انتقل إلى المحتوى

تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الثاني/المعرفة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​المعرفة​ المؤلف يوسف كرم
أفلاطون


الفصل الثاني

المعرفة

٣١– الجدل الصاعد

أ – لم يكن إيثارُ أفلاطونَ للحوارِ عبثًا أو إرضاءً لنزوعه الأول للقصص التمثيلي، ولكن معاصر السوفسطائيين وتلميذ سقراط تأثر بالجدل واعتقد مع أستاذه أن الحوار بمرحلتيه (٢٦–أ) هو الطريق الوحيد للبحث في الفلسفة، فاصطنع الجدل وتحدى السوفسطائيين؛ فنقل اللفظ من معنى المناقشة المموهة إلى معنى المناقشة المخلصة التي تولد العلم، وهي مناقشة بين اثنين أو أكثر أو مناقشة النفس لنفسها، بل ذهب إلى أبعد من هذا فأطلق اللفظ على العلم الأعلى الذي ليس بعده مناقشة، وحد الجدل بأنه المنهج الذي يرتفع العقل به من المحسوس إلى المعقول لا يستخدم شيئًا حسيًّا، بل ينتقل من معانٍ إلى معانٍ بواسطة معانٍ،1 ثم بأنه العلم الكلي بالمبادئ الأولى والأمور الدائمة يصل إليه العقل بعد العلوم الجزئية، فينزل منه إلى هذه العلوم يربطها بمبادئها، وإلى المحسوسات يفسرها، فالجدل منهج وعلم يجتاز جميع مراتب الوجود من أسفل إلى أعلى وبالعكس،2 ومن حيث هو علم فهو يقابل ما نسميه الآن نظرية المعرفة بمعنى واسع يشمل المنطق والميتافيزيقا جميعًا.

