انتقل إلى المحتوى

تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الثاني/السياسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الخامس

السياسة

٤٠ – المدينة الفاضلة

أ – السياسة عند أفلاطون العدالة في المدينة، كما أن الفضيلة العدالة في الفرد؛ لذلك يفتتح القول في «الجمهورية» بالرد على السوفسطائيين والبرهنة على أن العدالة قائمة على الطبيعة لا على العرف، وغرضه أن يبني مدينته على أساس من العدالة متين، ثم ينظر في الاجتماع فيقرر أنه ظاهرة طبيعية ناشئة من تعدد حاجات الفرد وعجزه عن قضائها وحده، تألف الناس أولًا جماعات صغيرة تعاونت على توفير المأكل والمسكن والملبس، ثم تزايد العدد حتى ألفوا مدينة، فلم تستطع أن تكفي نفسها بنفسها، فلجأت للتجارة والملاحة، هذه المدينة الأولى مدينة الفطرة، مثال البراءة السعيدة، ليس لها من حاجات إلا الضرورية وهي قليلة ترضيها بلا عناء، يقنع أهلها بالشعير والقمح والخضر والثمار والخمر الخفيفة فيعيشون عيشة سليمة ويعمرون، لا يعرفون الفاقة ولا الحرب. ولكن هذا العصر الذهبي انقضى يوم فطن الناس إلى جمال الترف والفن فنبتت فيهم حاجات جديدة واستحدثوا صناعاتٍ لإرضائها، وضاقت الأرض بمن عليها، فنشبت الحروب وتألفت الجيوش، هذه المدينة الثانية هي المدينة المتحضرة وهي عسكرية، فعلى أية صورة نبني مدينتنا لنحقق فيها العدالة؟ يجب أن نشخص بأبصارنا إلى «المدينة بالذات»: نجد أن بينها وبين النفس شبهًا قويًّا، فإن للمدينة ثلاث وظائف: الإدارة والدفاع والإنتاج، تقابل قوى النفس الثلاث: الناطقة والغضبية -- ١٢٥ والشهوانية . وهذه الوظائف متباينة ، فلا يمكن أن تتركب المدينة من أفراد متساوين متشابهين ، و إنما يجب أن تتركب من طبقات متفاوتة لكل منها وظيفة وكفاية خاصة لهذه الوظيفة ، وأن يؤلف مجموعها وحدة تشبه وحدة النفس في قواها الثلاث ، فترتب الطبقات فيما بينها كترتب القوى النفسية والفضائل الخلقية و إلا توزعت الجهود و بذلت اتفاقاً وفات الناس الغرض من الاجتماع ، هذه الطبقات الثلاث هي : الحكام والجند والشعب . والطبقتان الأولى والثانية حراس المدينة ، فكيف تحصل على حراس أشداء فضلاء ؟(۱) . - يجب على الذين يتولون بناء المجتمع المنشود أن يميزوا من بين الأحداث أصحاب الاستعداد الحربي ، فيفعلوهم طائفة مستقلة ويتعهدوهم بالتربية . عليهم أن يرتبوا لهم رياضة بدنيــة تنشئهم أصحاء أقوياء . وعليهم أن يغذوا نفوسهم بالآداب والفنون ، فتكون التربية واحدة للجميع إلى حوالي الثامنة عشرة ، وتكون سهلة لذيذة لأن الإكراه لا يكون الرجال الأحرار ، وتكون فاضلة : تبدأ بالقصص الجدية البريئة الحالة على الخير ، وتستبعد منها قصص هوميروس نحا نحوهم من الشعراء ، فإنها مرذولة من حيث للادة وهزيرة ومن حيث الصورة . أما من حيث المادة فقد سممت عقول اليونان وأفسدت ضمائرهم بما تروى عن الآلهة والأبطال من أخبار الخصومات وقبيح الأفعال ، و بما لا تفتاً تردده من أن الرجل العادل يعمل الخير غيره وشقاء نفسه ، و بما تصف من هول الموت وتفاهة الحياة الأخرى مما يوهن العزيمة ، و يقعد عن الجهاد في سبيل الوطن . وأما من حيث الصورة فإن الفن يقوم بالمحاكاة و يخلق المحاكاة ، والشعر بألفاظه وأوزانه يحاكى كل شيء ؛ : القوى الطبيعية والحيوانات والبشر والنزعات الرفيعة والشهوات الدنيئة ، فيبعث في النفس مثل ما يصف من العواطف والأفعال ، ومن (1) الجمهورية م ٢ ص ٣٦٩ ( ب ) وما بعدها . 