بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية/16
قال أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له الرسالة التي سماها برسالة الايماء إلى مسألة الاستواء لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء وذكر أقوالا متعددة قول الطبري أبي جعفر بن جرير صاحب التفسير وأبي محمد بن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه قال وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر وأبي الحسن يعني الأشعري وحكاه عنه أعني القاضي أبا بكر والقاضي عبد الوهاب نصا وهو أنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بذاته قال وأطلقوا القول في بعض الأماكن فوق عرشه قال أبو بكر الحضرمي وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكن في مكان ولا كون فيه ولا مماسة
قال أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير الكبير في كتاب شرح الأسماء الحسنى بعد أن حكى كلام الحضرمي هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب تمهيد الأوائل له وقاله الاستاذ ابن فورك في شرح أوائل الأدلة وهو قول عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين وقول الخطابي في شعار الدين ثم قال بعد أن ذكر في الاستواء أربعة عشر قولا وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقاة
ونقل أبو بكر بن فورك في كتاب مقالة أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وموافقته الأشعري وما بينهما من النزاع اليسير أو اللفظي فقال الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا أبو الحسن رضي الله عنه في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث وأبان ما أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك
ثم سرد ابن فورك المقالة التي تقدم ذكرنا لها من كلام الأشعري بعينها وما فيها من ذكر العرش واستواء الله عليه والصفات الخبرية وغير ذلك كما تقدم ثم قال في آخرها فهذا يحقق لك من ألفاظه أنه يعتقد لهذه الأصول التي هي قواعد أصحاب الحديث وأساس توحيدهم
ولا ريب أن هذا قول الأشعرية المتقدمين وأئمتهم كلهم ما علمت بينهم في ذلك نزاعا وإنما أنكر ذلك من أنكره من متأخريهم وجميع كتب الأشعري تنطق بذلك كما ذكرنا فيما تقدم من كتبه وفيما لم يصل إلينا مما يحيل هو عليه مثل ما ذكره أبو القاسم بن عساكر في تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري بعد أن قال فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة لتعلم حاله وصحة عقيدته في الديانة فاسمع ما ذكره في الابانة فإنه قال الحمد لله الواحد العزيز الماجد المتفرد بالتوحيد المتمجد بالتمجيد الذي لا تبلغه صفات العبيد وليس له مثل ولا نديد وذكر تمام الخطبة إلى أن قال فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه الامام أحمد بن حنبل نضر الله وجهه قائلون ولمن خالف قوله مخالفون لأنه الامام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وذكر تمام الاعتقاد كما ذكرناه عنه فيما تقدم لما ذكر ما ذكره الأشعري في الأبانة
ثم قال ابن عساكر بعد أن فرغ من سياق ذلك فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه
قال الحافظ ابن عساكر قال أبو الحسن في كتابه الذي سماه العمدة في الرؤية ألفنا كتابا كبيرا في الصفات تكلمنا فيه على أصناف المعتزلة والجهمية فيه فنون كثيرة من الصفات في إثبات الوجه لله واليدين وفي استوائه على العرش
ولشهرة هذا من مذهب الأشعري قال أبو الحسن علي بن مهدي الطبري المتكلم صاحب أبي الحسن الأشعري في كتابه الذي ألفه في مشكل الآيات في باب قوله الرحمن على العرش استوى اعلم أن الله سبحانه وتعالى في السماء فوق كل شيء على عرشه بمعنى أنه عليه ومعنى الاستوى الاعتلاء كما تقول العرب استويت على ظهر الدابة واستويت على السطح بمعنى علوته واستوى الشمس على رأسي واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي فالقديم جل جلاله عال على عرشه قوله أأمنتم من في السماء وقوله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي وقوله إليه يصعد الكلم الطيب وقوله يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه
قال وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه مأخوذ من قول العرب استوى بشر على العراق استولى عليها وقال إن العرش يكون الملك فيقال ما أنكرت أن يكون عرش الله جسما خلقه وأمر ملائكته بحمله قال ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية وأمية يقول
مجدوا الله فهو للمجد أهل... ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق النا... س وسوى فوق السماء سريرا
قال ومما يدل على أن الاستواء هاهنا ليس بالاستيلاء لأنه لو كان كذلك لم ينبغ أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه إذ هو مستول على العرش وعلى سائر خلقه وليس للعرش مزية على ما وصفته فبان بذلك فساد قوله
ثم يقال له أيضا إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي من قول العرب استوى فلان على كذا أي استولى إذا تمكن فيه بعد أن لم يكن متمكنا فلما كان الباري لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء
ثم قال حدثنا أبو عبد الله نفطويه ثنا أبو سعيد قال كنا عند ابن الاعرابي فأتاه رجل فقال ما معنى قوله الرحمن على العرش استوى قال هو على عرشه كما أخبر فقال ليس هو كذلك إنما معناه استولى قال ابن الاعرابي اسكت ما يدريك ما هذا العرب لا تقول للرجل استولى على العرش حتى يكون له في مضاد فأيهما غلب قيل استولى عليه والله لا مضاد له وهو على عرشه كما أخبر
قال أبو الحسن بن مهدي الطبري فإن قيل فما تقولون في قوله أأمنتم من في السماء قيل له معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش كما قال فسيحوا في الأرض بمعنى على الأرض وقال لأصلبنكم في جذوع النخل أي على جذوع النخل فكذلك قوله أأمنتم من في السماء
قال فإن قيل فما تقولون في قوله تعالى وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم قيل له إن بعض القراء يجعل الوقف في السموات ثم يتبدى وفي الأرض يعلم سركم وجهركم وكيف ما كان فلو أن قائلا قال فلان بالشام والعراق ملك لدل على الملك بالشام والعراق لا أن ذاته فيهما قال فإن قيل ما تقول في قوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية قيل له كون الشيء مع الشيء على وجوه منها بالنصر ومنها بالصحبة ومنها بالمماسة ومنها بالعلم فمعنى هذا عندنا أن الله تعالى مع كل الخلق بالعلم
قال قال البخلي فإن قيل لنا ما معنى رفع أيدينا إلى السماء وقوله والعمل الصالح يرفعه قلنا تأويل ذلك أن أرزاق العباد لما كانت تأتي من السماء جاز أن نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء وجاز أن يقال أعمالنا ترفع إلى الله لما كانت حفظة الأعمال إنما مساكنهم في السماء قيل له إن كانت العلة في رفع أيدينا إلى السماء أن الأرزاق فيها وأن الحفظة مساكنهم في السماء جاز أن نخفض أيدينا في الدعاء نحو الأرض من أجل أن الله يحدث فيها النبات والأقوات والمعاش وأنها قرارهم ومنها خلقوا أو لأن الملائكة معهم في الأرض فلم تكن العلة في السماء بما وصفه وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه لرفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه
فإذا كان ابن فورك وسائر أئمة الأشعرية موافقين الكرامية وغيرهم على أن الله عز وجل نفسه فوق العرش وهم جميعا متفقون على مخالفة المعتزلة الذين ينفون ذلك ويتأولون الاستواء بمعنى الاستيلاء ونحو ذلك وهم جميعا متفقون على الاستدلال على أن الله فوق العالم بالآيات التي ذكرها هذا الرازي من ناحية مخالفية مثل قوله إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقوله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي وقوله أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض مثل ذلك في الآيات كما ذكرنا بعض ذلك وقد تنازع ابن فورك وأصحابه مع ابن الهيصم وأصحابه فإما أن يكون نزاعهم لفظيا أو معنويا
فإن كان لفظيا لم يكن ذلك منافيا لاتفاقهم من جهة المعنى وإن كانت المعاني متفقة لم يضر اختلاف الألفاظ إلا إذا كان منهيا عنها في الشريعة
وإن كان النزاع معنويا فهو أيضا قسمان أحدهما اختلاف تنوع بأن يكون هؤلاء يثبتون شيئا لا ينفيه هؤلاء وهؤلاء ينفون شيئا لا يثبته هؤلاء فهذا أيضا ليس باختلاف معلوم إلا إذا كان كل منهما يدفع ما يقوله الآخر من الحق فإذا كان أحدهما يثبت حقا والآخر ينفي باطلا كان على كل منهما أن يوافق الآخر وإذا اختلفا كانا جميعا مذمومين وهذا من الاختلاف الذي ذمه الله تعالى في كتابه حيث قال سبحانه وتعالى وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد وقال ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأمثال ذلك
وإن كانا قد تنازعا حقيقيا هما فيه متناقضان على حقيقة التناقض بحيث أن يكون أحدهما ينفي غير ما أثبته الآخر فهذا بعد اتفاقهم على إثبات أنه فوق العرش وفوق العالم ومخالفتهم جميعا للمعتزلة الذين سلك هذا الرازي وأمثاله مسلكهم في كتابه هذا التأسيس إنما يكون بأن يقول المثبت كونه فوق العرش يستلزم أن يكون في جهة أو يكون متحيزا أو أن يكون منقسما ونحو ذلك ويقول الثاني كونه على العرش لا يستلزم ذلك بل يجوز أن يكون على العرش ولا يكون جسما وهذا الثاني قول الأشعرية فالخلاف بينهم وبين الأشعرية إنه إذا كان على العرش هل يستلزم ذلك أن يكون جسما أو لا يستلزم ذلك
فإن كان هذا هو الخلاف المحقق بين ابن فورك وأصحابه وبين ابن الهيصم وأصحابه فإما أن يكون الصواب مع ابن فورك أو مع ابن الهيصم
فإن كان الصوب مع ابن فورك ثبت حينئذ أنه إذا كان على العرش لم يستلزم ذلك أن يكون جسما ولا أن يكون مركبا أو منقسما ولا غير ذلك وإذا صح هذا بطل ما ذكره هذا المؤسس وأمثاله من أن كونه فوق العرش يستلزم التجسيم وحينئذ فيبطل جميع ما ذكره من الحجج في هذا الكتاب على ابطال كونه على العرش وإذا أقر بأنه فوق العرش فهو أعظم المقصود وحينئذ فيكون كلامه من جنس الأشعرية الأكابر المتقدمين
وإن كان الصواب مع ابن الهيصم وهو أن كونه فوق العرش يستلزم أن يكون جسما وهذا هو الذي يقوله هذا المؤسس وأمثاله من الأشعرية المتأخرين وهو الذي يقوله المعتزلة والفلاسفة الجهمية وأمثالهم فيكون هذا المؤسس وهؤلاء كلهم متفقون على أن الصواب في المناظرة كان مع ابن الهيصم دون ابن فورك
ومعلوم أن أهل الاثبات الذين يقولون هو على العرش ولا يتكلمون في الجسم بنفي ولا إثبات لا ينفون هذا الكلام أيضا وإن خالفهم بعضهم لفظا فيها ولا ينازع في ذلك نزاعا معنويا فيكون جماهير الخلائق من مثبتة الصفات ونفاتها مع ابن الهيصم
فقد ظهر بما ذكره أن تصويب بن فورك ومتقدمي الأشعرية يقتضي تخطئة الرازي ومتأخري الأشعرية الذي خالفوا متقدميهم في قولهم إن الله ليس على العرش وأن تصويب ابن الهيصم وتخطئة ابن فورك هو أولى بتخطئة هؤلاء المتأخرين النفاة لكونه على العرش وإذا كان كذلك ثبت خطأ هذا الرازي وذويه سواء كان المصيب هو ابن فورك أو هو ابن الهيصم وثبت اتفاق الطائفتين المتقدمتين من الأشعرية والكرامية على خطأ هؤلاء المتأخرين من الأشعرية الموافقين للمعتزلة في نفي أن يكون الله فوق العرش وهذا هو المقصود الأكبر فيما ذكرناه
وأيضا فهذا الرازي وذووه يقولون هم وغيرهم إن العلم بأن كونه على العرش يستلزم أن يكون متحيزا أو أن يكون جسما علم ضروري وإذا كان كذلك كانوا مقرين بأن الكرامية أصوب من شيوخهم المتقدمين وأن ذلك معلوم بالاضطرار وإذا كان كذلك ثبت أن قول الكرامية هو الصواب دون قولهم وقول شيوخهم المتقدمين وذلك أيضا يستلزم أن يكون الله فوق العرش
