انتقل إلى المحتوى

تاجر البندقية/الفصل الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


تاجر البندقية


المشهد الأول: منهج في البندقية

(يدخل أنطونيو وسالارينو وسالانيو)

أنطونيو: حقًّا لا أعرف لماذا أنا حزين حزنًا يتعبني، ويشق عليكما فيما أرى. إني لأسائل ضميري من أين جلبت أنا هذه الكآبة، أو كيف وفدت هي علي، أو في أي مكان صادفتني، أو من أي غزل نسجت، أو تحت أية سماء ولدت، فما أكاد أحير جوابًا، بل أشعر أن بي بلاهة، وأوشك أن أتنكر علي نفسي.

سالارينو: لا غرو أن يكون عقلك ضاربًا في العباب متعقبًا بين النواهض والعواثر من الأمواج، آثار مراكبك الضخام التي تتخطر بسواريها البواسق فوق الغمر تخطر الغطاريف الذين لهم السيادة على البحر، أو تحلق من عل فوق جماهير الصغار المتضائلات من سوقة السفن وعامة المنشآت فيحيينها بإجلال حين مرورها بهن سابحة، وكأنها طائرة بأجنحتها الكتانية.

سالانيو: أيقن يا سيدي أنني لو خاطرت بمالي مثل مخاطرتك لدرجت أهوائي تتعقب آمالي في تلك الآفاق البعيدة، أو لما وجدني من نشدني إلا عاكفًا على فريعات الأعشاب أستخبرها عن مهاب الرياح، أو مكبًّا على صور الأرض أبحث عن المرافئ والأرصفة والموانئ، فأيما شيء تبينت منه أدنى بأس على أوساقي مت له جزعًا.

سالارينو: بل لكان من شأني في مثل هذه المجازفة أنني إذا نفخت في حسائي لتبريده طفقت أفطن للآفات التي قد تحدثها العواصف في البحر فأرتعد، وإذا نظرت إلى تناقص المزولة خطرت على بالي الجروف والأغوار الرملية، وبدت لوهمي تلك الجارية الكبرى المسماة «بسنت أندري» جانحة وقد انقلبت ساريتها الوسطى إلى ما تحت غاطسها كأنها تقبل رمسها. وإذا يممت الكنيسة فلاحت لي مبانيها الحجرية الممردة ذكرت من فوري تلك الصخور الصماء التي إن مست جانبًا من جوانب فلكي ارتطم بها، وألقى بما يحمله علي وجه المحيط فانبثت البقول فوق الحباب وانتشر الحرير علي مناكب الأمواج الهدارة، وانتقلت أنا في عقبها من ملابسة الثراء إلى ملابسة الثرى. أفي وسع إنسان أن يرى مني تلك الحالة فلا يفهم أن ما يشغل بالي إنما هو هذا الشاغل؟ قولوا ما تشاءون، أما أنا فلا أحمل هم أنطونيو إلا على محمل تفكيره في مشحوناته.

أنطونيو: لا وصدقاني. ليست لحسن طالعي كل بضائعي في موسق واحد ولا هي موجهة إلى مكان واحد فتكون عرضة للأخطار، بل أزيدكما أنني لم أقامر بكل ثروتي في مضاربات هذه السنة، فكآبتي ليست من جانب مشحوناتي.

سالانيو: إذن أنت عاشق.

أنطونيو: لا ولا.

سالانيو: فإن لم تكن عاشقًا لم يبق لنا أن نقول إلا أنك ترح لأنك غير فرح، كما أنك بالقياس على هذا لو كنت مبتهجًا لجاز لك أن تضحك، وترقص، وتجهر بأنك مسرور، لأنك لست بمحزون. حلفت بيانوس ذي الوجهين إن الطبيعة تخلق في بعض ما تخلق أناسًا مستغربين، فئة منهم لا تني عيونهم متيقظة على كونهم كالببغاوات، يضحكون لأول نافخ في مزمار يسمعهم لحنًا ما، وفئة آخرون لا يفتئون مقطبين جباههم. إذا طرقت آذانهم نكتة من المستظرفات التي تضحك الحليم — ولو أنه نستور الحكيم — لم تنفتق لها شفاههم المضمومة عن أدنى ابتسام.

(يدخل باسانيو ولورنزو وغراتيانو)

سالانيو: هذا باسانيو قريبك الشريف قادمًا يصحبه غراتيانو ولورنزو. نستودعك الله وندعك ترفقه أحسن محضرًا منا.