6 والمحاكاة المتصلة تصير عادة ، فتلقين الحراس القصص القديمة يفسـد طبيعتهم . فنحن مع إعجابنا بمحاسن هذا الشعر تنعته بأنه مسلم وهم ، وتعمد إلى صاحبه فتضع إكليلا على رأسه ونشيعه إلى حدود المدينة فتنفيه منها ونحن نترنم بمدينه . ولا تستبقى غير الشاعر عف اللسان سديد الرأى هادى" النسق يحاكي الخير ليس إلا (1) . { وينتقل أفلاطون من الشعر الهوميري إلى الفن بالإجمال" ويتحامل عليه ويتعسف في نقده ، فهو لا يرى الفن شيئا أولا له قيمة في ذاته ، واسكنه يضعه في المرتبة الثالثة بعد المثال أو الوجود الحق ، و بعد صورته المحسوسة المتحققة في الطبيعة ، فإن الفن يحاكي الوجود الطبيعي ، وهـذا الوجود يحاكي المثال ، فالفن صورة الصورة وشبح الشبح : يصنع النجار السرير محاكياً مثال السرير و يصور المصور سرير النجار ، فهو ليس حاصلاً على العلم الحق الذي موضوعه المثال أو الشيء بالذات ولا على الظن الصادق ، وإنما هو جاهل مخادع يأخذ على قـه محاكاة الأشياء الطبيعية فيبرزها مشوهة في غير نسبها الحقيقية من حيث المقدار والشكل ، ولكنه لا يخدع إلا عن بعد ، ولا يخدع إلا الجهلاء . كذلك قل في الشاعر ، فإنه لو كان يعلم حقا ما يتظاهر بعلمه لكان يعمل بدل أن يقول .. لكان يقود الجيوش أو يشرع القوانين ، وهوميروس لم يفعل شيئاً من ذلك ا ولكان يؤثر أن يحيا حياة مجيدة ، وهوميروس ارتضى لنفسه أن يكون قصاصاً للحياة المجيدة وراوية . فالفن بالإجمال أداة إيهام وتخييل ، والشـعر دجل كالتصوير إذا نزعت عنه . والتوقيع بدا شاحباً فقيراً ، وهو يستطيب وصف العواطف وهي منقلبة متنوعة ، ولا يجد له موضوعا في العقل الثابت الهادئ (1) الجمهورية م ۲ و ۳ . ا & ۱۲۷ فيهيج العواطف و يشل المقل ، مثله مثل طاغية يقلد الساطة للأشرار ، ويضطهد الأخيار ، فإنه يوحى العطف على أفعال وانفعالات رديئة ، ويضعف إشرافنا على الجزء الشهري من النفس فيحرك فينا البكاء تارة والضحك طورا ، ويدفعنا ونحن | نشهد التمثيل إلى استحسان ما تفكر في الحياة الحقيقية و إلى التصفيق لا تذب له في الواقع . والتراجيديون لا يرمون اغير إحراز إعجاب الجمهور ، والجمهور لا يميل الأشخاص الحكماء الرزينين ؛ بل يطلب أشخاصاً شهريين متقلبين علأ تقلباتهم وشهواتهم القصة فيلهو بها ويميل معها إلى كل جانب ، وأما الكوميديا فهي رديئة بالذات تضحك من إخواننا في الإنسانية ، وتنمي حاجة المزاح والسخرية ، و إذن فعلى الشارع أن يراقب جميع مظاهر الفن وجميع الفنانين من شعراء ومغنين وممثلين ومصورين وغيرهم ، فيخلق بيئة كلها جمال سليم رزين ، وينشى مواطنين كاملين يتوجهون إلى الفضائل عفوا ، ويصون نفوسهم من كل خدش ؛ إذ ليست الغاية من الفن توفير اللذة بل التهذيب والتطهير . t ولا شك أن وضع أفلاطون الفن في المرتبة الثالثة بعد المثال وشبحه المحسوس تحامل وتصف ، وكان المعقول أن يساوى بين الفنانين والصناع فيعترف للأولين أنهم يحاكون المثل مباشرة كما يحاكيها الآخرون ، ولكنها حماسة الحرب دفعته إلى المغالاة ، والغيرة الحارة على الخير نبهته إلى مخاطر الفن ، فراح يمتهنه و يذله وهو الفنان العظيم . وعلى أي حال لم يكن في وسع أفلاطون أن يتابع القائلين بالفن لأجل الفن بعد أن ميز بين الخير والشر ونصب الطهارة مثلاً أعلى للإنسان وهو يعلن أن المسألة مسألة العدالة ، وأن الواجب إيثار العدالة على كل شيء . وإنما شدد النكير على الشعر الهوميرى لأن هذا الشعر كان قوة هائلة يأخذ عنه اليونان جيلا بعد جيل حكمة الحيلة في الأخلاق والدين والسياسة والحرب والصناعات ؛ فكان خطره عظياً وسحره فالاً . وكما أن أفلاطون حارب السوفسطائيين وعارض بيانهم بالفلسفة ؛ فقد أراد أن يخضع لها الفن أيضاً و يقيده بحدودها . - لنعد إلى منهج التربية وبناء المدينة 41 - الحكومة المثلى: شأنه أن . ا ا -. وعنـد الثامنة عشرة ينقطع الحراس عن الدرس و يزاولون الرياضات البدنية والتمرينات العسكرية ، فإذا ما بانوا العشرين فصل الأجدرون منهم طائفة على حدة يعكفون على دراسة الحساب والهندسة والفلك والموسيقى ، وهى العلوم التي تستغنى عن التجربة وتستخدم البرهان ؛ فتنبه الروح الفلسفي وواضح أنهم لا يستطيعون ، مع ما لهم من المقام الرفيع وما عليهم من التكاليف العديدة ، أن يسعوا لتحصيل معاشهم ، فيجب أن نوفره لهم ومحن