ب – وأفلاطون أول فيلسوف بحث مسألة المعرفة لذاتها، وأفاض فيها من جميع جهاتها، وجد نفسه بين رأيين متعارضين: رأي بروتاغوراس وأقراطيلوس Ao وأمثالها من المرقليطيين الذين يردون المعرفة إلى الإحساس وبزعمونها جزئية متغيرة مثله ، ورأى سقراط الذي يضع المعرفة الحقة في العقل ويجعل موضوعها الماهية المجردة الضرورية . فاستقصى أنواع المعرفة فكانت أربعة : الأول الإحساس وهو إدراك عوارض الأجسام أو أشباحها في اليقظة وصورها في المنام . الثاني الظن وهو الحكم على المحسوسات بما هي كذلك . والثالث الاستدلال وهو علم الاهيات الرياضية المتحققة في المحسوسات . والرابع التعقل وهو إدراك الماهيات المجردة من كل مادة . وهذه الأنواع مترتبة بعضها فوق بعض تتأدى النفس من الواحد إلى الذي يليه بحركة ضرورية إلى أن تطمئن عند الأخير). وإليك البيان : د - الإحساس أول مراحل المعرفة ، ويدعى المرقيطيون أن المعرفة مقصورة عليه وأنه ظاهرة قائمة بذاتها متغيرة أبدا ليس لها جوهي تنتقوم به ولا قوة تصدر عنها ، ولكن لو كان الإحساس كل لمعرفة كما يقولون لاقتصرت المعرفة على الظواهر للتغيرة ولم ندرك ماهيات الأشياء ، ولصح قول بروتاغوراس إن الإنسان مقياس الأشياء و إن ما يظهر لكل فرد فهو عنده على ما يظهر ، 1 ، فأصبحت جميع الآراء صادقة على السواء المتناقض منها والمتضاد ، وامتنع القول أن شيئاً هو كذا أو كذا على الإطلاق ليس فقط في النظريات بل في السياسة والأخلاق والصناعات أيضاً ، فيستحيل العلم والعمل ، ولكنهما ممكنان فالقول مردود ، وهو مردود كذلك من جهة أنه ينكر الفكر كملكة خاصة ، والواقع أن الذاكرة والشعور بالتبعة ينقضان هـذه الدعوى من حيث أن الذكر يعنى دوام الشخص الذي يذكر . ثم إن فينا قرة تدرك موضوعات الحواس على اختلافها وتركبها ما في الإدراك الظاهري فعلم أن هـذا الأصفر حلو ، بينما الحواس لا يدرك كل منها إلا موضوعاً خاصا وتفوته موضوعات سائر الحواس . وليس يكفى لفهم اللغة (1) الجمهورية م 1 ص ٥١٠ - ۱۱ ، - ۸۹ سسی مثلا رؤية ألفاظها أو سماعها ، بل إن الإحساس ينبه قوة في النفس لولاها ما كان فهم أبدا . ومع اشتراك العالم والجاهل في الإحساس فإن العالم وحده يتوقع المستقبل بعلمه ويؤيد المستقبل" توقعه ، مما يدل على وجود قوة تعلم وقوانين ثابتة للأشياء . وهذه القوة تضاهي الإحساسات بعضها ببعض وتصدر عليها أحكاماً مغايرة للحس بالمرة ، فتقول عن صوت وعن لون مثلا إن كلا منهما هو عين نفسه وغير الآخر و إن كلا منهما واحد ، وإنها اثنان ، و إنهما متباينان : جميع هذه العلاقات يحكم بها المركز المركب . والمضاهاة وإدراك العلاقة فعلان متمايزان من الإحساس ، فليس العلم الإحساس ولكنه حكم النفس على الإحـاس ، وبهذا الحكم يمتاز الإنسان على الحيوان الأعجم مع اشتراكهما بالإحساس(۱) . - ولكن الحكم يختلف باختلاف موضوعه ، فإذا كان الموضوع المحسوسات المتغيرة من حيث هي كذلك كان الحكم « ظنا ، أي معرفة غير مربوطة بالعلة فلا يعلم للغير لأن التعليم تبيان الأمور بللها ، ولا يبقى ثابتاً بل يتغير بتغير موضوعه في عوارضه وعلاقاته : انظر إلى الطب والحرب والفنون الجميلة والآلية والسياسة العملية والعلوم الطبيعية تجدها جميعاً متغيرة نسبية لتعلقها بالمادة لا تتناولها المعرفة إلا في حالات وظروف مختلفة . فليس الظن العلم الذي تتوق إليه النفس إذ أنه قد يكون صادقاً وقد يكون كاذبا والعلم صادق بالضرورة . والظن الصادق متمايز من العلم لتمايز موضوعهما ، فإن موضوع الظن الوجود المتغير وموضوع العلم الماهية الدائمة . ثم إن العلم قائم على البرهان ، والظن تخمين والظن الصادق نفحة إلهية أو إلهام لا اكتساب عقلى ، والظن بالإجمال قلق في f النفس يدفعها إلى طلب العلم) (۱) تینیاتوی ص ۱۰۲ و ١٦٠ – ١٦٥ و ١٨٤ - ١٨٦ . (۲) مینون با كلها وبالأخص ص ۹۷ و ۹۸ ، تقیانوس ١٨۷ وما بعدها . الجمهورية نهاية المقالة الخامسة . تیلوس ص ۰۱ . -AY