سالارينو: لو لم يجئ من هو خير مني، لأقمت حتى أزيل كآبتك.

أنطونيو: ما أشد اعتدادي بمودتك، لكن شئونك تدعوك وأنت تنتهز الفرصة للانصراف إليها.

سالارينو: نعمتم صباحًا يا سادة.

باسانيو: إيهًا يا سادة متى نستأنف مباسطتنا؟ قولوا متى؟ لقد أطلتم هجرنا فإلام هذا الجفاء؟

سالارينو: متى أذنت أشغالكم باللقاء، فنحن ممتثلو أمركم.

«ينصرف سالارينو وسالانيو»

لورنزو: أما وقد التقيت بأنطونيو يا سنيور باسانيو فنحن نتولى عنكما إلى أن يحين العشاء فعسى ألا تنسى المكان الذي سنجتمع فيه.

باسانيو: ثقا أنني آت.

غراتيانو: ليس في وجهك ما يدل علي الصحة يا سنيور أنطونيو. لشد ما تشغلك أمور الدنيا، ومخسر من اشترى النجاح بثقال الهموم. إنك لعلى غير من أعهد فيك من العافية.

أنطونيو: غراتيانو، إنما أنظر إلى الدنيا كما يجب أن ينظر إليها باعتبار أنها ملعب لكل فيه دور، أما دوري فكتبت عليه الكآبة.

غراتيانو: وأما الذي أوثره لنفسي فدور الضحكة. لئن علتني غضون الشيخوخة فلا علتني إلا بين السرور واللهو. وخير لي أن ترمض الخمرة كبدي من أن تبدد الأشجان أنفاسي تصويبًا وتصعيدًا. علام يرضى الإنسان — إذ الدم ما يزال حارًّا في عروقه — أن يتشبه بالمرمر المصنوع منه تمثال جده، فلا ينام إلا مستيقظًا، ولا يستفيد من تدفق الكآبة الصفراء علي قلبه سوى داء اليرقان. أصغ إلي أنطونيو. أنا أحبك، وعن حبي مصدر الكلام الذي أسوقه إليك: من الناس من وجهه كوجه الماء الراكد به انتفاخ ويغشاه ما يغشى المستنقعات من مر المراءات، يصمت عن تدبير ليذيع عنه أنه لبيب متبصر متبحر في الأمور، فإذا فتح فاه فكأنه قائل: «أنا صوت الوحي، حذار أن تنبح الكلاب» … أي صفيي أنطونيو، أعرف غير واحد لم يشتهروا بالعقل إلا لعدم نطقهم بشيء، مع أنهم لو نبسوا لآذوا أسماع مجالسيهم ولعوملوا معاملة المجانين. سنعود إلي هذا البحث فيما بعد. انتصح بنصحي، ولا تحاول أن تتصيد الشهوة بحبالة حزنك فهي صيد الحمقى — تعال أيها العزيز لورنزو — «لأنطونيو» وداعًا إلي هنيهة، سأتم عظتي بعد العشاء.

لورنزو: أجل سندعكم إلى ميقات العشاء، ولما كان غراتيانو لا يفسح لي في الكلام ألبتة فقد رضيت أن أكون واحدًا من أولئك الحكماء الصامتين.

غراتيانو: لا جرم أنك لو استمررت على معاشرتي سنتين آتيتين لتعذر عليك بعدهما أن تعرف صوتك.

أنطونيو: في رعاية الله. إذا ظلت الحال هكذا، لم تلبث أن تحولني إلى ثرثارة.

غراتيانو: أولى لك ثم أولى، فإن الصمت لا يحمد إلا في اللسان المدخن وفي فم العذراء التي لا تبيع عرضها.

(يخرج غراتيانو ولورنزو)

أنطونيو: أيوجد شيء من المعنى تحت هذا كله؟

باسانيو: أذلق أهل البندقية لسانًا، بمثل هذه التوافه — غراتيانو — والأسباب التي يبني عليها أقاويله، أشبه بحبتي قمح في مكيالين مفعمين بالتبن، فتش سراة النهار حتى تجدها، فإذا وجدتهما فما أقلهما من شيء في جانب هذا العناء!

أنطونيو: حسن. حدثني الآن عن تلك المرأة التي عزمت علي حج بيتها في الخفاء.