وهذا يبين إنما تنازع فيه متقدمو الأشعرية ومتأخروهم ثبت به خطؤ إحدى الطائفتين منهم ولم يثبت خطؤ الكرامية في قولهم إن الله فوق العرش فإنه إن كان الصواب مع متقدميهم فهم والكرامية متفقون على أن الله فوق العرش وإن كانت الكرامية مخطئة على هذا التقدير في قولهم هو جسم فهذا لا يضر وإن كان الصوب مع متأخريهم أن كونه على العرش يستلزم التجسيم فهم والمتقدمون من الأشعرية متفقون على أن الله فوق العرش فيكون التجسيم حينئذ لازما للطائفتين جميعا فلا تكون إحداهما مصيبة والأخرى مخطئة
وإذا ثبت خطؤ احدى طائفتي الأشعرية تيقنا بالاتفاق إما مثبتو العلو وإما الملازمون بين العلو والجسم ولم يثبت خطؤ الكرامية المنازعين لهم في قولهم إنه على العرش لا على قول الأولين المثبتين العلو ولا على قول الآخرين الملازمين بين العلو والجسم ظهر أن الكرامية المنازعين الأشعرية في مسألة العلو والجسم أقرب إلى الصواب منهم فإن من ظهر خطؤه على كل تقدير أولى بالخطأ ممن لم يظهر خطؤه في المسألة الواحدة وهي المقصودة الكبرى على التقديرين جميعا وخطاهم في المسألة الأخرى وهي مسألة الجسم إنما يظهر على إحدى التقديرين فقط وهذا بين ظاهر
فإن الأشعرية قد ثبت لزوم الخطأ لهم بالضرورة إما لأوليهم وإما لآخريهم إذا كان النزاع معنويا تضادا كما تقدم وأما الكرامية فهم في مسألة كونه على العرش لم يظهر خطؤهم على التقديرين جميعا وفي مسألة الجسم إنما يكونون مخطئين على قول الأولين فقط إذ الآخرون من الأشعرية يوافقونهم على أن العلو يستلزم التجسيم وظهر بذلك أن كلما تنازع فيه هؤلاء لم يظهر فيه نفي أن يكون الله على العرش وذلك لأن هذا هو الحق الذي جاء به الرسول ﷺ وهو القائل سبحانه وتعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله الآية ودين الحق الذي بعث به رسوله ظاهر على كل تقدير
وأيضا فإن هذا معلوم بالفطرة والبديهة وقد ظهر بذلك أن متقدمي الأشعرية وأئمتهم هم أولى بالحق والصواب من متأخريهم وإن كان في قولهم ما يذكر أنه خطؤ فالخطاء الذي مع المستأخرين أعظم وأكثر وهذا لأن الكلام الذي فيه بدعة كلما كان أقرب إلى الفطرة والشرعة كان أقرب إلى الهدى ودين الحق وكلما بعدت البدعة عن ذلك تغلظت
وهذا مما يبين أن فطر الناس وبدائههم ممن ليس به هوى ولا تقليد سواء كان في الأمراء أو الملوك أو غيرهم فإنهم يعرفون بفطرتهم وبديهة عقولهم أن ما ذكره من أنه لا داخل العالم ولا خارجه إنما هو صفة المعدوم وأن الموجودين لابد أن يكون أحدهما قائما بالآخر محايثا له أي يكون حيث هو يكون أو يكون مباينا له منفصلا عنه في جبهه غير جهته
وما زال أئمة السنة يذكرون هذا مثل ما ذكره عبد العزيز الكناني صاحب الشافعي صاحب الحيدة المشهور بالرد على الجهمية والقدرية وغيرهم
قال في رده على الجهمية باب قول الجهمي في قول الله عز وجل الرحمن على العرش استوى زعمت الجهمية أنما قول الله الرحمن على العرش استوى أنما المعنى استولى كقول العرب استوى فلان على مصر استوى فلان على الشام يريد استولى عليهما باب البيان لذلك يقال له هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه فإذا قال لا قيل له فمن زعم ذلك فهو كافر ويقال له يلزمك أن تقول إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه بعد خلق السموات والأرض قال وذلك أن الله أخبر أنه خلق العرش قبل السماوات والأرض ثم استوى عليه الله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء فأخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ثم قال خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسأل به خبيرا وقوله الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم وقوله عز وجل ثم استوى إلى السماء وهي دخان وقوله عز وجل ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات فأخبر أنه استوى على العرش فيلزمك أن تقول المدة التي كان العرش فيها قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه إذا كان استوى على معناه عندك استولى فإنما استولى بزعمه في ذلك الوقت لا قبل
قال وقد روى عمران بن الحصين عن النبي ﷺ أنه قال أقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا قد بشرتنا فاعطنا قال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا قد قبلنا فاخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان قال كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء وروي عن أبي رزين العقيلي وكان يعجب النبي ﷺ مسألته أنه قال يا رسول الله أين كان الله قبل أن يخلق السموات والأرض قال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء ثم خلق عرشه على الماء
قال فقال الجهمي أخبرني كيف استوى على العرش أهو كما تقول العرب استوى فلان على السرير فيكون السرير حوى فلانا وحده إذا كان عليه فيلزمك أن تقول إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا باب من البيان لذلك يقال له أما قولك كيف استوى فإن الله لا يجري عليه كيف وقد أخبرنا أنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى لأنه لم يخبرهم كيف كذلك ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله ولكن يلزمك أنت أيها الجهمي أن تقول إن الله محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه كما تقول العرب فلان في البيت والماء في الجب فالبيت قد حوى فلانا والجب قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أشنع من ذلك لأنك قلت أفضع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا إن الله حل في عيسى وعيسى بدن انسان واحد فكفروا بذلك وقيل لهم ما أعظمتم الله تعالى إذ جعلتموه في بطن مريم وأنتم تقولون إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهم وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضا أن تقول في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أنه في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
قال فلما شنعت مقالته قال أقول بأن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء مع الشيء خارجا عن الشيء ولا مباينا للشيء باب البيان لذلك يقال له إن أصل قولك القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئا لأنه لو كان شيئا ما خلا في القياس والمعقول أن يكون داخلا في الشيء أو خارجا عنه فلما لم يكن في ذلك شيئا استحال أن يكون كالشيء أو خارجا عن الشيء فوصفت لعمري ملتبسا لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل
وأما الحجة التي ذكرها عن ابن الهيصم فلم يذكر ألفاظها لكن ذكر أنه نظمها أحسن من نظمه ونحن في جميع ما نورده نحكي ألفاظ المحتجين بعينها فإن التصرف في ذلك قد يدخله خروج عن الصدق والعدل إما عمدا وإما خطأ فإن الانسان إن لم يتعمد أن يلوي لسانه بالكذب أو يكتم بعض ما يقوله غيره لكن المذهب الذي يقصد الانسان إفساده لا يكون في قلبه من المحبة له ما يدعوه إلى صوغ أدلته على الوجه الأحسن حتى ينظمها نظما ينتصر به فكيف إذا كان مبغضا لذلك والله أعلم بحقيقة ما قاله ابن الهيصم وما نقله هذا عنه لكن نحن نتكلم على ما وجدناه مع العلم بأن الكرامية فيهم نوع بدعة في مسألة الايمان وغيرها كما في الأشعرية أيضا بدعة لكن المقصود في هذا المقام ذكر كلامهم وكلام النفاة
ولا ريب أن أئمة الأشعرية وهم الذين كانوا أهل العراق كأبي الحسن الكبير وأبي الحسن الباهلي وأبي عبد الله بن مجاهد وصاحبة القاضي أبي بكر وأبي علي بن شاذان ونحوهم لم يكونوا في النفي كأشعرية خراسان مثل أبي بكر بن فورك ونحوه بل زاد أولئك في النفي أشياء على مذهب أبي الحسن ونقصوا من إثباته أشياء ولهذا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وكلام أبي سعيد بن كلاب الذي ذكره أبو بكر بن فورك فيما جمعه من كلامهما وبيان مذهبهما أشياء تخالف ما انتصر له ابن فورك في مواضع
وهذه الحجة القياسية التي ذكرها عن ابن الهيصم هي مأخوذة من حجة أهل الاثبات في مسألة رؤية الله وأنهم كانوا يحتجون على جواز رؤية الله بأن الله قادر على أن يرينا نفسه لأنه موجود وما لم تمكن رؤيته لا يكون إلا معدوما وهذه الحجة كانوا يتكلمون فيها كنحو كلام أهل الاثبات في مسألة العلو تارة يحتجون فيها بالعلم الضروري بأن الله تعالى قادر على ذلك وتارة يثبتون ذلك بالقياس فإن الرؤية مما يشترك فيها الجواهر والأعراض فيكون عليها أمر مشترك بينهما ولا مشترك إلا الوجود والحدوث لا يكون علة فثبت أن المصحح للرؤية هو الوجود
وهذه الطريقة القياسية مشهورة عن أبي الحسن الأشعري وللناس عليها اعتراضات معروفة كما ذكر ذلك الشهرستاني وغيره ولذلك عدل طائفة من أتباعه كالقاضي أبي بكر إلى أن أثبتوا إمكان الرؤية بالسمع كما أن وقوعها معلوم بالسمع بلا نزاع وأبو عبد الله الرازي قد ذكر طريقة الأشعري هذه في الرؤية في نهايته وذكر ما فيها من القوادح التي يظهر معها وهاها
وإذا علم ذلك فينبغي أن يعلم لأمران أحدهما أن الطريقة التي سلكها أهل الاثبات في مسألة العلو بدعوى الضرورة تارة وبالقياس الذي احتج به ابن الهيصم وغيره تارة أصح من الطريقة التي يسلكونها في مسألة الرؤية بدعوى الضرورة تارة وبالقياس أخرى كما قد ذكرنا فيما قبل أن العلم بأن الله تعالى فوق خلقه أعرف في الفطرة وأشهر في الشريعة وأعظم استقرارا عند سلف الأمة وأئمتها من العلم بأنه يرى وأن الجهمية كانوا يكتمون إنكار ذلك ويتظاهرون بإنكار الرؤية ونحوها ليتوسلوا بما يظهرونه من إنكار الرؤية والقول القرآن على ما يكتمونه من إنكار وجود الله فوق العرش وكان أئمة السلف يعلمون ذلك منهم فيعرفونهم في لحن القول ويستدلون بما أظهروه على ما أسروه لعلمهم بأصل كلامهم وأنهم إنما أنكروا رؤيته وأنكروا أنه يتكلم حقيقة لأن رؤيته وكلامه مستلزم لوجوده فوق العالم فإذا سلموا الكلام والرؤية وغيرهما لزمهم تسليم أنه فوق العرش وغير ذلك إذ يقال لو كان على العرش لجازت رؤيته ولكان متكلما ومالا يجوز أن يرى يمتنع أن يكون فوق العرش
فلما كانت مسألة العلو هي في نفسها أعظم وأدلتها أقوى وأكثر والمقرون بها أكثر وأكثر من السلف والأئمة والعامة كانت الطريقة التي يسلكها أهل الإثبات فيها أقوى من الطريقة التي يسلكوها في مسألة الرؤية
وبيان ذلك أن اعتراف الفطر بأن الله فوق العالم أعظم من اعترافها بأنه يرى ودلالة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على ذلك أعظم من دلالة هذه الأصول على رؤية الله تعالى واعتراف القلوب بأن مالا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوما أعظم من أعترافها بأن مالا يمكن رؤيته لايكون إلامعدوما وما في القلوب من البديهة والضرورة إلى الأول أعظم مما فيها من الضرورة والبديهية إلى الثاني وكذلك اعترافها بديهة وضرورة بأن كل موجودين لابد أن يكونا متباينين أو متحايثين أعظم من اعترافها بأن كل موجود فلابد وأن تمكن رؤيته
وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن الطريقة القياسية التي سلكها ابن الهيصم ونحوه في مسألة العلو أقوى من الطريقة التي سلكها الأشعري ونحوه وابن الهيصم
أيضا في عين مسألة الرؤية وكلاهما سلك طريقة ينصر بها الاثبات الذي جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة
وكل ما ذكره الرازي من القوادح في هذه الطريقة التي سلكها ابن الهيصم فإنما هي قدح في الأصول العقلية التي سلكها أئمة الأشعرية وغيرهم فهدمه وهدم ابن فورك ونحوه بما ذكروه لأصول أصحابهم وأئمتهم أعظم من هدمهم للأصول التي تذكرها الكرامية وغيرهم في مسألة العرش وهذا بين يعرفه من شدى شيئا من النظر في هذه المواضع ومن عرف ما اعتمده من الأصول في مسألة الرؤية وعلم ما اعتمده هؤلاء في مسألة العرش
الأمر الثاني أنا نذكر أن الطريقة التي سلكها أهل الاثبات في الرؤية ليست من الضعف كما يظنه اتباع الأشعري مثل الشهرستاني والرازي وغيرهما بل لم يفهموا غورها ولم يقدروا الأشعري قدره بل جهلوا مقدار كلامه وحججه وكان هو أعظم منهم قدرا وأعلم بالمعقولات والمنقولات ومذاهب الناس من الأولين والآخرين كما تشهد به كتبه التي بلغتنا دع ما لم يبلغنا فمن رأى ما في كتبه من ذكر المقالات والحجج ورأى ما في كلام هؤلاء رأى بونا عظيما