بهذا التوفير نهى لهم الفراغ اللازم لاستكمال تهذيبهم ، ونبعد عنهم كل ما من . نه يقربهم بأن يحولوا وظيفتهم إلى تسلط واستمتاع فينقلبون أسياداً وطغاة ، ونحن نريدهم حراساً ليس غير . لذلك يعيشون معاً ويأكلون معا ، يقدم لهم الشعب مؤونتهم فلا يحتاجون الذهب ولا فضة فيحظر عليهم اقتناء أي شيء منهما ، سواء أكان نقوداً أو آنية أو حليا ، ويحظر عليهم التصرف بشيء من ذلك : بل رؤيتـه إن أمكن ، إذ أن الحكم خدمة لا استقلال ، والحراس لأجل المدينة وليست للدينة لأجل الحراس . يحمد هؤلاء للشعب إطعامه إياهم ، ويحمد الشعب لهم حراستهم إياه فينتنى الحسد والنزاع. .- فيرى القاري" أن ما يضاف عادة لأفلاطون من اشتراكية وشيوعية ، إنما هو قاصر على طبقة الحراس ، ولهم عنده وظيفتان : الإدارة والدفاع ، أما الإنتاج و به تتم للمدينة وظائفها الثلاث فتر وك للشعب من زراع وصناع وتجار يتملكون مصادره وآلاته تملكاً شخصيا ، ويستغلونها (1) الجمهورية م 3 ، وبالأخصى ص ٤١٠ ( د ) - ٤١٧ ( ب ) . ( - ۱۲۸

  • و يتاجرون بنتاجها كما يرون على شرط أن يؤدوا لمن فوقهم الضريبة الواجبة ،

وأن تحصر الملكية في حدود سقولة ؛ بحيث لا يثرى الشعب فيتهاون في العمل أو يتركه ، ولا تسوء حاله فيعوزه المـال الصناعة والتجارة ، ولا يثرى البعض دون البعض فينقسم طائفتين متنابذتين : الأغنياء والفقراء ، وهذا الانقسام آفة الدول غير المنظمة تنظيا عقليا . وليس تحريم الملك على الحراس تشريعاً اقتصاديا ولكنه تدبير سياسي يرى إلى الفضل بين السلطة التنفيذية والمال ، لكيلا ا { { تقد به ، ويقوم الصراع في نفوس الحراس بين الواجب العام والمنفعة الذاتية . ب ـ والحراس ذكور وأناث على السواء يسرى عليهم جميعاً نفس النظام . نعم إن المرأة أضعف من الرجل ونحن لا نغضى عن هذا التفاوت ، إلا أنها مهيأة لنفس الوظائف ، فقد تصلح للطب أو الموسيقى أو الرياضة أو الحرب أو الفلسفة كما تصلح للأعمال للغزلية ، فليس ما يمنع من تكاليف النساء الحراسة إذا ساوين الرجال في الكفاية لها ، فإن الأصل في الوظيفة انها لخير المجموع وأنها تقلد الكفء دون أي اعتبار آخر ، وإذن فنحن نكلف المرأة ذات الاستعداد كل أعمال الحراس تقوم بها متشحة فضيلتها ، وندع الحمقى يضحكون . والغاية من أخذ النساء . بهذه التربيـة أن نوفر للدولة نساء ممتازات إلى جانب الرجال المتازين ينجب منهم نسل ممتاز ، فصلحة الدولة هي التي تقتضى ذلك وتتطلب منا التغاضي عن العرف ومعارضته . وكما أنا انتزعنا من نفوس الحراس شهوات الحياة المادية وشواغلها ، فإذا تنتزع منها أيضاً عواطف الأسرة وشواغلها ، فيحظر على الحراس ا ا أن تكون لهم أسرة ويكونون جميعاً للجميع لكن لا اتفاقاً : بل يقيم الحكام ، كل سنة ، في أحسن الأوقات وأسعد الطوالع ، حفلات دينية يجمعون فيها الحراس من الجنسين و يوهمونهم أن اقترانهم سيكون بالقرعة ، تفادياً من التحاسد والتخاصم ، والحكام يقصدون في الحقيقة أن يعقدوا لكل كفء على كفته ، فيعتدون ر ( 4 - فلينة ) زواجاً رسميا ، ولكنه مؤقت الغرض منه الإنسال على قدر حاجة الدولة وتحسين النسل بمقتضى القواعد المرعيـة في الحيوان . ويوضع الأطفال في مكان مشترك يعني بهم فيه أناس خصيصون ، وتأتى الأمهات يرضعنهم دون أن يعرفنهم ، فلا يوجد بين الحراس قراية معروفة ، ولكنهم جميعاً أسرة واحدة يعتبر بعضهم بعضاً قريباً ، ويعامل بعضهم بعضاً على هذا الاعتبار ، فيتسع مجال التعاطف والتحاب . هذا والأسرة مباحة للشعب مع شيء من المراقبة لمنع الزيادة البلاغة في عدد السكان فإن ولد للشعب أو الحراس أطفال في غير الزمن المحدد أعدموا كما يعلم الطفل ناقص التركيب ، والولد فاسد الأخلاق ، والضعيف عديم النفع ، والمريض الذي لا يرحي له شفاء ، لأن الغاية هي أن يبقى عدد السكان في المستوى الذي يكفل سعادة المدينة ، وأن يحتفظ بقيمتهم البدنية والخلقية(1) .

