَجيعَ أُلاعِبُهْ أُلاعِبُهُ طَوْراً، وطَوْراً كَأنّما ... بَدَا قَمَراً في ظُلْمَةِ اللّيلِ حَاجِبُهْ يُسَرُّ بِهِ مَنْ كَانَ يَلهُو بِقُرْبِهِ، ... لَطيفُ الحَشَا لا تَحتَوِيهِ أقَارِبُهْ فَوَاللهِ، لَوْلا اللهُ لا شَيءَ غَيرَهُ، ... لَنُقّضَ مِنْ هذا السّرِيرِ جَوَانِبُهْ وَلَكِنِنّي أخشَى رَقيباً مُوَكَّلاً ... بأنْفُسِنا لا يَفترُ، الدّهرَ، كَاتِبُهْ ثم تنفست الصعداء، وقالت: لهان على عمر بن الخطاب وحشتي، وغيبة زوجي عني، وعمر واقف يستمع قولها، فقال لها: يرحمك الله، يرحمك الله! ثم وجه إليها بكسوة ونفقة، وكتب في أن يقدم عليها زوجها. (2/146) سادلة البرقع أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ الأصبهاني بأصفهان، حدثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا محمد بن علي بن حرب المروزي، أخبرنا أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن شيطا المقري، رحمه الله تعالى، حدثنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد، حدثنا الكوكبي، أخبرنا أبو العيناء، أخبرني الجماز عن الأصمعي قال: نظر أعرابي إلى أعرابية عليها برقع، فقال لها: ارفعي البرقع أنظر نظرةً! فقالت: لا والله، دون أن يبيضّ القار، فأنشأ يقول: هَلِ القَارُ مُبَيضٌّ فأنظُرَ نَظرَةً ... إلى وَجهِ لَيلى، أوْ تَقضّى نُذورُهَا ميعاد السلو أخبرنا محمد بن الحسين، أخبرنا المعافى بن زكريا، حدثنا ابن دريد، حدثنا عبد الرحمن عن عمه، سمعت جعفر بن سليمان يقول: ما سمعت بأشعر مر القائل: إذا رُمتُ عَنها سَلوَةً قالَ شافعٌ ... منَ الحُبّ: ميعادُ السّلُوّ المَقَابرُ فقلت: أشعر منه الأحوص حيث يقول: سَيبقَى لها في مُضْمَرِ القَلبِ وَالحَشا ... سَرِيرَةُ وُدٍّ يَوْمَ تُبلى السّرَائر (2/147) رجل في ثوب امرأة أنبأنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين ابن القاسم الكوكبي، حدثنا عبد الله بن محمد القرشي، حدثنا محمد بن صالح الحسني، حدثني أبي عن نمير بن قحيف الهلالي قال: كان في بني هلال فتىً يقال له بشر، ويعرف بالأشتر، وكان سيداً حسن الوجه، شديد القلب، سخي النفس، وكان معجباً بجارية من قومه تسمى جيداء، وكانت الجارية بارعةً، فاشتهر أمره وأمرها ووقع الشر بينه وبين أهلها، حتى قتلت بينهم القتلى، وكثرت الجراحات، ثم افترقوا على أن لا ينزل أحد منهم بقرب الآخر. فلما طال على الأشتر البلاء والهجر جاءني ذات يوم، فقال يا نمير! هل فيك من خيرٍ؟ قلت: عندي كل ما أحببت. قال: أسعدني على زيارة جيداء، فقد ذهب الشوق إليها بروحي، وتنغصت علي حياتي، قلت: بالحب والكرامة، فانهض إذا شئت. فركب وركبت معه، فسرنا يومنا وليلتنا، حتى إذا كان قريباً من مغرب الشمس نظرنا إلى منازلهم، ودخلنا شعباً خفياً، فأنخنا راحلتينا، وجلين، فجلس هو عند الراحلتين، وقال: يا نمير! اذهب، بأبي أنت وأمي، فادخل الحي واذكر لمن لقيك أنك طالب ضالةً، ولا تعرض بذكري بين شفةٍ ولسان، فإن لقيت جاريتها فلانة الراعية، فأقرئها مني السلام، وسلها عن الخبر، وأعلمها بمكاني. فخرجت لا أعذر في أمري حتى لقيت الجارية فأبلغتها الرسالة، وأعلمتها بمكانه، وسألتها عن الخبر، فقالت: بلى، والله، مشدد عليها، متحفظ منها، وعلى ذلك فموعدكما الليلة عند تلك الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت. (2/148) فانصرفت إلى صاحبي، فأخبرته الخبر، ثم نهضنا نقود راحلتينا، حتى جاء الموعد، فلم نلبث إلا قليلاً إذا جيداء قد جاءت تمشي حتى دنت منا، فوثب إليها الأشتر، فصافحها وسلم عليها، وقمت مولياً عنهما، فقالا: إنا نقسم عليك إلا ما رجعت، فوالله ما بيننا ريبة، ولا قبيح نخلو به دونك. فانصرفت راجعاً إليهما حتى جلست معهما، فتحدثا ساعةً، ثم أرادت الانصراف، فقال الأشتر: أما فيك حيلة يا جيداء، فنتحدث ليلتنا، ويشكو بعضنا إلى بعض؟ قالت: والله ما إلى ذلك من سبيل إلا أن تعود إلى الشر الذي تعلم. قال لها الأشتر: لا بد من ذلك، ولا وقعت المساء على الأرض. فقالت: هل في صديقك هذا من خير أو فيه مساعدة لنا؟ قال: الخير كله. قالت: يا فتى! هل فيك من خيرٍ؟ قلت: سلي ما بدا لك، فإني منته إلى مرادك، ولو كان في ذلك ذهاب روحي. فقامت فنزعت ثيابها، فخلعتها علي، فلبستها. ثم قالت: اذهب إلى بيتي، فادخل في خبائي، فإن زوجي سيأتيك بعد ساعة، أو ساعتين، فيطلب منك القدح ليحلب به الإبل، فلا تعطه إياه حتى يطيل طلبه، ثم ارم به رمياً، ولا تعطه إياه من يدك، فإني كذا كنت أفعل به، فيذهب فيحلب، ثم يأتيك عند فراغه من الحلب والقدح ملآن لبناً، فيقول: هاك غبوقك، فلا تأخذ منه حتى تطيل نكداً عليه، ثم خذه أو دعه حتى يضعه، ثم لست تراه حتى تصبح، إن شاء الله تعالى. قال: فذهبت، ففعلت ما أمرتني به، حتى إذا جاء القدح الذي فيه اللبن أمرني أن آخذه فلم آخذه، حتى طال نكدي، ثم أهويت لآخذه، وأهوى ليضعه، واختلفت يدي ويده، فانكفأ القدح، واندفق ما فيه، فقال: إن هذا طماح مفرط. وضرب بيده إلى مقدم البيت فاستخرج منه سوطاً مفتولاً كمتن الثعبان المطوق، ثم دخل علي، (2/149) فهتك الستر عني وقبض بشعري، وأتبع ذلك السوط متني، فضربني تمام ثلاثين، ثم جاءت أمه وإخوته، وأخت له، فانتزعوني من يده، ولا والله ما أقلعوا، حتى زايلتني روحي، وهممت أن أوجره السكين، وإن كان فيه الموت. فلما خرجوا عني، وهو معهم، شددت ستري، وقعدت كما كنت، فلم ألبث إلا قليلاً حتى دخلت أم جيداء علي تكلمني، وهي تحسبني ابنتها، فاتقيتها بالسكات والبكى، وتغطيت بثوبي دونها. فقالت: يا بنية! اتقي الله ربك ولا تعرضي لمكروه زوجك فذاك أولى بك، فأما الأشتر، فلا أشتر لك آخر الدهر. ثم خرجت من عندي، وقالت: سأرسل إليك أختك تؤنسك، وتبيت عندك الليلة. فلبثت غير ما كثير، فإذا الجارية قد جاءت فجعلت تبكي وتدعو على من ضربني، وجعلت لا أكلمها، ثم اضطجعت إلى جانبي، فلما استمكنت منها شددت بيدي على فيها، وقلت: يا هذه! تلك أختك مع الأشتر، وقد قطع ظهري الليلة في سببها، وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك، ولها، فوالله لئن تكلمت بكلمة لأصيحن بجهدي حتى تكون الفضيحة شاملةً، ثم رفعت يدي عنها، فاهتزت الجارية كما تعتز القصبة من الزرع، ثم بات معي منها أملح رفيق رافقته، وأعفه وأحسنه حديثاً، فلم تزل تتحدث، وتضحك مني ومما بليت به من الضرب حتى برق النور، إذا جيداء قد دخلت علينا من آخر البيت، فلما رأتنا ارتاعت، وفزعت، وقالت: ويلك! من هذا عندك؟ قلت: أختك. قالت: وما السبب؟ قلت: هي تخبرك، ولعمر الله إنها لعالمة بما نزل بي. وأخذت ثيابي منها، ومضيت إلى صاحبي، فركبنا، ونحن خائفان، فلما سري عنا روعنا، حدثته ما أصابني، وكشفت عن ظهري، فإذا (2/150) فيه ما غرس الله من ضربة إلى جانب أخرى، كل ضربة تخرج الدم وحدها. فلما رآني الأشتر قال: لقد عظمت صنيعتك ووجب شكرك، إذ خاطرت بنفسك، فبلغني الله مكافأتك. شامة مشؤومة أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، حدثني أبي، حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي، حدثني عباد بن عبد الواحد، حدثني ابن عائشة، حدثني أبي قال: كانت عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية عند هشام بن عبد الملك، وكانت من أجمل النساء، فدخل عليها يوماً، وعليها ثياب سود رقاق من هذه التي يلبسها النصارى يوم عيدهم، فملأته سروراً حين نظر إليها، ثم تأملها فقطّب، فقالت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ أكرهت هذه، ألبس غيرها؟ قال: لا! ولكن رأيت هذه الشامة التي على كشحك من فوق الثياب، وبك يذبح النساء، وكانت بها شامة في ذلك الموضع، أما إنهم سينزلونك عن بغلة شهباء، يعني بني العباس، وردة، ثم يذبحونك ذبحاً. قال: وقوله يذبح بك النساء، يعني إذا كانت دولة لأهلك ذبحوا بك من نساء القوم الذين ذبحوك. فأخذها عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان معها من الجوهر ما لا يدرى ما هو، ومعها درع يواقيت وجوهر منسوج بالذهب، فأخذ ما كان معها وخلى سبيلها. فقالت، في الظلمة: أي دابةٍ تحتي؟ قيل لها: دهماء، في الظلمة، فقالت، نجوت. قال: فأقبلوا على عبد الله بن علي، فقالوا: ما صنعت؟ أدنى ما يكون يبعث أبو جعفر إليها، فتخبره بما أخذت منها، فيأخذه منك، اقتلها، (2/151) فبعث في إثرها، وأضاء الصبح، وإذا تحتها بغلة شهباء وردة، فلحقها الرسول، فقالت: مه! فقال: أمرنا بقتلك، قالت: هذا أهون علي، فنزلت فشدت درعها من تحت قدميها وكميها. صاحب يساوي الخلافة أخبرنا أبو علي بن محمد الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا الفضل بن العباس أبو الفضل الربعي، حدثنا إبراهيم بن عيسى الهاشمي قال: قال علويه: أمرني المأمون وأصحابي أن نغدو إليه لنصطبح، فغدوت، فلقيني عبد الله بن إسماعيل صاحب المراكب. فقال: يا أيها الرجل الظالم المتعدي! أما ترحم ولا ترق ولا تستحي من عريب؟ هي هائمة بك. قال علويه: وكانت عريب أحسن الناس وجهاً، وأظرف الناس وأحسن غناء مني ومن صاحبي مخارق، فقلت له: مر حتى أجيء معك، فحين دخلنا قلت له: استوثق من الأبواب، فإني أعرف الناس بفضول الحجاب، فأمر بالأبواب فأغلقت ودخلت، فإذا عريب جالسة على كرسي، وبين يديها ثلاث قدور زجاج، فلما رأتني قامت إلي، فعانقتني، وقبلتني، وأخلت لسانها في فمي. قالت: ما تشتهي تأكل؟ قلت: قدراً من هذه القدور، فأفرغت قدراً منها بيني وبينها، فأكلنا. ثم دعت بالنبيذ، فصبت رطلاً، فشربت نصفه، وسقتني نصفه، فما زلنا نشرب حتى سكرنا، ثم قالت: يا أبا الحسن! أخرجت البارحة شعراً لأبي العتاهية فاخترت منه شيئاً. قلت: ما هو؟ قالت: وَإني لمُشتَاقٌ إلى ظِلّ صَاحِبٍ ... يَرِقُّ ويَصفُو إنْ كَدُرْتُ عَلَيهِ (2/152) عذيرِي من الإنسانِ! لا إنْ جَفَوتُه ... صَفَا لي، وَلا إنْ كنتُ طَوْعَ يَدَيهِ فصيرناه مجلسنا، فقالت: بقي فيه شيء، فأصلحه! قلت: ما فيه شيء. قالت: بلى، في موضع كذا، فقلت: أنت أعلم، فصححناه جميعاً، ثم جاء الحجاب، وكسروا الباب، واستخرجت، فأدخلت على المأمون، فأقبلت أرقص من أقصى الصحن، وأصفق بيدي، وأغني الصوت، فسمع وسمعوا ما لم يعرفوه، فاستطرفوه، فقال المأمون: ادن يا علويه! فدنوت، فقال: رد الصوت! فرددته سبع مرات، فقال: أنت الذي تشتاق إلى ظل صاحب يروق ويصفو إن كدرت عليه؟ فقلت: نعم! فقال خذ مني الخلافة، وأعطني هذا الصاحب بدلها. وسألني عن خبري، فأخبرته، فقال: قاتلها الله، فهي أجل أبزار من أبازير الدنيا. امرأة على كتف أعرابي أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، حدثنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حدثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا عمران بن أبي ليلى، حدثنا حبان بن علي عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: كنت أطوف مع عمر بن الخطاب حول الكعبة، وكفي في كفه، فإذا أعرابي على كتفه امرأة مثل المهاة وهو يقول: صِرْتُ لِهَذي جَمَلاً ذَلُولا ... مُوَطّأً أتّبِعُ السّهُولا أعدِلُها بالكَفّ أنْ تَمِيلا ... أحذَرُ أنْ تَسقُطَ أوْ تَزُولا أرْجُو بذَاكَ نَائِلاً جَزِيلا فقال له عمر: ما هذه المرأة التي وهبت لها حجتك يا أعرابي؟ فقال: (2/153) هذه امرأتي، والله، يا أمير المؤمنين، إنها مع ما ترى من صنيعتي بها، حمقاء مرغامة، أكول قمّامة، مشؤومة الهامة. قال: فما تصنع بها إذا كان هذا قولك فيها؟ قال: إنها ذات جمال، فلا تفرك، وأم صغار، فلا تترك. قال: إذاً فشأنك بها. كيد النساء أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، حدثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدثنا الكوكبي قال: حدثنا أحمد بن عبيد النحوي، حدثنا محمد بن زبار عن الشرقي بن قطامي قال: كان عمرو بن قمية البكري من أحب الناس إلى مرثد بن قيس بن ثعلبة، وكان يجمع بينه وبين امرأته على طعامه، وكانت إصبع قدم عمرو الوسطى والتي تليها ملصقتين، فخرج مرثد ذات يوم يضرب بالقداح، فأرسلت امرأته إلى عمرو أن عمك يدعوك، فجاءت به من وراء البيوت، فلما دخل عليها، لم يجد عنه، وأنكر شأنها، فأرادته على نفسه، فقال: لقد جئت بأمر عظيم. فقالت: أما لتفعلن أو لأسوءنك. فقال: للمساءة ما دعوتني. ثم قام فخرج، وأمرت بجفنة، فكفئت على أثر قدمه، فلما رجع مرثد وجدها متغضبة، فقال: ما شأنك؟ قالت: رجل قريب القرابة منك جاءني يسومني نفسي. قال: من هو؟ قالت: أما أنا فلا أسميه، وهذا أثر قدمه، فعرف مرثد أثر عمرو، فأعرض عنه، وعرف عمرو من أين أتي، فقال في ذلك: لَعمرُكَ! مَا نَفسِي بِجِدّ رَشِيدَة، ... تُؤامِرُني سِرّاً لأصْرِمَ مَرْثَدَا عَظيمُ رَمَادِ القِدرِ، لا مُتَعَبّسٌ، ... وَلا مُؤيِسٌ مِنها، إذا هُوَ أخمَدَا (2/154) فَقَدْ أظهَرَتْ مِنهُ بَوَائِقُ جَمّةٌ، ... وَأفرَغَ في لَوْمي مِراراً وَأصْعَدَا عَلى غَيرِ ذَنبٍ أن أكونَ جَنَيتُهُ، ... سِوى قَوْلِ باغٍ جاهدٍ فَتَجَهّدَا النخلة العاشقة أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، أخبرني محمد بن أحمد الحكيمي، حدثنا أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب قال: سمعت أبا مسلمة المنقري يقول: كان عندنا بالبصرة نخلة ذكر من حسنها وطيب رطبها. قال: ففسدت حتى شيّصت. قال: فدعا صاحبها شيخاً قديماً يعرف النخيل، فنظر إليها وإلى ما حولها من النخل، فقال: هذه عاشقة لهذا الفحل الذي بالقرب منها. قال: فلقحت منه، فعادت إلى أحسن ما كانت. المهدي ونخلتا حلوان وأخبرنا أحمد بن علي التوزي، أخبرنا أبو عبيد الله، أخبرنا أبو بكر الجرجاني، حدثنا الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن أبي القيسي عن أبي سمير عبد الله بن أبي أيوب قال: لما خرج المهدي، فصار بعقبة حلوان، استطاب الموضع، فتغدى ودعا بحسنة، فقال لها: أما ترين طيب هذا الموضع، فغنيني، فأخذت محكةً كانت في يده وأوقعت بها على مخدة، وغنته: أيَا نَخلَتَيْ وَادي بُوَانَةَ! حَبّذا، ... إذا نَامَ حُرّاسُ النّخِيلِ، جَناكُمَا فقال: أحسنت! لقد هممت بقطع هاتين النخلتين، يعني نخلتي (2/155) حلوان. فقالت: أعيذك بالله أن تكون النحس. قال: وما ذاك؟ قالت: قول الشاعر فيهما: أسعِدَانِي يَا نَخلَتَيْ حُلْوَانِ، ... وَابكِيا لي من رَيبِ هذا الزّمَانِ وَاعْلَمَا، إنْ بَقِيتُمَا، أنّ نَحساً ... سَوْفَ يَأتِيكُما، فَتَفتَرِقَانِ فقال: لا أقطعهما أبداً، ووكل بهما من يحفظهما. الأشتر وجيداء أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي قراءة عليه، حدثني أبي، أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين بن الأصفهاني، حدثني جعفر بن قدامة، حدثني أبو العيناء قال: كنت أجالس محمد بن صالح بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب، وكان حمل إلى المتوكل أسيراً، فحبسه مدة، ثم أطلقه، وكان أعرابياً فصيحاً محرماً، فحدثني قال: حدثني نمير بن قحيف الهلالي، وكان حسن الوجه حيياً، قال: كان منا فتىً يقال له بشر بن عبد الله، ويعرف بالأشتر. وكان يهوى جاريةً من قومه يقال لها جيداء، وكانت ذات زوج، وشاع خبره في حبها، فمنع منها، وضيق عليه، وذكر قصة الأشتر مع جيداء على نحو ما في الخبر الذي قبل هذا الجزء فكرهت إعادتها لأن المعنى واحد. (2/156) ماتت حزناً على المأمون أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن مالك النحوي، حدثنا يحيى بن أبي حماد الموكبي عن أبيه قال: وصفت للمأمون جارية بكل ما توصف امرأة من الكمال والجمال، فبعث في شرائها، فأتي بها وقت خروجه إلى بلاد الروم، فلما هم ليلبس درعه، خطرت بباله، فأمر، فخرجت إليه، فلما نظر إليها أعجب بها وأعجبت به، فقالت: ما هذا؟ قال: أريد الخروج إلى بلاد الروم. قالت: قتلتني، والله يا سيدي، وحدرت دموعها على خدها كنظام اللؤلؤ، وأنشات تقول: سأدعُو دَعوَةَ المُضْطَرّ رَبّاً ... يُثيبُ عَلى الدّعاءِ وَيَستَجيبُ لَعَلّ اللهَ أن يَكفيكَ حَرْباً، ... وَيَجمعَنَا، كما تَهوَى القُلوبُ فضمها المأمون إلى صدره، وأنشأ متمثلاً يقول: فَيا حُسنَها إذ يَغسِلُ الدمعُ كُحلَها ... وَإذ هيَ تُذرِي الدمعَ مِنها الأنَامِلُ صَبيحَةَ قالت في العتابِ: قَتَلتَني، ... وقتلي، بما قالت، هُنَاكَ تُحَاوِلُ ثم قال لخادمه: يا مسرور! احتفظ بها وأكرم محلها، وأصلح لها كل ما تحتاج إليه من المقاصير والخدم والجواري إلى وقت رجوعي، فكان كما قال الأخطل: قَوْمٌ إذا حَارَبوا شّدوا مآزِرَهُم ... دونَ النّساءِ، وَلَوْ باتَتْ بأطْهَارِ ثم خرج، فلم يزل الخادم يتعاهدها، ويصلح ما أمر به، فاعتلت علةً شديدة أشفق عليها منها وورد نعي المأمون، فلما بلغها ذلك تنفست (2/157) الصعداء وتوفيت، وكان مما قالت، وهي تجود بنفسها: إنّ الزّمَانَ سَقَانَا مِنْ مَرَارَتِهِ ... بَعدَ الحَلاوَةِ أنفَاساً وَأرْوَانَا أبدَى لَنَا تَارَةً مِنهُ، فأضْحكَنا، ... ثمّ انثنَى تَارَةً أُخرَى، فأبكَانَا إنّا إلى اللهِ في مَا لا يَزَالُ لَنَا، ... مِنَ القَضَاءِ، ومَن تَلوِينَ دُنيَانَا دُنيَا نَرَاها تُرِينَا من تَصرّفِها ... مَا لا يَدُومُ مُصَافاةً وَأحزَانَا وَنَحنُ فِيها، كَأنّا لا نُزَايلُهَا، ... للعَيشِ أحيَاؤُنَا يَبكُونَ مَوْتَانَا القاضي المدنف وأخبرنا الجازري، حدثنا المعافى، حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، حدثنا أحمد بن الصلت قال: كان حمدان البرتي على قضاء الشرقية، فقدمت امرأة طقطق الكوفي زوجها إليه، وادعت عليه مهراً أربعة آلاف درهم، فسأله القاضي عما ذكرت، فقال: أعز الله القاضي، مهرها عشرة دراهم. فقال لها البرتي: أسفري، فسفرت حتى انكشف صدرها، فلما رأى ذلك قال لطقطق: ويحك! مثل هذا الوجه يستأهل أربعة آلاف دينار ليس أربعة آلاف درهم، ثم التفت إلى كاتبه، فقال له: ما في الدنيا أحسن من هذا الشذر على هذا النحر. فقال له طقطق: فديتك إن كانت قد وقعت في قلبك طلقتها. فقال له البرتي: تهددها بالطلاق، وقد قال الله: عز وجل: " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها "، وإن ههنا ألفاً ممن يتزوجها. فقال طقطق: فإني، والله، (2/158) ما قضيت وطري منها، وأنا طقطق لست بزيد. فأقبل البرتي على المرأة، فقال: يا حبيبتي! ما أدري كيف كان صبرك على مباضعة هذا البغيض، ثم أنشأ يقول: تَرَبّصْ بها رَيبَ المَنونِ، لَعَلّهَا ... تُطَلّقُ يَوْمَاً، أوْ يموتَ حَليلُها فقام طقطق، وتعلق به وصيف غلام البرتي، فصاح به: دعه يذهب عنا إلى سفر، ثم قال لها: إن لم يصر لك إلى ما تريدين فصيري إلى امرأة وصيف حتى تعلمني، وأضعه في الحبس. وكتب صاحب الخبر ما كان، فعلق به البرتي، وصانعه على خمسمائة دينار على أن لا يرفع الخبر بعينه، ولكن يكتب أن عجوزاً خاصمت زوجها، فاستغاثت بالقاضي، فقال لها: ما أصنع يا حبيبتي! هو حكم ولا بد أن أقضي بالحق. وانصرف البرتي متيماً، فما زال مدنفاً يبكي ويهيم فوق السطوح، ويقول الشعر: فكان مما يقوله: وَاحَسرَتي عَلى مَا مَضَى، ... لَيْتَني لضمْ أعرِفِ القَضَا أحبَبتُ أمراً وَخِفتُ اللهَ حَقّاً ... فَمَا تَمّ حَتى انقَضَى وغير ذلك من شعر لا وزن له ولا روي إلا أنه ارعوى ورجع. بماذا أكفر؟ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بصور، أنبأنا أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد الناجي الأندلسي: حدثني خالي القاضي أبو شاكر عبد الواحد بن محمد بن موهب بن محمد التجيبي لعبد الله بن الفرج الجياني، وهو أخو سعيد وأحمد ابني الفرج: (2/159) تَدَارَكتُ من خَطَإي نَادِمَا، ... لرُجْوَى سِوَى خالقي رَاحِمَا فَلا رُفِعَتْ صَرْعَتي إنْ رَفَعْ ... تُ يَديَّ إلى غَيْرِ مَوْلاهُمَا أمُوتُ وَأدْعُو إلى مَنْ يَمُو ... تُ بمَاذا أُكَفّرُ هَذَا بِمَا؟ كل يومين حجة واعتمار وأخبرنا محمد، حدثنا المعافى، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا مسلم بن عبد الله بن مسلم بن جندب عن أبيه قال: أنشد ابن أبي عتيق سعيد بن المسيب قول عمر بن أبي ربيعة: أيّهَا الرّاكِبُ المُجِدُّ ابتِكَارَا، ... قَد قَضَى من تهامَةَ الأوْطَارَا إنْ يكُنْ قَلبُك، الغداةَ، خَلِيّاً، ... فَفُؤادِي بالخَيفِ أمسَى مُعَارَا لَيتَ ذا الدّهرَ كانَ حَتماً عَلَينا، ... كُلَّ يَوْمَينِ حِجّةً وَاعتِمَارَا فقال: لقد كلفت المسلمين شططاً. فقال: يا أبا محمد! في نفس الجمل شيء غير ما في نفس سائقه. ليس للغدور وفاء أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة أنشدنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الجبار لنفسه: رَنَتْ إليّ بِعَينِ الرّئمِ، وَالتَفَتَتْ ... بجيدِهِ، وثَنَتْ مِنْ قَدِّهَا ألِفَا فخِلتُ بدرَ الدّجَى يَسرِي على غُصنٍ ... هَزّتهُ رِيحُ الصَّبَا فاهتزّ وَانعَطَفَا (2/160) وَأبصَرَتْ مُقلَتي تَرْنُو مُسَارِقَةً ... إلى سِوَاهَا، فَعَضّتْ كَفَّها أسَفَا ثمّ انثَنَتْ كالرَّشَا المَذعُورِ نَافِرَةً، ... وَوَرْدُ وَجنَتِها بالغَيظِ قد قُطِفَا تَقولُ: يا نعمُ! قومي تَنظرِي عجباً، ... هذا الذي يَدّعي التَّهيَامَ وَالشَّعَفَا يُريدُ منّا الوَفَا، وَالغَدْرُ شِيمَتُهُ، ... هَيهَاتَ أنْ يَتَأتّى للغَدُورِ وَفَا أكني بغيرك واعنيك وأخبرنا التنوخي قال: تقلت من خط أبي إسحق الصابي: أكني بِغَيركَ في شعرِي وَأعنيكِ، ... تَقِيّةً، وَحِذَاراً مِنْ أعَادِيكِ فإنْ سَمعتِ بإنسانٍ شُعِفتُ به، ... فإنّما هُوَ سِترٌ دونَ حُبّيكِ غَالطتُهم دونَ شَخصٍ لا وُجودَ لَهُ، ... مَعناهُ أنتِ، وَلكن لا أُسَمّيكِ أخافُ مِنْ مُسعدِي في الحبّ زَلّتَهُ، ... وكَيفَ آمَنُ فيهِ كَيدَ وَاشِيكِ وَلَوْ كَشَفتُ لهُمْ ما بي وَبحتُ بهِ ... لاستَعبَرُوا رَحمةً من محنَتي فيكِ مرضى تبعث المرض ولي من أثناء قصيدة: وَشَادِنٍ سِهَامُهُ ... مِنَ الجُفُونِ تُنتَضَى قَدْ أصْبَحَتْ لهَا قُلُو ... بُ عَاشِقيهِ غَرَضا كَمْ بَعَثَتْ أجفانُهُ ال ... مَرضَى لِقَلْبِ مَرَضَا (2/161) شعر على حائط أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن محمد بن عفير الأنصاري قال: قال أبو علي صديقنا: حدثني بعض أهل المعرفة أنه بينا هو في بعض بلاد الشام نزل في دار من دورها، فوجد على بعض حيطانها مكتوباً: دَعُوا مُقلَتي تبكي لِفَقدِ حَبيبها، ... لتُطفي ببرْدِ الدّمعِ حَرَّ كُرُوبِهَا ففي حلّ الدّمعِ للقلبِ رَاحةٌ، ... فَطُوبَى لنَفسٍ مُتّعَتْ بِحَبيبها بمَنْ لَوْ رَأتْهُ القَاطِعاتُ أكفَّهَا ... لَما رَضِيَتْ إلاّ بقَطعِ قُلُوبِها قال: فسأل عنه، فأخبر أن بعض العمال نزل هذه الدار، وقد أصاب ثلاثين ألف دينار، فعلق غلاماً، فأنفق ذلك المال كله عليه. قال: فبينا أنا جالس إذ مر بنا ذلك الغلام، قال: فما رأيت غلاماً أحسن منه حسناً وجمالاً. جرير والحجاج وأمامة وأخبرنا أبو علي، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو النضر العقيلي، أخبرنا الزبير، حدثني محمد بن أيوب اليربوعي عن أبي الذيال السلولي، حدثني جرير قال: وفدت على الحجاج في سفرة تسمى سفرة الأربعين، فأعطاني أربعين راحلةً ورعاءها، وحشو حقائبها القطائف والأكسية لعيالي، وأوقرها (2/162) حنطة، ثم خرجت. فلما شددت على راحلتي كورها، وأنا أريد المضي، جاءني خادم فقال: أجب الأمير، فرجعت معه، فدخلت على الحجاج، فإذا هو قاعد على كرسي، وإذا جارية قائمة تعممه، فقلت: السلام عليك أيها الأمير. فقال: هات، قل في هذه! فقلت: بأبي وأمي تمنعني هيبة الأمير، وإجلاله، فأفحمت، فما أدري ما أقول، فقال: بل هات، قل فيها! فقلت: بأبي وأمي، فما اسمها؟ قال: أمامة، فلما قال أمامة فتح علي فقلت: وَدّعْ أُمَامَةَ حَانَ مِنكَ رَحيلُ، ... إنّ الوَداعَ لمَنْ تُحِبّ قَليلُ تِلْكَ القُلُوبُ صَوَادِياً تَيّمتَهَا، ... وَأرَى الشّفَاءَ، وَمَا إلَيهِ سَبيلُ فقال: بل إليه سبيل. خذ بيدها! فأخذت بيدها، فجبذتها، فتعلقت بالعمامة، وجبذتها حتى رأيت عنق الحجاج قد صغت، ومالت مما جبذتها، وتعلق بالعمامة. قال: وخطر ببالي بيت من شعر، فقلت: إنْ كانَ طِبَّكُمُ الدّلالً، فإنّهُ ... حَسَنٌ دلالك، يا أُمَيمَ، جَميلُ فقال الحجاج: إنه، والله، ما بها ذاك، ولكن بها بغض وجهك، وهو أهل لذاك. خذها بيدها جرها! فلما سمعت ذلك منه خلت العمامة، وخرجت بها، فكنيتها أم حكيم، وجعلتها تقوم على عمالي وتعطيهم نفقاتهم بقرية يقال لها الفنة، من قرى الوشم. قال طلحة: فأخبرني الزبير قال: قال محمد بن أيوب: وسمعت حبجياً بن نوح يقول: كانت والله مباركة. (2/163) عائشة بنت طلحة وغراب قيس بن ذريح أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن إسحق بن إبراهيم العجلي البزاز المعروف بالمراجلي بسر من رأى، حدثنا محمد بن يونس الكديمي، حدثنا يحيى بن عمر الليثي، حدثنا الهيثم بن عدي، حدثنا المجالد عن الشعبي قال: مر بي مصعب بن الزبير، وأنا في المسجد. فقال: يا شعبي؛ قم! فقمت، فوضع يده في يدي وانطلق حتى دخل القصر، فقصرت، فقال: ادخل يا شعبي! فدخل حجرةً، فقصرت، فقال: ادخل يا شعبي! فدخل بيتاً، فقصرت، فقال: ادخل، فدخلت، فإذا امرأة في حجلة، فقال: أتدري من هذه؟ فقلت: نعم! هذه سيدة نساء المسلمين، هذه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فقال: هذه ليلى، وتمثل: وَمَا زِلتُ في لَيلى لدن طَرّ شارِبي ... إلى اليَوْمِ أُخفي حُبّها وَأُدَاجِنُ وَأحمِلُ في لَيلى لقَوْمٍ ضَغِينَةً، ... وَتُحملُ في لَيلى عليّ الضّغائنُ ثم قال لي: يا شعبي! إنها اشتهت علي حديثك، فحادثها، فخرج وتركها، قال: فجعلت أنشدها وتنشدني، وأحدثها وتحدثني، حتى أنشدتها قول قيس بن ذريح: ألا يا غُرَابَ البَيْنِ! قَد طرْتَ بالّذي ... أُحَاذِرُ من لُبنى، فَهلْ أنتَ وَاقعُ؟ أتَبكي عَلى لُبنى، وَأنتَ قَتَلتهَا؟ ... فَقَد هَلَكَتْ لُبنى، فما أنتَ صَانِعُ؟ قال: فلقد رأيتها، وفي يدها غراب تنتف ريشه، وتضربه بقضيب وتقول: يا مشؤوم. (2/164) أبو السائب يضرب الغراب وحدثنا المعافى قال: قال محمد بن مزيد الخزاعي، حدثنا الزبير قال: قال الخليل بن سعيد: مررت بسوق الطير، فإذا الناس قد اجتمعوا يركب بعضهم بعضاً، فاطلعت فإذا أبو السائب قابضاً على غراب يباع، قد أخذ طرف ردائه. وهو يقول للغراب: يقول لك ابن ذريح: ألا يا غُرَابَ البَينِ! قَد طرْتَ بالّذي ... أُحَاذِرُ من لُبنى، فَهلْ أنتَ وَاقعُ؟ ثم لا تقع، ويضربه بردائه والغراب يصيح. السوداء وغراب البين وحدثنا المعافى، حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، حدثنا ميمون بن المزرع قال: كنت آتي أبا إسحق الزيادي. فأتيته مرة، فمرت به أمة سوداء شوهاء، فقال لها: يا عنيزة أسمعيني: مر بالبين غراب فنعب، فقالت: لا والله أو تهب لي قطيعةً، فأخرج صريرةً من جيبه فناولها قطيعةً أريت أن فيها ثلاث حبات، فوضعت الجرة عن ظهرها وقعدت عليها، ثم رفعت عقيرتها: مَرّ بالبَينِ غُرَابٌ فَنَعَبْ، ... لَيتَ ذا النّاعِبَ بالبَينِ كَذَبْ فَلضحَاكَ اللهُ مِنْ طَيرٍ لَقَدْ ... كنتَ لوْ شِئتَ غنيّاً أن تُسَبّ قال أبو بكر: فأحسنت. (2/165) الذنب ذنبي لا ذنب الغراب قال أبو الفرج المعافى: وحدثني محمد بن الحسن بن مقسم أنشدني أحمد بن يحيى لأحمد بن مية، وهو أحد الظرفاء: يَسُبّ غُرَابَ البَينِ ظُلماً مَعاشِرٌ، ... وَهُمْ آثَرُوا بُعدَ الحَبيبِ على القرْبِ وَمَا لِغُرَابِ البَينِ ذنَبٌ، فَأبتَدي ... بِسَبّ غُرَابِ البَينِ، لَكِنّهُ ذَنبي فيا شوْقُ لا تنفَد، ويَا دمعُ فِضْ وَزِدْ ... ويَا حُبُّ رَاوِحْ بَينَ جَنبٍ إلى جَنبِ ويَا عاذِلي لمْني! ويَا عائِدي الحَني، ... عَصَيتُكُمَا، حَتى أُغَيّبَ في التُّربِ إذا كَانَ رَبّي عَالِماً بِسَرِيرَتي ... فمَا النّاسُ في عَيني بأعظمَ من رَبي المعتصم والمأمون والغلام التركي أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي المحتسب، حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران، أخبرني محمد بن يحيى الصولي، حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد، حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: دعا المعتصم بالله المأمون، فأجلسه في مجلس في سقفه جامات، فوقع ضوء بعض الجامات على وجه سيماء التركي، غلام المعتصم، وكان أوجد الناس به ولم يكن في عصره مثله، فصاح المأمون: يا أحمد بن محمد اليزيدي، وكان حاضراً، انظر إلى ضوء الشمس على وجه سيماء، أرأيت أحسن من هذا قط؟ وقد قلت: قد طَلَعَتْ شمسٌ على شَمسِ، ... وَزَالَتِ الوَحْشَةُ بالأنْسِ (2/166) أجز، فقال: قَدْ كُنتُ أقلَى الشمسَ في ما مَضَى، ... فَصرْتُ أشْتاقُ إلى الشّمسِ وفطن المعتصم، فعض شفته على أحمد. فقال أحمد للمأمون: والله، لئن يعلم أمير المؤمنين لأقعن معه في ما أكره. فدعاه، فأخبره الخبر، وأنشده الشعر، فضحك المعتصم، وقال: كثر الله في غلمان أمير المؤمنين مثله. المأمون والعشق وأخبرنا أحمد بن علي الوكيل، حدثنا المرزباني الصولي، حدثنا عون بن محمد الكندي، سمعت موسى بن عيسى يقول: سمعت أحمد بن يوسف يقول: كان المأمون يحب أن يعشق ويعمل أشعاراً في العشق، فلم يكن يقع له العشق، ولا يستمر له ما يريد. وكانت عنده جاريةٌ اشتريتها له، وكانت تسميني أبي، وكان يباثّني حديثها وأمرها. وربما شكاها إلي، فقال: فعلت بنتك كذا وكذا. وله أشعار فيها: أوّلُ الحُبّ مزَاحٌ وَوَلَعْ، ... ثمّ يَزْدَادُ إذا زَادَ الطّمعْ كلُّ مَن يهوَى، وَإن غالَتْ بهِ ... رُتبَةُ المُلكِ، لمَنْ يَهوَى تَبَعْ فَلِذا هَمٌّ وَغَدْرٌ وَنَوَى؛ ... وَلِذا شَوْقٌ وَوَجْدٌ وَجَزَعْ (2/167) الوليد بن يزيد والفتاة النصرانية أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، أخبرنا أبو حاتم، أخبرنا العتبي قال: نظر الوليد بن يزيد إلى جارية نصرانية من أهيإ النساء يقال لها سفرى، فجن بها، وجعل يراسلها، وهي تأبى، حتى بلغه أن عيداً للنصارى قد قرب، وأنها ستخرج فيه. وكان في موضع العيد بستان حسن، وكانت النساء يدخلنه، فصانع الوليد صاحب البستان أن يدخله فينظر إليها، فتابعه، وحضر الوليد وقد تقشف وغير حليته، ودخلت سفرى البستان، فجعلت تمشي حتى انتهت إليه، فقالت لصاحب البستان: من هذا؟ فقال: رجل مصاب. فجعلت تمازحه وتضاحكه، حتى اشتفى من النظر إليها، ومن حديثها، فقيل لها: ويلك أتدرين من ذاك الرجل؟ قالت: لا! فقيل لها: الوليد بن يزيد وإنما تقشف حتى ينظر إليك، فجنت به بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها. فقال الوليد في ذلك: أضْحَى فُؤادُكَ، يا وَليدُ، عَميدَا ... صَبّاً كَلِيماً للحِسانِ صَيُودَا من حبّ واضِحةِ العَوارِضِ طَفلةٍ ... بَرَزَتْ لَنا نحوَ الكَنيسةِ عِيدَا مَا زِلتُ أرْمُقُهَا بعَيْنَيْ وَامِقٍ، ... حَتى بَصُرَتْ بها تُقبّلُ عُودَا عودَ الصّليبِ، فَوَيحَ نفسِي من رَأى ... مِنكُمْ صَلِيباً مِثلَهُ مَعْبُودَا فَسألتُ رَبي أنْ أكُونَ مَكَانَهُ، ... وَأكُونَ في لَهَبِ الجَحيمِ وَقودَا قال القاضي أبو الفرج المعافى: لم يبلغ مدرك الشيباني هذا الحد من الخلاعة، إذ قال في عمرو النصراني: يَا لَيتَني كُنتُ لَهُ صَلِيبَا، ... فَكُنتُ مِنْهُ أبَداً قَريبَا (2/168) أُبصِرُ حُسناً، وَأشُمّ طِيبا، ... لا وَاشِياً أخشَى وَلا رَقيبَا فلما ظهر أمره وعلمه الناس قال: ألا حبّذا سُفرَى، وَإنْ قِيلَ إنّني ... كُلِفتُ بنَصرَانِيّةٍ تَشرَبُ الخَمرَا يَهُونُ عَلينا أنْ نظلّ نَهَارَنَا ... إلى اللّيلِ لا أُولى نُصَلّي وَلا عَصرَا جور الهوى ولي من جملة قصيدة عملتها بتنيس، وأنا أستغفر الله وأستقيله: وَبتنّيسَ في كَنيسَةِ ديرِي ... نَ، لحَيني، أبصَرْتُ ظَبياً أغَنّا وَاقِفاً يَلْثِمُ الصّلِيبَ، وَطَوْراً ... بِأنَاجِيلِهِ يُرَجّعُ لَحنَا فَتَمَنّيتُ أنْ أكُونَ صَليباً، ... يَوْمَ قُرْبَانِهِ، فأقرَعَ سِنّا وفي هذه القطعة: وَأخي لَوْعَةٍ لَقيتُ، فَمَا زَا ... لَ بمَاءِ الجُفُونِ يُبكي الجَفْنَا يَشتَكي وَجدَهُ إليّ، وَأشكُو ... مَا يُلاقي قَلبي الكَئيبُ المُعَنّى ثمّ لمّا كَفّتْ دُمُوعُ مَآقِي ... هِ وَمَلّ المَكَانَ مِمّا وَقفنَا قَالَ لي، وَالعذّالُ قَد يَئِسوا من ... هُ وَمني، وَحَنّ شَوْقاً وَأنّا: قَدْ أفَاقَ العُشّاقُ من سكرَةِ الحُ ... بّ جَميعاً فَمَا لَنا مَا أفَقنَا؟ قُلتُ: جَارَ الهَوَى عَلَينا فَلَوْ أنّ ... اغَداةَ الفِرَاقِ مُتنا استَرَحنَا (2/169) مدرك الشيباني وعمرو النصراني أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله تعالى، سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري قال: أنشدنا أبو القاسم مدرك بن محمد الشيباني لنفسه في عمرو النصراني. قال القاضي أبو الفرج: وقد رأيت عمراً، وبقي حتى ابيضّ رأسه: مِن عَاشِقٍ ناءٍ هَوَاهُ دَانِ، ... نَاطِقِ دَمعٍ صَامِتِ اللّسَانِ مُوثَقِ قَلبٍ مُطلَقِ الجُثمَانِ، ... مُعَذَّبٍ بالصَّدِّ وَالهِجْرَانِ مِنْ غَيرِ ذَنبٍ كَسَبتْ يَدَاهُ، ... غَيرَ هَوىً نَمّتْ بِهِ عَينَاهُ شَوْقاً إلى رُؤيَةِ مَنْ أشْقَاهُ، ... كَأنّما عَافَاهُ مَنْ أضناهُ يا وَيْحَهُ مِنْ عَاشقٍ مَا يَلقَى ... مِنْ أدْمُعٍ مُنْهَلّةٍ مَا تَرْقَا نَاطِقَةٍ وَمَا أحَارَتْ نُطْقَا، ... تُخبِرُ عَنْ حُبٍّ لَهُ استَرَقّا لمْ يَبقَ مِنْهُ غَيرُ طَرْفٍ يَبكي، ... بِأدْمُعٍ مِثْلِ نِظَامِ السِّلْكِ تُطفيهِ نِيرانُ الهَوَى وَتُذكي، ... كَأنّها قَطْرُ السّمَاءِ تَحكي إلى غَزَالٍ مِنْ بَني النّصَارَى، ... عِذَارُ خَدّيهِ سَبَى العَذَارَى وَغَادَرَ الأُسدَ بهِ حَيَارَى، ... في رِبْقَةِ الحُبِّ لَهُ أسَارَى رئمٍ بدَارِ الرّومِ رَامَ قَتلي، ... بمُقلَةٍ كَحلاءَ لا عَنْ كُحْلِ وَطَرّةٍ بهَا استَطَارَ عَقلي، ... وَحُسنِ وَجْهٍ وَقَبيحِ فِعلِ رئمٍ بهَا أيّ هِزَبْرٍ لَمْ يُصَدْ، ... يَقتُلُ باللّحظِ وَلا يَخشَى القَوَدْ متى يقُل: ها! قالتِ الألحاظُ: قد، ... كَأنّهُ نَاسُوتُهُ حِينَ اتّحَدْ (2/170) مَا أبصَرَ الناسُ جَميعاً بَدْرَا، ... وَلا رَأوْا شَمساً، وَغُصْناً نَضْرَا أحسَنَ مِن عمروٍ، فدَيتُ عمر!! ... ظَبيٌ بعَيْنَيهِ سَقَاني الخَمْرَا هَا أنَا ذَا بِقَدّهِ مَقدُودُ، ... وَالدّمعُ في خَدّي لَهُ أُخْدُودُ مَا ضرّ مَن فَقدي بهِ مَوْجُودُ، ... لَوْ لَمْ يُقبّحْ فِعلَهُ الصّدُودُ إنْ كانَ دِيني عِندَهُ الإسلامُ ... فَقَدْ سَعَتْ في نَقضِهِ الآثَامُ وَاختَلّتِ الصّلاةُ وَالصّيَامُ، ... وَجَازَ في الدّينِ الحَرَامُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ لَهُ صَلِيبَا، ... أكُونُ مِنْهُ أبَداً قَرِيبا أُبْصِرُ حُسْناً وَأشمّ طِيبا، ... لا وَاشِياً أخشَى، وَلا رَقيبَا بَلْ لَيْتَني كُنتُ لَهُ قُرْبانَا ... ألْثِمُ مِنْهُ الثّغْرَ وَالبَنانَا أوْ جَاثَليقاً كُنتُ أوْ مُطْرَانَا، ... كَيْمَا يَرَى الطّاعةَ لي إيمانَا بَلْ لَيْتني كنتُ لعمروٍ مُصْحَفَا ... يَقرَأُ مِني كُلّ يَوْمٍ أحرُفا أوْ قَلَماً يَكتُبُ بي مَا ألّفَا ... مِنْ أدَبٍ مُسْتَحسَنٍ قَد صُنّفَا بَلْ لَيْتَني كنتُ لعمروٍ عُوذَهْ، ... أوْ حُلّةً يَلبَسُهَا مَقذُوذَهْ أوْ بَرْكَةً بإسمِهِ مَأخُوذَهْ، ... أوْ بِيعَةً في دَارِهِ مَنْبُوذَهْ بَلْ لَيْتَني كُنتُ لَهُ زُنّارَا ... يُدِيرُني في الخَصرِ كَيفَ دَارَا حَتى إذا اللّيلُ طَوَى النّهَارَا، ... صِرْتُ لَهُ حينَئِذٍ إزَارَا قَدْ، وَالّذي يُبقِيهِ لي، أفنَاني، ... وَابتَزّ عَقلي، وَالضَّنى كَسَاني ظَبيٌ عَلى البُعَادِ وَالتّدَانِي، ... حَلّ مَحلّ الرّوحِ مِنْ جُثمَاني (2/171) وَاكَبِدي مِنْ خَدّهِ المُضَرَّجِ، ... أذْهَبُ للنّسكِ وَللتّحَرّجِ إلَيكَ أشكُو يا غَزَالَ الإنسِ، ... مَا بي من الوَحشَةِ بَعد الأُنسِ يَا مَنْ هِلالي وَجهُهُ وَشَمسِي، ... لا تُقَتَلُ النّفسُ، بِغَيرِ نَفسِ جُدْ لي كمَا جُدتَ بحُسنِ الوُدّ، ... وَارْعَ كَمَا أرْعَى قَدِيمَ العَهدِ وَاصْدُدْ كصَدّي عن طوِيلِ الصّدّ، ... فَلَيسَ وَجدٌ بكَ مِثلَ وَجدِي هَا أنا في بَحرِ الهَوَى غَرِيقُ، ... سَكرَانُ مِنْ حُبّكَ لا أُفيقُ مُحتَرِقٌ، مَا مَسّني حَرِيقُ، ... يَرْثي لي العَدُوُّ وَالصّديقُ فَلَيتَ شعرِي فيكَ! هَل تَرْثي لي ... مِنْ سَقَمٍ بي وَضنًى طَوِيلِ أمْ هَلْ إلى وَصْلِكَ من سَبيلِ ... لِعاشِقٍ ذِي جَسَدٍ نَحِيلِ! في كلّ عُضْوٍ مِنهُ سُقْمٌ وَألَمْ، ... وَمُقْلَةٌ تَبكي بدَمعٍ وبِدَمْ شَوْقاً إلى بَدْرِ وَشَمْسٍ وصَنَمْ، ... مِنهُ إلَيهِ المُشتكَى، إذا ظَلَمْ أقُولُ إذ قَامَ بقَلبي وقَعَدْ: ... يا عمرو، يا عَامرَ قَلبي بالكَمَدْ أُقسِمُ باللهِ يَمينَ المُجْتَهِدْ، ... إن امرأً أسعَدتَهُ لَقَدْ سَعِدْ يا عمرو! نَاشَدتُكَ بالمَسيحِ، ... ألا استَمَعتَ القَوْلَ مِنْ فَصيحِ يُخبرُ عَنْ قَلبٍ لَهُ جَريحِ، ... بَاحَ بِمَا يَلقَى مِنَ التبْرِيحِ يا عمرو! بالحَقّ مِنَ اللاهُوتِ، ... وَالرّوحِ رُوحِ القُدسِ وَالنّاسوتِ ذَاكَ الذِي في مَهدِهِ المَنحُوتِ، ... عُوّضَ بالنّطقِ مِنَ السّكُوتِ بحَقّ نَاسُوتٍ بِبَطْنِ مَرْيَمِ، ... حَلّ مَحَلَّ الرّيقِ مِنهَا في الفَمِ ثمّ استَحَالَ في قَنُومِ الأقدَمِ، ... فَكَلّمَ النّاسَ، وَلمّا يُفطَمِ (2/172) بحَقّ مَنْ بَعدَ المَمَاتِ قُمّصَا ... ثَوْباً عَلى مِقدَارِهِ مَا قُصّصَا وكانَ للهِ تَقيّاً مُخْلِصاً، ... يَشفي وَيُبري أكْمَهاً وَأبْرَصَا بحقّ مُحيي صُورَةِ الطّيُورِ، ... وَبَاعِثِ المَوْتَى مِنَ القُبُورِ وَمَنْ إلَيهِ مَرْجِعُ الأمُورِ، ... يَعلَمُ مَا في البَرّ وَالبُحُورِ بحَقّ مَا في شَامخِ الصّوَامِعِ، ... مِنْ سَاجِدٍ لرَبّهِ وَرَاكِعِ يَبكي إذا ما نَامَ كُلُّ هَاجِعِ ... خَوْفاً إلى اللهِ بِدَمْعٍ هَامِعِ بحَقّ قَوْمٍ حَلَقُوا الرّؤوسَا، ... وَعَالجُوا طُولَ الحيَاةِ بُوسَا وَقَرَعُوا في البِيعَةِ النّاقُوسَا، ... مُشَمْعِلِينَ يَعبُدُونَ عِيسَى بحَقّ مارت مَرْيَمٍ وَبُولُسِ، ... بحَقّ شِمعُونَ الصَّفَا وَبطرُسِ بحَقّ دَانِيلَ بحَقّ يُونُسِ، ... بحَقّ حَزْقِيلَ وَبَيتِ المَقْدِسِ وَنينَوَى، إذْ قَامَ يَدعُو رَبَّهُ، ... مُطَهِّراً مِنْ كُلّ سُوءٍ قَلْبَهُ وَمُسْتَقيلاً، فَأقَالَ ذَنْبَهُ، ... وَنَالَ مِنْ أبِيهِ مَا أحَبّهُ بحَقّ مَا في قُلّةِ المَيروُنِ ... مِنْ نَافِعِ الأدوَاءِ للمَجنُونِ بحَقّ مَا يُؤثَرُ عَنْ شِمعُونِ، ... مِنْ بَرَكاتِ الخُوصِ وَالزّيتُونِ بحَقّ أعيَادِ الصّليبِ الزُّهْرِ، ... وَعيدِ شِمعُونَ وَعيدِ الفِطْرِ وَبالشّعَانِينِ العَظِيمِ القَدرِ، ... وَعيدِ مَرمَارِي الرّفِيعِ الذّكرِ (2/173) وَعيدِ أشعَبَا، وبالهَيَاكِلِ، ... وَالدُّخُنِ اللاّتي بكَفّ الحَامِلِ يُشفَى بها من خيلِ كلّ خَابلِ ... وَمن دَخيلِ السُّقمِ في المَفاصِلِ بحَقّ سَبعينَ مِنَ العِبادِ، ... قَامُوا بدينِ اللهِ في البِلادِ وأَرْشَدُوا النّاسَ إلى الرّشادِ، ... حَتى اهتَدَى مَنْ لمْ يَكُنْ بهادِ بحَقّ ثنتي عَشرَةٍ مِنَ الأمَمْ، ... سارُوا إلى الأقطارِ يَتلونَ الحِكَمْ حتى إذا صُبحُ الدّجى جَلّى الظُّلَمْ ... صَارُوا إلى اللهِ وَفَازُوا بِالنِّعَمْ بحَقّ مَا في مُحكَمِ الإنجِيلِ، ... مِنْ مُحكَمِ التحريمِ وَالتّحليلِ وَخَبَرٍ ذِي نَبَإٍ جَلِيلِ، ... يَرْوِيهِ جِيلٌ قَد مَضَى عَن جيلِ بحَقّ مُرْقُسَ الشّفِيقِ النّاصِحِ، ... بحَقّ لُوقَا ذِي الفَعَالِ الصّالِحِ بحَقّ يُوحَنّا الحَلِيمِ الرّاجِحِ ... وَالشّهَدَاءِ بالفَلا الصّحَاصِحِ بحَقّ مَعمُوِيّةِ الأرْواحِ، ... وَالمَذبَحِ المَشهُورِ في النّواحي وَمَن بهِ من لابسِ الأمسَاحِ، ... وَعَابِدٍ بَاكٍ وَمِنْ نَوّاحِ بحَقّ تَقْرِيبِكَ في الآحَادِ، ... وَشُرْبِكَ القَهوَةَ كالفِرْصَادِ وَطُولٍ تَبييضِكَ للأكْبَادِ، ... بِمَا بِعَيْنَيكَ مِنَ السّوَادِ بحَقّ مَا قُدّسَ شَعيَا فِيهِ، ... بِالحَمدِ للهِ وَبِالتّنزِيهِ بحَقّ نَسطُورٍ وَمَا يَرْويهِ، ... عَنْ كُلّ نَامُوسٍ لَهُ فَقِيهِ (2/174) شَيخانِ كَانَا مِنْ شُيُوخِ العلمِ ... وَبَعضِ أرْكَانِ التّقَى وَالحِلمِ لَم يَنطِقَا قَطّ بِغَيرِ فَهْمِ، ... مَوْتُهُمَا كَانَ حَيَاةَ الخَصمِ بِحُرْمَةِ الأسقُفِ وَالمُطْرَانِ، ... وَالجَاثَلِيقِ العَالِمِ الرّبّاني وَالقَسّ وَالشمّاسِ وَالدّيرَاني، ... وَالبطرَكِ الأكبَرِ وَالرّهبَانِ بحُرْمَةِ المَحبُوسِ في أعلى الجَبَلْ، ... ومَار قُولا حِينَ صَلّى وَابتَهَلْ وَبالكَنيسَاتِ القَديمَاتِ الأُوَلْ، ... وَبِالسّليمِ المُرْتَضَى بمَا فَعَلْ بِحُرْمَةِ الأسقُوفيَا وَالبَيرَم، ... وَمَا حَوَى مِغفَرُ رَأسِ مَرْيَمِ بِحُرْمَةِ الصّوْمِ الكبيرِ الأعظَمِ، ... وَحَقِّ كلّ بَرْكَةٍ وَمَحرَمِ بِحَقّ يَوْمِ الذّبحِ ذِي الإشرَاقِ ... وَلَيلَةِ المِيلادِ وَالسُّلاّقِ وَالذَّهَبِ المُذهِبِ للنِّفَاقِ، ... وَالفِصْحِ، يَا مُهَذَّبَ الأخلاقِ بكُلّ قُدّاسِ عَلى قُدّاسِ، ... قَدّسَهُ القَسُّ مَعَ الشمّاسِ وَقَرّبُوا يَوْمَ الخَميسِ الناسي، ... وَقَدّمُوا الكَاسَ لكُلّ حَاسِ ألا رَغبتَ في رِضَا أدِيبِ ... بَاعَدَهُ الحُبُّ عَنِ الحَبيبِ فَذابَ مِنْ شَوْقٍ إلى المُذيبِ ... أعلى مُنَاهُ أيسَرُ التّقريبِ فَانظُرْ أمَيرِي في صَلاحِ أمرِي، ... مُحتَسِباً فيّ عَظيمِ الأجْرِ مُكتَسِباً فيّ جَميلَ الشّكرِ، ... في نَثرِ ألفاظٍ، وَنَظمِ شِعرِ (2/175) قضاة لا يقبلون الرُّشى قال ابن السراج: ولي من قطعة: دَمعي بمَكتومِ غَرَامي وَشَى، ... وكَانَ مَطوِيّاً عَلَيهِ الحَشَا يَنهَلّ دَمعي سَاجِماً كُلّمَا ... أبصَرْتُ رَبْعاً مِنهمُ مُوحِشاً صَادَ فُؤادي في الهَوَى شَادِنٌ ... سَقَاهُ مِنْ رِيقَتِهِ فَانتَشَى أبصَرْتُهُ يَوْمَ شَعَانِينِهِ ... يَجذبُهُ الرِّدْفُ إذا مَا مَشَى أشَدُّ شَيءٍ في الهَوَى أنّهُ ... قُضَاتُهُ لا يَقبَلُونَ الرُّشَى إبراهيم بن المهدي والجارية أخبرنا أبو علي الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا المظفر بن يحيى بن أخبرنا الشرابي، حدثنا أبو العباس المرثدي، حدثنا طلحة بن عبد الله الطلحي أنشدني يعقوب بن عباد الزبيري لإبراهيم بن المهدي، وقد أخدمته بعض العباسيات، في حال استخفائه عندها، جاريةً وقالت لها: أنت له، فإن مد يده إليك، فلا تمتنعي، ولم تعلم بهبتها له، وكانت مليحةً، فجمشها يوماً بأن قبل يدها وقال: يا غَزَالاً لي إلَيْ ... هِ شَافعٌ مِنْ مُقلَتَيهِ وَالّذي أجلَلْتُ خَدّيْ ... هِ، فَقَبّلتُ يَدَيْهِ بأبي وَجهُكِ مَا أكْ ... ثَرَ حُسّادِي عَلَيهِ أنَا ضيفٌ، وَجَزَاءُ الضّي ... فِ إحسَانٌ إلَيهِ (2/176) قال المعافى: ومما يضارع بعض ما تضمنته هذه الأبيات من جهة ما أنشدناه إبراهيم بن عرفة لنفسه: يَا دَائمَ الهَجرِ وَالصّدُودِ، ... مَا فَوْقَ بَلوَايَ مِنْ مَزيدِ أصْبَحتُ عَبداً، وَلستَ تَرْعَى ... وَصِيّةَ اللهِ في العَبيدِ الطائفة في البيت الحرام أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثني أبي، حدثنا عامر بن عمران أبو عكرمة الضبي عن سليمان بن أبي شيخ قال: بينا عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليهم السلام، يطوف بالبيت إذ رأى امرأةً تطوف وتنشد: لا يَقبلُ اللهُ مِنْ مَعشُوقَةٍ عَمَلاً، ... يَوْماً، وَعَاشِقُهَا غَضبَانُ مَهجورُ قال القاضي: وفي غير هذه الرواية يليه بيت آخر وهو: وَكَيفَ يَأجُرُها في قَتلِ عَاشِقِها، ... لكنّ عَاشِقَهَا في ذَاكَ مَأجُورُ فقال عبد الله للمرأة: يا أمة الله! مثل هذا الكلام في مثل هذا الموقف؟ فقالت: يا فتى ألست ظريفاً؟ فقال: بلى! قالت: ألست راويةً للشعر؟ قال: بلى! قالت: أفلم تسمع الشاعر يقول: بِيضٌ غَرَائرُ مَا هَمَمنَ برِيبَةٍ ... كَظِبَاءِ مَكّةَ، صَيدُهُنّ حَرَامٌ يُحسَبنَ مِنْ لِينِ الحَديثِ زَوَانِياً، ... وَيَصُدّهُنّ عَنْ الخَنَا الإسلامُ (2/177) سباق العاشقين ولي أبيات مفردة مما نظمته ببغداد: وَحَقَّ تَبَسّمِ يَوْمِ التّلاقي ... لتَشتيتِ شَملِ لَيالي الفِرَاقِ وَوَصْلِ حِبَالِ الهَوَى بَينَنَا، ... عَلى أُلفَةٍ حَسُنَتْ وَاتّفَاقِ وَحُرْمَةِ مَوْقِفِنا نَجتَلي ... بُدُوراً مُنَزَّهَةً عَنْ مَحَاقِ وَنَسحَبُ مِنْ صَوْنِنَا وَالعَفَا ... فِ أردِيَةً بَينَ تِلكَ الحِدَاقِ لَقَدْ ضِقتُ ذرْعاً بِلَوْمِ العذول، ... فَيا لَيتَهُم نَفّسوا مِن خِناقِي أحِنُّ لنَجدٍ مَتى أنجَدُوا، ... عَلى أنّ دارِي قُصُورُ العِرَاقِ فَمَنْ مُخبرٌ عَنّي الظّاعِنِي ... نَ، بالأمسِ، أني على العَهدِ بَاقِ وَأني، إذا استَبَقَ العَاشِقُونَ ... إلى غَايَةٍ، فزْتُ يَوْمَ السّباقِ ندوب اللواحظ ولي أيضاً في مفردة: وَقَائِلَةٍ، وَقد نَظَرَتْ نُدُوباً، ... جَنَتهَا مِنْ لَوَاحِظِهَا سِهَامُ وَأنفَاساً مُصَعَّدَةً، وَجَفناً ... يَفيضُ كأنّ فَائِضَهُ غَمَامُ: أرَاكَ شرِبتَ كأسَ الحُبّ صِرْفاً، ... فَقَد رَوِيَتْ بهَا مِنكَ العِظامُ أفَاقَ العَاشِقونَ بكُلّ أرْضٍ، ... وَنَامَ السّاهِرُونَ، وَمَا تَنَامُ وَصَحّ مِنَ الهَوَى مَرْضَاهُ جَمعاً، ... فَمَا لكَ لَيسَ يَبرحُكَ السَّقَامُ (2/178) فقُلْتُ لهَا، ودَمعُ العَينِ هَامٍ، ... لَهُ مِنْ فَوْقِ خَدّيَّ انسِجَامُ: أقِلّي اللّوْمَ عَنْ ظَمآنَ صَادٍ، ... يَحُومُ، وَقَد أضَرّ بِهِ الأُوَامُ أصَمَّ عَنِ العَوَاذِلِ، لَيسَ يَجدِي ... عَليهِ في الهَوَى قَطُّ المَلامُ الشيخ المتصابي أخبرنا محمد بن الحسين، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، أخبرنا الرياشي عن محمد بن سلام عن أبيه، حدثني شيخ من بني ضبة قال: رأيت أعرابياً كبير السن كثير المزاح، بيده محجن، وهو يجر رجليه حتى وقف على مسعر بن كدام، وهو يصلي، فأطال الصلاة، والأعرابي واقف، فلما أعيا قعد. حتى إذا فرغ مسعر من صلاته سلم الأعرابي عليه، وقال له: خذ من الصلاة كفيلاً! فتبسم مسعر، وقال: عليك بما يجدي عليك نفعه، يا شيخ، كم تعد؟ فقال: مائةَ وبضع عشرة سنة. قال: في بعضها ما كفى واعظاً، فاعمل لنفسك، فقال: أُحِبُّ اللّوَاتِي هُنّ مِنْ وَرَقِ الصِّبى، ... وَمِنهُنّ عَنْ أزْوَاجِهِنّ طِمَاحُ مُسِرّاتُ بُغضٍ، مُظهِرَاتٌ عَدَاوَةً، ... تَرَاهُنّ كَالمَرْضَى، وَهُنّ صِحاحُ فقال مسعر: أف لك! فقال: والله ما بأخيك حركة منذ أربعين سنة، ولكنه بحر يجيش ويرمي زبده، فضحك مسعر، وقال: إن الشعر كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح. (2/179) نور متجسم قال: وحدثنا المعافى، حدثنا يزيد بن الحسن البزاز، حدثني خالد الكاتب قال: دخلت على أبي عباد أبي الرغل بن أبي عباد، وعنده أحمد بن يحيى وابن الأعرابي، فرفع مجلسي، فقال له ابن الأعرابي: من هذا الفتى الذي أراك ترفع من قدره؟ فقال: أو ما تعرفه؟ قال: اللهم لا! قال: هذا خالد الكاتب الذي يقول الشعر؟ قال: فأنشدني من قولك شيئاً، فأنشده: لَوْ كَانَ مِنْ بَشَرٍ لمْ يَفتَنِ البَشَرَا، ولَمْ يَفقْ في الضّيَاءِ الشمسَ والقَمَرَا نُورٌ تَجَسّمَ، مُنحَلّ وَمُنعَقِدٌ، ... لَوْ أدرَكَتهُ عُيُونُ النّاسِ لانكَدَرَا فصاح ابن الأعرابي وقال: كفرت يا خالد! هذه صفة الخالق، ليست صفة المخلوق، فأنشدني ما قلت غير هذا، فأنشدته: أَرَاكَ لمّا لجَجتَ في غَضَبِكَ، ... تَترُكُ رَدّ السّلامِ في كُتُبِك حتى أتيت على قولي: أقُولُ للسُّقمِ عُدْ إلى بَدَني، ... حبّاً لِشَيءٍ يكونُ مِنْ سَبَبِك فصاح ابن الأعرابي وقال: إنك لفطن، وفوق ما وصفت به. بيت شعر بثلاثمائة دينار قال: وحدثنا المعافى، حدثنا أحمد بن جعفر بن موسى البرمكي قال: فال خالد الكاتب: وقف علي رجل بعد العشاء متلفع برداء عدنيٍ أسود، ومعه غلام معه صرةٌ، فقال لي: أنت خالد؟ قلت: نعم! قال: أنت الذي تقول: قَد بكَى العاذِلُ لي من رَحمَتي، ... فبُكائي لِبُكَاءِ العَاذِلِ (2/180) قلت: نعم! قال: يا غلام ادفع إليه الذي معك! فقلت: وما هذا؟ قال: ثلاثمائة دينار. قلت: والله لا أقبلها، أو أعرفك. قال: أنا إبراهيم بن المهدي. صرعة المحب قال: وحدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثني محمد بن المرزبان، حدثنا زكريا بن موسى، حدثنا شعيب بن السكن عن يونس النحوي قال: لما اختلط عقل قيس المجنون وامتنع من الطعام والشراب مضت أمه إلى ليلى فقالت لها: يا هذه! قد لحق ابني بسببك ما قد علمت، فلو صرت معي إليه، رجوت أن يثوب إليه، ويرجع عقله إذا عاينك؟ فقالت: أما نهاراً فلا أقدر على ذلك لأني لا آمن الحي على نفسي، ولكن أمضي معك ليلاً. فلما كان الليل صارت إليه فقالت له: يا قيس! إن أمك تزعم أن عقلك ذهب بسببي، وأن الذي لحقك أنا أصله. ففتح عينيه، فنظر إليها، وأنشأ يقول: قالَت جُنِنتَ عَلى رَأسِي، فقُلتُ لها: ... ألحُبُّ أعظَمُ مِمّا بِالمَجَانِينِ الحُبّ لَيسَ يُفيقُ الدّهرَ صَاحِبُهُ، ... وَإنّمَا يُصرَعُ المَجنُونُ في الحِينِ جنون القلب ولي ابتداء قصيدة مدحت بها عين الدولة ابن أبي عقيل بالشام أولها: عَرِّجْ بِنَا عَنِ الحِمَى يَمِينَا، ... فَقَدْ تَوَلّى الحَيرةُ الغَادِينَا لمْ أنسَ يَوْمَ ذِي الأَرَاكِ قَوْلَها، ... وَالبَينُ عَنْ قَوْسِ النّوَى يَرْمينَا (2/181) 4 تَزَوَّدِ الوَدَاعَ، وَاعلَمْ أنّنَا، ... كمَا اشتَهَى البَينُ، مُفَارِقُونَا وأَلمَسَتْني، وَالرّقِيبُ غَافِلٌ، ... كَفّاً تَكَادُ أنْ تَذُوبَ لِينَا أجْلَلتُ فضاهَا اللّثْمَ إلاّ أنّني ... قَبّلتُ مِنهَا النّحرَ والجَبيِنا تَمْنَعُنَا العِفّةُ كُلَّ رِيبَةٍ، ... وَالقَلبُ قَد جُنّ بهَا جُنُونَا أنفاس تذيب الحديد أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال، حدثنا محمد بن أحمد بن الصلت، حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم، حدثني أبي أنشدني أبو عكرمة الضبي: فلو أنّ ما بي بالحَصَا فَلَقَ الحَصَا، ... وَبالرّيحِ لمْ يُسْمَعْ لهنّ هُبُوبُ وَلَوْ أنّني أستَغفِرُ اللهَ كُلّمَا ... ذكَرْتُكِ لمْ تُكتَبْ عليّ ذُنوبُ وَلَوْ أنَ أنفَاسِي أصَابَتْ بحرّهَا ... حَديداً، إذاَ ظَلّ الحَديدُ يَذُوبُ لو يدوم التلاقي وبإسناده أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري قال: أنشدني محمد بن المرزبان لابن أبي عمار المكي: مَنْ لقَلبٍ يجولُ بينَ التّرَاقِي، ... مُستَهَامٍ، يَتُوقُ كُلَّ مَتَاقِ حَذراً أنْ تَبينَ دَارُ سُلَيمَى، ... أوْ يَصيحَ الصَّدَى لهَا بِفِرَاقِ (2/182) أمَّ سَلاّمَ، مَا ذكَرتُكِ إلاّ ... شَرِقَتْ بالدّمُوعِ مِني المَآقِي كَيفَ يَنسَى المُحِبُّ ذِكرَ حَبيبٍ، ... طَيّبِ الخِيمِ ظَاهِرِ الأشَواقِ وَحَديثٍ يَشفي السَّقيمَ من السُّق ... مِ، دَوَاءِ السّلِيمِ كَالدِّرْيَاقِ حَبّذَا أنتِ من جَلِيسٍ إلَينَا ... أُمَّ سَلاّمَ لَوْ يَدُومُ التّلاقي حمام الشعب أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثني محمد بن القاسم أنشدني أبي لبعض الأعراب: ألا يا حَمامَ الشِّعبِ شِعبِ مُؤنِّسٍ! ... سُقيتَ الغَوَادي من حمامٍ وَمن شِعبِ سُقيتَ الغَوَادي، رُبّ خَوْدٍ خَرِيدَةٍ، ... أصَاختْ لخفضٍ من عَنائكَ أوْ نَصْبِ فإنْ يَرْتَحِلْ صَحبي بجُثمانِ أعظُمي، ... يُقِمْ قَلبيَ المَحزُونُ في منزِلِ الرَّكبِ في وجهه شافع وأخبرنا أبو علي الجازري، حدثنا المعافى، حدثنا محمد بن يحيى الصولي، حدثنا علي بن يحيى قال: كنت واقفاً بين يدي المعتضد، وهو مقطب، فأقبل بدر، فلما رآه من بعيد تبسم وأنشد: وَفي وَجهِهِ شافعٌ يَمحُو إساءَتَهُ، ... من القُلوبِ، وَجيهٌ حَيثُ مَا شَفَعَا (2/183) ثم قال لي: لمن هذا؟ فقلت: يقوله الحكم بن كثير المازني البصري. قال: أنشدني باقي الشعر، فقلت: لَهْفي عَلى مَن أطَارَ النّوْمَ، فَامتَنَعَا، ... وَزَادَ قَلبي عَلى أوْجِاعِهِ وَجَعَا كَأنّمَا الشّمسُ مِن أعطافِهِ لَمَعتْ ... حُسناً، أوِ البَدرُ مِنْ أزْرَارِهِ طَلَعَا مُستَقبَلٌ بالذي يَهوَى، وَإن عَظُمَتْ ... مِنهُ الإسَاءَةُ، مَعذُورٌ بمَا صَنَعَا في وَجهِهِ شَافِعٌ يَمحُو إسَاءَتَهُ، ... من القُلُوبِ، وَجِيهٌ حَيثُ مَا شَفَعَا قال الصولي: فأخذ هذا المعنى أحمد بن يحيى بن العراق الكوفي، فقال: بدا وكأنما قمر، وأنشد البيتين. لم يفرق بين المحبين أخبرنا علي بن أحمد علي المعدل، حدثني أبي قال: روى أبو روق الهراني عن الرياشي أن بعض أهل البصرة اشترى صبيةً، فأحسن تأديبها وتعليمها، وأحبها كل المحبة، وأنفق عليها حتى أملق، ومسه الضر الشديد، فقالت الجارية: إني لأرثي لك، يا مولاي، مما أرى بك من سوء الحال، فلو بعتني واتسعت بثمني، فلعل الله أن يصنع لك وأقع أنا بحيث يحسن حالي، فيكون ذلك أصلح لكل واحد منا. قال: فحملها إلى السوق، فعرضت على عمر بن عبيد بن معمر التيمي، وهو أمير البصرة يومئذ، فأعجبته، فاشتراها بمائة ألف درهم، فلما قبض المولى الثمن، وأراد الإنصراف، استعبر كل واحد منهما لصاحبه باكياً، وأنِشأت الجارية تقول: هَنِيئاً لكَ المَالُ الّذِي قَد حَوَيتَهُ، ... وَلم يبقَ في كَفّيّ غَيرُ التّذَكّرِ (2/184) أقولُ لنَفسِي، وَهْيَ في عَيشِ كُرْبةٍ: ... أقِلّي، فَقَد بانَ الحَبيبُ، أوِ اكثرِي إذا لَمْ يَكُنْ للأمرِ عِندَكِ حِيلَةٌ، ... وَلم تَجدِي شَيئاً سوَى الصّبرِ، فاصْبرِي واشتد بكاء المولى، ثم أنشأ يقول: فَلَوْلا قُعُودُ الدّهرِ بي عَنكِ لم يكنْ ... يُفَرّقُنا شيءٌ سمَى المَوْتِ، فاصْبرِي أرُوحُ بِهَمٍّ في الفُؤادِ مُبَرِّحٍ، ... أُناجي بهِ قَلباً طَويلَ التّفَكّرِ عَلَيكِ سَلامٌ، لا زِيَارَةَ بَينَنَا، ... وَلا وَصْلَ إلاّ أنْ يَشَاءَ ابنُ مَعْمَرِ فقال له ابن معمر: قد شئت، خذها، ولك المال، فانصرفا راشدين، فوالله لا كنت سبباً لفرقة محبين. مالك يفتي في الحب وأخبرنا محمد، حدثنا المعافى، حدثنا محمد بن أحمد الحكيمي، حدثنا أبو إبراهيم الزهري، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني معن بن عيسى قال: دخل ابن سرحون السلمي على مالك بن أنس، وأنا عنده، فقال له: يا أبا عبد الله! إني قد قلت أبياتاً، وذكرتك فيها، قال: اجعلني في حل، قال: أحب أن تسمعها، قال: لا حاجة لي بذلك. فقال: بلى! قال: هات! فأنشد: سَلُوا مَالكَ المُفتي عَنِ اللهوِ وَالغنى ... وَحبِّ الحِسَانِ المُعجِباتِ الفَوَارِكِ يُنَبّئكُمُ أني مُصِيبٌ، وَإنّمَا ... أُسَلّي هُمُومَ النّفسِ عَني بذَلِكِ فَهل في مُحبٍّ، يكتمُ الحُبّ وَالهَوَى، ... إثامٌ، وَهَلْ في ضَمّةِ المُتَهَالِكِ؟ فضحك مالك، وسري عنه، وقال: لا! إن شاء الله. وكان ظن أنه هجاه. (2/185) في النساء جمال وفي الفتيان عفة أخبرنا محمد بن الحسين، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا جعفر بن محمد بن نصير الخواص، حدثنا أبو العباس بن مسروق، حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا محمد بن عبد الصمد البكري، حدثنا ابن عيينة قال: قال سعيد بن عقبة الهمداني لأعرابي: ممن أنت؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا. قال: عذري ورب الكعبة. قال فقلت: ومم ذاك؟ قال: في نسائنا صباحة، وفي فتياننا عفة. ذو الرمة ومي أخبرنا محمد بن الحسين إجازة إن لم يكن سماعاً، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا إبراهيم بن عبد الله الأزدي ومحمد بن القاسم الأنباري قالا: حدثنا أحمد بن يحيى عن أبي زيد، حدثنا إسحق بن إبراهيم، حدثني أبو صالح الفزاري قال: ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب، فقال عصمة بن مالك، شيخ منهم، قد أتى له مائة سنة، فقال: كان من أظرف الناس. قال: كان آدم، خفيف العارضين، حسن المنظر، حلو المنطق، وكان إذا أنشد بربر وحبس صوته، وإذا واجهك لم تسأم حديثه وكلامه. وكان له إخوة يقولون الشعر، منهم: مسعود وهمام وخرواش، فكانوا يقولون القصيدة، فيزيد فيها الأبيات؛ فيغلب عليها، فتذهب له. فأتى يوماً، فقال لي: يا عصمة! إن مية منقرية، وبنو منقر أخبث حي، وأبصره بأثر وأعلمه بطريق، فهل عندك من ناقة نزدار عليها مية؟ فقلت: نعم، عندي الجؤذر. قال: علي بها. (2/186) فركبناها جميعاً حتى أشرفنا على بيوت الحي، فإذا هم خلوف وإذا بيت مية خال، فملنا إليه فتقوض النساء نحونا، ونحو بيت مية، فطلعت علينا، فإذا هي جارية أملود، واردة الشعر، وإذا عليها سب أصفر، وقميص أخضر، فقلن: أنشدنا يا ذا الرمة! فقال: أنشدهن يا عصمة! فنظرت إليهن وأنشدتهن: وَقَفتُ عَلى رَسمٍ لمَيّةَ نَاقَتي، ... فما زِلتُ أبكي عندَه وَأُخاطِبُه وَأسقِيهِ حَتى كادَ مِمّا أبُثّهُ ... تُكَلّمُني أحجَارُهُ وَملاعبُه حتى بلغت إلى قوله: بكى وَامقٌ جاءَ الفرَاقُ وَلم يُجِلْ ... جَوَائِلَهَا أسرَارُهُ وَمَعَاتبُه فقالت ظريفة ممن حضر: فليجل الآن! فنظرت إليها حتى أتيت على القصيدة إلى قوله: إذا سَرَحتْ مِنْ حُبّ مَيٍّ سَوَارِحٌ ... عَلى القَلبِ آبَتهُ جَميعاً عَوَازِب فقالت الظريفة منهن: قتلته قتلت. فقالت مي: ما أصحه وهنيئاً له! فتنفس ذو الرمة نفساً كاد من حره يطير شعر وجهه، ومضيت في الشعر حتى أتيت على قوله: وَقد حَلَفتْ باللهِ مَيّةُ مَا الّذي ... أقُولُ لهَا إلاّ الّذي أنَا كَاذِبُه إذاً فَرَمَاني اللهُ مِنْ حَيثُ لا أرَى، ... وَلا زَالَ في دَارِي عَدُوٌّ أُحَارِبُه فقالت الظريفة: قتلته، قتلك الله. فقالت مي: خف عواقب الله يا غيلان! (2/187) ثم أتيت على الشعر حتى انتهيت إلى قولي: إذَا رَاجَعتَكَ القَوْلَ مَيّةُ، أوْ بَدَالكَ الوَجهُ منها، أوْ نَضَا الدّرْعَ سالبُه فَيَا لكَ مِنْ خَدٍّ أسِيلٍ وَمَنطِقٍ ... رَخِيمٍ، وَمِنْ خُلقٍ تَعَلّلَ جاذِبُه فقالت تلك الظريفة: ها هذه، وهذا القول؛ قد راجعتك وقد واجهتها، فمن لك أن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت إليها مية، فقالت: قاتلك الله ما أعظم ما تجيئين به! فتحدثنا ساعة ثم قالت الظريفة: إن لهذين شأناً، فقمن بنا! فقمن وقمت معهن، فجلست بحيث أراهما، فجعلت تقول له: كذبت، فلبث طويلاً ثم أتاني ومعه قارورة فيها دهن، فقال: هذا دهن طيب أتحفتنا به مية، وهذه قلادة للجؤذر، والله لا أخرجتها من يدي أبداً. فكان يختلف إليها، حتى إذا انقضى الربيع، ودعا الناس الصيف أتاني فقال: يا عصمة! قد رحلت مي، فلم يبق إلا الآثار، فاذهب بنا ننظر إلى آثارهم، فخرجنا حتى انتهينا، فوقف وقال: ألا يا اسلمي يا دَارَ ميّ عَلى البِلى، ... وَلا زَالَ مُنهَلاًّ بِجَرْعَائِكِ القطرُ فَإنْ لمْ تَكُوني غَيرَ شَامٍ بقَفرَةٍ، ... تَجُرّ بهَا الأذْيَالَ صَيْفِيّةٌ كُدرُ فقلت له: ما بالك؟ فقال لي: يا عصمة! إني لجلد، وإن كان مني ما ترى. وكان آخر العهد به. أجمل الحائيات الغزلية والخبر على لفظ أبي عبد الله قال: وحدثت عن ابن أبي عدي قال: سمعت ذا الرمة يقول: بلغت نصف عمر الهرم أربعين سنة، وقال ذو الرمة: على حينَ رَاهَقتُ الثّلاثينَ، وَارْعَوَتْ ... لِداتي، وكادَ الحِلمُ بالجَهلِ يَرْجَحُ (2/188) ذا خَطَرَتْ من ذِكرِ مَيّةَ خَطرَةٌ ... على القَلبِ كادَت في فؤادِكَ تَجرَحُ تَصَرَّفُ أهوَاءُ القُلُوبِ، وَلا أرَى ... نَصِيبَكِ مِنْ قَلبي لِغَيرِكِ يُمنَحُ فبعض الهَوَى بالهجرِ يُمحى، فينمحي، ... وَحبّكِ عندي يَستَجِدّ وَيَرْبَحُ وَلَمّا شَكَوْتُ الحُبّ كَيما تُثيبَني ... بوَجديَ، قالَت: إنّمَا أنتَ تَمزَحُ بعَاداً وَإدْلالاً عليّ، وَقَدْ رَأتْ ... ضَميرَ الهَوَى بالجسْمِ كَادَ يُبَرِّحُ لَئِنْ كانتِ الدّنيَا عليّ كَمَا أرَى ... تَبَارِيحَ مِن ذِكرَاكِ، فالمَوْتُ أرْوَحُ قال القاضي المعافى: وهذه من قصائد ذي الرمة الطوال المشهورة المستحسنة، وأولها: أمَنزِلَتَيْ مَيٍّ سَلامٌ عَلَيكُمَا، ... عَلى النأي، وَالنّائي يَودّ وَيَنصَحُ ومنها: ذكَرْتُكِ أنْ مَرّتْ بشنَا أُمُّ شَادِنٍ ... أمَامَ المَطَايَا تَشرَئِبّ وَتَسنَحُ مِنَ المُؤلِفاتِ الرّملِ أدْمَاءُ حُرّةٌ، ... شُعَاعُ الضّحَى في مَتنِها يَتَوَضّحُ رَأتنَا كَأنّا عَامِدُونَ لِصَيدِهَا، ... ضُحىً، فَهيَ تَنبُو تَارَةً وَتَزَحزَحُ هيَ الشبهُ أعطَافاً وَجِيداً وَمُقلَةً، ... وَمَيّةُ أبْهَى بَعدُ مِنهَا وَأملَحُ فهذه من أحسن الحائيات على هذا الروي، ونظيرها كلمة ابن مقيل التي أولها: هلِ القَلبُ من دُهماءَ سالٍ فمُسمِحُ، ... وَزَاجِرَة عَنهَا الخَيَالُ المُبَرّحُ وقول جرير: صحَا القَلبُ عن سَلمى، وقَد برّحت به، ... وَما كانَ يلقَى من تُمَاضِرَ أبرَحُ (2/189) ومثله: لَقَد كانَ لي في ضَرّتينِ عدمتَني، ... وَمَا كُنتُ ألقَى مِنْ رَزِينَةَ أبرَحُ وذكر في خبر ذي الرمة بهذا الإسناد، إخوة ذي الرمة، فقيل منهم: مسعود وهمام وخرواش، فأما مسعود فمن مشهوري إخوته، وإياه عنى ذو الرمة بقوله: أقُولُ لمَسعودٍ بجَرْعَاءِ مَالِكٍ ... وَقَد همّ دَمعي أنْ يَسُحَّ أوَائلُه ومنهم هشام، وهو الذي استشهد سيبويه في الإضمار في ليس بقوله، فقال: قال هشام بن عقبة أخو ذي الرمة: هيَ الشّفَاءُ لِدائي لَوْ ظَفِرْتُ بهَا، ... وَلَيسَ مِنهَا شِفَاءُ الدّاءِ مَبذُولُ ومنهم أوفى، وهو الذي عناه بعض إخوته في شعر رثى فيه ذا الرمة أخاهما: تَعَزِيتُ عَن أوْفَى بغَيلانَ بعدَهُ، ... عَزَاءً، وَجفنُ العَينِ ملآنُ مُترَعُ وَلم يُنسِني أوْفَى المَصَائبَ بعدَهُ، ... وَلكنّ نَكْءَ القَرْحِ بالقرْحِ أوْجعُ وذكره ذو الرمة فقال: أقُولُ لأوْفى حينَ أبصرَ باللِّوَى ... صَحيفَةَ وَجهي قد تَغَيَّرَ حَالُهَا شعاف القلب وشغافه أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي، أخبرنا أبو عبيد محمد بن عمران المرزباني: أنشدنا إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي لجرير بن الخطفى: سمعتُ الحمامَ الوُرْقَ في رَوْنَقِ الضّحى ... على الأيكِ في وَادي المَراضَينِ يَهتِفُ أتَزْعُمُ أنّ البَينَ لا يَشعَفُ الفَتى، ... بَلى مثلَ بَيني يوْمَ لبنانَ يَشعَفُ (2/190) فَطالَ حِذارِي غُرْبَةَ البَينِ وَالنّوَى ... وَأُحدُوثَةً مِنْ كَاشِحٍ يَتَقَوّفُ قال أبو عبيد الله قوله: يشعف يقال: شعفه أي بلغ منه رأس قلبه، وشعاف كل شيء أعلاه، وأما قوله، عز وجل: قد شغفها حباً؛ فإن الشغاف دم القلب، أي بلغ الحب إلى ذلك المكان. قال النابغة الذبياني: وَقد حالَ هَمٌّ دُونَ ذلكَ داخلٌ ... مَكانَ الشّغافِ تَبتَغيهِ الأصَابعُ وقوله يتقوف: أي يتتبع، وهو القائف، ونمه قول: إنا نقوف الآثار. دعاء الحبيب على حبيبه حدثنا أحمد بن علي بن ثابت من لفظه بدمشق، أخبرني أحمد بن أبي جعفر القطيعي، حدثني إسحق بن إبراهيم بن أحمد الطبري، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد، حدثنا أبو غالب ابن بنت معاوية بن عمرو، حدثني جدي معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله: سألت الله، عز وجل، أن لا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه. المهدي وأنسب بيت أخبرنا التنوخي، أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصفهاني، أخبرني الجرمي ابن أبي العلاء، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني خلف بن وضاح أن عبد الأعلى بن عبد الله بن صفوان الجمحي قال: حملت ديناً بعسكر المهدي، فركب المهدي يوماً بين أبي عبيد الله وعمر بن بزيع، وأنا وراءه، في موكبه على برذون قطوف، فقال: ما أنسب بيت قالته العرب؟ قال أبو عبيد الله: قول امرئ القيس: وَمَا ذَرَفتْ عَيْنَاكِ إلاّ لتَضرِبي ... بسَهمَيكِ في أعشَارِ قَلبٍ مُقَتَّلِ (2/191) قال: هذا أعرابي قح. فقال عمر بن بزيع: قول كثير يا أمير المؤمنين: أرِيدُ لأنسَى ذِكْرَهَا، فكأنّما ... تَمَثَّلُ لي بلَيلى بكلّ سَبيلِ فقال: ما هذا بشيء، وما له يريد أن ينسى ذكرها، حتى تمثل له؟ فقلت: عندي حاجتك يا أمير المؤمنين! قال: الحق بي. قلت: لا لحاق لي، ليس ذلك في دابتي، قال: احملوه على دابة. قلت: هذا أول الفتح، فحملت على دابة، فلحقته، فقال: ما عندك؟ قلت: قول الأحوص: إذا قُلتُ إني مُشتَفٍ بِلِقائِها، ... فحَمّ التّلاقي بَيننَا زَادَني سُقمَا فقال: أحسنت! حاجتك؟ قلت: علي دين. فقال: اقضوا دينه، فقضي دينه. أم البنين ووضاح اليمن أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثني أبي، محمد أبو أحمد الختلي، حدثنا أبو حفص يعني النسائي، حدثنا محمد بن حيان بن صدقة عن محمد بن أبي السري عن هشام بن محمد بن السائب قال: كانت عند يزيد بن عبد الملك بن مروان أم البنين بنت فلان، وكان لها من قلبه موضع، فقدم عليه من ناحية مصر بجوهر له قدر وقيمة، فدعا خصياً له، فقال: اذهب بهذا إلى أم البنين وقل لها: أتيت به الساعة، فلبعثت به إليك. فأتاها الخادم، فوجد عندها وضاح اليمن، وكان من أجمل العرب، وأحسنه وجهاً، فعشقته أم البنين، فأدخلته عليها، فكان يكون عندها، فإذا أحست بدخول يزيد بن عبد الملك عليها أدخلته في صندوق من صناديقها، فلما رأت الغلام قد أقبل أدخلته الصندوق، فرآه الغلام، ورأى الصندوق الذي دخل فيه، فوضع الجوهر بين يديها، وأبلغها رسالة يزيد، ثم قال: يا سيدتي هبي لي (2/192) منه لؤلؤةً! قالت: لا ولا كرامة، فغضب وجاء إلى مولاه، فقال: يا أمير المؤمنين إني دخلت عليها وعندها رجل، فلما رأتني أدخلته صندوقاً، وهو في الصندوق الذي من صفته كذا وكذا، وهو الثالث أو الرابع، فقال له يزيد: كذبت، يا عدو الله! جئوا عنقه، فوجئ في عنقه، ونحّوه عنه. قال: فأمهل قليلاً، ثم قام، فلبس نعله، ودخل على أم البنين، وهي تمتشط في خزانتها، فجاء حتى جلس على الصندوق الذي وصف له الخادم فقال لها: يا أم البنين! ما أحب إليك هذا البيت؟ قالت: يا أمير المؤمنين ادخله لحاجتي وفيه خزانتي فما أردت من شيء أخذته من قرب. قال: فما في هذه الصناديق التي أراها؟ قالت: حليي، وأثاثي. قال: فهبي لي منها صندوقاً. قالت: كلها لك يا أمير المؤمنين لك. قال: لا أريد إلا واحداً، ولك علي أن أعطيك زنته وزنة ما فيه ذهباً. قالت: فخذ ما شئت. قال: هذا الذي تحتي. قالت: يا أمير المؤمنين عد عن هذا، وخذ غيره، فإن لي فيه شيئاً يقع بمحبتي. قال: ما أريد غيره. قالت: هو لك. قال: فأخذه ودعا الفراشين فحملوا الصندوق، فمضى به إلى مجلسه، فجلس، ولم يفتحه، ولم ينظر ما فيه، فلما جنه الليل دعا غلاماً له أعجمياً فقال له: استأجر أجراء غرباء ليسو من أهل المصر. قال: فجاءه بهم وأمرهم، فحفروا له حفيرة في مجلسه، حتى بلغوا الماء، ثم قال: قدموا لي الصندوق. فألقي في الحفيرة. فألقي في الحفيرة، ثم وضع فمه على شفيره، فقال: يا هذا! قد بلغنا عنك خبر، فإن يك حقاً، فقد قطعنا أثره، وإن يك باطلاً، فإنما دفنا خشباً. ثم أهالوا عليه التراب حتى استوى، قال: فلم ير وضاح اليمن حتى الساعة. قال: فلا، والله، ما بان لها في وجهه ولا في خلائقه شيء حتى فرق الموت بينهما. (2/193) وجه كالسيف الصقيل أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل بمصر قراءة عليه، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن موسى القطان، حدثنا أبي، حدثنا العتبي، حدثنا أبو الغصن الأعرابي قال: خرجت حاجاً، فلما مررت بقباء تداعى أهلها وقالوا: الصقيل الصقيل، فنظرت فإذا جارية كأن وجهها سيف صقيل، فلما رميناها بالحدق ألقت البرقع عن وجهها وتبسمت، فوالله ما رأيت شيئاً قط أحسن منها، ثم أنشأت تقول: وكنتَ مَتى أرْسَلتَ طَرْفَكَ رَائداً ... لقَلبِكَ يَوْماً أتعَبَتكَ المَنَاظِرُ رَأيتَ الذي لا كلَّهُ أنتَ قَادرٌ ... عَلَيهِ ولا عن بعضِهِ أنتَ صَابرُ دل المطاع على المطيع أخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قرأت على أبي عمر بن حيويه: أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة لنفسه: تَوَاصُلُنا عَلى الأيّامِ بَاقٍ، ... وَلَكِنْ هَجرُنَا مَطَرُ الرّبيعِ يَرُوعُكَ صَوْبَهُ، لَكِنْ تَرَاهُ ... عَلى عِلاّتِهِ دَاني النّزُوعِ كذا العُشّاقُ هجرُهمُ دَلالٌ، ... وَيَرْجعُ وَصْلُهم حسنَ الرّجوعِ مَعاذَ اللهِ أنْ نُلفَى غِضَاباً، ... سِوَى دَلِّ المطاعِ على المُطيعِ (2/194) شعر لمحمد بن أبي أمية وأخبرنا ابن حيويه، أنبأنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري أنشدنا إبراهيم بن عبد الله الوراق لمحمد بن أبي أمية: مَلِّ الوِصَالَ، فَعاذَ بالهَجرِ، ... وَتَكَلّمَتْ عَينَاهُ بالغَدْرِ وَظَلَتُ مَحزُوناً أُفَكّرُ في ... إعرَاضِهِ عَني، وَفي صَبرِي مَا نِلتُ مِنهُ مَوَدّتِهِ، ... يَوْماً أُسَرّ بِهِ مَعَ الدّهرِ في كُلّ مَوْضِعِ لَذّةٍ حُزُنٌ ... يَعتَالُهُ مِنْ حَيثُ لا أدرِي وفتيان صدق وأخبرنا التنوخي، أخبرنا ابن حيويه، أنبأنا عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر أنشدنا البحتري: كَأنّ رَقيباً مِنكَ يَرْعَى خَوَاطِرِي، ... وَآخَرَ يَرْعَى نَاظِرِي وَلِسَاني فَما أبصَرَتْ عَينايَ بَعدَكَ مَنظَراً ... يَسُوءُكَ إلاّ قُلتُ قَدْ رَمَقَانِي وَلا بَدَرَتْ مِنْ فيّ بَعدَكَ مَزْحَةٌ ... لِغَيرِكَ إلاّ قُلتُ قَدْ سَمِعَانِي إذَا ما تَسَلّى العاذِرُونَ عَنِ الهَوَى ... بِشُرْبِ مُدَامٍ أوْ سَمَاعٍ قِيَانِ وَجَدْتُ الّذي يُسلي سِوَايَ يَشُوقُني ... إلى قُرْبِكُمْ حَتى أمَلَّ مَكَاني وَفِتيَانِ صِدقٍ قد سَئِمتُ لقَاءَهُم، ... وَعَفّفتُ طَرْفي عنهُمُ وَلِسَاني وَمَا الدّهرَ، أسلى عَنهُمُ، غيرَ أنّني ... أرَاكَ عَلى كُلّ الجِهاتِ تَرَاني (2/195) بنت تخون أباها أخبرنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب بمصر، حدثنا أبي، رحمه الله تعالى، حدثنا أحمد بن مروان، حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال: قرأت في سير العجم أن أردشير لما استوثق له أمره وأقر له بالطاعة ملوك الطوائف، حاصر ملك السريانية، وكان متحصناً في مدينة يقال لها الحضر، بإزاء مسكن من برية الثرثار، وهي برية سنجار، والعرب تسمي ذلك الملك الشاطرون، فحاصره فلم يقدر على فتحها، حتى رقت بنت الملك على الحصن يوماً، فرأت أردشير، فهويته، فنزلت وأخذت نشابة، وكتبت عليها: إن أنت ضمنت لي أن تتزوجني، دللتك على موضع تفتح به المدينة بأيسر الحيلة وأخف المؤونة، ثم رمت بالنشابة نحو أردشير، فقرأها، وأخذ نشابةً، فكتب إليها: لك الوفاء بما سألتني، ثم ألقاها إليها، فدلته على الموضع، فأرسل إليها، فافتتحها، فدخل، وأهل المدينة غارّون لا يشعرون، فقتل الملك، وأكثر القتل فيها، وتزوجها. فبينما هي، ذات ليلة، على فراشه أنكرت مكانها، حتى سهرت أكثر ليلها، فقال لها: ما لك؟ قالت: أنكرت فراشي، فنظروا تحت الفراش، فإذا تحت المجلس طاقة آس قد ثرت في جلدها، فتعجب من رقة بشرتها، فقال لها: ما كان أبوك يغذوك؟ قالت: كان أكثر غذائي عنده الشهد والمخ والزبد. فقال لها: ما أحد بالغ في الحباء والكرامة مبلغ أبيك، وإذا كان جزاءه عندك على جهد إحسانه مع لطف قرابته، وعظم حقه، إساءتك إليه، فما أنا بآمن مثل ذلك منك، ثم أمر بأن تعقد قرونها بذنب فرس شديد الجري، جموح، ثم يجرى. ففعل ذلك بها حتى سقطت عضواً عضواً، وهو الذي يقول فيه أبو داود الإيادي: وأَرَى المَوْتَ قَدْ تَدَلّى مِنَ الحِص ... نِ عَلى رَبّ أهلِهِ الشّاطرُونِ (2/196) العاشق المظلوم أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، حدثنا أبي، حدثنا أبو بكر محمد بن بكر البسطامي، حدثنا ابن دريد، حدثنا أحمد بن عيسى العكلي عن ابن أبي خالد عن الهيثم بن عدي قال: كان لعمرو بن دويرة السحمي أخ قد كلف بابنة عم له كلفاً شديداً، وكان أبوها يكره ذلك ويأباه، فشكا إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو أمير العراق، أنه يسيء جواره، فحبسه، فسئل خالد في أمر الفتى، فأطلقه، فلبث الفتى مدةً كافاً عن ابنة عمه، ثم زاد ما في قلبه وغلب عليه الحب، فحمل نفسه على أن تسور الجدار إليها، وحصل معها الفتى، فأحس به أبوها، فقبض عليه، وأتى به خالد بن عبد الله القسري وادعى عليه السرق، وأتاه بجماعة يشهدون أنهم وجدوه في منزله ليلاً، وقد دخل دخول السراق، فسأل خالد الفتى، فاعترف بأنه دخل ليسرق، ليدفع بذلك الفضيحة عن ابنة عمه، مه أنه لم يسرق شيئاً، فأراد خالد أن يقطعه، فرفع عمرو أخوه إلى خالد رقعةً فيها: أخالِدُ! قد وَاللهِ أُوطِئتَ عَشوَةً، ... وَمَا العَاشِقُ المَظلُومُ فِينا بسارِقِ أقَرّ بِمَا لمْ يَأتِهِ المَرْءُ، إنّهُ ... رَأى القَطعَ خيراً من فَضيحَةِ عاتِقِ وَلَوْلا الّذِي قد خفتُ من قَطعِ كفّهِ ... لأُلفِيتُ في أمرٍ لَهُم غيرَ نَاطِقِ إذا مُدّتِ الغَايَاتُ في السَّبقِ للعُلى، ... فأنتَ ابنَ عَبدِ اللهِ أوّلُ سَابِقِ وأرسل خالد مولىً له يسأل عن الخبر، ويتجسس عن جلية الأمر، فأتاه بتصحيح ما قال عمرو في شعره، فأحضر الجارية وأخذ بتزويجها من الفتى، فامتنع أبوها وقال: ليس هو بكفؤٍ لها. قال: بلى! والله إنه لكفؤٌ لها إذ بذل (2/197) يده عنها، ولئن لم تزوجها لأزوجنه إياها وأنت كاره. فزوجه، وساق خالد المهر عنه، من ماله، فكان يسمى العاشق إلى أن مات. يطلق زوجتيه أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، حدثنا أبو سعيد الحسن بن جعفر بن الوضاح السمسار، حدثنا أبو بكر محمد بن يحيى المروزي، حدثنا عاصم، حدثنا المسعودي عن الحسن بن سعد عن أبيه قال: كان تحت الحسن بن علي، عليهما السلام، امرأتان تميمية وجعفية، فطلقهما جميعاً، فبعثني إليهما، وقال: أخبرهما فلتعتدا، وأخبرني بما تقولان، ومتع كل واحد بعشرة آلاف وكذا وكذا من العسل والسمن. فأتيت الجعفية، فقلت: اعتدي، فتنفست الصعداء ثم قالت: متاع قليل من حبيب مفرق؛ وأما التميمية، فلم تدر ما معنى اعتدّي حتى قالت لها النساء، وأخبره بقول الجعفية، فنكت في الأرض ثم قال: لو كنت مراجعاً امرأة لراجعتها. أموت وأحيا أخبرنا علي بن المحسن، أنشدنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن الأخباري، أنشدنا ابن دريد أنشدنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه لامرأة بدوية: فَلَوْ أنّ مَا ألقَى وَما بي من الهَوَى ... بأوعر رُكْناهُ صفاً وَحَديدُ تَفَطّرَ مِنْ وَجْدٍ وَذّابَ حَدِيدُهُ، ... وَأمسَى تَرَاهُ العَينُ، وَهوَ عَميدُ ثَلاثونَ يَوْماً، كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... أمُوتُ وَأحيَا، إنّ ذَا لَشَديدُ مَسَافَةَ أرْضِ الشّامِ وَيحَكَ قَرّبِي ... إليّ ابنَ جَوّابٍ وَذَاكَ يَزِيدُ فَلَيتَ ابنَ جَوّابٍ مِنَ النّاسِ حظُّنا، ... وكانَ لَنا في النّارِ بعدُ خُلُودُ (2/198) جميل والبنات العذريات أخبرنا أبو علي بن الحسين الجازري بقراءتي عليه، حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، حدثنا محمد بن داود بن سليمان النيسابوري، حدثنا علي بن الصباح، حدثني أبو المنذر، حدثني شيخ من أهل وادي القرى قال: لما استعدى آل بثينة مروان بن الحكم على جميل وطلبه ربعي بن دجاجة العبدي، صاحب تيماء، هرب إلى أقاصي بلادهم، فأتى رجلاً من بني عذرة شريفاً، وله بنات سبع كأنهن البدور جمالاً، وقال: يا بناتي تحلين بجيد حليكن، والبسن جيد ثيابكن ثم تعرضن لجميل فإني أنفس على مثل هذا من قومي. وكان جميل، إذا رآهن، أعرض بوجهه فلا ينظر إليهن، ففعلن ذلك مراراً، فلما علم ما أريد بهن، أنشأ يقول: حَلَفتُ لِكَي تَعلَمنَ أني صاَدِقٌ ... وَلَلصّدقُ خيرٌ في الأمورِ وَأنجَحُ لَتكليمُ يومٍ مِنْ بُثَيْنَةَ وَاحِدٍ، ... وَرُؤيَتُهَا عِندِي ألَذُّ وَأصْلَحُ مِنَ الدّهرِ، لَوْ أخلو بكنّ، وَإنّما ... أُعَالِجُ قَلباً طَامحاً حين يَطمَحُ قال: فقال بهن أبوهن: ارجعن، فوالله لا يفلح هذا أبداً. المحبوس وابنة الوالي أخبرنا عبد الواحد بن الحسين المقري إن لم يكن سماعاً فإجازة، حدثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدثنا أبو علي الكوكبي، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن زيد العتبي، أخبرني جدي الحسن بن زيد قال: ولينا وال بديار مصر، فوجد على بعض عماله، فحبسه وقيده، فأشرفت عليه ابنة الوالي، فهويته، فكتبت إليه: أيّهَا الزّاني بِعَيْنَيْ ... هِ، وَفي الطَّرْفِ الحُتُوفُ (2/199) إنْ تُرِدْ وَصْلاً، فقَدْ ... أمكَنَكَ الظّبيُ الأُلُوفُ فأجابها الفتى: إنْ تَرَيْني زَانيَ العَيْنَيْ ... نِ، فَالفَرْجُ عَفيفُ لَيْسَ إلاّ النّظَرُ الفَا ... تِرُ، وَالشّعْرُ الظّرِيفُ فكتبت إليه: قَدْ أَرَدْناكَ بِأنْ تَع ... شَقَ إنْسَاناً ألُوفَا فَتَأبّيْتَ، فَلا زِلْ ... تَ لِقَيْدَيْكَ حَلِيفا فأجابها الفتى: مَا تَأبّيْتُ لأنّي ... كُنتُ للظّبيِ عَيُوفَا غَيرَ أنّي خِفْتُ رَبّاً، ... كَانَ بي بَرّاً لَطِيفا فذاع الشعر، وبلغ الخبر الوالي، فدعا به فزوجه إياها، ودفعها إليه. الدموع ألسنة القلوب أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي الدجاجي إجازة، حدثنا إسماعيل بن سويد، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أحمد بن زهير، أخبرنا محمد بن سلام قال: قلت لصديق لي: إن كنت تحسن إنشاد الغزل فأنشدني أبياتاً تشوي القلب رقةً اكتب بها إلى رجل مستهتر بجارية له، فأنشأ يقول: وَقَائِلَةٍ، وَدَمعُ العَينِ يجرِي ... على الخدّينِ كالمَاءِ السَّكُوبِ قَميصُكَ وَالدّمُوعُ تَجول فيه، ... وَقلبُكَ لَيسَ بالقلبِ الكَئيبِ نظيرُ قميص يوسُفَ حينَ جاؤوا ... عَلى لَبّاتِهِ بِدَمٍ كَذُوبِ (2/200) دُموعُ العَاشقِينَ، إذا تَوَالَتْ، ... بِظَهرِ الغَيبِ ألْسِنَةُ القُلوبِ فخشيت أن أكتب بها إلى صديقي، فتوافق منه بعض ما أعرف، فيموت عشقاً قلبه. الطيف المحتشم ولي من أثناء قطعة: ما بالُ طَيفكِ، زارَ مُحتَشِما، ... لَوْ لَمْ يَزُرْ مَا كَانَ مُتّهَما وَافَى، وَقد نَامَ السّميرُ، وَمَا ... شَعَرَ الرّقيبُ بِهِ، وَلا عَلِمَا وَاللّيلُ قَدْ مُدّتْ سَتَائِرُهُ، ... وَالصّبحُ لَمْ يَنشُرْ لَهُ عَلَمَا فَوَدِدتُ أنّ اللّيلَ طَالَ، وَأَ ... نّ الصّبحَ لمْ يَفترَّ مُبتَسِمَا يا طَيفَ علوَةَ قد وَصَلتَ عَلى ... رُغمِ الوُشاةِ من الهَوَى رَحِمَا ما زِلتُ أخضَعُ، يَوْمَ فُرْقَتِهِ، ... وَالبَينُ قَد مَزَجَ الدّمُوعَ دَمَا حتى رَثَى لي بَعدَ قَسوَتِهِ، وَأبَاحَني فمَهُ، وكانَ حمَى فَلَثمتُ مِنهُ، عَلى تَمَنّعِهِ ... مِنْ لاثِمِيهِ، مَبسِماً شَبِمَا وَنَظرْتُ في مِرآةِ وَاعِظَةِ عاذِلَتي ... في الصّالحَاتِ مُقَدِّماً خِدَمَا (2/201) شعر يزيد بن الطثرية أنبأنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، رحمه الله، أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت، حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري أنشدني أبي ليزيد بن الطثرية، والطثر عند العرب: الخصب وكثرة اللبن: ما وَجْدُ عَلْوِيِّ الهَوَى حَنّ وَاجتَوَىبِوَادِي الشَّرَا وَالغَوْرِ ماءً وَمَرْتَعَا تَشّوَقَ لمّا عَضّهُ القَيدُ وَاجتَوَى ... مَرَاتِعَهُ من بَينِ قُفٍّ وَأجْرَعَا وَرَامَ بِعَينَيهِ جِبِالاً مُنيفَةً، ... وَمَا لا يَرَى فِيهِ أخو القَيدِ مَطمَعَا إذا رَامَ مِنهَا مَطلَعاً رَدّ شَأوَهُ ... أمينُ القُوَى، عَضّ اليَدينِ فأوْجَعَا بِأكْبَرَ مِنْ وَجْدٍ برَيّا، وَجَدتُهُ، ... غَداةَ دَعَا دَاعي الفِرَاقِ فَأسمَعَا خَليليَ قِفْ، لا بُدّ مِنْ رَجعِ نَظرَةٍ ... مُصَعَّدَةٍ، شتّى بها القَوْمُ أوْ مَعَا مغتَصَبٍ قَد عَزّهُ الشّوْقُ أمرَهُ، ... يُسِرّ، حَياءً، عَبرَةً إنْ تَطَلّعَا تَهيجُ لَهُ الأحزَانُ وَالذّكرُ، كُلّمَا ... تَرَنّمَ، أوْ أوْفَى من الأرضِ مَيَفَعا تَلَفّتُّ للإصغَاءِ، حَتّى وَجَدْتُني ... وَجِعتُ مِنَ الإصغَاءِ لِيتاً وَأخدَعَا قِفا وَدِّعا نَجداً وَمَن حَلّ بالحِمَى، ... وَقَلّ لنَجدٍ عِندَنَا أنْ يُوَدَّعَا (2/202) حَنَنتَ إلى رَيّا، وَنَفسُكَ بَاعَدَتْ ... مَزَارَكَ مِنْ رَيّا وَشِعبَاكُمَا مَعَا فَمَا حَسَنٌ أنْ تَأتيَ الأمْرَ طَائِعاً، ... وَتَجزَعَ إن داعي الصّبَابة أسمَعَا وَلَيسَتْ عَشِيّاتُ الحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... عَلَيكَ، وَلكِن خَلِّ عَينيكَ تَدمَعَا بكَتْ عَينيَ اليُسرَى، فَلمّا زَجَرْتُها ... عَنِ الجَهلِ بَعدَ الحِلمِ أسبَلتَا مَعَا وَأذكُرُ أيّامَ الحِمَى ثُمّ أنثَني ... عَلى كَبدِي من خَشيَةٍ أن تَصَدّعَا أنفاس تذيب الحديد وبإسناده حدثنا أبو بقكر بن الأنباري، حدثني أبي أنشدنا أبو علي بن الضبي: فَلَوْ أنّ ما بي بالحَصَا فَلَقَ الحَصَا، ... وَبالرّيحِ لم يُوجَدْ لَهُنّ هُبُوبُ وَلَوْ أنّني أستَغفِرُ اللهَ كُلّمَا ... ذكَرْتُكِ لمْ تُكتَبْ عليّ ذنُوبُ وَلَوْ أنّ أنفَاسِي أصَابَتْ بحَرّهَا ... حَديداً، إذاً ظَلّ الحَديدُ يَذُوبُ زعم الدموع وبإسناده أخبرنا ابن الأنباري أنشدنا عبد الله بن لقيط: ظَهَرَ الهَوَى مِنّي، وكُنتُ أُسِرّهُ، ... وَالحُبّ يَكتُمُهُ المُحِبّ، فَيظهَرُ زَعَمتْ دُمُوعي أنّها لا تَنقَضِي ... حَتى تَبُوحَ بمَا أُسِرُّ وَأُضْمِرُ (2/203) حديث يشفي الملسوع أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال فيما أذن لنا في روايته، أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت، حدثنا محمد بن القاسم أنشدني محمد بن المرزبان لابن الأعرابي المكي: مَنْ لقَلبٍ يَجُولُ بَينَ التّرَاقي، ... مُستَهامٍ يَتُوقُ كُلَّ مَتَاقِ حذراً أنْ تَبينَ دَارُ سُلَيمَى، ... أوْ يَصيحَ الصّدَى لهَا بِفِرَاقِ أُمَّ سَلاّمَ! مَا ذَكّرْتُكِ إلاّ ... شَرِقَتْ بِالدّمُوعِ مِنّي المَآقي كَيفَ يَنسَى المُحِبّ ذِكرَ حَبيبٍ، ... طَيّبِ الخِيمِ، طَاهِرِ الأخْلاقِ حَسَنِ الصّوْتِ بالغِناءِ على المِزْ ... هَرِ، يُسلس الغَرِيبَ ذَا الأشوَاقِ وَحَديثٍ يَشفي السّقيمَ من السّقْ ... مِ، دَوَاءِ السّلِيمِ كَالدِّرْيَاقِ حَبّذا أنتِ من جَليسٍ إلَيْنَا، ... أُمَّ سَلاّمَ، لَوْ يَدُومُ التّلاقي الشافعي وامرأته أخبرنا أبو الحسين علي بن عبد الوهاب السكري قراءة عليه، رحمه الله تعالى، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا أبو طالب أحمد بن الحسين بن علي، حدثني أحمد بن أصرم المزني من ولد عبيد الله بن مغفل، حدثني محمد بن عبد الله الفارسي قال: قال الشافعي: كانت لي امرأةٌ، وكنت أحبها، فكنت إذا دخلت عليها أنشأت أقول: أوَ لَيسَ بَرْحاً أنْ تُحِ ... بّ وَلا يُحبّكَ مَن تُحبُّهْ؟ (2/204) قال فترد هي علي: فيَصُدّ عَنكَ بوَجهِهِ، ... وَتَلَجّ أنتَ، فَلا تُغِبّهْ هلال مكلل بشموس حدثنا الخطيب، أخبرنا الرزاز، أخبرنا أبو الفرج الأصفهاني، حدثني عمي، حدثني أحمد بن المرزبان قال: كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قد هوي جاريةً نصرانية، رآها في دير مار جرجس في بعض أعياد النصاري، فكان لا يفارق البيع شغفاً بها، فخرج في عيد مار جرجس إلى بيعة تعرف بدير مار جرجس، فوجدها في بستان إلى جانب البيعة، وقد كان قبل ذلك يراسلها ويعلمها محبته لها، فلا تقدر على مواصلته، ولا لقائه، إلا على ظهر الطريق، فلما ظفر بها التوت عليه، وأبت بعض الإباء، ثم ظهرت له، وجلست معه مع نسوة كانت تأنس بهن، فأكلوا وشربوا، وأقام معها أسبوعاً، ثم انصرف في يوم خميس وقال في ذلك: رُبّ صَهبَاءَ من شَرَابِ المَجُوسِ ... قَهوَةٍ بَابِلِيّةٍ خَندَرِيسِ قَدْ تَجَلّيتُها بنَايٍ وَعُودٍ، ... قَبلَ ضَرْبِ الشمّاسِ بالنّاقُوسِ وَغَزَالٍ مُكَحَّلٍ ذِي دَلالٍ، ... سَاحِرِ الطّرْفِ سَامرِيٍّ عَرُوسِ قَدْ خَلَوْنَا بِطيبِهِ نَجتَنيهِ، ... يَوْمَ سَبتٍ إلى صَبَاحِ الخَميسِ بَينَ وَرْدٍ وَبينَ آسٍ جَنيٍّ، ... وَسطَ بُستَانِ دَيرِ مارِ جرْجيسِ (2/205) تَتَثَنّى في حُسنِ جِيدٍ غَزَالٍ، ... في صَلِيبٍ مُفضّضٍٍ آبَنُوسِ كم لَثَمتُ الصّليبَ في الجيدِ منها ... كَهِلالٍ مُكَلّلٍ بِشُمُوسِ كما أكون يكون أنبأنا القاضي الشريف أبو الحسين بن المهتدي، رحمه الله تعالى، حدثنا طالب بن عثمان الأزدي، حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال: الحجون موضع بمكة أنشدني أبي فيه: هَيّجَتني إلى الحُجُونِ شُجُونُ، ... لَيتَهُ قَد بَدَا لعَينيّ الحُجُونُ حَلّ في القَلبِ سَاكِنُوهُ مَحَلاًّ ... مِن فُؤادي يَحِلُّ فيهِ المَكينُ كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَوَاءٌ، وَدَاءُ الحُ ... بّ، يا صَاحبيّ، دَاءٌ دَفينُ لَيتَ شِعرِي عمّن أُحِبُّ أيُمسِي ... عِندَ ذِكرِي كمَا أكونُ يكُونُ؟ ؟ قمر نام في قمر أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أبو عبد الله أحمد بن أبي محمد القرشي قال: كان بعض الظرفاء يتعشق جاريةً لبعض المغنيات، فدعاها يوماً، فأقامت عنده، وأتى الليل، فشغل ببعض أموره، فصعدت الجارية، فنامت فوق سطح له في القمر، فلما فرغ من أمره صعد، فرآها نائمة، فاستحسن وجهها، فجعل مرةً ينظر إليها، ومرةً ينظر إلى القمر، وأنشأ يقول: قَمَرٌ نَامَ في قَمَرْ ... مِنْ نُعاسٍ وَمن سَكَرْ لَيسَ يَدرِي مُحِبّهُ، ... وَهوَ ذُو فِطنَةٍ، خَبرْ أبِهَذَا انجلَى الدّجَى، ... أمْ بِذَا أشرَقَ القَمَرْ (2/206) المعصفر بالدم أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الجوهري، حدثنا أبو عمر بن حيويه، أنبأنا الصولي أنشدنا ابن المعتز لنفسه: يَا زائِري في مُعَصْفَرٍ بدَمٍ ... جَاهَرْتَ في قَتلِكَ المُحبّينَا لا تَلبَسَنْ صِبغَةٌ تَدُلّ عَلى ... قَتلِكَ عُشّاقَكَ المَسَاكِينا يغار منك عليك أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، رحمه الله تعالى: حدثنا أبو منصور علي بن محمد الباخرزي الفقيه بنيسابور لبعضهم: لا تُجَرّدْ عَليّ سَيفاً مِنَ الهَجْ ... رِ، كَفَتني السّيوفُ من نَاظِرَيكَا سُقمُ جسمي أشدّ من سُقمِ عَينَي ... كَ، وَقلبي أرَقّ مِنْ وَجنَتَيكَا يا بَديعاً تكامَلَ الحُسنُ فِيهِ! ... صِلْ مُحِبّاً يَغَارُ مِنكَ عَلَيكَا الجارية الحنون ذكر أبو منصور بائي بن جعفر بن بائي الجيلي قاضي ربع الوراقين ببغداد ولم أسمعه منه، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عمران الجندي، حدثنا جعفر الخالدي، حدثنا ابن مسروق، حدثنا عمر بن شبة، حدثنا سلم بن عمر قال: اعترض ابن أبي دؤاد جاريةً، فأعجبته، فقال: ماذا تَقُولينَ في مَنْ شَفّهُ سَقَمٌ ... مِنْ طُولِ حُبّكِ حتى صَارَ حَيرَانا فأجابته: إذا رَأينَا مُحِبّاً قَد أضَرّ بِهِ ... جُهدُ الصّبَابَةِ أوْلَينَاهُ إحسَانَا (2/207) الرشيد والجارية المولعة بخلافه أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أحمد بن علي المروزي الجوهري إملاء من حفظه، أخبرني أبو العباس أحمد النيسابوري: أن هارون الرشيد كتب هذه الأبيات إلى جارية له كان يحبها، وكانت تبغضه: إنّ التي عَذّبَتْ نَفسِي بمَا قَدَرَتْ ... كلّ العَذابِ، فَما أبقَتْ وَلا تَرَكَتْ مازَحتُها فَبَكَتْ، وَاستَعبَرَتْ جَزَعاً ... عَنّي، فَلَمّا رَأتْني باكِياً ضَحِكَتْ فعُدتُ أضْحَكُ مَسرُوراً بضَحكَتها، ... حَتى إذا ما رَأتْني ضَاحِكاً، فَبَكَتْ تَبغي خِلافي كَمَا خَبّتْ برَاكِبِها، ... يَوْماً، قَلُوصٌ، فَلَمّا حَثّها بَرَكَتْ ووجدت له في هذه القطعة بيتاً أول وبيتاً أخيراً، فأما الأول فهو: أَليسَ من عَجَبٍ بَل زَادَني عَجَباً ... مَملوكةٌ مَلَكَتْ من بعد ما مُلِكَتْ وأما البيت الأخير فهو: كَأنّها دُرّةٌ قَد كُنتُ أذخَرُهَا، ... لِيَوْمٍ عُسرٍ، فَلَمّا رُمتُها هَلَكتْ عاشق زوجة أخيه وأخبرنا محمد بن الحسين، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار، حدثنا إبراهيم بن راشد بن سليمان الآدمي، حدثنا عبد الله بن عثمان الثقفي، حدثنا المفضل بن فضالة مولى عمر بن الخطاب عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: كان في الجاهلية أخوان من حي يدعون بني كنّه، أحدهما متزوج، والآخر عزب، فقضي أن المتزوج خرج في بعض ما يخرج الناس فيه، وبقي الآخر مع امرأة أخيه، فخرجت، ذات يوم، حاسرةً، فرآها أحسن (2/208) الناس وجهاً وثغراً، فلما علمت أن قد رآها، ولولت وصاحت وغطت بمعصمها وجهها. قال القاضي: المعصم موضع السوار، فزاده ذلك فتنة، فحمل الشوق على بدنه، حتى لم يبق إلا رأسه وعيناه تدوران فيه. وقدم الأخ، فقال: يا أخي! ما الذي أرى بك؟ فاعتل عليه، وقال: الشوصة، والشوصة تسميها العرب اللوى وذات الجنب. فقال له ابن عمر: لا تكذبنه، ابعث إلى الحارث بن كلدة، فإنه من أطب العرب، فجيء به، فلمس عروقه فإذا ساكنها ساكن، وضاربها ضارب، فقال: ما بأخيك إلا العشق. فقال: سبحان الله تقول: هذا الرجل ميت؟ فقال: هو كذلك، أعندكم شيء من شراب؟ فجيء به ثم دعا بمسعط، فصب فيه من الشراب، وحل صرةً من صرره فذر فيه، ثم سقاه الثانية، ثم الثالثة، فانتشى يغني: يَهيجُ ما يَهيجُ وَيَذكُرُ ... أيّها القَلبُ الحزِينُ ما يكُنّه ألِمّا بي عَلى الأبْيَات ... تِ مِنْ خَيفٍ أزُرْهُنّه غَزَالاً مَا رَأيتُ اليَوْ ... مَ في دُورِ بَني كُنّه غَزَالٌ أحْوَرُ العَينِ، ... وَفي مَنطِقِهِ غُنّه قال القاضي: البيت الأول من هذه الأبيات مضطرب، وأرى بعض من رواه كسره وأخل ببنائه ونظمه لأنه لم يكن له علم بوزن الشعر وترتيبه. فقال الرجل: هذه دور قومنا، فليت شعري من؟ فقال الحارث: ليس فيه مستمتع غير هذا اليوم، ولكن أغدو عليكم من الغد، ففعل به كفعله بالأمس، فانتشى يغني سكراً، واسم امرأة أخيه ريا، فقال: أيّها الحَيّ فَاسْلَمُوا، ... كَيْ تُحَيَّوا وَتُكرَموا (2/209) خَرَجَتْ مُزنةٌ مِنَ ال ... بَحْرِ رَيّا تُحَمْحِمُ لَمْ تَكُنْ كَنّتي ... وَتزْعُمُ أنّي لهَا حَمُو فقال الرجل لمن حضره: أشهدكم أنها طالق ثلاثاً، ليرجع إلى أخي فؤاده، فإن المرأة توجد، والأخ لا يوجد. فجاء الناس يقولون له: هنيئاً لك أبا فلان، فإن فلاناً قد نزل لك عن فلانة. فقال لمن حضر: أشهدكم أنها علي مثل أمي إن تزوجتها. قال عبد الله بن عثمان: قال المفضل: قال ابن سيرين: قال عبيدة السلماني: ما أدري أي الرجلين أكرم الأول أم الآخر. ؟ وقف على العلل أنبأنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي الدجاجي، رحمه الله تعالى، حدثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، أخبرنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر، حدثنا أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب، حدثنا الزبير بن أبي بكر، حدثني عمر بن أبي المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر البسطامي أنشدني عبد الله المديني أبياتاً في الغزل، وكان مشغوفاً بجارية: إذا تذكّرْتُ أيّاماً لَنَا سَلَفَتْ، ... كادَ التذكّرُ يُدنِيني من الأجلِ فإنْ مُنيتْ بما قَد فاتَ مَرْجِعُه، ... حالَ التّباعُدُ بينَ القلبِ وَالأملِ صَبٌّ لَهُ دَمعَةٌ في العَينِ جارِيةٌ؟ ... وَجِسمُهُ أبَداً وَقْفٌ عَلى العِلَلِ (2/210) أخذنا بأطراف الأحاديث وبإسناده حدثنا الحسين بن القاسم، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا خالي إبراهيم بن محمد السهمي قال: كان عبد الرحمن بن خارجة إذا ودع البيت ركب راحلته، ورفع عقيرته، وأنشأ يقول: فَلمّا قَضَينا مِنْ مِنىً كلّ حاجَةٍ ... وَمَسّحَ بالأرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ وَشُدّتْ على حُدبِ المَهارِي رِحالنُا، ... وَلا يَنظُرُ الغادِي الذي هوَ رَائِحُ أخَذْنَا بأطرَافِ الأحَاديثِ بَيننَا، ... وَسَالبتْ بأعنَاقِ المَطيّ الأبَاطِحُ الدموع الشاهدة ولي من أثناء قصيدة: وَمُتَرَّفٍ، كَالمَاءِ رِقّةُ جِسْمِهِ، ... وَالقَلبُ مِنهُ قَسَاوَةٌ كَالجَلْمَدِ حَكّمتُهُ في حُبّهِ، وَمَدَامِعي ... يَشْهَدْنَ لي في حُبّهِ بتَفَرّدِي نَمّ الوُشَاةُ إلَيهِ أنّي زَاهدٌ ... فِيهِ، وَغَرّهُمُ كَبيرُ تَجَلّدِي فَجَعَلتُ أٌقسِمُ بِالنّبيّ وَآلِهِ ... وَالمَسجِدِ الأقصَى وَرَبّ المَسجِدِ إنّي عَلى ما سَنّهُ شَرْعُ الهَوَى، ... في العاشِقِينَ، وسَلْ دُمُوعي تَشْهَدِ فأبى قبُولَ مَعَاذِرِي، أفديهِ مِنْ ... صَرْفِ الحَوَادِثِ، فهوَ أكرَمُ من فُدي (2/211) ملاءة العفة ولي أيضاً من أثناء قصيدة: كَمْ غَادَةٍ غَازَلتُهَا، ومَفَارِقي ... سُودٌ، وَما خَطّ المَشيبِ ذُؤابَتي حَوْرَاءَ من وَحشِ الصّرَاةِ، غَرِيرَةٍ ... تَصْبي الحَلِيمَ، دَعَوْتُهَا، فأجَابَتِ بِتْنَا جَميعاً في مُلاءةِ عِفّةٍ، ... وَرَقِيبُنا نَاءٍ، وَإزْرِ صِيانَةِ نَشكُو هَوَانَا، وَالتّصَوّنُ حَاجِزٌ ... مَا بَيْننَا، نَعنُو لَهُ بِالطّاعَةِ حَتى إذا أبْدَى الصّبَاحُ جَبينَهُ، ... وَتَكَلّمَتْ وَرْقَاءُ فَوْقَ أرَاكَةِ نَهَضَتْ مُوَدِّعَةً، وَأوْدَعَتِ الحشا ... مِنّي تَلَهّبَ جَمْرَةٍ لَذّاعَةِ يَا لَيْلَةً مَا كَانَ أقْصَرَها، وَيَا ... لَهْفي عَلَيْها لَيْلَةً لَوْ طَالَتِ المملوك المالك أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي قراءة عليه، في سنة ست وثلاثين وأربع مائة، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني، حدثنا محمد بن يحيى الصولي، حدثنا الحسين بن يحيى الكاتب، أخبرني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال: حلف الرشيد لا يدخل إلى جارية له أياماً، وكان لها مكان من قلبه، فمضت الأيام، ولم تسترضه، فأحضر جعفر بن يحيى، وعرفه الخبر، وأنشده شعراً عمله، وقال: أجزه لي، والشعر: صَدّ عَنّي إذْ رَآني مُفتَتَنْ، ... وَأَطَالَ الصّدَّ لمّا أنْ فَطَنْ (2/212) كانَ مَملُوكي، فأضحَى مالكي، ... إنّ هذا مِنْ أعَاجِيبِ الزّمَنْ فقال له جعفر بن يحيى: إن أبا العتاهية محبوس، بلا جرم، وهو أقدر الناس على أن يأتي بشيء مليح، قال: وجه البيتين إليه، وقل له أجزهما بما يشابههما، فلما قرأهما أبو العتاهية كتب تحتهما: ضَعُفَ المِسكينُ عن تِلكَ المِحَنْ ... بهَلاكِ الرّوحِ مِنهُ وَالبَدنْ وَلَقَدْ كُلّفَ شَيئاً عَجَباً ... زَادَ في النَكبةِ وَاستَوْفَى المِحَنْ قِيلَ: فَرّحنَا، وَيَأبى فَرَحٌ ... أنْ يُؤاتِينيَ مِنْ بَيتِ الحَزَنْ فلما قرأ الأبيات استحسنها الرشيد، وأمر بإطلاقه وصلته، وقال: صدق، والله، احضروه، فحضر، فقال: أجز بيتيّ! فقال: الآن طاب القول، وأطاع الفكر، وأنشد: عِزّةُ الحُبّ أرَتْهُ ذِلّتي، ... في هَوَاهُ، وَلهُ وَجهٌ حَسَنْ فَلِهَذا صِرْتُ مَملُوكاً لَهُ، ... وَلِهَذا شَاعَ أمرِي وَعَلَنْ فقال الرشيد: جئت، والله، بما في نفسي، وأطلقه وزاد في صلته. فتوى في الحب حدثنا أحمد بن علي الحافظ بدمشق من لفظه، حدثنا أبو نعيم الحافظ بأصفهان، حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني، أخبرني بعض أصحابنا قال: كتب بعض أهل الأدب إلى أبي بكر بن داود الأصبهاني الفقيه: يا ابنَ داودَ، يا فَقيهَ العِرَاقِ! ... أفتِنَا في قَواتِلِ الأحداقِ! هَلْ عَلَيها القِصَاصُ في القَتلِ يوْماً، ... أمْ حَلالٌ لَهَا دَمُ العُشّاقِ؟ فأجابه ابن داود: عِندي جَوَابُ مَسائِلِ العُشّاقِ، ... إسمَعْهُ مِنْ قَلَقِ الحَشَا مُشتَاقِ لمّا سَألتَ عنِ الهَوَى أهلَ الهَوَى، ... أجرَيتَ دَمعاً لَمْ يكُنْ بالرّاقي أخطأتَ في نَفسِ السؤالِ، وَإن تُصِبْ ... تكُ في الهَوَى شَفَقَاً من الأشفاقِ لَوْ أنّ مَعشُوقاً يُعّذِّبُ عَاشِقاً ... كانَ المُعَذَّبُ أنْعَمَ العُشّاقِ (2/213) ليلى الحارثية أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عمر بن أحمد المروروذي، حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن أحمد بن صدقة، حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، حدثنا أبو معمر قال: أمل علينا سفيان بن عيينة عن يحيى بن يحيى الغساني قال: سمعت عروة يحدث أن عبد الرحمن بن أبي بكر خرج في نفر من قريش إلى الشام يمتارون، فمروا بامرأة يقال لها ليلى، فراعه جمالها، وقد وقع منها في نفسه شيء، فرجع وهو يشبب ويقول: تذكّرْتُ لَيلى، وَالسَّمَاوَةُ بَينَنَا، ... وَما لابنَةِ الجُوديّ لَيلى، وَمَا لِيَا زاده مصعب بيتين ليس من حديث ابن عيينة: وَأنّى تَعَاطَى ذِكرَهُ حارِثِيّةٌ، ... تُقيمُ ببصرَى أوْ تَحِلّ الجَوابِيَا وَأنّى تَلاقِيها؟ بَلى، وَلَعَلّها ... إنِ الناسُ حَجّوا قابلاً أن تُوَافِيَا ثم رجع إلى حديث سفيان قال: فلما كان زمن عمر بن الخطاب افتتح خالد بن الوليد الشام، فصارت إليه. (2/214) عبد الملك والغلام العاشق أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا الكديمي أبو العباس، حدثنا السليمي عن محمد بن نافع مولاهم عن أبي ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان قال: كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع يومين جلوساً عاماً، فبينا هو جالس في مستشرف له، وقد أدخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصةٌ غير مترجمة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته فلانة تغنيني ثلاثة أصوات، ثم ينفذ في ما شاء من حكمه، فعل. فاستشاط من ذلك غضباً وقال: يا رباح! علي بصاحب هذه القصة، فخرج الناس جميعاً، وأدخل إليه غلام، كما عذر، كأهيإ الفتيان، وأحسنهم، فقال له عبد الملك: يا غلام! هذه قصتك؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين. قال: وما الذي غرك مني؟ والله لأمثلن بك، ولأردعن بك نظراءك من أهل الجسارة. علي بالجارية! فجيء بجارية كأنها فلقة قمر، وبيدها عود، فطرح لها كرسي، وجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام! فقال: غنيني يا جارية بشعر قيس بن ذريح: لقد كنتِ حسبَ النفسِ، لوْ دام ودُّنا، ... وَلَكِنّمَا الدّنْيَا مَتَاعُ غُرُورِ وَكنّا جَميعاً قبلَ أن يَظهَرَ الهَوَى، ... بِأنعَمِ حَالَيْ غِبْطَةٍ وَسُرُورِ فَما بَرِحَ الوَاشُونَ حَتى بَدَتْ لَنَا ... بُطُونُ الهَوَى مَقلُوبَةً لِظُهُورِ فخرج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تمزيقاً، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنك الصوت الثاني! فقال: غنيني بشعر جميل: (2/215) ألا لَيتَ شِعرِي! هَل أبِيتَنّ ليلةً ... بِوَادِي القُرَى؟ إني إذاً لَسَعيدُ إذا قلتُ: ما بي يا بُثَيْنَةُ قاتلي ... من الحُبّ، قَالَتْ: ثابتٌ وَيَزيدُ وَإن قلتُ: رُدّي بعض عقلي أعش به ... مَعَ النّاسِ! قالت: ذاكَ منكَ بَعيدُ فلا أنا مَرْدُودٌ بما جئتُ طالِباً؛ ... وَلا حُبّهَا فِيمَا يَبيدُ يَبيدُ يمُوتُ الهَوَى مني، إذا ما لَقيتُها، ... ويَحيَا، إذا فارَقتُها، فَيَعُودُ فغنته الجارية، فسقط مغشياً عليه ساعةً، ثم أفاق، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث! فقال يا جارية غنيني بشعر قيس بن الملوح المجنون: وَفي الجيرَةِ الغادِينَ مِنْ بَطنِ وَجرَةٍ ... غَزَالٌ غَضِيضُ المُقلَتَينِ رَبيبُ فَلا تَحسَبي أنّ الغَرِيبَ الذِي نَأَى، ... وَلَكِنّ مَنْ تَنأَينَ عَنهُ غَرِيبُ فغنته، فطرح الغلام نفسه من المستشرف، فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع، فقال عبد الملك: ويحه، لقد عجل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل، وأمر فأخرجت الجارية عن قصره، ثم سأل عن الغلام فقالوا: غريب لا يعرف إلا أنه منذ ثلاث ينادي في الأسواق، ويده على أم رأسه: غداً يَكثُرُ الباكُونَ مِنّا وَمنكُمُ ... وَتَزْدَادُ دارِي من دِياركمُ بُعدا (2/216) الطائفة في البيت الحرام أخبرنا أبو القاسم الحسين بن محمد بن إبراهيم الحنائي بدمشق، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم التميمي، أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد، حدثنا وزيره ابن محمد، حدثنا عمر بن شبة، حدثنا عيسى بن يزيد قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذ نظرت إلى جارية حسناء تطوف بالبيت، وهي تقول: لن يقبلَ اللهُ من مَعشوقَةٍ عَمَلاً ... يَوماً وَعَاشِقُها حَيرَانُ مَهجُورُ لَيستْ بمأجورَةٍ في قَتلِ عاشِقِها، ... لكنّ عاشِقَها في ذاكَ مأجُورُ قال: قلت: يا هذه تنشدين هذا حول بيت الله الحرام؟ فقالت: إليك عني يا شيخ، لا يرهقك الحب، فإنه يكمن في القلب ككمون النار في حجرها، إن قدحته أورى، وإن كتمته توارى. ثم ولت نحو زمزم، وهي تقول: أُنُسٌ غَرَائِرُ ما هَمَمنَ بريبَةٍ، ... كَظِباءِ مكّةَ صَيدُهنّ حَرَامُ يُحسَبنَ من لِينِ الحَديثِ زَوَانِيَا، ... وَيَصُدّهُنّ عَنِ الخَنَا الإسلامُ العود الصليب أنبأنا الرئيس أبو علي بن وشاح الكاتب، أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا، حدثنا علي بن سليمان الأخفش، حدثنا محمد بن مريد قال: حدثت عن بعض أصحاب ابن عباس فقال: إني وابن عباس بفناء الكعبة، وهو في جماعة، فإذا بفتيان يحملون بينهم فتىً حتى وضعوه بين يدي ابن عباس، فقالوا: استشف له! فكشفوا عنه، (2/217) فإذا وجه حلو، وعود صليب، وجسم ناحل، فقال له: ما يؤلمك؟ فقال: بنَا من جَوَى الأحزَانِ وَالحبّ لَوْعَةٌ ... تَكادُ لهَا نَفسُ الشّفيقِ صَلِيبُ وَلَكِنّما أبْقَى حُشَاشَةَ مَا تَرَى ... عَلى ما تَرَى عُودٌ هُناكَ صَلِيبُ فقال ابن عباس: أرأيتم وجهاً أعتق أو عوداً أصلب أو منطقاً أفصح من هذا؟ قتيل الحب، لا عقل ولا قود! فما سمعنا ابن عباس دعا بشيء إلى أن أمسى إلا بالعافية مما أصاب الفتى. نظرت إليها وأنبأنا ابن وشاح، أخبرنا القاضي المعافى بن زكريا، حدثنا أبو طالب الكاتب علي بن محمد بن الجهم، حدثنا عمر يعني ابن شبة، حدثني أبو يحيى قال: أنشدت عبد الملك بن عبد العزيز: وَلمّا رَأيتُ البَينَ مِنهَا فُجَاءَةً؛ ... وَأهَوَنُ للمَكرُوهِ أنْ يُتَوَقّعَا وَلمْ يَبقَ إلَيْهَا نَظْرَةً، فرَأيتُهَا ... وقد أبرَزَتْ من جانبِ السجفِ إصبعا قال أبو يحيى: فقلت له: قالها رجل من بني قشير. فقال: احسن والله، فقلت: أنا قلتها في طريقي إليك. قال: قد والله عرفت فيها الضعف حين أنشدتني. (2/218) ؟ روح معذبة بالحياة قال أبو الفرج الببغاء: وقد كان القاضي أبو القاسم التنوخي أنشدنا جميع شعره أو أكثره ولا أعلم هذه القطعة فيما أنشدنا أهي له أم لا، وهي: يا سادَتي! هَذِهِ رُوحي تُوَدّعُكُم، ... إذْ كانَ الصّبرُ يُسليها وَلا الجَزَعُ قد كُنتُ أطمَعُ في رُوحِ الحَيَاةِ لهَا، ... فالآنَ مُذْ غِبتُمُ لمْ يَبقَ لي طَمَعُ لا عَذّبَ اللهُ رُوحي بِالحَيَاةِ، فَمَا ... أظُنّهَا بَعدَكُمْ بالعَيشِ تَنتَفِعُ الأعرابي البصير أخبرنا عبيد الله بن عمر بن أحمد بن شاهين الواعظ، حدثنا أبي، حدثنا عمر بن الحسن حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثنا علي بن الجعد، سمعت أبا بكر بن عياش يقول: كنت في زمن الشباب، إذا أصابتني مصيبة، تجلدت، ودفعت البكى بالصبر، وكان ذلك يؤذيني ويؤلمني، حتى رأيت أعرابياً بالكناسة واقفاً على نجيب وهو ينشد: خَليليّ عُوجا من صُدورِ الرّوَاجِلِ، ... بجُمهُورِ حَزْوَى، وَابكِيا في المَنازِلِ لَعَلّ انحِدارَ الدّمعِ يُعقِبُ رَاحَةً، ... مِنَ الوَجدِ أوْ يَشفي نجيَّ البَلابِلِ فأصابتني بعد ذلك مصائب فكنت أبكي، فأجد لذلك راحةً، فقلت: فاتل الله الأعرابي ما كان أبصره! (2/219) الصوفي المتواجد أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، أخبرني أبي، حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد بن عبد المؤمن أحد الصوفية من أهل سر من رأى قال: رأيت ببغداد صوفياً أعور، يعرف بأبي الفتح، في مجلس أبي عبد الله بن البهلول، فقرأ بألحان قراءة حسنة، وصبي يقرأ: أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر، فزعق الصوفي: بلى! بلى! دفعات وأغمي عليه طول المجلس، وتفرق الناس عن الموضع، وكان الاجتماع في صحن دار كنت أنزلها، فلم يكن الصوفي أفاق فتركته مكانه، فما أفاق إلى أن قرب العصر، ثم قام، فلما كان من بعد أيام سألت عنه، فعرفت أنه حضر عند جارية في الكرخ تقول بالقضيب، فسمعتها تقول الأبيات التي فيها: وَجهُكَ المأمُولُ حُجّتُنا ... يَوْمَ يأتي النّاسُ بالحُجَجِ فتواجد، وصاح، ودق صدره إلى أن أغمي عليه، فسقط، فلما انقضى المجلس حركوه فوجدوه ميتاً، فغسلوه، ودفنوه، واستفاض الخبر بهذا وشاع، وأخبرني به فئام من الناس والأبيات لعبد الصمد بن المعذل: يا بَديعَ الدّلّ وَالغُنُجِ! ... لكَ سُلطانٌ عَلى المُهَجِ إنّ بَيْتاً أنْتَ سَاكِنُهُ ... غَيرُ مُحتَاجِ إلى السُّرُجِ وَجهُكَ المَعشوقُ حُجّتُنا ... يَوْمَ يأتي النّاسُ بالحُجَجِ والصوفية إذا قالوا: وجهك المأمول، نقلوه إلى ما لهم في ذلك من المعاني، وكانت قصة هذا الرجل وموته في سنة خمسين وثلاثمائة، وأمره من مفردات الأخبار. (2/220) الأصمعي والجواري أخبرنا الخطيب، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي بنيسابور، حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفار الأصبهاني، حدثنا أبو عبد الله محمد بن أخبرنا النيسابوري ببغداد، حدثنا محمد بن حبيب، سمعت علي بن عثام يقول: سمعت الأصمعي يقول: مررت بالبادية على رأس بئر، وإذا على رأسه جوار، وإذا واحدة فيهن كأنها البدر، فوقع علي الرعدة، وقلت لها: يَا أحسَنَ النّاسِ إنساناً، وَأملَحَهُمْ! ... هَل باشتكائي إليكِ، اليَوْمَ، من باسِ فَبَيّنِي لي بقَوْلٍ غَيرِ ذي خُلُفٍ: ... أبالصّرِيمةِ يمضِي عَنكِ أمْ ياسِ قال: فرفعت رأسها وقالت لي: اخسأ، فوقع في قلبي مثل جمر الغضا، فانصرفت عنها، وأنا حزين. قال: ثم رجعت إلى رأس البئر، وإذا هي هناك، فقالت: هَلُمّ نَمحُ الّذِي آذَاكَ أوَلُهُ، ... وَنُحدِثِ الآنَ إقبالاً مِنَ الرّاسِ حَتى يَكُونَ ثبيراً في مَوَدّتِنَا ... مَثلَ الّذِي يَحتَذِي نَعلاً بمِقياسِ فانطلقت معها إلى أبيها، فتزوجتها، فابني علي منها. (2/221) الهوى دعوى من الناس أخبرنا الخطيب، أنبأنا أحمد بن الحسين الواعظ، حدثنا أبو الفرج الورثاني الصوفي، أخبرني محمد بن عبد العزيز الصوفي، قال أحمد بن الحسين: وقد رأيته ولم أسمع منه: أنشدني أبو علي الروذباري: أُنَزّهُ في رَوْضِ المَحَاسِنِ مُقلَتي، ... وَأمنَعُ نَفسي أنْ تَنَالَ المُحَرَّما وَأحمِلَ مِنْ ثِقْلِ الهَوَى مَا لَو أنّه ... عَلى الجامِدِ الصُّلْبِ الأصَمّ تَهَدّمَا وَيَظهَرُ سِرّي عَن مُترْجَمِ خاطرِي، ... فَلَوْلا اختِلاسُ الطّرْفِ عنهُ تَكَلّمَا رَأيتُ الهَوَى دعوَى من الناسِ كلِّهم، ... فَما إن أرَى حبّاً صَحيحاً مُسَلَّمَا آخر الرمق أخبرني الخطيب أنبأني أبو طالب يحيى بن علي بن الطيب الدسكري بحلوان للروذباري: وَلَوْ مَضَى الكُلّ مِنّي لمْ يكُنْ عجباً، ... وَإنّمَا عَجَبي للبَعضِ كَيفَ بَقي أدرِكْ بقِيّةَ رُوحٍ فيكَ قد تَلِفَتْ، ... قَبلَ الفِرَاقِ، فهَذا آخِرُ الرَّمَقِ القباح غوال وإن رخصن أنبأنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي، حدثنا إسماعيل بن سويد، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا أحمد بن إسماعيل بن حذافة، أخبرنا الأصمعي، حدثني الحسن الوصيف حاجب المهدي قال: كنا بزيالة، وإذا أعرابي يقول: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك! إني عاشق. قال: وكان يحب ذكر العشاق والعشق، فدعا الأعرابي، فلما (2/222) دخل عليه قال: سلام عليك، يا أمير المؤمنين، ورحمة الله وبركاته، ثم قعد. فقال له: ما اسمك؟ فقال: أبو مياس. قال: يا أبا مياس! من عشيقتك؟ قال: ابنة عمي، وقد أبى أبوها أن يزوجنيها. قال: لعله أكثر منك مالاً؟ قال: لا! قال: فما القصة؟ قال: أدن مني رأسك؟ قال: فجعل المهدي يضحك وأصغى إليه رأسه، فقال: إني هجين، قال: ليس يضرك ذاك، إخوة أمير المؤمنين وولده أكثرهم هجن. يا غلام علي بعمه. قال: فأتي به، فإذا أشبه خلق الله بأبي مياس كأنهما باقلاّة فلقت. فقال المهدي: ما لك لا تزوج أبا مياس وله هذا اللسان والأدب وقرابته منك؟ قال: إنه هجين. قال: فإخوة أمير المؤمنين وولده أكثرهم هجن، فليس هذا مما ينقصه، زوجها منه، فقد أصدقتها عنه عشرة آلاف درهم، قال: قد فعلت. فأمر له بعشرين ألف درهم، فخرج أبو مياس، وهو يقول: ابتَعتُ أسوَاقَ القِبَاحِ لأهلِها؛ ... إنّ القِباحَ وَإنْ رَخُصْنَ غَوَالِ معشوق ينفق على عاشق حدثنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ من لفظه بالشام، أنبأنا أبو سعد الماليني، حدثنا الحسن بن إبراهيم الليثي، حدثني الحسين بن القاسم قال: كان محمد بن داود يميل إلى محمد بن جامع الصيدلاني، وبسببه عمل كتاب الزهرة، وقال في أوله: وما تنكر من تغير الزمان وأنت أحد مغيريه؛ ومن جفاء الإخوان وأنت المقدم فيه؛ ومن عجيب ما يأتي به الزمان ظالم يتظلم، وغابن يتندم، ومطاع يستظهر، وغالب يستنصر. (2/223) قال الحسين: وبلغنا أن محمد بن جامع دخل الحمام، وأصلح من وجهه، وأخذ المرآة فنظر إلى وجهه، فغطاه، وركب إلى محمد بن داود، فلما رآه مغطى الوجه. خاف أن يكون قد لحقته آفة، فقال: ما الخبر؟ فقال: رأيت وجهي الساعة في المرآة، فغطيته، وأحببت أن لا يراه أحد قبلك، فغشي على محمد بن داود. قال الليثي: وحدثني محمد بن إبراهيم بن سكرة القاضي قال: كان محمد بن جامع ينفق على محمد بن داود، وما أعرف فيما مضى من الزمان معشوقاً ينفق على عاشق إلا هو. صبر يوم حدثنا أحمد بن علي الوراق بالشام، أخبرني أبو القاسم الأزهري، حدثني أبو العباس محمد بن جعفر بن عبد العزيز بن المتوكل الهاشمي: أنشدنا الصولي: أيّهَا المُستَحِلّ ظُلمي وَهَجرِي! ... لكَ طُولُ البَقاءِ قد ماتَ صَبرِي قال لي: لا أقلّ من صَبرِ يَوْمٍ، ... بالقَلِيلِ القَلِيلِ يَنفَدُ عُمرِي قال الخطيب: قال لي الأزهري: رأيت هذا الشيخ في دكان أبي سعيد الوراق، وأنشدني من حفظه أبياتاً علقتها عنه، وذكر لي أنه رواها عنه عن الصولي وغيره. (2/224) من توفاك يحييك أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا الجريري قال: استشرف بعض المترفين إلى طريقة الصوفية والاختلاط بهم وملابستهم، فشاور في هذا بعض مشيختهم، فرده عما تشوف إليه من هذا، وحذره التعرض له، فأبت نفسه إلا ما جذبته الدعاوى إليه، وعطفته الخواطر عليه، فمال إلى فريق من هذه الطائفة، فعلق بهم، واتصل بجملتهم، ثم صحب جماعةً منهم متوجهةً إلى الحج فعجز في بعض الطريق عن مسايرتهم، وقصر عن اللحاق بهم، فمضوا وتخلف عنهم، واستند إلى بعض الأميال إرادة الاستراحة من الإعياء والكلال. فمر به الشيخ الذي كلمه في ما حصل فيه قبل أن يتسنمه، فنهاه عنه وحذره منه، فقال هذا الشيخ مخاطباً له: إنّ الّذينَ بخَيرٍ كُنتَ تَذكُرُهُمْ ... قَضَوْا عَليكَ وَعَنهُم كنتُ أنهَاكَا فقال له الفتى: ما أصنع الآن؟ فقال له: لا تَطلُبَنّ حَياةً عِندَ غَيرِهِمُ، ... فَلَيسَ يُحييكَ إلاّ مَن تَوَفّاكَا بشار يصف مجلس غناء أخبرنا الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا العباس بن الفضل الربعي، حدثنا إسحق بن إبراهيم الموصلي قال: كان بالبصرة لرجل من آل سليمان بن علي جارية، وكانت حسناء بارعة الظرف والجمال، وكان بشار بن برد صديقاً لمولاها ومداحاً له، فحضر مجلسه، والجارية تغنيهم، فشرب مولاها وسكر ونام، ونهض للانصراف من كان بالحضرة، فقالت الجارية لبشار: أحب أن تذكر مجلسنا هذا في قصيدة (2/225) وترسلها إلي على أن لا تذكر فيها اسمي ولا اسم سيدي، فقال بشار، وبعث بها مع رسوله إليها: وَذاتِ دَلٍّ كَأنّ الشمسَ صُورَتُها، ... بَاتَتْ تُغَنّي عَميدَ القَلبِ سكرَانَا إنّ العُيُونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ ... قَتَلْنَنَا ثمّ لا يُحيِينَ قَتلانَا فقلتُ: أحسَنتِ يا سؤلي ويَا أمَلي، ... فَأسمِعِيني، جَزَاكِ اللهُ إحسَانَا يا حَبّذا جَبَلُ الريّانِ من جَبَلٍ؛ ... وَحَبّذا سَاكِنُ الريّانِ مَن كانَا قالت: فهلاّ، فدَتكِ النفسُ، أحسن من ... هذا لمَن كان صبّ القَلبِ حَيرَانَا يا قَوْمُ أُذني لبَعضِ الحيّ عاشِقَةٌ ... وَالأذنُ تَعشَقُ قبلَ العَينِ أحيانَا فقلتُ: أحسَنتِ! أنتِ الشمسُ طالعةً، ... أضرَمتِ في القَلبِ وَالأحشَاءِ نِيرَانَا فَأسمِعينا غِنَاءً مُطْرِباً هَزَجاً، ... يزِيدُ صَبّاً مُحِبّاً فِيكِ أشجَانَا يا لَيتني كُنتُ تُفّاحاً مُفَلَّجَةً، ... أو كُنتُ من قُضُبِ الرّيحانِِ رَيحَانَا حَتى إذا وَجَدَتْ رِيحي فأعجَبَها، ... وَنحنُ في خَلوةٍ مُثّلتُ إنسَانَا فحَرّكتْ عودَها، ثمّ انثَنَتْ طَرَباً، ... تَشدُو بهِ ثمّ لا تُخفِيهِ كِتمانَا أصبَحتُ أطوَعَ خَلقِ اللهِ كُلّهِمِ ... لأكثرِ الخَلقِ لي في الحُبّ عِصْيَانَا فقلتُ: أطرَبتَنا يا زَينَ مَجلِسِنَا، ... فَغَنِّنَا أنتِ بالإحسَانِ أوْلانَا فَغَنّتِ الشَّرْبَ صَوْتاً مُونَقاً رَمَلاً ... يُذكي السّرُورَ وَيُبكي العَينَ ألوَانَا لا يَقتُلُ اللهُ مَنْ دامَتْ مَوَدّتُهُ، ... وَاللهُ يَقتُلُ أهلَ الغَدرِ أحيَانَا (2/226) الفضل بن يحيى وخشف أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن يحيى الصولي، حدثنا عون بن محمد، حدثني إدريس بن بدر أخو الجهم بن بدر قال: كن أبي منقطعاً إلى الفضل بن يحيى، فكان معه يوماً في موكبه، فقال أبي: فرأيت من الفضل حيرة وجولة، ففطن أني قد استبنت ما كان منه، فقال: عرفني يا بدر كيف قال المجنون: وداع دعا، فأنشدته: وَداعٍ دَعا، إذْ نحنُ بالخَيفِ من مِنىً، ... فَهَيّجَ أحزَانَ الفُؤادِ، وَما يَدرِي دَعَا باسمِ لَيلى غَيرِهَا فَكَأنّما ... أطارَ بلَيلى طائراً كانَ في صَدرِي قال: هذه، والله، قصتي، كنت أهوى جاريةً يقال لها خشف ثم ملكتها فقربت من قلبي، فسمعت الساعة صائحاً يصيح: يا خشف، فكان مني ما رأيت، ونالني مثل ما قال المجنون. ابتنى معاوية بالأبطح مجلساً، فجلس عليه، ومعه ابنة قرظة، فإذا هو بجماعة على رحال لهم، وإذا بشاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى: مَنْ يُسَاجِلْني يُساجِلْ مَاجِداً ... أخضَرَ الجِلدَةِ في بَيتِ العَرَبْ قال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر. قال: خلوا له الطريق، فليذهب؛ ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يغني: بَينَمَا يَذكُرْنَني أبصَرْنَني ... دُونَ قِيدِ الميلِ يَعدو بي الأغَرّ (2/227) قِيلَ تَعرِفنَ الفَتى؟ قُلْنَ نَعَم! ... قد عَرَفناهُ، وهَل يخفَى القَمَرْ؟ قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن أبي ربيعة. قال: خلوا له الطريق، فليذهب. قال: ثم إذا بجماعة، وإذا رجل منهم يسأل ويقول: رميتُ قبل أن أحلق، وحلقت قبل أن أرمى، لا شيء أشكلت من مسائل الحج. فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمر. فالتفت إلى بنت قرظة، فقال: هذا وأبيك الشرف لا ما نحن فيه. شعر سارت بن الركبان حدثنا أحمد بن علي الوراق بدمشق من لفظه، أخبرنا أبو عبد الرحمن إسماعيل بن أخبرنا الحيري بنيسابور، حدثنا أبو نصر بن أبي عبد الله الشيرازي، حدثني أبو الحسين محمد بن الحسين الطاهري البصري من حفظه قال: حدثني أبو الحسن محمد بن الحسين بن الصباح الداودي البغدادي الكاتب بالرملة، حدثنا القاضي أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الأزدي ببغداد قال: كنت أساير محمد بن داود بن علي ببغداد، فأذاكره بشيء من شعره، وهو: أشكُو غَليلَ فُؤادٍ أنتَ مُتلِفُهُ، ... شَكوَى عَليلٍ إلى إلْفٍ يُعَلّلُهُ سُقمي يَزيدُ مَعَ الأيامِ كَثرتُهُ، ... وَأنتَ في عُظْمِ ما ألقَى تُقَلّلُهُ اللهُ حَرّمَ قَتلي في الهَوَى، سَفَهاً؛ ... وَأنتَ يا قاتِلي ظُلماً تُحَلّلُهُ فقال محمد بن داود: كيف السبيل إلى استرجاع هذا؟ فقال القاضي أبو عمر: هيهات، سارت به الركبان. (2/228) من يهب ولده؟ أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا القاضي المعافى بن زكريا، حدثنا أحمد بن جعفر البرمكي جحظة، حدثني خالد الكاتب قال: قال لي علي بن الجهم: هب لي بيتك، وهو: لَيتَ مَا أصْبَحَ مِنْ ... رِقّةِ خدّيكَ بقَلبكَ قال: فقلت له: أرأيت أحداً يهب ولده؟ المحبان الوفيان أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن، حدثني أبي، حدثنا عبيد الله بن محمد الهروي، حدثني أبي، حدثني صديق لي ثقة: أنه كان ببغداد رجل من أولاد النعم، ورث مالاً جليلاً، وكان يعشق قينة، فأنفق عليها مالاً كثيراً ثم اشتراها، وكانت تحبه كما يحبها، فلم يزل ينفق ماله عليها إلى أن أفلس، فقالت له الجارية: يا هذا قد بقينا كما ترى، فلو طلبت معاشاً؟ قال: وكان الفتى لشدة حبه الجارية وإحضاره الأستاذات ليزيدوها في صنعتها قد تعلم الضرب والغناء فخرج صالح الضرب والحذق فيهما، فشاور بعض معارفه فقال: ما أعرف لك معاشاً أصلح من أن تغني للناس، وتحمل جاريتك إليهم، فتأخذ على هذا الكثير، ويطيب عيشك، فأنف من ذلك، وعاد إليها فأخبرها بما أشير به عليه، وأعلمها أن الموت أسهل عنده من هذا. فصبرت معه على الشدة مدة، ثم قالت له: قد رأيت لك رأياً. قال: قولي! قالت: تبيعني، فإنه يحصل لك من ثمني ما إن أردت أن تتجر به، (2/229) أو تنفقه في ضيعة عشت عيشاً صالحاً، وتخلصت من هذه الشدة وأحصل أنا في نعمة، فإن مثلي لا يشتريها إلا ذو نعمة، فإن رأيت هذا، فافعل. فحملها إلى السوق، فكان أول من اعترضها فتىً هاشمي من أهل البصرة، ظريف، قد ورد بغداد للعب والتمتع، فاستامها، فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عيناً. قال الرجل: فحين لفظت بالبيع، وأعطيت المال، ندمت واندفعت في بكاء عظيم، وحصلت الجارية في أقبح من صورتي، وجهدت في الإقالة فلم يكن إلى ذلك سبيل، فأخذت الدنانير في الكيس لا أدري أين أذهب لأن بيتي موحش منها، ووقع علي من اللطم والبكاء ما هوّسني. فدخلت مسجداً، وجعلت أبكي وأفكر في ما أعمل، فغلبتني عيني، فتركت الكيس تحت رأسي، فانتبهت فزعاً، فإذا شاب قد أخذ الكيس، وهو يعدو، فقمت لأعدو وراءه، فإذا رجلي مشدودة بخيط قنب في وتد مضروب في أرض المسجد، فما تخلصت من ذلك حتى غاب الرجل عن عيني، فبكيت ولطمت ونالني أمر أشد من الأمر الأول، وقلت: فارقت من أحب لأستغني بثمنه عن الصدقة، فقد صرت الآن فقيراً ومفارقاً. فجئت إلى دجلة، فلففت وجهي بإزار كان على رأسي، ولم أكن أحسن العوم، فرميت نفسي في الماء لأغرق، فظن الحاضرون أن ذلك لغلط وقع علي، فطرح قوم نفوسهم خلفي فأخرجوني، فسألوني عن أمري، فأخبرتهم، فمن بين راحم ومستجهل إلى أن خلا بي شيخ منهم، فأخذ يعظني، ويقول: ما هذا؟ ذهب مالك فكان ماذا حتى تتلف نفسك، أو ما علمت أن فاعل هذا في نار جهنم! ولست أول من افتقر بعد غنى، فلا تفعل، وثق بالله تعالى. أين منزلك؟ قم معي إليه. فما فارقني حملني إلى منزلي وأدخلني إليه، وما زال يؤنسني ويعظني إلى أن رأى مني السكون، فشكرته، وانصرف، فكدت أقتل نفسي (2/230) لشدة وحشتي للجارية، وأظلم منزلي في وجهي، وذكرت النار والآخرة، فخرجت من بيتي هارباً إلى بعض أصدقائي القدماء، فأخبرته خبري، فبكى رقةً لي، وأعطاني خمسين درهماً، وقال: اقبل رأيي! اخرج الساعة من بغداد، واجعل هذا نفقة إلى حيث تجد قلبك مساعدك على قصده، وأنت من أولاد الكتاب، وخطك جيد وأدبك صالح، فاقصد بعض العمال واطرح نفسك عليه، فأقل ما في الأمر أن يصرفك في شغل أو يجعلك محرراً بين يديه وتعيش أنت معه، ولعل الله أن يصنع لك. فعملت على هذا، وجئت إلى اللتبيين، وقد قوي في نفسي أن أقصد واسطاً، وكان لي بها أقارب فأجعلهم ذريعةً إلى التصرف مع عاملها، فحين جئت إلى اللتبيين، إذا بزلال مقدم، وإذا خزانة كبيرة وقماش فاخر كثير ينقل إلى الخزانة والزلال، فسألت عن ملاح يحملني إلى واسط، فقال لي أحد ملاحي الزلال: نحن نحملك في هذا إلى واسط بدرهمين. ولكن هذا الزلال لرجل هاشمي من أهل البصرة، ولا يمكننا حملك معه على هذه الصورة، ولكن تلبس من ثياب الملاحين، وتجلس معنا، كأنك واحد منا. فحين رأيت الزلال، وسمعت أنه لرجل هاشمي من أهل البصرة، طمعت أن يكون مشتري جاريتي، فأتفرج بسماعهما إلى واسط، فدفعت الدرهمين إلى الملاح، وعدت فاشتريت جبةً من جباب الملاحين، وبعت تلك الثياب التي علي، وأضفت ثمنها إلى ما معي من النفقة، واشتريت خبزاً وأدماً وجلست في الزلال، فما كان إلا ساعة، حتى رأيت جاريتي بعينها، ومعها جاريتان تخدمانها، فسهل علي ما كان بي وما أنا فيه، وقلت: أراها وأسمع غناءها من هاهنا إلى البصرة، واعتقدت أن أجعل قصدي البصرة، وطمعت في أن أدخل مولاها، وأصير أحد ندمائه، وقلت: لا تخليني هي من المواد، (2/231) فإني واثق بها. فلم يكن بأسرع من أن جاء الفتى الذي اشتراها راكباً ومعه عدة ركبان، فنزلوا في الزلال، وانحدرنا، فلما صرنا بكلواذى، أخرج الطعام، فأكل هو. وصعدت فجلست معه، فدبرت أمره وضبطت دخله، وخرجه، وكان غلمانه يسرقونه، فأديت إليه الأمانة. فلما كان بعد شهر رأى الرجل دخله زائداً، وخرجه ناقصاً، فحمدني، وكنت معه إلى أن حال الحول، وقد بان له الصلاح في أمره فدعاني إلى أن أتزوج بابنته ويشاركني في الدكان، ففعلت، ودخلت بزوجتي، ولزمت الدكان والحال تقوى إلا أني في خلال ذلك منكسر النفس، ميت النشاط، ظاهر الحزن، وكان البقال ربما شرب فيجذبني إلى مساعدته، فأمتنع وأظهر أن سبب ذلك حزن على موتى لي. واستمرت بي الحال على هذا سنين كثيرة، فلما أن كان ذات يوم، رأيت قوماً يجتازون بجون ونبيذ اجتيازاً متصلاً، فسألت عن ذلك، فقيل لي: اليوم يوم الشعانين ويخرج أهل الظرف واللعب بالنبيذ والطعام والقيان إلى الأبلّة فيرون النصارى، ويشربون ويتفرجون. فدعتني نفسي إلى التفرج، وقلت: لعلي أن أقف لأصحابي على خبر، فإن هذا من مظانهم، فقلت لحميي: أريد أن أنظر هذا المنظر، فقال: شأنك. وأصلح لي طعاماً وشراباً، وسلم إلي غلاماً وسفينةً، فخرجت وأكلت في السفينة، وبدأت أشرب حتى وصلت إلى الأبلة، وأبصرت الناس، وابتدأوا ينصرفون، وانصرفت، فإذا أنا بالزلال بعينه في أوساط الناس سائراً في نهر الأبلّة، فتأملته، فإذا بأصحابي على سطحه، ومعهم عدة مغنيات، فحين رأيتهم لم أتمالك فرحاً، فصرت إليهم، فحين رأوني عرفوني وكبروا، (2/232) وأخذوني إليهم، وقالوا: ويحك أنت حي! وعانقوني، وفرحوا بي وسألوني عن قصتي، فأخبرتهم بها على أتم شرح، فقالوا: إنا لما فقدناك في الحال، وقع لنا أنك سكرت، ووقعت في الماء فغرقت، ولم نشك في هذا، فمزقت الجارية ثيابها، وكسرت عودها، وجزت شعرها وبكت، ولطمت، فما منعناها من شيء من هذا، ووردنا البصرة، فقلنا لها: ما تحبين أن نعمل لك؟ فقد كنا وعدنا مولاك بوعد تمنعنا المروءة من استخدامك معه في حال فقده أو سماع غنائك. فقالت: تمكنوني من القوت اليسير، ولبس الثياب السود، وأن أعمل قبراً في بيت من الدار، وأجلس عنده، وأتوب من الغناء، فمكناها من ذلك، فهي جالسة عنده إلى الآن. وأخذوني معهم، فحين دخلت الدار ورأيتها بتلك الصورة، ورأتني شهقت شهقة عظيمة، ما شككت في تلفها، واعتنقنا، فما افترقنا، ساعةً طويلة، ثم قال لي مولاها: قد وهبتها لك. فقلت: بل تعتقها، وتزوجني منها، كما وعدتني، ففعل ذلك ودفع إلينا ثياباً كثيرة وفرشاً، وقماشاً، وحمل إلي خمسمائة دينار، وقال: هذا مقدار ما أردت أن أجريه عليك في كل شهر، منذ أول يوم دخولي البصرة، وقد اجتمع هذا لهذه المدة، فخذه، والجائزة لك مستأنفة في كل شهر، وشيء آخر لكسوتك وكسوة الجارية؛ والشرط في المنادمة وسماع الجارية من وراء ستارة باق عليك، وقد وهبت لك الدار الفلانية. قال: فجئت إليها، فإذا بذلك الفرش والقماش الذي أعطانيه فيها، والجارية، فجئت إلى البقال فحدثته حديثي، وطلقت ابنته، ووفيتها صداقها، وأقمت على تلك الحال مع الهاشمي سنتين، فصلحت حالي، وصرت رب ضيعة ونعمة، وعادت حالي، وعدت إلى قريب مما كنت عليه، فأنا أعيش كذلك إلى الآن مع جاريتي. (2/233) الجارية الحميراء وابن جامع أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين إن لم يكن سماعاً فإجازة، حدثنا المعافى بن زكريا أبو النضر العقيلي، حدثنا يعقوب بن نعيم الكاتب، حدثني محمد بن ضو التيمي، سمعت إسماعيل بن جامع السهمي يقول: ضمني الدهر ضماً شديداً بمكة، فانتقلت منها بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوماً ولا أملك إلا ثلاثة دراهم، فخرجت، وهي في كمي. فإذا بجارية حميراء على رقبتها جرة تريد الركي، وتمشي بين يدي، وتترنم بصوت شجي، تقول فيه: شَكَوْنَا إلى أحبَابِنَا طولَ لَيلِنا، ... فقالوا لَنا: ما أقصرَ اللّيلَ عِندنَا وَذاكَ لأنّ النّوْمَ يَغشَى عُيُونَهُمْ ... سرَاعاً، وَلا يَغشَى لنَا النّوم أعيُنَا ما دَنَا اللّيلُ المُضرّ بذِي الهَوَى، ... جَزِعنا، وَهُم يَستبشِرُونَ إذا دَنَا فلَوْ أنّهُمْ كانُوا يُلاقُونَ مِثلَ مَا ... نُلاقي لَكَانُوا في المَضَاجِعِ مِثلَنا فوالله ما دار لي منه حرف واحد. فقلت لها: يا جارية! ما أدري أوجهك أحسن أم صوتك أم جرمك، فلو شئت أعدته علي. فقالت: حباً وكرامةً، ثم أسندت ظهرها إلى جدار كان بالقرب منها، ورفعت إحدى رجليها فوضعتها على ركبتها، وحطت الجرة على ساقها، واندفعت تغني بأحسن صوت، فوالله ما دار لي منه حرف واحد، فقلت: لقد أحسنت وتفضلت، فلو شئت أعدته مرةً أخرى. فقطبت وكلحت، وقالت: ما أعجب هذا! أحدكم يجيء إلى الجارية عليها ضريبة، فيقول لها: أعيدي مرةً بعد أخرى، فضربت يدي إلى ثلاثة دراهم، ودفعتها إليها، وقلت لها: أقيمي بهذا وجهك اليوم إلى أن نلتقي، فأخذتها كالمتكرهة، وقالت: الآن تريد أن تأخذ عني صوتاً أحسبك تأخذ عليه (2/234) ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار، ثم اندفعت تغني، وأعملت فكري في غنائها، فدار لي الصوت، وفهمته، وانصرفت به مسروراً، وذكر باقي الخبر. قال ابن السراج: وقد ذكرت هذا الخبر بتمامه في أثناء كتابي هذا، فلذلك ما استوعبته هاهنا. مأساة بشر وهند أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الملك بن بشران قراءة عليه، حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن رزيق في شهر ربيع الأول من سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي قراءة عليه، يوم الخميس لاثنتي عشرة من ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق، حدثنا عمر بن عبد الحكم وجعفر بن عبد الله الوراق والقاسم بن الحسن عن أبي سعد عن أبيه قال: ذكر أنه كان في بدء الإسلام، وبعضهم يزيد على حديث بعض، شاب، وكان يقال له بشر، وكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان من بني أسيد بن عبد العزى، وكان طريقه، إذا غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله، أن يأخذ على جهينة، وإذا فتاة من جهينة، فنظرت إليه، فعشقته، وكان لها من الحسن والجمال حظ عظيم، وكان لها زوج يقال له سعد بن سعيد، فكانت تقعد كل غداة لبشر، حتى يجتاز بها، لينظر إليها، فلما أخذها حبه كتبت إليه هذه الأبيات: تَمّرّ بِبَابي لَيسَ تَعلَمُ مَا الّذي ... أُعَالِجُ من شَوْقٍ إلَيكَ ومن جُهدِ تَمُرّ رَخيّ البَالِ مِنْ لَوْعَةِ الهَوَى، ... وَأنتَ خليُّ الذّرْعِ ممّا بدا عِندي (2/235) فَدَيْتُكَ، فَانظُرْ نَحوَ بَابي نَظرَةً، ... فإنّكَ أهوَى النّاسِ كلِّهمِ عِندي فَوَاللهِ لَوْ قصّرْتَ عَنّا فَلضمْ تَكُنْ ... تَمُرّ بِنا أصْبَحتُ لا شكّ في لحدِ فأجابها الفتى يقول: عَلَيكِ بتقوَى اللهِ والصّبرِ، إنّهُ ... نَهَى عَنْ فُجُورٍ بِالنّساءِ مُوَحِّدُ وَصبراً لأمْرِ اللهِ لا تَقرَبي الّذِي، ... نَهَى اللهُ عنهُ، وَالنّبيُّ مُحَمّدُ فَوَاللهِ لا آتي حَلِيلَةَ مُسْلِمٍ ... إلى أنْ أُدَلّى في القُبُورِ، وَأُفقَدُ أُحَاذِرُ أنْ أصْلى جَحيماً، وَأن أُرَى ... صَرِيعاً لِنَارٍ حَرُّهَا يَتَوَقَّدُ فَلا تَطمَعي في أنْ أزُورَكِ طَائِعاً، ... وَأنتِ لِغَيرِي، بِالخنَاءِ مُعَوَّدُ فأجابته الفتاة تقول: أمَرْتَ بتَقوَى اللهِ، وَالصّبرِ وَالتّقَى، ... فكَيفَ؟ وَما لي من سَبيلٍ إلى الصّبرِ وَهَلْ تَستطيعُ الصّبرَ حَرّى حَزِينَةٌ ... مُعَذَّبَةٌ بِالحُبِّ مُوقَرَةُ الظّهرِ؟ وَوَاللهِ مَا أدعُوكَ يا حُبُّ للّذِي ... تَظُنّ، وَلَكِنْ للحَديثِ وَللشّعرِ وَكيْ نَتَدَاوَى مَا تَرَاكَدَ داؤُهُ ... من الشوْقِ وَالحبّ الذي لكَ في صَدرِي وَلَيتُ، فدتكَ النّفسُ، أبغيك مَحرمَا، ... وَمَا ذاكَ من شأني وَلا ذاكَ من أمرِي وَمَا حاجَتي إلاّ الحَديثُ وَمَجلِسٌ ... يُسكّنُ دَمعاً يَستَهِلّ على النّحرِ قال فأجابها الفتى: مَنَعَ الزّيَارَةَ أنْ أزُورَكِ طَائِعاً، ... أخشَى الفَسادَ، إذا فَعَلتُ، فَنعتَدِي أخشَى دُنُواً مِنكِ غَيرَ مُحَلَّلٍ، ... فَأكُونُ قَد خالَفتُ دِينَ مُحَمّدِ فأخافُ أنْ يَهوَاكِ قَلبي شَارِفاً، ... فيكونَ حَتفي بالّذي كَسَبتْ يَدِي (2/236) فَالصّبرُ خيرُ عَزِيمَةٍ، فاستَعصِمي، ... وَإلى إِلهكِ ذي المَعارِجِ فاقصِدِي وَإذا أتَتكِ وَسَاوِسٌ وَتَفَكّرٌ، ... وَتَذَكّرٌ، فلِكُلّ ذلكَ فَاطرُدِي وَعَليكِ يَاسين، فإنّ بدَرْسِها ... تُنفى الهُمُومُ، وَذاكَ نَفسكِ عوّدي فأجابته الفتاة وهي تقول: لَعَمرُكَ ما ياسينُ تُغني مِنَ الهَوَى، ... وَقُرْبُكَ مِنْ ياسينَ أشهى إلى قلبي فَدَعْ ذِكرَ ياسينَ، فَلَيسَ بنافعي، ... فإنيَ في غَمرِ الحَيَاةِ، وَفي كَرْبِ تَحَرّجتَ عَنْ إتيَانِنَا، وَحَدِيثِنَا، ... فقَتليَ، إنْ فكّرتَ، من أكبرِ الذّنبِ وَإتيَانُنَا أدنى إلى اللهِ زُلفةً، ... وَأحسَنُ مِنْ قَتلِ المُحِبّ بلا عَتبِ قال: فلما قرأ بشر هذه الأبيات غضب غضباً شديداً، وحلف لا يمر بباب هند ولا يقرأ لها كتاباً، فلما امتنع كتبت إليه تقول: سألتُ رَبي، فقد أصَبحتَ لي شَجَناً، ... أن تُبتَلى بهَوَى مَنْ لا يُبَالِيكَا حتى تّذوقَ الذي قد ذُقتُ من نَصَبٍ، ... وَتَطلُبَ الوَصلَ مِمّنْ لا يُؤاتيكَا رَمَاكَ رَبّي بِحُمّاةٍ مُقَلقِلَةٍ، ... وَبامتِنَاعِ طَبيبٍ لا يُداوِيكَا وَأنْ تَظَلّ بِصحرَاءٍ عَلى عَطَشٍ، ... وَتَطلُبَ المَاء َ مِمّن لَيسَ يَسقيكَا فلما لج بشر وترك الممر ببابها، أرسلت إليه بوصيفة لها فأنشدته هذه الأبيات، فقال للوصيفة: لأمر ما لا أمر، فلما جاءت الوصيفة أخبرتها بقول بشر، فكتبت وهي تقول: كَفّرْ يمينَكَ! إنّ الذّنبَ مَغفورُ، ... وَاعلَمْ بأنّكَ كَفّرْتَ مأجورُ لا تَطرُدنّ رَسُولي وَارْثَيَنّ لَهُ، ... إنّ الرّسُولَ قَليلُ الذّنبِ مأمُورُ وَاعلَمْ بأني أبيتُ اللّيلَ سَاهِرَةً، ... وَدَمعُ عَيني عَلى خَدّيّ مَحدُورُ (2/237) أدعوهُ باسمِكَ في كَرْبٍ وَفي تعبٍ، ... وَأنتَ لاهٍ قَرِيرُ العَينِ مَسرُورُ فلم لج بشر وترك الممر ببابها، اشتد عليها ذلك، ومرضت مرضاً شديداً، فبعث زوجها إلى الأطباء، فقالت: لا تبعث إلي طبيباً، فإني عرفت دائي، قهرني جنّي في مغتسلي، فقال لي: تحولي عن هذه الدار، فليس لك في جوارنا خير. فقال لها زوجها: فما أهون هذا. فقالت: إني رأيت في منامي أن أسكن بطحاء تراب. قال: اسكني بنا حيث شئت، فاتخذت داراً على طريق بشر، فجعلت تنظر إليه، كل غداة، إذا غدا إلى رسول الله ﷺ، حتى برأت من مرضها، وعادت إلى حسنها، فقال لها زوجها: إني لأرجو أن يكون لك عند الله خير لما رأيت في منامك أن اسكني بطحاء تراب، فأكثري من الدعاء. وكانت مع هند في الدار عجوز، فأفشت إليها أمرها، وشكت ما ابتليت به، وأخبرتها أنها خائفة إن علم بشر بمكانها أن يترك الممر في طريقه، ويأخذ طريقاً آخر، فقالت لها العجوز: لا تخافي، فإني أعلم لك أمر الفتى كله، وإن شئت أقعدتك معه، ولا يشعر بمكانك. قالت: ليت ذاك قد كان. فقعدت العجوز على باب الدار، فلما أقبل بشر قالت له العجوز: يا فتى؟ هل لك أن تكتب لي كتاباً إلى ابن لي بالعراق؟ قال بشر: نعم! فقعد يكتب، والعجوز تملي عليه وهند تسمع كلامهما، فلما فرغ بشر قالت العجوز لبشر: يا فتى! إني لأظنك مسحوراً، قال بشر: وما أعلمك بذلك؟ قالت له: ما قلت لك حتى علمت، فما الذي تهم؟ قال لها: إني كنت أمر على جهينة، وإن قوماً منهم كانوا يرسلون إلي ويدعونني إلى أنفسهم، ولست آمنهم أن يكونوا قد أضمروا لي شراً. قالت له العجوز: انصرف عني اليوم حتى أنظر في أمرك. فلما انصرف دخلت إلى هند فقالت: هل سمعت ما قال؟ قالت: نعم! (2/238) قالت: ابشري، فإني أراه فتىً حدثاً، لا عهد له بالنساء، ومتى ما أتى وزينتك هنيئةً وطيبتك، وأدخلتك عليه، غلبت شهوته وهواه دينه، فانظري يخرج زوجك إلى القرية، فأخبريني. فسألت هند زوجها، فأخبرها أنه خارج يوم كذا وكذا، وأخبرت هند العجوز، وواعدت بشراً ميعاداً، لتنظر له في نجمه، فلما كان في ذلك الوقت جاء بشر إلى العجوز، فقالت: إني شاكية لست أقدر أن أجعل النشرة. ولكن بيتي أستر عليك، فدخل معها البيت، وجاءت هند خلفها، فدخلت البيت على بشر، فلما دخلت خرجت العجوز، فأغلقت الباب عليهما، وقدم زوج هند من الخروج في ذلك اليوم إلى الضيعة فجاء حتى دخل داره، فوجد مع امرأته رجلاً في البيت، فطلقها، ولبب بالفتى فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا نبي الله! سليمان هذا بأي حق دخل داري، وجامع زوجتي، فبكى بشر، وقال: والله يا رسول الله ما كذبتك منذ صدقتك، وما كفرت بالله منذ آمنت بك، ولا زنيت منذ شهدت أن لا إله إلا الله، فقص على النبي صلى الله عليه وآله، قصته. فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى العجوز وهند، فأحضرهما، فأقرتا بين يديه، فقال: الحمد لله الذي جعل من أمتي نظير يوسف الصديق. ثم قال لهند: استغفري لذنبك، وأدب العجوز، وقال لها: أنت رأس الخطيئة، فرجع بشر إلى منزله، وهند إلى منزلها، فهاج بشر حب هند، فسكت حتى إذا قضت عدتها بعث إليها يخطبها، فقالت: لا والله لا يتزوجني وهو قد فضحني عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. ثم مرض من حبها، وعاد إليها الرسول، فقال: إنه مريض، وإنك (2/239) إن لم تفعلي ليموتن، فقالت: أماته الله، فطال ما أمرضني. قال: ومرض بشر فاشتد مرضه وبلغ أصحاب النبي، ﷺ، فأقبلوا إليه يعودونه، فقال بعضهم: أنا أرجو أن يعذب الله هنداً، وأنشأ يقول: إلهيَ إني قد بُليتُ مِنَ الهَوَى ... وَاصبحتُ يا ذا العرْشِ في أشغلِ الشغلِ أُكابدُ نَفساً قَد تَوَلّى بها الهَوَى، ... وَقد مَلّ أخوَاني وَقَد مَلّني أهلي وَقَدْ أيقَنَتْ نَفسِي بِأنّيَ هَالِكٌ ... بِهنْدٍ وَأنّي قَدْ وهَبتُ لهَا قَتلي وَإنّي وَإنْ كانَتْ إليّ مُسِيئَةً، ... يَشُقّ عَليّ أنْ تُعَذَّبَ مِنْ أجلي قال: فشهق شهقةً فمات، رحمه الله تعالى، وأقامت عليه أخته مأتماً، فقامت تندبه، فجاءت هند، وأخته تقول: وَابِشرَاهُ من لَوْعَةِ الهَوى قد تولّى، ... وَابِشرَاهُ ذو الحاجاتِ لا تُقضَى وَابِشرَاهُ شَبابُهُ مَا تَمَلّى، ... وَابِشرَاهُ صَحيحاً قَدْ تَوَلّى وَابِشراهُ لِكتَابِهِ مَا أقْرأ، ... وَابِشرَاهُ بَينَ أصحَابِهِ لا يُرَى وَابِشرَاهُ للضّيفِ مَا أقْرَى، ... وَابِشرَاهُ مُعَجِّلاً إلى الغُرَبَا قال: فلما سمعت هند صرخت صرخةً، ووقعت ميتةً، رحمهما الله، وذهب بها فدفنت مع بشر، فلما مضت أيام جاءت العجوز إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله، أنا رأس الخطيئة، كما قلت، أنا التي كنت سبب الأمر، وقد خشيت أن لا تكون لي توبة، فقال النبي ﷺ: استغفري لذنبك وتوبي، فإن الله تعالى يقبل التوبة النصوح. آخر حديثهما. (2/240) الحبيب المتبدل أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف قال: أنشدني أبو بكر العامري، أنشدني غيث الباهلي، أنشدتني قريبة أم البهلول لبيهس بن مكنف بن أعيا بن ظريف: ألَمْ تَرَ ظَمياءَ الشِّباكِ تبدّلتْ ... بَديلاً وَحلّتْ حبلَها من حِبالِيَا؟ أرَى الإلفَ يَسلُو للتّنائي وَللغِنى، ... وَلليأسِ، إلاّ أنّني لَستُ سَالِيَا بنَفسِي وَمَالي قَاسياً لَوْ وَجَدتُهُ ... عَلى النّحرِ فاستَسْقَيتُهُ ما سَقانيَا وَمَن لَوْ رَأى الأعداءَ يَنتضِلونَني ... لَهُمْ غَرَضاً، يَرْمونَني لرَمانِيَا وَمَن لوْ أرَاهُ عَانِياً لَكَفَيتُهُ، ... وَمَن لوْ رآني عانِياً مَا كَفَانِيَا وَمن قد عصَيتُ الناسَ فيه جماعةً، ... وَصرّمتُ خُلاّناً لَهُ، وَجَفَانِيَا غايات الوصال وبإسناده أخبرنا محمد بن خلف قال: أنشدت للحكم بن قنبر: وَقائِلَةٍ صِلْ غَيرَها قَد تَبَدّلَتْ، ... فإنّ ظِرَافَ الغَانِيَاتِ كَثيرُ فقُلتُ لهَا قَلبي يَقولُ: وَهَلْ لهَا، ... وَإنْ صَرَمتني، في الظّرَافِ نَظِيرُ؟ فكُفّي، فإنّي في اطّلابي لِوَصْلِهَا، ... بأرْبَعِ غَايَاتِ الوِصَالِ نَضِيرُ (2/241) البين مضر للمشغوف وبإسناده أخبرنا محمد بن خلف، حدثني أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثني أبو عبد الرحمن الغلابي قال: قال إسحاق: جاء رجل من التجار بقينة يعرضها على الرشيد، وأمر بإدخالها مقصورةً لتهيأ فيها، فدخل الفضل بن الربيع ليعترضها، ويخبر أمير المؤمنين، فأخذت العود، وأصلحته، وجعلت تنظر في وجه مولاها، وعيناها تذرفان، وغنت: قَدْ حَانَ منك، فلا تَبعُدْ بِكَ الدّارُ، ... بَينٌ، وَفي البَينِ للمَشْغُوفِ أضرَارُ فأخبر الفضل بن الربيع الرشيد الخبر، فأمر بردها على مولاها، وأمر له بعشرة آلاف درهم. ما أعف وأمجد أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف قال: أنشدت لجميل بن عبد الله بن معمر: أقُولُ، وَلمّا تَجزِ بالودّ طائلاً، ... جَزَى اللهُ خَيراً، ما أعَفّ وَأمجَدا فقالتْ: بِغَيري كُنتَ تَهتِفُ دائِباً، ... وَكُنتَ صَبُوراً للغَواني مُصَيَّدا فقُلتُ: فمَنْ ذا يَتّمَ القَلبَ غيركُم ... وَعَوّدَهُ غَيرَ الّذي كانَ عَوّدا فقالت لتِربَيها، لتَصديقِ قَوْلِهَا، ... هلُمّا اسمَعَا مِنهُ المَقَالَةَ وَاشهدَا فقالت: وَهَل في ذاكَ بأسٌ، وَإنّمَا ... أُرِيدُ لِكَيمَا تُسعدِاني، وَتُحمدَا (2/242) موهوب للمنايا وبإسناده قال أنشدت لأعرابي: لَقَدْ وَهَبَتني للمَنَايَا غَرِيرَةٌ، ... قَرِيبَةُ عَهدٍ بِالصِّبَى وَالتّمَائِمِ أأجعَلُها كالرّثمِ، حَاشَى لحُسنِهَا ... وَللرَّخصِ مِنْ أطرَافِهَا وَالمَعَاصِمِ بَلى! إنّ طَرْفَ الرّثمِ يُشبِهُ طَرْفَها، ... وَمِنهَا استَعارَ الجيدَ ظَبيُ الصّرَائِمِ خَلَوْتُ بهَا لَيلاً، وَثَالِثُنَا التّقَى، ... وَلَستُ عَلى ذاكَ العَفافِ بنادِمِ الفتول الخثعمية وحلف الفضول ذكر أبو القاسم منصور بن جعفر الصيرفي في كتابه كتاب المجالسات، حدثني أحمد بن كامل القاضي، حدثنا محمد بن موسى عن الزبير، حدثني غير واحد منهم عن عبد العزيز بن عمر القيسي عن مفتي بن عبد الله بن عنبسة: أن رجلاً من خثعم قدم مكة تاجراً، ومعه بنت له يقال لها الفتول، فعلقها نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة، فلم يبرح حتى نقلها إليه وغلب أباها عليها، فقيل لأبيها: عليك بحلف الفضول. فأتاهم، فشكا ذلك إليهم، فأتوا نبيه بن الحجاج، فقالوا له: أخرج ابنة هذا الرجل، وهو يومئذ متبد بناحية مكة، وهي معه. فقال: يا قوم متعوني منها الليلة. قالوا له: لا والله، ولا ساعةً، فأخرجها، فأعطوها أباها، وركبوا وركب معهم الخثعمي، فلذلك (2/243) يقول نبيه بن الحجاج: رَاحَ صَحبي وَلمْ أُحَيّ الفَتُولا، ... لَمْ أُوَدّعْهُمُ وَداعاً جَمِيلا إذ أجَدّ الفُضُولُ أنْ يَمنَعُوهَا ... قَدْ أُرَاني، وَلا أخَافُ الفُضُولا عفة ووجه صبيح أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم البصري، حدثنا محمد بن خلف أنشدت لبعض الأعراب: يا خَليليّ هَجِّرَا كَيْ تَرُوحَا، ... هِجتُما للسّقَامِ قَلباً قَرِيحَا إنْ تُرِيحَا كَيْ تَعلَما سِرّ سُعدى ... تَجِدانِي بِسرّ سُعدَى شَحِيحا كَلّمَتني، وَذّاكَ ما نِلتُ مِنَها؛ ... إنّ سُعدى تَرَى الوِصَالَ قَبِيحَا إنّ سُعدَى لَمُنيَةُ المُتَمَنّي، ... جَمَعَتْ عِفّةً وَوَجهاً صَبِيحَا صدق الواشون وبالإسناد قال أنشدت لقيس بن الملوح: فماذا عَسَى الوَاشُونَ أن يَتَحدّثُوا ... سِوَى أنْ يَقُولُوا إنّني لكِ عَاشِقُ نَعَم! صَدَقَ الوَاشُونَ! أنتِ كَرِيمةٌ ... عليّ، وَأهوَى منكِ حُسنَ الخلائِقِ كذا ذكر والصواب: نَعَم! صَدَقَ الوَاشُونَ! أنتِ حَبيبَةٌ ... إليّ، وَإنْ لم تَصفُ مِنكِ الخلائِقُ (2/244) سواء في الهوى في المجالسات حدث أبو القاسم منصور بن جعفر الصيرفي، حدثني أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله المحرر، أخبرني بعض أصحابنا، أخبرني صديق لي من أهل المدينة قال: كان لنا عبد أسود يستقي الماء، فهوي جارية لبعض المدنيين سوداء، وكان يواصلها سراً منا، فلم يزالا كذلك حتى اشتهر أمرهما، وظهر، فشكا مولى الجارية الغلام إلى أبي، فضربه وحبسه وقيده، فمكث أياماً على هذه الحال ثم دخلت إليه فقلت له: ويلك! قد فضحتنا وشهرتنا بحبك لهذه السوداء، وتعرضت فيها للمكروه، فهل تجد بك مثل وجدك بها؟ فبكى، وأنشأ يقول: كِلانا سَوَاءٌ في الهَوَى غيرَ أنّها ... تَجَلّدُ أحياناً، وَما بي تَجَلّدُ تَخافُ وَعِيدَ الكَاشِحِينَ، وَإنّمَا ... جنوني عَلَيها حينَ أُنهَى وَأُوعَدُ قال: فخبرت بذلك أبي، فحلف أنه لا يبيت أو يجمع بينهما، فاشتراها له أبي باثي عشر ديناراً وزوجها منه. قتيل لا قود له ولا دية أنبأنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد بن متويه البلخي، حدثنا أحمد بن إسماعيل الكرابيسي، حدثنا معبد بن فرقد البلخي، حدثنا سليمان بن أبي عبد الرحمن عن مجالد بن عبد الرحمن الأندلسي عن عطاء أن عكرمة قال: كنا عند ابن عباس في آخر أيام العشر في المسجد الحرام، إذ أقبل فتيان يحملون فتىً، حتى وضعوه بين يدي ابن عباس فقالوا: استشف الله له تؤجر. (2/245) فقال لهم: ما به؟ فأنشأ الفتى يقول: وَبي من جَوَى الأسقامِ وَالحبّ لَوْعَةٌ، ... تكادُ لها نَفسُ الشّفيقِ تَذُوبُ وَلَكِنّمَا أبقى حُشَاشَةَ مَا تَرَى ... عَلى مَا بِهِ عُودٌ هُنَاكَ صَلِيبُ قال ابن عباس: والله ما رأيت وجهاً أعتق، ولا لساناً أذلق، ولا عوداً أصلب من هذا، هذا والله قتيل الحب والهوى، لا قود له ولا دية. الدمع المبتذل وأنبأنا القاضي أبو الطيب، سمعت أبا جعفر الموسائي العلوي يقول: حدثني محمد بن أحمد بن الرصافي قال: قال لي عبد الملك بن محمد: إني خرجت من البصرة أريد الحج، فإذا أنا بفتىً نضوٍ قد نهكه السقام، يقف على محمل محمل، وهودج هودج، ويطلع فيه، فتعجبت منه ومن فعله، فقال: أحُجّاجَ بَيتِ اللهِ في أيّ هَوْدَجٍ، ... وَفي أيّ خِدْرٍ مِنْ خُدورِكُمُ قلبي؟ أأبقَى أسِيرَ الحُبّ في دارِ غُرْبَةٍ، ... وَحَادِيكُمُ يَحدُو بقَلبيَ في الركبِ؟ فلم أزل أقف عليه، حتى جاء إلى المنزل، فاستند إلى جدار ثم قال: خَلّ فَيضَ الدّمعِ يَنهَملُ، ... بَانَ مَن تَهوَاهُ فارْتَحلوا كُلُّ دَمعٍ صَانَهُ كَلِفٌ ... فَهوَ يَوْمَ البَينِ مُبتَذَلُ قال: ثم تنفس الصعداء، وشهق شهقةً، فحركته، فإذا هو ميت. (2/246) يقتل من يحبه أنبأنا القاضي أبو الطيب، سمعت أبا القاسم بن متويه يقول: رشق الجماني العلوي غلاماً له وكان يحبه، فقتله، وقال فيه: فإنْ تَكُ قد قُتِلتَ بسَهمٍ رَامٍ، ... وَكانَتْ قَوْسُهُ سَبَباً لحَتفِك فَكَمْ يَوْمٍ أدَمتَ القَتلَ فِيهِ، ... بقَوْسَيْ حاجبَيك وَسَهمٍ طَرْفكِ هذا مليح أخبرنا أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب بالشام، أنبأنا أبو الفرج التميمي أنشدنا أبو الحسن السلامي لنفسه: ظَبيٌ إذا لاحَ في عَشِيرَتِهِ ... يَطرُقُ بالهَمّ قَلبَ مَن طَرَقَهْ سِهَامُ ألحَاظِهِ مُفَوَّقَةٌ، ... فكلّ مَنْ رَامَ وَصلَهُ رَشقَهْ بَدائِعُ الحُسنِ فِيهِ مُفتَرِقَهْ، ... وَأنفُسُ العَاشِقينَ مُتّفِقَهْ قد كتبَ الحُسنُ فَوْقَ عارِضِهِ: ... هَذا مَليحٌ وَحَقِّ مَنْ خَلَفَهْ (2/247) الشاهد الغائب أنبأنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي، حدثنا أبو أحمد عبيد الله بن محمد بن أبي مسلم، حدثنا أبو بكر الصولي قال: كنا يوماً عند تغلب، فأقبل محمد بن داود الأصفهاني، فسلم عليه أبو العباس، ثم قال له: أهاهنا شيء من صيودك؟ فأنشده: سَقَى اللهُ أيّاماً لَنَا وَلَيَالِيَا، ... لَهُنّ بأكنَافِ الشّبَابِ مَلاعِبُ إذِ العَيشُ غَضٌّ، وَالزّمانُ مطاوِعٌ، ... وَشاهِدُ آفاتِ المُحبّينَ غَائِبُ السقم المسروق قال: وأنشدني أبو بكر الصولي: أحبَبتُ مِنْ أجلِهِ من كانَ يُشبُهُ، ... وَكُلُّ شَيءٍ مِنَ المَعشُوقِ مَعشوقُ حتى حَكيتُ بِجسمي مَا بمُقلَتِهِ، ... كَأنّ سُقمي مِن جَفنَيهِ مَسرُوقُ حياة الكلام وموت النظر أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدثنا محمد بن خلف، حدثني أحمد بن طيفور، حدثنا عبد الله بن أحمد، أخبرني أبو أحمد الغساني عن أعرابي من عذرة يكنى أبا المعرج قال: نزل أعرابي من بني أسد بأعرابية من طي في يوم صائف، فأتته بقرىً حاضر وماء بارد، فنظر إليها، ففتنته بنظرها من وراء البرقع، فراودها عن (2/248) نفسها، فقالت: يا هذا! أما يقذعك الإسلام والكرم؟ كل وقل، وإن أردت غير ذلك فارتحل، فأنشأ الأسدي يقول: تَقولُ لي عمرَةُ قوْلَ المُبتَعِلْ: ... للضّيفِ حَقّ يا فتَى فكُلْ وَقِلْ فعِندنَا ما شِئتَ من بَرْدٍ وَظِلٍّ، ... أمّا الذي تَطلبُهُ، فَلا يَحِلْ يَمنَعُ مِنهُ الدِّينُ وَالعِرْقُ الأصُلْ قال: وعلقها، فقال: فزوجيني نفسك. فقالت: شأنك وأوليائي؟ فأتاهم، فخاف أن لا يزوجوه للعداوة التي بينهم، فانتسب عذرياً، فزوجوه، فأقام معها زماناً ثم علم به أهلها، فقالوا: يا هذا والله إنك لكفؤ كريم، ولكنا نكره أن تنكح منا وأنت حربنا، فخل عن صاحبتنا، وقد كان تزايد وجده بها لما رأى من موافقتها وحسنها، وكانت تهالكه عند الجماع، فطلقها وقال: أحِبّكِ يا عمَرَ حُبّ المُسِرّ، ... لِطُولِ الحَياةِ وَأمنِ الغِيَرْ وَيُعجِبُني مِنكِ عِندَ الجِما ... عِ حياةُ الكلامِ وَموْتُ النّظرْ وَهَجرُكِ يَرْمِينَ بالمُنكرَاتِ ... أغالِيظَ ذو السَّكَرِ المُبتَهِرْ وَذو أشَرٍ بَارِدٍ طَعمُهُ، ... وَرَابي المَجَسّةِ سُخنِ القَعَرْ (2/249) الأخوات الثلاث وكتابهن أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي في ما أجاز لنا، حدثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدثنا الحسين بن القاسم، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني عم لي قال: ذكر لي رجل من أهل المدينة أن رجلاً خرج حاجاً، فبينا هو قد نزل تحت سرحة في بعض الطريق، بين مكة والمدينة، إذا هو بكتاب معلق في السرحة مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أيها الحاج القاصد بيت الله إن ثلاث أخوات فتيات خلون يوماً، فبحن بهواهن، وذكرن أشجانهن، فقالت الكبرى منهن: عَجِبتُ له أن زَارَ في النّوْمِ مَضْجعي، ... وَلَوْ زَارَني مُستَيقظاً كانَ أعجَبَا وقالت الوسطى: ما زَارَني في النّوْمِ إلاّ خَيالُهُ، ... فقُلتُ لَهُ: أهلاً وَسَهلاً وَمَرْحَبَا وقالت الصغرى: بنَفسِي وَأهلي مَن أرَى كُلَّ لَيلَةٍ ... ضَجيعي، وَرَيّاهُ من المِسكِ أطيَبَا وفي أسفل الكتاب: رحم الله من نظر في كتابنا هذا وقضى بيننا بالحق ولم يجر في القضية. قال: فأخذ الكتاب فتى وكتب في أسفله: أُحَدّثُ عَنْ حُورٍ تَحَدّثنَ مَرّةً، ... حديثَ امرِئٍ سَاسَ الأمورَ وَجرّبَا ثَلاثٍ كَبَكرَاتِ الهِجَانِ عَطابلٍ، ... نَوَاعِمَ يَقتُلنَ اللّئيمَ المُسَبّبَا خَلَوْنَ، وَقد غابتْ عُيُونٌ كَثيرَةٌ، ... مِنَ اللاءِ قَد يَهوَينَ أنْ يَتَغَيّبَا فَبُحنَ بما يُخفِينَ من لاعِجِ الهَوَى، ... مَعاً، وَاتّخَذنَ الشّعرَ مَلهىً ومَلعَبَا (2/250) عَجبتُ له أن زَارَ في النّومِ مَضجَعي، ... وَلَوْ زَارَني مُستَيقِظاً كانَ أعَجَبَا وَإذ أخبرَتْ ما أخبرَتْ وَتَضاحَكَتْ، ... تَنَفّسَتِ الأخرَى، وَقالت تطرُّبَا: وَما زَارَني في النّوْمِ إلاّ خَيَالُهُ، ... فقُلتُ لهُ: أهلاً وسَهلاً وَمَرْحَبَا وَشُوّقَتِ الأخرَى وَقالَتْ مُجيبَةً ... لَهُنّ بقَوْلٍ كانَ أشهَى وَأعذَبَا: بنَفسِي وَأهلي مَن أرَى كلّ لَيلَةٍ ... ضَجيعي، وَرَيّاهُ مِنَ المِسكِ أطيَبَا فلَمّا تَبَيّنتُ الذي قُلنَ وَانبَرَى ... ليَ الحُكمُ لم أترُكْ لدى القَوْلِ مَعتَبَا قَضَيتُ لصُغرَاهُنّ بالظّرْفِ، إنّني ... رَأيتُ الذي قالتْ إلى القَلبِ أطرَبَا غريبان وجارية أخبرنا أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن شيطا وأبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين قالا: حدثنا أبو القاسم بن سويد العدل، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا ابن علي الكاتب، أخبرني بعض أصحابنا من الكتاب قال: دخلت البصرة أنا وصديق لي، فرأيت جارية قد خرجت من بعض الدور كأنها فلقة قمر، فقلت لصاحبي: لو ملت بنا إليها فاستسقيناها ماء؟ ففعل، فقلنا له: جعلنا الله فداءك، اسقينا ماء، فقالت: نعم، وكرامة! فدخلت وأخرجت كوز ماء، وهي تقول: ألا حَيِّ شَخْصَيْ قاصِدَينِ أرَاهُمَا ... أقَامَا فَما أن يَعرِفَا مُبتَغَاهُمَا هُمَا استَسقَيَا مَاءً عَلى غَيرِ ظَمأةٍ ... لِيَستَمتِعَا باللّحظِ مِمّنْ سَقَاهُمَا فقلت لها: جعلني الله فداءك، فهل لك في الخلوة؟ فولت، وهي تقول: شه! أجمل أنا فيركبني اثنان؟ (2/251) المضل إبله والجارية الموجعة القلب أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، حدثنا إبراهيم بن محمد الطائفي، حدثني صقر بن محمد مولى قريش، حدثنا الأصمعي قال: سمعت رجلاً من بني تميم يقول: أضللت إبلاً لي، فخرجت في طلبهن، فمررت بجارية أعشى نورها بصري، فوقفت بها، فقالت: ما حاجتك؟ قلت: إبل لي أضللتها، فهل عندك شيء من علمها؟ قالت: أفلا أدلك على من عنده علمهن؟ قلت: بلى! قالت: الذي أعطاكهن هو الذي أخذهن، فاطلبهن من طريق التيقن لا من طريق الاختيار. ثم تبسمت، وتنفست الصعداء، ثم بكت وأطالت البكاء، وأنشأت تقول: إني وَإنْ عَرَضَتْ أشياءُ تُضحِكُني، ... لمُوجَعُ القَلبِ مطوِيّ عَلى الحَزَنِ إذا دَجا اللّيلُ أحيا لي تَذَكّرَهُ، ... وَالصّبحُ يَبعَثُ أشجاناً عَلى شَجَنِ وَكيفَ تَرْقُدُ عَينٌ صَارَ مُؤنِسُهَا ... بَينَ التّرَابِ، وَبَينَ القَبرِ وَالكَفَنِ أبلَى الثّرَى وَتُرَابُ الأرْضِ جِدّتَهُ، ... كأنّ صُورَتهُ الحَسناءَ لَمْ تَكُنِ أبكي عَلَيهِ حَنيناً حِينَ أذكُرُهُ، ... حَنينَ وَالِهَةٍ حَنّتْ إلى وَطَنِ أبكي على مَن حَنَتْ ظهرِي مُصِيبَتُهُ، ... وَطَيّرَ النّوْمَ عَن عَيني وَأرّقَني وَاللهِ لا أنسَ حبّي الدهرَ ما سَجَعتْ ... حَمَامَةٌ، أوْ بَكَى طَيرٌ عَلى فَنَنِ فقلت، عندما رأيت من جمالها وحسن وجهها وفصاحتها وشدة جزعها: هل لك من بعل لا تذم خلائقه وتؤمن بوائقه؟ فأطرقت ملياً ثم أنشأت تقول: كُنّا كَغُصنَينِ في أصلٍ غِذاؤُهُما ... ماءُ الجَدَاوِلِ في رَوْضَاتِ جَنّاتِ فَاجتَثّ خيرَهُمَا من جَنبِ صَاحِبِهِ، ... دَهرٌ يَكُرّ بفَرْحَاتٍ وَتَرْحَاتِ (2/252) وَكانَ عَاهَدَني، إنْ خانَني زَمَنٌ، ... أنْ لا يُضَاجعَ أُنثى بَعدَ مَثوَاتي وَكُنتُ عَاهدتُهُ أيضاً، فعَاجَلَهُ ... رَيبُ المَنُونِ مُذْ سُنَيّاتِ فاصرِفْ عِنانَكَ عَمّن لَيسَ يَرْدعُه ... عَنِ الوَفَاءِ خِلابٌ في التحيّاتِ دعه ليوم البعث أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق بقراءتي عليه، حدثنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن بيان الزبيبي، حدثنا محمد بن خلف المحولي، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا محمد بن الحسين، حدثني محمد بن سلام الجمحي قال: سمعت خارجة بن زياد، وهو من بني سليم، يذكر قال: هويت امرأة من الحي، فكنت أتبعها إذا خرجت إلى المسجد، فعرفت مني ذلك فقالت لي ذات ليلة: ألك حاجة؟ قلت: نعم! قالت: وما هي؟ قلت: مودتك. قالت: دع ذلك ليوم التغابن. قال: فأبكتني، والله فما عدت إليها بعد ذلك. لحام بني إسرائيل والجارية أخبرنا أحمد، حدثنا محمد، حدثنا عبد الله، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أحمد بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا مرحوم بن عبد العزيز، حدثنا أبو عمران الجوني قال: كان لحام بني إسرائيل لا يتورع من شيء، فجهد أهل بيت من بني إسرائيل، فأرسلوا إليه جارية منهم تسأله، فمضت إليه، وقالت: يا لحام بني إسرائيل، أعطنا لحماً! فقال: لا! أو تمكنيني من نفسك. فرجعت، (2/253) فجهدوا جهداً شديداً، فرجعت إليه، فقالت: يا لحام بني إسرائيل، أعطنا! فقال: لا! أو تمكنيني من نفسك. فرجعت، فجهدوا جهداً شديداً، فأرسلوها إليه، فقالت: يا لحام بني إسرائيل، أعطنا، فقال: لا؟! أو تمكنيني من نفسك. قالت: دونك. فلما خلا بها جعلت تنتفض كما تنتفض السعفة إذا خرجت من الماء، فقال لها: ما لك؟ قالت: أخاف الله! هذا شيء لم أصنعه قط. قال: فأنت تخافين الله ولم تصنعيه، وأفعله أنا. أعاهد الله أني لا أرجع إلى شيء مما كنت فيه. قال: فأوحى الله، عز وجل، إلى نبي بني إسرائيل: أن كتاب لحام بني إسرائيل أصبح في كتاب أهل الجنة، فأتاه النبي، عليه السلام، فقال: يا لحام! أما علمت بأن كتابك أصبح في كتاب أهل الجنة؟ راهبة لا تشارك في المعصية أخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدثنا محمد بن خلف القاضي، حدثنا أبو بكر القرشي، حدثني أحمد بن العباس النمري، حدثني أبو عثمان التميمي قال: مر رجل براهبة من أجمل النساء فافتتن بها، فتلطف في الصعود إليها، فأرادها على نفسها، فأبت عليه، وقالت: لا تغتر بما ترى، فليس وراءه شيء، فأبى حتى غلبها على نفسها، وكان إلى جانبها مجمرة لبان، فوضعت يدها فيها، حتى احترقت، فقال لها بعد أن قضى حاجته منها: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قالت: إنك لما قهرتني على نفسي خفت أن أشركك في اللذة، فأشاركك في المعصية، ففعلت ذاك لذلك، فقال الرجل: والله لا أعصي الله أبداً، وتاب مما كان عليه. (2/254) يقلع عينه وبإسناده حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر القرشي، حدثني محمد بن الحسين، حدثني الصلت بن حكيم، حدثني موسى بن صالح أبو هارون قال: نظر رجل من عباد بني إسرائيل إلى امرأة جميلة نظرة شهوة، فعمد إلى عينه فقلعها. اللهو البرئ أخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف قال: وأنشدني عبد الله بن شبيب لبعض المدنيين: وَبالعَرْصَةِ البَيضَاءِ إن زُرْتُ أهلَها، ... مَهاً مُهمَلاتٌ ما عَلَيهِنّ سائسُ خَرجنَ لحبّ اللهوِ مِنْ غَيرِ ريبَةٍ، ... عَفائِفُ باغي اللهوِ مِنهنّ آيِسُ شادن من بني الرهبان ولي من أثناء قصيدة: وَشَادِنٍ مِنْ بَني الرّهبَانِ تاركني ... حبّي، وَقد شَاعَ بَينَ النّاسِ وَاشتَهَرَا وَقال: لَوْ كنتَ صَبّاً لافتدَيتَ بمَنْ ... تَهوَاهُ في لُبسِهِ الزُّنّارَ وَالشَّعَرَا فقُلتُ: لَستُ بذَنبي طالِباً بَدَلاً، ... وَلَوْ أذابَ غَرَامي أعظُمي وَبَرَى وَكانَ ذلِكَ مِنهُ أصلَ سَلوَتِهِ، ... وَالعَزْمُ في الأمرِ ممّا يُعقِبُ الظّفَرَا (2/255) اليد المسموطة أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت إن لم يكن حدثنا، حدثنا القاضي أبو القاسم هبة الله بن الحسين الرحبي، حدثنا علي بن أحمد المهلبي، أخبرنا أبو العباس بن عطاء قال: كان يحضر حلقتي شاب حسن الوجه يخبئ يده. قال: فوقع لي أن الرجل قد قطعت يده على حال من الأحوال، قال: فجاءني يوم جمعة، وقد جاءت السماء بالبركات، ولم يجئني في ذلك اليوم أحد، فطالبتني نفسي بمخاطبته، فدفعتها مراراً كثيرة إلى أن غلب علي كلامه، فكلمته فقلت له: يا فتى ما بال يدك تخبئها، لم لا تخرجها، فإن كان بها علة دعوت الله تعالى لك بالعافية، فما سببها؟ فأخرجها، فرأيت فيها شبيهاً بالشلل، فقلت: يا فتى ما أصاب يدك؟ قال: حديثي طويل. قلت: ما سألتك إلا وأحب أن أسمعه. فقال لي الغلام: أنا فلان بن فلان، خلف لي أبي ثلاثين ألف دينار، فعلقت نفسي بجارية من القيان، فأنفقت عليها جملة، ثم أشاروا علي بشرائها، فاشتريتها بستة آلاف دينار، فلما حصلت عندي وملكتها قالت: لم اشتريتني، وما في الأرض أبغض إلي منك، وإني لأرى نظري إليك عقوبةً، فاسترد مالك، فلا متعة لك بي، مع بغضي لك. قال: فبذلت لها كل ما يبذله الناس، فما ازدادت إلا عتواً، فهممت بردها، فقالت لي داية لي: دعها تموت ولا تموت أنت. قال: فاعتزلت في بيت، ولم تأكل ولم تشرب، وإنما كانت تبكي وتتضرع حتى ضعف الصوت، وأحسسنا منها بالموت، وما مضى يوم إلا وأنا أجيء إليها وأبذل لها الرغائب، وما ينفع ذلك ولا تزداد إلا بغضاً لي. فلما كان اليوم الرابع أقبلت عليها وسألتها عما تشتهيه، فاشتهت حريرةً (2/256) فحلفت لا يعملها أحد سواي، وأوقدت النار ونصبت القدر، وبقيت أمرس ما جعل فيها، والنار تعمل، وقد أقبلت علي تشكو ما مر بها من الآلام في هذه الأيام، فأقبلت دايتي، فقالت: يا سيدي سليمان يدك؛ قد ذهبت، فرفعتها وقد انسمطت على ما تراها. قال أبو العباس: فصعقت صعقةً، وقلت: يا بأبي هذا في طلب المعشوق أقبل عليك، فنالك هذا كله. التفاح بدل الجمار أخبرنا أحمد بن علي التوزي، حدثنا إسماعيل بن سويد، حدثنا أبو علي الكوكبي، أخبرني ابن الأصقع قال: قال لي بعضهم: رأيت ببغداد في وقت الحج فتىً ومعه تفاح مغلف، فانتهى إلى سور فوقف تحته، فاطلع عليه جوار كأنهن المها، فأقبل يرميهن بذاك التفاح، فقلن له: أم تكن معتزماً على الحج؟ فقال: وَلمّا رَأيتُ الحَجّ قَد آنَ وقتُهُ، ... وَأبصرْتُ تلك العيسَ بالرّكبِ تعسِفُ رَحَلتُ مَعَ العُشّاقِ في طَلَبِ الهَوَى، ... وَعَرَفتُ مِنْ حَيثُ المُحبّينَ عرّفوا وَقَد زَعَمُوا أنّ الجِمارَ فَرِيضَةٌ، ... وَتِارِكَ مَفرُوضِ الجِمَارِ يُعَنَّفُ عَمَدتُ لتُفّاحٍ ثَلاثٍ وَأرْبَعٍ، ... فزُعفِرَ لي بَعضٌ وَبَعضٌ مُغَلَّفُ وَقُمتُ حِيَالَ القَصرِ، ثمّ رَمَيتُهُ، ... فَظلّتْ لهَا أيدِي المِلاحِ تَلَقّفُ وَإنّي لأرْجُو أنْ تُقَبَّلَ حِجّتي، ... ومَا ضَمّني للحَجّ سَعيٌ وَمَوْقِفُ (2/257) مدرك الشيباني وعمرو النصراني أخبرنا القاضي أبو عبد الله القضاعي إجازة، أخبرنا أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرزاد النحيرمي بقراءتي عليه، أخبرنا جعفر بن شاذان القمي أبو القاسم قال: كان عمرو بن يوحنا النصراني يسكن في دار الروم ببغداد، في الجانب الشرقي، وكان من أحسن الناس صورةً وأجملهم خلقاً، وكان مدرك بن علي الشيباني يهواه، وكان من أفاضل أهل الأدب، وكان له مجلس يجتمع إليه الأحداث لا غير، فإن حضره شيخ أو كهل قال له: إنه ليقبح بمثلك أن يختلط بالأحداث والصبيان فقم في حفظ الله. وكان عمرو بن يوحنا ممن يحضر مجلسه، فعشقه مدرك، وهام به، فجاء عمرو يوماً إلى المجلس، فكتب مدرك رقعةً وطرحها في حجره، فقرأها، فإذا فيها: بمَجالِسِ العِلمِ التي ... بكَ تمّ جَمعُ جموعِها ألاّ رَثَيتَ لُمقلَةٍ، ... غَرِقَتْ بمَاءِ دُموعِها بَيني وبَينَكَ حُرْمَةٌ، ... اللهَ في تَضيِيعِهَا فقرأ الأبيات، ووقف عليها من كان في المجلس، وقرأوها واستحيا عمرو من ذلك، فانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك، فترك مجلسه، ولزم دار الروم، وجعل يتبع عمراً حيث سلك، وقال فيه قصيدة مزدوجة عجيبة، وله أيضاً في عمرو أشعار كثيرة، ثم اعترى مدركاً الوسواس وسل جسمه، وذهب عقله، وانقطع عن إخوانه، ولزم الفراش، فحضره جماعة فقال لهم: ألست صديقكم القديم العشرة لكم، فما فيكم أحد يسعدني بالنظر (2/258) إلى وجه عمرو؟ فمضوا بأجمعهم إليه، وقالوا له: إن كان قتل هذا الفتى ديناً، فإن إحياؤه لمروءة. قال: وما فعل؟ قالوا: قد صار إلى حال ما نحسبك تلحقه، فلبس ثيابه، ونهض معهم، فلما دخلوا عليه سلم عليه عمرو، وأخذ بيده، وقال: كيف تجدك يا سيدي؟ فنظر إليه وأغمي عليه ساعة، ثم أفاق وفتح عينيه، وهو يقول: أنَا في عَافِيَة إ ... لاّ مِنَ الشّوْقِ إلَيكَا أيّهَا العَائِدُ مَا بي ... مِنكَ لا يَخفَى عَلَيكَا لا تَعُدْ جِسْماً وَعُدْ ... قَلباً رَهيناً في يَدَيكَا كَيفَ لا يَهلِكُ مَرْ ... شوقٌ بسَهمَيْ مُقلَتَيكَا ثم شهق شهقةً فارق الدنيا بها حتى دفنوه. كلانا أسير الهوى ولي من أثناء قصيدة كتبت بها إلى بعض أهل العلم: وَذي شَجَنٍ مثلي شكَوْتُ صَبابَتي ... إلَيهِ، وَدَمعيَ مَا يُفتِّر قَطرُه فقالَ، وَلَمْ يَملِكْ سَوَابِقَ عَبرَةٍ ... تُتَرْجِمُ عمّا قد تَضَمّنَ صَدرُه: كِلانا أسيرٌ في الهَوَى مُتَهَدَّدٌ ... بقَتلٍ، فمَا يَنفَكّ مَا عَاشَ أسرُه لَقَد ضَاقَ ضَرْعي بالنّوَى، وَأمَلّني ... نَعيبُ غُرَابِ البَينِ لا شِيدَ وَكرُه وَأقلَقَني حادِي الرّكائِبِ بالضّحَى، ... وَسَائِقُهَا لمّا تَتَابَعَ زَجرُه وَتَقويضُ خَيمِ الحيّ وَالبَينُ ضَاحِكٌ ... لفُرْقَتِنَا، حَتى بَدَا مِنهُ ثَغرُه وَفي الجيرَةِ الغادينَ أحوىً، عذارُهُ ... يَقُومُ بهِ للعاشِقِ الصّبّ عُذرُه غَدائِرُهُ لي شَاهِداتٌ بأنّهُ ... وَفَيتُ لَهُ من بَعدِ ما بَانَ غَدرُه (2/259) أي قول أحسن؟ أخبرنا أحمد بن علي الوراق بدمشق، حدثنا الحسين بن محمد أخو الخلال، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الشطي بجرجان، حدثنا أبو علي أحمد بن الحسين بن شعبة، حدثنا أحمد بن جعفر الهاشمي، حدثنا محمد بن عبد الله الكاتب قال: كنت يوماً عند محمد بن يزيد المبرد، فأنشد: جِسمي معي غَيرَ أنّ الرّوحَ عندَكمُ، ... فالجسمُ في غُرْبَةٍ وَالرّوحُ في وَطَنِ فَليَعجَبِ النّاسُ منّي أنّ لي بَدَناً ... لا رُوحَ فيهِ، وَلي رُوحٌ بلا بَدَنِ ثم قال: ما أظن الشعراء قالت أحسن من هذا. قلت: ولا قول الآخر؟ قال: هيه! قلت: الذي يقول: فارَقتُكمُ وَحَيِيتُ بَعدَكُمُ، ... ما هكذا كانَ الذي يَجِبُ فالآنَ ألقَى النّاسَ مُعتَذِراً، ... من أنْ أعِيشَ وأنتمُ غَيَبُ قال: ولا هذا. قلت: ولا خالد الكاتب: رُوحانِ لي، رُوحٌ تَضَمَنّهَا ... بَلَدٌ، وَأُخرَى حَازَها بَلَدُ وَأظُنّ غَائِبَتي كَشَاهِدَتي ... بمَكانِها تَجِدُ الذي أجِدُ قال: ولا هذا. قلت: أنت إذا هويت الشيء ملت إليه، ولم تعدل إلى غيره. قال: لا! ولكنه الحق، فأتيت ثعلباً، فأخبرته، فقال ثعلب ألا أنشدته: غابُوا، فَصَارَ الجِسْمُ من بَعدِهم، ... مَا تَنظُرُ العَينُ لَهُ فَيّا بِأيّ وَجهٍ أتَلَقّاهُمُ، ... إذا رَأوْني بَعدَهُمْ حَيّا يا خجلَتي مِنهُ، وَمِنْ قَوْلِهِ: ... مَا ضرّكَ الفَقدُ لَنَا شَيّا (2/260) قال: فأتيت إبراهيم بن إسحق الحربي، قأخبرته، فقال: ألا أنشدته: يا حيَائي مِمّنْ أُحِبّ، إذا مَا ... قالَ بَعد الفِراق: إني حَييتُ لَوْ صَدقتَ الهَوَى حَبيباً، عَلى الصّ ... حّةِ لمَا نَأى، لكُنتَ تموتُ قال: فرجعت إلى المبرد، فقال: أستغفر الله إلا هذين البيتين، يعني بيتي إبراهيم. شهود ثقات وأخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان، حدثنا محبوب بن محمد النرديجي قاضي شروان، أنبأنا أبو سعيد الحسن بن زكريا العدوي ببغداد: أنشدني إبراهيم الحربي: أنكَرْتَ ذُلّي، فَأيّ شَيءٍ ... أحسَنُ مِنْ ذِلّةِ المُحِبِّ؟ ألَيسَ شَوْقي وَفَيضُ دَمعي ... وَضُعفُ جسمي شهودَ حُبّي؟ قال إبراهيم: هؤلاء شهود ثقات. ود ووفاء حتى الموت أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني أبو بكر، حدثنا الزبير بن بكار عن مولى لعلي بن أبي طالب، عليه السلام، قال، وكان راوية: إن فتىً من قريش من أهل المدينة هوي جارية منهم، فاشتد وجد كل واحد منهما بصاحبه، ثم بلغه عنها أنها تبدلت، فشكا ذلك إلى أخ له، فكان يستريح إليه، وكانت الجارية قد خرجت مع صواحب لها تتبدى، فقال له (2/261) صاحبه: الرأي أن تتلقاها فتعلمها ذلك، فإن كانت قد فعلت كان اعتزالك عنها، وإن كانت لم تفعل لم تعجل عليها بقطيعة. قال: فخرجنا حتى أتينا القصر الذي هي فيه، وأرسل إليها: إني أريد أن أكلمك، فأرسلت إليه: إني لا أقدر نهاراً، ولكن موعدك الليلة من وراء القصر. فلقيها لموعدها، فشكا إليها وذكر شدة وجده بها وما هو فيه. فقالت: قد أكثرت علي، وما أدري بما أجيبك، إلا أن مثلي ومثلك ما قال جميل: فما سِرتُ من ميلٍ وَلا سِرتُ لَيلَةً ... مِنَ الدّهرِ إلاّ اعتادَني مِنكِ طائِفُ وَلا مَرّ يَوْمٌ مُذْ تَرَامَتْ بكِ النّوَى ... وَلا لَيلَةٌ إلاّ هَوىً مِنكِ رَادِفُ أهُمُّ سُلُوّاً عَنكِ ثمّ تَرُدّني ... إلَيكِ وَتَثنيني عَلَيكِ العَوَاطِفُ فلا تَحسبِنّ النأيَ أسلَى مَوَدّتي، ... وَلا أنّ عَيني رَدّهَا عَنكِ عاطِفُ وَكم من بَديلٍ قد وَجَدنا وَطِرْفَةٍ، ... فتأبى عليّ النّفسَ تِلكَ الطّرَائِفُ ثم افترقا وقد خرج ما كان في قلوبهما فلم يزالا على الوفاء والود حتى ماتا. ؟ الهموم الغالبة أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، أنبأنا أبو بكر بن الأنباري أنشدنا إبراهيم بن عبد الله الوراق لمحمد بن أمية: شَغَلَتني بها، وَلمْ تَرْعَ عَهدي، ... ثمّ مَنّتْ وَعَهدُها لا يَدُومُ وَرَأتني أبكي إليهَا، فقالت: ... يَتَبَاكَى كَأنّهُ مَظلومُ (2/262) عَلِمَ اللهُ أنّني مَظلُومُ، ... وَحَبِيبي بِمَا أقُولُ عَلِيمُ لَيسَ لي في الفؤادِ حظّ فأشكو، ... غَلَبَتني على الفؤادِ الهُمومُ العاصمان الحياء والكرم حدثنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، أنبأنا محمد بن أحمد بن فارس، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدثنا محمد بن خلف أنشدت لبعضهم: مَا إنْ دَعَاني الهَوَى لفاحِشةٍ ... إلاّ عَصَاهُ الحَيَاءُ وَالكَرَمُ فَلا إلى مَحرَمٍ مَدَدتُ يدي، ... وَلا سَعَتْ بي لرِيبَةٍ قَدَمُ وفاء أعرابية لزوجها أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي المقنعي، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثني محمد بن العباس المكتب، حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: رأيت أعرابية ذات جمال فائق بمنى، وهي تتصدق، فقلت لها: يا أمة الله تتصدقين، ولك هذا الجمال؟ فقالت: قدر الله فما أصنع؟ قلت: فمن أين معاشكم؟ قالت: هذا الحاج نتقممهم، ونغسل ثيابهم. قلت: فإذا ذهب الحاج، فمن أين؟ فنظرت إلي، وقالت لي: يا صلت الجبين! لو كنا إنما نعيش من حيث تعلم لما عشنا. فوقعت بقلبي. فقلت لها: هل لك زوج يعفك ويغنيك الله بسعيه وكده؟ قالت: هيهات، ما أنا إذاً من العرب، ولم أف له! فعلمت أن زوجها توفي وآلت أن لا تتزوج بعده، فتركتها. (2/263) لا خير في ناقض العهد أخبرنا الحسن بن علي، حدثنا محمد بن العباس، أخبرنا محمد بن خلف أنشدني رجل من قريش لبعضهم: وَاللهِ لا خنتُ مَنْ هَوِيتُ، وَلا ... تَسكُنُ عَنهُ صَبَابَتي أبَدَا لا خَيرَ في مُغرَمٍ أخي كُلَفٍ ... يَنقُضُ عَهداً لَهُ إذا عُهِدَا حَتى يَرَى صَاحِباً لِصَاحِبِهِ ... في قُرْبِهِ، إنْ دَنَا وَإنْ بَعُدَا أم الضحاك وأرق الهمّ وبإسناده حدثنا محمد بن خلف، حدثني قاسم بن الحسن، أخبرني العمري، أخبرني الهيثم بن عدي قال: كانت أمّ الضحاك المحاربية تحت رجل من بني ضبة يقال له زيد، وكان لها محباً، فسلا عنها، وتزوج عليها، وكانت على غاية المحبة له فحجت، فبينا هي تطوف بالكعبة إذ رأت زيداً، فلم تملك نفسها أن قبضت على ثوبه، وقالت: أنت هو؟ قال: نعم! حياك الله، فمه! فأنشأت تقول: أتَهجُرُ مَن تُحِبّ بِغَيرِ جُرْمٍ، ... أسأتَ إذاً وَأنتَ لَهُ ظَلُومُ تُؤرّقُني الهُمُومُ، وَأنتَ خِلوٌ، ... لَعَمرُكَ ما تُؤرّقُكَ الهُمُومُ فَلا وَاللهِ آمَنُ بَعدَ زَيْدٍ ... خَليلاً مَا تَغَوّرَتِ النّجُومُ (2/264) حب على غير ريبة قال محمد بن خلف: وأنشدني بعض أهل الأدب لأعرابي: أُحِبّ التي أهوَى على غَيرِ رِيبَةٍ، ... وَأحفَظُها في ما أُسِرّ وَمَا أُبدِي وَلَستُ بمُفشِ سِرَّهَا وَحَدِيثَهَا، ... وَلا ناقِضٍ يَوْماً لهَا مُوثَقَ العَهدِ وَلا مُبتَغٍ أُخرَى سِوَاهَا، مكانَها، ... وَلَوْ أنّها حَوْرَاءُ من جَنّةِ الخُلدِ عاشق ومعشوق قال: وأنشدت أيضاً لغيره: لا خَيرَ في مَن هَوَاهُ مَمذُوقُ، ... لَيسَ لَهُ في هَوَاهُ تَصدِيقُ هَوَايَ، ما عِشتُ، وَاحدٌ أبداً، ... لأنّني عَاشِقٌ وَمَعشُوقُ وكلُّ مَن كان صَادِقَاً أبَدَاً ... قَامَتْ لَهُ في فُؤادِهِ سُوقُ مراودة الرسول زَعَمَ الرّسُولُ بأنّني رَاوَدتُهُ، ... كذبَ الرّسولُ، وَمُنزِلِ الفُرقانِ ما كنتُ أجمَعُ خَلّتَينِ: خِيانَةً ... لَكُمُ، وَبَيَعَ كَرَامَةٍ بهَوَانِ (2/265) ساء ظن المحب وقال عباس: إنّ جُهدَ البَلاءِ حُبُّكَ إنسَا ... ناً هَوَاهُ بآخَرٍ مَشغُولُ مَا عَلِمنا إلاّ الجَميلَ، وَمَا يُش ... بهكم، يا ظَلومُ، إلا الجميلُ ما عَهِدنا ما تَكرَهونَ، وَلكن ... سَاءَ ظَنّ المُحبّ في ما يَقولُ عاشق عفيف أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله إبراهيم البصري، حدثنا محمد بن خلف أنشدت لأبي عبد الرحمن العلوي: إنْ أكُنْ عَاشِقاً، فإني عَفيفُ اللّ ... فظِ والفَرْجِ عَن رُكُوبِ الحَرَامِ مَا حَمَاني الإسلامُ حُبَّ ذَوَاتِ الأ ... عينِ النُّجلِ وَالوُجُوهِ الوِسَامِ ؟ عمر ونصر بن حجاج وأخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد، حدثنا عبد الله، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا عبد الله بن عبيد، أخبرني محمد بن عبد الله، حدثني أبو محمد عبد الله بن أبي عبد الله، حدثني محمد بن سعيد القرشي، أخبرنا محمد بن جهم بن عثمان بن أبي جهمة، وكان جهمة على ساقة غنائم خيبر يوم افتتحها النبي، ﷺ، قال: أخبرني أبي عن جده قال: بينما عمر بن الخطاب يطوف ذات ليلة في سكة من سكك المدينة، إذ سمع (2/266) امرأة وهي تهتف من خدرها وتقول: هَلْ من سَبِيلٍ إلى خَمرٍ فأشرَبَها، ... أمْ هَلْ سَبيلٌ إلى نَصرِ بنِ حجّاجِ إلى فتىً مَاجِدِ الأعرَاقِ مُقتَبِلٍ، ... سَهلِ المُحَيّا، كرِيمٍ، غَيرِ مِلجاجِ قال: فقال عمر، رحمة الله عليه: ألا أرى معي في المصر رجلاً تهتف به العواتق في خدورهن؟ علي بنصر بن حجاج! فأتي به، فإذا هو أحسن الناس وجهاً وشعراً، فقال: علي بالحجام، فجز شعره، فخرجت له وجنتان كأنهما شقتا قمر، فقال: اعتم، فاعتم، ففتن الناس. فقال عمر: والله لا تساكنني ببلد أنا فيه. قال: ولم ذاك يا أمير المؤمنين! قال: هو ما قلت لك. فسيره إلى البصرة، وخشيت المرأة التي سمع منها عمر ما سمع أن يبدر إليها عمر بشيء، فدست إليه أبياتاً تقول فيها: قُلْ للإمامِ الذي تُخشَى بَوَادِرُهُ: ... ما لي وَللخَمرِ أوْ نصرِ بنِ حجّاجِ إني عنيتُ أبَا حَفصٍ بغَيرِهِما، ... شرْبَ الحَليبِ وَطَرْفٍ غيره ساجي إنّ الهَوَى ذٍِمّةُ التّقوَى، فقَيّدَهُ ... حَتى أقَرّ بإلجَامٍ وَإسرَاجِ لا تَجعَلِ الظنّ حَقّاً، أوْ تُبَيّنَهُ، ... إنّ السّبيلَ سَبيلُ الخائِفِ الرّاجي قال: فبعث إليها عمر: قد بلغني عنك خبر، وإني لم أخرجه من أجلك، ولكن بلغني أنه يدخل على النساء، ولست آمنهن. قال: وبكى عمر، وقال: الحمد لله الذي قيد الهوى حتى أقر بإلجام وإسراج. ثم إن عمر كتب إلى عامله بالبصرة كتباً، فمكث الرسول عنده أياماً، ثم نادى مناديه: الا إن بريد المسلمين يريد أن يخرج، فمن كانت له حاجة فليكتب! فكتب نصر بن حجاج كتاباً، ودسه في الكتب، ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين سلام عليك! أما (2/267) بعد فلعمري، يا أمير المؤمنين، لئن سيرتني أو حرمتني وما نلت مني عليك بحرام، وكتب بهذه الأبيات: أَإنْ غَنّتِ الذّلفَاءُ يَوْماً بمُنيَةٍ، ... وَبَعضُ أمَانيِّ النّسَاءِ غَرَامُ ظَنَنتَ بيَ الظّنَّ الذِي لَيسَ بَعدَهُ ... بَقَاءٌ، فَمَا لي في النّديّ كَلامُ وَيَمنَعُني مِمّا تَظُنّ تَكَرُّمي، ... وَآبَاءُ صِدْقٍ سَالِفُونَ كِرَامُ وَيَمنَعُها مِمّا تَظُنّ صَلاتُهَا، ... وَحَالٌ لهَا في قَوْمِهَا وَصِيَامُ فهَذانِ حَالانَا! فَهَلْ أنتَ رَاجعي، ... فَقَدْ جُبّ مَني كَاهِلٌ وَسَنامُ فقال عمر، لما قرأ الكتاب: أما ولي سلطان فلا، فما رجع إلى المدينة إلا بعد وفاة عمر، وله خبر طويل ليس هذا موضعه، ويقال إن هذه المتمنية أم الحجاج. الله شاهد وبإسناده، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني بعض أهل الأدب عن عثمان بن عمر، حدثني عبد الله بن صالح، حدثني بلال بن مرة قال: بلغني أن أعرابياً خلا بجارية من قومه، فراودها عن نفسها، فقالت: ويحك! والله إن كان ما تدعوني إليه حلالاً، لقد كان قبيحاً. قال: وكيف ذاك؟ قالت: والشاهد الله. قال: فلم يعاودها. رداء من الصون والعفاف ولي من نسيب قصيدة من أولها: يا لَيلَةً لا أزَالُ أذكُرُها، ... مَا نُسِيَتْ لَيلَةٌ، وَأشكُرُها (2/268) وَفَتْ سُلَيمَى فِيهَا بمَوْعِدِها، ... إذْ طَرَقَتْ، وَالظّلامُ يُضْمِرُهَا وَغَابَ عَنّا رَقِيبُنَا، فَصَفَتْ، ... وكانَ يُخشَى مِنهُ تَكَدُّرُهَا بِتنَا ضَجيعَينِ في مَلاحِفَ يَط ... وِيهَا الهَوَى تَارَةً وَيَنشُرُهَا أنهَلُ مِنْ رِيقِهَا عَلى ظَمَإٍ، ... صَهبَاءَ، فوها الشّهيُّ مِعصَرُهَا نَقلي عَلى شُرْبِ رِيقِها قُبَلٌ ... تُشعِلُ نَارَ الهَوَى وَتُسعِرُهَا إنْ مُلّ لَفظٌ مُكَرَّرٌ، فَمُنى ... نَفسِيَ في لَفظَةٍ تُكَرّرُهَا جَارِيَةٌ ذاتُ مَنظرٍ حَسَنٍ، ... أحسَنَ تَصويرَها مُصَوّرُهَا كالغًصنِ قَدّاً، وَالبَدرِ إن سَفَرَتْ، ... شَبِيهُهَا في الظّبَاءِ أحوَرُها فَمِنْ كَثيبٍ وَارَاهُ مِئْزَرُهَا، ... وَبَدرِ تِمٍّ غَطّاهُ مِعجَرُهَا طَيّبَةُ الأصلِ لَستُ أنسِبُهَا ... مَخافَةً أنْ يَغَارَ مَعشَرُها وَخافَتِ الصّبحَ أنْ يَنِمّ عَلى ... مَكَانِهَا ضَوْءُهُ فَيَشهَرُهَا فَوَدّعَتني عَجلَى، وَأدمُعُهَا ... يَبُلُّ أرْدانَهَا تَحَدّرُهَا وَانصَرَفَتْ في رِداءِ مَكرُمَةٍ، ... وَحُلّتَيْ عِفّةٍ تُجَرِّرُهَا رِداؤُهَا الصّوْنُ وَالعَفَافُ، فَمَا ... تَكَادُ عَينُ الأنَامِ تَنظُرُهَا وهي طويلة اقتصرت على ما ذكرته. (2/269) نصيب وزينب أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف المحولي، حدثنا عبد الله بن عمرو وأحمد بن حرب، حدثنا بنان هو ابن أبي بكر، حدثني محمد بن المؤمل بن طالوت الوادي، حدثني أبي عن الضحاك بن عثمان الحزامي قال: خرجت في آخر الحج، فنزلت بخيمة بالأبواء على امرأة، فأعجبني ما رأيت من حسنها، فتمثلت بقول نصيب: بزَينبَ ألمِمْ قبلَ أن يَرْحلَ الرَّكْبُ ... وَقُلْ إنْ تَمَلّينَا فَمَا مَلّكِ القَلبُ وَقُلْ في تَجَنّيها لكَ الذّنبَ: إنّمَا ... عِتَابُكَ مَن عَاتَبتَ فيما لهُ عَتْبُ خَلِيليّ مِن كَعبٍ ألِمّا، هُدِيتُمَا، ... بزينَبَ، لا يَفقدكُما أبداً كَعبُ وَقُولا لها: ما في البُعادِ لِذي الهَوَى ... بُعادٌ، ومَا فيه لصَدعِ النّوَى شَعْبُ فَمَن شَاءَ رَامَ الوَصْلَ، أوْ قالَ ظالماً ... لِصَاحِبِهِ ذَنْبُ، وَلَيسَ لهُ ذنبُ قال: فلما سمعني أتمثل بالأبيات قالت: يا فتى! أتعرف قائل هذا الشعر؟ قلت: نعم! ذاك نصيب. قالت: نعم، هو ذاك، أفتعرف زينب؟ قلت: لا! قالت: أنا والله زينب. قلت: فحياك الله. قالت: أما إن اليوم موعده من عند أمير المؤمنين. خرج إليه عام أول، وعدني هذا اليوم. ولعلك لا تبرح حتى تراه. قال: فما برحت من مجلسي، وإذا أنا براكب يزول مع السراب. فقالت: ترى خبب ذاك الراكب؟ إني أحسبه إياه. ثم أقبل الراكب حتى أناخ قريباً من الخيمة، فإذا هو نصيب، ثم ثنى رجله (2/270) عن راحلته، فنزل ثم أقبل، فسلم علي، وجلس ناحيةً، وسلم عليها، وساءلها وساءلته فأحفيا، ثم ساءلته أن ينشدها ما أحدث من الشعر بعدها، فجعل ينشدها، فقلت في نفسي: عاشقان أطالا التنائي، فلا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة. فقمت إلى راحلتي أشد عليها، فقال لي: على رسلك! أنا معك. فجلست حتى نهض، ونهضت معه، فتسايرنا ساعة، ثم التفت إلي فقال: قلت في نفسك محبان التقيا بعد طول تناء، فلا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة. قلت: نعم! قد كان ذاك. قال: فلا ورب هذه البنية التي إليها نعمد ما جلست منها مجلساً قط أقرب من مجلسي الذي رأيت، ولا كان بيننا مكروه قط. العاشق المتكتم وأخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم البصري، حدثنا محمد بن خلف، حدثني أبو موسى عيسى بن جعفر الكاتب، حدثني محمد بن سعيد، حدثني إسحق بن جعفر الفارسي: سمعت عمر بن عبد الرحمن يحكي عن بعض العمريين قال: بينا أنا يوماً في منزلي إذ دخل علي خادم لي، فقال لي: رجل بالباب معه كتاب. فقلت له: ادخله، أو خذ كتابه. قال: فأخذت الكتاب منه، فإذا فيه هذه الأبيات: تَجَنّبَكَ البَلا، وَلَقيتَ خَيراً، ... وَسَلّمكَ المَليكُ من الغُمومِ شَكَوْنَ بَناتُ أحشائي إليكمُ ... هَوَايَ حِينَ ألفَتْني كَتُوم وَحَاوَلْنَ الكِتابَ إلَيكَ في مَا ... يُخامِرُها، فدَتكَ من الهُمُومِ (2/271) وَهنّ يَقُلنَ يَا ابنَ الجودِ: إنّا ... بَرِمنا مِنْ مُرَاعاةِ النّجومِ وَعندكَ، لوْ مَننتَ، شفاءُ سُقمي ... لأعضَاءٍ ضَنِينَ مِنَ الكُلُومِ فلما قرأت الأبيات قلت: عاشق. فقلت للخادم: ادخله، فخرج إليه الخادم بالخبر فلم يجده، فقلت أخطأت، فما الحيلة؟ فارتبت في أمره، وجعل الفكر يتردد في قلبي، فدعوت جواري كلهن ممن يخرج منهن ومن لا يخرج فجمعتهن ثم قلت: أخبرنني الآن قصة هذا الكتاب. قال: فجعلن يحلفن، وقلن: يا سيدنا ما نعرف لهذا الكتاب سبباً وإنه لباطل. ثم قلن: من جاء بهذا الكتاب؟ فقلت: قد فاتني، وما أردت بهذا القول لأني ضننت عليه بمن يهوى منكن، فمن عرفت منكن أمر هذا الرجل، فهي له فلتذهب إليه متى شاءت، وتأخذ كتابي إليه. قال: فكتبت إليه كتاباً أشكره على فعله وأسأله عن حاله، وعما يقصده، ووضعت الكتاب في موضع من الدار، وقلت: من عرف شيئاً فليأخذه، فمكث الكتاب في موضعه حيناً لا يأخذه أحد ولا أرى للرجل أثراً، فاغتممت غماً شديداً ثم قلت: لعله من بعض فتياننا، ثم قلت: إن هذا الفتى قد أخبر عن نفسه بالورع، وقد قنع ممن يحبه بالنظر، فدبرت عليه، فحجبت جواري من الخروج. قال: فما كان إلا يوم وبعض آخر، حتى دخل الخادم ومعه كتاب، فقلت له: ما هذا؟ قال: أرسل به إليك فلان، وذكر بعض أصدقائي، فأخذا الكتاب ففضضته، فإذا فيه هذه الأبيات: ماذا أرَدتَ إلى رُوحِ مُعَلَّقَةٍ ... عند الترَاقي، وَحادي المَوْتِ يحدوهَا حَثثتَ حَادِيهَا ظُلماً، فَجَدّ بهَا ... في السّيرِ، حتى تَوَلّتْ عن تَرَاقيهَا حَجبتَ من كان يحيي عند رُؤيتهِ ... رُوحي، وَمن كانَ يَشفيني تلاقِيها فالنّفسُ ترْتاحُ نحوَ الظّلمِ جاهِلةً، ... وَالقَلبُ مني سَليمٌ ما يُؤاتِيها (2/272) وَاللهِ لوْ قِيلَ لي تأتي بفَاحِشَةٍ، ... وَإنّ عُقباك دُنيانا وَمَا فِيها لقُلتُ: لا وَالذي أخشَى عُقوبتَه ... وَلا بأضعَافِهَا مَا كُنتُ آتِيها لَوْلا الحَياءُ لبُحنا بالذي كَتَمَتْ ... بنتُ الفُؤادِ، وَأبدَينَا تَمَنّيهَا قال: قلت لا أدري ما أحتال في أمر هذا الرجل، وقلت للخادم: لا يأتيك أحد بكتاب إلا قبضت عليه حتى تدخله إلي، ولم أعرف له بعد ذلك خبراً. قال: فبينا أنا أطوف بالكعبة، إذا أنا بفتى قد أقبل نحوي، وجعل يطوف إلى جنبي ويلاحظني، وقد صار مثل العود. قال: فلما قضيت طوافي خرجت واتبعني، فقال: يا هذا! أتعرفني؟ قلت: ما أنكرك لسوء، قال: أنا صاحب الكتابين. قال: فما تمالكت أن قبلت رأسه وبين عينيه وقلت: بأبي أنت وأمي، والله لقد شغلت علي قلبي، وأطلت غمي لشدة كتمانك لأمرك، فهل لك فيما سألت وطلبت؟ قال: بارك الله لك وأقر عينك إنما أتيتك مستحلاً من نظر كنت أنظره على غير حكم الكتاب والسنة، والهوى داع إلى كل بلاء، وأستغفر الله. فقلت: يا حبيبي أحب أن تصير معي إلى المنزل، فآنس بك وتجري الحرمة بيني وبينك. قال: ليس إلى ذلك سبيل، فاعذر وأجب إلى ما سألتك. فقلت: يا حبيبي! غفر الله لك ذنبك، وقد وهبتها لك ومعها مائة دينار تعيش بها، ولك في كل سنة كذا وكذا. قال: بارك الله لك فيها فلولا عهود عاهدت الله تعالى بها وأشياء وكدتها على نفسي لم يكن شيء في الدنيا أحب إلي من هذا الذي تعرضه علي، ولكن ليس إليه سبيل، والدنيا فانية منقطعة. حدثني قلت له: فأما إذ أبيت أن تصير إلى ما دعوتك إليه، فأخبرني (2/273) من هي من جواري حتى أكرمها لك ما بقيت. فقال: ما كنت لأسميها لأحد أبداً، ثم سلم علي، ومضى فما رأيته بعد ذلك. كتمان ما في القلب وبه قال: أخبرني محمد بن خلف: أنشدني علي بن صالح المعري: عَفِيفٌ، حَلِيمٌ، ناسِكٌ، ذو مخافَةٍ ... إذا مَسّهُ شَجوٌ مِنَ الحُبّ بسّرَا سَلِيمٌ مِنَ الآفَاتِ، ذو وَرَعٍ، لَهُ ... جَوَارِحُ ما تَصبُو إلى حُسنِ ما يَرَى فَتىً لم يَزَلْ يُخفي الذي في ضَميرِهِ، ... وَيَكتُمُ ما في القَلبِ مِنهُ عَنِ الوَرَى لا خير في ناقض العهد أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف أنشدني رجل من قريش لبعضهم: وَاللهِ لا خُنتُ مَنْ هَوِيتُ، وَلا ... تَسكُنُ عَنهُ صَبَابَتي أبَدَا لا خَيرَ في مُغرَمٍ أخي كُلَفٍ، ... يَنقُضُ عَهداً لَهُ إذا عَهِدَا حَتى يُرَى حَافِظاً لِصَاحِبِهِ، ... في قُرْبِهِ، إنْ دَنَا، وَإنْ بَعُدَا قال: وأنشدت لغيره لا خير في من هواه ممذوق، وهي ثلاثة أبيات (2/274) قد ذكرتها سابقاً، وكتبت بعدها ها هنا قال ابن المرزبان: وأنشدت للعباس بن الأحنف: أيَسُرّكُم أنّي هَجَرْتُكُم، ... وَمَنَحتُ قَوْماً غيرَكم وُدّي لَسنا نَلُومُ عَلى قَطِيعتِنَا ... مَنْ لا يَدُومُ لَنا عَلى عَهدِ وللعباس أيضاً زعم الرسول بأنني راودته وهما بيتان ذكرا من قبل، وبعدهما: وله أيضاً إن جهد البلاء وهي ثلاثة أبيات هنالك، فتركت إعادة هذا كله. طريد العشق حدث أبو عمر بن حيويه، ونقلته من خطه، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر العامري قال: قال علي بن صالح عن ابن دأب قال: كان من حديث جاركرز الربابي، والرباب بنو عبد مناة، أن أباه كان رجلاً من طابخة، يقال له حباب، وكان شجاعاً فاتكاً، وأنه قتل رجلاً من بني حباب بن هبل بن كلب بن وبرة، فرهنهم بالدية امرأته وابنه حية، وهو صغير، وخرج حباب في جمع الدية، فهلك، وبقيت امرأته وابنة في يدي كلب، وشب ابنه حية، فشب أحسن فتىً في العرب وأوضأهم، فعلق جاريةً من جواري الحي، وعلقته، وفسدت به فساداً شديداً، حتى جلس نسوة من كلب، ذات ليلة، يلعبن، ويتذاكران الشراب، ففطن به، وسمعت بذلك كلب، وكان قد علق فتاةً منهم، فطلبته كلب، فخرج هارباً، فأدركه أخوها، فرماه حية، فقتله، وانطلق، فلحق بقوم من بلقين، فاستجار بهم، فأجاروه، فعاث في نسائهم، وعلقته امرأة منهم، فطلبته بلقين، فأعجزهم، وهرب حتى أتى أمه ليلاً، فقالت: ويلك! إن القوم (2/275) قاتلوك. فقال: والله ما أجد مذهباً. قال: وأخفته وذكرت ذلك لظئر لها، هو أخو ابن لها أرضعته، فقالت: أرسليه، فأرسلته إليها، فأخذته فخيطت عليه عباءة، فجعلته كهيئة الكرز، ثم طرحته بفناء بيتها، حتى مر بها عدي بن أوس الكلبي، فقالت: يا عدي! إني قد أردت أن أظعن، وإني أريد أن تجير لي كرزي هذا، وما فيه، قال: قد أجرته، وأمر به، فحمل إلى بيته، فلما نظر إلى الكرز أنكره، ففتشه، فإذا فيه حية، فقال: لا أنعم الله بك عيناً، ولكن أجاره وبرز، فقالت له أمه: ويلك مهلاً عن نساء الحي! فلم يلتفت إليها، ورأته ابنة عدي، فعلقته، وعلقها، فمكثت بذلك مدة، وعدي لا يعلم، فقال: ما زِلتُ أطوِي الحَيَّ أسمَعُ حِسَّهُم، ... حتى وَقَعتُ على رَبيبَةِ هَوْدَجِ فَوَضَعتُ كفّي عِندَ مَقطعِ خصرِها، ... فَتَنَفّسَتْ بُهْراً، وَلمّا تَنْهَجِ وَتَنَاوَلَتْ رَأسِي لِتَعرِفَ مَسّهُ، ... بمُخَضَّبِ الأطرَافِ غَيرِ مُشَنَّجِ قالَت: وَعَيشِ أبي وَنَعمةِ وَالدي، ... فَعلِمتُ أنّ يَمينَها لَمْ تُحرَجِ قال: فلما بلغ عدي بن أوس الخبر، وأنشد الشعر، أمر به فربط، ثم أخرج إلى خارج البيوت فقتل. (2/276) أعوذ بالله من الحرام أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا حسين بن الضحاك اليشكري، حدثني محمد بن عبد الله الخراساني، حدثني إبراهيم بن العباس، حدثني إسحق بن عبد الله بن شرحبيل، حدثني سلم بن عبد الرحمن قال: كان عندنا بالمدينة فتىً من أهل الأدب والدين، وكان له جمال، فعلقته امرأة من أهل المدينة، من قريش، فأرادت كلامه، فاستحيت منه، فكتبت إليه: ألا مَن عَذيِري مِن هَوَايَ وَمن قلبي، ... فَقد بَرّحَا بي، فاشتَكَيتُ إلى رَبي هُمُومي وَأحَزانيَ وَطُولُ بلِيّتي ... بمَن غابَ عَن عَيني، فَطَالَ بهِ نحبي فدَيتُكَ لَوْلا خِيفَةُ اللهِ في الّذِي ... تُكاتِمُهُ نَفسي لأظهَرْتُ ما خُبّي قال: فلما أتاه الكتاب أظهر تعجباً، وكان في غفلة عن ذلك، فكتب إليها: وصل إلي كتابك، وفهمت ما سألت، فعلى أي وجه يكون وصالنا، وأصل فراق أم وصل اتفاق؟ فإن كان وصل فراق، فلا حاجة لنا فيه، وإن كان وصل اتفاق، فذاك الذي نريد. قال: فأرسلت إليه: معاذ الله من وصل فرقة يدعو إلى حسرة، وما سألتك إلا الحق، وإني أعوذ بالله من فعل الحرام. قال: ففكر في نفسه. فقال: هذه امرأة لها شرف وقدر، ومه هذا يسار، وليس يخطئني ما أحذره من قول الناس. قال: فأرسل إليها: يا هذه قد فكرت في هذا الأمر، وتدبرته، فلم أر الذي أخاف من عاقبته يخطئني، وإني أكره أن أتعرض لقالة الناس وكلامهم، وكتب إليها: صُدّي الفُؤادَ عَنِ الطّرِيقِ الأبعَدِ ... ثمّ اسلُكي قَصدَ السّبيلِ الأقصَدِ (2/277) وَدَعي التّشاغُلِ بالذي أصبَحتُمُ ... فيه، فإني قد أخالُكِ تُرْشَدِي قال: فأمسكت عنه فلم تعاوده. الفتى المتعبد والمفتونة به وأخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف، حدثني أبو محمد جعفر بن الفضل بن محمد بن المعافى عن عبد الواحد بن زياد الافريقي، حدثني أبي قال: سمعت شيخاً من أهل العلم يقول: كان عندنا فتىً متعبد، حسن السيرة، فأحبته جارية من قومه، وجعلت تكاتم أمرها مخافة العيب، فمكثت بذلك حيناً، فلما بلغ الحب منها أرسلت إليه بكتاب وضمنته هذه الأبيات: تَطَاولَ كِتماني الهَوَى، فأبادَني، ... فأصبَحتُ أشُكو ما ألاقي من الوَجدِ فأصبحتُ أشكو غُصّةً من جَوى الهوَى، ... أقامَت، فما يَعدو إلى أحدٍ بَعدي فهَا أنا ذا حَرّى من الوَجدِ صَبَّةٌ، ... كثيرَةُ دَمعِ العَينِ، يجرِي على خَدّي قال: فأقبلت به امرأة فقال: ما هذا؟ قالت: كتاب أرسلني به إليك إنسان. قال: سميه! قالت: إذا قرأته سميت لك صاحبه، فرمى به إليها، وأنكره إنكاراً شديداً، فقالت له: ما يمنعك من قراءته؟ قال: هذا كتاب قد أنكره قلبي، فلم تزل به حتى قرأه، فرفع رأسه إليها، فقال: هذا الذي كنت أحذر وأخاف، ثم دفعه إليها. فقالت: أما له جواب؟ قال: بلى! قالت: وما هو؟ قال: تقولين لها: إنه يعلم السر وأخفى الله، لا إله إلا هو، له الأسماء الحسنى. قالت: لا غير؟ قال: في هذا كفاية. فمضت إليها، فأخبرتها بما جرى بينهما، فكتبت إليه: يا فارغَ القَلبِ من همّي وَمن فِكَرِي، ... ماذا الجَفاءُ، فدتكَ النفسُ يا وَطَرِي؟ (2/278) إنْ كُنتَ مُعتَصِماً باللهِ تَخدمُهُ، ... فإنّ تَحلِيلَنَا في مُحكَمِ السُّوَرِ فلما وصل إليه الكتاب قال: ما هذا؟ قالت: تقرأه، فأبى، فلم تزل تلطف به حتى فتحه، فقرأه، ثم رمى به إليها. فقالت: ما له جواب؟ قال: بلى! قالت: ما هو؟ قال: قولي لها: وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار. فصارت إليها، فأخبرتها بما جرى بينهما، فكتبت إليه: فَرّجْ عن القلبِ بعضَ الهَمّ وَالكُرَبِ، ... وَجْدُ بوَصلِكَ، وَالهِجرانَ فاجتَنِبِ إنّا سَألنَاكَ أمراً مَا نُريدُ بِهِ ... إلاّ الصّلاحَ، وَأن نَلقاكَ عن قُرُبِ فإنْ أجَبتَ إلى ما قَد سألتُ، فَقَدْ ... نِلتُ المُنى، وَالهَوَى، يا منتهَى أرَبي وَإنْ كَرِهتَ وِصالي قلتُ: أكرَهُهُ، ... وَإنّني رَاجعٌ عن ذاكَ من كَثَبِ قال: فجاءت بالكتاب إليه، فأخذه، وقال لها: اجلسي، ففتحه، وقرأه عن آخره، وكتب إليها كتاباً كان هذا الشعر آخره: إنّي جَعَلتُ هُمُومي ثمّ أنفاسِي ... في الصّدرِ مِنّي وَلم يُظهِرْهُ قرْطاسِي وَلم أكُنْ شاكياً ما بي إلى أحدٍ ... إنّي إذاً لَقَليلُ العِلمِ بالنّاسِ فاستَعصمِي اللهَ، مِمّا قَد بُلِيتِ بِهِ، ... وَاستَشعِرِي الصّبرَ، عمّا قلتُ، بالياسِ إني عَنِ الحُبّ في شُغلٍ يُؤرّقُني ... تَذكَارُ ظُلمَةِ قَبرٍ فِيهِ أرْمَاسِي فَفيهِ لي شُغُلٌ لا زِلتُ أذكرُهُ، ... منَ السّؤالِ وَمِنْ تَفرِيقِ أحلاسِي وَلَيسَ يَنفَعُني فِيهِ سِوَى عَمَلي، ... هُوَ المُؤانسُ لي مِنْ بَينِ أنّاسِي (2/279) فاستكثرِي من تُقى الرّحمنِ وَاعتصِمي، ... وَلا تَعودي، فبي شُغلٌ عن النّاسِ فلما قرأت الكتاب أمسكت وقالت: إنه لقبيح بالحرة المسلمة العارفة مواضع الفتنة كثرة التعرض للفتن، ولم تعاوده. لا صبر على الفراق ذكر أبو عمر بن حيويه ونقلته من خطه، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، أخبرني أبو بكر العامري، حدثنا دعبل بن علي الخزاعي قال: كان بالكوفة رجل من بني أسد عشق جارية لبعض أهل الكوفة، فتعاظم أمره وأمرها، فكان يقول فيها الشعر، وذكر بعض أهل الكوفة أنه مات من حبها، وصنعوا له كتاباً في ذلك مثل كتاب جميل وبثينة، وعفراء وعروة، وكثير وعزة، فباعها مولاها لرجل من أهل بغداد، من الهاشميين، فيروى أنه مات حين أخرجت من الكوفة، وأنها لما بلغها موته ماتت أسفاً عليه، فمن شعره فيها عند فراقها: جَدّ الرّحِيلُ، وَحَثّني صَحبي، ... قالوا: الرّحيلُ، فطَيّرُوا لُبّي وَاشتَقتُ شَوْقاً كَادَ يَقتَلَني، ... فالنّفسُ مُشرِفَةٌ عَلى نَحبِ لمْ يَلقَ، يَوْمَ البَينِ، ذو كُلَفٍ ... يَوْماً كمَا لاقَيتُ مِنْ كَرْبي لا صَبرَ لي عِندَ الفِرَاقِ عَلى ... فَقدِ الحَبيبِ وَلَوْعَةِ الحُبّ العاشق البكّاء قال: وحدثني حاتم بن محمد، أخبرني عبد الرحمن بن صالح قال: قيل للنضر بن زياد المهلبي: هل كان عندكم بالبصرة أحد شهر بالعشق، كما شهر من نسمع به من سائر الأمصار؟ قال: نعم! كان عندنا فتىً من (2/280) النساك، له فضل وعلم وأدب، فجعل يذوب ويتغير ويصفر، لا يعرف له خبر، فعاتبه أهله وإخوانه في أمره، وقالوا: لو تداويت وشربت الدواء، فإن العلاج مبارك، وما أنزل الله تعالى داءً إلا وله دواء، فلما أكثروا عليه قال: وَقالَ أُناسٌ لوْ تعالجتَ بالدّوَا، ... فقلتُ: الذي يَخشَى عليّ رَقيبُ تُعالَجُ أدوَاءٌ وَللحبّ لَوْعَةٌ، ... تكادُ لها نَفسُ اللّبيبِ تَذُوبُ وَلَوْ كانَ شُرْبي للهَلِيلَجِ نافِعاً ... من الحُبّ لم تُعكَفْ عليّ كُروبُ بلى! في عِلاجِ الحُبّ أنّ ذنوبَهُ ... حِسانٌ وَإحساني عَليّ ذُنُوبُ وَإن رُمتُ صَبراً أوْ تَسلّيتُ ساعةً ... فَصَبرِي لمَنْ أهوَى عليّ رَقيبُ قال: ثم سكت، فعوتب، فلم يجب بشيء، وكان، بعدما بدا هذا القول منه، لا يكلمه أحد ممن يعرفه في شيء من الأشياء إلا بكى، ولا يستفيق من البكى، فلم يزل على ذلك حتى مات كمداً. قال: فأنا أدركت بعض من كان ينسب إليه من ولده أو ولد ولده ينسبون إلى البكّاء. العاقلة الصابئة لدينها أخبرنا أحمد بن علي السواق، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس عن عبد الله بن إبراهيم الزبيبي، حدثنا محمد بن خلف القاضي، حدثنا إسحق بن منصور، حدثني أبي، حدثني أبو العباس التيمي المؤدب، حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثتني أمي، وكانت من عذرة، عن أبيها أنها سمعته يحدث إخواناً له قال: أحببت جاريةً من العرب، وكانت ذات عقل وأدب، فما زلت أحتال (2/281) في أمرها حتى اجتمعت معها في ليلة مظلمة شديدة السواد، في موضع خال، فحادثتها ساعةً. ثم دعتني نفسي إليها، فقلت: يا هذه! قد طال شوقي إليك، فقالت: وأنا كذلك، فقلت لها: وقد عسر اللقاء. قالت: نحن كذلك. قلت: هذا الليل قد ذهب، والصبح قد قرب. قالت: وهكذا تفنى الشهوات وتنقطع اللذات. قلت لها: لو أدنيتني منك؟ فقالت: هيهات هيهات إني أخاف العقوبة من الله تعالى. قلت لها: فما الذي دعاك إلى الحضور معي في هذا المكان؟ قالت: شقوتي وبلائي، قلت: فمتى أراك؟ قالت: ما أراني أنساك، وأما الاجتماع معك فما أراه يكون. قال: ثم تولت من بين يدي، فاستحييت مما سمعت منها، فرجعت، وقد خرج من قلبي ما كنت أجد من حبها، ثم أنشات أقول: تَوَقّتْ عَذاباً لا يُطاقُ انتَقامُهُ، ... وَلم تَأتِ ما تَخشَى بهِ أن تُعَذَّبَا وَقالت مقالاً كِدتُ من شدّةِ الحيا ... أهِيمُ على وَجهي حَياً وَتَعَجّبَا ألا أُفِّ للحُبّ الذي يُورِثُ العَمى ... وَيُورِدُ ناراً لا تَمَلّ التّوَثّبَا فأقبَلُ عَوْدي فَوْقَ بَدءٍ مُفكّراً، ... وَقد زَالَ عن قَلبي العَمى فتسرّبَا قال: فلم أر امرأةً كانت أصوَن منها لدينها ولا أعقل. حب يدعو إلى التقى أخبرنا أحمد بن علي، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف أنشدني صالح بن يعقوب المديني، وأخبرني أن أباه أخبره بهذا الشعر، وذكر أنه أنشده لامرأة من أهل الأبلة كانت متقشفة، وكان لها حبر من رجل من النساك من أهل الأبلّة، ولم يحفظ الخبر كله صالح، إلا أنه أخبرني بهذا (2/282) الكلام، وأنشدني هذا الشعر: بِنَفسِيَ من يَدعوهُ حبّي إلى التّقى ... وَخَوْفِ عذابِ اللهِ في ساعةِ الحَشْرِ وَيَترُكُ مَا يَهَوى لَهُ وَيَخافُهُ، ... وَيَقنَعُ بالتّذكارِ وَالنّظَرِ الشَّزْرِ وَلَمْ يَزِدِ التّذكارُ إلاّ تَهَيّجاً ... لزَفرَتِهِ بَينَ الجَوانِحِ وَالصّدرِ لَئن قَنعتْ نفسُ المحبّ من الهَوَى ... بهاجِسةِ التذكار أوْ دَمعةٍ تَجرِي وَلمْ تَتَهَيّجْ للمَحَارِمِ، إنّهُ ... لَذو خِيفةٍ للهِ في السرّ والجَهرِ سيد العشاق ومما وجدته بخط أبي عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، حدثنا أبو بكر العامري، حدثني أبو عبد الله القرشي، حدثنا الدمشقي عن الزبير، حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري قال: عشق رجل من ولد سعيد بن العاص جاريةً مغنية بالمدينة، فهام بها دهراً وهو لا يعلمها بذلك، ثم إنه ضجر، فقال: والله لأبوحن لها، فأتاها عشيةً، فلما خرجت إليه، قال لها: بأبي أنت أتغنيني؟: أتَجزُونَ بالوُدّ المُضَاعَفِ مِثلَهُ، ... فأنّ الكَرِيمَ من جزَى الوُدَّ بالوُدّ قالت: نعم! وأغني أحسن منه، ثم غنت: للّذي وَدَّنَا المَوَدّةُ بالضِّع ... فِ، وَفَضلُ البادي به لا يُجازَى لَوْ بَدا مَا بِنَا لَكُمْ مَلأ الأرْ ... ضَ، وَأقطَارَ شَامِها وَالحِجازَا فاتصل ما بينهما بعمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فابتاعها له، وأهداها إليه، فمكثت عنده سنة، ثم ماتت، فبقي مولاها شهراً، أو أقل، (2/283) ثم مات كمداً عليها، فقال أبو السائب المخزومي: حمزة سيد الشهداء وهذا سيد العشاق، فامضوا حتى ننحر على قبره سبعين نحرة، كما كبر النبي، صلى الله عليه وآله، على عمه حمزة سبعين تكبيرة. قال: وبلغ أبا حازم الخبر، فقال: أما من محب في الله يبلغ هذا؛ هذا وليٌّ. موت الأحوص وجاريته بشرة حدث أبو عمر بن حيويه، حدثنا أبو بكر بن المرزبان، حدثني العباس بن الفضل الأسدي، حدثني محمد بن زياد الأعرابي قال: خرج الأحوص بن محمد إلى دمشق، ومعه جارية له يقال لها بشرة، وكان شديد الإعجاب بها، لا يكاد أن يصبر عنها، وكانت هي أيضاً له من المحبة على أكثر من ذلك، فاشتكى الأحوص، واشتدت علته وحضرته الوفاة، فأخذت رأسه فوضعته في حجرها وجعلت تبكي، فقطر من دموعها على خده، فرفع رأسه إليها، فقال: ما لجديدِ المَوْتِ يا بِشر لذّةٌ، ... وَكُلُّ جَديدٍ تُستَلَذّ طَرَائِفُهْ فَلا ضَيرَ، إنّ اللهَ يَا بِشرَ سَاقني ... إلى بَلَدٍ جَاوَرْتُ فِيهِ خَلائِفه فَلَستُ، وَإنْ عَيشٌ تَوَلّى، بِجازِعٍ ... وَلا أنا مِمّا حَمّمَ الموْتَ خائِفُه ثم مات من يومه، فجزعت عليه بشرة جزعاً شديداً ولم تزل تبكي وتندبه إلى أن شهقت شهقةً فماتت، فدفنت إلى جانب قبره. (2/284) أجر الشهادة أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن عطية المكي، حدثنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور القواس الزاهد، حدثنا الحنبلي أبو بكر، حدثني مسبح بن حاتم العكلي، حدثني ابن عائشة قال: كنا على باب عبد الواحد بن زياد، ومعنا أبو نواس، فخرج الشيخ، فقال: سلوا يا فتيان! فسألنا، حتى بقي أبو نواس، فقال: سليمان يا فتى، فقال: وَلَقَدْ كُنَا رَوَينَا ... عَن سَعيدٍ عن قتادَه عن سَعيدِ بن المسيب ... أنّ سَعدَ بنَ عُبادَه قال: مَن ماتَ مُحبَاً ... فَلَهُ أجرُ الشَّهَادَهْ فقال: يا خبيث! والله لا حدثتك حديثاً، وأنا أعرفك. ليلى ومجنونها أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي بقراءتي عليه قلت له: أخبركم أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، أخبرني أبو محمد البلخي، أخبرني عبد العزيز بن صالح عن أبيه عن ابن دأب، حدثني رجل من بني عامر يقال له رياح بن حبيب قال: كان في بني عامر من بني الحريش جارية من أجمل النساء وأحسنهن، لها عقل وأدب، يقال لها ليلى ابنة مهدي بن ربيعة بن الحريش، فبلغ المجنون خبرها، وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صباً بمحادثة النساء، فعمد إلى احسن ثيابه، فلبسها وتهيأ بأحسن هيئة، وركب ناقةً له كريمةً، وأتاها، فلما جلس إليها، وتحدث بين يديها أعجبته، ووقعت بقلبه، فظل يومه يحدثها وتحدثه، حتى أمسى وانصرف إلى أهله، فبات بأطول (2/285) ليلة، حتى إذا أصبح مضى إليها فلم يزل عندها حتى أمسى، ثم انصرف، فبات بأطول ليلة من ليلته الأولى، وجهد أن يغمض، فلم يقدر على ذلك، وأنشأ يقول: نَهارِي نهَارُ النّاسِ، حتى إذا بَدا ... ليَ اللّيلُ هزّتني إلَيكِ المَضَاجِعُ أُقَضّي نهَارِي بالحَديثِ وَبِالمُنى، ... وَيَجمَعُني وَالهَمَّ باللّيلِ جامِعُ وأدام زيارتها، وترك إتيان كل من كان يأتيه فيتحدث إليه بغيرها، وكان يأتيها كل يوم، فلا يزال عندها نهاره أجمع، حتى إذا أمسى انصرف، وإنه خرج ذات يوم، يريد زيارتها، فلما قرب من منزلها لقيته جارية حاسرة عسراء، فتطير من لقائها، فأنشأ يقول: وَكيفَ ترَجّي وَصلَ ليلى، وَقد جَرَى ... بجَدّ القُوى في النّاسِ أعسَرُ حاسِرُ صرِيعُ العَصَا جَذبُ الزّمامِ إذا انتَحى ... لوَصلِ امرِئٍ لم تُقضَ منه الأوَاصرُ ثم صار إليها في غد، فلم يزل عندها، فلما رأت ليلى ذلك منه، وقع في قلبها مثل الذي وقع لها في قلبه، فجاءها يوماً كما كان يجيء، فأقبل يحدثها وجعلت هي تعرض عنه بوجهها، وتقبل على غيره تريد أن تمتحنه، وتعلم ما لها في قلبه، فلما رأى ذلك منها اشتد عليه وجزع، حتى عرف ذلك فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمشيرة إليه فقالت: كِلانَا مُظهِرٌ للنّاسِ بُغضاً، ... وَكُلٌّ عِندَ صَاحبِهِ مَكِينُ فسري عنه، وعلم ما في قلبها، وقالت له: إنما أردت أن أمتحنك، والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأنا معطية الله عهداً إن أنا جالست بعد يومي هذا رجلاً سواك حتى أذوق الموت، إلا أن أكره على ذلك. قال: فانصرف في عشيته وهو أسر الناس بما سمع منها، فأنشأ يقول: أظُنّ هَوَاهَا تَارِكي بمَضَلّةٍ ... من الأرْضِ لا مالٌ لديّ ولا أهلُ (2/286) وَلا أحَدٌ أقضِي إلَيهِ وَصيّتي، ... وَلا وَارِثٌ إلاّ المَطيّةُ وَالرّحلُ محَا حُبُّها حبَّ الأولى كنّ قَبلهَا، ... وَحلّتْ مكاناً لم يكن حُلّ من قبلُ إهدار دم المجنون وزواج ليلى وأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي أيضاً بقراءتي عليه، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف قال: قال أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي إن قيس بن الملوح، وهو مجنون، لما نسب بليلى، وشهر بحبها، اجتمع إليه أهلها، فمنعوه من محادثتها وزيارتها، وتهددوه بالقتل، وكان يأتي امرأة من بني هلال ناكحاً في بني الحريش، وكان زوجها قد مات، وخلف عليها صبية صغاراً، فكان المجنون إذا أراد زيارة ليلى جاء إلى هذه المرأة فأقام عندها وبعث بها إلى ليلى، فعرفت له خبرها وعرفتها خبره، فعلم أهل ليلى بذلك فنهوها أن يدخل قيس إليها، فجاء قيس كعادته، فأخبرته المرأة الخبر وقالت: يا قيس! أنا امرأة غريبة من القوم ومعي صبية، وقد نهوني أن أؤويك، وأنا خائفة أن ألقى منهم مكروهاً، فأحب أن لا تجيء إلي هاهنا، فأنشأ يقول: أجارَتَنا إنّا غَرِيبَانِ هَا هُنَا، ... وَكُلّ غَرِيبٍ للغريبِ نَسيبُ فَلا تَزْجرِيني عنكِ خِيفةَ جاهِلٍ ... إذا قالَ شرّاً أوْ أُخيفَ لَبيبُ قال: وترك الجلوس إلى الهلالية، وكان يترقب غفلات الحي في الليل، فلما كثر ذلك منه خرج أبو ليلى، ومعه نفر من قومه، إلى مروان بن الحكم، فشكوا إليه ما نالهم من قيس، وما قد شهرهم به، وسألوه الكتاب إلى عامله عليهم بمنعه من كلام ليلى، وبخطبه إليهم، فكتب لهم مروان كتاباً إلى عامله (2/287) يأمره فيه أن يحضر قيساً ويتقدم إليه في ترك زيارة ليلى، فإن أصابه أهلها عندهم، فقد أهدر دمه. فلما ورد الكتاب على عامله بعث إلى قيس وأبيه، وأهل بيته، فجمعهم، وقرأ عليهم كتاب مروان، وقال لقيس: اتق الله في نفسك، لا يذهب دمك هدراً، فانصرف قيس وهو يقول: ألا حُجِبتْ لَيلى، وَآلى أمِيرُهَا ... عَليّ يَميناً جاهِداً لا أزُورُهَا وَأوْعَدَني فِيهِمْ رِجَالٌ، أبُوهُمُ ... أبي وَأبوها، خُشّنتْ لي صُدورُها عَلى غَيرِ شيءٍ غَيرَ أني أُحِبّهَا، ... وَأنّ فؤادِي عِندَ لَيلى أسِيرُهَا فلما أيس منها، وعلم أن لا سبيل إليها، صار شبيهاً بالتائه العقل، وأحب الخلوة، وحديث النفس، وتزايد الأمر به، حتى ذهب عقله، ولعب بالحصا والتراب، ولم يكن يعرف شيئاً إلا ذكرها وقول الشعر فيها، وبلغها هي ما صار إليه قيس، فجزعت أيضاً لفراقه وضنيت ضناً شديداً. وإن أهل ليلى خرجوا حجاباً، وهي معهم، حتى إذا كانوا بالطواف رآها رجل من ثقيف وكان غنياً كثير المال، فأعجب بها، على تغيرها وسقمها، فسأل عنها، فأخبر من هي، فأتى أباها، فخطبها إليه وأرغبه في المهر، فزوجه إياها، وبلغ الخبر قيساً، فأنشأ يقول: ألا تِلكَ لَيلى العَامِرِيّةُ أصبَحَتْ ... تَقَطّعُ إلا مِنْ ثَقيفٍ وِصَالُها هُمُ حَبَسوها محبِسَ البُدْنِِ وَابتَغى ... بهَا المَالَ أقوَامٌ تَساحَفَ مَالُها إذا التَفَتَتْ وَالعيسُ صُعْرٌ من البُرَى ... بنَخلةَ خَلّى عبرَةَ العَينِ حَالُهَا (2/288) مات أبوها فتزوجها أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه، حدثنا محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، أخبرني أبو محمد المروزي، حدثني العمري عن لقيط بن بكير المحاربي قال: كان رجل من كلب عاشقاً لابنة عم له، وكانت هي له كذلك، وكان الفتى مقلاً، فخطبها إلى عمه، فأبى وسأله مالاً كثيراً، فلما رأت الجارية شدة أبيها على ابن عمها، أرسلت إليه أن اخرج فاطلب الرزق، ولك علي أن أصبر عامين على أن تحلف لي وتوثق لي أنك إن أصبت مالاً، لا تتزوج إلا أن يبلغك موتي. فحلف لها، وحلفت له، فخرج الفتى، فرزقه الله مالاً، فبلغ الجارية أنه قد تزوج، فكتبت إليه: ألا ليتَ شِعرِي هَل تَغَيّرْتَ بَعدَنَا ... أمَ انتَ على العَهدِ الذي كنتُ أعهَدُ فكتب إليها: عَليكِ بحُسنِ الظنّ يا هِندُ، وَاعلَمي ... بِأنّ وِصَالي، مَا حَيِيتُ، مُجَدَّدُ فكتبت إليه: إنّ الرّجَالَ أُولو غَدْرٍ، وَإن حلَفوا ... وَقَوْلُهُمْ غَرَرٌ، وَالوُدّ مَمذُوقُ فكتب إليها: أمِنتِ مِنْ غَدرِنا ما دُمتِ سالمَةً، ... وَما أضَاءَ لَنا، يا حَمدَةُ، الأفُقُ فكتبت إليه: لَوْ كانَ غَيرُكَ مَا صَدّقتُهُ أبَداً، ... وَأنتَ عِندِي امرُؤ بالصّدقِ مَعرُوفُ فكتب إليها: إنْ كُنتُ عِندَكِ ذا صِدقٍ وَذا ثِقَةٍ، ... فإنّ قَلبي بكُمْ، يا حَمدَ، مَشغُوفُ (2/289) فكتبت إليه: أقبِلْ إلينا وَعَجّلْ ما استَطَعتَ وَلا ... تَمكُثُ، فإنّ أبي قد قارَبَ الأجَلا فكتب إليها: إني إلَيكِ سرِيعٌ، فاعلميه، إذا ... هَلّ الهِلالُ، فَلا تَبغي ليَ العِلَلا فقدم، وقد مات أبوها، فتزوجها. الصابر والشاكر في الجنة وأخبرنا الحسن بن علي المقنعي، حدثنا محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف المحولي، حدثنا محمد بن عمر، حدثنا محمد بن صالح النطاح عن محمد بن أبي رجاء، أخبرني رجل من أهل الكوفة قال: تزوج عمران بن حطان امرأة من الخوارج، وكانت من أجمل النساء، وأحسنهن عقلاً، وكان عمران بن حطان من أسمج الناس وأقبحهم وجهاً، فقالت له يوماً: غني نظرت في أمري وأمرك، فإذا أنا وأنت في الجنة. قال: وكيف؟ قالت: إني أعطيت مثلك فصبرت، وأعطيت مثلي فشكرت، فالصابر والشاكر في الجنة. قال: فمات عنها عمران، فخطبها سويد بن منحوف، فأبت أن تتزوجه، وكان في وجهها خال كان عمران يستحسنه ويقبله، فشدت عليه، فقطعته، وقالت: والله لا ينظر إليه أحد بعد عمران، وما تزوجت حتى ماتت. (2/290) البطة العاشقة ذكر أبو القاسم منصور بن جعفر الصيرفي، حدثني المظفر بن يحيى، حدثنا محمد بن هارون، حدثني أبي قال: اشتريت زوج بط، فقلت: اعلفوه، ثم أخذت يوماً الذكر فذبحته، فجعلت الأنثى تضطرب تحت المكبة، حتى كادت أن تقتل نفسها. فقلت: ارفعوا عنها المكبة، فرفعت، فجاءت فلم تزل تضطرب في داء الذكر حتى ماتت. حلم أبي العتاهية أنبأنا أبو حنيفة الملحمي، وحدثني الخطيب عنه، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا عسل بن ذكوان، حدثنا ذماد عن حماد بن شفيق قال: قال أبو سلمة الغنوي: قلت لأبي العتاهية، ما الذي صرفك عن الغزل إلى قول الزهد؟ قال: إذاً والله أخبرك أني قلت: اللهُ بَيني وَبَينَ مَولاتي ... أهدَتْ ليَ الصّدَّ وَالمَلالاتِ مَنَحتُهَا مَهجَتي وَخالِصَتي، ... فَكَانَ هِجرَانُهَا مُكافَاتي هَيّمَني حُبُّهَا، وَصَيّرَني ... أُحدُوثَةً في جَميعِ جَارَاتي فرأيت في المنام، تلك الليلة، كأن آتياً أتاني فقال: ما أصبت أحداً تدخله بينك وبين عتبة يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله، عز وجل؟ فانتبهت مذعوراً، وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل. (2/291) الصوفي وحيلته للتقبيل أنبأنا التنوخي علي بن المحسن، أخبرنا أبو بكر بن شاذان، حدثني نفطويه، حدثني إدريس بن إدريس قال: حضرت بمصر قوماً من الصوفية، وعندهم غلام أمرد يغنيهم، فغلب على رجل منهم أمره، فلم يدر ما يصنع، فقال: يا هذا! قل لا إله إلا الله! فقال: لا إله إلا الله. فقال: أقبل الفم الذي قال لا إله إلا الله. الرشيد والأعرابي أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو النضر العقيلي، حدثنا حماد بن إسحق عن أبيه إسحق بن إبراهيم الموصلي قال: بينا أنا جالس مع الرشيد على المائدة، إذ دخل الحاجب، فأعلمه أن بالباب أعرابياً عنده نصيحة، فأمر بإحضاره، فلما دخل أمره بالجلوس على المائدة، ففعل، وكان له فصاحة وصباحة، فلما تم الغداء ورفعت المائدة وجيء بالطست، غسل يده، ثم أمر بالشراب، فأحضر، فقال: يا أمير المؤمنين ما حالتي في اللباس؟ فاستملح هارون ذلك من فعله، فأمر بثياب حسنة، فطرحت عليه. وقال له: يا أعرابي من أين جئت؟ قال: من الكوفة. قال: أعربي أم مولى؟ قال: عربي. قال: فما الذي قصد بك إلينا وما نصيحتك؟ قال: قصد بي إليك قلة المال وكثرة العيال؛ وأما نصيحتي، فإني علمت أني لا أصل إليك إلا بها. قال: فأخذ إسحق العود، فغنى صوتاً يشتهيه الرشيد ويطرب عليه، وهو: لَيسَ لي شَافِعٌ إلَي ... كَ سِوَى الدّمعِ يَنفَعُ (2/292) عِشتَ بَعدِي وَمُتُّ قب ... لَكَ، هَلْ فِيكَ مَطمَعُ قِسَمُ الحُبّ خَمسَةٌ، ... صَارَ لي مِنهُ أرْبَعُ فَإلى اللهِ أشتَكي ... كَبِداً لي تَقَطَّعُ فقال الرشيد كالمازح: كيف ترى هذا يا أعرابي؟ قال: بئس، والله، ما غنّى. فغضب من ذلك هارون وصعب عليه. قال إسحق: وسقط في يدي، فقال هارون: ويلك يا أعرابي! هل يكون شيء أحسن من هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! قولي حين أقول: لا وَحُبّيكَ لا أُصَا ... فِحُ بِالدّمعِ مَدْمَعَا مَن بكَى شَجوَهُ استرَا ... حَ وَإنْ كانَ مُوجَعَا كَبِدِي في هَوَاك أس ... قمُ مِنْ أنْ تُقَطَّعَا لمْ تَدَعْ سَوْرَةَ الهَوَى ... للبِلى فيّ مَطمَعَا قال: فاستملح هارون ذلك منه، وأمر إسحق أن يغنيه به شهراً لا يقطعه عنه، وأمر للأعرابي بعشرة آلاف درهم. الفضل بن يحيى يودع أصحابه حدثنا المعافى، حدثنا الصولي محمد بن يحيى، حدثنا أحمد بن يحيى قال: لما خرج الفضل بن يحيى إلى خراسان ودع أصحابه ثم قال: لمّا دنَا البَينُ بَينَ الحَيّ وَاقتَسَمُوا ... حَبلَ الهَوَى، وَهوَ في أيديهم قِطَعُ جادَتْ بأدمُعِها سَلمَى، وَأعجَلَني ... وَشْكُ الفِرَاقِ، فمَا أبكي وَما أدَعُ يا قَلبِ وَيحكَ! لا سَلمى بذي سَلَمٍ، ... وَلا الزّمَانُ الذي قد مَرّ مُرْتَجَعُ (2/293) أكُلَّمَا مَرّ رَكْبٌ لا يُلائِمُهُمْ، ... وَلا يُبَالُونَ أن يَشتاقَ من فَجعُوا عَلّقتْني بهَوىً مِنهُمْ، فقدْ جُعِلَتْ ... مِنَ الفِرَاقِ حَصَاةُ القَلبِ تَنصَدعُ صخر العقيلي وزوجته وابنة عمه ليلى أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف المحولي، حدثنا أبو محمد التميمي عن المدائني عن أبي زكريا العجلاني أن رجلاً من بني عقيل كان يسمى صخراً، وكانت له ابنة عم تدعى ليلى، وكان بينهما ود شديد، وحب مبرح، ولم يكن واحد منهما يفتر عن صاحبه ساعة، ولا يوماً، وكان لهما مكان يلتقيان فيه، ولليلى جارية تبلغ صخراً رسائلها، وتبلغها عنه، وتسعى بينهما، حتى طال ذلك منهما، وكانا يتحدثان في كل ليلة، ثم ينصرفان إلى منازلهما. ثم إن أبا صخر زوج صخراً امرأةً من الأزد وصخر لذلك كاره مخافة أن تصرمه ليلى، فلما بلغ ليلى خبره، قطعته وتركت إتيان المكان الذي كانا يلتقيان فيه، فمرض صخر مرضاً شديداً، وكان قد أفشى سره إلى ابن عم له، وكانوا يقولون: قد سحرته ليلى، لما كان يصنع بنفسه. فكان ابن عمه يحمله إلى ذلك المكان الذي كانا يلتقيان فيه، فلا يزال يبكي على آثارها وعهدها حتى يصبح، وابن عمه يسعفه ثم يرده. وكانت ليلى أشد وجداً به، وحباً له منه لها، فأرسلت جاريتها إليه، وقالت: اذهبي إلى مكاننا، فانظري هل ترين صخراً هنالك، فإذا رأيته فقولي له: تَعْساً لمَنْ لِغَيرِ ذَنبٍ يَصرِمُ، ... قَد كُنتَ يا صَخر زَمَاناً تَزْعُمُ: أنّكَ مَشغُوفٌ بِنَا مُتَيَّمُ، ... فَالحَمدُ للهِ عَلى مَا يُنعِمُ (2/294) لمّا بَدا مِنكَ لَنَا المُجَمجَمُ، ... وَاللهُ رَبّي شَاهدٌ قَد يَعلَمُ أنْ رُبّ خِطبٍ شَأنُهُ يُعَظَّمُ، ... رَدَدتُهُ، وَالأنفُ مِنهُ يُرْغَمُ قال: فانطلقت الجارية، فإذا هي بصخر، فأبلغته قولها، فوجدته كالشن البالي قد هلك حزناً ووجداً. فقال لها: يا حسن أحسني بي فعلاً، وأبيني لي عذراً، وسلي لي غفراً وصلحاً، فوالله ما ملكت أمري، وقولي لها: فهمتُ الذي عيّرْتِ يا خِيرَ مَن مَشَى، ... وَما كانَ عن رَأيي وَما كان عن أمرِي دُعيتُ فلم أفعل، وَزُوّجتُ كارِهاً، ... وَما ليَ ذنبٌ، فاقبلي وَاضِحَ العُذرِ فإنْ كنتُ قَد سُمّيتُ صَخراً، فإنّني ... لأضعفُ عن حَملِ القليلِ من الصّخرِ وَلَستُ، وَرَبِّ البّيتِ، أبغي مُحَدَّثاً ... سِوَاكِ، وَلَوْ عِشنا إلى مُلتَقى الحَشرِ فقالت له حسن: يا صخر! إن كنت تزعم أنك كاره تزويج أبيك إياك فاجعل أمر امرأتك بيدي لأعلم ليلى أنك لها محب ولغيرها قال، وأنك كنت مكرهاً. فقال: لا! ولكن قد جعلت ذلك في يد ابنة عمي. فانصرفت إليها فأخبرتها بما دار بينهما، وقالت: قد جعل الأمر إليك، وما عليه عتب فطلقيها منه. قالت ليلى: هذا قبيح، ولكن عديه الليلة إلى موضع متحدثنا، ثم أطلّق إن جعل أمرها إليك، فإنه لم يكن ليردك بحضرتي. فمضت الجارية، فأخذت موعده، فاجتمعا وتشاكيا، وتعاتبا، ثم قالت له الجارية: اجعل أمر أهلك إلي، فوالله إن ليلى لأفضل بني عقيل نسباً وأكرمهم أباً وحسباً، وإنها لأشد لك حباً، فقال صخر: فأمرها في يدك. قالت: فهي طالق منك ثلاثاً، فأظهرت ليلى من ذلك جزعاً، وأن الذي فعلت جاريتها شق عليها. فتراجعا إلى ما كانا عليه من اللقاء ولم يظهر صخر طلاق (2/295) امرأته حتى قال له أبوه: يا صخر ألا تبني بأهلك؟ قال له: وكيف أبني بها، وقد بانت مني عصمتها في يمين حلفت بها؟ فأعلم أبوه أهل المرأة، وقالت المرأة تهجو ليلى وقومها: ألا أبلِغَا عَنّي عُقَيلاً رِسَالَةً، ... وَمَا لعُقَيلٍ من حَيَاءٍ وَلا فَضلِ نساؤهُمْ شرُّ النّساءِ، وَأنتُمُ ... كذلك، إنّ الفرْعَ يجرِي على الأصلِ أمَا فِيكُمُ حُرٌّ يَغارُ عَلى اختِهِ؛ ... وَما خَيرُ حيّ لا يَغارُ على الأهلِ قال: وهجتها ليلى، وتقاولتا حتى شاع خبرهما، فأجمعوا على تزويج ليلى من صخر، لما انكشف لهم من وجد كل واحد منهما بصاحبه، فزوجوها من صخر، فعاشا على أنعم حال وأحسن مودة. تفي لزوجها بعد موته وأخبرنا الحسن بن علي، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، أخبرني أبو صالح الأزدي عن إبراهيم بن عبد الواحد الزيدي، أخبرني البهلول بن عامر، حدثني سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: كان الحسن بن سابور رجلاً له عقل ودين، فأعجب بفتاة من الحي ذات عقل ودين، قال: فأرسل إليها بهذه الأبيات: فَدَيتُكِ هَل إلى وَصلٍ سَبيلٌ، ... وَهَلْ لكِ في شِفَا بَدَنٍ عَليلِ فعِندَكِ مُنيَتي وَشِفَاءُ سُقمي، ... فداويني، فدَيتُكِ، مِنْ غَليلي فلما وصل الرسول إليها عذلته، وقالت: ما هذا؟ أو يكتب إلى النساء بمثل هذا؟ وكبتت إليه كتاباً تضعف من رأيه وتوبخه وتأمره بالكف عن ذلك، وفيه: ألا يا أيّها النِّضوُ المُعَنّى! ... رُوَيدَكَ في الهَوَى رِفقاً قَليلا (2/296) لَنَا رَبٌّ يُعَذّبُ مَنْ عَصَاهُ ... وَيُسكِنُ ذا التّقى ظِلاَّ ظليلا وكان موسراً، فضمكن لها أنه يدفع إليها ماله. فقالت للرسول: لا حاجة لي في ذلك ولا إليه سبيل. قال: وكيف ذاك؟ قالت: ويحك إني كنت عاهدت ابن عمي إن مات أن لا أتزوج بعده، وذلك أنه نظر إلي يوماً نظرة أنكرتها ودمعت عيناه، وأنشأ يقول: كَأني بالتّرَابِ يُهَالُ طُرّاً ... عَلى بَدَني، وَتَندُبُني نِسَايَا وَأُصبحُ رَهنَ مُوحِشَةٍ دَفِيناً، ... وَبِنتُ، وَقُطّعَتْ مِنكُم عُرَايَا وَيَنسَاني الحَبيبُ لفَقدِ وَجهي، ... وَيُحدِثُ مُؤنِساً أيضاً سِوَايَا قالت: فقلت له: كأنك تعرض بي؟ فقال: ومن في العالم أخشى عليه هذا غيرك؟ قالت: فأجبته، فقلت: ألا طِبْ أيّهَا المَحزُونُ نَفساً، ... فَإنّي لا أخونُكَ في وَدَادِ وَلا أبغي سِوَاكَ مَعي أنِيساً، ... وَلا يَنحاشُ بَعدَكَ لي فُؤادِي قالت: فقال لي: أوَتَفينَ بهذا لي؟ قالت: فقلت: اي والله لا أخونك أبداً، وحاشاك من قولك! فأنشأ يقول: وَإنّي لا أخُونُكَ بَعدَ هَذا، ... وَلم أنقضْ على حَدَثٍ عُهُودي وَلا أبغي سِوَاكِ، الدّهرَ، إنّي ... عَليّ بِذاكَ شَاهِدَةٌ شُهُودي قالت: فرضيت بذلك منه ورضي به مني، فعاجلته أقدار الله تعالى، فصار إليه، وما كنت لأنقض عهده أبداً، فقل لصاحبك أن يقبل على شأنه ويدع ذكر ما لا يتم ولا يكون. قال: فرجعت إليه، فأخبرته ما قالت، وحدثته بالقصة فأمسك عنها. (2/297) أفِقْ أو لا تُفِق ولي من ابتداء قصيدة: أفِقْ من غَرَامِكَ، أوْ لا تُفِقْ، ... فَإنّ الخَليطَ غَداً مُنطَلِقْ وَاطفئْ بدَمعكَ نَارَ الحَشَا، ... إنِ اسَطعتَ، أوْ خَلِّهَا تَحترِقْ وَخُذْ عَن أَخيكَ حَديثَ الهَوَى، ... فَقد ذاقَ مِنهُ الذِي لم تَذُقْ وَإنْ كُنتَ تُنكِرُ فِعْلَ الغَرَا ... مِ بالعاشِقينَ، فَسَلْ مَن عَشِقْ وَقَائِلَةٍ، وَغُرَابُ النّوَى ... بفُرْقَةِ مَا بَينَنَا قَدْ نَعَقْ: تَزَوّدْ، وَلَوْ قُبلَةً، قَبلَ أنْ ... يَنُمّ بِنَا دَمعُكَ المُنهرِقْ وَخُذ أهبَةَ البَينِ قَبلَ الفِرَاقِ، ... فرَهنُكَ في حَيّنا قَد غَلِقْ وَسَارُوا، وَقَد حَصَرُوا بَاخِلِي ... نَ عَلى الجَفنِ بَعدَهُمْ يَنطَبِقْ فَمَا ضَرّ حَادِيَهُمْ، لا سَقَاهُ ... عَلى ظَمَإٍ عارِضٌ، لَوْ رَفِقْ وَقَدْ كنتُ أقنَعُ مِن وَصلِهِمْ، ... بطَيفِ الخَيَالِ، إذا مَا طَرَقْ وَإنْ كانَ في ضَحِكِ العَارِضَي ... نِ بالشّيبِ لي زَاجِرٌ لا يَعُقْ لو صدق الهوى ولي أيضاً من أثناء قصيدة أولها: وَلمّا لمْ أجِدْ ظَهراً مُطِيقاً، ... أحَمّلُهُ اشتِيَاقِي وَالغَرَامَا سَألتُ البَارِقَ النّجديّ يُهدِي ... إلى دارٍ تَحِلّ بهَا السّلامَا (2/298) ومنها: وَلَستُ، وَإنْ تَطاوَلَتِِ اللّيالي، ... بناسٍ قول هند يا أمام أهَذا المُدّعي زُوراً وَإفكاً ... هواناً، ثم ضيّفت اللثاما فَلوْ صَدقَ الهَوى لم يَحيَ يَوْماً ... بإثر البين عنه ولا أقاما (2/299)