وإذا ظهر أن طريقهم في الرؤية أقوى مما يظنه هؤلاء كان ذلك تنبيها على أن طريقة ابن الهيصم في العلو أولى أن تكون أقوى منها وأن يكون القدح فيها دون القدح في تلك ثم نبين إن شاء الله تعالى بالكلام المفصل أن عامة ما ذكره الرازي من القدح فيها قدح باطل ولا حول ولا قوة إلا بالله
والله هو المسئول أن يوفقنا للكلم الطيب والعمل الصالح وهو الذي يقوله وإن كان فيه حكم بين هؤلاء الذين يخوضون أحيانا بكلام مذموم عند السلف لكن قد ذكرنا غير مرة أن من حكم الشريعة إعطاء كل ذي حق حقه كما في السنن عن عائشة قالت أمرنا رسول الله ﷺ أن ننزل الناس منازلهم وأن من كان منهم أقرب إلى الحق والسنة عرفت مرتبته ووجب تقديمه في ذلك الأمر على ما كان أبعد عن الحق والسنة منه قال تعالى عن نبيه ﷺ وأمرت لأعدل بينكم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله وقال في حق أهل الكتاب وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط وقال فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق فكيف الحال بين طوائف أهل القبلة بل الحكم بين من فيه فجور ومن فيه بدعة بالعدل ووضعهم مراتبهم وترجيح هذا من الوجه الذي هو فيه أعظم موافقة للشريعة والحق أمر واجب ومن عدل عن ذلك ظانا أنه ينبغي الاعراض عن الجميع بالكلية فهو جاهل ظالم وقد يكون أعظم بدعة وفجورا من بعضهم
قال أبو الحسن الأشعري في الابانة بعد أن احتج بحجج كثيرة جيدة على اثبات الرؤية من الكتاب والسنة والاجماع ومقصوده الأكبر في الابانة ذكر الحجج السمعية دون القياسية المبنية على الكلام في الجواهر والأعراض فإنه يختصرها فقال بعد ذلك ومما يدل على جواز رؤية الله بالأبصار أنه ليس موجودا غير مستحيل أن يريناه وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم فلما كان الله موجودا مثبتا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل
وإنما أراد من نفي الرؤية لله عز وجل بالأبصار التعطيل فلما لم يمكنهم ذلك صراحا أظهروا ما يؤول بهم إلى التعطيل وجحدوا الله تعالى تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
قال ومما يدل على جواز رؤية الله تعالى بالأبصار أن الله تعالى يرى الأشياء وإذا كان للأشياء رائيا وليس يجوز أن يرى الأشياء من لا يرى نفسه وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه وذلك أنه من لا يعلم نفسه لا يعلم شيئا فلما كان الله تعالى عالما بالأشياء كان عالما بنفسه فكذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء فلما كان الله رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها وقد قال الله عز وجل أنني معكما أسمع وأرى فاخبر أنه سمع كلامهما ويراهما ومن زعم أن الله لا يرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز وجل عالما ولا قادرا ولا رائيا لأن العالم القادر الرائي جائز أن يرى
قلت وهذا المعنى الذي ذكره الأشعري من أن الموجود يقدر الله على أن يريناه وأن المعدوم هو الذي لا يجوز رؤيته فنفي رؤيته يستلزم نفي الوجود هو مأخوذ من كلام السلف والأئمة كما ذكره حنبل عن الامام أحمد ورواه الخلال عنه في كتاب السنة قال القوم يرجعون إلى التعطيل في كونهم ينكرون الرؤية
وذلك أن الله على كل شيء قدير وهذا لفظ عام لا تخصيص فيه فأما الممتنع لذاته فليس بشيء باتفاق العقلاء وذلك أنه متناقض لا يعقل وجوده فلا يدخل في مسمى الشيء حتى يكون داخلا في العموم مثل أن يقول القائل: هل يقدر أن يعدم نفسه أو يخلق مثله فإن القدرة تستلزم وجود القادر وعدمه ينافي وجوده فكأنه قيل هل يكون موجودا معدوما وهذا متناقض في نفسه لا حقيقة له وليس بشيء أصلا وكذلك وجود مثله يستلزم أن يكون الشيء موجودا معدوما فإن مثل الشيء ما يسد مسده ويقوم مقامه فيجب أن يكون الشيء موجودا معدوما قبل وجوده مفتقرا مربوبا فإذا قدر أنه مثل الخالق تعالى لزم أن يكون واجبا قديما لم يزل موجودا غنيا ربا ويكون الخالق فقيرا ممكنا معدوما مفتقرا مربوبا فيكون الشيء الواحد قديما محدثا فقيرا مستغنيا واجبا ممكنا موجودا معدوما ربا مربوبا وهذا متناقض لا حقيقة له وليس شيء أصلا فلا يدخل في العموم وأمثال ذلك
أما خلق قوة في العباد يقدرون بها على رؤيته فإن ذلك يقتضي كمال قدرته وما من موجود قائم بنفسه إلا والله قادر على أن يرينا إياه بل قد يقال ذلك في كل موجود سواء قام بنفسه أو قام بغيره
وهنا طريقة أخرى وهي أن نقول كل موجود فالله قادر على أن يجعلنا نحسه بأحد الحواس الخمس وما لا يكون ممكن إحساسه باحدى الحواس الخمس فإنه معدوم وهذه الطريقة مما بين الأئمة أن جهما يقول بأن الله معدوم لما زعم أنه لا يحس بشيء من الحواس لأن الموجود لابد أن يمكن إحساسه باحدى الحواس كما ذكر الامام أحمد أصل قوم جهم
قال وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث واضلوا بكلامهم بشرا كثيرا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك
وكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك الها قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسا قال لا قالوا له فوجدت له مجسا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هي روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائب الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فهل سمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسا أو مجسا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه من القرآن قوله ليس كمثله شيء وهو الله في السموات وفي الأرض ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار فبنى أصل اضلاله على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله ﷺ وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث به رسوله كان كافرا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرا كثيرا واتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله عز وجل ليس كمثله شيء يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولا يكلم ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف بصفة ولا بفعل ولا له غاية ولا له منتهى ولا يدرك بعقل وذكر تمام كلامه وقد كتبناه قبل هذا إلى أن قال فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية وذكر تمام الكلام
والمقصود أنه بين أن وصفه بأنه لا يعرف بشيء من الحواس هو أصل كلامه الذي لزمه به التعطيل وأنه لا يثبت شيئا لأن مالا يكون كذلك لا يكون شيئا
وهذا أمر مستقر في فطر المؤمنين لا يشكون في أن الله تعالى قادر على أن يريهم نفسه وإنما يشكون هل يكون ذلك أو لا يكون كما سأل المؤمنون النبي ﷺ هل نرى ربنا يوم القيامة فقال نعم هل تضارون في رؤية الشمس وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة المستفيضة المتواترة فإنما كانوا شاكين هل يرون ربهم لم يكونوا شاكين هل يقدر على أن يريهم نفسه وكذلك في المعاد يعلمون أنهم عاجزون عن رؤيته كما أنهم عاجزون عن رؤية الأشياء البعيدة والأشياء اللطيفة مع علمهم عن أن يقدموا بسمعه م وبصرهم على أكثر مما هم قادرين عليه كما يعجزون أن الله قادر على أن يريهم ذلك وكذلك من قبلهم من الأمم ولهذا سأل موسى ربه الرؤية وسأل قومه أن يروا الله جهرة كما سألوا سائر الآيات فإنهم وإن كانوا مذمومين على مسألة الآيات فليسوا مذمومين على علمهم بأن الله قادر عليها كما يسأل الرجل ما لا يصلح وهو من الاعتداء في الدعاء مثل أن يسأل منازل الأنبياء ونحو ذلك فإن الله قادر على ذلك ولكن مسألة هذا عدوان
ولهذا لا يوجد أن أحدا من الأمم السليمة الفطرة قال إن رؤية الله ممتنعة عليه يعني أنه لا يجوز أن يكون مرئيا بحال وليس في مقدوره أن يرى أحدا نفسه بل هم إذا نفوا الرؤية كان لعظمته من جهة القدر أو الوصف مثل قوله لا تدركه الأبصار أي لا تحيط به ومثل قوله ﷺ نور أنى أراه وقال رأيت نورا وهذا في المخلوقات فالخالق أعظم فإن السماء ينفى عنها إدراك البصر لسعتها والشمس لبرهانها وشعاعها الذي يعشى البصر فيكون ذلك لعجز البصر عن وصف المرئي وقدره
أما أن يقال إن موجودا عظيما يمتنع في نفسه أن يكون مرئيا كما يمتنع ذلك في المعدوم فهذا خلاف ما فطر الله عليه عباده بل حيث كان الوجود أكمل كان أحق بأن يجوز أن يرى ويشهد لكن بشرط قوى الرائي وكماله ولهذا قال النبي ﷺ في الأحاديث الصحيحة أنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤية وفي رواية كما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب فقوله لا تضامون ولا تضارون نفي لأن يلحقهم ضيم أو ضير كما يلحقهم في الدنيا في رؤية الشيء إما لظهوره كالشمس أو لخفائه كالهلال
أما المعدوم فالاحساس به برؤية أو غيرها يقتضى أن يكون موجودا معدوما فإن كونه معدوما يقتضى أنه ليس في الخارج فرؤيته في الخارج تقتضي أنه في الخارج فيقتضي الجمع بين النقيضين الوجود والعدم وهذا باطل ممتنع لا حقيقة له أصلا فلا يدخل في مسمى الشيء حتى يقال إن الله عليه قدير فإنه سبحانه على كل شيء قدير وهذا ليس بشيء أصلا نعم صورة المعدوم الثابتة في العلم قد تنازع الناس في جواز رؤيتها وتنازعوا كذلك في جواز رؤية الله للمعدومات لثبوتها في علمه والنزاع فيها مشهور
وأما الحجة القياسية المشهورة في هذا الباب التي احتج بها الأشعري وغيره فإن هذا الرازي قد ذكرها في نهايته وأورد عليها اعتراضات كثيرة تهدمها وكذلك من قبله كالشهرستاني وغيره ولم يقفوا على غورها ولا أعطوها حقها وليس هذا موضع بسطها لكن ننبه عليها فإنا قد قدمنا فيما تقدم أن الأمثال المضروبة إذا كانت من باب الأولى جاز استعمالها في حق الله تعالى كما ورد به القرآن والسنة واستعملها السلف والأئمة كما يقال إذا كان العبد ينزه نفسه عن شريك أو أنثى فتنزيه ربه أولى وإذا كان العبد عالما قادرا فالله أولى
وكذلك هذه فإن حاصلها أنه إذا جاز رؤية الموجود المحدث الممكن فرؤية الموجود الواجب القديم أولى وإذا كان المخلوق الناقص في وجوده يجوز أن يرى ويحس به فالرب الكامل في وجوده أحق بأن يرى فإن كون الشيء بحيث يرى كمال في حقه لا نقص لأن كونه لا يرى ولا يحس به لا يثبت في الشاهد إلا للمعدوم فكل صفة لم نعلمها تثبت إلا لمعدوم فإنها لا تكون صفة نقص إلا بالنسبة إلى وجود آخر هو أكمل منها وكل صفة لا تثبت للمعدوم ولا يختص بها الناقص فإنها لا تكون إلا صفة كمال وهذه طريقة في المسألة يتبين بها أن جواز الرؤية من صفات الكمال التي هو الباري أحق بها من المخلوقات
ونظيرها في مسألة العلو أن علو الشيء بنفسه على غيره صفة كمال كما أن قدرته عليه صفة كمال وإذا كان كذلك فالله أحق بهذه الصفة من جميع ما يوصف بها غيره فيجب أن يكون عاليا بنفسه وكذلك تميزه بذاته عن غيره هي صفة لا يوصف بها المعدوم ولا تختص بالناقصات فتكون صفة كمال فيجب إنصاف الله بها وذلك يوجب مباينته للعالم
لكن قد علم أنا لم نكتب هنا ما يحتج به أهل الإثبات ولكن تكلمنا على ما ذكره الرازي ولوازمه فبينا أن هذه الحجة القياسية المذكورة في الرؤية مضمونها أنا إنما نرى الأشياء لكونها موجودة والله سبحانه وتعالى موجود بل هو أكمل في الوجود فيجب أن تكون رؤيته جائزة
وتلخيصها أن يقال لا ريب أنا نرى الموجودات من الجواهر والأعراض كالألوان والمقادير مثل الطول والقصر ونحوهما دون المعدومات واختصاص الرؤية بالموجود دون المعدوم يقتضي أن المقتضي لجواز الرؤية مختص بالموجود ومعنى هذا أنه لا يجوز أن يكون الموجود والمعدوم في الرؤية سواء إذا لو كانا متماثلين في ذلك لم يجز اختلافهما في رؤية أحدهما دون الآخر فليس المراد بقولنا إن علة الرؤية والمقتضي لها مختص بالموجود إثبات علة أو سبب زائد على حقيقة الموجود مقتض لصحة رؤيته كما توهمه من قال في الأحكام ما يعلل منها ما لايعلل فيجوز أن تكون الرؤية من الأحكام التي لا تعلل بل المراد أن كون أحد الجنسين تصح رؤيته دون الآخر يقتضي اختلافهما في ذلك وعدم تماثلهما سواء كان سبب هذا الاختلاف نفس ذات الموجود أو صفة له أو غير ذلك وهذا لا ينازع فيه من فهمه