  • --- وترق النفس درجة أخرى بدراسة الحساب والهندسة والفلك

والموسيقى ، فإن هذه العلوم ولو أنها تبدأ من المحسوسات وتستعين بها إلا أن لها موضوعات متمايزة من المحسوسات ومناهج خاصة : فليس الحساب عد الجزئيات كما يفعل التاجر بل العلم الذي يفحص عن الأعداد أنفسها بصرف النظر عن المعدودات . وليست الهندسة الأرض بل النظر في الأشكال أنفسها . و يمتاز الفناك من رصد السماء بأنه يفسر الظواهر السماوية بحركات دائرية راتبة بينها الملاحظة البحثة لا تقع إلا على حركات غير منتظمة . ويفترق العالم الذي يكشف النسب العددية التي تقوم بها الألمان عن الموسيقي الذي يضبط النغم بالتجربة . فهـذه العلوم تضع أمام الفكر صوراً كلية ونسباً وقوانين تتكرر في الجزئيات ، لذلك يستخدم الفكر الصور المحسوسة في هذه الدرجة من المعرفة ، لكن لا كموضوع بل كواسطة لتنبيه المعاني الكلية المقابلة لها والتي هي موضوعه ، ثم يستغنى عن كل صورة حسية ويتأمل المعانى خالصة . وهو يستغنى عن التجربة كذلك في استدلاله ، و يستخدم المنهج الفرضي الذي يضع المقدمات وضعاً ويستخرج النتائج : مثال ذلك قد تعرض مسألة المهندس أو الفلكي فيقول في نفسه : « أفرض أن حلها بالإيجاب وأنظر ما يلزم من نتائج » أو « أفرض أن حلها بالسلب وأنظر ما يخرج لى ، فإذا وجد أن نتيجة كاذبة تلزم من فرض ما انتقل إلى نقيض هذا الفرض وأخذ به ، ولكن يلاحظ على هذا المنهج أمران : الأول أنه قد يبين كذب فرض ما ، ولا يبين صدق الفرض الذي يقف عنـده إذ قد تخرج نتائج صادقة من مقدمات كاذبة . والثاني أنه يرغم العقل على (۱) و كان غرض الفلكين بيان ما يظهر القراميد من الحركات السيلوية بأشكال هندسية بحيث يمكنهم حساب تلك الحركات وإن كانت تلك الأشكال غير مطابقة لحقيقة الأمور » تلينو : علم الفلك تاريخه عنـد العرب ص ۲۳ - ۰۴۱, انظر أيضا : P, Duhen : Le systeime du monde, 1, p, 103 - ۸۸ -- قبول النتيجة ولا يقنعه لأنه يأخذ المسائل من خلف ولا يستعمل إلا حيث يتعذر النظر المستقيم . ويلاحظ على هذه العلوم أنها لا تكفي أنفسها لأنها تنع مباحثها وضعا ولا تبرهن عليها باستخراجها من مبادئ عليا ، و يمتنع أن يقوم علم كامل حيث لا توجد مبادئ يقينية ، فالرياضيات معرفة وسطى بين غموض الظن ووضوح العلم . هي أرقى من الظن لأنها كلية تستخدم في الفنون والصناعات والعلوم وتعلمها ضروري لكل إنسان ، وهي أدنى من العلم لأنها استدلالية(1) و - والتجربة الحسية والعلوم الرياضية تستحث الفكر على الطراد سيره ، ذلك أنه يحكم عليها بأمور ليست لهـا بالذات وغير متعلقة بمادة أصلا ، كأن يرى الشيء الواحد كبيرا بالإضافة إلى آخر صغيرا بالإضافة إلى ثالث شبيها بآخر أو مضادا أو مبايناً مساوياً أو غير مسلو جميلاً خيراً عادلاً إلى غير ذلك من الصفات المفارقة للأجسام والمتعقلة من غير معاوية الحواس ، فيتساءل عن الكبر والصغر والنشابه والتضاد والتباين والتساوي والجمال والخير والعدالة وما أشبه ذلك كيف حصل عليها وهي ليست محسوسة وهي ضرورية لتركيب الأحكام على المحسوسات ، فيلوح له أنها موجودة في القل قبل الإدراك الحـي" . وهكذا يتدرج الفكر من الإحساس إلى الظن إلى العلم الاستدلالي إلى التعقل المحض مدفوعاً بقوة باطنة « وجدل ساعد ، لأنه في الحقيقة بطلب العلم الكامل الذي يكني نفسه ويصلح أساساً لغيره . ۴۲ - نظرية المثل :

