تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/مقدمة
مقدمة
الفكر اليوناني قبل الفلسفة
١— العالم اليوناني:
[عدل]أ — كان اليونان يعتقدون أنهم أصيلون في جزيرتهم؛ والحقيقة أنهم جاءوها من آسيا، فهم آريون أو هنديون أوروبيون، وكانوا يدعون سكان بلادهم الأولين بالبلاجيين ويدعون أنفسهم بالهلاَّ نيين، وكانوا أربع قبائل كبرى مختلفة خَلقًا ولهجة: الأيوليون والدوريون في الشمال، والأخيون والأيونيون في بلوبونيسيا (المورة الآن) ولكن هذا التقسيم اضطرب في القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ إذ أغار أهل تساليا على شمال اليونان فهاجر الأيوليون إلى آسيا واحتلوا لسبوس أكبر جزر الشاطئ الآسيوي، واحتلوا هذا الشاطئ من الدردنيل إلى خليج أزمير فسمِّ يت هذه المنطقة أيولية، أما الدوريون فهبطوا المورة وأخضعوا الأخيين، وتهدَّدوا الأيونيين؛ فجلا هؤلاء فريق منهم صعد إلى الأتيك في شمال المورة إلى الشرق وفريق أبحر إلى آسيا فاحتل جزيرتي خيوس وساموس والشاطئ الآسيوي من أزمير إلى نهر مياندر؛ فعرفت هذه المنطقة باسم أيونية وقامت فيها مدن شهيرة؛ أهمها: أزمير (اغتصبوها من الأيوليين) وأفسوس وملطية، ولم يقتصر الدوريون على فتح المورة، بل استعمروا الجزر الممتدة من قيثارة في جنوب المورة إلى رودس عند الشاطئ الآسيوي وقسمًا من هذا الشاطئ إلى جنوب أيونية، وسمي هذا القسم بالدورية.
ب — وفي القرنين الثامن والسابع نشبت حروب أهلية بين الشعب والأشراف انتهت في أثينا واسبرطة بديموقراطية مقيدة نظمها في الأولى دستور سولون، وفي الثانية دستور ليقورغ، أما في غيرهما من المدن فكانت الحظوظ متباينة واضطر المغلوبون للهجرة، ولكنهم لم يذهبوا شرقًا في هذه المرة بل قصدوا إلى مناطق ثلاث: فمنهم من صعد إلى الشمال فحل شواطئ تراقية وخلقيدية؛ أي الروملي الحالية، ومنهم من سافر إلى الغرب فاستعمر إيطاليا الجنوبية (وقد سماها الرومان لذلك اليونان الكبرى) وصقلية، والأندلس، وجنوب فرنسا؛ حيث أنشئوا مرسيليا، ومنهم من يمم الجنوب فنزل قبرس ومصر وشمال أفريقيا، وفي هذا العصر بنى بعض الدوريين مدينتين على ضفتي البوسفور: إحداهما على الضفة الشرقية هي: خلقيدونية (أشقودرة) والأخرى على الضفة الغربية هي: بيزنطية (استانبول).
ج — وكانت هذه المدن والمستعمرات المنتشرة في البحر المتوسط من الشرق إلى الغرب مستقلة في السياسة والإدارة، ولكنها كانت تؤلف عالمًا واحدًا هو العالم اليوناني تجمع بين أجزائه وحدة الجنس واللغة والدين، فكانوا كلهم يعبدون تزوس ويحجون إلى معبده الأكبر في أولمبية بالمورة، كما كانوا يأتون دلف في سفح جبل برناس يستنزلون وحي أبولون ويبعثون بالمندوبين في الأعياد الكبرى يحملونهم التقدمات والقرابين، وكانت تلك الأعياد أزمنة حرمًا توقف فيها الحروب، وتقام الألعاب الرياضية وأسواق الأدب والفن، فينشد الشعراء، ويغني المغنون، ويعرض المصورون والمثالون آياتهم، والمهاجرون يشاركون في كل ذلك فكان هذا الاتصال المستمر بالوطن الأول، وتلاقى الجميع في آجال معينة وتبادل الأفكار والسلع عاملاً قويٍّا في إنضاج الحضارة اليونانية على النحو الذي جعلها فذة في التاريخ، ويرجع الفضل الأكبر فيها للمستعمريين بالإجمال، وللأيونيين منهم بنوع خاص، فإن مخالطتهم للأمم الأجنبية قوت نسلهم، ووسعت مداركهم وحررت عقولهم، وكان الأيونيون أنجب اليونان، جاوروا الأمم الشرقية فانتفعوا بعلومها واصطنعوا وسائل مدنيتها؛ فكانت بلادهم مهد الثقافة اليونانية فيها نظمت القصائد الهوميرية؛ ومنها خرج العلم والفلسفة.