باسانيو: لا تجهل يا أنطونيو ما كان من تبديدي ثروتي بالتوسع في الإنفاق منها علي قلة مواردها، وما جرني إليه ذلك من الديون الباهظة، فهمي الآن — ولا يداخله شيء من خوف السقوط عن ذلك المقام الرفيع — هو أن أوفي تلك الديون كما يقتضي شرفي، ومعظمها لك سمحت به عن وداد فإلى ودادك اليوم ألجأ لتعينني على تحقيق آمالي، وتمدني بما يوصلني إلى أداء ما علي.

أنطونيو: عرفني آمالك يا صديقي باسانيو، فإذا كانت شريفة كما أعهدك شريفًا، فأنت واثق أن مالي وشخصي وكل ما في وسعي رهن خدمتك.

باسانيو: عندما كنت طالب علم اتفق لي غير مرة أن أرمي نبلًا فأفقد أثرها، فإذا أردت الاهتداء إليها رميت أخرى في ناحيتها، ورقبتها في منطلقها، ثم مضيت في ذلك المتجه فلم أرجع إلا وقد ظفرت بالنبلين جميعًا. ذلك لمخاطرتي بالثانية بعد الأولى. وقد قصصت عليك هذه السانحة الصبوية، لأن ما سأذكره لك لا يقل عنها تفاهة. أنا مدين لك بكثير، ويوشك ما أقرضتني أن يكون مفقودًا، لأن نزق الصبى حال دون تبصري في عقبى هذا التفريط، غير أنك إذا أسعدتني علي إرسال سهم ثان في مرمى السهم الأول رقبته بتفطن، وفزت يقينًا بوجدان السهمين كليهما، أو عدت علي الأقل بالأخير منهما. وبقيت لك عن الذي سلف ممتنًّا شكورًا.

أنطونيو: ما كان أغناك — على علمك بي — عن إضاعة الوقت في الاحتيال للاستعانة بمودتي. إنك بارتيابك في خلوصي لك لتسوءني أكثر مما لو أضعت علي ثروتي بأسرها. قل ما ترجوه مني فيما تعرفني قادرًا عليه فقد أجبت. تكلم.

باسانيو: في قصر بلمنت غانية غنية، وارثة لجاه كبير، جمالها فوق ما تصف الكلم، وخصالها لا نظائر لها. راسلتني عيونها في بعض الأوقات، ساكتة والهوى يتكلم. يسمونها برسيا ولا تقل شيئًا عن سميتها برسيا بنت كاتون قرينة بروتس، على أنها ليست بمغمورة الذكر، ولا مبخوسة المهر، فإن نبهاء الخطاب يتوافدون إليها من كل فج وشاطئ. تتساقط ضفائرها على صدغيها كأنها جدلت من ذهب. وما من خاطب مجد، وطالب سعد، إلا وقد طرق بابها، والتمس جوابها. فيا صديقي أنطونيو لو تيسر لي أن أتقدم بين المتقدمين في هذه المناظرة، فإن وحيًا نجيًّا يسر إلى قلبي أنني سأدرك قصب السبق.

أنطونيو: تعلم أن ثروتي جميعها تحت رحمة المحيط، وأنه لا يتسنى لي أن أجمع الآن من مالي مقدارًا جديرًا بالذكر، فاذهب إلى البندقية واسبر ما تقدر علي استدانته بضماني، فأيًّا كان الشيء يبلغك مرامك لم يعز علي بذله. ابحث في كل مظنة للنقود، وسأبحث أنا كذلك، ولعل ما للناس بي من الثقة أو ما لي عندهم من الكرامة يقضيان أربك.

(يخرجان)


المشهد الثاني: بلمنت — قسم من قصر برسيا

(تدخل برسيا ونريسا)

برسيا: حقًّا يا نريسا إن جسمي الصغير لتعب من هذا العالم الكبير.

نريسا: ما كان أحراك بهذا التعب لو أن ما عندك من اليسر أبدل بعسر، غير أنني قد تبينت أن الإنسان يشقيه فرط الغنى، كما يشقيه جهد الفقر، وإن السعد عين السعد في الحالة الوسطى، فإن مع الترف وشك المشيب ومع الشظف إمهال الأجل.

برسيا: نعمت الحكمة، وحبذا مجراها على لسانك.

“نريسا: لخير أن يعمل بها من أن تقال.