ح - و إذا ما بلغ الحراس الثلاثين يميز من بينهم أهل الكفاية الفلسفية رجالا ونساء ، الذين يتوفر فيهم محبة الحق وشرف النفس وضعف الشهوة وسهولة الحفظ . واجتماع هذه الصفات نادر وتأليفها بالقدر اللازم عسير فالحراس الفلاسفة أقلية . يقضون خمس سنين في دراسة الفلسفة والاران على المناهج العلمية ليجيدوا فهم الحقيقة والدفاع عنها ، ثم يزج بهم في الحياة العامة و يعهد إليهم بالوظائف الحربية والإدارية إلى من الحسين ، فالذين يمتازون في العمل كما قد امتازوا في النظر يرقون إلى مرتبة الحكام ويدعون الحراس الكاماين ، فهم خلاصة الخلاصة قد زال من نفوسهم في هذه السن الطمع وما زال النشاط ، فيعيشون فلاسفة متوفرين على تأمل المعقولات الصرفة والخير المطلق ، و يتناوبون الحكم يزاوله كل بدوره ( وهذه هي الموناركية أي حكم الفرد العادل ) أو جماعة جماعة ( وهذه هي الأرستقراطية أي حكم الطائفة العادلة ) على حد سواء ما داموا محافظين على (1) الجمهورية م ه . المبادئ . وإنما يريد الحكام فلاسفة لأن التربية الأولى خلقت في الحراس ظنوناً صادقة وعواطف طيبة ، مستعينة بالطبع والتطبع لا بالعلم ، فيمكن أن تضعف الظنون بالنسيان وأن تلين المواطف للخوف أو للاغراء ، فلابد أن يكون الحكام فلاسفة يعلمون الخير و يريدونه إرادة صادقة , والفيلسوف هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يتصور القوانين العادلة تصوراً علميا وأن يلقنها الآخرين بأصولها و براهينها فتدوم في المدينة ، بينا تصور السياسيين العمليين ، إن أصاب ، فهو ظنى لا ينقل للغير فيقبر معهم . وعلى ذلك فالفلسفة هي الوسيلة الوحيدة لوضع سياسة محكمة مستديمة ، و يجب تحضير أذهان الجمهور لهـذا الانقلاب ، والجمهور ميال لاعتقاد أن الفلسفة عديمة النفع المدنية ، ولكن متى استخدمت فلم تفاح السوفسطائيون الذين وضعوا الفلسفة موضع سخرية بمغالطتهم ومخاتلتهم ، وساعد على الاستخفاف بها أن كثيراً ما يتصدى لها الجهلاء الأدعياء ، وأن الشبان يلجونها قبل الأوان و يتركونها قبل الأوان كأنها فترة انتقال بين زمن التحصيل والحياة العملية ، ويعتبرونها حلية يحسن أن يتحلوا بها لكن على أن تكون خفيفة سريعة . وقد قلنا إنه لا ينبغي الاشتغال بها قبل الثلاثين ، وإنه يجب التهيؤ لهـا بالفضيلة التي تخلص النفس من الشهوات وتعدها لقبول الحق ، فإن الحق لا ينكشف للنفس تطلبه وهى منقسمة على نفسها بل للنفس المخاصة تتوجه إليه بكليتها . فلنعمل على علاج هذه الحال لعل الشعب يدرك يوما أن الفلاسفة أصلح الناس لإقامة شيء من النظام الإلهي على هذه الأرض ، أو لعله يولد للملوك أبناء ذوو استعداد للفلسفة يحتفظون بهذا الاستعداد حتى إذا ما آل إليهم السلطان أسلوه للفلاسفة فيتم إنشاء المدينة المثلى على أسرع الوجوه وأيسرها . وتدوم المدينة المثلى مادام الحكام معنيين بالأطفال مستبقين طبقة الحراس في المستوى اللائق ، ينزلون إلى الطبقة يلحظون فيه انحطاطاً من أولاد الحراس و يرقون إلى الحراسة من الثالثة و ۳ يتوسمون فيه الصلاحية لها من أولاد الشعب ، فتظل المدينة واحدة متحدة ، حكيمة من حيث أن أولى الأمر فيها حكماء ، شجاعة من حيث أن التربية الفاضلة قد طبعت العدالة في قلوب الحراس فعرفوا ما يطلب وما يجتنب ، عفيفة تكبح شهواتها وتنظم ملذاتها وتحارب الترف والنقر على السواء) . -- هـذا نموذج يحتذى ولكنه لا يتحقق بالتمام لأن كمال المثال ممتنع على كل ما هو محسوس ، وما يحقق من هذا النموذج لا يدوم لأن كل ما يتكون فهو عرضة للفساد لا محالة ، وإذا فسدت مدينتنا تدهورت من حكومة إلى أخرى أردأ منها حتى تبلغ أسوأ الحكومات كانها