٢ — هوميروس:
[عدل]أ — كان المعتقد إلى سبعين سنة خلت أن شعر هوميروس يمثل طفولة الفكر اليوناني، ومن ثَمة طفولة الإنسانية على تقدير أن تصور هوميروس من السذاجة بحيث يصح اعتباره أول مرحلة من مراحل العقل يحاول فهم الطبيعة وفهم نفسه، ولكن العلماء كشفوا سنة ١٨٧١، وما زالوا يكشفون عن آثار في شبه الجزيرة وفي بعض الجزر، وعلى الخصوص كريت عرفوا منها أن حضارة مادية عظيمة أزهرت في اليونان قبل هوميروس بثمانية قرون هي المذكورة في أساطيرهم، وفي وقائع طروادة إلى أن دمرها الدوريون في إغارتهم المشهورة حوالي سنة ١١٠٠ وأيقنوا أن الحياة التي يصفها الشعر الهوميري بما فيها من غنى وقوة وفن وترف وليدة تطور قديم، على أن أقدم ما وصل إلينا من شواهد الفكر اليوناني الإلياذة والأوذيسيه وهما تنسبان لهوميروس منذ زمن بعيد، إلا أن الشك قديم في حقيقته وفي نسبة القصتين جميعًا لشاعر واحد، ولقد أثبت النقاد المتأخرون أن كليهما مجموعة قصائد لشعراء مختلفين في موضوع واحد مما يحدو للظن أن النسبة أتت من أن هوميروس كان واحد من أولئك الشعراء وكان أشهرهم، أو أنه كان أحدثهم عهدًا؛ حفظها وأنشدها فنسبت إليه باعتباره الجامع لها فإن اسمه يعني «المنسِّق»، ويرد النقاد الإلياذة إلى القرن التاسع، والأوذيسيه إلى آخر هذا القرن التاسع والنصف الأول من القرن الثامن، فإذا حكمنا على هذا العصر بالقصائد الهوميرية وضعناه في مرتبة دنيئة من مراتب الفكر؛ لما نجد فيها من سذاجة في تصور الطبيعة والإنسان، ومن إسراف في تأنيس الآلهة واستهتار بالأخلاق ليس له مثيل.
ب — أما الطبيعة فهي عند هوميروس حية مريدة وقد يكون هذا متابعة للتصور المعبر عنه بالبدائي كما يريد بعض المؤلفين، ولكنه على أي حال مألوف في الشعر إلى أيامنا، فلا غرابة في قوله مثلاً : إن نهر زونتوس استشاط غضبًا؛ لأن أخيل ملأه بالجثث — ولا في تشخيصه الليل والظلمات والموت والنوم والحب والشهوة والعماية — بل لا غرابة في تأليهه الأرض، وقوله: إنها ولدت الجبال الشاهقة والسماء المزدانة بالكواكب، ثم تزوجت من السماء المحيطة بها من كل جانب فولدت أقيانوس والأنهار، وأن أقيانوس المصدر الأول للأشياء، فعندنا أن الأساطير القديمة في جملتها رموز تخفي وراءها مقاصد علمية إذا ترجمناها إلى لغتنا المعهودة بدت واضحة مقبولة، وأخطر من ذلك تصور الآلهة والمبادئ الخلقية، فالآلهة في قمة الأولمب يؤلفون حكومة ملكية على رأسها تزوس ويجيء من بعده سائر الآلهة والإلهات وكلهم في صورة بشرية، إلا أن سائلاً عجيبًا يجري في عروقهم فيكفل لهم الخلود، وهم أقوى من الأبطال وأسرع حركة، يظهرون للناس أو يختفون كما يشاءون، يسكنون قصورًا في السماء فخمة يقضون فيها حياة ناعمة في ربيع مقيم يأكلون ويشربون ويتزاوجون، تجرحهم السهام والرماح فيألمون وينتحبون، وهم حادثون، وجدوا في الزمان، وما يزالون خاضعين لتعاقب الأيام، وهم على مثل هذا النقص من الناحية الخلقية لهم شهواتهم وعصبياتهم، يتفرقون أحزابًا ويتدخلون في منازعات البشر، يؤيد بعضهم اليونان، ويناصر البعض الآخر أهل طروادة، يتشاتمون ويتضاربون، يخونون ويغدرون، لا يرعون من البشر إلا من يتقرب إليهم كيفما كانت أخلاقه، ويذهبون في رعايتهم إلى حد أن يهبوا مختاريهم التوفيق في الخديعة أو المهارة في السرقة، لا يحفلون بعدل أو بظلم إلا فيما ندر، ولا يُعتد كثيرًا بما ورد في الأوذيسيه من إشارات خلقية ومن ذكر عدالة تزوس؛ فإن فيها أيضًا تسليمًا بالقدر يقضي به الآلهة على البشر دون اعتبار لقيمة أفعالهم، بل إن القدر يسخر من الفضيلة ويعبث بالإرادة الصالحة، وأما الإنسان عند هوميروس ومعاصريه من اليونان فمركب من نفس وجسد، والجسد مكون من ماء وتراب ينحل إليهما بعد الموت، والنفس هواء لطيف متحد بالجسد متشكل بشكله ينطلق بالموت شبحًا دقيقًا لا يحسه الأحياء فينزل إلى مملكة الأموات في جوف الأرض وقد احتفظ بالشعور وفقد القدرة على العمل، فهو يألم لذلك ويقضي هناك حياة باهتة تافهة خير منها بألف مرة الحياة على وجه الأرض في ضوء النهار مهما تبلغ من البساطة والفقر، وليس في هذا العالم الآخر ثواب ولا عقاب إلا في النادر يوزعهما الآلهة بمثل ما يوزعون في الحياة الفانية من عدل معكوس فيحابون أصدقاءهم وينكلون بأعدائهم، وليست صداقتهم قائمة على الخير أو عداوتهم مسببة عن الشر.
ج — فنحن هنا في أحط درجات التشبيه وبإزاء أوقح أشكال الاستهتار نرى العاطفة الدينية ضعيفة إلى حد العدم، والمبادئ الخلقية مقلوبة رأسًا على عقب، ونظن السبب راجعًا إلى أن هذا الشعر كان ينشد في بلاط أمراء أيونية، وكان هؤلاء على جانب كبير من الغنى والترف، فلم يكن الشعراء يتغنون بغير ما يروقهم، فيصورون الحياة سهلة جميلة، والشهوة غلابة لا يقفها وازع، والقوة ممدوحة لذاتها لا يحدها حق، غير أن الأوذيسيه أكثر تقديرًا للفضائل؛ فهي بالإجمال تمجد الرجل الحكيم الشجاع الصبور، والزوجة الوفية، والابن البار،