برسيا: لو كان العمل بالأصلح سهلًا كالعلم به لأغنت البيع الصغرى عن الكنائس الكبرى، ولكانت أكنان الفقراء هي القصور الآهلات … أفضل الواعظين هو ذلك الذي يتعظ بنفس أقواله، قد يهون علي تعليم عشرين سامعًا أكثر مما يهون علي — لو كنت أحدهم — أن أنتصح بنفس نصائحي. العقل يسن القوانين للحواس، ولكن حرارة الطباع تدوس تلك الروابط الباردة. ما أشبه جنون الشباب بالأرنب الوثاب، وما أشبه العقل بالشرك الضعيف، أفلت منه ذلك الأرنب فمضى لغير مآب.
على أن هذا القياس لا ينفعني أدنى نفع في اختيار زوج لي، كيف أذكر الاختيار وما بوسعي انتقاء من يعجبني، ولا رد من لا أحب. جعلت إرادتي — وأنا فتاة في اقتبال الحياة — رهن إرادة تقدم بها إلي والد هو الآن ميت. أليس شاقًّا على النفس يا نريسا أن تكون الفتاة غير قادرة على قبول من تود أو رفض من لا تود؟!

نريسا: كان أبوك امرأ خير، والأبرار يلهمون الخير قبل وفاتهم، فاعتقدي أن الاقتراع الذي ناطه بهذه الصناديق الثلاثة: الذهبي، والفضي، والرصاصي، وجعلك حليلة لمن يجيء اختياره وفق مراده لن يجيئك منه إلا بعل جدير بحبك. على أن الخطاب الذين تقدموا إلى الآن كثير، أفما تقولين لي أيهم أكبر حظوة في عينك.

“برسيا: أعيدي علي إن شئت أسماءهم أصفهم، ومن الوصف تعلمين منازلهم من رأيي.

نريسا: أولهم الأمير النابلي.

برسيا: هذا حيوان لا شك فيه. يتكلم بلا انقطاع عن جواده، ويتباهى بأنه ينعل الدابة بيده، ويتقن. حتى لأخشى أن تكون أمه قد عثرت عثرة بين يدي أحد البياطرة.

نريسا: يليه الكنت البالاتي.

برسيا: هذا رجل سحنته متشبعة من حسن ظنه بنفسه، كأنه يخيرك: «أترتضين بي أم لا ترتضين؟ أبيني.» يسمع أظرف السير بلا تبسم، وأخاف لشدة كآبته في شبابه أنه إذا بلغ أخريات أيامه عاش عيشة الفيلسوف الباكي. لأوثر علي الواحد من هذين أن اقترن برأس ميت، في فمه قطعة من العظم.

نريسا: كيف تقولين في الشريف الفرنسوي المسيو ليبون؟

برسيا: هكذا خلقه الله، ولا اعتراض لي على وجود مثله بين الرجال. أعرف أن سخرية المرء من أخيه خطيئة، لكن ذلك الرجل أكرم حصانًا من النابلي، وأقبح عبوسة من الكنت البالاتي، هو كل شيء ولكن لا شيء. إذا تغنى الشحرور ترقص له، وإذا لقي ظله بارزه، فاقتراني به إنما هو اقتران بعشرين زوجًا. ولو احتقرني لغفرت له، إذ لو أحبني إلى الجنون لما أصاب مني سوى الاحتقار.

نريسا: إذن ما فكرك في فلكنبردج البارون الإنجليزي؟

برسيا: تعلمين أنني لم أخاطبه. إنه ناعم الأظفار لا يفهم كلامي، كما أنني لا أفهم كلامه. هو يجهل اللاتينية، والفرنسية، والإيطالية، وأنا أجهل الإنكليزية إلا كلمتين لا تقوم معهما الشهادة لدى القضاء بأنني أحسن هذه اللغة. به جمال ولكنه كجمال الصور، وأنى لي أن أتمتع بحديث مع صورة، ملبسه غير مألوف، وأظن أنه اشترى صداره من إيطاليا وسراويلاته القصيرة من فرنسا وقبعته من ألمانيا، واتخذ عاداته من مختلف الأقاليم.

نريسا: وما قولك في جاره النبيل الأسكتلندي؟

برسيا: إنه شديد الرغبة في الإحسان إلي أخيه الإنسان، بدليل أنه اقترض صفعة أخيه الإنكليزي، ثم أقسم إلا ما ردها إليه حين يستطيع، وفي زعمي أن الفرنسي ضمن له المعونة على هذا الرد، لكنه زور صك الضمان.