مدفوعة بقوة قاهرة وقانون ضروري . والحكومات خمس : فقد سبق القول إن الحكومة الفاضلة إما أن يتولاها فرد فتسمى موناركية أو ملكية ، وإما أن يتولاها جماعة قنسى أرستقراطية ، ولا فرق بين الحكومتين و إنما ها واحد في الحقيقة . ويحدث أن يخطى" الرئيس أو الرؤساء في اختيار الوقت الملائم لتزويج فينجب للدواة أولاد حين لم يكن يجب - أو أن يخلطوا بين الأكفاء وغير الأكفاء فينجب الدولة أولاد بعيدون عن مشابهة آبائهم حكمة واعتدالا ... أو أن يتهاونوا في تربية الأحداث - فيضطرب النظام وتنشب الفتن ، ولكن الحكام والجند يتغلبون آخر الأمر لأنهم ما يزالون -تازين وما تزال القوة في أيديهم . غير أنهم لا يعيدون النظام إلى نصابه ، وقد انحطت قيمتهم بفساد الوراثة أو التربية ، بل يستغلون غلبتهم لمنفعتهم الذاتية ، فيقتسمون الأراضي والدور ويستخدمون الشعب في شؤونهم الزراعية والصناعية بعد أن كان الشعب حرا يوفر لهم أسباب المعاش ، ويهملون الدرس والنظر مؤثرين المال والسلطان : وهذه هي الطيموقراطية أو حكومة الطاعين . - و يصبح المال أهمية عظمى ، ويثرى البعض دون البعض ؛ . ه (1) الجمهورية م 4 وه و 1 . و يقتضى نساب مالي لولاية الوظائف العامة ، فتفكك وحدة الجماعة وتنقسم المدينة إلى اثنتين : الأغنياء والفقراء ، وتسود الشهوات الدنيئة و يكثر الاموس : وهذه هي الأوليفركية أو حكومة الأغنياء . – و يزداد الأغنياء طلباً لاثروة ، فيقرضون الشبان الموسرين مالاً بالربا ينفقه هؤلاء في الملذات فيميهم الفقر وتبقى لهم امرتهم فيبدو لهم أن يعارضوا الثروة بالقوة ، فيثيرون الشعب فيفوز الفقراء الأقوياء على الأغنياء الترفين : وهذه هي الديموقراطية أو حكومة الكثرة ، وشعارها الحرية والمساواة المطلقة دون اعتبار لقيم الرجال . - ويبرز من بين دعاة الديمقراطية وحماة الشعب أشدهم عنفاً وأكثرهم دهاء ، فينقى الأغنياء أو يعدمهم ، و يلفى الديون و يقسم الأراضي ، و يؤلف لنفسه حامية يتقى بها شر المؤامرات ، فيغتبط به الشعب ويستأثر هو بالسلطة . ولكى يمكن لنفسه و يشغل الشعب عنه و يديم الحاجة إليه يشهر الحرب على جيرانه بعد أن كان قد سالهم ليفرغ إلى تحقيق أمنيته في الداخل . و يقطع رأس كل منافس أو ناقد ، ويقضى عنه كل رجل فاضل ، و يقرب إليه جماعة من المرتزقة والمثقاء ، و يجزل العطاء الشعراء الذين قيناهم من مدينتنا ، فيكيلون له المديح كيلا . وينهب الهياكل ويعتصر الشعب ليطعم حرامه وأعوانه ، فيفرك الشعب أنه انتقل من الحرية إلى الطغيان ، وهذه هي الحكومة الأخيرة . والحكومات الأربع الفاسدة مراحل تمثـل استفحال الشر وافتئات الطبقات السفلى في المجتمع والقوى السفلى في النفس على الطبقات والقوى العليا : فالطيموقراطي مولع بالمجد والسلطان ، هو الشجاعة خرجت عن طور المقل - والأوليفركي شره للمال ؛ خلو من كل عاطفة شريفة -- والديمقراطي منقلب مع الأهواء ليس لحياته قاعدة وليس فيها إكراه ، يتوهم خيره في الحرية المسرفة فيقتله هذا الإسراف – والطاغية متهتك مبذر سارق مجرم خائف أبدا ، لا يعاشر غير الأشرار ، و يعاشرونه ليفيدوا منه . ألا أن العدالة وحدها تكفل السعادة للفرد .. - ١٣٤ --- وللجماعة ، وأقل حيدة عنها تودي بهما جميعاً (1) . م ـ هذا تلخيص المقالات السياسية في الجمهورية يتبين منـه ه القارئ أن أفلاطون نهج منهج الرياضي ، يضع الأصول و يستخرج نتائجها دون انتجاء للتجربة ، كأن بني الإنسان آحاد مجردة أو أشكال هندسية ، وكأن طبائع الاجتماع تطيع المشرع كما يطيع الصلصال يد الخراف . ولقد فأن الفيلسوف أنه يحتاط للأمر بما فيه الكفاية إذا هو أراد المدينة على أن تكون صغيرة لا تزيد ولا تنقص فيسهل تحقيق العدالة فيها على النحو الذي تصور ، ولكنه وضع لذلك قيوداً فظيعة وقوانين وحشية ، و بالغ في تقدير القوة البدنية وفي تمثيل الإنسان بالحيوان ؛ ولو أنه ذكر في هذا الموقف مذهبه في النفس الناطقة ، وشرفها وجمالها لكان نبا عن هذه المخازي التي أخذها عن الأسبرطيين الغلظاء ، كما أخذ عنهم بدعة المرأة الجندية فأخطأ فهم طبيعة للرأة وحقيقة شأنها في المجتمع ، ، وهو الذي أقام مدينته على تفاوت الاستعدادات ، وعرف أن المرأة أضعف.