ا - ولأجل المصاعد شرط آخر : فإن المحسوسات على تغيرها تمثل صوراً كلية ثابتـة هي الأجناس والأنواع ، وتتحقق على حسب أعداد وأشكال ثابتة (1) الجمهورية م 7 ص ٢٦ (ج) – ۵۳۲ (ب) . ه المواضع المذكورة وفيدون ص 15 – ٦٦ و ٢٤ - ۷۰ . محمد و مسند كذلك ، فإذا فكرت النفس في هذه الماهيات الثابتة أدركت أولا أن لابد لإطرادها في التجربة من مبـدأ ثابت ، لأن المحسوسات حادثة تكون وتقـد ، وكل ما هو حادث فله علة ثابتة ولا تتداعى الملل إلى غير نهاية . وأدركت ثانياً أن الفرق بعيد بين المحسوسات وماهياتها ، فإن هذه كاملة في العقل من كل وجه والمحسوسات ناقصة تتفاوت في تحقيق الماهية ولا تبلغ أبدا إلى كمالها . وأدركت ثالثا أن هذه الماهيات بهذه المثابة معقولات صرفة كالتي ذكرناها الآن : فيلزم مما تقدم أن الكامل الثابت أول ، وأن الناقص محاكاته وتضاؤله ، وأنه لا يمكن أن يكون المعقول الكامل الثابت قد حصل في النفس بالحواس عن الأجسام الجزئية المتحركة . ويقال مثل ذلك من باب أولى عن المجردات التي لا تتعلق بالمـادة t ( 6 فلا يبقى إلا أن الماهيات جميعاً حاصلة في العقل عن موجودات مجردة ضرورية مثلها لما هو واضح من أن المعرفة شبه المعروف حيا ، فتؤمن النفس بعالم معقول هو مثال العالم المحسوس وأصله ، يدرك بالعقل الصرف ، الماديات متحققة فيه بالذات على نحو تحققها في الحقل مفارقة للعادة بريئة عن الكون والفساد : الإنسان بالذات والعدالة بالذات ، والكبر والصغر والجمال والخير والشجر والفرس بالذات وهلم جرا ، فهي مبادی و « مثـل » الوجود المحسوس والمعرفة جميعاً : ذلك أن الأجسام إنما يتعين كل منها في نوعه « بمشاركة » جزء من المادة في مثال من هذه المثل ، فيتشبه به و يحصل على شيء من كماله ويسمى باسمه ، فالمثال هو الشيء بالذات والجسم شبح للمثال ، والمثال نموذج الجسم أو مثله الأعلى متحققة فيه كمالات النوع إلى أقصى حد ، بينا هي لا تتحقق في الأجسام إلا متفاوتة بحيث إذا أردنا الكلام بدقة لم نسم النار المحسوسة ناراً ، بل قلنا إنها شيء شبيه بالنار بالذات ، وإن الماء المحسوس شيء شبيه بالماء بالذات وهكذا . أما أن المثل مبادئ المعرفة أيضاً فلأن النفس لو لم تكن حاصلة عليها لما عرفت كيف تسمي الأشياء وتحكم عليها . المثل معايبرنا الدائمة يحصل لنا العلم أولا وبالذات بحصول صورها في العقل ، فهى الموضوع الحقيقي للعلم ، وعلة حكمنا على النسبى بالمطاق وعلى الناقص بالكامل وعلى التغير بالوجود (1) الأسئلة كيف عرفنا هذه المثل وليس بيننا وبين العالم للعقول اتصال مباشر فيها تعلم ؟ إن شيئاً من التأمل بدلنا على أننا نستكشفها في النفس بالتفكير ، فحينها تعرض لنا مسألة تقع في حيرة وتشعر بالجهل ثم يتبين لنا « ظن صادق » يتحول

إلى علم بتفكيرنا الخاص أي يجدل باطن أو بالأسئلة المرتبة يلقيها علينا ذو علم . وما علينا إلا أن تجرب الأمر في فتى لم يتلق المنـلسة مجده يجيب عن إجابة محكمة ، ويستخرج من نفسه مبادى هذا العام . فإذا كنا نستطيع أن نستخرج من أنفسنا معارف لم يلقنها لنا أحد ، فلابد أن تكون النفس أكتسبتها في حياة سابقة على الحياة الراهنة (3) . كانت النفس قبل اتصالها بالبدن في صحبة الآلة تشاهد فيا وراء السماء ، موجودات « ليس لها لون ولا شكل » ثم ارتكبت إنما نهبطت إلى البدن ، فهي إذا أدركت أشباح للمثل بالحواس تذكرت المثل" . « فالعلم ذكر والجهل نسيان ، وكما أن الإحساس الحاضر ينبه في الذهن ما اقترن به في الماضي وما يشابهه أو يضاده ، وكما أنا نذكر صديقاً عنـد رؤية رسمه ، فكذلك نذكر الخير بالنيات بمناسبة الخيرات الجزئية ، وللتساوى بالذات والجمال بالذات بمناسبة الأشياء المتساوية أو الجميلة وهكذا ، فما التجربة إلا فرصة ملائمة لعودة المعنى الكلى إلى الذهن ، وما الاستقراء إلا وسيلة لتنبيهه ، أما هو في ذاته فموجود في النفس ومتصور بالعقل الصرف ی