نريسا: ما حكمك في اليافع الألماني ابن أخي دوق سكس؟

برسيا: بغيض قبل الصبوح، وأبغض منه بعد الغبوق. يوشك في أحسن أوقاته أن يكون رجلًا، وفي أقبح أوقاته لا يفوق الحيوان الأعجم إلا بشيء يسير. والخيرة لي مع ترجيح السيئات على الحسنات أن أستغني عنه.

نريسا: لو أنه اقترع في المقترعين وأصاب الصندوق الرابح، أفتأبينه لك بعلًا فتخالفي إرادة والدك؟

برسيا: ضعي كأسًا كبيرة من خمر الرين على الصندوق المقابل لذاك يترام إليها لا محالة، ويؤخذ بهذه الحيلة، وإلا آثرت كل مصير أصير إليه في الدنيا على التزوج من إسفنجة!

نريسا: لا تخشي يا سيدتي أحدًا من هؤلاء، فقد علمت بعزمهم على العود إلي ديارهم، وعدولهم عن الطموح إليك، إلا إذا وجد موفق منهم وسيلة لاكتسابك غير القرعة التي أوصى أبوك بها.

برسيا: لو عشت أطعن في السن من السيبيل لمت أطهر في ملمس عفتي من ديانا، ولم أتزوج إلا على الطريقة التي اختارها أبي. أنا مسرورة بما عند هؤلاء الخطاب من سرعة الإدراك، ممتنة لغيابهم جميعًا، داعية ربي لتوفيقهم في السفر.

نريسا: ألا تذكرين يا سيدتي أنك رأيت في حياة أبيك رجلًا متأدبًا، شجاعًا من أهل البندقية، زاركم مع المركيز دي منفرات.

برسيا: بلى، بلى، وكأنني أتفطن لاسمه … باسانيو … فيما أظن.

نريسا: أجل يا سيدتي، وأحسبه أخلق من رأيت بأن تهواه امرأة جميلة.

برسيا: أذكره جيدًا، وهو جدير بمدحتك — «يدخل خادم» — إيهًا، ما وراءك؟!

الخادم: الأجانب الأربعة يلتمسون أن يروك للاستئذان بالرحيل وجاء رسول من أمير مراكش يقول إن سيده سيفد الليلة.

برسيا: إذا قدر لي أن أتلقى الخامس بسرور يعادل سروري بوداع الأربعة الآخرين ابتهجت بقدومه، على أنه لو اجتمعت فيه بيض شمائل الأولياء إلى سواد وجه الشيطان لحبذته كاهنًا، ونبذته قرينًا — هلمي نريسا — «الخادم» أنت تقدمنا. بينما نحن نقفل الباب في وجه خاطب، إذا خاطب غيره يقرع الباب.

(تخرجان)