، من الرجل بالطبع لم يفطن إلى أنه لا خير للجندية في المرأة ؛ ولا لدرأة في الجندية . ولو أنه ذكر { +

مذهبه في النفس لكان احترم النفس في كل جسم ولم يزهقها جزافاً ، ولكان فهم الزواج الإنساني على أنه اتحاد النفس بالنفس لا يخضع لإرادة غريبة تعقده ومحله كما تشاء ، ولكان فهم أن روابط الأسرة أكبر عامل على تهذيب الطبع وترقيق الشعور ، وتعدين الإنسانية ؛ فإن انفصمت لم تمح الأنانية كما نوهم ؛ بل محيت المحبة ، وإنما تنشأ المحبة من هذه الروابط للعروفة المحسوسة بين أفراد الأسرة . ولم يكن أفلاطون أكثر توفيقاً في مسألتي الحرب والرق ؛ فإنه يكميل هنا بكيلين الواحد لليونان والآخر للأعاجم . ينصح المدن اليونانية أن تتعهد فيما بينها العلائق الودية ؛ بل أن تتحالف وتؤلف أسرة واحدة ، فإن تحاربت فلا تدمر (1) الجمهورية م 8 . t ولا تحرق ، ولا يسحق الغالب جميع أهل المدينة الفلوبة كأنهم أعداء ؛ بل يضرب الأقلية التي أثارت الخصام ، و يعامل الباقى معاملة الأصدقاء ، و يقصر التدمير والتحريق والسحق على محاربة الأعاجم . ثم هو يصرح بأن اليونان لا يسترق بعضهم بضعاً وإنما يسترقون الأعاجم ، لأن الرجل العدل لا يسترق قريبه وصديقه بل يسترق عدوه)... الحق أن قارى" « الجهورية » ينتظر من صاحبها غير هذه العدالة المنقوصة ، و إن هو التمس له العذر بأن الحرب ضرورة يمتنع تفاديها ، وأن الرق كان قديماً في حكم الضرورة ، فهو لا يفهم أن تقصر العدالة على اليونان دون سائر خلق الله بعد أن علم أن الإساءة إلى العدو في أولا وقبل كل شيء لقد بدا لأفلاطون أن يطالع مثال الإنسان وهو ينظم حياة إساءة إلى الذات الفرد ، ثم ذاته أن يطالبه وهو ينظم المدينة والإنسانية - ( ۱۳۰ ... - . ٤٢ – المدينة الانسانية : ! - عرض أفلاطون « لموجات ثلاث و هي تجنيد للرأة وشيوعية النساء والأولاد وحكومة الفلاسفة ، وجهد نفسه في اجتيازها وظن بعد كفاحه الجدلي أنه قد أفلح في ذلك و بلغ الشاطئ الأمين فتكفلت الأيام برده إلى الحق ، وأقنعته أن مدينته المثلى ممتنعة التحقق لامتناع وجود الفيلسوف الكامل ، وهو إنما بناها لاعتقاده الذي ما يزال راسخا في نفسه أن الفيلسوف هو الحاكم الأكمل والملك الحق ، يرجع لحكمته في كل ظرف و يحكم بما توحي إليه ، فهو يفضل القانون الموضوع لأن الأحوال الإنسانية دائمة التغير والقانون صلب لايلين لجميع المناسبات . فالفيلسوف هو القانون الحى وحكمه هو الحكم العـدل ، أما سائر الحكومات ا (1) الجمهورية م ه مي ٤٦٩ ( ن ) ٤٧١ ( ج ). (۲) الجمهورية م ه م ٤٥٧ (ب) . + تعدل فالأحرى أن تسمى عتابات . ولكن هذا الحاكم الأمثل حديث خرافة أو ما يشبه ذلك ، والناس لا يصدقون أن إنساناً مثلهم يستطيع أن يضطاع بالساطة الطلقة دون أن تنتابه نشوة القوة فيفقد كل عقل وكل صفة إنسانية ، فيجب أن عن حلمنا الجميل ، وأن تقنع بحكومة أدنى وأقرب إلى حال الإنسان هي حكومة قائمة على دستور . في مثل هذه الحكومة الديمقراطية أقل صلاحية من الأرستقراطية ، وهذه أقل صلاحية من الملكية ، لأن الفرد أقدر على تطبيق الدستور من الكثرة ، والكثرة أقدر من الكافة . أما الحكومة التي لا يقيدها دستور فإن حالهـا نـوء حتا ، حكم الفرد فيها طغيان ، وحكم الجماعة أوليغركية ، وأقل منهما ضرراً الديمقراطية لأن تداول السلطة فيها يؤدى إلى تعارض النزعات الضارة وتناسخها (1) . فالواجب أن يكون للدولة دستور وهذه الفكرة أصل كتاب « القوانين » وهو آخر وأوسع ما كتب أفلاطون . موضوعه التشريع لتحقيق لمثل الأعلى للمدينة كما رسمته « الجمهورية ، لكن مع مراعاة طاقة الإنسان ومقتضيات الحياة . وهو ينقسم بالإجمال ثلاثة أقسام : المقالات 1 – 4 : مقدمة عامة في أن التشريع يجب أن يقوم على الفضيلة والعدالة ، والمقالات 5 --- ۸ في نظام الدولة السياسي وقوانينها ، والمقالات ۹ - ۱۲ في الجزاءات من ثواب وعقاب . في المقالة الأولى ينعى أفلاطون على المشرعين والسياسيين رأيهم أن الدولة حربية قبل كل شيء وأن النصر للبين قهر العدو الخارجي ، و ، ، ويذهب إلى أنه التغلب على العناصر الرديئة في النفس وفي المدينة وتعهدها حتى تنصلح ، فخير الحالات السلم لا الحرب ، وهو الغاية التي يجب على المشرع أن يتوخاها في وضع دستوره ، والشجاعة الحربية أدنى نوعى الشجاعة والنوع الأرفع والأشق مغالبة (1) محاورة و الماسي » ص ۲۰۱ - ۰۴۰۳ .

  • IFTTY

۱۳۷ ی اللذة وقمع الشهوة ، فالشجاعة الحربية في المحل الرابع بعد الحكمة والعفة والشجاعة الأدبية . -- ونأخذ من المقالة الثالثة أن خير الحكومات ، الأرستقراطية الثقيلة بهيئات نيابية تكفل التوازن بين السلطات المختلفة ، وهي وسط بين الطغيان والديمقراطية : الطغيان يسرف في حب السلطة والديمقراطية تغلو في حب الحرية فكلاها رديء في ذاته ولكن المزج بينهما بالقدر الملائم ينتج النظام الأمثل في هذه الحياة الدنيا . .. ولا يذكر أفلاطون الطبقات الثلاث المقابلة للقوى النفسية ، و يصطنع قسمة أخرى ثلاثية كذلك ، فيضع المواطنين وعبيدهم من ناحية ، والستاع والشرياء محترفون التجارة من ناحية أخرى ، وحيثاً أهليا من ناحية ثالثة . ويعدل عن الشيوعية ولو أنه ما يزال يرى فيها دواء الأثرة ، إلا أنه قد أيقن أن البشر « يولدون و ينشأون كما ترى اليوم » لا قبـل لهم بها ، وأنها إنما تصلح لموجودات أسمى من البشر ، فهو يقول بالملكية ولكنه يحض المالك على أن يعتبر ملكه خاصا بالمدينة كما هو خاص به. وهو يقول بالأسرة و يشيد بكرامة الزواج ولكنه يبقى على رأيه في تحديد النسل لأنه يستبقى مدينته صغيرة ويحدد عدد الأسر بخمسة آلاف وأربعين « لأن هذا العدد ينقسم بالتمام على الأعداد الإثنى عشر الأولى ما خلا أحد عشر » (!!) ، ويخص كل أسرة بحصة من الأرض لا تباع ولا تجزأ بل يورتها الأب لمن يختار من أبنائه الذكور ، ويعتبر في تقدير الحصة نوع التربة بحيث لا يتبن أحد ، والحصة نسيان الواحد قريب. المدينة والآخر بعيد ، ويغلب أن يكون القصد حمل المواطنين على محبـة من المدينة كلها والدفاع عن القلب والأطراف على السواء ، وتكتفى الأسرة بغلاتها فلا تقتنى ذهباً ولا فضة ، وتحظر الحكومة تداول النقد إلا بمقدار ما يلزم لشراء الضروريات وصرف أجور العمال ، فلا تزيد الثروة، وهذا خير للدولة لأن. فلاحها يقوم بالفضيلة وحدها ، أما عدم تساوى الأسر في الثروة فسبب للحسد والشقاق ( م ه ) والسلطات سبع : 1) حراس الدستور وعددهم 37 يحافظون عليـه و يحولون دون تعديله . ٢) القواد وعددهم ثلاثة يمينون الضباط لمختلف فرق الجيش . 3) مجلس الشيوخ وأعضاؤه 360 يحكمون بالاتفاق مع حراس المستور ، يتداولون السلطة كل ثلاثين منهم شهرا ، وفى باقى السنة يعنون بشؤونهم الخاصة . 4) الكهنة والكاهنات في عدد يكفي لإقامة الطقوس والعناية بالهياكل . ه) الشرطة . 