وإذا كان المقتضي لجواز الرؤية مختصا بالموجود فإما أن يكون قدرا مشتركا بين المرئيات من الجواهر والأعراض أو أمرا مختصا ببعضها لكن الثاني باطل فإن الحكم المشترك يجب أن يكون سببه مشتركا لأنه لو كان سببه مختصا كان الحكم موجودا مع وجوده وموجودا مع عدمه فلا يكون الحكم متوقفا عليه بل يكون ذلك الوصف عديم التأثير فيه لا أثر له في وجوده إذ هو موجود مع عدمه كوجوده مع وجوده وهذا بين وقد نبهنا عليه فيما تقدم في تماثل العلل والمعلولات وتكلمنا على النقض وعدم التأثير وبينا الفرق بين العلة التامة التي لا تتبعض وغير التامة وعلى هذا فرؤية كل شيء خاص من نوع أو شخص يشارك رؤية غيره في مطلق الرؤية ويفارقها في خصوص رؤية ذلك النوع أو البعض كما أن المرئي يشارك غيره في كونه موجودا مرئيا ويفارقها بخصوص نوعه أو شخصه فيكون الحكم المطلق المشترك وهو مطلق الرؤية معلقا بالقدر المشترك بين المرئيات والحكم الخاص وهو الرؤية الخاصة معلقا بالقدر المختص في كل نوع وشخص على حدته
وبهذا التحقيق يندفع ما يقال هناك إن الرؤية قد تكون معلقة بخصوص المرئي مثل أن تكون رؤية الجواهر والأعراض معلقة تخص الأعراض فإنه إذا فهم أن الرؤية جنس تحتها أنواع كالمرئيات وأن العام المطلق يضاف إلى العام المطلق والخاص المقيد يضاف إلى الخاص المقيد اندفع هذا وغيره ويزول ما ينقض العلة ويبين عدم تأثيرها
وإذا كان كذلك وأن المقتضي لها مشترك فالمشترك بين المرئيات من الأعيان القائمة بأنفسها والصفات القائمة بغيرها إما الوجود ولوازمه وإما غير ذلك والذي هو غير ذلك هو أخص من الوجود وما كان غير ذلك فلابد أن يستلزم العدم سواء قيل هو الحدوث أو غير ذلك مثل بعض لوازم الحدث لأن المشترك إذا لم يكن هو الوجود ولا شيئا من لوازمه التي يلزم من عدمها عدم الوجود كان أخص من الوجود بحيث يكون وجود خاص لئلا يلزم من عدم هذا الوجود الخاص عدم الوجود بالكلية إذ كل ما هو مساو للوجود في العموم أو هو أعم منه كالمعلوم والمذكور يلزم من نفيه نفي الوجود وهو من لوازم الوجود والكلام هنا في القسم الثاني الذي ليس الوجود ولا شيئا من لوازمه ولم نقل ولا شيئا من لوازمه وهذا الوجود الخاص الذي يقدر أنه سبب الرؤية لا يجوز أن يكون هو الوجود الواجب فإنا تكلمنا في رؤية المشهودات المخلوقة مع أن علة الرؤية إذا كانت هو الوجود الواجب كان ذلك أبلغ في جواز رؤية الله تعالى فإنه سبحانه هو الوجود الواجب لكن ليس الأمر كذلك
وإذا كان الأمر كذلك فهذا المقتضي للرؤية على هذا التقدير الذي هو أخص من الوجود إما أن يكون ما يدخل فيه الوجود الواجب أو لا يكون فإن كان المقتضي لجواز الرؤية ما يتناول الوجود الواجب ثبت أن المقتضي لجواز الرؤية أمر مشترك بين الوجود الواجب وبين غيره من المرئيات وهذا هو المطلوب
وإن كان المقتضي الأخص لا يدخل فيه الوجود الواجب وجب أن يكون مختصا بما عدا الوجود وهذا سواء كان هو الامكان أو الحدوث أو ما هو أخص من الإمكان والحدوث مثل التحيز أو المقابلة عند من يقول ذلك هو المقتضي للرؤية وهو منتف في حق الله أو المشروط بالثمانية التي يذكرها المعتزلة أو غير ذلك وكل هذه الأمور إذا قيل بانتفائها عن واجب الوجود واختصاصها بالمخلوق فإنها مستلزمة للعدم وأقل ما يكون القبول العدم فإن كل مالا يدخل في الوجود الواجب فهو قابل للعدم بل هو معدوم تارة وموجود أخرى وإذا كان كذلك ظهر أن المقتضي للرؤية إذا لم يكن هو الوجود أو لوازمه كان مستلزما للعدم وإن شئت لقبول العدم وبهذا التقسيم الدائر بين النفي والاثبات انقطع ما يورد هنا من السؤالات
وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المقتضي لرؤية المرئيات أمر يشترط فيه العدم أو قبوله لأن كونه معدوما أو قابلا للعدم لا يكون مقتضيا لأمر وجودي فالرؤية أمر وجودي والأمر الوجودي لا تكون علته أمر عدمي والعلم بهذا بديهي لمن تصوره لكن قد يكون الأمر العدمي مستلزما لوجود مثل عدم الموانع المستلزمة لكمال العلة بوجود شروطها التي هي أجزاء العلة التامة فيضاف الحكم إلى ذلك العدم ويكون ذلك إضافة إلى علة ناقصة والعلة الناقصة تكون جزءا وشرطا من العلة التامة والعدم وإن كان في الظاهر جزءا من العلة التامة فلابد أن يستلزم أمرا وجوديا وإلا فيمتنع أن يكون العدم علة للوجود أو جزءا من علة الحقيقة بوجه من الوجوه وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المقتضي للرؤية التي هي أمر موجودا أمرا يستلزم العدم أو قبول العدم لأنه يكون العدم أو قبول العدم جزءا من علة الأمر الموجود وهذا باطل
فإن قيل هذا أو قبوله إنما كان علة للأمر الموجود لأنه يستلزم أمرا وجوديا كان ذلك الوجود هو جزء العلة في الحقيقة فلا يكون علة الرؤية إلا الوجود أو لوازم الوجود لا يكون ما يستلزم العدم أو قبوله وإذا لم تكن العلة ما يستلزم العدم أو قبوله بطل أن يكون علة الرؤية الحدوث أو شيئا يختص بالمحدثات أو ببعضها أو الامكان أو وصفا يختص بالممكنات أو ببعضها ووجب أن يكون قدرا مشتركا بين القديم والمحدث بين الواجب والممكن بل أن يكون القديم الواجب أحق به فإنه إن كان هو الوجود فظاهر وإن كان شيئا من لوازم الوجود فذلك الوصف متى انتفى انتفى الوجود فلا يكون ثابتا إلا بثبوت الوجود ومن المعلوم أن الوجود وجميع لوازم الوجود مشتركة بين الواجب والممكن والقديم والمحدث وإذا كان كذلك ثبت أن المقتضي للرؤية أمر ثابت في حق الله تعالى القديم الواجب الوجود فتكون رؤية الله جائزة بل تكون أحق بجواز الرؤية لأن وجوده أكمل من وجود غيره
ومن فهم هذه الحجة على هذا الوجه ظهر له أنها برهانية وأمكنه دفع تلك السؤالات الكثيرة التي تورد إذا ذكرت على هذا النظم ولولا أن هذا ليس
موضع ذلك وإلا كنا نفعل ذلك مفصلا لكن فالجواب عما أورده على هذه الحجة في احتجاج ابن الهيصم بها في مسألة العلو فظهر أصل الجواب في مسألة الرؤية وقد ظهر أن حجة ابن الهيصم لم يقررها هو تقريرا جيدا
فإذا أردت تلخيص هذه الحجة فقل الرؤية مختصة بالموجود دون المعدوم وهذا الاختصاص إما أن يكون للموجود أو لما يساويه في العموم والخصوص أو لما هو أعم منه أو لما هو أخص منه فإن جازت لموجود أو لما يساويه أو لما هو أعم منه جاز رؤية كل موجود لثبوت الوجود أو ما يساويه أو ما هو أعم منه لكل موجود وإن كان لما هو أخص من الوجود فإذا كان لما يندرج فيه الواجب جاز رؤيته أيضا لوجود نقيضها وهو الوصف الذي يوجد للواجب وغيره وإن كان لا يندرج فيه الواجب فما سوى الواجب فهو محدث عند أهل الملل قد كان معدوما وهو قابل للعدم بلا نزاع فيكون المقتضي للرؤية لا بد أن يشترط فيه العدم أو قبوله ولا يجوز ذلك لأن الأمور الوجودية لا يشترط في علتها العدم ولا قبول العدم وطرد هذه الحجة يوجب ثبوت كل أمر وجودي
ويقال على هذا جميع النقائص التي يجب تنزيهه تعالى عنها فإنما هو لاستلزامها العدم وأما الوجود من حيث هو وجود فهو كمال فلا يجوز نفيه عنه وهذه الطريق توافق قول من يقول الكمال وهو الوجود وتوابعه كالسمع والبصر والكلام فإنها وجود ليس فيها عدم والنقائص التي هي ضد هذه فيها العدم وهو عدم هذه الأمور
وكلام السلف والائمة موافق لهذه الطريقة حيث كانوا ينزهونه عن النقائص التي يشبه فيها المعدوم او الموات العادم لصفات الكمال وهذا موافق ما قدمناه قبل هذا من ان ما كان صفة للعدم لم يجز ان يوصف الله به وانما يوصف من السلوب بما كان مستلزما للوجود اذ العدم المحض ليس فيه ثناء وحمد وصفات الله فيها الثناء والحمد وهذا يطابق ان الموجود من حيث هو فيه الثناء والحمد والحمد لله رب العالمين
ونكتة هذه الحجة ان كل حكم ثبت لمحض الوجود فالوجود الواجب اولى به من الممكن وكذلك من الامثال المضروبة وهي الاقيسة العقلية ولله المثل الاعلى ان كل كمال ثبت لموجود فالواحب اولى به من الممكن وكل كمال يوجد في المربوب فالرب اولى به من العبد وهذا مما سلكه الفلاسفة لكن يعبرون بمعنى التولد فيقولون كل كمال ثبت للمعلول فانه من اثر العلة والعلة اولى به من المعلول وهذه اقيسة عقلية وامثال مضروبة ولله المثل الاعلى تستعمل في عامة الامور الالهية كما ورد الكتاب والسنة بنحو ذلك كما قد بيناه في غير هذا الموضع
وقولنا في هذه الحجة كل حكم ثبت لمحض الوجود يخرج الاحكام التي تتضمن العدم مثل الاكل والشرب فان ذلك يستلزم كون الآكل والشارب اجوف بحيث يحصل الغذاء الذي هو اجسام في محل خال لا سيما اذا كان قد خرج غيره بالتحلل ويكون بدل المتحلل فيكون متضمنا خروج شيء من الجسم وذلك نقص منه وهو صفة عدمية ووجود اجزاء فيه وذلك يستلزم خاليا وهو نقص فيه وهو صفة عدمية وهذا ينافي الصمدية فان الصمد هو الذي لا جوف له فلا يأكل ولا يشرب ولا يلد ولا يخرج منه شيء ولا غيره من جنس الفضلات التي تخرج من الانسان فان دخول جسم فيه او خروج جسم منه يتضمن النقص المستلزم لامر عدمي وهذا ينافي الصمدية وليس هو من الاحكام الثابتة لمحض الوجود بل من الاحكام المتضمنة وجودا او عدما فلا جرم لم يكن سبب ذلك وصفا يتناول الواجب والممكن بل وصف يختص بالممكن المحدث وهو الحاجة والافتقار في الطعام لا خلاف بدل ما يتحلل من البدن وفي الانزال لدفع الضرر الحاصل بسبب المني بمنزلة اخراج الدم عند الحاجة فوجود جسم فيه يضاره ويضاده عجز وفقر من خصائص المخلوق وحاجته الى جسم خارج يستوفيه يتم به وجوده فقر وحاجة من خصائص المخلوق
ولهذا كان اهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون ولا يبولون ولا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يمنون وانما يتحلل الطعام عنهم برشح كرشح المسك لان تلك الفضلات مضادة للبدن مؤذية له وليس في الجنة اذى واما الاكل والشرب فانما هو استكمال بعد نقص وهذا من لوازم المخلوقات وهذا مبسوط في غير هذا الموضع ولهذا قال سبحانه ما المسيح بن مريم الا رسول قد خلت من قبله الرسل وامه صديقة كانا يأكلان الطعام فأكل الطعام ينافي الصمدية ويوجب الفقر والحاجة المنافي للربوبية من وجوه متعددة
وهكذا سائر الاحكام التي تعرض لبعض الموجودات والرب منزه عنها مثل السنة والنوم هما من الاحكام المتضمنة امرا عدميا فليس هو من احكام الوجود المحض ولهذا كان اهل الجنة مع كونهم موجودين لا ينامون فان النوم اخو الموت وهو يتضمن امرا عدميا وكذلك العجز والجهل والصمم والعمي وسائر ما ينافي صفات الكمال وان وصف به بعض الموجودات فانه متضمن امرا عدميا وهذا معنى النقص فان النقص يتضمن امرا عدميا
وكل ما تضمن عدما محضا فان الله لا يوصف به فانه يقتضي العدم المحض اذ هو الوجود الواجب وانما يوصف بالصفات السلبية المتضمنة امرا وجوديا
واما طرد هذه الحجة في الادراكات الاربعة هي السمع واللمس والشم والذوق فانه وان كان طردها طائفة من الصفاتية كالاشعري وائمة اصحابه فلا يحتاج الى ذلك عند التأمل بل يفصل الامر فيه واذا فصل تفصيلاا يقتضيه العقل الصريح كان ذلك موافقا لما جاءت به الايات وعليه ائمة الحديث وذلك ان السمع لم يتعلق بالجواهر والاعراض كالرؤية وانما يتعلق بنوع من الاعراض وهو الاصوات مثلا فاذا لم يكن متعلقا بشيء قائم بنفسه كيف يمكن طرده في كل موجود قائم بنفسه حتى يقال انه يمكن سمعه
واما اللمس فانه يتعلق بالجواهر والاعراض وهو الذي اورده من جهة الالزام فلزم لزوما واضحا لكن قاسوا عليه بقية الادراكات فلا جرم جاءت الاحاديث بثبوت المماسة كما دل على ذلك القرآن وقاله ائمة السلف وهو نظير الرؤية وهو متعلق بمسألة العرش وخلق آدم بيده وغير ذلك من مسائل الصفات وان كان قد نفاه طوائف من اهل الكلام والحديث من اصحاب الامام احمد وغيرهم وليس هذا موضع الكلام فيه وانما الغرض التنبيه على مجامع هذه الحجة
واما الذوق فهو مس خاص وكذلك الشم مس خاص فان الهواء وهو جسم يدخل الى المنخرين الى الزائدة التي في الدماغ بخلاف السمع والبصر فانه ليس معهما مماسة المرئي والمسموع ولهذا كانت اصول الاحساس ثلاثة السمع والبصر والمس قال تعالي وما كنتم تشترون ان يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم
ولما كان اللمس جنسا تحته انواع مختلفة في الحيوان وليس طريقا عاما الى حصول العلم الكلي المجرد في القلب بل نفس الاحساس وما يتبعه من ملائمة ومنافرة فيه خصوص في سببه ومقصوده بخلاف السمع والبصر فانهما طريقتان الى حصول العلم العام الكلي في القلب والبصر يحصل به العلم بنفس الحقائق الموجودة والسمع يحصل به العلم بما يقال من اسمائها وصفاتها كان السمع والبصر في كتاب الله مخصوصين بالذكر دون غيرهما من الاحساس
فيقال اما قوله في الوجه الاول مدارها على ان كل موجودين في الشاهد فلا بد وان يكون احدهما محايثا للاخر او مباينا عنه بالجهة قوله وهذه المقدمة ممنوعة فنقول منع هذه من اعظم السفسطة فان الشاهد ما نشهده بحوسنا الظاهرة او الظاهرة والباطنة وليس فيما نشهده شيء الا محايث لغيره وهي الصفات التي هي الاعراض او مجانب له بالجهة وهي الاعيان القائمة بانفسها وهي الجواهر فمن منع ان يكون المشهود لا يخلو عن احد هذين الوصفين فقد منع ان تنقسم المشهودات الى الجواهر والاعراض ومعلوم ان هذا خلاف اتفاق الخلائق من الاولين والاخرين وخلاف ما يعلم بالضرورة والحس فان الشيء المشهود اما قائم بنفسه وهو مباين له واما قائم بغيره وهو محايث له
واما الوجوه التي ذكرها فعنها اجوبة
احدها ان الاستدلال على ذلك غير مقبول لانه قدح في اظهر الحسيات الضروريات
الثاني ان هذا المؤسس وسائر طوائف اهل الحق متفقون على بطلانها وهو من اعظم الناس ابطالا لما ذكره الفلاسفة في وجود جواهر غير محايثة لغيرها ولما ذكره المعتزلة من وجود اعراض غير محايثة لغيرها بل ما زال الناس يذكرون ان هذا من اعظم المحالات المتناقضة التي اثبتتها المعتزلة حيث اثبتوا ارادات وكراهات لافي محل وان قولهم هذا يوجب عليهم وجود بقية الاعراض لافي محل وينقض عامة اصولهم
الوجه الثالث ان يقال ما ذكروه من الحجة على ان الموجودين لا بد وان يكونا متباينين او متحايثين هو حجة على هؤلاء وغيرهم فيكون التزام بطلان هذه الاقوال طردا لدليل والمستدل اذا استدل بدليل يبطل مذهب منازعيه في الصورة التي تنازعا فيها وفي غيره مما لم يذكره لم يكن للمنازع ان ينقض دليله بمجرد مذهبه في صورة النزاع ولا يجب على المستدل ان يخص كل صورة صورة بدليل خاص اذا كان العام يتناول الجميع
وبهذا ظهر خطاه في قوله ما لم تبطلوا هذا المذهب بالدليل لا يصح القول بأن كل موجودين في الشاهد فاما ان يكون احدهما محايثا للاخر او مباينا عنه وكذلك قوله ما لم تبطلوا قول المعتزلة بثبوت ارادات وكراهات وفناء لافي محل فان الدليل الذي ذكروه على ان كل موجودين لا بد ان يكون احدهما مبيانا للاخر او يكون بحيث هو سواء كان هو الضرورة او الحجة القياسية حجة على هؤلاء وعلى غيرهم فلا يكون مجرد دعوى هؤلاء أو دعى غيرهم معارضة لما ذكر من الدليل لكن ان اقاموا حج على جوهر غير مباين لغيره او ثبوت عرض غير محايث لغيره كان ذلك الدليل معارضا لكن هذا لم يذكر والجواب عنه اذا ذكر هو جواب المؤسس وسائر بني آدم
وذلك يظهر بالوجه الرابع وهو ان قوله ان جمهور الفلاسفة يثبتون هذه الاشياء ويصفونها بما ذكر ليس كذلك بل هذا تثبته طائفة من الفلاسفة وهم المشاؤون اتباع ارسطو ومن وافقهم وهؤلاهم الذين سلك سبيلهم الفارابي وابن سينا وهذا المؤسس من كتب ابن سينا يأخذ مذاهب الفلاسفة وكثير ما يقول اتفق الفلاسفة ولا يكون عنده الا ما ذكره ابن سينا وليس ما يذكره ابن سينا قول جميع الفلاسفة بل الفلاسفة اعظم تفرقا واختلافا واكثر طوائف من ان يحصر قولهم كلام ابن سينا او غيره وقد حكى من صنف في المقالات من المسلمين مثل ابي الحسن الاشعري والنوبختي والباقلاني وغيرهم من مقالات الفلاسفة اضعاف اضعاف ما يذكره ابن سينا وهذا المؤسس
وكذلك حكايته عن جمهور المعتزلة اثبات ارادات وكراهات وفناء لافي محل وهذا انما هو قول بعض البصريين وهم ابو علي وابو هاشم ونحوهما وليس هؤلاء جمهور المعتزلة بل لهم في الارادة والكراهة وفي الفناء اقوال كثيرة معروفة هذا واحد منها
واما الوجه الثالث الذي ذكره على وجود موجودات في الاعيان وهي الاضافات وانه يمتنع ان تكون محايثة للعالم او مباينة عنه بالجهة فهذا يعلم فساده بالضرورة والحس واتفاق العقلاء فلا يستحق الجواب فان بعض الناس قد تنازع في الامور التي لم يشهدها كالعقول والارادات اما هذه الاعيان المشهودة فانه لم يقل عاقل انه يوجد فيها امور لا مباينة للغير ولا محايثة له فاذا كان على هذا ألوجه لم يستحق الجواب لكن نبين وجه الفائدة فنقول:
الابوة هي كون الانسان تولد منه نظيره والبنوة كونه يولد من نظيره او ما يشبه هذا فان الولادة داخلة في مسمى الابوة والبنوة وكون الشيء ولده غيره او ولد غيره وصف محسوس قائم بالوالد والولد وفي الحقيقة هو صفة ثبوتية فيها اضافة واما العمومة والخؤولة ففيها ولادتان ولادة الاب للشخص وولادة جده لعمه وبنوة العم فيها ولادة ثالثة وهي ولادة العم لابنه فتفرع النسب يكون متعدد الولادة وقد يكون احدى الولادات موجودا لكن يتوقف الوصف على الاخرى كما يتوقف الامر في العمومة والخؤولة على نحو ذلك
ومن هنا يظن الظان انها اضافة محضة والتحقيق ان احد الوصفين وجد قبل الاخر ومن المعلوم ان كونه ولد وانفصل عن ابيه او امه ليس هو سببا يتبعض حتى يقال ثلث ولادة وربع ولادة اذا خرج جميعه واذا لم تكن منقسمة لم تكن الابوة والبنوة منقسمة حتى يقال ثلث الابوة او ثلث البنوة كما لا يقال نصف الحيوانية والانسانية والناطقية ونحو ذلك
فظهر ان الابوة التي هي وجودية محايثة لذات الاب كغيرها وكيف لا يكون ذلك والابوة من اعظم الصفات القائمة بالاب المغيرة له تغيرا مشهودا بالحس لما يوجد فيه محبة الولد والحنو عليه والعطف عليه وامثال ذلك مما لا يوجبه سائر الصفات فهي بأن تكون قائمة به اولى من غيرها
واما السؤال الثاني وهو قوله كون الشيء بحيث يصدق عليه قولنا اما ان يكون واما ان لا يكون اشارة الى كونه قابلا للانقسام اليهما وقبول القسمة حكم عدمي فلا يكون معللا فعنه اجوبة
احدها ان المراد بذلك ان الموجود يلزمه احد الوصفين اي ان كل موجودين فانه يلزم احدهما ان يكون محايثا للاخر او مباينا عنه فلزوم احد الوصفين للوجود وقيامه به وكونه لا يفارقه هو المعني بقولهم اما ان يكون محايثا او يكون مباينا وهذه القضية التي يسمونها مانعة الخلو مع كونها مانعة الجمع اي ان الموجود لا يخلو عن احد هذين والخلو عن الصفات امر عدمي فنقيضه يكون وجوديا فثبوت احد هذين الوصفين للموجود امر وجودي ليس المراد بهذا التقسيم ان الموجودين ينقسمان الى ما يكون محايثا وما يكون مباينا فان العرضين القائمين بمحل كل منهما للاخر ليس محايثا له والجوهر ان كل منهما محايث للاخر ليس محايثا له فهذا ليس من باب تقسيم الكلي الى جزئياته وانما هو من باب التقسيم المانع من الجمع بين القسمين والخلو منهما
وبهذا يظهر غلطة في السؤال الثالث ايضا واذا كان هذا التقسيم ليس هو القسمة الى امرين كتقسيم الكلي والكل وانما هو بيان لزوم احد القسمين ونفي خلو المحلين عنهما جميعا بطل قوله هذا اشارة الى كونه قابلا للانقسام اليهما بل هذا اشارة الى لزوم احدهما
الوجه الثاني قوله قبول القسمة حكم عدمي يقال لا نسلم ان اصل القبول حكم عدمي بل كون الوجود قابلا لشيء نقيضه عدم كونه ليس بقابل له والقبول رافع لهذا العدم ورافع العدم وجود وهذه الحجة هي التي احتج بها على ان الابوة وجودية فان صحت صح ان القبول وجودي وان بطل ذلك في القبول بطل في الابوة ايضا
الوجه الثالث قوله لو كان امرا ثابتا لكان صفة من صفات الشيء المحكوم عليه بكونه قابلا والذات قابلة للصفة القائمة بها فيكون قبول ذلك القبول زائدا عليه ويلزم التسلسل يقال قبول الانقسام ونحوه من الصفات كون ذلك ممكنا في نفس الذات وامكان الشيء لا يحتاج الى امكان آخر
وهذه الصفة لازمة للذات ليست الذات قابلتها بمعنى انه يمكن وجودها ويمكن عدمها بل كونها قابلة امر لازم لها واجب لها وهذا القبول يراد به عدم الامتناع بمعنى الامكان العام الذي يدخل فيه الواجب والاولى بمعنى الامكان الخاص فاذا كان احد القبولين هو الامكان الخاص والاخر هو العام وهو بمعنى الوجوب كان ذلك بمعنى الوجوب ووجوب الصفة للموصوف ليس فيه تسلسل وانما جاء الغلط من لفظ الاشتراك والقبول
الوجه الرابع هنا ان القبول امر عدمي فقوله يمتنع تعليله قيل المراد بالتعليل هنا التلازم ليس المراد به ان يكون احد الامرين غنيا عن الاخر موجبا له وبهذا الاعتبار يصح ان يكون كل من الامرين لازما ملزوما
فقد تبين بهذه الوجوه الثلاثة ان التقسيم لزوم لا قبول ولو كان قبولا لم يكن عدميا ولو كان عدميا فمعناه ان الموجود لا بد له ان انه يكون مع غيره من الموجودات اما محايثا له واما مباينا له وهذا لازم لكون الموجود اما قائم بنفسه واما قائم بغيره وكل قائم بنفسه فهو مباين للقائم بنفسه وكل قائم بغيره فهو محايث لذلك الغير ولما شاركه في القيام بذلك الغير
واما السؤال الثالث فقوله ما الذي تريدون بقولكم الموجود في الشاهد منقسم الى المحايث والمباين فعنه جوابان احدهما ان يقال له لم يقولوا هكذا وانما قالوا الموجودان لا بد وان يكون كل منهما مباينا للاخر او محايثا له والموجود بنفسه مع الموجود الاخر اما مباينا له او محايثا له لم يقولوا ان الموجودات تنقسم الى قسمين احدهما مباين والاخر محايث وفرق بين كون الموجود بالنسبة الى غيره يلزمه احد الامرين وبين كون الموجود ينقسم الى الامرين واذا كان كذلك فلزوم احد الامرين حكم واحد وليس هو حكمين مختلفين والفرق ظاهر بين ان يكون الموجود ينقسم الى قائم بنفسه مباين لغيره وهو الجوهر والى قائم بغيره محايث له وهو العرض وبين ان يقال كل موجود مع غيره فلا بد ان يكون مباينا له او محايثا له او يقال الموجود من حيث هو موجود يلزمه ان يكون قائما بنفسه او بغيره فان هذا حكم واحد لموجود وذاك حكمان مختلفان فهذا الواحد هو ما به الاشتراك وهو مورد التقسيم وذانك الاثنان هما ما به الامتياز وهو ما به يمتاز احد القسمين عن الاخر بالحكم الواحد المشترك وهو لزوم احدهما والانقسام اليهما يلزم الوجود المشترك والحكم المختص يلزم القسم الخاص فخصوص كونه قائما بنفسه حكم النوع الخاص وهو الجوهر وخصوص كونه قائما بغير حكم النوع الآخر الخاص وهو العرض وريب ان خصوص كونه جوهرا وعرضا يصلحان لما يختص بالجوهر والعرض وأما لزوم احد الحكمين لكل موجودين او كل موجود وكون الموجود والموجودين لا يخلو عن احد هذين الوصفين فهذا الحكم المشترك بينهما لا يصلح تعليله بخصوص الجوهر وخصوص العرض وهذا ليس هو ان الموجود في الشاهد منقسم الى هذين القسمين فليس هو قسمة الكل الى اجزائه فظهر ان الذي قالوه ليس بغلط ولكن هو غلط او اغلط
وهذا مثل ان يقال الموجود لا بد ان يكون اما قديما او محدثا واما ان يكون خالقا او مخلوقا فان هذا يختص بالموجود فالمعدوم لا يكون قديما ولا محدثا ولا خالقا ولا مخلوقا فلزوم احد القسمين حكم مشترك بينهما والموجود من حيث هو مشترك بينهما
الجواب الثاني ان يقال هب انهم قالوا الموجود في الشاهد ينقسم الى المحايث والمباين فان انقسام الشيء الى قسمين حكم واحد ولكن ما يختص احد القسمين حكم يخالف الاخر فهب ان وجوب المباينة معلل بكونه جوهرا ووجوب المحايثة معلك بكونه عرضا لكن القدر المشترك وهو لزوم الانقسام وقبوله ووجوب الانقسام الى جوهر والى عرض حكم مشترك بينهما وهذا الحكم المشترك يجب تعليلة بالقدر دون المختص لان وجوب الانقسام ولزومه وقبوله وكونه بحيث ينقسم الى قسمين هو مورد التقسيم ومورد التقسيم مشترك بين الاقسام فيجب تعليله بالمشترك فالمقسوم هو الموجود من حيث هو لا وجود الجوهر خاصة ولا وجود العرض خاصة والموجود وان لم يكن في الخارج الا متميزا فهذه قسمة الكلي الى جزئياته وكل كلي ينقسم الى جزئياته فهذا حاله بخلاف الكلي الموجود في الخارج كالانسان مثلا اذا قسم الى اجزائه من الرأس واليد ونحو ذلك