المشهد الثالث: البندقية - ساحة عامة

شيلوك: ثلاثة آلاف دوقي، حسن بسن.
باسانيو: أجل يا سيدي لثلاثة أشهر.
شيلوك: لثلاثة أشهر. حسن بسن.
باسانيو: بصك على أنطونيو كما أنبأتك.
شيلوك: بصك علي أنطونيو، حسن بسن.
باسانيو: أأعتمد عليك؟ أتسعفني؟ ما جوابك؟
شيلوك: ثلاثة آلاف دوقي، لثلاثة أشهر، بصك علي أنطونيو!
باسانيو: ما قولك في هذا؟
شيلوك: أنطونيو كفء لهذا القدر.
باسانيو: أعندك ريب؟
شيلوك: لا، لا، إذا قلت إنه كفء، فالمعنى أنه قادر على الوفاء. سوى أن مملوكاته ليست بثابتة. له سفينة في طريق طرابلس، وثانية في طريق الهند، وسمعت عن ثالثة تيمم المكسيك، ورابعة تنحو نحو إنجلترا، وعن سفين أخر متوزعة في آفاق أخر. غير أن المراكب ليست إلا خشبًا، والملاحين ليسوا إلا أناسًا. دع أخطار الأمواج والأرياح والصخور. إلا أن الرجل كفء للوفاء. ثلاثة آلاف دوقي. أظن أنني أستطيع قبول صكه.
باسانيو: تستطيع ولا شك.
“شيلوك: سأنظر فيما إذا كنت قادرًا، وأفكر في الأمر قبل البت فيه، أيتسنى لي أن أكلم أنطونيو؟
باسانيو: إن أحببت تناول العشاء معنا.
شيلوك: نعم لتشتم مني ريح الخنزير، وليدخل في جوفي ذلك الحيوان الذي دعا عليه نبيكم الناصرى، فأسكن فيه الشيطان. حبًّا لكم إن تكن بيني وبينكم مبايعة أو مشاراة، أو محادثة، أو مماشاة إلخ. أما المؤاكلة، والمشاربة، والمشاركة في الصلاة فلا. ما أخبار التجارة في المصفق، من القادم؟
(يدخل أنطونيو)
باسانيو: السنيور أنطونيو.
شيلوك «منفرد»: ما أظهر الرفض علي وجهه المرائي بالتقوى. أبغضه لأنه نصراني، وخصوصًا لأنه جاهل أبله، يقرض المال بلا ربح، ويسقط قيمة النقد في البندقية. لئن أخذت بتلابيبه يومًا لقد شفيت حزازاتي القديمه منه. هو يبغض أمتنا المقدسة ويسخر — حتى في المصفق الذي يجتمع فيه التجار عادة — مني ومن معاملاتي ومن أرباحي المحللة التي ينعتها بالربوية. لعنت عشيرتي إن كنت غافرًا له هذه الذنوب.
باسانيو: أسمعت ما أقول؟
شيلوك: كنت أحسب ما بين يدي من النقود، ويخيل إلي — إن صدقت ذاكرتي — أنني لا أستطيع في الحال تجهيز ثلاثة آلاف دوقي كاملة. بل يخطر لي أن طوبال — وهو من أغنياء قومي — يجبيبني إلى ما أطلب. لكن مهلًا؛ إلى أي أجل … «مخاطبًا أنطونيو» عم صباحًا يا سيدي، كنا في ذكراك.
أنطونيو: شيلوك. إنني على كوني لا أقرض ولا أقترض بربح أجدني مضطرًّا إلى مخالفة مألوفي قضاء لحاجة صديقي. «إلى لنسلو» أيعلم المقدار الذي تطلبه؟
شيلوك: نعم، نعم، ثلاثة آلاف دوقي.
أنطونيو: لثلاثة أشهر.
شيلوك: كنت قد نسيت. لثلاثة أشهر كما قلت، بصك منك. حسن بسن. لننظر قليلًا. لكن أما سمعت أنك لا تأخذ ولا تعطي بالفائدة.
أنطونيو: بلى، والحق ما سمعت.
شيلوك: عندما كان يعقوب يرعى سائمة عمه لابان، ويعقوب هذا بفضل أمه الحكيمة هو الثالث من نسل سيدنا إبراهيم …
أنطونيو: علام تستشهد به؟ أفتزعم أنه كان يقرض بالربا؟
شيلوك: لا لم يكن مقرضًا بالربا. لم يكن ما يفعله بحصر المعنى، وإنما كان المتفق عليه بينه وبين لابان أن كل الخراف التي تنتج معلمة بلونين، تجعل أجرًا ليعقوب. فلما كان آخر الخريف وحالت النعاج، فالتمست ذكورها، خطر لراعيها الفطن أن يقتطع قضبانًا يعريها من قشورها، ويضعها تجاه النعاج وقت ضرابها، فنجم من رؤيتها أن النعاج نتجت حملانًا مخططة الجلود بلونين، وهذه الحملان حقت ليعقوب. فهذه وسيلة من وسائل الكسب بارك الله ليعقوب فيها. وكل ربح — ما لم يجئ من السرقة — فهو حلال.