(۱) نيدون والجمهورية في المواضع المذكورة . وفيدون ص ۷۸و۱۰۱۹۹۹ و ۱۰۲ . (۲) مینون ص ۸۰ --- ٨٦ . (۳) فيدروس ص ٢٤٦ وما بعدها ، وفيدون ص ۷۲ وما بعدها . (4) فيدون م ۷۰ و ۰۷۷ ا العالم المعقول مثلنا معه مثل أناس وضعوا في كهف منذ الطفولة وأوثقوا بسلامل ثقيلة ، فلا يستطيعون نهوضاً ولا مشياً ولا تلفتاً ، وأديرت وجوههم إلى داخل الكيف فلا يملكون النظر إلا أمامهم مباشرة ، فيرون على الجدار ضوء نار عظيمة وأشباح أشخاص وأشياء تمر وراءهم ، ولما كانوا لم يروا في حياتهم سوى الأشباح فإنهم يتوهمونها أعياناً . فإذا أطلقنا أحدهم وأدرنا وجهه للنار فجأة فإنه ينبهر و يتحسر على مقامه الظلم و يعتقد أن العلم الحق معرفة الأشباح ثم يفيق من ذهوله وينظر إلى الأشياء في ضوء الليـل الباهت ، أو إلى صورها المنعكسة في الماء حتى تعتاد عيناه ضوء النهار و يستطيع أن ينظر إلى الأشياء د. أنفسها ، ثم إلى الشمس مصدر كل نور , فالكيف هو العالم المحسوس ، و إدراك الأشباح المعرفة الحسية ، والخلاص من الحمود إزاء الأشباح يتم بالجدل ، والأشياء المرئية في الليل أو في الماء الأنواع والأجناس والأشكال أي الأمور الدائمة في هذه الدنيا ، والأشياء الحقيقية المثل ، والنار ضوء الشمس ، والشمس مثال الخير أرفع المثل ومصدر الوجود والكمال . فالفيلسوف الحق الذي عيز بين الأشياء المشاركة ومثلها ، ويجاوز المحسوس المتغير إلى نموذجه الدائم ، ويؤثر الحكمة على الظن ، فيتعلق بالخير بالذات والجمال بالذات هر