واما قوله في السؤال الرابع لم قلتم انه لا بد من تعليله اما بالوجود واما بالحدوث وما الدليل على الحصر فانه يمكن ان يقال هنا ثلاثة اشياء
احدها ان يقال البحث التام والسبر التام والاستقراء التام قد يفيد اليقين تارة كما يفيد الظن القوي اخرى وهذا مما يقال في مواضع وقول القائل الشهادة على النفي غير معلومة ليس بصحيح بل النفي قد يعلم تارة كما يعلم الاثبات
الثاني ان يقال هذا يفيد الاعتقاد القوي والظن الغالب وهذا فيه انصاف وعدل وهو خير من دعوى البراهين القطعية التي يظهر عند التحقيق انها شبهات وخيالات فاسدة
ومن قال لا يجوز ان يحتج في هذا الباب الا بالقطعى الذي لا يحتمل النقيض قيل له اولا انت اول من خالف هذا فانت دائما تحتج بما لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين
وقيل له ثانيا لا نسلم بل الواجب على كل انسان ان يأتي بما هو الحق فان كان عنده علم قاطع قال به وان كان عنده ظن غالب قال به والمسائل التي تنازع بنو آدم فيها لان يحصل للانسان فيها ظن غالب خير من ان يكون في الحيرة والجهالة او يكون في التقليد او الحجج الفاسدة كما هو الواقع كثيرا وسنتكلم ان شاء الله على هذا الكلام على الاحاديث
وقيل له ثالثا هذا اذا انضم الى غيره حصل من مجموعهما اليقين وان لم يكن اليقين حاصلا بأحدهما كغير ذلك من الادلة السمعية والعقلية
الثالث ان هذا يمكن تقريره بالتقسيم الدائر بين النفي والاثبات كما قررناه في مسألة الرؤية وهو ان يقال المشترك بينهما اما ان يكون هو الوجود او ما هو من لوازمه اولا الوجود ولا شيئا من لوازمه وما ليس هو الوجود ولا شيئا من لوازمه يكون اخص من الوجود لان ما هو مساوله في العموم والخصوص وما هو اعم منه لازم له واما الاخص منه كالحدوث والامكان فليس بلازم له لان الوجود قد لا يكون ممكنا ولا محدثا بخلاف الاعم مثل جواز كونه مذكورا ومعلوما فان ذلك يلزم من انتفائه انتفاء كونه موجودا لانه اعم منه
وان شئت قلت اما ان يكون هو الوجود او ما يساويه في العموم والخصوص او اعم منه او اخص فاذا كان اخص منه فاما ان يتناول الوجود الواجب اولا يتناوله فان تناوله فهو في ذلك كالوجود وان لم يتناوله فانه مستلزم الحدوث فان كل مالا يدخل في مسمى واجب الوجود فهو محدث فثبت ان العلة اما ان تكون هي الحدوث او ما يشترط فيه الحدوث مثل ما هو اخص من الحدوث واما ان يكون هو الوجود او ما يتناول واجب الوجود وهذا التقسيم دائر بين النفي والاثبات واليه يرجع حقيقة قولهم اما الوجود واما الحدوث
وهذا التحرير يظهر الجواب عن السؤال الخامس وهو قوله لا نسلم انا ما وجدنا لهذا الحكم علة سوى الحدوث او الوجود بيانه من وجهين الاول ان من المحتمل ان يقال المقتضي لقولنا ان الشيء اما ان يكون محايثا للعالم او مباينا عنه بالجهة كونه بحيث يصح الاشارة الحسية لان كل شيئين صح الاشارة اليهما فاما ان تكون الاشارة الى احدهما عين الاشارة الى الاخر او غيره
فيقال له كونه بحيث تصح الاشارة الحسية اليه اما ان يكون مطابقا للوجود في العموم والخصوص بحيث يقال الموجود لا بد ان تصح الاشارة الحسية اصلا او تبعا وان كل موجودين فلا بد ان تكون الاشارة الى احدهما عين الاشارة الى الاخر او غيره او يكون اخص منه فان كان مطابقا له حصل المقصود وكذلك اذا كان اعم منه بطريق الاولى لانه حينئذ تكون الحجة دليلا على شيئين على صحة الاشارة الحسية اليه وعلى كونه مباينا للعالم وان كانت صحة الاشارة اليه اخص من الوجود بحيث تصح الاشارة الحسية الى بعض الموجودات دون بعض فان كان واجب الوجود داخلا في ذلك صحت الحجة ايضا
وان لم يكون داخلا في ذلك كانت صحة الاشارة مستلزما للحدوث فيكون التعليل بصحة الاشارة الحسية تعليلا بما يستلزم الحدوث والتعليل بنفس الحدوث كالتعليل بما يستلزم الحدوث كما سنبينه ان شاء الله
اما قوله في الوجه الثاني ان الجواهر والاعراض مشتركان في الامر الذي به وقعت المخالفة بينهما وبين الباري فلم لا يجوز ان يكون هذا هو المقتضى لقبول الانقسام الى المباين والمحايث وحينئذ يبطل قوله لا مشترك بينهما الا الحدوث
يقال هذه المخالفة لذات الباري المشتركة بينهما هي مستلزمة للحدوث فانها من خصائصها لا توجد في الاري وما يختص المحدث مستلزم للحدوث واذا كان كذلك كان حكمه حكم الحدوث فان قولهم هو الوجود او الحدوث كل وصف يستلزم الحدوث فحكمه كحكمه في ذلك وكل وصف لازم للوجود بحيث يلزم من عدمه عدم الوجود هو كالوجود فان رفع التعليل به يقتضي رفع التعليل بالوجود كما تقدم بيانه
قوله في السؤال السادس لم لا يجوز ان يكون المقتضي لهذا الحكم هو الحدوث قوله اولا الحدوث ما هية مركبة من العدم والوجود قلنا كل محدث فانه يصدق عليه كونه قابلا للعدم والوجود وايضا كون الشيء منقسما الى المحايث والمباين معناه كونه قابلا للانقسام الى القسمين فالقابلية ان كانت صفة وجودية كانت في الموضعين كذلك وان كانت عدمية فكذلك ولا يبعد تعليل عدم بعدم
يقال اما الحدوث او ما يستلزم الحدوث فلا يجوز ان يكون هو علة للامر الوجودي لان ذلك مستلزم للعدم وما يستلزم العدم لا يجوز ان يكون علة للامر الوجودي فلا يعلل الامر الوجودي الذي يختص بالموجودات دون المعدومات الا بأمر وجودي يختص بالموجودات
وكذلك لو اريد بالتعليل الملازمة فان الامر الوجودي لا يكون مستلزما للامر المستلزم للعدم لانه يوجب ان يكون العدم مستلزما الوجود والعدم لا يكون مستلزما للوجود فلا تكون الرؤية ولا صحة المحايثة والمباينة مستلزما لما يتضمن العدم سواء كان هو الحدوث او ما يستلزم الحدوث اذ كل منهما مستلزم للعدم والوجود لا مستلزما للعدم الا بطريق استلزامه لوجود يمنع غيره فيكون العدم ضد الوجود اما ان يكون وجود جنس الامر الوجودي معلقا بوجود يشترط فيه ان يكون معدوما فلا
قوله كل محدث يصدق عليه كونه قابلا للوجود والعدم وكذلك كون الشيء منقسما الى المحايث والمباين الى آخره يقال له هذا غلط من وجوه
احدها ان المحدث الذي يجوز رؤية هو الموجود دون المعدوم فان المعدوم لا يجوز رؤيته ولا يجوز تعليل رؤية الوجود المنقسم الى محايث ومباين بأنه محدث منقسم الى موجود ومعدوم فان المحدث الذي يدخل فيه المعدوم لا يرى محال فهو اعم مما يرى والعلة لا تكون اعم من المعلول وايضا فالمحدث الذي يصدق عليه انه قابل للوجود والعدم انما هو حقيقته الذهنية التي لا وجود لها في الخارج فهي تقبل ان تكون موجودة وان تكون معدومة واما الوجود فلا يقبل ذلك
الثاني انه ليس قبول الحقيقة لان تكون موجودة ومعدومة مثل قبولها لان تكون محايثة لغيرها او مباينة له لان ذلك القبول لا يقوم بشيء موجود بل هو حكم ذهني واما هذا الثاني فهو صفة لامر موجود فان المحايثة والمباينة صفة لامر موجود وليس كل واحد من الوجود والعدم صفة لوجود
الثالث ان الشيء الذي قبل الوجود والعدم هو شيء بعينه يقبل الوجود والعدم تارة ليس المحدث ينقسم الى موجود ومعدوم واما المحايثة والمباينة فليستا صفتين متعاقبتين على حقيقة واحدة بل الحقيقة الموجودة المطلقة تنقسم الى محايث ليس موصوفا بالمباينة والى مباين ليس موصوفا بالمحايثة فليس هذا نظير ذلك
الرابع انا قد بينا ان الحكم الواحد هو لزوم احدهما للوجود وهذا حكم واحد وجودي ولا يقال ان احد الامرين من الوجود والعدم يلزم المحدث بل المحدث بعد حدوثه لا يكون الا موجودا وقبل وجوده لم يكن الا معدوما وان اريد به الحقيقة انه يلزمها احد الامرين فيقال هو يلزمها اما الوجود واما العدم ولزوم احد الامرين واحد وجود والثاني عدم لا يكون وجوديا بخلاف لزوم احد امرين وجوديين المباينة والمحايثة فان لزوم احد هذين يكون وجوديا
الخامس ان الصواب المتفق عليه بين اهل السنة وعقلاء الخلق ان العدم ليس بشيء في الخارج وانما كان له وجود في العلم واذا كان كذلك فالمحدث تارة يكون شيئا وتارة لا يكون شيئا فلا يكون كونه شيئا وكونه ليس بشيء علة لكونه محايثا او مباينا فان هذين يختصان بما هو شيء وما هو شيء لا يكون علة ما يستلزم في احد حاليه ان لا يكون شيئا او لا يكون علة انقسام حالية الى ان يكون شيئا تارة وغير شيء اخرى
واما ما اورده على قوله ان الجهل بالعلة يوجب الجهل بالمعلول من معارضة ذلك بأن يقال العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيقال عنه جوابان
احدهما القول بموجب ذلك فان كل ذي فطرة سليمة لم يتقلد مذهبا يصده ويغير فطرته اذا علم ان الشيء موجود علم انه اما ان يكون محايثا لغيره واما ان يكون مباينا له كما يعلمون ان القائم بنفسه لا يكون الا داخل العالم او خارجه واذا قيل له موجود لا داخل العالم ولا خارجه او قيل له شيئان موجودان ليس احدهما مباينا للاخر ولا هو بحيث هو وفهم ذلك انكرته فطرته
وقوله الجمهور الاعظم وهم اهل التوحيد يعلمون ان الباري جل وعلا موجود ولا يعملون انه لا بد وان يكون محايثا للعالم او مباينا له قلنا ليس الامر كذلك بل النفاة مغمورون في جانب اهل التوحيد ايضا فيكون بالنسبة الى جماهير بني آدم من المسلمين وغيرهم وجمهورهم تقلد هذا القول عن بعض حتى تغيرت فطرته ليس في هؤلاء احد من سلف الامة ولا ائمتها ولا فيهم الا من هو مجروح من المسلمين ببدعة وان كان متأولا فيها ومغفورا له خطاه او فيه ما هو اكثر من البدعة وهو الغالب على ائمة هذا القول من نوع ردة عن الإسلام ونفاق فيه وغير ذلك وقد اتفق سلف الامة وائمتها على انهم من اضل الخلق واجهلهم فلا يضرهم خلافهم في ذلك
الوجه الثاني ان يقال العلم امر وجودي واما عدم العلم فوصف عدمي والامر الوجودي يتوقف على السبب التام بخلاف العدمي فانه يكفي فيه عدم السبب او نقصه واذا كان كذلك فليس مجرد علم الانسان بالدليل علة كان او غيرها يوجب علمه بالمدلول معلولا كان او غيره ان لم يستحضر في ذهنه دلالة الدليل على المدلول ويتفطن لما فيه من الدلالة وهذا كما ان خلقا يسمعون كلام الله وهو الدليل الهادي ويشهدون آيات الله بالليل والنهار وهم عنها معرضون لعدم التفكر والتدبر اما اذا علم الرجل الحكم فلا بد له من سبب يوجب العلم في قلبه وكون الشيء اما محايثا وإما مباينا واما قديما واما محدثا ونحو ذلك ليس هو الوصف المحسوس المشهود بالحس من المحايثة والمباينة وانما هو الوصف المعقول وهو لزوم احد الوصفين للموجود وكون الموجود ينقسم الى هذين فان الموجود المطلق وجوده ذهني وكذلك الانقسام الى قسمين هو حكم عقلي وكذلك لزوم احد الوصفين لا بعينه حكم عقلي ليس بحسي فاذا كان هذا الحكم يحكم به العقل بمجرد علمه وجود الشيء المحايث والمباين قبل علمه بكونه محدثا علم ان العلم بهذا الانقسام العقلي لا يتوقف على الحكم بالحدوث بل يعلم بمجرد العلم بكونه موجودا فلو كان المقتضى له ليس هو الوجود بل هو الحدوث او ما يشترط فيه الحدوث كان الحكم بذلك بدون العلم بمقتضيه وملزومه حكما للذهن بلا حجة فانه انما يستدل على الشيء بعلته او معلوله او يستدل باحد المعلولين على الاخر فاذا كانت جميع وجوه الادلة منتفية انتفى العلم فاذا كان العلم بهذا الانقسام موجودا بدون هذه الوجوه علم انها ليست ادلة فلا تكون داخلة في التعليل
وكذلك قوله الاثر المعلوم بالبديهة لا يجوز ان يكون علة وصف استدلالي انما هو العلة التي توجب العلم بالحكم ولكن يجوز ان يكون المؤثر فيما ادركه الحس ما لم يذكره الحس ولكن الانقسام ليس من الامور الحسية بل من الاحكام العقلية والعقل لا يحصر شيئا قبل الاحاطة بأفراده ولا يلزم بين شيئين قبل العلم بوجه الملازمة فان لم يكن الوجود هو المقتضى لهذا الحصر والتقسيم ولهذه الملازمة لم يجز حكم الذهن بذلك حتى يعلم دليلا يدله على هذا الحصر والتقسيم وهذه الملازمة ولا يجوز ان يكون الحكم بديهيا ودليله نظريا استدلاليا ومن يدير عقله علم انه يحكم بهذا التقسيم وهذا اللزوم بمجرد العلم بالوجود قبل العلم بالحدوث وغيره فان لم يكن الوجود مقتضيا له لم يكن له ان يحكم الا بما احسه وهذان هذا مباين لهذا وهذا محايث له اما ان يحكم حكما عاما على جميع الموجودات اما ان يكون محايثا واما ان يكون مباينا قبل علمه بتساويهما في ذلك فهو حكم بلا اصل وهذا الكلام يحتاج الى تقرير ان العلة الخارجة هي العلة الذهنيه والا فيمكن النزاع في ذلك