أنطونيو: كان يعقوب يخدم على كراء لا يسعه استزادته، ولا الانتقاص منه إلا ما يشاء الله وما لا يستطيعه أحد سواه. أفتعد هذا مثلًا مبيحًا للربا؟ وهل ذهبك وفضتك نعاج وكباش؟
شليوخ: ما أدرى، ولكنني أستنتجها بمثل تلك السرعة. تنبه لهذا يا سيدي!
أنطونيو: وأنت يا باسانيو تفطن، إن الشيطان يستطيع الاستشهاد بالتوراة لتصويب أعماله! فما مثل النفس الشريرة التي تجيء بتلك الاستشهادات الصالحة إلا مثل المجرم الذي يبتسم، أو الثمرة الناضرة التي لبها متعفن. ما أكثر الظواهر الخادعة التي تشبه الرذيلة بالفضيلة!
شيلوك: ثلاثة آلاف دوقي، مقدار جسام. ثلاثة آلاف في اثني عشر؟ لننظر: ما تكون فائدتها؟
أنطونيو: مهما تكن أفتقضي حاجتنا؟
شيلوك: يا سنيور أنطونيو طالما صادفتني في مصفق الريالتو فسخرت من أعمالي المالية ومن مراباتي، فلم أقابل ذلك إلا برفع الكتفين وجميل الصبر، لأن الألم هو إحدى الآفات التي خصت بها أمتنا. وطالما نعتني بالكافر، أو الكلب الكلِب، وبصقت على عباءتي التي يعرف منها الناس يهوديتي، كأنك تعيبني لاستعمالي ما هو ملكي. أما الآن فيظهر أنك في حاجة إلي: «شيلوك نريد منك نقودًا» من يقول لي هذا؟ أنت يا من ينفث في لحيتي لعابه، ويطردني من حضرته ركلًا، كما الكلب الأجنبي من عتبة البيت. تطلب مني مالًا! فبم ينبغي أن أجيب؟ أيحرز الكلب نقودًا؟ أيعقل أن كلبًا يقرض ثلاثة آلاف دوقي؟ أم يتعين علي أن أخر إلى الذقن، وأن أرد عليك بصوت خافت، وقلب خاشع: «يامولاي الجميل! يوم الأربعاء المنصرم بصقت في وجهي، ويومًا قبله طردتني ضربًا برجليك، ويومًا قبله دعوتني بكلب، فقيامًا مني بحق تلك المكارم كلها سأقرضك نقودًا؟!
أنطونيو: من المحتمل أنك ستجدني مسميًا لك بتلك الأسماء، أو باصقًا في وجهك، أو طاردًا إياك برجلي؛ فإن كنت راغبًا في إقراضنا المال فلست دائنًا به أصدقاء، وأنَّى للصداقة أن تتولد من حيث لا رحم؟ أنت تقرض عدوًّا، فإذا أبطأ عن الإيفاء في الأجل كنت في حل من تخريط القانون عليه بكل قوته.
شيلوك: انظر كيف تستشاط. أريد أن أكون صديقًا لك، وأن أحصل على عطفك، وأن أنسى ازدراءك إياي، وأن أقضي حاجتك الراهنة، بلا تقاضي فائدة ما، وأنت تأبى سماع ما أعرضه عليك من جميل العرض.
أنطونيو: لو فعلت لبالغت في الإجمال.
شيلوك: سأثبت لك مجاملتي، لنذهب إلى محرر عقود فتخط الصك لديه، ومن باب المزاح سأستكتبك إقرارًا بأنك إذا لم تدفع زهاء ذلك الخط في يوم كذا بمكان كذا توجب لي عليك اقتطاع لبرة من لحمك في المكان الذي أختاره من جسمك.
أنطونيو: أوافق بارتياح علي هذا الاقتراح، وسأوقع على الصك محررًا بهذا النص، شاكرًا لك هذه المجاملة اليهودية.
باسانيو: لن تخط خطًّا كهذا لأجلي أبد الدهر!
أنطونيو: لا تخشَ بأسًا يا صفيي، سأقوم بعهدي، فبعد شهرين، أي قبل الأجل بشهر، تردُني أوساق بثلاثة أضعاف هذا القدر.
شيلوك: يا أبانا إبراهام! هؤلاء النصارى عجب أمرهم! ساءت فعالهم فقبحت بالناس ظنونهم. أنت مخبري ماذا أكسب من إنفاذ هذا الشرط إذا لم يف المدين بما عليه. للرطل من لحم رجل أقل قيمةً من رطل الضأن أو البقر أو الماعز. إنما أفعل هذا توسلًا به إلى مودته، فإن رضي فبها ونعمت، وإلا فأستودعكم الله راجيًا ألا تبتغوني بشرٍّ من حيث أردت لكم الخير!
أنطونيو: أجل شيلوك، سأوقع على هذا الصك.
شيلوك: فتفضل وانتظرني لدى محرر العقود، وقل له: أن يخط هذا الشرط المضحك، أما أنا فأمضي لجلب الدوقيات وإلقاء نظرة في بيتي الذي يحرسه ماهنٌ مكسال، لا ينبغي لرب البيت أن يستنيم لهمته، ثم أدرككم.
(يخرج)