t

--- والآن كيف تمت لأفلاطون هذه النظرية ؟ لقد وصل إليها بالتفكير في المذاهب السابقة « فإنه أخذ من أقراطيلوس وهرقليطس أن المحسوسات لتنيرها للتصل لاتصلح أن تكون موضوع علم ، وكان سقراط يطلب الكالي في الخلقيات فاعتقـد أفلاطون أن هذا الكلى لمغايرته المحسوس يجب أن يكون متحققاً في موجودات مغايرة للمحسوسات وأسمى هذه الموجودات مثلا . أما المشاركة فهي (۱) مفتح للقالة الابة في الجمهورية اسم آخر لمسمى وجده عند الفيثاغوريين ؛ فإنهم كانوا يقولون إن الأشياء تحاكي الأعداد أو تشابهها فأبدل هو اللفظ وقال إن الأشياء تشارك في المثل دون أن يبين ماهية هذه المشاركة ، غير أن الفيثاغور بين لم يكونوا يجعلون الأعداد مفارقة وإنما قالوا إن الأشياء أعداد ، ولم يكن سقراط ينصب الماهيات أشياء قأئمة بأنفسها (1) ، ففطن أفلاطون إلى أنه لما كان الكلى يناير المحسوسات من حيث هي كذلك فيجب وضع الكليات فوق الجزئيات ؛ تتحقق له بها موضوع للعلم وعال صورية أونماذج للمحسوسات ، وتحقق له ما كان يرى إليه أنبادوقليس بقوله بالمحبة أو الخير، وأنكساغورس بقوله بالعقل والنظام والكمال ، ثم أخذ عن الفيثاغوربين فكرة حياة سابقة وأحال التوليد السقراطي تذكيراً . فالقارى" يرى كيف تلاقت كل هذه المذاهب في مذهب أفلاطون وتلاءمت فوققت بين المحسوس والمعقول والتغير والوجود . € (۲) 2 ه - ولم يكن افلاطون غافلا عن صعوبات نظريته فقد عاد إليها يمتحنها(٢) فرأى أن المنطق يقضى عليه أن يضع مثـلا للمشابهة والواحد والكثير والجمال والخير وما شاكلها ، ولكنه يقول إنه كثيرا ما تردد في وضع مثل الإنسان والنار والماء . . . وأنه يجد من الغرابة بمكان عظيم أن يكون هناك مثل للشعر والرحل والوسخ ، وما إلى ذلك . من الأشياء الحقيرة ، ثم ينتهى إلى أن هذا التردد إنما يعرض له لأنه يلحظ رأى الناس ولأن الفلسفة لم تستول عليه بعد بالقوة التي يرجو أن تتولى يوما ، وحينئذ فلن يشعر في نفسه احتقارا لشيء . وينتقل إلى للمشاركة ، فيقول إذا كانت أشياء عدة تشترك في مثال واحـد ، فإما أن (۱) ولا أفلاطون في محاوراته الأولى ولكنها فيها مكتسبة بالاستقراء (۲) أرسطو : ما بعد الطبيعة م ا ف ا و م ١٣ ف 4 باختصار (۳) في عاورة بأرمنيدس من ۱۳۰ - ۱۳۲ يوجد المثال كله في كل واحد من هذه الأشياء ، وهذا يعني أن المثال متحقق كله في نفسه ومتحقق كله في كل واحـد من الأشياء أي مفارق لنفسه ، وهذا خلف ، وإما أنه يوجد مقسماً في الأشياء المشاركة فيه وحينئذ يفقد بساطته من جهة ، ويلزم القول من جهة أخرى أن جزء الكبير بالذات ينقلب صغيرا بالنسبة إلى كل الكبير ، وأن كل الصغير بالذات يصبح كي كبيرا بالنسبة إلى جزئه ، أي أن الشيء المشارك يصير على خلاف الشيء المشارك فيه : وهذا خلف كذلك . ثم إن الغاية من نظرية المثل إنما هو وضع جزئيات عدة تحت مثال واحد يقال عليها ، ولكن هذه الوحدة ممتنعة لأنه إذا ساغ لنا أن نضع الكبير بالذات فوق الكبار المتكثرة لتشابهها في هذه الصفة ، فإن نشابه المثال والأشياء الكبيرة يحتم علينا أن نضع لنفس السبب كبيراً آخر فوقها جميعاً . وهكذا إلى غير نهاية . وليس يعنى القول أن المثال تصور في العقل ، وأنه من حيث هو كذلك يمكن أن يقال على كثير من دون أن يفقد شيئاً من وحدته ؛ فإن العقل إنما يتصور بالمثال شيئاً حقيقيا في الماهية المشتركة بين كثيرين ، وهذه الناحية المشتركة في المثال فلم يتغير الموقف ، أما إن قيل إن نسبة الجزئى إلى المثال ليست كنسبة الجزء إلى الكل بل كنسبة الصورة إلى النموذج ، أمكن الإجابة أن النموذج في هذه الحالة يشبه الصورة : فيتمين أن نضع فوقهما نموذجاً آخر يشتركان فيه وهكذا إلى مالا نهاية ... ولكنه يسود فيقول إن هذه المعوبات ليست ممتنعة الحل ، وإنما يتطلب حلها عقلا متازا ؛ أما إذا وقفنا عندها وأنكرنا للمثل فلسنا ندري إلى أين توجه الفكر : أإلى التغير للتصـل فيمتنع العلم ؟ أم إلى الوجود الثابت فيمتنع السلم كذلك ؟ إن المثل « نقط ثابتة » فرق الاخير تفسره وعليها هي يقع العلم . ولكن ... f --- ۳۳ - الجدل النازل : ا - ولكن العلم حكم بأن شيئاً ماهر كذا أو كذا والمثل فاعة بأنفسها فكيف يمكن الحكم عليها ، والحكم يعنى أن شيئا (الموضوع) مشارك في شيء ( المحمول ) ؟ حل المثل منفصلة بعضها عن بعض أم مشاركة كلها في كلها أم بعضها مشارك في بعض دون بعض ؟ الفرض الأول يرجع إلى مذهب بارمنيدس أي إلى السكون التام فيستحيل معـه الحكم ، فإنه إذا لم تكن الحركة مشاركة في الوجود فليس هناك حركة ، وإذا لم يكن المكون مشاركا في الوجود فليس هناك سكون . والعرض الثاني يرجع إلى موقف هرقليطس أى إلى الاختلاط العام والتغير للتمل فيستحيل معه الكم كذلك ، فإننا إذا قبلناه لزم منه أن الكون في حركة ، وأنه الحركة في سكون ، يبقى الفرض الثالث وهو الصحيح ، والجدل هو الذي يتبين ملاحة المثل بعضها البعض ، وهو رأس العلوم يجعل العلم تمكنا لأنه يرى المثل مترتبة في أنواع وأجناس أي يرى بعضها مرتبطاً بالبعض بواسطة مثل أعلى وأعم ، وهذه مرتبطة كذلك بمثل أعلى وأعم وهكذا إلى مثال أول قائم فوقها جميعاً الخير بالذات ، ويرى مبادي العلوم مترتبة من الأخص إلى الأعم حتى يصل إلى مبدأين أساسيين هما مبدأ عدم التناقض ومبدأ العملية ، الأول قانون الفكر بين بنفسه لا يقام عليه برهان ولا اعتراض و يقوى استمساكنا به إذا نظرنا إلى ما يترتب على إنكاره من نتائج هي النتائج التي ينتمي إليها بروتاغوراس وأشرابه ، ومبدأ العلية قانون التغير وهو على شكلين : مبدأ العلة الفاعلية والعلة الغالية . ويضع الجدل هذه العلاقات في أحكام . فالحكم الذي يعني أن الشيء هو هو . وفي آن واحد شيء آخر ( المحمول ) يعنى أن المثال الواحد يشارك في مثال آخر هو ه ( وفى غيره ) مع بقائه هو هو ، و ، والعلم استقصاء هذه المشاركات بين المثل ، فإن ۹۵--- أضاف مثالاً لثال مشارك فيه كان صادقاً ، و إن ألف مثالين ليس بينهما مشاركة كان كاذبا(1) . ب - كيف يمكن الحكم الكاذب أو الخطأ ؟ إن الحكم الكاذب يعبر عما ليس موجودا واللاوجود غير موجود ، فلا يمكن أن يكون موضوع فكر أو إحساس أو قول ، كيف يمكن أن تتصور النفس ( بالمحمول ) غير ما تتصور ( بالموضوع ) فلا تعلم ما تعلم أو تسلم ما لا تعلم ؟ شغلت المسألة أفلاطون فعالجها في « تيتياتوس » وعاد إليها في « السوفسطائي » . قال في المحاورة الأولى : ينشأ الخطأ عندما تحاول أن نوفق بين إحساس ومعنى سابق محفوظ في النفس ، كما إذا رأيت سقراط فأضفت هذه الرؤية إلى صورة تيودورس و بالعكس ، فليس الخطأ معرفة كاذبة بل ذكرا كاذبا وتناقرأ بين المعرفة الحسية والعرفة التذكرية . ولكن ما القول إذا كان الطرفان فكرتين مثل أن 5 + ۷ = 11 ؟ النفس تخطىء في اختيار أحد الطرفين من بين المعاني المحفوظة كما يخطىء الذي يتناول يمامة من ققص وهو يطلب حمامة . ولكن أليس هذا عودا إلى الصعوبة الأولى وهي أن النفس تعلم مالا تعلم أو لا تعلم ما تعلم ؟ وينتهى الحوار من غير حل ولا يحل الإشكال إلا في « السوفسطانى ، فيهتدى أفلاطون إلى أن اللاوجود قد یعنی ما هو نقيض الوجود وما هو لا وجود ما ، وأن اللاوجود في الحكم هو من النوع الثاني ؛ فحينما نتحدث عن اللاكبير نقصد الصغير أو المساوي ، أي قصد وجودا ه الكبير ؛ فالخطأ تفصيل أو تركيب حيث لا ينبغي بين أطراف وجودية ، وفى الخطأ يقع الفكر على وجود هو غير الوجود المقصود و يعلم وقد كان لهذا التمييز بين معنى اللاوجود شأن كبير فإنه مهد هو غير نوعا من العلم السبيل لقول أرسطو إن الوجود يطلق على أنحاء عدة ولحل إشكالات ارمنيدس (۱) بارمنيدس والـوفسطائي في مواضع مختلفة -- فیلون می ۱۰۳ - ۱۰۰ . ، ه - كيف يستكشف الجدل العلاقات بين المثل ليؤلفهـا في أحكام ؟ و بعبارة أخرى كيف يرتب لمثل في أجناس وأنواع فيتصور السالم المعقول على حقيقته ؟ بالنزول من أرفع المثل إلى أدناها وهذا هو الجدل النازل ، ووسيلته القسمة ، فإن قسمة الجنس ممكنة بخاصيات نوعية تنضاف إليه فتضيق ما صدقه ، وتجعل فيه أقساماً مختلفة لها أسماء مختلفة وتشترك مع ذلك في واحد) . وللقسسة قواعد تتبع ومخاطر تجتنب : يجب أن تطابق طبيعة الشيء فلا تقسم إلا حيث تقتضى الطبيعة القسمة كما يجزأ الحيوان في مفاصله من غير تهشيم ، و يجب أن تكون تامة فتستخرج من الجنس نوعين أو ثلاثة ومن كل منهما صنفين أو ثلاثة حتى تنتهى إلى البسائط . أما ما يتحرز منه فهو اعتبار المركب بسيطاً والعرضي جوهريا . والقسمة المثلى هي الثنائية كأن تقول : السياسة علم والعلم نظرى وعملى والسياسة تدخل في الطائفة الأولى ، والعلم النظرى على يأمر وعلم يقرر والسياسة تدخل في الطائفة الأولى وهكذا حتى يتعين معنى السياسة (1) ) أركان تحاول تعريف السوفسطائي فنمضى من قسمة إلى أخرى حتى تبلغ إلى التعريف الذي لا ينطبق إلا عليه " . فالقسمة تبدأ اللامين وتتدرج إلى التعيين أي أنها تتأدى من وحدة الجنس الى كثرة الأنواع ومن وحدة للبدأ إلى كثرة النتائج ، فالجدل النازل منهج مكمل للجدل الصاعد وهو آمن منه وأكفل باستيعاب الأقسام جميعاً . (۲) (1) الجمهورية م ٤٣٧ . (۲) السامي ص ۲۰۸ - ٢٦٧ . (3) السوفسطال می ۲۱۸ - ۷۳۱ -