6) « وزير للتربية » ينتخبه الشيوخ لخمس سنين .. ٧) المحاكم ؛ وهى ثلاث : واحدة لفض الخلافات الشخصية وتؤلف من جيران المتخاصمين ، وأخرى تستأنف إليها الخصومات التي تعجز المحكمة الأولى عن فضها ، والثالثة للحكم في الجنح والجنايات . وأفلاطون يريد التربية فاضلة بالطبع ، ولكنه يلطف من صرامته بإزاء التراجيديا والكوميديا ؛ فيسمح بهما على شرط أن تعرض القصص على « قلم مراقبة » ، وألا يتعاطى مهنة التمثيل المرذولة سوى العبيد والأجانب . . وهو يعان هذا أن الرق ضرورة يقبلها على كره ، وأن السبب في أنحطاط الرقيق ليس الطبيعة ؛ بل سوء المعاملة ( م 6 ) . و يمضى أفلاطون في سرد القوانين وتبيان الجزاءات ويعنى بأن يمهد لكل قانون « بمذكرة إيضاحية » وأن يعقب عليه بعظة خلقية ، لأن القانون الخليق بهذا الاسم صنع المتمل ونتيجة العلم يصدر للعقل فيولد العلم ، ولأن حقيقة الشارع أنه هاد ومرب يقنع قبل أن يأمر ( م 4 ) . و يرتقى أفلاطون إلى أصل القوانين والمبدإ الذي تستمد منه سلطانها فيقول إن الله لا يحكمنا مباشرة بل بواسطة العقل الذي وهبنا ، فالقوانين التي يقررها العقل تحاكى قوانين العناية الإلهية وترى إلى الخير العام ؛ فالخضوع لها واجب . ولكنه يسرف في التقنين والتنظيم ، ويتدخل في أدق الشؤون فيبين أن عقليته الرياضية لم تفارقه ، وأنه { . 6 ما يزال يرنو إلى مدينته الأولى ، ويعتقد أن الأمور الاجتماعية والاقتصادية من البساطة بحيث يمكن إخضاعها للقانون ، وكل الفرق هو أنه يحاول أن يستخرج من عقل الملك الفيلسوف الحكمة السياسية كلها دفعة واحدة ليحلها محله ، ناسياً ما قرره أن الأحوال الإنسانية دائمة التغير وأن القانون أصلب من أن من يتلاءم مع كل حال . وهو يرمى إلى إقامة حكم العقـل والعدل واستبقاء وحدة الأمة يتلطيف الأثرة الشخصية إلى الحد الأدنى ، وبالحيلولة دون البدع ، فينع مجموعة واسعة من الأوامر والنواهي تخنق كل استقلال في الفكر ، وتجرد الفرد من نزعاته الطبيعية لتركه آلة صماء وعبدا للدولة ، فهو ينتهى إلى صورة من الحكم المطلق هي أعقد صوره وأعجزها عن تحقيق الغرض من الحكومة ، غير أنه خاف لنا عدداً كبيراً من الآراء الجزئية هي ربح صاف للاجتماع والسياسة .

٤٣ --- قاعة الباب الثاني : ا - نرجو أن تكون قد وفقنا في أثناء تصويرنا مذهب أفلاطون إلى إشعار القارىء بعض الشيء بسمو روحه وعمق فكره وتنوع أسلوبه . جمع أفلاطون في شخصه كل مزايا العقل اليوناني فأبلغها إلى أقوى وأبهى مظاهرها : الجرأة والتؤدة ، الحدس والاستدلال ، العاطفة والملاحظة ، الفن والرياضة . واستوعب جميع الأفكار فحصها إلى حد بعيد ، وسلكها في نظام راحل بديع ، وأحس جميع النزعات الروحية ؛ فاستخلصها من الأرقية وسائر الأسرار ، ووضحها وأحالها معانى عقليـة ؛ فنقل الدين إلى الفلسفة : قال إن المطورين الذين تتحدث عنهم الأسرار ما هم إلا الذين يمنون بالفلسفة بمعناها الصحيح ، وأن الناسفة ؟ (۱) - فیلون ، ص ٦٩ ( د ) . (1) 6 -16-- هي التي تخلص النفس وتدخلها النعيم) . وأعلى كلمة الفلسفة على كل كلمة . فكان بكل هذه المميزات أحد ينبوع حكمة نهلت منه المقول من أيامه إلى أيامنا ، وان تزال ترده إلى ما شاء الله . والينبوع الآخر تلميذه أرسطوطاليس . ب .. أما الأكاديمية فتولاها من بعده ابن أخته أسبوسيبوس ، وخلفه أكسانوقراطيس ، والإثنان « أحالا الفلسفة رياضيات ، على حد قول أرسطو المذكور آنفا (٣٣ - د ) . وتوالت على المدرسة حظوظ شتي و بقيت قائمة إلى سنة ٥٢٩ ميلادية ، أي إلى أن أغلق يوستنيانوس المدارس الفلسفية . {۱) «فیلون ، ص ۸۲ (ب) - ٨٤(ب) (۲) انظر فيها بعد ۹۲ و ۹۷ (ب) (T)