واما قوله في السؤال السابع لو كان الوجود واحدا في الشاهد والغائب ليس الاشتراك اللفظي وهذا لا يمكن الا بأن يكون الباري مثلا للمحدثات او يكون الوجود زائدا على الماهية والمخالفون لا يقولون بواحد منهما
فيقال مثل هذا الكلام تكرر في تصانيف هذا الرجل وهو غلط عظيم في اظهر الامور واول الامور المعقولة من العلم الالهي والعلم الكلي وهو وجود الحق ووجود الخلق ولهذا يغلط به من نقل مذاهب الناس
فان مذهب عامة الناس بل عامة الخلائق من الصفاتية كالاشعرية والكرامية وغيرهم ان الوجود وهو مقولا بالاشتراك اللفظي فقط وكذلك سائر اسماء الله التي سمي بها وقد يكون لخلقه اسم كذلك مثل الحي والعليم والقدير فان هذه ليست مقولة بالاشتراك اللفظي فقط بل بالتواطىء وهي ايضا مشككة فان معانيها في حق الله تعالى اولى وهي حقيقة فيهما ومع ذلك فلا يقولون ان ما يستحقه الله تعالى من هذه الاسماء اذا سمي بها مثل ما يستحقه غيره ولا انه في وجوده وحياته وعلمه وقدرته مثلا لخلقه ولا يقولون ايضا ان له او لغيره في الخارج وجودا غير حقيقتهم الموجودة في الخارج بل اللفظ يدل على قدر مشترك اذ اطلق وجرد عن الخصائص التي تميز احدهما وهو لا يستعمل
كذلك في اسماء الله فقط ولا هو موضوعا في اللغة كذلك وانما يذكر كذلك في مواضع تجرد عن الخصائص كما تجرد في المناظرة لامور يحتاج اليها فيقدر تجريده عن الخصائص تقديرا كما يقدر اشياء لم توجد وهو حينئذ دال على قدر مشترك بين المسميين ولكن ذلك المشترك ليس مجموع حقيقة كل منهما الموجودة في الخارج فان لفظ الموجود اذا جرد يدل على الموجود المطلق لم يكن الوجود المطلق حقيقة الا في الذهن واما الوجود الخارجي فوجود كل موجود معين مميز عن الاخر مختص به وذلك الجسم المطلق والحيوان المطلق والانسان المطلق
وقد تقدم غير مرة ان حقيقة ذلك ان هذه الحيوانية الخارجية المعينة تشبه هذه الحيوانية وهذه الانسانية الخارجية تشبه هذه الانسانية فبينهما مشابهة من هذا الوجه وان كانت بينهما مخالفة من وجوه اخرى واذا قيل هذا موجود وهذا موجود ففيه اثبات اصل الوجود والثبوت والكون لكل منهما وان ما لهذا يشبه ما لهذا من هذا الوجه وهذا المعنى الذي اشتركا فيه واشتبها في غاية البعد عن حقيقة كل منهما كما ان حقيقة كل منهما يكون في غاية البعد عن حقيقة الاخر فوجود احدهما في الخارج هو عين حقيقته فاذا قيل ان سائر الحقائق والماهيات تشاركها في مسمى الحقيقة والماهية او تشبهها في ذلك كان هذا الشبه البعيد في غاية البعد عن الحقيقتين ولكن الامور العظمية الاختلاف بالحقيقة قد تشتبه في امر ما وهو الذي اشتركت فيه واعم هذه الامور هو الوجود والثبوت والكون فمن كان نظره في هذا كان نظره في ابعد الاشياء عن حقيقة الرب
وكثير من هؤلاء يعتقد انه قد ادرك حقيقته او انه لا حقيقة له الا ذلك وهؤلاء من اعظم الخلق تمثيلا لربهم بكل شيء وتشبيها له بكل شيء وقد جعلوا كل شيء ندا له وكفوا حيث جعلوا حقيقته هي الوجود المطلق وذلك يثبت لكل موجود فهم اعظم الخلق اشراكا بالله ومن هنا قال الاتحادية منهم انه وجود كل شيء وانه وجود الموجودات كلها ونحو ذلك مما هو من اعظم الاشراك والتعطيل
واصل هذا ان الاشتراك او الاشتباه في امر ما لمسمى الوجود او الحي او غير ذلك لا يقتضي التماثل بوجه من الوجوه بل يقتضي نوع اشتباه وقد يكون بعيدا عن التماثل وهذا الرازي كثيرا يظن ان الاشتراك في شيء هو التماثل فحكم على المشتبهين في شيء بحكم المتماثلين ثم انه في موضع آخر يناقض ذلك حتى يجعل الامور المتماثلة في الحكم لا تتماثل في العلة والامور المتماثلة في العلة لا تتماثل في الحكم اذ هو متناقض في عامة كلامه
ثم ان هؤلاء المتفلسفة والمتصوفة وسائر الملاحدة من القرامطة وغيرهم الذين يقولون حقيقته هي الوجود المحض او المطلق او نحو ذلك يزعمون انهم ابعد الخلق عن التشبيه وانهم هم الموحدون المحققون للتوحيد حتى ينفوا الصفات والاسماء نفيا منهم زعموا التشبيه هم اعظم الخلق تشبيها وتمثيلا واشراكا وجعل اندادا لله معماهم عليه من التعطيل وابعد الخلق عن ان يوحدوا الله تعالى بوحدانيته التي انفرد بها عن سائر مخلوقاته
فانهم اذا جعلوا حقيقته الوجود المطلق فهذا القدر ثابت لكل موجود فقد جعلوا حقيقته ما هو ثابت لكل شيء فقد حقيقة الله تشركه فيها البعوضة والنملة بل الكلب والخنزير وقد يصرحون بأن وجود الكلب والخنزير عين وجوده وهذا من اغلظ الاشراك والكفر برب العالمين وهو تعطيل الله اذ لا وجود للوجود المطلق الا في المعين فاذا لم تثبت له حقيقة موجودة مختصة به منفصلة عن الموجودات لزم تعطيله ثم ان حقيقته التي اختص بها وامتاز بها عن خلقه لا يثبتونها وبها وجبت له الوحدانية والوجود من حيث هو وجود كالثبوت والكون وكونه حقا وهذا القدر ثابت لكل ما خلقه وسواه وهو سبحانه رب كل موجود سواه وخالقه وباريه ليس كمثله شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وهذا الموضع قد اوسعنا القول فيه في مواضع غير هذا وهو منشأ الاشراك والضلال في طوائف من الفلاسفة والاتحادية وسائر الملاحدة الذين يعمهم معنى الجهمية وان كان لبعضهم عن بعض في ذلك مزية
ومنشأ هذا من القياس الفاسد والتمثيل برب العالمين والتسوية بينه وبين غيره كما قال تعالى فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود ابليس اجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تا الله ان كنا لفي ضلال مبين اذ نسويكم برب العالمين وما اضلنا الا المجرمون واصل الاشراك الذي هو من القياس الفاسد هو ابليس اول من قاس قياسا فاسدا وهو امام المشركين وقائدهم ولا ينجو منه الا المخلصون الذين اثبتوا لله ما يختص به من الصفات والعبادات كما قال فبعزتك لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين وقال تعالى انه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وهذا باب واسع ليس هذا موضعه
وذلك انهم يجردون اسماء هذا وصفاته واسماء هذا وصفاته فيسوون بينهما ويجردون القدر المشترك بينهما فيثبتونه حقيقة خارجة وقد يجعلون هذا الذي جردوه هم بأذهانهم فقدروه في انفسهم هو الحقيقة الموجودة في الخارج ثم قد يجعلون هذا ثابتا لكل موجود في الخارج كقولهم هو في كل مكان بذاته وقولهم هو نفس وجود الموجودات وهو الوجود المطلق ونحو ذلك واما السؤال الثامن فقوله في المعارضة ان المقتضي لقبول الانقسام في الجوهر والعرض لو كان هو الوجود لزوم في الجوهر وحده أن يقبل الأنقسام الى الجوهر والعرض وكذلك في العرض وهو محال فيقال هذا غلط ظاهر ومغالطة قبيحة وذلك ان هذا الموجود اما ان يراد به الموجود المعين الخارجي فيكون المعنى انه يلزمه احد الحكمين اما المحايثة واما المباينة لا يقال فيه انه منقسم اليهما وعلى هذا فالجوهر الموجود يلزمه احدهما والعرض الموجود يلزمه احدهما فاما ان يراد به الوجود المطلق الكلي الذي هو مورد التقسيم الى الاقسام فهذا اذا قيل انه ينقسم الى محايث ومباين فهو كقولنا ينقسم الى جوهر وعرض ولا يلزم من قبول القسمة ان يكون احد قسميه القسمة التي يقبلها هو بل هذا جمع بين النقيضين
واما قوله في السؤال التاسع ان ما ذكرتموه من الدليل قائم في صور كثيرة مع ان النتيجة اللازمة عنه باطلة وهذا يدل على انه منقوض وبيانه من وجوه
الاول ان كل ما سوى الله محدث فتكون صحة الحدوث حكما مشتركا فلا بد لها من علة مشتركة والمشترك الحدوث او الوجود والحدوث لا يكون على صحة نفسه فوجب كونها معللة بالوجود فيلزم ان يكون الله محدثا
فيقال صحة الحدوث ليست من احكام الامور الوجودية بل من احكام الامور التي يمكن وجودها سواء كانت موجودة او لم تكن بخلاف المحايثة والمباينة فانها مختصة بالوجود دون العدم واما صحة الحدوث فهي مشتركة بين الوجود الممكن وبين كل معدوم ممكن فبينها وبين لزوم المحايثة او المباينة عموم وخصوص اذ صحة الحدوث يعم المعدوم الممكن بخلاف لزوم المحايثة او المباينة وبخلاف الرؤية واما لزوم المحايثة او المباينة والرؤية فلا يعلم انتفاؤه عن الله بخلاف صحة الحدوث فانه يعلم بالضرورة انتفاؤه في حق الله تعالى واذا كان كذلك فيجب ان تكون علة صحة الحدوث ما يطابقه في العموم وذلك ليس هو الحدوث فانه اخص منه اذ ليس كلما صح حدوثه كان محدثا ولا الوجود فانه ليس كل موجود يصح حدوثه والمطابق له هو الامكان الخاص فصحة الحدوث معللة بعلة مشتركة وهي الامكان الخاص وهذه علة مطردة منعكسة كتعليل الموجود بالرؤية وبلزوم المحايثة والمباينة
وقوله في الوجه الثاني ان كل موجود في الشاهد فهو اما حجم او قائم بالحجم ثم نذكر التقسيم الى آخره حتى يلزم ان يكون الباري اما حجما او قائما بالحجم والقوم لا يقولون بذلك فعنه جوابان
احدهما ان المعني بالحجم في اللغة الظاهرة هو الشيء الكثيف المتحد كالحجر والتراب خلاف الهوى فانه لا يسمى في اللغة المشهورة حجما فان كان مقصوده هذا فليس كل موجود في الشاهد اما حجما او قائما بالحجم
فان اراد به ان كل موجود في الشاهد فهو اما جسم واما عرض او اما جوهر واما عرض ويذكر التقسيم الى آخره
فيقال له لفظ الجوهر والعرض في الاصطلاح الخاص ليس نفيهما عن الله من الشريعة كما انه ليس اثباتهما من الشريعة بل سلف الامة وائمتها انكروا على من تكلم بنفيها كما انكروا التكلم باثباتها او اكثر وعدوا ذلك بدعة فليس لاحد ان ينفي بهذين اللفظين الذين ليس لهما اصل لا في نص ولا في اجماع ولا اثر الا بحجة منفصلة غير هذا اللفظ اذ الحجج التي يستدل فيها باللفظ لا بد ان يكون لفظها منقولا عمن يجب اتباع قوله وهو الكتاب والسنة او الاجماع فكيف باللفظ الذي لا ينقل عن امام في الدين ولا احد من سلف الائمة
واما المعاني المرادة بهذين اللفظين فلا بد من تفسيرها فان الناس متنازعون فيما يريدون بهذه الالفاظ من المعاني ومتنازعون في لزوم تلك المعاني لبعض وغير ذلك واذا كان كذلك فان فسر مفسر معنى الجوهر والعرض بما لم يعلم انتفاؤه في حق الله تعالى كان ذلك طرد الدليل فلا ينتقض به ولا ينتقض الدليل حتى يبين ان هذا التقسيم يمكن في بعض المعاني التي يجب نفيها عن الله تعالى ولم يفعل ذلك
وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو ان قوله وهم لا يقولون به قياس الزامي وقد تقدم انه قال ان هذا الدليل ليس بحجة لافي النظر ولا في المناظرة وذلك ان هذا الدليل ان كان مستلزم ثبوت مسمى الجسم والعرض كان حجة عليهم في هذا الموضع كما هو حجة على اولئك في المواضع الاخر فاذا ذكروا فرقا فان كان ذلك الفرق صحيحا لم يصح النقض بالجسم والعرض وان لم يكن الفرق صحيحا لم يكن نفيهم لمسمى الجسم والعرض صحيحا على التقديرين فلا يلزم بطلان هذه الحجة
واما قوله في الوجه الثالث ان كل موجودين فلا بد وان يكون احدهما محايثا للاخر او مباينا عنه في اي جهة كان وساق التقسيم الى آخره حتى يلزم كونه محايثا للعالم او مباينا عنه في اي جهة كان وذلك يقتضي ان لا يختص بجهة فوق بل يلزم صحة الحركة على ذاته من الفوق الى السفل وكل ذلك عند القوم محال فعنه اجوبة
احدها انه ليس كل موجودين فلا بد وان يكون احدهما محايثا للآخر او مباينا عنه في اي جهة كان بل من الاجسام الموجودة ما يمتنع مع بقاء حقيقته ان يكون من الاخر الا في جهة معينة كما ان رأس الانسان يمتنع ان يكون الا فوق وبطن قدمه يمتنع ان يكون الا في اسفله ولو غير ذلك خرج عن حقيقته وكذلك العرش يمتنع ان يكون في اسفل سافلين واسفل سافلين يمتنع ان يكون فوق العرش
الثاني ان يقال ما تعني بقولك فلا بد وان يكون محايثا او مباينا عنه في اي جهة كان اتعني ان العقل يشهد انه لا بد من وجوب المباينة ولو بأي جهة كان او تعني انه لا بد مع وجوب المباينة من جواز المباينة من جميع الجهات فهذان معنيان متغايران فان وجوب مطلق المباينة من غير تعيين جهة غير وجوب المباينة ووجوب جوازها بكل جهة فان عني ان كل موجودين فانه لا بد وان يتحايثا او بيان احدهما الاخر وانه لا بد مع ذلك ان يجوز مباينته من جميع الجهات فهذا القدر ليس معلوما بالبديهة ولا بالحس وكثير من الناس ينازع في كثير من ذلك