و - هذا إيجاز لأبحاث أفلاطون في العرفة فيها منطق وفيها ميتافيزيقا كما قلنا : أخذ الحد والاستقراء عن سقراط وتعمق في تفسير الحكم ولكنه أقامه على ۹۷ --- مشاركة للثل بعضها في بعض وهي أغمض من مشاركة المحسوسات في المثل ، واقترب من القياس بالقسمة الثنائية ؛ فإنها عبارة عن وضع علاقة بين طرفين بواسطة طرف ثالث علاقته بهما معلومة ، ولكنها لا تشبه القياس إلا من بعيد كما سيمين أرسطو ( ٥٠ ه ) ، ونظر في أصول المعرفة نظراً دقيقاً عديقا و بلغ إلى عالم معقول هو أساس المعرفة والوجود المحسوس ، فكان وضعه المثل جواهر قائمة بأنفسها توكيداً لهذا الوجود الأعلى نفت به الإنسانية بقوة إلى الفرق بين الجزئى والكلي والمحسوس والمعقول فلن تنسى الإنسانية هذا الفرق ، غير أنه في أواخر أيامه وفي دروسه الشفوية مال من سقراط إلى الفيثاغورية فاستبدل الأعداد بالمثل وتابعه تلاميذه الأولون حتى قال أرسطو مؤرخ هذه المرحلة الأخيرة : « لقد أصبحت الرياضيات عند فلاسفة العصر الحاضر كل الفلسفة ولو أنهم يقولون أنها انما تدرس لأجل الباقى ) ، فكانه في محاولته البلوغ إلى المعقولية التامة أراد أن يلغى المـادة الكثيفة المستعصية على التجريد والتعقل وأن يرد الوجود كله إعداداً و نسبأ عددية فيلني الظن من المعرفة ولا يستبقى غير العلم في شكله الرياضي ، وسيظل هـذا الهدف مطمح أنظار كثيرين من المفكرين يكن أن تذكر منهم ديكارت لندل على شدة جاذبية هذه الوجهة . (1) ما بعد الطبيعة ما في ۹ ص ۹۹۲ ۴ ۱ - ۳۳--- ٣٥ ، وانظر أيضاً عن هذه للرحلة الأخيرة الغالين 13 و 14 من الكتاب الذكور ( -- فلسفة )


  1. الجمهورية ص٥١١ (ب).
  2. الجمهورية ص٥٣٣ (ج).