وبالجملة ليس هذا هو العلم البديهي الذي يعلم في المشهودات فانا لا نعلم ان كل ما هو قائم بنفسه يجوز ان يكون في جميع الجهات من كل قائم بنفسه هذا لا يعلم بالبديهة بحال واذا لم يكن معلوما بالبديهة لم يجب ان يعلل بعلة تعم الموجود حتى نعلم ثبوته وحينئذ فمن الناس من يقول ليس هذا ثابتا لجميع المخلوقات ومنهم من يثبته للمخلوق دون الخالق واذا كان الأمر كذلك فان المنازع يقول قد قام الدليل على أن هذا ليس ثابتا لجميع الموجودات وليس هو مما علم بالبديهة أنه يشترك فيه جميع المشهودات فلا يكون نظير حجتنا اذا علم اختصاصه ببعض الموجودات فانه يعلل بما يختص به
الوجه الرابع أن الاستدلال بما يجب لكل موجودين والواجب لكل موجودين أن يكونا متباينين أو متحايثين أما كون أحدهما يصح أن يكون مباينا للآخر من جميع جهاته فهذا ليس هو الواجب لكل موجودين والحجة كانت فيما يلزم الموجود من المحايثة أو المباينة واللازم له أصل المباينة أما المباينة من جميع الجهات فليس ذلك بلازم وان كان جائزا بل يجوز ان يجعل الله بعض الأشياء لا تباين الا بجهة معينة
الخامس أن يقال ليس للعالم الا جهتان وهي العلو والسفل فأما العلو فانه مختص بالله تعالى وأما أسفل سافلين فذلك سجين وهو المركز الذي لا يسع الا الجوهر الفرد وكل قائم بنفسه فانه يصح أن يكون مباينا عنه بجميع الجهات لأن كل ما سواه يصح أن يكون فوقه وان كان كذلك فيقال بموجب المعارضة وهو أن الله تعالى يجوز أن يكون مباينا للعالم من جميع جهاته لأن جميع جهاته هي العلو ليس له جهة أخرى فظهر القول بموجب الحجة ألا ترى أن سطح العرش مباين للعالم كذلك
السادس أن قوله ذلك يستلزم صحة الحركة عليه من الفوق الى السفل وهم لا يقولون بذلك فنقول هذا قياس الزامي وفي صحة الحركة نزاع مشهور وهم يدعون ثبوت الفارق فان صح ما يدعونه من الفارق والا كانت هذه الحجة حجة عليهم في المسألتين جميعا ولا يتفصل ذلك كما تقدم نظيره
وأما قوله في الرابع ان كل موجودين في الشاهد فانه يجب أن يكون أحدهما محايثا أو مباينا عنه بالجهة والمباين بالجهة لا بد وأن يكون جوهرا فردا أو مركبا من الجواهر وكون كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الاقسام الثلاثة أعنى كونه عرضا أو جوهرا فردا او جسما مؤتلفا لا بد أن يكون معللا بالوجود فوجب أن يكون الباري على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم ينكرون ذلك لأنه عندهم ليس بعرض ولا بجوهر ولا بجسم مؤتلف من الأجزاء والابعاض
فيقال له أما تسمية صفاته عرضا فان منهم من سمي صفاته أعراضا مع أن النزاع في ذلك لفظي وذلك أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين ينفون الصفات لما رأوا أن الصفات تقوم بالأجسام وهي الأعراض أيضا وبها او ببعضها احتجوا على حدوث الموصوف الذي قامت به وقالوا انها لا تقوم الا بمتحيز ولا تقوم الا بمحدث نفوها عن الله تعالى وقالوا من أثبتها فقد قالوا انه يقوم به الأعراض وهي لا تقوم الا بمتحيز فيكون متحيزا محدثا فسلك معهم مثبتة الصفات ثلاثة مسالك
احدها قول من يقول له صفات لكن ليست اعراضا أو لا تسمى أعراضا لأن العرض ما يعرض لمحله ويزول عنه وصفاته لازمة لذاته ليست زائلة عنها وهذا مما قوى عند هؤلاء أن يقولوا الأعراض لا تبقى زمانين أصلا ليكون هذا فرقا بين صفات الله تعالى وصفات المخلوقين من تسمية صفات المخلوقات أعراضا دون صفات الخالق وبهذا وأمثاله انتحلوا دعوى السنة في قولهم الأعراض لا تبقى زمانين لأن هذا مما وكدوا به في اعتقادهم مذهب أهل السنة في ثبوت صفات الله تعالى وهذه طريقة الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم
والمسلك الثاني طريقة من لا ينازعهم في تسمية صفات الله تعالى أعراضا كما لا ينازعهم في تسمية من قامت به الصفات جسما ولا يقول أيضا بأن الأعراض لا تبقى بل الأعراض التي في الحس باقية هي باقية كالألوان وغيرها بخلاف ما ليس باقيا كالحركة وهؤلاء يقولون هب أن الأعراض قامت به وهب أنه جسم فليس يلزم من ذلك محذور وهذا قول طوائف من الصفاتية من الكرامية والشيعة ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم
والمسلك الثالث ان لا يقولوا صفاته أعراض ولا يقولوا ليست أعراضا كما لا يقولون انه جسم ولا أنه ليس بجسم لأن ذلك كله بدعة مذموم عند سلف الأمة وأئمتها ولأن النزاع في ذلك ان كان في معنى وجب اثبات المعنى الحق دون المعنى الباطل فيسأل النفاة المثبتة ما أرادوا بذلك فان أثبتوا حقا وباطلا أقروا الحق دون الباطل وكذلك النفاة ان نفوا حقا وباطلا نفي الباطل دون الحق ومن أثبت حقا او نفى باطلا أقر ومن أثبت باطلا أو نفى حقا منع وان كان النزاع في اللفظ فما يوصف به الباري نفيا واثباتا من الأسماء والصفات فالمتبع فيه الشريعة فلا يوصف الله الا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا من الاثبات ولا من النفي والله سبحانه وتعالى قد أخبر أنه أحد صمد ونزه نفسه عن الوالد والولد والشريك والكفو والسمي والحاجة والنوم والموت وغير ذلك مما دل عليه القرآن
ولم يذكر هو ولا رسوله ولا أهل العلم والايمان به أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا أن صفاته ليست بعرض ولا قائمة بالغير ولا نحو ذلك وكذلك في الاثبات له الأسماء الحسنى التي يدعى بها وليس في تلك الأسماء انه جسم ولا جوهر ونحو ذلك ولا أن صفاته تسمى أعراضا ونحو ذلك فلم يكن واحد من هذين مشروعا على الاطلاق ولا هو أيضا منهيا عنه على الاطلاق بل اذا اثبت الرجل معنى حقا ونفى معنى باطلا واحتاج الى التعبير عن ذلك بعبارة لاجل افهام المخاطب لأنها من لغة المخاطب ونحو ذلك لم يكن ذلك منهيا عنه لأن ذلك يكون من باب ترجمة أسمائه وآياته بلغة أخرى ليفهم أهل تلك اللغة معاني كلامه وأسمائه وهذا جائز بل مستحب أحيانا بل واجب أحيانا وان لم يكن ذلك مشروعا على الاطلاق كمخاطبة أهل هذه الاصطلاحات الخاصة في أسماء الله وصفاته وأصول الدين باصطلاحهم الخاص اذا كانت المعاني التي تبين لهم هي معاني القرآن والسنة تشبه قراءة القرآن بغير العربية وهذه الترجمة تجوز لافهام المخاطب بلا نزاع بين العلماء وأما قراءة الرجل لنفسه فهذا لا يجوز عند عامة أهل العلم لافي الصلاة ولافي خارج الصلاة وجوزه بعضهم مطلقا لكن لمن لم يحسن العربية لكن المخاطبة ليست كاقراء القرآن لكن تشبه ذكره والثناء عليه والدعاء له بما لم يوقت الشارع فيه شيئا بعينه ولهذا يكره أيضا عند كثير من العلماء أو أكثرهم تغيير العربية الا للحاجة ومنهم من لم يكرهه
اذا تبين ذلك فجوابه من وجوه
احدها أن هذا الوجه الذي ذكره هو من الوجوه الالزامية وهذه ليست بحجة لا للناظر ولا للمناظر كما تقدم غير مرة وذلك أن هذه الحجة اما أن توجب أن كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام أولا توجبه فان لم توجبه فلا يضر وان أوجب ذلك ولم يذكر الفارق فرقا بين الموضعين والا كانت حجة عليهم في الموضعين وكان له أن يقول أنا انما أثبت الجسم والجوهر والعرض لكذا وكذا فان كان هذا فرقا صحيحا بطل الالزام وان لم يكن فرقا صحيحا تاما امتنع الحكم اذ ليس في ذلك نص ولا اجماع عام
الوجه الثاني أن يقال كون الموجود في الشاهد جوهرا فردا او ليس بجوهر فرد ليس ذلك بمشهود ولا معلوم بحس ولا ضرورة كالعلم بأن الموجود في الشاهد اما مباين واما محايث بل في ذلك نزاع عظيم بين المتكلمين وهذا المؤسس هو من المتوقفين في اثبات الجوهر الفرد وقد حكى التوقف فيه عمن حكاه من أذكياء الطوائف كأبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني واذا لم يكن هذا معلوما بالحس والاضطرار لم يكن نظير تلك الحجة
الوجه الثالث أن من ينكر الجوهر من أهل الكلام والفلسفة او من توقف فيه يمنع الانقسام الى هذه الثلاثة وهؤلاء طوائف كثيرون
الوجه الرابع أن قوله ان المباين بالجهة لا بد وأن يكون جوهرا فردا او يكون مركبا من الجواهر وكون كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام الثلاثة أعنى كونه عرضا او جوهرا فردا او جسما مؤتلفا لا بد وأن يكون معللا بالوجود يقال له ليس كون الأشياء القائمة بأنفسها في الشاهد مركبة من الجواهر وأنها اما جوهر فرد واما جسم مؤتلف مما يعلم لا بحس ولا بضرورة كما يعلم أن الموجود اما أن يقوم بنفسه واما ان يقوم بغيره بل في ذلك نزاع عظيم بين الناس نفيا واثباتا ووقفا واذا كان كذلك لم يكن نظيرا له
الوجه الخامس أن من يقول الجسم واحد في نفسه ليس مركبا من الجواهر من أهل الكلام والفلسفة سواء قالوا ينقسم الى جزء لا يقبل القسمة او قالوا يقبل القسمة الى ما لا يتناهي ينازعون في هذا الانقسام ويقولون لا نسلم ان القائم بنفسه لا يكون الا مركبا من الأجزاء او جوهرا فردا وهؤلاء طوائف كثيرة
الوجه السادس أن يقال قد مر الكلام على معنى القسمة والتركيب وأن حاصله يعود الى تميز شيء من شيء كامتياز صفة من صفة وأن ذلك مما يجب الاعتراف به في حق كل موجود فانه يمتنع أن يكون شيء من الموجودات بدون ذلك وان كان كذلك لم يكن ما يلزم الوجود مما سموه انقساما وتركيبا محالا فاذا اوجبت الحجة القول به قيل به
الوجه السابع أن يقال ان عنيت بكونه عرضا انه صفة قائمة بالموصوف ويكون منقسما اي فيه نوع تميز فهذا يلتزمه أهل الاثبات للعلو وان عنيت بكونه عرضا انه يعرض ثم يزول وبكونه منقسما مركبا انه يقبل التفرق والاجتماع بعد التفرق فيقال هذا وصف له بعدم بعد الوجود وبوجود بعد عدم واذا كان هذا كذلك لم يمتنع ان يكون الموجب لذلك متضمنا للعدم فان الممتنع تعليل الامر الوجودي كالرؤية ولزوم احد الوصفين الموجودين بما فيه عدم اما الوصف المشتمل على عدم فلا يمتنع تعليله بالوصف المشتمل على عدم
يوضح ذلك الوجه الثامن وهو أن العرض الذي يختص به المخلوق جوهر عند من يقول ذلك ويفرق بين صفة الخالق وصفة المخلوق مما يمتنع بقاؤه ويجب عدمه بعد وجوده وأقل ما في ذلك أنه يجوز عدمه بعد وجوده والجسم المخلوق اما أن يكون متفرقا في نفسه منقسما قسمة حقيقية بحيث يكون بعضه منفصلا عن بعض واما أن يكون قابلا لذلك وعلى التقديرين فلا يكون هذا الحكم صفة للموجود من حيث هو موجود فان الموجود من حيث هو موجود لا يكون واجب العدم ولا واجب التفرق والانفصال واذا كان كذلك كان نفس هذا الوصف المذكور يوجب ان يختص ما يجوز عليه العدم والتفرق
الوجه التاسع ان وجوب العدم او التفرق لا يجوز تعليله بالوجود فان الوجود نفسه لا يوجب التفرق والعدم فان العدم ينافي الوجود والشيء لا يكون موجبا لما ينافيه وكذلك التفرق هو نوع من عدم الكمال فان الاجتماع صفة كمال وقوة والافتراق ينقص تلك القوة والكمال وكذلك يسمى الشيء جميلا والجمال مشتق من الاجمال الذي هو الجمع والضم ولهذا يقال كل ألم في العالم فأصله من تفرق واجتماع فكون الشيء موجودا او مقصودا بحث يحصل به الفرح والسرور لا يناسب تفرقه واختلاله وانما يناسب اجتماعه واكماله ولهذا كان الاسم الصمد فيه معنى الاجتماع المنافي للتفرق وفيه اجتماع الخلق اليه بحيث يكون هو المقصود لهم في العبادة في الدعاء والعبد لا بد له من قصد يقصده والشيء انما يقصد لنفسه او لغيره والله هو المقصود المعبود لنفسه وهو المدعو المسؤول الذي يسأل منه كل شيء واذا كان كذلك تبين أن هذا الحكم لا يجوز تعليله بالوجود المطلق ولا بما يشتمل على الوجود الواجب
وأما قوله في الوجه الخامس اذ كل موجود يفرض مع العالم فهو اما أن يكون مساويا للعالم او زائدا عليه في المقدار او انقص منه في المقدار فانقسام الموجود في الشاهد الى هذه الاقسام الثلاثة حكم لا بد له من علة ولا علة الا الوجود والباري تعالى موجود فوجب ان يكون الباري تعالى على احد هذه الأقسام الثلاثة والقوم لا يقولون به ثبت بما ذكرنا ان هذه الشبهة منقوضة
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية | |
---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 |